الكتاب: النبي المعصوم
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1437 هـ
عدد الصفحات: 574
ISBN: 978-620-2-34473-9
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
حاولت هذه الرواية أن تستعيد (دار الندوة) القرشية برمزيتها التاريخية التي تعني المواجهة والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تبين أن هذه الدار لم تهدم بعد.. وأنه كان لها وجود على مدار التاريخ.. ثم إن ثلة من الحاقدين أحيوا هذه الدار بمعونة الشيخ النجدي (الشيطان)، وجمعوا فيها ما ورثوه من أسلافهم من شبهات، وأضافوا إليها ما أفرزه حقدهم وبغضهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
ثم راحوا ينثرون هذه الشبهات في ساحة الحرية، في بلد من البلاد الأوروبية.. لكنهم ووجهوا برجل حكيم عاقل يعرف كيف يجيب على الشبهات بعلمه وأدبه وأخلاقه العالية، فلا يملك أحد الرد عليه أو مواجهته.. وهكذا يرجع كل مثير لأي شبهة من الشبهات خائبا كسيرا إلى أصحابه في دار الندوة.
وعندما يعجزون عن المواجهة العلمية يلجؤون إلى المواجهة بالخداع والمكر والحيلة..
هذه باختصار أحداث هذه الرواية الحوارية.. والتي تجيب على الشبهات الكثيرة التي أثيرت حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من منطلقات مختلفة، ابتداء بالمنطلقات التي يسلم بها الخصم، ويؤمن بها.
النبي المعصوم (9)
تتناول هذه الرواية الرد العلمي المفصل على الكثير من الشبهات المطروحة على مدار التاريخ حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوظيفة العظيمة التي كلفه الله بها، سواء كانت تلك الشبهات من رجال الدين أو من المستشرقين أو من غيرهم من أصناف الناس.
وقد حاولت فيها أن أستعيد (دار الندوة) القرشية برمزيتها التاريخية التي تعني المواجهة والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأبين أن هذه الدار لم تهدم بعد.. وأنه كان لها وجود على مدار التاريخ.. ثم إن ثلة من الحاقدين أحيوا هذه الدار بمعونة الشيخ النجدي (الشيطان)، وجمعوا فيها ما ورثوه من أسلافهم من شبهات، وأضافوا إليها ما أفرزه حقدهم وبغضهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
ثم راحوا ينثرون هذه الشبهات في ساحة الحرية، في بلد من البلاد الأوروبية.. لكنهم ووجهوا برجل حكيم عاقل يعرف كيف يجيب على الشبهات بعلمه وأدبه وأخلاقه العالية، فلا يملك أحد الرد عليه أو مواجهته.. وهكذا يرجع كل مثير لأي شبهة من الشبهات خائبا كسيرا إلى أصحابه في دار الندوة.
وعندما يعجزون عن المواجهة العلمية يلجؤون إلى المواجهة بالخداع والمكر والحيلة..
هذه باختصار أحداث هذه الرواية الحوارية.. والتي تجيب على الشبهات من المنطلقات المختلفة، ابتداء بالمنطلقات التي يسلم بها الخصم، ويؤمن بها.
وقد قسمناها كمثيلاتها من الروايات إلى عشرة فصول، تناولنا في كل فصل شبهة كبيرة من الشبه، وهي كما يلي:
الشبهة الأولى: شبهة الخطايا، وهي اتهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكونه لم يكن معصوما.. وأن القرآن الكريم والسنة المطهرة تقران بكونه كان كذلك.
الشبهة الثانية: شبهة الاستبداد، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في الفترة التي حكم فيها المدينة
النبي المعصوم (10)
المنورة مستبدا متحكما في الرعية لا يسمح لأحد مشاركته في الرأي، ولا في الحكم.
الشبهة الثالثة: شبهة الاستكبار، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مترفعا على المسلمين، وعلى المستضعفين منهم خصوصا.
الشبهة الرابعة: شبهة استغلال المكانة التي مكنه الله منها في تحقيق حاجاته الشخصية.
الشبهة الخامسة: شبهة الخداع والكذب والغش والاحتيال وغيرها من الشبهات.
الشبهة السادسة: شبهة الأمراض النفسية والعصبية والروحانية.
الشبهة السابعة: شبهة الانطواء، وعدم الانفتاح على المجتمعات والأمم والأفكار والأديان.
الشبهة الثامنة: شبهة التطرف في العقيدة والمواقف والحياة بمختلف مجالاتها.
الشبهة التاسعة: شبهة العنف والإرهاب والحروب.
الشبهة العاشرة: شبهة الزواج من نساء كثيرات.
وقد رددنا – بحمد الله – على كل هذه الشبهات من خلال الحوار العلمي مع مثيري الشبهات، بل ذكرنا لهم أحيانا من الأدلة ما لم يذكروه إمعانا في بيان قوة الحجج الدالة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد استفدنا في الردود على تلك الشبهات من الكثير من المراجع القديمة والحديثة التي اهتمت بذلك، مع صياغتها صياغة حوارية مبسطة، لأن هدف هذه السلسلة جميعا هو أن تكون مدرسة متكاملة في براهين النبوة ودلائلها، وفي رد الشبهات التي يبثها المبشرون والمستشرقون والمستغربون.. لتجعل من كل مسلم داعية إلى الله، وحاميا يحمي حمى رسوله، ومناظرا ينتصر به الحق، وينهزم به الباطل.
النبي المعصوم (11)
في ذلك الصباح كنت ممتلئا أشواقا للحديث الذي سيحدثني عنه ضيفي الغريب، فقد ذكر أنه سيروي لي رحلته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي رحلة لا مثلها رحلة.. وهو حديث لا مثله حديث..
فخير ما شنف الأسماع.. وخير ما وعته القلوب.. وخير ما اطمأن إليه الضمير.. وخير ما انطوت عليه الجوانح.. حديث يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك الذي تزينت به الأرض.. واستبشرت به السماء.. وتعطرت به الأكوان.
كنت أسير في غرفتي أنتظر بشغف شديد تلك اللحظات التي أدخل فيها على الغريب، لندخل جميعا إلى حضرة الحبيب، ونقبل تلك العتبات المقدسة التي وطئتها قدماه.
لكني.. وفجأة من غير ميعاد.. أصابني اكتئاب شديد، دونه كل اكتئاب، وحطت علي آلام دونها كل الآلام..
لقد تذكرت تلك الحرب الشعواء التي اجتمع لها كل الشياطين ليشوهوا جمال الشمس التي تتفتح بإشراقتها الأزهار، وتغرد بإطلالتها الأطيار، وتتمسح بأشعتها الأنهار والمحيطات والبحار والأشجار..
تذكرت تلك الأوصاف الكثيرة التي خطط لها شياطين دار الندوة.. فراحوا ـ بكل ما امتلأت به قلوبهم من أحقاد ـ يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالساحر والكاهن والمجنون.. ويصفون الأنوار التي أشرقت بإشراقته بالدجل والخرافة وأساطير الأولين.
ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يشيعون هذا في كل زمان.. وفي كل مكان.
فتلقفه من أفواههم مبشرون ومستشرقون ومستغربون وملحدون ووجوديون ودهريون.. كلهم صار ينطق بلسان أبي جهل، ويلقي خطب أبي لهب، ويحاكي أساطير النضر بن
النبي المعصوم (12)
الحرث..
وتلقفه من هؤلاء رسامون راحوا يسخرون من معلم السلام ليحولوه إلى قائد عصابة.
وتلقفه منهم روائيون راحوا يسخرون من معلم العفاف والزهد ليحولوه إلى زير نساء.
وتلقفه منهم سياسيون راحوا يحولون من معلم العدالة والشورى والحرية ليرسموا بدله صورة نيرون ولينين وأتاترك.
وتلقفه منهم رجال دين، طرحوا وقارهم، ورموا صلبانهم وكتبهم المقدسة، ليحولوا من المعراج الذي يعرج به إلى الله، ومن المرآة التي تتجلى فيها حقائق الأزل، ومن النور الذي يهتدى به.. إلى دجال ينصب الشراك، ويضع الأساطير، ويملأ الدنيا بالكفر والإلحاد والظلمات..
وتلقفه منهم رجال دنيا أصحاب بطون منتفخة.. راحوا يسقطون صور جشعهم وحرصهم واستغلالهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليحولوا من الزاهد الكريم الراغب في الله إلى حريص بخيل راغب في جيوب الناس.
وتلقفه منهم جامدون راحوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجمود..
وتلقفه منهم منغلقون راحوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالانغلاق..
وتلقفه منهم مستكبرون راحوا يصفون رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستكبار..
ولا زال المتلقفون يتلقفون.. ولا زالت الأقلام المملوءة بالحبر المدسوس في محبرة النفوس المدنسة يسيل.. ولا زالت الخطب.. ولا زالت الأفواه المنجسة بهجاء الشمس..
لا زال كل هؤلاء.. ولا زال هناك من يمدهم بكل شيء..
وضعت يدي على رأسي.. وقد ركبتني الهموم على هذه البشرية التي لا تتقن شيئا كما تتقن سب الشمس..
بينما أنا كذلك إذا بي أسمع ولدي في الغرفة المجاورة يردد قصيدة لأبي العتاهية، يقول فيها:
أرى الناسَ قد أُعْروا ببغْيٍ وريبةٍ... وغيٍ إِذا ما ميزَ الناسَ عاقلُ
وقد لزموا معنى الخِلافِ فكلهمْ... إِلى نحوِ ما عابَ الخليفةَ مائلُ...
إِذا ما رَأَوا خَيراً رَمَوهُ بظنةٍ... وإِن عاينوا شراً فكُلُّ مناضلُ...
وإِن عاينوا حَبْراً أديباً مهذباً... حَسيباً يقولوا إِنه لمُخاتِلُ...
وإِن كانَ ذا ذِهْنٍ رَمَوه ببدْعَةٍ... وسَمَّوهُ زنديقاً وفيه يُجادلُ...
وإِن كانَ ذا دينٍ يسموه نَعجةً... وليس له عَقْلٌ ولا فيه طائلُ...
وإن كانَ ذا صمتٍ يقولون صُورةٌ... ممثلة بالعَيِّ بل هو جاهلُ...
وإِن كانَ ذا شرٍ فويلٌ لأمهِ... لما عنهُ يَحْكي من تَضُمُّ المحافلُ...
وإِن كانَ ذا أصلٍ يقولون إِنما... يفاخرُ بالموتى وما هو زائلُ...
وإِن كانَ ذا مَجهولاً فذالك عندهم... كبيضِ رمالٍ ليس يُعرفُ عاملُ...
وإِن كان ذا مالٍ يقولون مالهُ... من السُّحْتِ قد رابني وبئسَ المآكلُ...
وإِن كانَ ذا فقرٍ فقد ذَلَّ بينهم... حقيراً مهيلاً تَزْدريهِ الأرذالُ...
وإِن قنعَ المسكينُ قالوا لقِلةٍ... وشحةِ نفسٍ قد حَوَتْها الأناملُ...
وإِن هو لمك يقنعْ يقولون: إِنما... يطالبُ من لم يُعْطهِ ويُقاتلُ...
وإِن يكسبْ مالاً يقولوا: بهيمةٌ... أتاها من المقدور حَظٌ ونائلُ...
وإِن جادَ قالوا: مُسْرِفٌ ومبذرٌ... وإِن لم يَجُدْ قالوا: شَحيحٌ وباخلُ...
وإِن صاحبَ الغِلْمانَ قالوا: لريبةٍ... وإِن أجمعوا في اللفظِ قالوا: مباذلُ...
وإِن هَوِيَ النسوانَ سموه فاجراً... وإِن عَفَّ قالوا: ذاك خُنْثى وباطلُ...
وإِن تابَ قالوا: لم يَتُبْ، منه عادةٌ... ولكن لإِفلاسٍ وما تَمَّ حاصلُ...
وإِن حَجَّ قالوا: ليس للّهِ حَجَّهُ... وذاكَ رياءٌ أنتجتْه المحافلُ...
وإِن كان بالشطرنجِ والنردِ لاعباً... ولاعبَ ذا الآدابِ قالوا: مُداخلُ
وإِن كانَ في كُلِّ المذاهبِ نابزاً... وكان خفيفَ الرُوحِ قالوا: مُثافلُ...
وإِن كان مِغراماً يقولون: أهوجٌ... وإِن كان ذا ثَبْتٍ يقولون: باطلُ...
وإِن يَعْتَلِلْ يوماً يقولون: عُقوبةٌ... لشَرَّ الذي يأتي وما هو فاعِلُ...
وإِن ماتَ قالوا: لم يَمُتْ حَتْفَ أنفهِ... لمات هو من شَرَّ المآكلِ آكلُ...
وما الناسُ إِلا جاحدٌ ومُعانِدٌ... وذو حَسَدٍ قد بانَ فيه التخاتلُ
كان لإنشاد ولدي لهذه القصيدة وقعا طيبا في نفسي.. وكأن الله ألهمه أن يقرأها في تلك الساعة ليسري عني ما أصابني من ألم.
نهضت نشيطا، وقلت: فليقولوا ما يشاءون.. ولينحجبوا بما يشاءون..
دعِ الناسَ لا ترجُ الرضى عنكَ منهم... فليس لإِرضاءِ العبيدِ سَبيلُ...
إِذا كنتَ مِقْداماً يقولونَ أَحْمقٌ... وإِن لم تكنْ فظاً يُقالُ ذليلُ...
وإِن كنتَ جواداً يقولون مُسْرِفٌ... وإِن أنتَ لم تُسْرِفْ يقالُ بخيلُ...
ولا تتهيبْ شرَّ ما أنتَ حاذٌق... ولا تترقبْ خيرَ ما أنت آملُ...
فخوفُكَ لا يقصي الذي هو قادمٌ... وشَوْقُكَ لا يُدْني الذي هو راحلُ
لكن الحزن عاد من جديد.. ولكن لا على هؤلاء.. ولا على الحبيب الذي أشرقت به الأكوان، وتعطرت به الأزمان.. فهو كالبحر لا تكدره الدلاء.. وإنما على أولئك البسطاء الذين لم يتح لهم أن يسمعوا إلا للأصوات المكدرة بسب الحبيب، ولم يتح لهم أن يقرأوا إلا ما يحجب عنهم الشمس التي لا حياة لهم إلا بها.
في غمرة تلك الأحزان التي ألمت بي، ولم أجد ما يرفعها عني سمعت صوت الغريب يناديني.. فأسرعت أحث خطاي إليه.. وفي وجهي من الكدورة ما لم أستطع أن أمسحه.
لما رآني، وتفرس في وجهي تلك الكدورة، قال: ما بالك.. لقد حسبتك مشتاقا إلى
النبي المعصوم (13)
الأحاديث التي سنتحدث عنها في رحلتنا إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: أجل.. ومن لا يفرح بالحديث عن الحبيب.
قال: فما بال الحزن يكسو وجهك!؟
قلت: لقد تذكرت أبا جهل وأبا لهب..
قال: لقد دفنا في طي النسيان.. ولم يبق إلا الحبيب الذي اشتغلا بسبه.. فتحقق بذلك تأويل قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر:3)
قلت: لكن الأمر لم يقتصر عليهما.. ولا على من عاصرهما.. لقد ولد في كل جيل من الأجيال من يخلفهما في الوظيفة القذرة التي تولوها.. ألم تسمع بسلمان رشدي.. أو برسامي الرسوم الكاريكاتورية.. أو أولئك الذين ملأوا مدرجات الجامعات بمحاضرات تلبست بلباس العلم لتصور الشمس بصورة المستنقعات والسموم والقمامات.. أو أولئك الذين تركوا سماحة المسيح ونور المسيح ومحبة المسيح ليشتغلوا بسب محمد!؟
قال: لقد سمعت بهم.. بل كنت في يوم من الأيام أمارس هذه الوظيفة القذرة.. وأنت تعلم قصتي..
شعرت بالحياء من ذكري لهذا، فقلت: أعتذر إليك.. لم أكن أقصدك، فأنت أرفع شأنا.. ولكني أقصد أولئك الذين لا يبالون بما يقولون، ولا يندمون على ما يقولون، ولا يرجعون عما يقولون.
قال: فهم لا يؤذون إلا أنفسهم..
قلت: بل يؤذون غيرهم.. فما ذنب أولئك البسطاء الذين لم يسمعوا إلا خطبهم، ولم يقرأوا إلا كتبهم، ولم يتفرجوا إلا على صورهم؟
قال: أصدقك القول.. من صدق وجد.. وقديما قال أولياء الله: جد صدقا، تجد مرشدا.
قلت: ما تقصد؟
النبي المعصوم (14)
قال: الحق عزيز.. فلذلك توضع في طريقه العقبات.
قلت: لم؟
قال: ليتميز الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، والراغب من النافر.. ألم تسمع قوله تعالى، وهو يشير إلى هذه السنة من سنن العدالة الإلهية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2 ـ 3)؟
قلت: أعلم أن الفتن هي نار الله الحارقة التي يتميز بها الخبيث من الطيب.. وأنها أسئلة الاختبار التي يفلح المكلف على أساسها أو يخسر.. وأنها المقياس الذي يحدد أنواع القلوب وطبائعها.
قال: فلذلك كان لابد لتمييز الطيب من الخبيث من الفتنة.. والذي ينكر الفتن كالذي ينكر الامتحان نفسه، لأنه لا امتحان بدون أسئلة.
ولهذا كانت الفتن هي المحددة لحقيقة الإنسان كما قال تعالى على لسان نبيه موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} (لأعراف:155)، فالفتن حسب هذه الآية، وحسب ما ورد في النصوص المقدسة ليست شرا محضا، بل هي خير محض لمن عرف كيف يتعامل معها، كما أن أسئلة الامتحان خير محض لمن أتقن الإجابة عليها.
قلت: لقد ذكرتني بما روت أم سلمة قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فقال: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟.. وماذا فتح من الخزائن؟.. أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)
قال: أرأيت.. لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بين الفتن والخزائن، ولم يحدد الحديث نوع الخزائن المفتوحة لتشمل جميع ما يتصور من خزائن الثواب والعقاب، ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى إيقاظ أصحاب الحجر اغتناما لفرصة هذه الفتن لنيل أكبر نصيب من الثواب.
النبي المعصوم (15)
ارتدت إلي نفسي، وتلك الظلمة التي كانت تملأ علي جوانحي، فصحت بلسان الاعتراض من غير شعور: ولكن لم!؟
قال: أرأيت تلك الإعلانات التي تعلنها جهات متعددة عن فتح مسابقات ترفع الناجح فيها إلى ما تهفو إليه نفسه من مناصب ودرجات؟
قلت: أجل.. وكم رأيت الأبصار تتطلع إليها؟
قال: ألا تحوي تلك المسابقات على ما تتيه العقول في فك ألغازه.. أم تراها تأتي وحلها معها؟
قلت: لو كان الأمر كذلك ما كانت المسابقة مسابقة.. ولما كان الامتحان امتحانا.
قال: فهكذا الفتن.. إنها نوع من تلك المسابقات.. ليتميز الصادق فيها من الكاذب.. ويتميز المحب المخلص من المنافق الدجال.. ويتميز بائع نفسه لله من بائعها للشياطين.
قلت: فهل لهذا صلة بذاك؟
قال: أجل.. فلو رأى الناس.. جميع الناس.. الحقائق بصورتها الكاملة التي يشتهونها ما بقي أحد في الدنيا إلا وتعلق بها.
ثم التفت إلي، وقال: هل تراهم يختلفون في التنافس على الحسناء التي تسفر عن كل جمالها؟
قلت: لا شك أنهم لا يختلفون.
قال: ولكنها إن حجبت بعض محاسنها.. أو ظهرت بصورة قد لا ترضي أهواءهم تراهم يرغبون عنها.. بل قد يرمونها بالحجارة.
قلت: أجل.. فلا يبقى عند الامتحان إلا الصادقون.. وقد سبق أن قال الشاعر يعبر عن هذا:
وفي الأحبابِ مختصٌ بوَجْدٍ... وآخرُ يدعي معها اشتراكا...
إِذا اشتبكَتْ دموعٌ في خدودٍ... تبَّينَ من بَكَى ممن تَباكا
النبي المعصوم (16)
قال: فطبق هذا المثال على الفتن التي فتن الله بها عباده ليمحص الصادقين من الكاذبين والطيبين من الخبيثين.
قلت: علمني كيف أطبق هذا المثال.. فلا زلت أرى الحقائق ولا أعيشها.
قال: أترى من العجب أن يتخذ الله بشرا رسولا يجعله واسطة بينه وبين عباده ليكون سفيرا يوصل لهم حقائق الأزل؟
قلت: لا أرى عجبا في ذلك.. فلا يمكن أن يصبح كل البشر رسلا.. ولو أصبحوا كلهم رسلا لما بقي هناك تكليف.
قال: ولكن هذا كان فتنة لكثير من الناس.. لقد عموا عن كمالات الرسل بشيء توهموه عيبا، وهو كون الرسول بشرا مثلهم.
قلت: لقد ذكر الله تعالى هذا عن أقوام من الناس منذ بدأ الناس، فقد حكى الله تعالى عن قوم نوح ذلك، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} (هود)
قال: فبم أجابهم نوح؟
قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود:28)
قال: فقد اعتبر أن ما حصل له من فضل الله رحمة من الله.. ولكنها عميت عليهم.. أو أنهم عموا عنها.. لأنهم احتجبوا بمظاهر البشرية عن خصائص الخصوصية.
إنهم يشبهون تلك الحسناء الجميلة التي قد تتنقب بنقاب لا يرضاه المغرورون، فيحجبون بالنقاب عن الجمال الذي تغير منه الشموس.
النبي المعصوم (17)
قلت: ولكن هناك من يقبل أن يكون البشر رسولا؟
قال: لله من الحجب ما لا يمكن لعقل أن يدرك منتهاه.. فمن لا يحجب بالبشرية قد يحجب بالعنصرية التي حجب بها اليهود وقومنا حين زعموا أن الله لا يحق له أن يتخذ رسولا من غير بني إسرائيل.
قلت: فمن لا يحجب بهذا؟
قال: قد يحجب بالبساطة التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حين كان يأكل كما يأكل الناس، ويتسوق كما يتسوق الناس.
قلت: صحيح ذلك.. فقد حجب أقوام بهذا، كما قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} (الفرقان)
قال: فقد حجب هؤلاء بمسير رسولهم في الأسواق، أو بأكله للطعام.
قلت: هناك كثيرون لا يحجبون بهذا.. بل يعتبرونه من الكمالات.. فالبساطة تقرب المرء من الناس.. فيشعر بما يشعرون.. ويعيش ما يعيشون.. فإذا تكلم تكلم عن بينة.. وإذا دعا دعا عن بصيرة.
قال: ولكن هؤلاء أيضا قد يحجبون.
قلت: فما الذي يحجبهم؟
قال: ألم أذكر لك أن لله من الحجب ما له من الأبواب.. بل إن كل باب من الأبواب حجاب من الحجب.. فمن انفتح له الحجاب جاوز الأبواب.. ومن لم ينفتح له الحجاب أغلقت في وجهه الأبواب؟
قلت: صدقت.. وقد ذكرتني بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً
النبي المعصوم (18)
كَبِيراً} (الاسراء:60)
فمع أن هذا الإخبار لا يحوي أي غرابة بالنسبة للعقل الذي يعلم قدرة الله التي لا تحدها الحدود إلا أنه كان فتنة كبيرة للعقول البسيطة المحدودة، وقد روي أنه لما لما نزلت الآيات التي ذكرت شجرة الزقوم (1) قال كفار قريش: (ما نعرف هذه الشجرة، فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه)، فقال: (هو عندنا الزُبد والتمر)، فقال ابن الزبعري: (أكثر الله في بيوتنا الزقوم)، فقال أبو جهل لجاريته: (زقمينا)؛ فأتته بزبد وتمر، ثم قال لأصحابه: (تزقموا؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر)
قال: ومثل هذا الفتن الكثيرة التي تجعل من الحقائق شبهات عظيمة ينظر إليها الغافلون بأعينهم المحجوبة عن الحق، فلا يرون إلا الظلمات.
قلت: أبهذا تبرر وجود الفتن التي تقف العقول دون إدراك أسرارها؟
قال: أجل.. ولكن هذا ليس تفسيري.. بل هو تفسير الله.. فالله هو الذي يختبر عباده ليتميز الخبيث من الطيب.. لقد ذكر الله ما فتن به ثمودا، فقال: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (القمر:27)
فقد كانت الناقة التي عمقت إيمان المؤمنين فتنة للجاحدين.. فتميز الخبيث من الطيب.
قلت: فالاختبار واحد إذن.. لكن المؤمن يستقبله استقبال الطيبين، والكافر يستقبل استقبال الخبيثين!؟
قال: أجل.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، منبها عباده إلى هذه الأنواع من الفتن، حتى يدخلوا كل شيء عن بينة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
__________
(1) كقوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} (الصافات)، وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} (الدخان)
النبي المعصوم (19)
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)
قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى عن عدة الملائكة: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر:31)
فقد أخبر الله تعالى أن في إخباره عن عدد الملائكة الموكلين بجهنم كان فتنة للخلق، وكان تأثير هذه الفتنة مختلفا على حسب قابلية كل شخص وتعامله مع إخبارات الله.
أما المؤمنون فزادتهم إيمانا إلى إيمانهم، وعرفوا أن قدرة الله التي لا يعجزها شيء لا تعجز عن مثل هذا، بل اعتبروا هذا من دلائل القدرة التي تزيدهم إيمانا إلى إيمانهم.
أما السطحيون البسطاء في تفكيرهم الغارقون في أوحال التشبيه، فاعتبروا ذلك سندا شرعيا لكفرهم.
وقد ورد في السيرة ذكر بعض آثار هذه الفتنة على الكافرين، قال ابن عباس: (لما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر:30) قال أبو جهل لقريش: (ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم!)
وقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: (لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة)؛ يقولها مستهزئا.
وقال آخر: (أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين)
وقال آخر: (أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟)
قال: فقس هذا على كل ما ذكره أحفاد أبي جهل وأبي لهب..
النبي المعصوم (20)
قلت: أمر هؤلاء أخطر بكثير..
قال: وما خطره؟
قلت: لم يكن لأبي جهل قناة فضائية، ولم يكن لأبي لهب موقعا إليكترونيا، ولم يكن لهما ولا لغيرهما ما لأهل عصرنا من الطاقات التي تحتار فيها الشياطين.
قال: ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لمحبيه في ذلك الوقت شيء من ذلك..
قلت: ماذا تقصد؟
قال: إن عدل الله الذي وضع الحجب حتى لا يدخل دار الطيبيبن إلا الطيبون صحبته رحمة الله.. فلذلك لم يترك للشر المجال وحده.. بل وضع مع الشر خيرا كثيرا لينسخه ويمسخه.. فمن التفت إليه غلب خيره شره، ومن لم يلتفت إليه حجب بالشر عن الخير.
قلت: ولكن الحملة في عصرنا شعواء.. والحرب مريرة.. لقد وضعوا أطهر خلق الله في قفص الاتهام.
قال: هم لا يفعلون إلا ما فعله المشركون والكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كل زمان.. ألم يحك الله عن المشركين تلك الشبهات الكثيرة التي طرحوها ووضعوا الخطب الطويلة في إثباتها؟
قلت: بلى.. فقد قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة:61)
وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:2)
وقال تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود:12)
النبي المعصوم (21)
وقال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر:6 - 15)
قاطعني، والدموع تفيض من عينيه قائلا: أرأيت.. إن ربي يخاطبني، ويخاطب كل تلك الجموع التي راحت تشوه الحقائق التي نطقت بها كل دلائل الأكوان.. إن هؤلاء الجاحدين لو فتحت لهم أبواب السماء.. فعرجوا إليها.. ورأوا جمالها.. لارتدوا يكذبون أبصارهم.. ويكذبوا الحقائق التي رأوها رأي العين.
قلت: نعم.. فمع أن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمثل قمة الزهد وقمة العفاف نجد من قومنا من يرمونه بالجاري وراء شهواته.. وهو الذي لم تستقر به أرض.. وهو الذي تفطرت قدماه من السجود.. واغبرتا من السير في سبيل الله.. وأدميتا من الأذى في سبيل الله.
وهو الذي عصب الحجر على بطنه من الجوع.. ولم يعرف الفنادق التي يعرفونها، ولا الليالي الحمراء التي يعيشونها.. فليله قيام، ونهاره جهاد وصيام وطاعة تقصر عنها الجبال.
قال: إن الشياطين التي تملأ عليهم قلوبهم حجبتهم عن كل ذلك.. فلم يروا إلا زوجاته..
قلت: ولكن ألا ترى في ذلك فتنة؟
قال: قد أخبرتك بأن الله تعالى جعل من حكمته اختبار عباده بمثل هذه الفتن.. ألم تسمع قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر زينب بنت جحش، فقد قال له معاتبا: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37).. أتدري لم خشي
النبي المعصوم (22)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلت: لقد خشي على أن يفتن قومه، فيقولوا: تزوج ببنت متبناه.
قال: ولكن الله تعالى نهاه أن يخضع لتلك المخاوف.. لأن الله تعالى هو واضع الأسئلة.. وليس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ.
قلت: لقد وعيت هذا.. فبورك فيك.. ولكن ألا يستطيع هؤلاء المحجوبون بهذه الفتن أن يحتجوا يوم القيامة في محكمة العدل التي لا تضيع مثاقيل الذر؟
قال: فما يقولون؟
قلت: يقولون: يا ربنا.. لو أن نبيك لم يتزوج تسعة نساء.. ولم يغز بضعا وعشرين غزوة.. لكنا اتبعناه.
قال: فهل ترى في هذا حجة؟
قلت: هم يتصورون بينهم وبين أنفسهم أن في ذلك حجة.
قال: ليس الشأن في تصوراتهم.. بل الشأن في الحقيقة.. فالمتهم قد يرى نفسه بريئا.. ولكن الحقائق والبينات التي لدى القاضي هي التي تحدد البريء من المجرم.
قلت: فهل على هؤلاء أن يسحبوا اتهاماتهم حتى يتبصروا الحقائق؟
قال: إنهم إن لم يسحبوها بنور الحقائق.. فسيقفون يوم القيامة في تلك المحكمة التي لا تسمع إلا الحقائق.. ليقال لهم: إن الله الذي بعث محمدا.. أيده بكل تلك المعجزات.. ونصره كل ذلك النصر.. وأنطق كل الحقائق لتدل عليه.. هو الذي أباح له.. بل هو الذي أمره أن يتزوج بأولئك النسوة.. وأن يغزو تلك الغزوات.. فهل ستراهم يخاصمون الله؟
قلت: لا يمكنهم ذلك فالله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الانبياء:23)
قال: ومع ذلك.. فإن الله ـ بعدله ـ لو سألوه لأجابهم.. ولقال لهم: ألا ترون حكامكم يسلمون قصورا خاصة.. وتتاح لهم حصانة خاصة.. وتعطى لهم من الصلاحيات ما لا يعطى
النبي المعصوم (23)
لغيرهم.. ثم ترون كل ذلك طبيبعيا لا شبهة فيه؟
قلت: لا شك أنهم يجيبون بالإيجاب.. فكل حكام العالم.. وكل ملوكه.. لهم ما وصفت.. بل لهم من الدنيا ما لم تر عين، أو تسمع أذن، أو يخطر على قلب بشر.
قال: فلم يحجرون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجه الله من يشاء ومتى يشاء؟
سكت، فقال: إن العقول هي التي تحاسب.. ولذلك ستواجه بأنواع الحجج.
قلت: أترى المنطق الذي نعيش به في الدنيا هو نفسه الذي يحكم أحكام الآخرة؟
قال: أجل.. فالله هو الذي وضع برامج العقول.. وهي برامج لا تتخلف، فلا تبديل لكلمات الله.
قلت: فأنت ترى أن يخاطب هؤلاء بالعقل..!؟
قال: بالعقل المؤيد بالنقل.. لتقام عليهم الحجة.. ثم هم بعد ذلك وما يشاءون.. إن شاءوا أن يحكموا عقولهم.. وإن شاءوا حكموا الشياطين التي تملي على عقولهم كيف تفكر.
-\--\-
ما وصل الغريب من حديثه إلى هذا الموضع حتى شعرت براحة تملأ أقطار نفسي.. ولكن سرعان ما شعرت بالألم يعتريني من جديد.. فقد كنت أبحث عن فك رموز الشبهات.. وكنت ـ كعهدي بنفسي دائما ـ لا يقنعني الإجمال.. فلا يرضي همتي إلا التفاصيل التي أتبصر بها الحقائق.
طالع الغريب ـ بما أعطاه الله من بصيرة ـ ما في نفسي، فقال: أعلم ذلك.. أنت تحب التفاصيل.. ولا يقنعك الإجمال.
قلت: لقد آتاك الله فراسة.. ولكني مع ذلك لن أشغلك عن حديثك عن رحلتك إلى الإسلام.. فلندع هذا الموضوع إلى نهاية رحلتك إلى شمس محمدصلى الله عليه وآله وسلم.
قال: بل هذه هي مقدمة هذه الرحلة.. فرحلتنا اليوم إلى (النبي المعصوم).. ولا يصلح مقدمة لهذا إلا هذا.. ولا يجيب عن شبهاتك إلا رحلتي هذه.. فقد كنت ممتلئا شبهات تضيق بها
النبي المعصوم (24)
أركان نفسي.. وكنت في بيئة لا تنفخ في نفسي إلا شياطين الشبهات.
قلت: فهل وقاك الله شرها؟
قال: أجل.. ففضل الله واسع.. وقد كنت كلما محوت شبهة حل محلها نور وشعاع جديد من أشعة شمس محمدصلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فكيف بدأت رحلتك؟.. وهل التقيت في بدايتها معلمي (معلم السلام) كما تعود أن يلتقي به من يحدثني؟
قال: أجل.. ولكن قبل ذلك حصلت أحداث.. سأحكي لك ما نحتاج إليه منها في رحلتنا هذه.
-\--\-
اعتدل الغريب في جلسته، وحمد الله، وصلى وسلم على نبيه، ممتلئا في كل ذلك خشوعا ووقارا ملأني منه هيبة، ثم قال: ذات يوم دخلت إلى غرفتي فإذا بي أجد أخي يطالع دفتري الذي وضعته عن القلوب التي تعلقت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لكنه ما إن رآني حتى أسرع، فأغلقه، ثم قال لي: هذا دفتر مهم.. وقد أوحى لي نظري فيه مشروعا.. إن حققناه بنجاح، فسيتاح للمسيحية من الانتشار ما لم يتحقق لها في جميع تاريخها.
قلت: المسيحية تنتشر بقوة.. ولا تحتاج إلى أي مشاريع.
قال: ذلك صحيح.. ولكنها تنتشر ببذل المال (1).. وهي بذلك قد أصبحت عبئا ثقيلا
__________
(1) بسبب ما يملكه المبشرون من إمكانات ضخمة أوصلتهم إلى جميع الأماكن التي يريدونها والعمل فيها بكل قوة، وفي المقابل الإمكانات الضعيفة والشحيحة لدى الدعاة المسلمين هذا كله جعل التنصير عامل إعاقة قوي لانتشار الإسلام بين غير المسلمين. فقد توقف انتشار الإسلام في إفريقيا جنوبي الصحراء، فقد كان المسلمون عشرة أضعاف المسيحيين واليوم أصبح المسيحيون أضعاف المسلمين.
وفيما يلي بعض الحقائق عن الجهود التنصيرية وما يتوفر من إمكانات للتنصير في جنوب إفريقيا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر:
1600 مستشفى، 5112 مستوصف، 1050 صيدلية، 120 ملجأ للمرضى، 905 دار لإيداع الأيتام والعجزة والأرامل، 88610 كتاب تنصير مطبوعة بعناوين مختلفة ونشر منها مئات الملايين، 24900 مجلة كنسية أسبوعية يوزع منها ملايين النسخ، 700000 نشره يوزع منها عشرات الملايين، 2340 محطة إذاعية وتلفازية تنشر تعاليم الإنجيل وخدمة التنصير، 120000 معهد تنصير، 11000 روضة أطفال تلقنهم فيها التنصير، 112000000 نسخة توزع مجاناً من الإنجيل في العالم، 652 لغة ولهجة إفريقية ترجم لها الإنجيل على كاسيت للأميين.
ومع هذه الجهود الجبارة إلا أن التنصير بين المسلمين فيه صعوبة كبيرة جداً.
انظر:: التنصير طرقة وأساليبه ص (4)
النبي المعصوم (25)
على المحسنين.
قلت: هل تريد أن تنشرها بغير مال.. إن ذلك مستحيل؟
قال: وما وجه الاستحالة؟
قلت: أنت تعلم وجوه الاستحالة.. وقد جرب غيرنا من قبل ما ذكرته، فلم نحصل على شيء.
قال: ولكن الإسلام ينتشر من غير مال.. بل إنه ينتشر بقوة.. انظر ما كتبته هذه الجريدة من إحصائيات.. وما علقت عليها من تعاليق.
نظرت.. فوجدت فيها (في بريطانية يعتنق الإسلام أكثر من خمسة آلاف بريطاني كل عام.. وفي فرنسا بلغ الذين اعتنقوا الإسلام حتى الآن أكثر من 400 ألف فرنسي.. وفي الولايات المتحدة بلغ عدد المسلمين السود والبيض أكثر من مليونين.. وفي اليابان تجاوز الذين اعتنقوا الإسلام 15 ألف ياباني في عامين)
ثم رأيت تعقيبا على هذه الإحصائيات يقول: (وفق دراسات مركز (رصد العقائد) في مدينة (برن) بسويسرا فإن الإسلام أكثر الأديان انتشارا في العالم.. وهذه الحقيقة قد أكدها دارسو الأديان، فالباحثة الكهنوتية الأمريكية كارول أنوي تقول: (الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا الشمالية) (1)، والدكتور هستون سميث يقول: (إن الإسلام في هذا العصر كما في العصور
__________
(1) سر إسلام الأمريكيات، كارول أنوي، ص 180.
النبي المعصوم (26)
السابقة أسرع الأديان إلى كسب الأتباع المصدّقين) (1)، والمبشر جون تكل يقول: (الإسلام آخذ في الانتشار رغم أن الجهود التي تبذل في سبيله تكاد تكون في حكم العدم) (2)
فإذا علمنا أن الإسلام ينتشر بجهود فردية مبعثرة، وأنه لا يرصد في سبيله إلا نسبة ضئيلة جداً مما يرصد للتبشير بغيره من الأديان، إذا علمنا هذا علمنا يقيناً مدى الصدق الذي تحمله الصرخة البائسة التي أطلقها لورنس براون حين قال: (الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار) (3).. وأطلقها مثله المستشرق هاملتون جب حين قال: (إن أخطر ما في هذا الدين أنه ينبعث فجأة دون أسباب ظاهرة، ودون أن تستطيع أن تتنبأ بالمكان الذي يمكن أن ينبعث منه) (4)
أغلقت الجريدة، ثم نظرت إليه، وقلت: فأنت تريد أن تنتشر المسيحية بهذا الأسلوب..!؟
قال: وما الذي يمنعنا من ذلك؟
قلت: كل شيء يمنعنا من ذلك.. وأنت تعلم كل ذلك.. فكتابنا المقدس يختلف كثيرا عن كتابهم.. وليس في عقيدتنا من اليسر والوضوح والقوة ما في عقيدتهم.. وليس في شريعتنا ما في شرائعهم.
قال: ولكن المسيح لنا ومعنا.. وهو يغنينا عن كل ذلك.
قلت: وهم يؤمنون بالمسيح كما نؤمن به.. بل ويقدرونه أعظم من تقدير عوامنا وخواصنا له.
قال: وتلك ميزة تيسر علينا الدخول عليهم.. فسندخل عليهم من المسيح الذي يحبونه لنمحو من أذهانهم اسم (محمد)
__________
(1) ديانات الإنسان، د. هستون سميث.
(2) الغارة على العالم الإسلامي، ل. شاتلييه.
(3) عن (التبشير والاستعمار) د. عمر فروخ ومصطفى الخالدي، ص 148.
(4) عن (أمريكا والإسلام) د. عبد القادر طاش، ص 133.
النبي المعصوم (27)
لست أدري كيف شعرت بألم شديد، وهو يذكر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأسلوب.. لقد اكتشفت في تلك اللحظة أن البذور التي نبتت منها محبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد غرست في قلبي.. فلذلك آلمني ما قاله أخي.. لكني أمسكت لساني عن أن ينكر عنه ما قال.
قلت: فكيف نمحو اسم (محمد) الذي استقر في ضمائرهم، وامتلأت به جوانحهم؟
قال: بما يمحو به السياسيون بعضهم بعضا.
قلت: السياسيون يمحو بعضهم بعضا بالفضائح..
قال: فلنمارس هذا الأسلوب مع محمد.. إن محمدا ينال أكثر أصوات الناخبين، ليزاحم مسيحنا المقدس.. وإخلاصنا للمسيح يقتضي أن نمارس كل الأساليب حتى نحطم أخطر جبل يقف في وجه المسيحية.
قلت: ولكنا إن فعلنا ذلك وقعنا في كذب كثير.. ولم تعد لنا قداسة الأحبار.
قال: ومن ذكر لك بأن الذي يقوم بذلك نحن؟
قلت: ومن يقوم به؟
قال: هذا ما جئت لأحدثك عنه.. وهذا هو المشروع الذي لو قدر له أن ينجح، فسيكون فتحا عظيما في المسيحية لم يحصل مثله من قبل.
قلت: لم أفهم ما الذي ترمي إليه.
قال: ألا ترى الأحزاب الضعيفة كيف تتحالف، ثم كيف تتضخم مع ضعفها لتقضي على كل المنافسين؟
قلت: ذلك في السياسة ونحن في الدين.. وفي السياسة من التلاعب ما ليس في الدين.
قال: كل شيء سياسة..
قلت: فما السياسة التي تريد أن نمارسها لنوقف زحم الإسلام؟
قال: تشويه (محمد)..
النبي المعصوم (28)
لست أدري كيف نهضت من مكاني، وصحت في وجه أخي بقوة: لا.. لا.. ذلك ليس ممكنا.. لا ينبغي أن نفعل هذا.. إن كل شيء سيلعننا إن فعلنا ذلك.. إننا سنتحول إن فعلنا ذلك إلى شياطين أهل الندوة.
تعجب أخي من موقفي، وقال: ما بالك.. أراك تدافع عن محمد؟.. أرى سهام المسلمين المسمومة قد أثرت فيك؟
ارتدت إلي نفسي، فقلت: لا.. أنت لم تفهم موقفي.. لا يمكننا ـ ونحن في هذه المرتبة الرفيعة ـ أن نفعل هذا.
قال: صدقت في هذا.. وهذا ما خططت له.
قلت: أرحني بذكر مخططك.. ولا تكثر من المقدمات.
قال: لقد فكرت في إجراء تحالف قوي مع كل من يبغض محمدا صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان مسيحيا أو ملحدا.. حتى لو كان يكره المسيحية، ويكره المسيح، فيمكننا أن نتحالف معه لنقضي على (أسطورة محمد)
قلت: فكيف يتم هذا التحالف؟
قال: بأن نتفق جميعا فيما نقول، وفيما نفعل.
قلت: لا زال الجميع يسبون محمدا.. فما ميزة المشروع الذي جئت به؟
قال: التحالف.. فبالتحالف يصير الضعيف قويا، والجبان شجاعا..
قلت: ومن ترى أنه سيتحالف معك؟
قال: الجميع.. كلهم سيمدون أيديهم سواء كانوا ساسة أو اقتصاديين أو فلاسفة.. كل أصناف المجتمع يمكنها أن تمد يدها إلينا.
قلت: فهل أخبرت المسؤولين عن عزمك هذا؟
قال: لا يمكنني أن أخبرهم عنه إلا بعد أن ينجح..
النبي المعصوم (29)
قلت: كيف تعرف أنه نجح أو لم ينجح؟
قال: لقد كنت منذ مدة طويلة ـ بل في جميع فترات غيابك ـ أخطط لهذا، وقد كسبت عشرة رجال من مختلف المشارب، وكلهم يلبس عباءة بغض محمد.. وسنستثمرهم لنبدأ هذا المشروع.
ابتسمت ساخرا، وقلت: عشرة!؟.. أتريد بعشرة رجال أن توقف زحمم الإسلام، وتشوه شخص محمد!؟.. إن لدينا أساطيل من الجيوش.. وكلها لم تطق، فكيف يطيق عشرة.. أم أنك ستزود كل واحد منهم بقوة (السوبرمان) ليتمكن من غسل جميع أدمغة المسلمين.
قال: أنت إلى الآن لم تفهمني..
قلت: فاشرح لي..
قال: هذا مشروع.. وكل مشروع في الدنيا يعتمد عينة.. ثم تعمم أحكام العينة على الجميع بعد ذلك.
قلت: فأنت تريد أن تختبر مدى صلاحية مشروعك بهؤلاء العشرة؟
قال: لقد فهمتني الآن.. فلا يمكنني أن أطرح هذا المشروع إلا موثقا بالبينات والإحصائيات.. ألا تعلم أنا لم نعد نعتمد الأساليب التي مارسها أسلافنا..
قلت: فكيف تسجل البينات؟
قال: بكل أنواع التسجيل.. التسجيل الإحصائي وبالصور.. بل بالكاميرا أسجل كل ما سيحصل.. وسنرى من تحليلنا لما نراه ما ينبغي أن نفعله.
قلت: إن هذا يحتاج أموالا..
قال: إن وظيفتي هنا ترتبط بهذا.. ولي ميزانية خاصة لا أسأل فيها عما أصرفه من أموال.. ولكني مع ذلك لن أصرف شيئا.. فقد ذكرت لك أني أريد أن أوقف زحف الإسلام من غير مال ولا سلاح.
قلت: فهل سنذهب إلى أدغال إفريقيا لنفعل ذلك؟
النبي المعصوم (30)
قال: أهل إفريقيا يروننا خبزا قبل أن يرونا كنيسة.. ولذلك لن نذهب إليهم.. ولا إلى جميع فقراء العالم.. بل لن نخرج من أوروبا..
قلت: أوروبا لن تحتاج إلينا.. فأهلها مسيحيون.
قال: سنذهب إلى أولئك الذين باعوا المسيحية بالإسلام.. وانتخبوا محمدا بدل المسيح.
قلت: فماذا نقول لهم؟
قال: لقد ذكرت لك أن مشروعي يهدف إلى استخدام كل الطاقات وجمعها لتتحول وجهة واحدة هي رمي محمد بالفضائح التي تحول القلوب عنه.. ولهذا سنذهب إلى هؤلاء.. أو ستذهب هذه الطاقات إلى هؤلاء لتريهم من صور محمد ما لم يروا.. وتسمعهم من أخبار محمد ما لم يسمعوا.
-\--\-
في ذلك المساء..
خرجت إلى الغابة.. وهناك استلقيت على عشبها، وفي قلبي آلام لست أدري سببها.
نظرت إلى السماء الزرقاء الجميلة.. ونظرت إلى أشعة الشمس الحنون وهي تسقي الحقول والأزهار والمياه.. وقلت لنفسي: يا ترى كيف تكون الدنيا لو وضعت الحجب على الشمس.. هل ستتفتح الأزهار.. وهل ستغرد الأطيار.. وهل ستبقى الألوان الجميلة التي يكتسي بها الكون!؟
بينما أنا كذلك إذا بي أسمع صوت صاحبك (معلم السلام)، وهو يقول: الشمس أقوى من أن تحجبها الأكف المشلولة.
قلت: أنت!؟.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟
قال: الذي جاء بك إلى هنا.
قلت: الهم هو الذي جاء بي إلى هنا.. فقد قدر لي أن أعيش مع من لا شغل له غير سب الشمس، ووضع الحجب عليها.
النبي المعصوم (31)
قال: فقد أريد لك إذن أن ترى من الشمس ما لا يرى غيرك.. فأبشر.
قلت: كيف تبشر المتألم الحزين؟
قال: في كل شيء وضع الله الحزن والسرور.. فكل شيء يمكنه أن يملأك حزنا، وفي نفس الوقت يملؤك سرورا.
قلت: هذا تناقض.. فالحزن والسرور متناقضان لا يلتقيان إلا إذا التقى الخطان المتوازيان.
قال: هما لا يلتقيان.. ولكنهما يسيران في اتجاه واحد.. وهذا كاف لالتقائهما.
قلت: لم أفهم.
قال: أخبرني ما الذي يحزنك لأدلك على مواضع السرور فيه.. فيستحيل أن يكون هناك شيء محزن دون أن يضع الله فيه ما يملؤك سرورا.
قلت: فنلجرب ما تقول.. أنا حزين لأن أخي التوأم يريد أن يشوه الشمس.. وهو يطلب مني أن أشاركه في هذا.. وقد عقد لذلك حلفا شيطانيا أخاف على نفسي من لعناته.
قال: فأبشر.. فقد أراد الله أن يريك من جمال الشمس ما لم تكن ترى، ويعلمك من علومها ما لم تكن تعلم.
قلت: لم أفهم.
قال: إن أخطر ما يصاب به البشر هو الغفلة.. فالغفلة تعني احتقارك للأشياء وعدم شعورك بها.. فلذلك ينبهنا الله بالآلام والأحزان ليزيح عنا الغفلة..
نظر إلى عيني فوجدهما لا زالتا تبحثان عن تفسير، فقال: هل كان يمكن لك أن تعلم جمال الصحة لو لم تر آلام المرض؟
قلت: صحيح ما ذكرت.. فالصحة تاج على الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
قال: وقد يراه الأصحاء إذا شفوا من أمراضهم.
قلت: صحيح ذلك.. فما علاقته بهذا؟
النبي المعصوم (32)
قال: إن ما ذكرت لي من هذا التحالف لا يختلف عن الفيروسات والجراثيم التي تغزو الأجسام لتنهك صحتها.. لكن الجسم القوي سرعان ما يقاومها.. فيكتسب بمقاومتها مناعة وصحة.
قلت: ولكنه قد يضعف.. فتقتله.
قال: لا خير في جسم ضعيف.. فلذلك لا تحزن عليه.. واطلب جسما أقوى.
قلت: فهمت.. لا ينبغي أن أفر إذن..
قال: إنك إن فررت تكون قد فررت من نفسك.. فليس في الخارج إلا صدى نفسك..
قلت: صدقت.. إني بيني وبين نفسي تعتريني شبه أجتهد اجتهادا مؤلما في صرفها.
قال: أنت تفر منها.. ولا يمكنك أن تفر من شيء يسكنك.. لأنها إن خرجت من قلبك ووعيك سكنت محلا من عقلك.. وما سكن محلا من عقلك يوشك أن تسقيه الأيام قوة ليسيطر على كل عقلك.
قلت: بدأت أفهم.. نعم.. صحيح ما تقول.. فما في الخارج صدى لما في نفسي.. إن نفسي تفر.. فلذلك ووجهت بما تفر منه.
نظر إلي نظرة حازمة ممتلئة عتابا كعتاب المحبين، ثم قال: لن ينجيك في هذه المفازة المملوءة بالأفاعي والسباع إلا حصن واحد.
قلت: ما هو؟
قال: العقل.. فلا يمكن لمن ألغى عقله أن ينجو في هذه المتاهة.
قلت: لا يمكن لأحد أن يلغي عقله.
قال: كلهم يلغون عقولهم.. كلهم يلغون عقولهم..
قال ذلك، ثم انصرف وهو يردد ذلك.. طلبت منه أن يقف، فلم يقف.. بل سار حتى غيبه الأفق.
النبي المعصوم (33)
-\--\-
بعد أيام قليلة طلب مني أخي أن أصحبه ليريني مفاجأة سماها (مفاجأة العصر)، فسرت معه، وأنا ممتلئ مخافة من هذه المفاجأة التي يريد أن يريها لي.. فأنا أعلم أن ما في نفسه من أحقاد على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لن يرشح منها أي خير.
وصلنا دارا واسعة محاطة بحديقة غريبة.. لقد كان ذوق أصحاب الدار عجيبا، حيث أنهم لم يرضوا لها إلا أن تزين بأفتك أنواع الأشجار الشوكية، حتى صارت تشبه دور السحرة كما تمثل في الأفلام الخيالية.
سألت أخي متعجبا عن تزيين الدار بمثل هذه الأشواك، فقال: هذه موضة جديدة.. والمصمم الذي صمم هذه الدار استوحى آخر التصاميم.
قلت: أتعرفه؟
قال: وكيف لا أعرفه.. وأنا الذي قصدته ليصممها؟
قلت: فهذه الدار ملكك إذن.. وهي المفاجأة التي تريد أن تريني إياها؟
قال: هذه الدار ملك لأجيال كثيرة من الناس.. وربما تصلح هذه الأيام أن تكون ملكا لنا.. أما المفاجأة التي أريد أن أريك إياها، فهي في داخل الدار.. فهلم معي إليها.
دخلنا الدار، وكان أول ما واجهنا لافتة مكتوب عليها (دار الندوة)، فدهشت، وقلت لأخي: ما هذا الاسم؟
قال أخي: هذا الاسم هو المفاجأة.
قلت: لم أفهم.
قال: لاشك أنك تعرف (دار الندوة) التاريخية.
قلت: أجل.. تلك الدار التي كان يجتمع فيها الملأ من قريش ليشوهوا محمدا ودين محمد.. ويحاربوا محمدا ودين محمد.
النبي المعصوم (34)
قال: فقد اجتمعت أنا والنفر الذين ذكرتهم لك.. وأحيينا تلك الدار من جديد، لتؤدي وظيفتها بأسلوب عصري يستخدم آخر تقنيات العصر.
قلت: ولكن تلك الدار التي كان يجتمع فيها الملأ من قريش كانت دارا مشؤومة، لم تنجز شيئا، ولم تستطع أن تصد زحف محمد ودين محمد.
قال: لأنهم اعتمدوا طرقا بدائية.. ثم إن خسارة معركة من المعارك لا تعني الهزيمة النهائية.
صحت في أخي: ولكن ألا تشعر بأنك تريد منا أن نمارس هرطقة لم تكن في أسلافنا؟
لست أدري كيف خرج رجل من منفذ من منافذ تلك الدار، وكأنه خرج من بطن من بطون الكتب المبعثرة فيها، وقال: لا.. بل نريد أن نحيي سنة مسيحية لم تزل ولن تزال.. وليس لنا من دور هنا فقط إلا التجديد.
قلت: من أنت؟
قال أخي: هذا أحد أفراد جماعتنا، بل هو أهم أفراد جماعتنا، وهو رجل حفظ التاريخ عن ظهر قلب، ويستطيع أن يعد لك الآلاف من رجال الكنيسة الذين ملأوا في يوم من الأيام رحاب مثل هذه الدار.
قلت: إن لهجته غريبة، وهي تدل على أنه ليس من أهل هذه البلاد.
قال: ذلك صحيح.. ولكنه يتقن جميع اللغات.. بل تستطيع أن تطلق عليه قاموس لغات.
قلت: ومن أين هو؟
قال: لقد ذكر لي بعض من سكن هذه الدار بأنه من نجد.. وقد كان بعض سلفنا يطلق عليه لقب (الشيخ النجدي) (1)
__________
(1) نريد بالشيخ النجدي هنا الشيطان الذي حضر اجتماع دار الندوة في الوقت الذي خطط فيه المشركون لقتل النبي (ففي الحديث عن عبد الله بن عباس قال: لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمره (غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل فادخل فدخل معهم.. الحديث رواه ابن إسحق وغيره.
النبي المعصوم (35)
قاطعنا الرجل، وقال: تعال أريك شيئا..
سرت معه، ففتح خزانة مملوءة بالمخطوطات القديمة، وقال: انظر هذه المخطوطات.. إنها جميعا حروب ساخنة ضد محمد ودين محمد.
قلت: من كتبها؟
قال: كثيرون هم.. منهم يوحنا الدمشقي، وتلميذه أبو قره، ويوحنا النقيوسي، ويحى بن عدي.. ومنهم ثيوفانس المعترف، ونيقتاس البيزنطي، وجرمانوس.. ومنهم ايزدور الأشبيلي، وأولوخيو، وبول الفارو.. ومنهم بدرودي الفونسو، وسان بدرو باسكوال، وريكولدو دي مونت كروس، ورامون مارتي، وريموندلول، ووليم الطرابلسي، ووليم الصوري، ووليم آدم، وجاكيوس دي فتري، وهامبرت الروماني، وفيد ينزو أوف بافيا.. وغيرهم كثير.
قال ذلك، ثم أخرج كتابا ضخما، وقال: انظر على سبيل المثال هذا الكتاب.. إنه يسمى المشروع الكلوني، وهو أول وأكبر مشروع استشراقي هدف بالدرجة الأولى إلى تفنيذ الإسلام (1).
إن هذا المشروع يصح أن يطلق عليه بأنه المشروع الغربي الأكبر لتشويه صورة الإسلام.
قلت: متى كان هذا، ومن تبناه؟
قال: لقد تأسس هذا المشروع سنة 1143 م، وهو يُنسب إلى دير كلوني في جنوب فرنسا ـ الذي تأسس سنة 910 م ـ ومنه انبثقت حركة لإصلاح الحياة الرهبانية عُرفت في التاريخ الأوربي باسم (حركة الإصلاح الكلونية) التي لم تلبث أن أسهمت في تقوية الجهاز الكنسي في الغرب الأوربي.
__________
(1) استفدنا المعلومات الواردة هنا من مقال علمي بعنوان: العدوان الفكري الغربي على الإسلام وعلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، بقلم: أ. د. علي بن محمد عوده.. وهو موجود على النت في مواقع مختلفة.
النبي المعصوم (36)
لقد تم في سنة 1122 اختيار رئيس جديد لدير كلوني هو الراهب بيير موريس دي مونتبوسيير، الذي أطلق عليه معاصروه لقب بطرس المكّرم.
لقد علم هذا الراهب المحترم من بعض المترجمين بوجود رسالة لنصراني شرقي تدافع عن النصرانية وتهاجم الإسلام مكتوبة باللغة العربية، وعرف منهم مضمونها، فقرر القيام بمشروع ترجمتها وترجمة القرآن الكريم.
فتح المؤرخ الكتاب الضخم على جزء من أجزائه، وقال: هذا الجزء على سبيل المثال نتاج لذلك المشروع.. إنه ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينية، وهي احدى الترجمات التي أصبحت تُعرف في أوربا باسم المجموعة الطليطلية، وقد قام بها مترجم انجليزي يسمى روبرت أوف كيتون.
لقد قام روبرت بترجمة ذكية لمعاني القرآن، كان لها تأثيرها الجيد في صياغة العقيدة الغربية الحاقدة تجاه محمد ودين محمد.
سأقرأ عليك بعض ما جاء في مقدمته.. لقد أطلق عليها بذكائه الحاد اسم (تمهيد عن الخرافة الإسلامية المسماة بالقرآن).. اسمع..
أخذ يقرأ من المخطوط بصوت عال، وكأنه تقمص شخصية كاتبها: (أنا كشفت عن شريعة محمد بيديّ، وجلبتها إلى خزينة اللغة الرومانية، الأمر الذي سوف يساعد رسالة المسيح المخلّص على الانتشار وتخليص الجنس البشري من هذا الإثم ـ الإسلام ـ.. ذلك أن دكاترة الكنيسة أهملوا تلك الهرطقه الكبرى ـ يقصد الإسلام ـ لتصل وتصعد إلى شئ ضخم جداً ومفرط لمدة خمسمائة وسبع وثلاثين سنة، لأنها مهلكة وضارة، بسبب أن الزهرة من تلك العقيدة المتعصبة الفاسدة، مجرد غطاء فوق عقرب، تحول دون أن تلفت الأنتباه إليه، وتُحطِّم بالخداع قانون الدين المسيحي)
التفت إلي، وقال: اسمع أنه يقول مخاطباً بطرس المكرَّم: (ولذلك قمت بالعمل معك لما علمت أن نفسك مجتهدة في سبيل كل شيء صالح، وأنك تتوق إلى ردم المستتنقع غير الخصب
النبي المعصوم (37)
للعقيدة الإسلامية.. لذلك أنا كشفت عن السُّبل والوسائل ـ بكل جهدي ـ للوصول إلى ذلك.. وهكذا أنا أحضرت الخشب والحجارة اللازمة لعمارتك الجميلة التي يجب أن تنتصب فوق الجميع خالدة، أنا كشفت الغطاء عن دخّان محمد الذي يجب أن يُخمد بواسطة منفاخك)
التفت إلي، وقال: سأضرب لك أمثلة عما قام به هذا الرجل الداهية المخلص:
انظر هنا.. لقد أعطى معنىً غامضاً لخطاب (يا أهل الكتاب) وجعله يبدو في معظم الأحيان وكأنه موجه للمسلمين.. وهو بذلك ـ وبذكاء حاد ـ يحول كل انتقادات القرآن لليهود والمسيحين إلى المسلمين أنفسهم.
فتح صفحات من الكتاب، وقال: انظر هنا.. لقد أضفى على كل الآيات المتعلقة بأحكام الزواج والطلاق معاني جنسية داعرة بحيث تبدو للقارئ الغربي لاسيما الرهبان مثيرة للاشمئزاز والنفور.. انظر ما يقول في الآية 230 من سورة البقرة.. (فإن طلقها فلا تحل له حتى يطأها رجل غيره) (1)
وانظر ما يقول في الآية 220 من سورة البقرة.. (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم بأن تمارسوا معهم اللواط) (2)
وانظر ما يقول في الآية 223 من سورة البقرة.. (نساؤكم حرث لكم فأتوا نساءكم في أدبارهن) (3)
وانظر ما يقول في الآية 50 من سورة الأحزاب.. (يا أيها النبي نحن نجيز لك أزواجك اللائي أتيتهن مهورهن، وجميع إيمائك اللائي أعطاكهن الله، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك، اللائي اتبعنك، وكل امرأة مؤمنة إذا هي ترغب أن تقدّم جسدها أو
__________
(1) يريد بذلك قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة:230)
(2) يريد بذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (البقرة:220)
(3) يريد بذلك قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة:223)
النبي المعصوم (38)
نفسها للرسول، وإذا الرسول يرغب أن يضطجع معها فليفعل، وهذا خاص لك وليس للمؤمنين الآخرين) (1)
أرسل ضحكة عالية، وقال: أرأيت هذا الذكاء الحاد الذي اتسم به هذا المترجم.. إن هذه الترجمة التي قام بها روبرت أوف كيتون لحساب بطرس المكرم سنة 1143 هي أول ترجمة عرفتها أوربا.. وقد كان لها تأثير خطير على الفهم الأوربي للإسلام حتى القرن الثامن عشر، فقد ظلت تنتشر مخطوطاتها حتى قام عالمان سويسريان بطباعتها في بازل سنة 1543 وعن هذه الترجمة اللاتينية قام أريفابيني الإيطالي بترجمتها إلى الإيطالية سنة 1547 وعن هذه الترجمة الإيطالية قام سالمون اشفجر بترجمتها إلى الألمانية سنة 1616 وعن هذه الترجمة الألمانية تُرجمت إلى الهولندية سنة 1641.
فتح الشيخ النجدي ذلك الكتاب الضخم على جزء آخر منه، وقال: هذه هنا (رسالة النصراني الشرقي)، وهي الأخيرة في المجموعة الطليطلية، وتُعرف باسم (الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي).. وقد كانت هذه الرسالة هي سبب المشروع الكلوني جميعه.
إن هذه الرسالة عبارة عن رسالة وجواب على الرسالة.. الرسالة مرسلة من رجل مسلم يُدعى عبدالله بن إسماعيل الهاشمي إلى صديق له مسيحي يدعى عبد المسيح بن إسحاق الكندي.
وقد صيغت رسالة الهاشمي بحيث يبدو قريباً للخليفة المأمون، بينما صيغ الجواب وكأن الكندي يعمل في بلاط الخليفة نفسه.
ابتسم، وقال: من الواضح أن كلا الاسمين مستعاران، وأن كاتب النصين عالم عربي مسيحي عاش في العراق في القرن العاشر الميلادي.. لقد كان هذا الكاتب في منتهى الذكاء
__________
(1) يريد بذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب:50)
النبي المعصوم (39)
والإخلاص.
لقد كلّف بطرس المكرم اثنين من المترجمين بترجمة هذا النص هما بطرس الطليطلي، وبطرس أوف بواتييه.
قلب الشيخ النجدي نظره في المخطوطة، ثم قال: تبدأ رسالة الهاشمي المزعوم بالسلام والرحمة على صديقه المسيحي، ثم يبدي الهاشمي المزعوم تعبيرات مختلفة من الاحترام لصديقه والإشارة إلى النسب الأصيل للكندي، والإشاده بتقواه وثقافته ومعرفته، ويدعوه إلى اعتناق الإسلام الذي هو دين الحنيفية، دين أبيهما الأول ابراهيم، وهو التوحيد الخالص لله تعالى، ثم يعرض أركان الإسلام الخمسة، والجهاد، ويسهب في ذكر نعيم الجنة لاغراء صديقه النصراني باعتناق الإسلام، وأنه إذا اعتنق الإسلام يمكنه الزواج بأربع زوجات ويطلق متى يشاء ويملك من الجواري ما يشاء، ويحصل على ترقية في بلاط الخليفة، وفي النهاية يعرض على صديقه أن يجيبه بكل صراحة على عرضه وأن يقول ما يحلو له في الدفاع عن دينه ويحثه على التخلي عن عبادة الثالوث.
وقد أجاب الكندي في 140 صفحة، أي أكبر بسبع مرات من رسالة الهاشمي، بحيث يترك جوابه الانطباع لدى القارئ المسيحي أنه نال الغلبة والقهر بالحجة والبرهان.
قلب الشيخ النجدي نظره في الكتاب، ثم قال: يبدأ الكندي المزعوم رسالته بالعرفان بالجميل لصديقه الهاشمي والدعاء للخليفة المأمون، ثم يدافع عن عقيدة الثالوث، ويذكر أن عقيدة الحنيفية التي يدعو إليها الهاشمي التي كان عليها إبراهيم إنما هي عبادة الأصنام، حيث يذكر أن إبراهيم ظل يعبدها لمدة سبعين سنة في حرّان مع آبائه.
وقد رد بأسلوب فلسفي قوي على عقيدة التوحيد.. ثم وجه هجومه على محمد، واتهمه بأنه تطلّع إلى المُلك، ولما كان يعرف أن نفوس قريش تأبى أن يصبح ملكاً عليها ادّعى النبوة للوصول إلى هدفه.
النبي المعصوم (40)
لا يتحدث جواب الكندي عن دعوة محمد في مكة، وإنما ينتقل فجأة إلى المدينة، حيث يذكر أن محمدا اغتصب مربد غلاميين يتيمين، وبنى عليه مسجده، وأنه اصطحب قوماً فراغاً لاعمل لهم وبدأ في شن الغارات وممارسة النهب والسلب وقطع الطريق وإخافة السبيل.
وهو يتهم محمدا أنه أمر باغتيال بعض الآمنين في بيوتهم.. ثم يشير إلى جروح محمد يوم أحد، ويرى أنه لو كان رسولاً لمنعه الله من الضرر، ثم يذكر أن محمدا لم يكن له هم إلا امرأة جميلة يتزوجها.. ويتهمه بالاستخفاف بالله في محاباة زوجاته.
وبعد ذلك يثير جواب الكندي موضوع النبوة وعلاماتها.. وهذا من أهم أجزاء هذه الرسالة.. وهو يذكر بذكاء حاد أن شروط النبوة لا تتوافر في محمد.. ذلك أن أهم علامات النبوة هي المعجزات، ومحمد لم يأت بشيء منها، وأنه أنكر أنه يستطيع أن يأت بآية كما جاء في القرآن، وأنه لا دليل لدى محمد على رسالته الإلهية..
وهو يذكر أن الإسلام انتشر بحد السيف.. وهو يذكر أن المسيحية انتشرت بالتبشير واستشهاد الحواريين، بينما الإسلام انتشر بالقهر والسيف.
وهو يذكر أن لغة القرآن ليست معجزة، ويعتبر لغة الشاعر امرئ القيس أقوى من لغة القرآن.
ويذكر أن الإغراء المادي والوعد بالملذات الحسية في جنة شهوانية هو الذي أغرى العرب المحرومين أن ينضموا إلى الإسلام وجيوشه، وأن جيوش المسلمين كانت مليئة بالمنافقين الذين انضموا إليها طلباً للغنائم.
وهو يهاجم شعائر الإسلام، ويعتبر الحج عملاً من أعمال الوثنية، ويرى أن الجهاد ليس إلا عملا شيطانيا.
وهو يذكر أن محمدا لم يكن يهدف مثلما هدف المسيح إلى أن يخلّص ويهذب الإنسان، وإنما هدف إلى ما هدف إليه الفاتحون الآخرون وهو أن يوسع مملكته.
النبي المعصوم (41)
وهو يذكر أن المسيحية هي الصراط المستقيم المذكور في سورة الفاتحة.
وهو يذكر أن الشرائع ثلاث: شريعة الكمال الإلهي وهي التي جاء بها المسيح، وشريعة العدل وهي التي جاء بها موسى، وشريعة الشيطان وهي التي جاء بها محمد.
وهو يذكر أن محمدا كان يتلقى قرآنه من راهب طُرد من الكنيسة، وذهب إلى إلى تهامة واسمه سرجيوس، وتسمى عند محمد باسم نسطوريوس، وأنه هو الذي كان يسميه محمد جبريل أو الروح القدس.
التفت إلي، وقال: هذه الترجمة الرئيسة في المشروع الكلوني نالت بين قومنا شعبية هائلة، وأصبحت بمثابة انجيل المبشرين والمستشرقين منذ ترجمتها وإلى اليوم، حيث اعتبروها أفضل دفاع عن المسيحية وأقوى هجوم على الإسلام.
وضع الشيخ النجدي الكتاب في الخزانة بلطف، ثم قال ـ وقد أخرج كتابين آخرين ـ: بعد أن انتهى بطرس المكرم من ترجمة هذا المشروع الذكي قام بتأليف ردين على الإسلام هما هذان الردان.. أما الأول فهو (المجمل الكامل عن الهرطقة الإسلامية).. وأما الثاني، فهو (الدحض)، وقد قسمه إلى كتابين، كل كتاب مكون من فصلين وكلاهما كتبه باللاتينية.
التفت إلي، وقال: سأقرأ عليك بعض ما ورد في هذا الرد..
أخذ الشيخ النجدي يقرأ بصوت عال: (إلى هذا الحد الفعلي علّم (محمد) القذر الشرير أتباعه إنكار جميع أسرار الدين المسيحي، وحكم تقريباً على ثلث الجنس البشري بعدم معرفة يوم الدينونة للرب، بواسطة حكايات مجنونه يهذي بما لم يُسمع بمثلها استجابة لأبليس والهلاك السرمدي)
إلى أن يقول: (هكذا كان (محمد) ناشطاً جداً في الشؤون العالمية، وذكيا إلى أبعد حد، هو انبثق من الأصل الوضيع والفقر إلى الغنى والشهرة، ونهض بنفسه إلى أعلى شيئاً فشيئاً، وتكراراً هاجم كل أولئك الذين كانوا بجواره، وكان بشكل بارز يضم إليه الأقرباء بالخداع، والسلب،
النبي المعصوم (42)
والغزوات، قاتلاً أي شخص غيلة إن استطاع، هو ازداد رعباً بواسطة اسمه، وفي الوقت المناسب وصل إلى القمة بالنزاعات، ثم بدأ يطمح إلى منصب الملك على شعبه، ولما كان يدرك أنه لا يستطيع أن يحقق هذه الرغبة بسبب أصله الوضيع قرَّر أن يصبح ملكاً عن طريق السيف، وتحت قناع الدين وبواسطة الإسم رسول الله)
قلب صفحات من أحد الكتابين، وأخذ يقرأ: (هكذا عُلِّم محمد من جانب أحسن علماء اللاهوت البارزين، والمتهرطقين، فانتجوا قرآنه، ونسجوا معاً، في ذلك الشكل غير الفصيح، له كتاباً مقدساً شيطانياً، صُنِّف على حد سواء من الخرافات اليهودية والأغاني العابثة للهراطقة، كاذباً أن هذه المجموعة جُلبت إليه سورة وراء سورة بواسطة جبريل، الذي اسمه هو عرفه من الكتاب المقدس في ذلك الوقت، هو أفسد بسم مهلك ذلك الشعب الذي لم يعرف الرب، وفي سلوك هذا المفُسد أن جعل في حواف القدح المملوء بالعسل السم المهلك الذي يتسرب معه، هو (محمد) حطَّم، واحسرتاه، الأرواح والأجساد لذلك الشعب البائس، ذلك الرجل، أثنى على الشريعة المسيحية واليهودية، والشرير مع ذلك يقتبس منها ويرفضها في الوقت نفسه)
قلب صفحات من أحد الكتابين، وقال: بعد ذلك يتناول بطرس المكرَّم، الجنة والنار، والتعاليم الأخلاقية ويهاجم التصوير القراني للجنة والنار فيقول: (محمد يصف عذاب جهنم كأنها تسرهُ حتى يصفها، وكأنه كان ملائماً لرسول زائف كبير أن يخترع تلك الأوصاف، وهو يصور جنة ليست من مجتمع ملائكي، ولا من تجلى الرب، ولا من ذلك الخير الأعلى، الذي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. بل في هذه الطريقة هو وصفها مثلما هو رغبها أن تكون معدَّة لنفسه، هو يعد أتباعه هناك بالأكل من اللحم، وكل أنواع الثمرات، هناك أنهار من اللبن والعسل والمياه المتدفقة. هناك العناق والإشباع الشهواني من النساء العذارى الأجمل، فيها أشياء كثيرة، جنته كلها حسية)
ثم يتناول بطرس المكرم تعدد الزوجات في الإسلام باعتباره عملاً من أعمال الفاحشة.
النبي المعصوم (43)
ثم يعود بطرس المبجل للهجوم البذئ على محمد، فيقول: (وبالإضافة إلى كل هذه الأشياء، استطاع أن يجتذب إليه الرغبات الشهوانية للرجال، حيث أطلق لهم الأعنة للنهم والتلوث هو نفسه كان له في ذات الوقت ستة عشر زوجة.. مقترفاً الزنى كأنه شرط بواسطة الأمر الإلهي، وبذلك أضاف إلى نفسه عدداً ضخماً من الناس المحكوم عليهم بالهلاك السرمدي)
التفت إلي، وقال ـ وهو يشير إلى الكتابين ـ: لقد ضم هذان الردان للمشروع الكلوني..
ثم قال معقبا: لقد كان هذا المشروع هو الإنجيل الذي الذي غدا في متناول الرهبان للاعتماد عليه في كتاباتهم العدائية ضد محمد ودين محمد.
فهذا وليم الصوري أسقف صور بدأ حديثه في تاريخه عن محمد فقال: (في زمن الامبراطور هرقل، وطبقاً للروايات والتواريخ الشرقية حققت معتقدات محمد الضارة موطئ قدم راسخ لها في الشرق، وهذا هو أول أبناء الشيطان المعُلِن بالكذب أنه رسول مرسل من الله، وبذلك أضل بلدان الشرق خصوصاً بلاد العرب، والبذرة السَّامة التي زرعها اخترقت إلى حد بعيد المناطق التي استخدم فيها خلفاؤه السيف والعنف بدلاً من التبشير والنصح، لاجبار الناس، مهما كانوا خاضعين، ليعتنقوا المعتقدات الخاطئة للرسول)
أما جاكيوس دي فتري اسقف عكا، فقال: (إن محمداً أخذ جيرانه الذين كان يحسدهم في الخفاء، وذبحهم بغدر)
أما سان بدرو باسكوال وهو راهب إسباني عاش في القرن 13 فقد كتب عدة كتب ضد المسلمين، ومنها كتاب أطلق عليه (الفرقة المحمدية)، قال فيه: (ما الذي جاء به محمد غير الفسوق والسلب، القرآن على حد سواء وبتناقض أمر بالسبب والحرب، والحديث أكدّ هذا، حيث وُعِدَ المسلمون بمكافأة ضخمة من أجل الموت في الحرب، وأن جروحهم سوف تكون جميلة يوم البعث، ذلك أن محمداً أمر بأن الناس من غير المسلمين يجب أن يُقتلوا بواسطة الجهاد، وتُغتصب نساؤهم ويؤخذن سبايا مع الأطفال، وخيراتهم تُنهب وبلادهم تُحتل)
النبي المعصوم (44)
وقد ذكر سان بدرو باسكوال هذا أن محمداً أثنى ذات مرة على آلهة الوثنيين في آيات زعم أن المسلمين يسمونها الآيات الشيطانية.
التفت إلي، وقال: لقد كان هذا القول هو الذي أوحى لأحد زملائنا في هذا المشروع الذي أسسنا من أجله هذه الدار بكتابة روايته (الآيات الشيطانية)، كما أن باسكوال وفندينزو وريكولدو وغيرهم من كتّاب العصور الوسطى كانوا المصدر الرئيس لهذه الرواية.
لقد اخترع سان بدور باسكوال قصصاً وأساطير عجيبة تناول فيها جوانب من سيرة محمد، ونزول الوحي عليه وموقف خديجة..
فمثلاً غزوة بدر يقدمها بهذا الشكل: (اصطحب محمد عصابة من اللصوص، وبعد ذلك سمع أن تجاراً كثيرين من مكة كانوا يقتربون من تلك المدينة من مناطق أخرى في طابور عظيم من البهائم المحملة بالأثقال، هو اختبأ في مكمن مع أصحابه وقتل سبعين من التجار وسائقي البغال من أهل مكة، وأخذ أكثر من سبعين أسيراً، ونهبوا القافلة بالكامل)
وعن قصة نزول الوحي يذكر أن محمدا تلبسَّه الشيطان، ويسب خديجة التي صدقته ويقول مخاطباً محمدا: (في الواقع أنا أقول لك يا محمد إن هذا الذي فعلته ليس نبوة، بل إنك قلت أشياء معينة مثلما تعوَّد العّرافون اليوم أن يقولونها عن طريق استحضار العفاريت بأي أسلوب، فهذا لن يكون مدهشاً لأنه سيوجد عرَّافون كثيرون في العالم يقولون حقائق قليلة وكذب كثير)
ويقول عن وفاة محمد: (إن محمداً عندما أوشك أن يموت حاول أن يعمِّد نفسه ـ أي يتنصَّر ـ لكن الشياطين منعته)
سرنا قليلا في القاعة، فرأينا صورة لرجل مشرقي يلبس ألبسة القرون الوسطى، وقد وضع على رأسه تاجا مزينا بالصلبان المذهبة، فقلت: أي ملك هذا؟
قال: هذا ملك من ملوك هذه الدار.. إنه يوحنا الدمشقي.. لاشك أنك تعرفه.. فيستحيل أن يدخل هذه الدار أحد لا يعرف يوحنا الدمشقي.. لقد كان من مسيحيي الشام، عاش في
النبي المعصوم (45)
العصر الأموي، وتضلع في اللاهوت، وكتب كتباً كثيرة، ومن ضمنها كتاب كتبه باليونانية بعنوان الهرطقات.
لقد أفرد فيه فصلاً عن الإسلام أطلق عليه اسم (هرطقة الأسماعيليين) ويقصد بالإسماعيلين العرب من أبناء اسماعيل بن ابراهيم، وهذا الفصل شديد الطعن، اتهم فيه يوحنا العرب بالهرطقه والضلال والخرافة، واعتبرهم فرقة نصرانية متهرطقة، وزعم أن محمداً كان رسولاً زائفاً ادَّعى النبوة زمن الامبراطور هرقل، بعد أن قرأ العهد القديم والعهد الجديد وتعلّم من راهب أريوسي فتظاهر بالتقوى حتى استمال العرب إليه وأخبرهم أنه تلقى كتاباً من السماء، وقدّم فيه تلك الشرائع المضحكة التي تسمى بالإسلام.
ومما ذكره هذا الرجل ـ وهو دليل من أدلة ذكائه وإخلاصه ـ أن محمدا دخل إلى بيت زينب بنت جحش في غياب زوجها فافتتن، بها وخرج وهو يقول: سبحان مقلب القلوب..
لقد كتب كتابه هذا في بلاد الدولة البيزنطية (دولة الروم) واستخدمه الكتّاب البيزنطيون في هجماتهم الفكرية على الإسلام، ثم تُرجم إلى اللاتينية وأسهم في صياغة العقيدة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين طوال العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر.
سرنا قليلا، فرأينا صورة أخرى، فقال: هذه صورة الراهب الإيطالي (فيدينزو أوف بافيا) الذي جاء إلى بلاد الشام في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي..
لقد كتب هذا الرجل الفاضل وصفاً مختصراً لتشويه صورة محمد عند القراء الغربيين ومما قاله: (إن محمداً جمع حوله عبيداً آبقين، ورجالاً مؤذين مرتشين ومضطهدين للاخرين، من أصناف مختلفة، وعندما أطاعوه وأصبح أميرهم، أرسلهم إلى غابة ذات طرق فرعية وإلى قمم الجبال، وأخذوا يغيرون على الطرق التي يتردد عليها المسافرون، فيسلبون الناس، وينهبون بضائعهم ويقتلون كل من يُبدي مقاومة. وحل الخوف من محمد وأصحابه بجميع الناس الذين يقطنون بتلك البلاد)
النبي المعصوم (46)
وقد كان هذا الراهب أحد الكتّاب الغربيين الذين تلقّفوا القصة المختلقة على محمد مع زينب بنت جحش، والتي اخترعها يوحنا الدمشقي وصاغها بشكل داعر، ومما قاله فيدينزو: (كان هناك رجل معروف يُدعى سايدوس ـ زيد ـ وكان له زوجة تُدعى سيبيب ـ زينب ـ كانت من أجمل النساء الجميلات اللائي عشن على الأرض في أيامها، فسمع محمد بشهرة جمالها، واشتعل بالرغبة فيها، وأراد أن يراها، فجاء إلى منزل المرأة في غياب زوجها، وسأل عن زوجها. هي قالت: يارسول الله، ما ذا تريد، لماذا أنت هنا؟ زوجي ذهب إلى الخارج في العمل، هذا لم يكن مخفياً عن زوجها، هو عندما عاد إلى بيته، قال لزوجته: هل كان رسول الله هنا؟ هي أجابت: هو كان هنا، هو قال هل رأى وجهك؟ هي أجابت: نعم هو رآه، وهو أيضاً سهّرني وقتاً طويلاً، هو قال لها: أنا لا أستطيع أن أعيش معك وقتاً أطول من هذا..)
نظر إلي، وقال: أرأيت ما أذكاه..
سرنا قليلا، فرأينا صورة أخرى، فقال: هذه صورة الراهب (ريكولدو أوف مونت كروس) المتوفى سنة 1320، وقد جاء إلى عكا سنة 1289 وانتقل منها إلى آسيا الصغرى، ومنها إلى الشرق حيث وصل إلى مراغة في رحلة تبشيرية، ثم جاء إلى الموصل وإلى بغداد. ثم عاد إلى دير مونت كروس.
وقد صنّف هذا الرجل الفاضل عدة كتب يهاجم فيها الإسلام منها كتاب سماه (دحض القرآن).. ومما جاء فيه قوله: (إن الإسلام مجرد خدعة شيطانية ابتدعها الشيطان كي يمهد الطريق لمجئ المسيح الدجّال، وذلك حين شعر الشيطان بعدم قدرته على إيقاف انتشار المسيحية، وأن الوثنيات بدأت تتهاوى أمام المسيحية، وأنه ليس في مقدوره دحض شريعة موسى وانجيل عيسى، فابتدع الشيطان ذلك الدين ليكون وسطاً بين المسيحية واليهودية.. والقرآن ليس قانون الله، نظراً لأن أسلوبه لا يطابق الأسلوب الإلهي، الذي لا يوجد فيه سجع ولا عبارات موزونة كتلك التي جاءت في الكتب المقدسة)
النبي المعصوم (47)
-\--\-
ما وصل الشيخ النجدي من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعت الباب يدق بشدة.. فأصابني رعب شديد.. فقد كانت الدار بكل ما تحمله من تحف وصور ومخطوطات تشبه الديار التي لا تسكنها إلا الأشباح..
أسرع أخي، ففتح الباب، فدخل مجموعة رجال مختلفي المظاهر والمشارب، وكأن كل واحد منهم عالم قائم بذاته.
عرفني بهم أخي واحدا واحدا.. واتفقنا في ذلك المجلس على طريقة تنفيذ المشروع الذي أراد أخي أن يجربه في تلك المدينة..
وقد اتفقوا على اختيار ساحة في المدينة تسمى (ساحة الحرية)، فتحت خصيصا لكل من يريد أن يتكلم ما يشاء، وفيما يشاء.. فلا قمع فيها، ولا ردع.
وقد دعاهم إلى اختيارها ما رأوه من استغلال المسلمين لها لنشر إسلامهم.. وما رأوه كذلك من الإقبال المتزايد للناس على الإسلام فيها، وفي مثلها من المحال.
التفت الغريب إلي، وقال: هذه قصة هذه الدار.. أما قصة النفر، وما يرتبط بشبهاتهم من وجوه الردود، فهي موضوع رحلتنا هذه.
النبي المعصوم (48)
كان أول من أراد أن يرسم منهج التشكيك لهذه الجماعة التي اجتمعت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أخي.. وتوأمي.. ونفسي الثانية.
لقد أراد بخروجه للمسلمين، بعد أن جمع ما أطاق من أنواع السموم، أن يكون أسوة حسنة لكل الفريق الذي اجتمع على أخطر مهمة في التاريخ وأصعبها.. وهي مهمة تشويه الشمس التي لا تغيب.
وقد أراد في نفس الوقت أن يمهد الأرض التي تجعل كل المسلمين يتقبلون كل ما سيفرزه غيره من سموم التشكيك والتشويه.
وقد كان لأخي من الذكاء والفطنة ما جعله يستند إلى مصادر المسلمين وحدها، وخاصة المصادر الأصلية التي لا يشك فيها أحد منهم، ليمزج منها خلطات تحول وجه كل من شرب منها عن قبلة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان من الآيات التي جذبت انتباهه لهذا، الآيات التي أسند الله تعالى فيها الغفلة والضلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ:50)، وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى:7)، وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف:3)، وقوله تعالى في الآية التي قصم أخي ظهرها: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (الأنعام:56) (1)
وكان منها الآيات التي أخبرت عن مغفرة الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ
__________
(1) الآية كاملة هكذا: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (الأنعام:56)
النبي المعصوم (49)
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح:2)، وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)، وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (الشرح:2)، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43)، وقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (لأنفال:68).. وغيرها من الآيات.
ومن السنة جميعا لم يلفت انتباهه إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ) (2)
أخذ أخي في حقيبته هذه النصوص المقدسة، ثم مزجها بما شاء من فهوم، واستنتج منها ما شاء من استنتاجات.. ثم راح إلى ساحة الحرية ليبشر بما تصوره من خطايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: فهل ذهبت معه؟
قال: لست أدري.. ولكني ربما كنت معه.. فكل كلمة قالها، أشعر أني ـ مثله ـ نطقت بها.. وكل كلمة سمعها أشعر أني ـ مثله ـ سمعتها.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لا تسأل عن ذلك.. فلن ينفعك البحث في ذلك.
-\--\-
وقف أخي في تلك الساحة التي هيئت لمن يشاء أن يقول ما يشاء، ثم قال: أنا أخاطب بكلمتي هذه العقول.. ولا أخاطب غير العقول.. فمن كان ذا عقل، فليسمع لي، وليرد علي بما
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
النبي المعصوم (50)
يشاء.. ومن لم يكن له عقل يميز به الحقائق من الأباطيل، وأهل الضلال من أهل الهداية.. فلا أرغب في سماعه لحديثي.. لسبب بسيط، وهو أنه لن يفهمه.. وإذا فهمه، فلن يتقبله.
اجتمعت جموع كثيرة حوله، وكان من بينها تلك الجماعة التي أسلمت حديثا، وفي ذلك المحل الذي أتيح لحرية التعبير.
بدأ أخي حديثه بما تعودته منه من طرق الاستفزاز، فهو يتصور أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يبني به ما يشاء، ويهدم ما يشاء.
وقد كان أخي يستخدم هذا الأسلوب في علاقاته جميعا، وقد بنى به كل ما كان يحلم به من مجد ومن مناصب ابتداء من أول السلم إلى منتهاه.
بعد أن اجتمعت الجموع أخذ أخي يرسل أول قنابله، فقال: لقد سمعت أنه ـ وقبل أسبوع ـ وقف رجل في هذا الموقف.. وحدث الناس كثيرا عن محمد.. وكان من نتيجة حديثه أن ألغى البعض عقولهم، وراحوا يسيرون خلف رجل امتلأ ضلالة وخطيئة..
نادى رجل من الجمع بغضب قائلا: من ترميه بالضلال والخطيئة؟
نظر إليه أخي.. ثم قال ببساطة يستفزه: وهل هناك غير محمد!؟.. إن هذا الوصف لا ينطبق على أحد في الدنيا كما ينطبق على محمد.
غضب الرجل.. وغضب معه كثير من أفراد الجماعة الملتفة بأخي.. بل قام يعضهم لينزله من ذلك المحل الذي يخطب منه.. فقام رجل من القوم، هو أشبه الناس بصاحبك (معلم السلام).. بل لعله (معلم السلام) نفسه إلا أني سمعت القوم يسمونه حكيما.. ولا أزال إلى الآن لا أعرف هذا الرجل، ولا أعرف سر وجوده في كل محل يتعرض له مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإساءة.
ولم يكن هذا العجب عجبي فقط، بل كان عجب العصابة جميعا، والتي عبر بعض أفرادها عن سخطه بقوله: (ما بال هذا المحامي يظهر كل مرة ليحبط جميع مخططاتنا)
بل إن بعض أفراد عصابتنا هم به ذات مرة ليخنقه.. ولكن الله خلصه منه.
النبي المعصوم (51)
لن أستعجل في حكاية هذا.. ولهذا سأعود بك إلى موقفه.. وكيف استطاع أن يواجه ذلك الموقف الشديد بحكمة وعقل وسلام.
قال الحكيم، بنبرة ممتلئة حكمة ووقارا وهدوءا، متوجها للجمع الغاضب: رويدكم يا جماعة.. فما ينبغي لنا، ونحن تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن الذين شملتنا أشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نتصرف هذا التصرف.
إن هذا أخ من إخواننا وقع في شبه جرته إلى هذا التصرف.. والشبه تعالج بالعلم، لا بالأيدي.. هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهكذا ينبغي أن نمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ذلك، ثم التفت إلى أخي، وقال: هو ذا أنا أمامك.. أنا الذي تقصده.. فقد قمت قبل أسبوع بالوقوف في موقفك هذا.. لأحدث من أراد أن يستمع إلي عن رحلتي إلى محمد وشمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان لحديثي أن يطول.. ولكن الجمع الذي التف حولي كان كالزيت الذي يكاد يضيئ ولو لم تمسسه نار.. فلذلك ما إن ذكرت أول شعاع من أشعة محمد حتى راحوا يعلنون حبهم له وإيمانهم به.
قال أخي: وقد أرسلتني الحقيقة لأنقذ هذا الجمع الذي استغفلته، فرحت ترميه في شباك الضلال.
قال الحكيم: وأنا ممتن لك.. لتنقذني ـ أنا أيضا ـ من هذه الشباك.. فاذكر لي، واذكر للجمع ما ينقذنا من هذا الضلال الذي جعلنا نتبع محمدا.
سكت أخي يستجمع أنفاسه، وقد ساءه هذا الموقف اللين الذي أبداه الحكيم، ثم قال: تخيلوا معي ـ أيها الجمع ـ أنكم في صحراء.. وليس لديكم أي بوصلة تهتدون بها.. ثم جاءكم أمي لا يعرف الطريق، ولا علم له بالجغرافية، فأخبركم أنه الهادي.. هل تقبلونه؟
ثم أجاب نفسه بنفسه: لا شك أنكم لن تقبلوه.. فالضال لن يكون هاديا.. والخطاء لن يكون مربيا.. والمخطئ لن يكون معلما.. هكذا علمنا الكتاب المقدس.. وهذا هو المقياس العلمي
النبي المعصوم (52)
الذي ملأ به عقولنا، فرحنا لا نخضع إلا للحقيقة.
غضبت الجماعة المسلمة لهذا الاستفزاز.. لكنه قال بهدوئه المعتاد: لا تغضبوا.. فأنا لن أحدثكم إلا بالقرآن الذي جاء به محمد.. وبالأحاديث التي ينزلها المسلمون منزلة القرآن.
التفت الجمع إليه مستغرقين فيما يقول، متعجبين منه، فشجعه ذلك، فراح يقول: لقد ذكرت لكم أن محمدا خطاء.. والخطاء لا يكون مربيا.. ولا يكون هاديا.. ولا يكون رسولا.
لأن أول صفات المربي أن يكون قدوة لغيره.. ومن كان ذا خطيئة لم يرب غيره إلا على الخطيئة..
ومن أدوار الرسول أن يكون شافعا.. ومن كان ذا خطيئة يستحيل أن يكون شافعا للمذنبين.. لأنه يحتاج هو نفسه لمن يشفع له.
سكت قليلا، ثم قال: لا تغضبوا.. فليس هذا كلامي.. هذا ما قال القرآن.. لقد جاء في القرآن أمر محمد بالاستغفار، والاستغفار لا يكون إلا للمذنبين، ففي القرآن هذه الأوامر الشديدة لمحمد: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:106).. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55).. {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)
وفي القرآن وعد لمحمد بأن يغفر له ذنبه.. والمغفرة لا تكون إلا للمذنبين: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح:1 - 2)
بل إن محمدا نفسه يصرح بوقوع الخطايا منه.. اسمعوا هذا الدعاء الذي لا ينطق به إلا من امتلأ بالخطايا.. (اللهم انت ربى لا اله الا انت خلقتني وانا عبدك وانا على عهدك ووعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت ابوء لك بنعمتك على وابوء لك بذنبى فاغفر لى فانه لا يغفر
النبي المعصوم (53)
الذنوب إلا انت) (1)
واسمعوا هذا الدعاء الذي تفوح منه روائح الخطايا: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطأي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شئ قدير) (2)
أرأيتم.. إن محمدا في هذا الدعاء يقر بأن له خطايا.. وأنه أسرف فيها.. وأنه ارتكب من الخطايا جميع أنواعها وفي جميع المحال.
ليس هذا فقط.. اسمعوا هذا الدعاء: (اللهم انى اعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) (3)
ولكثرة خطاياه كان يقول لأصحابه: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً) (4).. بل كان يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرةٍ) (5)
وقد عد أحد أصحابه كثرة استغفاره، فقال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس، يقول: رب اغفر لى، وتب علي، انك انت التواب الغفور مائة مرة (6).
التفت إلى الجمع، وقال: أرأيتم.. هل يمكن الوثوق في نبي خطاء؟
ثم أضاف بسخرية قائلا: إن أي تصرف ستنقلونه عن هذا النبي يمكن أن يكون من
__________
(1) رواه البخاري والنسائي.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه مسلم.
(6) البيهقي في الشعب.
النبي المعصوم (54)
الذنوب التي تاب منها.. فهل تجيزون لأنفسكم أن تكرروا أخطاء غيركم؟.. وهل تجيزون لأنفسكم أن تعبدوا الله بالأخطاء التي تيب منها؟
سكت الجمع، فقام الحكيم، وقال: إذا أذنت لي.. فسأجيبك عما طرحت من أسئلة؟
قال أخي: أجب بما تشاء.. لن تجد عندي إلا سعة الصدر.
قال الحكيم: سأجيبك عن هذا بأمرين.. أما أحدهما فأعتمد فيه على الجدل، فلذلك سأقنعك بما لا يقبله عقلي وديني.. ولكن دينك وعقلك يقبله.. وهو أسلوب اعتمده القرآن حين قال يخاطب اليهود: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93)
ولذلك أقول لك: ائت بكتابك المقدس.. وأجبني عما أطرحه عليك من أسئلة.
قال أخي: كتابي المقدس دائما معي.. هو في عقلي وقلبي وروحي.. وحروفه تنتقش في ذاكرتي.
قال الحكيم: فأنت أقرب إلى الحق إذن من كل هذا الجمع.. فمن قرأ الكتاب المقدس بصدق لن يصل إلا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أخي: بل يصل المسيح..
قال الحكيم: المسيح ومحمد.. وغيرهما من الأنبياء كلهم قد خرجوا من عالم واحد، فمن وصل لأحدهم بصدق وصل للآخر لا محالة.
قال أخي: كيف تضع محمدا مع الأنبياء.. وقد ذكرت لك من ضلالاته وخطاياه ما يرفعه عن ذلك المقام الرفيع الذي تدعونه له!؟
قال الحكيم: اعذرني.. ربما أكون قد أخطأت في تعبيري.. ولكن المنهج العلمي يدعوني
النبي المعصوم (55)
ويدعوك للتريث حتى نبحث في سير هؤلاء الأنبياء الذين رأيت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أقل شأنا من أن يوضع معهم.
أشار الجمع موافقين لما ذكره الحكيم، فقال: فلنبدأ بآدم.. أليس آدم أبا البشر، وأول الأنبياء.. أجبني ما مقامه فيكم (1)؟
قال أخي: هو فينا ذو مقام.. فهو أبونا الأول الذي ولدنا منه الولادة الأولى.. وكل مسيحي يشعر أنه ابن آدم بحكم ولادته، ويولد ولادة جديدة في المسيح بإيمانه، لذلك يحتفظ المسيحي بعلاقة دائمة مع آدم الأول وآدم الآخر، وإن اختلفت طبيعة هذه العلاقة وأثرها في
__________
(1) من المراجع التي رجعنا إليها في ذكر ما نسبب للأنبياء من معاصي (إظهار الحق) لرحمة الله الهندي، وقد قدم لذكره لما نسب للأنبياء باعتذار قال فيه: (اعلم أرشدك اللّه تعالى في الدارين أن المسيحيين يدعون أن الأنبياء إنما يكونون معصومين في تبليغ الوحي فقط، تقريراً كان أو تحريراً. وأما في غير التبليغ، فليسوا بمعصومين لا قبل النبوّة ولا بعدها. فيصدر عنهم بعدها جميع الذنوب قصداً، فضلاً عن الخطأ والنسيان، فيصدر عنهم الزنا بالمحارم فضلاً عن الأجنبيات، ويصدر عنهم عبادة الأوثان، وبناء المعابد لها، ولا يخرج عندهم نبي من إبراهيم إلى يحيى عليهما السلام لا يكون زانياً أو من أولاد الزنا أعاذنا اللّه من أمثال هذه العقائد الفاسدة في حق الأنبياء عليهم السلام.
وقد عرفت في الأمر السابع من مقدمة الكتاب، وفي الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وفي المقصد الأول من الباب الثاني أن ادعاءهم العصمة في التبليغ أيضاً باطل لا أصل له على أصولهم. ويصدر هذا الادعاء عنهم لتغليط العوام، فمطاعنهم على محمد (في بعض الأمور التي يفهمونها ذنوباً في زعمهم الفاسد، لا تقدح في نبوته على أصولهم. وإني وإن كنت أستكره أن أنقل ذنوب الأنبياء والكفريات المفتريات عن كتبهم ولو إلزاماً، ولا أعتقد في حضرات الأنبياء إنصافهم بهذه الذنوب والكفريات حاشا وكلا. لكني لما رأيت أن علماء بروتستنت أطالوا ألسنتهم إطالة فاحشة في حق محمد (في الأمور الخفيفة، وجعلوا الخردلة جبلاً لتغليط العوام الغير الواقفين على كتبهم، وكان مظنة وقوع السذج في الاشتباه بتمويهاتهم الباطلة، نقلت بعضها إلزاماً، وأتبرأ عن اعتقادها بألف لسان وليس نقلها إلا كنقل كلمات الكفر، ونقل الكفر ليس بكفر، وقدمت نقلها على نقل مطاعنهم في محمد (والجواب عنها)
وقد ذكر أنه نقل هذه النصوص وبعض التعليقات عليها من كتاب كتبه القسيس (وليم اسمت) (من علماء بروتستنت كتاباً في لسان أردو وطبعه في البلد مرزابور من بلاد الهند في سنة 1848 من الميلاد، وسماه طريق الأولياء، وكتب فيه حال الأنبياء من آدم إلى يعقوب عليهم السلام ناقلاً عن سفر التكوين وتفاسيره المعتبرة عند علماء بروتستنت)
النبي المعصوم (56)
الحالتين.
قال الحكيم: ولكنكم تذكرون لنا ـ خلافا لنا ـ بأنه ظل على خطيئته.. لقد قال أحدكم في كتاب كتبه عن أولياء الكتاب المقدس سماه (طريق الأولياء): (يا أسفي على أنه لم تثبت توبته وعلى أنه ما استغفر اللّه لذنبه مرة واحدة أيضاً)
قال ذلك، ثم التفت إلى أخي قائلا: وما تقولون في نوح؟
قال أخي: نوح ـ في معتقدنا نحن المسيحيين ـ هو الرجل البار الذي ينجو من العقاب وينعم بالخلاص.. ففي وسط الشر المدمّر للعالم، يبرز نوح كرأس للإنسانية الجديدة وصورة مسبقة للمسيح.
قال الحكيم: فافتح كتابك المقدس، واقرأ من سفر التكوين (9: 20)
أخذ أخي يقرأ: (واشتغل نوح بالفلاحة وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته، فشاهد حام أبو الكنعانيين عري أبيه، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا خارجا. فأخذ سام ويافث رداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا القهقرى إلى داخل الخيمة، وسترا عري أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عريه. وعندما أفاق نوح من سكره وعلم ما فعله به ابنه الصغير قال: (ليكن كنعان ملعونا، وليكن عبد العبيد لإخوته)، ثم قال: تبارك الله إله سام. وليكن كنعان عبدا له. ليوسع الله ليافث فيسكن في خيام سام. وليكن كنعان عبدا لهم)
ابتسم الحكيم، وقال: ألا ترى الخطايا الكثيرة التي تفوح من هذا النص، والتي تنسب لهذا النبي الكريم.
ألا ترون أن الذي شاهد عري أبيه هو (حام)؟
قال الجمع: نعم..
قال الحكيم: ولكن نوحا ـ في هذا النص ـ لا يلعن ابنه الذي شاهده، وإنما يلعن نسل أحد
النبي المعصوم (57)
أبنائه.. وهو كنعان.. وهذا الابن لم يولد حينذاك.. بل ولد بعد عشرين سنة..
ولو فرضنا أنه حمل إثم الأب على الابن، وهو خلاف العدل، فما وجه تخصيص كنعان.. فقد كان لحام أربعة أبناء: كوش ومصرايم وفوط وكنعان.
نظر الحكيم، وقال: من المؤسف أن يحمل الكتاب المقدس مثل هذه العنصرية.. إن هذه القصة ـ بلا شك ـ من افتراءات الكتاب المقدس على أنبياء الله واتهامهم بارتكاب الكبائر.. وهي تفضح عنصرية اليهود حيث قصدوا بهذه اللعنة الكنعانيين سكان فلسطين قبل اليهود، فنسبوا أنفسهم إلي سام، وادعوا اختصاصهم بذلك ليتسنى لهم ادعاء حق السيطرة على الكنعانيين.
ثم التفت إلى أخي، وقال: أنبئني عن مقام إبراهيم فيكم، وفي الكتاب المقدس؟
قال أخي: هو نبي من أنبياء الكتاب المقدس العظام.. بل إنه يحتل مركزا ممتازا في تاريخ الخلاص.. فدعوته ليست مجرد نقطة البداية في تدبير الله، لكنها أيضا تحدد الاتجاهات الأساسية لهذا التدبير.
قال الحكيم: ولكنكم تعتقدون أنه وقع في خطايا كثيرة.. سأذكر لك منها بعض ما وصلت إليه، ولا أرى إلا أنك ستقرني عليها.
منها ما ذكره صاحبكم في كتابه الذي كتبه عن (طريق الأولياء)، فقد قال في حال إبراهيم: (لا يعلم حاله إلى سبعين سنة من عمره، وهو تربى في الوثنيين، ومضى أكثر عمره فيهم، ويعلم أن أبويه ما كانا يعرفان الإله الحق. ويحتمل أن إبراهيم أيضا كان يعبد الأصنام ما لم يظهر الله عليه، ثم ظهر عليه وانتخبه من أبناء العالم، وجعله عبدا خاصا) (1)
فظهر أن المظنون عندكم أن إبراهيم إلى سبعين سنة من عمره كان يعبد الأصنام.. بل إن كونه عابد الأصنام إلى أن بلغ سبعين سنة، قريب اليقين، نظرا لأصولكم، لأن أهل العالم في هذا
__________
(1) طريق الأولياء، 74، نقلا عن (إظهار الحق)
النبي المعصوم (58)
الوقت عندكم كانوا وثنيين، وهو تربى فيهم، وأبواه أيضا كانا منهم. ولم يظهر عليه الرب إلى ذلك الوقت، والعصمة عن عبادة الأوثان ليست بشرط بعد النبوة، فضلا عن أن تكون شرطا قبل النبوة.
لنترك هذا.. فقد تتعلل بأن هذا قبل النبوة.. ولننتقل إلى ما تذكرونه عنه بعد النبوة.. اقرأ علي ما ورد في (سفر التكوين:12/ 10 – 13)
قرأ أخي: (وكان جوع في أرض كنعان، فنزل أبرام إلى مصر ليتغرب هناك، لأن الجوع كان شديدا. فلما وصل إلى أبواب مصر قال لساراي امرأته: (أعرف أنك امرأة جميلة المنظر، فإذا رآك المصريون سيقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويبقون عليك. قولي إنك أختي، فيحسنوا معاملتي بسببك ويبقوا على حياتي لأجلك)
قال الحكيم: ألا ترى الخطيئة العظيمة التي وقع فيها إبراهيم في هذا النص؟.. إن سبب الكذب ـ كما يدل هذا النص ـ ما كان مجرد الخوف، بل رجاء حصول الخير أيضا، بل الخير كان أقوى، ولذلك قدمه، وقال ليكون لي خير بسببك، وتحيي نفسي من أجلك.
على أن خوفه من القتل مجرد وهم، لا سيما إذا كان راضيا بتركها، فإنه لا وجه لخوفه بعد ذلك أصلا، وكيف يجوز العقل أن يرضى إبراهيم بترك حريمه وتسليمها ولا يدافع دونها، ولا يرضى بمثله من له غيرة ما، فكيف يرضى مثل إبراهيم الغيور.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: لم يكن هذا هو الذنب الوحيد.. بل إن إبراهيم ـ على حسب ما ذكر الكتاب المقدس ـ كرر نفس هذا الذنب.. ففي (سفر التكوين: 20/ 1 - 18): (وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض النقب، فأقام بين قادش وشور ونزل بمدينة جرار. وقال إبراهيم عن سارة امرأته: (هي أختي) فأرسل أبيمالك، ملك جرار، فأخذ سارة. فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: (ستموت بسبب المرأة التي أخذتها، فهي متزوجة برجل). ولم يكن أبيمالك اقترب إليها، فقال: (يا سيدي، أأمة بريئة تقتل؟ أما قال لي إبراهيم: هي أختي، وقالت لي امرأته أيضا:
النبي المعصوم (59)
هو أخي؟ فبسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا). قال له الله في الحلم: (أنا أعرف أنك بسلامة قلبك فعلت هذا، ولذلك منعتك من أن تمسها فتخطأ إلي. والآن رد امرأة الرجل، فهو نبي يصلي لأجلك فتحيا. وإن كنت لا تردها، فاعلم أنك لا بد هالك أنت وجميع شعبك)
فبكر أبيمالك في الغد واستدعى جميع رجاله وأخبرهم بكل ما جرى، فخافوا خوفا شديدا. ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له: (ماذا فعلت بنا؟ وبماذا أذنبت إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطيئة عظيمة؟ ما فعلت بي لا يفعله أحد) وسأل أبيمالك إبراهيم: (ماذا خطر لك حتى فعلت هذا؟) فأجاب إبراهيم: ((ظننت أن لا وجود لخوف الله في هذا المكان، فيقتلني الناس بسبب امرأتي. وبالحقيقة هي أختي ابنة أبي لا ابنة أمي، فصارت امرأة لي. فلما شردني الله من بيت أبي قلت لها: تحسنين إلي إن قلت عني حيثما ذهبنا: هو أخي)
فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وجواري وأعطى هذا كله لإبراهيم وأعاد إليه سارة امرأته. وقال أبيمالك: (هذه بلادي بين يديك، فأقم حيثما طاب لك)
وقال لسارة: (أعطيت أخاك ألفا من الفضة، وهو لك رد اعتبار أمام عيون كل من معك وسواهم بأنيلم أتزوجك)
فصلى إبراهيم إلى الله، فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه فولدن، وكان الرب أغلق كل رحم في بيت أبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم)
التفت الحكيم إلى أخي، ثم قال: ألا أن إبراهيم في هذا النص أيضا مارس نفس الأسلوب.. ولعل السبب هاهنا ما عدا الخوف أيضا، كان حصول المنفعة، وقد حصلت كما صرح بذلك هذا السفر المبارك..
لقد قال صاحبكم.. صاحب (طريق الأولياء) معلقا على هذا: (لعل إبراهيم لما أنكر كون سارة زوجة له في المرة الأولى، عزم في قلبه أنه لا يصدر عنه مثل هذا الذنب، لكنه وقع في شبكة
النبي المعصوم (60)
الشيطان السابقة مرة أخرى بسبب الغفلة) (1)
وقال في موضع آخر: (لا يمكن أن يكون إبراهيم غير مذنب في نكاح هاجر، لأنه كان يعلم جيدا قول المسيح المكتوب في الإنجيل، أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى، وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا) (2)
بل أقول: إنه لا يمكن أن يكون غير مذنب في زواجه من سارة، لأنه كان يعلم جيدا قول موسى المكتوب في التوراة: (لا تكشف أختك من أبيك كانت أو من أمك التي ولدت في البيت أو خارجا من البيت)، وقوله: (أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو أخته ابنة أمه، ورأى عورتها ورأت عورته، فهذا عار شديد، فيقتلان أمام شعبهما. وذلك لأنه كشف عورة أخته فيكون إثمهما في رأسهما)، وقوله: (يكون ملعونا من يضاجع أخته من أبيه أو أمه)
إن هذا الزواج مساو للزنا عندكم.. ويلزم من هذا أن يكون إبراهيم ـ عليه السلام ـ زانيا قبل النبوة وبعدها، ويكون أولاده كلهم من سارة أولاد الزنا.
ولو جوزتم زواج الأخت في شريعته لزم تجويز تعدد الزواج أيضا في تلك الشريعة.
سكت قليلا، ثم قال: ليس إبراهيم وحده هو من وقع في هذا.. إن مثل هذا ورد عن ابنه الوارث لبركاته إسحق.. اقرأ ما ورد في (سفر التكوين:26/ 6 - 11)
قرأ أخي: (فأقام إسحق في جرار وسأله أهل جرار عن امرأته فقال: (هي أختي)، لأنه خاف أن يقول: (هي امرأتي)، لئلا يقتلوه بسببها وكانت جميلة المنظر. ولما مضى على إقامته هناك وقت طويل حدث أن أبيمالك، ملك الفلسطيين أطل من نافذة له ونظر فرأى إسحق يداعب رفقة امرأته. فدعاه وقال له: (إذا هي امرأتك، فلماذا قلت إنها أختك؟) فقال إسحق: (لأني ظننت
__________
(1) طريق الأولياء: 99.
(2) طريق الأولياء: 92 و93.
النبي المعصوم (61)
أنني ربما أهلك بسببها) فقال أبيمالك: (ماذا فعلت بنا؟ لولا قليل لضاجع أحد أبناء شعبنا امرأتك فنذنب) وأوصى أبيمالك جميع الشعب قال: (من مس هذا الرجل أو امرأته فموتا يموت)
قال الحكيم: ألا ترى إسحق في هذا النص يقتفي أثر أبيه، فيعود إلى نفس الخطيئة؟.. لقد قال صاحب طريق الأولياء: (زل إيمان إسحاق لأنه قال لزوجته أنها أخته) (1).. وفي موضع آخر قال: (يا أسفي إنه لا يوجد كمال في أحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير، والعجب أن شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم، وقع فيها إسحاق أيضا، وقال عن زوجته أنها أخته، فيا أسفي أن أمثال هؤلاء المقربين عند الله محتاجون إلى الوعظ) (2)
ثم التفت إلى أخي، وقال: ونفس الأمر حصل مع يعقوب.. فهو لم يكتف بالكذب، بل راح يخدع أباه.. بل يخدع الله.. اقرأ على الجمع من (سفر التكوين:27/ 1 - 45)
قرأ أخي: (ولما شاخ إسحق وكلت عيناه عن النظر دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: (يا ابني)، قال: (نعم. ها أنا). فقال: (صرت شيخا كما ترى ولا أعرف متى أموت. فخذ عدتك وجعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيد لي صيدا، 4 وهيئ لي الأطعمة التي أحب، وجئني بها فآكل وأباركك قبل أن أموت).
وكانت رفقة سامعة حينما كلم إسحق عيسو ابنه. فلما خرج عيسو إلى البرية ليصطاد صيدا ويجيء به إلى أبيه، قالت رفقة ليعقوب ابنها: (سمعت أباك يقول لعيسو أخيك: جئني بصيد وهيئ لي أطعمة فآكل منها وأباركك أمام الرب قبل موتي. والآن يا ابني، اسمع لكلامي واعمل بما أوصيك به. اذهب إلى الماشية وخذ لي منها جديين من خيرة المعز، فأهيئهما أطعمة لأبيك كما يحب. فتحضرهما إلى أبيك، ويأكل ليباركك قبل موته). فقال يعقوب لرفقة أمه: (لكن عيسو أخي رجل
__________
(1) طريق الأولياء: 168.
(2) طريق الأولياء:169.
النبي المعصوم (62)
أشعر وأنا رجل أملس. ماذا لو جسني أبي فوجدني مخادعا؟ ألا أجلب على نفسي لعنة لا بركة؟) فقالت له أمه: (علي لعنتك يا ابني. ما عليك إلا أن تسمع لكلامي وتذهب وتجيئني بالجديين. فذهب وجاء بهما إلى أمه، فهيأت أطعمة على ما يحب أبوه. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي عندها في البيت، فألبستها يعقوب ابنها الأصغر وكست يديه والجانب الأملس من عنقه بجلد المعز. وناولت رفقة يعقوب ما هيأته من الأطعمة والخبز، فدخل على أبيه وقال: (يا أبي)، قال: (نعم، من أنت يا ابني؟) فقال له يعقوب: (أنا عيسو بكرك. فعلت كما أمرتني. قم اجلس، وكل من صيدي، وامنحني بركتك). فقال له إسحق: (ما أسرع ما وجدت صيدا يا ابني!) قال: (الرب إلهك وفقني). فقال: (تعال لأجسك يا ابني، فأعرف هل أنت ابني عيسو أم لا). فتقدم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسه وقال: (الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو). ولم يعرفه، لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه. فقبل أن يباركه. قال: (هل أنت حقا ابني عيسو؟) قال: (أنا هو). فقال: (قدم لي من صيدك، يا ابني، حتى آكل وأباركك). فقدم له فأكل، وجاء بخمر فشرب. وقال له إسحق: (تقدم وقبلني يا ابني). فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه وقال: (ها رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب يعطيك الله من ندى السماء ومن خصوبة الأرض فيضا من الحنطة والخمر! وتخدمك الشعوب وتسجد لك الأمم! سيدا تكون لإخوتك، وبنو أمك يسجدون لك. ملعون من يلعنك، ومبارك من يباركك!)
فما إن فرغ إسحق من بركته، وخرج يعقوب من عنده حتى رجع عيسو أخوه من الصيد فهيأ هو أيضا أطعمة وجاء بها إلى أبيه وقال له: (قم يا أبي، وكل من صيدي، وباركني). فقال له أبوه: (من أنت؟) قال: (أنا ابنك البكر عيسو). فارتعش إسحق ارتعاشا شديدا وقال: (فمن هو الذي صاد صيدا وجاءني به، فأكلت منه كله قبل أن تجيء وباركته؟ نعم، باركته ومباركا يكون). فلما سمع عيسو كلام أبيه صرخ عاليا بمرارة وقال له: (باركني أنا أيضا يا أبي). فأجابه: (جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك). فقال عيسو: (ألأن اسمه يعقوب تعقبني مرتين؟ أخذ بكوريتي، وها
النبي المعصوم (63)
هو الآن يأخذ بركتي). وقال: (أما أبقيت لي بركة؟)
فأجابه إسحق: (هاأنا جعلته سيدا لك، وأعطيته جميع إخوته عبيدا، وزودته بالحنطة والخمر، فماذا أعمل لك يا ابني؟) فقال عيسو: (أما لك غير بركة واحدة يا أبي؟ باركني أنا أيضا يا أبي). ورفع عيسو صوته وبكى. فأجابه أبوه: (بعيدا عن خصوبة الأرض يكون مسكنك، وعن ندى السماء من فوق. بسيفك تعيش وأخاك تخدم فإذا قويت تكسر عن عنقك نيره)
وحقد عيسو على يعقوب بسبب البركة التي باركه بها أبوه. وقال عيسو في نفسه: (إقتربت أيام الحداد على أبي. فأقتل يعقوب أخي). وجاء من أخبر رفقة بكلام عيسو، فاستدعت يعقوب وقالت له: (أخوك ينوي أن يقتلك. والآن اسمع لكلامي يا ابني، فقم اهرب إلى لابان أخي في حاران، وأقم عنده أياما قليلة حتى يهدأ غضب أخيك فإذا هدأ غضب أخيك ونسي ما فعلت به أرسل وآخذك من هناك. لماذا أفقدكما في يوم واحد؟)
قال الحكيم: يكفيني ما قرأته.. هل ترى هذا سلوك نبي أبي أنبياء!؟.. نحن المسلمين لا نقول هذا.. بل ننزه الأنبياء عن كل خطيئة صغيرة كانت أو كبيرة..
لقد ذكر بعض علماء المسلمين.. وهو ابن حزم.. في نقد لاذع وتحليل رائع، ما في هذا النص من أكاذيب وخرافات ومتناقضات فقال: وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات، فأول ذلك اطلاقهم على نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ أنه خدع أباه وغشه وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس مع الكفار والأعداء، فكيف من نبي مع أبيه وهو نبي أيضا؟! هذه سوءات مضاعفات.
ثانيا: اخبارهم أن بركة يعقوب إنما كانت مسروقه بغش وخديعة وتخابث، وحاشا للأنبياء عليهم السلام من هذا. ولعمري انها لطريقة اليهود، فما تلقى منهم إلا الخبيث الخادع والشاذ.
ثالثا: اخبارهم أن الله أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغش والخديعة، وحاش لله من هذا.
النبي المعصوم (64)
رابعا: أنه لا يشك أحد في أن إسحق ـ عليه السلام ـ لما بارك يعقوب حينما خدعه، كما زعم النذل الذي كتب لهم هذا الهوس، إنما قصد بتلك البركة عيسو، وأنه دعا لعيسو لا ليعقوب. فأي منفعة للخديعة ها هنا؟ لو كان لهم عقل.
وأما وجوه الكذب فكثيرة جدا. من ذلك نسبتهم الكذب إلى يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو نبي الله ورسوله، في أربع مواضع:
أولها وثانيها قوله لأبيه اسحاق أنا ابنك عيسو وبكرك، فهاتان كذبتان في نسق، لأنه لم يكن ابنه عيسو، ولا كان بكره، وثالثها ورابعها قوله لأبيه: صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي. فهاتان كذبتان في نسق، لأنه لم يكن له شيئا ولا أطعمه من صيده، وكذبات أخرى هي: بطلان بركة اسحق إذ قال ليعقوب تخدمك الأمة وتخضع لك الشعوب وتكون مولى اخوتك، ويسجد لك بنو أمك، وبطلان قوله لعيسو تستعبد لأخيك. فهذه كذبات متواليات. فوالله ما خدعت الأمم يعقوب ولا بنيه بعده، ولا خضغت لهم الشعوب، ولا كانوا موالى اخوتهم، ولا سجد لهم ولا له بنو أمه. بل إن بني اسرائيل هم الذين خدموا الأمم في كل بلدة وخضعوا للشعوب قديما وحديثا في أيام دولتهم وبعدها.
وأما قوله (تكون مولى اخوتك ويسجد لك بنو أمك)، فلعمري لقد صح ضد ذلك جهارا، إذ في توراتهم أن يعقوب كان راعيا لأنعام ابن عمه لابان بن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة، وأنه بعد ذلك سجد هو وجميع ولده حاشا من لم يكن خلق منهم بعد لأخيه عيسو مرارا كثيرة.
وما سجد عيسو قط ليعقوب، ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو. وقد تعبد يعقوب لعيسو في جميع خطابه له، وما تعبد قط عيسو ليعقوب. وقد سأل عيسو يعقوب عن أولاده فقال له يعقوب: هم أصاغر من الله بهم على عبدك. وقد طلب يعقوب رضاء عيسو وقال له: اني نظرت الى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله، فارض عني، واقبل ما اهديت اليك. فما نرى
النبي المعصوم (65)
عيسو وبنيه إلا موالى يعقوب وبنيه.
فما نرى تلك البركة إلا انها معكوسة منكوسة! ونعوذ بالله من الخذلان.
قال ذلك، ثم ابتسم، وقال: لقد ذكرني هذا النص قصة حكاها رحمة الله الهندي، فذكر أن فاجرا من فرقة بانو طلب حشيشا من الحمار لأجل حصانه، وما أعطاه الحمار، فقال: إن لم تعطني أدع على حمارك، فيموت الليلة، وراح، فمات حصانه في تلك الليلة، فلما استيقظ ووجد حصانه ميتا، حرك رأسه متعجبا، فقال: يا عجبا يا عجبا أنه مضى مليونات من السنين على ألوهية إلهنا، ولا يميز الحصان من الحمار إلى هذا الحين، دعوت على الحمار وأهلك حصاني.
ثم علق على هذا بقوله: ولو كان حال ديانة أبي الأنبياء الإسرائيلية هكذا أو حال علم الله هكذا، فللمنكر أن يقول: يجوز أن يكون مبنى معاملات الأنبياء الإسرائيلية مع الله أيضا على الخداع كأبيهم الأعلى، ويجوز أن يكون عيسى ـ عليه السلام ـ وعد الله أن تعطيني قدرة الكرامات، أدع الخلق إلى توحيدك وربوبيتك، لكن الله ما ميز الصدق عن الكذب، فأعطاه القدرة فدعا إلى ربوبية نفسه وبغى على الله.. أعوذ بالله من هذه الأمور الواهية.
ليس هذا فقط ما ذكر عن يعقوب..
لقد ذكر الكتاب المقدس أن يعقوب اشترى النبوة من أخيه عيسو فى مقابل طبق عدس وقطعة لحم، ففي (تكوين 25/ 29 - 34): (وطبخ يعقوب طبيخا فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت. (لذلك دعي اسمه أدوم). فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو: ها أنا ماض إلى الموت فلماذا لي بكورية؟ فقال يعقوب: احلف لي اليوم. فحلف له. فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس فأكل وشرب وقام ومضى. فاحتقر عيسو البكورية)
التفت إلى أخي، وقال: أنبئني عن مقام لوط فيكم، وفي الكتاب المقدس؟
النبي المعصوم (66)
قال أخي: هو من الأنبياء البررة، وقد شهد له بطرس في رسالته الثانية (2: 7) بالبر والصلاح والاستقامة فهو يقول: (وإذ حكم الله على مدينتي سدوم وعمورة بالخراب، حولهما إلى رماد، جاعلا منهما عبرة للذين يعيشون حياة فاجرة. ولكنه أنقذ لوطا البار، الذي كان متضايقا جدا من سلوك أشرار زمانه في الدعارة. فإذ كان ساكنا بينهم، وهو رجل بار، كانت نفسه الزكية تتألم يوميا من جرائمهم التي كان يراها أو يسمع بها. وهكذا نرى أن الرب يعرف كيف ينقذ الأتقياء من المحنة)
قال الحكيم: فاقرأ ما ورد عنه في الكتاب المقدس من سفر التكوين: 19/ 30 – 38)
قرأ أخي: (وخاف لوط أن يسكن في صوغر، فصعد إلى الجبل وأقام بالمغارة هو وابنتاه. فقالت الكبرى للصغرى: ((شاخ أبونا وما في الأرض رجل يتزوجنا على عادة أهل الأرض كلهم. تعالي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه ونقيم من أبينا نسلا)). فسقتا أباهما خمرا تلك الليلة، وجاءت الكبرى وضاجعت أباها وهو لا يعلم بنيامها ولا قيامها. وفي الغد قالت الكبرى للصغرى: ((ضاجعت البارحة أبي، فلنسقه خمرا الليلة أيضا، وضاجعيه أنت لنقيم من أبينا نسلا)). فسقتا أباهما خمرا تلك الليلة أيضا، وقامت الصغرى وضاجعته وهو لا يعلم بنيامها ولا قيامها. فحملت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت الكبرى ابنا وسمته موأب، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم. والصغرى أيضا ولدت ابنا وسمته بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم)
قال الحكيم: أهذا هو الطهر والبراءة والتقى!؟.. لقد قال صاحب (طريق الأولياء) (1) يتأسف عليه: (حاله حري أن يبكى عليه، ونحن بعد التأسف والخوف والخشية على أنفسنا نتعجب منه، أهو الذي بقي نقي الثوب عن جميع شرور سادوم، وكان قويا في السلوك على صراط الله، وبعيدا عن جميع نجاسات تلك البلدة وغلب عليه الفسق بعد ما خرج إلى البر، فأي شخص يكون مأمونا في بلد أو بر أو كهف)
__________
(1) طريق الأولياء:128.
النبي المعصوم (67)
فإذا كان القسيسيون قد بكوا عليه، فليكفنا بكاؤهم (1).. ولنبحث في سجل خطايا نبي
__________
(1) من باب تبرئة نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ فسنعيد هنا ذكر ما ذكرناه في رسالة (الكلمات المقدسة) من أدلة براءة لوط ـ عليه السلام ـ من تلك التهمة الشنيعة، فقد جاء فيه:
كعادة الكتاب المقدس، فإنه يترك في نصوصه أدلة التحريف والكذب، وسنقتصر من أدلة كذب هذه القصة ما ذكره الكتاب المقدس علي لسان بنت لوط الكبرى أنه لا يوجد رجال في الأرض (و ليس في الأرض رجل)، فهذا القول خطأ من وجوه:
1. أن الرب دمر قرية سدوم وعمورة فقط بما فيها من البشر، أما باقي الأرض وما بها من البشر، فلم يمسهم.
2. كان لوط قريبا جدا من عمه إبراهيم وقومه، وقد مرت ملائكة الرب علي إبراهيم وهم في طريقهم لتدمير قرية سدوم وعمورة بل شاهد إبراهيم القرية والدخان ينبعث منها، كما في (تكوين: 19: 27 - 28): (وبكر ابراهيم في الغد الى المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون) أي أن لوط لم يبعد عن إبراهيم وقومه، وبالتالي يمكن لبنات لوط الزواج من قوم إبراهيم أو من أي قرية قريبة منهم.
3. أن في الكتاب المقدس ما يدل على كون بناته متزوجات.. حيث أن لوطا طلب من أزواج بناته الاستعداد للرحيل معهم (تكوين:19: 14): (فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة فكان كمازح في أعين أصهاره)
وقد ورد في نفس الوقت ما يدل على أنهما غير متزوجتين حيث أن لوط أخبر قومه أن لديه بنتين لم يعرفا رجلا، أي لم يسبق لهم الزواج (تكوين: 19: 8): (هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا اخرجهما اليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي)
ولسنا ندري أي النصين نصدق!؟
4. أن الرب أهلك الآثمين فقط، ونجى البارين فقط.. فإن كان زوجي بنتي لوط ـ ان صح أنهما من المتزوجات ـ من الآثمين لماذا طلب ملاك الرب من لوط أن يأخذهم معه (تكوين: 19: 12): (وقال الرجلان للوط من لك أيضا ههنا اصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة اخرج من المكان). فهل الرب يحابي لوط وبناته وأصهاره!؟
5. أن المخمور الذى لا يستطيع أن يفرق بين بناته والأجنبيات لشدة سُكره، لا يكون فى هذا الوقت مستعدا للممارسة الجنسية، والغريب فى باقى القصة أن الأب لم يسأل ابنتيه العذراوتين عن سبب الحمل؟ ومثل هذا الوضع لو وقع لبعض آحاد الناس لضاقت عليه الأرض بما رحُبت حزناً وغماً.
6. أنه لو كان الموابيين والعمونيين من الزنى لغضب الله عليهم أو أهمل شأنهم، ولكننا نرى فى سفر التثنية أن الله قد أعطى أرض الإيميين للموآبيين ميراثاً (فَقَال لِي الرَّبُّ: لا تُعَادِ مُوآبَ وَلا تُثِرْ عَليْهِمْ حَرْباً لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِهِمْ مِيرَاثاً. لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍَ قَدْ أَعْطَيْتُ (عَارَ) مِيرَاثاً. 10 الإِيمِيُّونَ سَكَنُوا فِيهَا قَبْلاً. شَعْبٌ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ وَطَوِيلٌ كَالعَنَاقِيِّينَ) (سفر التثنية 2: 9 - 10)، كما أعطى أرض الرفائيين لبنى عمون ميراثاً: (19 فَمَتَى قَرُبْتَ إِلى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ لا تُعَادِهِمْ وَلا تَهْجِمُوا عَليْهِمْ لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثاً - لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍ قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِيرَاثاً. 20 هِيَ أَيْضاً تُحْسَبُ أَرْضَ رَفَائِيِّينَ. سَكَنَ الرَّفَائِيُّونَ فِيهَا قَبْلاً لكِنَّ العَمُّونِيِّينَ يَدْعُونَهُمْ زَمْزُمِيِّينَ) (تثنية 2: 19 - 20)
وقد أعطى الله الموآبيين والعمونيين ميراث الأرض قبل أن يورث بنى إسرائيل وقبل أن يدخلوا أرض الميعاد، بل وحرَّمَ أرض الموآبيين والعمونيين على بنى إسرائيل كما ورد فى سفر (التثنية 2: 9 و19)
ولو كان الإرث يستلزم عهداً من الرب، فقد حصل عليه العمونيون والموابيون، وبذلك يكونون قد دخلوا فى جماعة الرب، لأن الرب لا يعطى عهداً لأبناء الزنى: (2 لا يَدْخُلِ ابْنُ زِنىً فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الجِيلِ العَاشِرِ لا يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ) (تثنية 23: 2)، وبذلك يكون الموآبيون والعمونيون ليسوا من أبناء زنى ويكون كتبة هذه القصة من الكاذبين. ويكون بنى إسرائيل قد ادعوا وجود هذا العهد من الله ويكونوا أيضاً من الكاذبين.
ولو صدقنا قول التوراة أن العمونيين والموآبيين من نسل الزنى، وعلى الرغم من ذلك قد حصلوا على عهد من الله وعلى إرث، يكون قد نال عهد الله أبناء الزنى والأطهار (بنى إسرائيل)، فلا ميزة إذن للأطهار عن أبناء الزنى، ويصبح قول التوراة بأن بنى إسرائيل شعب الله المختار لأنهم أخذوا عهداً من الله بتملك الأرض، هو قول كذب.
7. أن راعوث كانت موآبية وهى أم نبى الله داود الذى كان من ذريته كل ملوك يهوذا حتى السبى، والذى قال عنه الرب: (14 أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ. 15 وَلَكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ كَمَا نَزَعْتُهَا مِنْ شَاوُلَ الَّذِي أَزَلْتُهُ مِنْ أَمَامِكَ. 16 وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتاً إِلَى الأَبَدِ) (صموئيل الثانى 7: 14 - 16)
فلا يمكن أن من شرفه الله بهذا الشرف أن يكون من سلالة زنى. كما أن سليمان قد تزوج من نعمة العمونية وأنجب منها رحبعام (ملوك الأول 14: 21)، ولا يمكن أن يكون رؤوس جماعة الرب من أمهات زنى، فضلاً عن أنهم من نسل الرب (تبعاً للتشريع النصرانى)، فلابد أن يكون هذا التشريع مدسوس على التوراة.
وقد بين السموال بن يحيى المغربى ـ أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وقد كان أبوه حبراً يهودياً كبيراً وإماماً ضليعاً فى اليهودية وكذلك كانت أمه ـ السر الذي دعا إلى اختلاق هذه القصة، فقال: (وأيضاً فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة فى الهارونيين، فلما ولى طالوت (شاول) وثقلت وطأته على الهارونيين وقتلَ منهم مقتلة عظيمة، ثم انتقل الأمر إلى داود، بقى فى نفوس الهارونيين التشوق إلى الأمر الذى زال عنهم، وكان (عزرا) هذا خادماً لملك الفرس، حظيا لديه، فتوصل إلى بناء بيت المقدس، وعمل لهم هذه التوراة التى بأيديهم، فلما كان هارونياً، كره أن يتولى عليهم فى الدولة الثانية داودىّ، فأضاف فى التوراة فصلين للطعن فى نسب داود، أحدهما قصة بنات لوط والآخر قصة ثامار (مع يهوذا) ولقد بلغ - لعمرى - غرضه، فإن الدولة الثانية كانت لهم فى بيت المقدس، لم يملك عليها داوديون، بل كان ملوكهم هارونيون) إفحام اليهود:151 و152.
النبي المعصوم (68)
آخر.. أخبرني عن موسى.. ما مقامه فيكم؟
قال أخي: هو فينا النبي منقطع النظير (تثنية 34: 10 - 12) الذي على يده حرر الله شعبه،
النبي المعصوم (69)
وعقد عهده معه (خروج 24: 8)، وأعلن له شريعته (خروج 34: 10، راجع 34: 27).. وموسى هو الوحيد ـ بالاشتراك مع يسوع ـ الذي يطلق عليهما العهد الجديد لقب الوسيط.
لكن بينما أعطى الله الشريعة بواسطة عبده الأمين موسى (عبرانيين 3: 5، غلاطية 3: 19) لشعبه إسرائيل وحده، فهو يخلص جميع البشر بوساطة ابنه (عبرانيين 3: 6) يسوع المسيح (1 تيموتاوس 2: 4 - 6).. ولهذا، فإن الشريعة أتتنا عن يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا عن يد يسوع المسيح (يوحنا 1: 17)
قال الحكيم: لن أجادلك فيما ذكرته.. ولكني لن آخذ منه إلا شيئا واحدا أحتاجه الآن.. وهو أن موسى نبي من أنبياء الكتاب المقدس.. أليس كذلك؟
قال أخي: إن لم يكن موسى نبيا، فليس هناك نبي في الكتاب المقدس.
قال الحكيم: ما دمت قد ذكرت هذا.. فاقرأ لي ما ورد في (الخروج:2/ 11 - 12)
قرأ أخي: (وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته فالتفت الى هنا وهناك ورأى ان ليس احد فقتل المصري وطمره في الرمل)
قال الحكيم: ألا ترى كيف يصور الكتاب المقدس نبي الله موسى متعمدا للقتل.. بل تعتبره عنصريا، فهو لم يقتله إلا لأنه مصري.
التفت إلى أخي، ثم قال: اقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج:4/ 10 - 17)
قرأ أخي: (فقال موسى للرب: (يا رب! ما كنت يوما رجلا فصيحا. لا بالأمس ولا من يوم كلمتني أنا عبدك بل أنا بطيء النطق وثقيل اللسان) فقال له الرب: (من الذي خلق للإنسان فما؟ ومن الذي خلق الأخرس أو الأصم أو البصير أو الأعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فاذهب وأنا أعينك على الكلام وأعلمك ما تقول) فقال موسى: (يا رب! أرسل أحدا غيري) فغضب الرب على موسى غضبا شديدا وقال له: (أعرف هرون اللاوي أخاك أنه فصيح اللسان وها هو الآن
النبي المعصوم (70)
خارج للقائك وحين يراك يفرح في قلبه. فكلمه أنت بما تريد أن ينطق به، وأنا أعينكما على ما تقولانه وأعلمكما وأريكما ما تعملانه. هو يخاطب الشعب عنك وينطق باسمك، وأنت تكون له كأنك الله يوحي إليه. وخذ بيدك هذه العصا، فبها تصنع المعجزات)
قال الحكيم: ألا ترى كيف نص الكتاب المقدس على أن الله غضب على موسى غضبا شديدا؟
سكت أخي، فقال له الحكيم: اقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج:32/ 19)
قرأ أخي: (فلما دنا من المحلة وأبصر العجل وجوق المغنيين فاشتد غضب موسى ورمى باللوحين من يده فكسرهما في أسفل الجبل)
قال الحكيم: أليس هذان اللوحان كانا من عمل الله وخط الله؟
قال أخي: بلى.. وقد صرح بذلك في هذا الباب.
قال الحكيم: فكسرهما خطأ، ولم يحصل بعد ذلك مثلهما، لأن اللوحين اللذين حصلا بعدهما كانا من عمل موسى ومن خطه.
قال أخي: أجل.. وقد صرح بذلك في الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج.
قال الحكيم: ليس هذا فقط ما رمى به الكتاب المقدس هذا النبي الكريم.. اقرأ علي ما ورد في (سفر العدد:20/ 12)
قرأ أخي: (وقال الرب لموسى وهارون من أجل إنكما لم تصدقاني وتقدساني قدام بني إسرائيل، من أجل ذلك لا تدخلان أنتما بهذه الجماعة إلى الأرض التي وهبت لهم)
قال الحكيم: ليس هذا فقط.. اقرأ ما ورد في (سفر الاستثناء: 32/ 48 - 52)
قرأ اخي: (وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له ارق هذا الجبل عبريم وهو جبل المجازاة إلى جبل نابو الذي في أرض مواب تلقاء أريحاء، ثم انظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ليرثوها ثم مت في الجبل الذي تصعد إليه ويجتمع إلى شعوبك، كما مات أخوك
النبي المعصوم (71)
هارون في هور الطور واجتمع إلى شعبه على أنكما عصيتماني في بني إسرائيل عند ماء الخصام في قادس برية صين ولم تطهراني في بني إسرائيل فإنك ستنظر إلى الأرض التي أنا أعطيها بني إسرائيل من تلقائها، وأما أنت فلا تدخلها)
قال الحكيم: ألا ترى في هاتين العبارتين تصريحا بصدور الخطأ عن موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ بحيث صارا محرومين عن الدخول في الأرض المقدسة، بل قد قال الله لهما زاجرا: (إنكما لم تصدقاني وتقدساني وإنكما عصيتماني)!؟
سكت أخي، فقال الحكيم: فلنترك موسى.. ولنذهب إلى أخيه هارون.. شريكه في النبوة.. أخبرني ما مقامه فيكم؟
قال أخي: هو عندنا ـ كان ولا يزال ـ مثال الكاهن الأعظم كما في (سيراخ 45: 6 - 22) ومثال الشفيع القدير الذي صرف عن الشعب الغضب الإلهي (حكمة 18: 20 - 25).. وقد كان الأسينيون في عصر يسوع ينتظرون لا المسيا الملك ابن داود فقط، بل المسيا الكاهن الأسمى ابن هارون.
قال الحكيم: وأنتم تنصون على نبوته.. فقد كتب القسيس (اسمت) في القسم الأول من كتابه المسمى بتحقيق الدين الحق المطبوع سنة 1842 في الصفحة 42: (كما أنه لم يكن بينهم ـ أي بين بني إسرائيل ـ سلطان لم يكن بينهم نبي غير موسى وهارون وسبعين من المعينين)، ثم قال: (لم يكن غير موسى وهارون ومعينيهما نبيا لهم) (1)، فدل هذا على أن هارون نبي عند المسيحيين.
ثم التفت إلى أخي، فوجده، وكأن هذا النقل لم يعجبه، فقال: لا بأس.. فلنترك هذا
__________
(1) نقل رحمة الله الهندي هذا النقل من هذا الكتاب، ثم عقب عليه بقوله: ولا بد أن يعلم الناظر أني نقلت هاتين العبارتين من النسخة المطبوعة سنة 1842 وكتبت الرد على هذه النسخة، وسميته تقليب المطاعن، ورد صاحب الاستفسار أيضاً على هذه النسخة، وسمعت أن هذا القسيس بعد الرد حرف كتابه، فزاد في بعض المواضع ونقص في البعض، وبدل البعض، كما فعل صاحب ميزان الحق في نسخة الميزان مثله، فلا أعلم أن هذا القسيس ألقى هاتين العبارتين في النسخة الأخيرة المحرفة أم لا.
النبي المعصوم (72)
القسيس.. ولنرجع إلى الكتاب المقدس.. فهو الذي ينص بصراحة لا فوقها صراحة على نبوته.. ولا يضره أن يكون متبعا لشريعة موسى، فهذا لا يتنافى مع النبوة كما لا ينافي هذا نبوة يوشع وداود وأشعيا وأرمياء وحزقيال وغيرهم من الأنبياء الإسرائيليين، الذين كانوا ما بين زمان موسى.
لقد جاء في (سفر الخروج: 4/ 27): (فقال الرب لهارون اذهب وتلق موسى إلى البرية فمضى وتلقى به إلى جبل الله وقبله).. وفي (سفر العدد:18/ 1): (وقال الرب لهارون).. وفي (سفر العدد:18/ 8): (ثم كلم الرب هارون وقال له).. وفي (سفر العدد:18/ 20): (ثم قال الرب لهارون).. وفي هذا الباب من الأول إلى الآخر هو المخاطب حقيقة.
وفي الباب الثاني والرابع والرابع عشر والسادس عشر والتاسع عشر توجد هذه العبارة: (وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما) في ستة مواضع.
وفي الآية الثالثة عشر من الباب السادس من سفر الخروج هكذا: (فكلم الرب موسى وهارون وأوصاهما وأرسلهما إلى بني إسرائيل وإلى فرعون ملك مصر ليخرجا بني إسرائيل من مصر)
أنت ترى من هذه العبارات أن الله أوحى إلى هارون منفردا وبشركة موسى، وأرسله إلى بني إسرائيل وفرعون كما أرسل موسى.. بل من طالع سفر الخروج يظهر له أن المعجزات التي صدرت في مقابلة فرعون، ظهر أكثرها على يد هارون.
قال أخي: لا حاجة لك لذكر كل هذه الأدلة.. فأنا لا أنكر نبوة هارون (1).
قال الحكيم: ما دمت قد قلت ذلك، فاقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج: 32/ 1 - 6)
قرأ أخي: (ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمعوا على هرون وقالوا له: (قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. فهذا الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا نعرف
__________
(1) ذكرنا هذه الأدلة هنا على اعتبار أن من المسيحيين من ينكر نبوته، ومنهم صاحب ميزان الحق ـ كما يذكر رحمة الله الهندي ـ فقد أنكر نبوة هارون في الصفحة 105 من كتابه المسمى بحل الإشكال المطبوع سنة 1847.
النبي المعصوم (73)
ماذا أصابه) فقال لهم هرون: (انزعوا حلق الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وجيئوني بها) فنزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون. فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل. فقال الشعب: (هذه آلهتكم يا بني إسرائيل، آلهتكم التي أخرجتكم من أرض مصر) فلما رأى هرون ذلك بنى أمام الصنم مذبحا ونادى وقال: (غدا عيد للرب) فبكروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون)
قال الحكيم: ألا ترى في هذا النص ما يدلك على الخطيئة العظيمة التي وقع فيها هارون.. بل هي أعظم الخطايا على الإطلاق..
ألا ترى أن هارون صنع عجلا، وبنى مذبحا أمامه، ونادى وقال: غدا عيد للرب. فعبد العجل وأمر بني إسرائيل بعبادته فقربوا وقودا وذبائح؟
التفت إلى أخي، فلم يجبه بشيء، فقال: دعنا من هارون.. ولنبحث في سيرة نبي آخر.. اذكر لي.. ما مقام داود فيكم؟
قال أخي: لقد دعي داود من قبل الله، وكرس بدهن المسحة (1 صموئيل 16: 16/ 1 - 13) فهو دائما مبارك من الله، وهو الشخص الذي يقصده الله بحضوره، ولأن الله كان معه فقد نجح في كل مساعيه (16: 18)، في محاربته لجليات (17: 45 - 47)، وفي حروبه التي قام بها في خدمته لشاول (18: 14 - 16)، وفي الحروب التي قام بها كملك ومحرر لإسرائيل.. (ووقى الرب داود حيثما توجه) (2 صموئيل 8: 14)
قال الحكيم: فاقرأ علي ما قصه الكتاب المقدس عنه في سفر صموئيل الثاني (11: 1 - 27)
قرأ أخي: (ولما جاء الربيع، وهو وقت خروج الملوك إلى الحرب، أرسل داود يوآب والقادة معه على رأس كل جيش بني إسرائيل، فسحقوا بني عمون وحاصروا مدينة ربة. وأما داود فبقي
النبي المعصوم (74)
في أورشليم. وعند المساء قام داود عن سريره وتمشى على سطح القصر، فرأى على السطح امرأة تستحم وكانت جميلة جدا. فسأل عنها، فقيل له: (هذه بتشابع بنت أليعام، زوجة أوريا الحثي). فأرسل إليها رسلا عادوا بها وكانت اغتسلت وتطهرت، فدخل عليها ونام معها، ثم رجعت إلى بيتها. وحين أحست أنها حبلى أعلمته بذلك. فأرسل داود إلى يوآب يقول: (أرسل إلي أوريا الحثي) فأرسله. فلما جاء سأله داود عن سلامة يوآب والجيش وعن الحرب، ثم قال له: (إنزل إلى بيتك واغسل رجليك واسترح). فخرج أوريا من القصر وتبعته هدية من عند داود. فنام على باب القصر مع الحرس ولم ينزل إلى بيته. فلما قيل لداود: (أوريا لم ينزل إلى بيته)، دعاه وقال له: (أما جئت من السفر؟ فما بالك لا تنزل إلى بيتك؟) فأجابه أوريا: (تابوت العهد ورجال إسرائيل ويهوذا مقيمون في الخيام، ويوآب وقادة سيدي الملك في البرية، فكيف أدخل بيتي وآكل وأشرب وأنام مع زوجتي؟ لا وحياتك، لا أفعل هذا). فقال له داود: (أقم هنا اليوم، وغدا أصرفك). فبقي أوريا ذلك اليوم في أورشليم، وفي اليوم التالي دعاه داود، فأكل معه وشرب حتى سكر. ثم خرج مساء، فنام حيث ينام الحرس، ولم ينزل إلى بيته. فلما طلع الصباح كتب داود إلى يوآب مكتوبا وأرسله بيد أوريا، يقول فيه: (وجهوا أوريا إلى حيث يكون القتال شديدا، وارجعوا من ورائه فيضربه العدو ويموت). وكان يوآب يحاصر المدينة، فعين لأوريا موضعا علم أن للعدو فيه رجالا أشداء. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط لداود بعض القادة ومن بينهم أوريا الحثي. فأرسل يوآب وأخبر داود بكل ما جرى في الحرب. وقال يوآب للرسول: (بعدما تخبر الملك بكل ما جرى في الحرب، وإذا ثار غضبه وقال: لماذا دنوتم من سور المدينة لتحاربوا؟ أما تعلمون أن الذين فوق السور يرمونكم بالسهام؟ من قتل أبيمالك بن يروبشث؟ أما هي امرأة في تاباص رمته بحجر طاحونة من فوق السور فقتل؟ فلماذا دنوتم من السور؟) إذا قال لك هذا الكلام أجبه: (عبدك أوريا الحثي أيضا مات). فذهب الرسول إلى داود وأخبره بجميع ما أمره به يوآب، وقال لداود: (قوي علينا الأعداء وخرجوا لقتالنا في البرية، فطاردناهم إلى باب المدينة،
النبي المعصوم (75)
فرمانا العدو بالسهام من فوق السور، فمات البعض من قادة الملك، وقتل أيضا عبدك أوريا الحثي). فقال له داود: (هذا ما تقول ليوآب: (لا يحزنك ذلك، لأن السيف لا يرحم أحدا. تابع هجومك على المدينة ودمرها. قل له ذلك حتى يتشجع). وسمعت زوجة أوريا أن زوجها مات، فناحت عليه. ولما انتهت أيام مناحتها، أرسل داود وضمها إلى بيته، فكانت زوجة له وولدت له ابنا. واستاء الرب مما فعله داود)
قال الحكيم: أهذا هو داود النبي الذي وصفته بما وصفته؟
قال أخي: هذا ما قاله الكتاب المقدس عنه.
قال الحكيم: ألا ترى داود كيف صار في الكتاب المقدس رمزا للرذيلة.. إن هذا الحدث الذي ورد في صمويل كان في الوقت الذي كان جيشه يحارب فيه؟
وفي الوقت الذي كان أوريا يضحي بنفسه كان عرضه ينتهك.. ثم يرمى أوريا في سلة مهملات الكتاب المقدس، بينما يمجد داود، ويتشرف بأن يكون أبا للمسيح.. أليس في هذا تمجيدا للرذيلة؟
سكت أخي، فقال: فلنتحدث عن ابنه وثمرة فؤاده سليمان.. أجبني: ما مقام سليمان فيكم؟
قال أخي: إن سليمان يرمز عندنا للحكمة.. فإذا ذكرت الحكمة ذكرنا معها سليمان.. وإذا ذكرنا سليمان ذكرنا معه الحكمة.. وقد قال عنه الكتاب المقدس في (سفر ملوك الأول: 30:4): (وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق)
قال الحكيم: هذا ما قاله سفر الملوك الأول في إصحاحه الرابع.. فاقرأ علي ما ذكره نفس السفر في الباب الحادي عشر.
أخذ أخي يقرأ: (وكان سليمان الملك قد أحب نساء كثيرة غريبة، وابنة فرعون، ونساء من
النبي المعصوم (76)
بنات الموابيين، ومن بنات عمون، ومن بنات أدوم، ومن بنات الصيدانيين، ومن بنات الحيثانيين من الشعوب الذين قال الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم، ولا يدخلوا إليكم لئلا يميلوا قلوبكم إلى آلهتكم، وهؤلاء التصق بهم سليمان بحب شديد وصار له سبعمائة امرأة حرة، وثلثمائة سرية، وأغوت نساءه قلبه فلما كان عند كبر سليمان أغوت نساءه إلى آلهة أخر، ولم يكن قلبه سليما لله ربه مثل قلب داود أبيه وتبع سليمان عستروت إله الصيدانيين وملكوم صنم بني عمون وارتكب سليمان القبح أمام الرب ولم يتم أن يتبع الرب مثل داود أبيه ثم نصب سليمان نصبة لكاموش صنم مواب في الجبل الذي قدام أورشليم، ولملكوم وثن بني عمون وكذلك صنع لجميع نسائه الغرباء، وهن يبخرن، ويذبحن لآلهتهن فغضب الرب على سليمان حيث مال قلبه عن الرب إله إسرائيل الذي ظهر له مرتين ونهاه عن هذا الكلام أن لا يتبع آلهة الغرباء، ولم يحفظ ما أمره به الرب فقال الرب لسليمان: إنك فعلت هذا الفعل، ولم تحفظ عهدي ووصاياي التي أمرتك بهن، أشق شقا ملكك، وأصيره إلى عبدك (الملوك الأول:11/ 1 ـ 11)
أشار الحكيم إلى أخي أن يسكت، ثم قال: ألا ترى هذه الخطايا الكثيرة التي لا يفعل مثلها أضعف المؤمنين إيمانا..
إن هذا السفر يذكر أن سليمان ارتد آخر عمره.. وهو الوقت الذي تتوجه فيه القلوب إلى الله.. مع أن جزاء المرتد في الشريعة الموسوية هو الرجم حتى لو كان المرتد نبيا ذا معجزات كما صرح بذلك الباب الثالث عشر، والسابع عشر من سفر الاستثناء، بل لا يعلم من موضع من مواضع التوراة، أنه يقبل توبة المرتد، ولو كان توبة المرتد مقبولة، لما أمر موسى بقتل عبدة العجل، حتى قتل ثلاثة وعشرين ألف رجل على خطأ عبادته.
ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أنه بنى المعابد العالية للأصنام في الجبل قدام أورشليم، وهذه المعابد كانت باقية مئتي سنة حتى نجسها، وكسر الأصنام يوسنا بن آمون ملك يهوذا في عهده، بعد موت سليمان بأزيد من ثلثمائة وثلاثين سنة.. لا يمكنك أن تخالفني في ذلك، فقد جاء
النبي المعصوم (77)
ذلك صريحا في الباب الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني.
ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدو أنه تزوج نساء من سفر الشعوب، التي منع الله من الزواج منهن، كما في الباب السابع من الاستثناء: (ولا تجعل معهم زيجة فلا تعط ابنتك لابنه، ولا تتخذ ابنته لابنك)
ليس ذلك فقط.. بل انتم تعتقدون أنه تزوج ألف امرأة، وقد كانت كثرة الأزواج محرمة على من يكون سلطان بني إسرائيل في الآية السابعة عشر من الباب السابع عشر من سفر الاستثناء: (ولا تكثر نساؤه لئلا يخدعن نفسه)
ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أن نساءه كن يبخرن ويذبحن للأوثان، مع أنه ورد في الباب الثاني والعشرين من سفر الخروج: (من يذبح للأوثان فليقتل)، فكان قتلهن واجبا.
بل أنتم تعتقدون أن هؤلاء النسوة أغوين قلبه، فكان رجمهن واجبا على ما هو مصرح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء، وهو ما أجرى عليهم الحدود إلى آخر حياته.
التفت إلى أخي، ثم قال: هل تراني زدت على ما ذكرت الكتاب المقدس عن هذا النبي الكريم حرفا واحدا.
لم يملك أخي إلا أن يقول: صدقت في كل هذا.. ولكن الله تواب رحيم.
فقال الحكيم: كل هذه كبائر لابد لها من توبة.. فهل ثبتت توبة سليمان في كتبكم.
صمت أخي، فقال: لقد قرأت الكتاب المقدس مرات لا تحصى.. ولم أظفر بشيء.. بل لو تاب لهدم المعابد التي بناها، وكسر الأصنام التي وضعها في تلك المعابد، ورجم تلك النساء المغويات.. على أن توبته ما كانت نافعة لأن حكم المرتد في التوراة ليس إلا الرجم.
صمت أخي، فقال: فما دمت قد جوزت لهذا الحكيم أن يخطئ، ثم يتوب، لم ترفعت عن أن تضم محمدا إلى أولئك الأنبياء مع أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ثبتت توبته، ولم تثبت معصيته.. بينما سليمان وكل من ذكرنا ثبتت معاصيهم ولم تثبت توبتهم.
النبي المعصوم (78)
أفتعتبر التوبة جريمة ينبغي أن يطرد من يمارسها من حضرة أنبياء الله.. بينما تعتبر المعصية طاعة تجعل من المجرم الفاسق المنحرف حكيما من الحكماء ونبيا من الأنبياء.
لم يجد أخي بما يجيبه، فقال الحكيم: فلنترك العهد القديم.. فربما كان فيه أثر من آثار اليهود.. ولنذهب إلى العهد الجديد.. ولنبحث في سيرة الحواريين.. حدثني ما مقامهم فيكم؟
قال أخي: الحواريون هم تلاميذ المسيح..
قال الحكيم: لا أقصد هذا.. بل أقصد علاقتهم بالنبوة.
قال أخي: نحن نؤمن بنبوتهم.. بل نرى أنهم لتشرفهم بصحبة المسيح أفضل من موسى وسائر الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهد القديم.
قال الحكيم: فلنبحث في سيرهم.. لقد ذكر الكتاب المقدس أنهم في الليلة التي أخذ اليهود فيها المسيح تركوه في أيدي الأعداء، أليس هذا ذنبا عظيما؟
قال أخي: بلى.. ولكنه صدر عن الجبن الذي طبعت عليه النفوس..
قال الحكيم: فلنسلم هذا.. ولكن هل ترى أنهم يعذرون في شيء هو أسهل الأشياء.. لقد كان المسيح في غاية الاضطراب في تلك الليلة، وقال لهم: إن نفسي حزينة جدا، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلا للصلاة، ثم جاء إليهم فوجدهم نياما، فقال لبطرس: أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، اسهروا وصلوا.
فمضى ثانية للصلاة، ثم جاء فوجدهم نياما، فتركهم ومضى، ثم جاء إلى تلاميذه، وقال لهم: ناموا واستريحوا.
قال أخي: ذلك صحيح.. وقد صرح به متى في إنجيله (متى: 26/ 36 - 46).. ففيه: (ثم جاء يسوع مع تلاميذه إلى موضع اسمه جتسماني، فقال لهم: (اقعدوا هنا، حتى أذهب وأصلي هناك) وأخذ معه بطرس وابني زبدي، وبدأ يشعر بالحزن والكآبة. فقال لهم: (نفسي حزينة حتى
النبي المعصوم (79)
الموت. انتظروا هنا واسهروا معي) وابتعد عنهم قليلا وارتمى على وجهه وصلى فقال: (إن أمكن يا أبي، فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد) ورجع إلى التلاميذ فوجدهم نياما، فقال لبطرس: (أهكذا لا تقدرون أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة. الروح راغبة، ولكن الجسد ضعيف) وابتعد ثانية وصلى، فقال: (يا أبي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك) ثم رجع فوجدهم نياما، لأن النعاس أثقل جفونهم فتركهم وعاد إلى الصلاة مرة ثالثة، فردد الكلام نفسه. ثم رجع إلى التلاميذ وقال لهم: (أنيام بعد ومستريحون؟ جاءت الساعة التي فيها يسلم ابن الإنسان إلى أيدي الخاطئين. قوموا ننصرف! اقترب الذي يسلمني)
قال الحكيم: هل ترى هذا الموقف موقف أنبياء.. بل أشرف الأنبياء.. إن العصاة من أهل الدنيا لا يفعلون مثل هذا مع من هو مثلهم في معاصيهم.. فكيف يفعل أنبياء كرام مثل هذا.. وأي محبة لهم للمسيح الذي شرفوا به، وهم ينامون عنه وقد علموا أنه سيفقدونه في تلك اللحظات.
سكت قليلا: هؤلاء هم الحواريون في مجموعهم.. أما أفرادا.. فسأكتفي باثنين منهما.. كلاهما ورد فيه الثناء في الكتاب المقدس.
أما الأول.. فهو يهوذا الأسخريوطي، فقد كان أحد الحواريين، وكان مستفيضا بروح القدس، وممتلئا به، بل صاحب الكرامات.. فقد ورد في (إنجيل متى: 10/ 1 - 4): (ودعا يسوع تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل داء ومرض وهذه أسماء الرسل الاثني عشر: أولهم سمعان الملقب ببطرس وأخوه أندراوس، ويعقوب بن زبدي وأخوه يوحنا، وفيلبس وبرتولماوس، وتوما ومتى جابي الضرائب، ويعقوب بن حلفى وتداوس، وسمعان الوطني الغيور، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلم يسوع)
قال أخي: أجل.. ومن لا يعرف يهوذا؟
قال الحكيم: فهذا النبي باع دينه بدنياه، وسلم المسيح لليهود مقابل ثلاثين درهما، ثم خنق
النبي المعصوم (80)
نفسه ومات.. أليس كذلك؟
قال أخي: بلى.. ففي إنجيل متى (26/ 14 - 16): (وفي ذلك الوقت ذهب أحد التلاميذ الاثني عشر، وهو يهوذا الملقب بالإسخريوطي، إلى رؤساء الكهنة وقال لهم: (ماذا تعطوني لأسلم إليكم يسوع؟) فوعدوه بثلاثين من الفضة. وأخذ يهوذا من تلك الساعة يترقب الفرصة ليسلم يسوع)
وفيه (27/ 1 - 5) (ولما طلع الصبح، تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع ليقتلوه. ثم قيدوه وأخذوه وأسلموه إلى الحاكم بيلاطس. فلما رأى يهوذا الذي أسلم يسوع أنهم حكموا عليه، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، وقال لهم: (خطئت حين أسلمت دما بريئا) فقالوا له: (ما علينا؟ دبر أنت أمرك) فرمى يهوذا الفضة في الهيكل وانصرف، ثم ذهب وشنق نفسه)
قال الحكيم: أيمكن لنبي أن يفعل كل هذه الجرائم؟
سكت أخي، فقال الحكيم: ليس ذلك فقط.. بل شهد يوحنا في حقه في الباب الثاني عشر من إنجيله أنه كان سارقا، وكان الكيس عنده، وكان يحمل ما يلقى فيه. أيكون مثل هذا السارق البائع دينه بدنياه نبيا.. ثم لا ترضون أن يكون محمد الطاهر المطهر نبيا!؟
فلندع هذا.. ولنبحث في سيرة بطرس.. أليس هو رئيس الحواريين.. بل خليفة المسيح على حسب ادعائكم!؟
قال أخي: أجل.. هو كذلك.. بل كال له المسيح من الثناء ما لم يكل لأحد غيره، ففي (متى: 16/ 17 - 19): (فقال له يسوع: (هنيئا لك، يا سمعان بن يونا! ما كشف لك هذه الحقيقة أحد من البشر، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي، وقوات الموت لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السماء، وما تحله في الأرض يكون محلولا في السماء)
النبي المعصوم (81)
قال الحكيم: ومع هذا الفضل الذي تحسبونه له.. فقد أنكر المسيح خائفا على نفسه..
قال أخي: أجل.. فعندما أخذ اليهود المسيح تبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة، فجلس خارج الدار، فجاءت جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر قدام الجميع، ثم رأى أخرى، وقالت للذين هناك: هذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضا يقسم أني لست أعرف هذا الرجل، وبعد قليل جاء القيام، وقالوا لبطرس: حقا أنت أيضا منهم، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل. وللوقت صاح الديك، فتذكر بطرس كلام المسيح: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات (1).
قال الحكيم: ليس ذلك فقط.. بل في نفس الإنجيل نرى المسيح يقول له: (ابتعد عني يا شيطان! أنت عقبة في طريقي، لأن أفكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله) (متى: 16/ 23)
بل إن بولس قال عنه في الباب الثاني من رسالته إلى أهل غلاطية: (ولكن لما أتى بطرس إلى أنطاكية، قاومته مواجهة لأنه كان ملوما لأنه قبل ما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم، ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفا من الذين هم من أهل الختان ورأى معه باقي اليهود أيضا حتى أن برنابا أيضا انقاد إلى ريائهم لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل، قلت لبطرس قدام الجميع إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميا، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا) (غلاطية:2/ 11 - 14)
التفت الحكيم إلى أخي، وقال: أنتم تزعمون بأن المسيح إله أو أقنوم من إله.. ومن كان كذلك فهو أرفع بكثير من درجة النبوة.. بل لا مقارنة بينهما.. أليس كذلك؟
__________
(1) ففي (متى:26/ 31 - 35): (وقالَ لهُم يَسوعُ: (في هذِهِ اللَّيلَةِ ستَترُكوني.. كُلُّكُم، فالكِتابُ يَقولُ: سَأضرِبُ الرّاعيَ، فتَتَبدَّدُ خِرافُ القَطيعِ. ولكِنْ بَعدَ قيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ أسبُقُكُم إلى الجليلِ) فقالَ بُطرُسُ: (لَو تَركوكَ كُلٌّهُم، فأنا لن أترُكَكَ) فقالَ لَه يَسوعُ: (الحقَّ أقولُ لكَ: في هذِهِ اللَّيلَةِ، قَبلَ أن يَصيحَ الدّيكُ، تُنكِرُني ثلاثَ مرّاتٍ) فأجابَهُ بُطرُسُ: (لا أُنكِرُكَ وإنْ كانَ علَيَّ أن أموتَ معَكَ) وهكذا قالَ التَّلاميذُ كُلٌّهُم)
النبي المعصوم (82)
قال أخي: بلى.. ما تقوله صحيح.. فلا يمكن المقارنة بين ابن الله الحقيقي وكل البشر..
قال الحكيم: ولكنكم مع ذلك تشوهون صورة المسيح.. وتملؤونه سيرته المختصرة التي وصلتكم بأصناف الخطايا.
انتفض أخي (1)، وقال: كيف تقول هذا؟.. إن المسيح هو مثال الرحمة والسلام والمحبة.. أليس هو الذي يقول: (أريد رحمة لا ذبيحة) (متى: 9: 13)؟
قال الحكيم: أنتم تنقلون عنه هذه الكلمات القليلة لتحسنوا صورته، ولكنها أضعف من أن تقاوم الصورة التي شوهتموها بما نسبتم إليه من أقوال وأفعال.
أنتم تجلعون لسانه الممتلئ بذكر الله، الغارق في التبشير به، لسانا ممتلئا سبابا وشتائم ولعنات مع أنكم تعلمون بـ (أن الشتامون لا يرثون ملكوت الله) كما صرح بذلك بولس في رسالته الأولى الي كورنثوس (6: 10)
ألستم الذين نسبتم إلى المسيح شتمه لتلك المرأة الكنعانية الطيبة، بل جعلتموه يعتبرها من زمرة الكلاب؟.. ألستم الذين تررون في متى (15: 26) أنه عندما جاءت المرأة الكنعانية تسترحمه بأن يشفى ابنتها رد عليها قائلا: (لا يجوز أن يأخذ خبز البنين، ويرمى للكلاب)؟
وبعدما أراقت هذه المرأة المسكينة آخر نقطة من ماء وجهها، وأقامت الحجة بقولها للمسيح: (والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها)، حقق لها أملها، وشفيت ابنتها (متى 15: 27)
أنتم تروون هذا، وتتباهون به، بل وتجعلونه من دلائل ألوهيته.. مع أنه لو وقف مثل هذا الموقف أي إنسان، فإنكم تتهمونه بالعنصرية، وبقساوة القلب، وبسوء الأدب.
ليس ذلك فقط.. فموسوعة الشتائم التي نسبتموها للمسيح لا تقف هنا:
فالمسيح ـ على حسب كتابكم المقدس ـ يمتد إلى الأنبياء الكرام ليصفهم باللصوص..
__________
(1) سبق أن ذكرنا جزءا من هذا الحوار في رسالة (أنبياء يبشرون بمحمد)، وقد اقتضى المقام إعادته هنا.
النبي المعصوم (83)
ألستم تقرأون في يوحنا (10: 7) أن المسيح قال: (أنا باب الخراف، وجميع الذين جاءوا قبلي سارقون ولصوص)
أنتم تجعلون المسيح رمزا للسلام، وتروون عن المسيح وصيته للتلاميذ بمحبة الاعداء والإحسان إليهم.. أليس كذلك؟
قلت: بلى..
قال: ولكنكم عندما تصورون حياة المسيح تصورونها بصورة المناقض لأقواله، فهو لا يبغض أعداءه فقط، وإنما يبغض أقرب الأقربين إليه، ويسبه، ويلقي الشتائم عليه.
ألستم تروون أنه أهان أمه وسط الحضور، فقال لها: (مالي ولك يا إمرأة) (يوحنا:2: 4)؟
ألستم الذين تروون إهانته لمعلمي الشريعة بقوله لهم: (يا أولاد الأفاعي) (متى:3: 7)؟.. وبقوله لهم: (أيها الجهال العميان) (متى:23: 17)؟
ألستم الذين تروون إهانته لتلاميذه، وشتمه لهم، إذ قال لبطرس كبير الحواريين: (يا شيطان) (متى:16: 23)، وشتم آخرين منهم بقوله: (أيها الغبيان، والبطيئا القلوب في الإيمان) (لوقا 24: 25).. مع أنه هو نفسه الذي قال لهم: (قد أعطى لكم أن تفهموا أسرار ملكوت الله) (لوقا: 8: 10)؟
ألستم الذين جعلتموه يشتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده، وجعلتموه يشتمه في بيته.. أليس في الكتاب المقدس: (سأله فريسي أن يتغذى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولا قبل الغداء، فقال له الرب: (أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس، وأما باطنكم فمملوء اختطافا وخبثا يا أغبياء، ويل لكم أيها الفريسيون)، فأجاب واحد من الناموسيين، وقال له: يا معلم، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضا، فقال: (وويل لكم أنتم أيها الناموسيون) (إنجيل لوقا:11: 39)؟
ألستم الذين نسبتم إليه قوله لهيرودس: (قولوا لهذا الثعلب) (لوقا: 13: 32)؟
النبي المعصوم (84)
ألستم الذين جعلتموه يطلب من تلاميذه عدم إفشاء السلام في الطريق (لوقا: 10: 4)؟
ألستم الذين قولتموه: (لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير) (متى:7: 6)؟
ألستم الذين جعلتموه يكذب على إخوته.. لقد رويتم في إنجيل يوحنا (7: 3) أن إخوة المسيح طلبوا منه أن يصعد إلي عيد المظال عند اليهود، فرد عليهم قائلا: (اصعدوا انتم إلي العيد، فأنا لا أصعد إلي هذا العيد.. ولما صعد إخوته إلي العيد، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية)؟
أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يقول بكل قسوة: (أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا: 19: 27)
نعم.. أنتم تتقنون الفرار.. فتهربون من قسوة هذا القول بشتى محاولات التأويل والتحريف، فتارة تذكرون أن هذا سيكون يوم القيامة مع أن النص واضح، فالمسيح يقول: (فأتوا بهم إلى هنا)، وليس فيه أي إشارة إلى يوم القيامة.. وتارة تقولون: إن هذا مثل، مع أنكم تعلمون أن المثل انتهى عند الفقرة السادسة والعشرين من نفس الإصحاح..
أنتم لم تكتفوا بكل ذلك.. بل جعلتموه يتجرد من أبسط مظاهر الرحمة ليلعن شجرة مسكينة لا ذنب لها سوى أنها لم تثمر.. ولم تثمر من عندها، بل لأنه لم يكن وقت الثمر.. ألستم تروون في (مرقس:11: 12): (وفي الغد، بعدما غادروا بيت عنيا، جاع. وإذ رأى من بعيد شجرة تين مورقة، توجه إليها لعله يجد فيها بعض الثمر. فلما وصل إليها لم يجد فيها إلا الورق، لأنه ليس أوان التين. فتكلم وقال لها: (لا يأكلن أحد ثمرا منك بعد إلى الأبد)؟
ولم تكتفوا بالشجر، بل رحتم تنسبون إلحاق الأذى بالحيوانات البريئة.. بل تجلعونه يتسبب بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. ألستم تروون في (مرقس: 5: 11): (وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى عند الجبل، فتوسلت الأرواح النجسة إلى يسوع قائلة: أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها، فأذن لها بذلك، فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير، فاندفع
النبي المعصوم (85)
قطيع الخنازير من على حافة الجبل إلى البحيرة، فغرق فيها، وكان عدده نحو ألفين)؟
ألا تسألون أنفسكم: ما ذنب الخنازير وصاحب الخنازير، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟.. ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!
أنتم تجلعونه رمزا للسلام، لكنكم تشوهون السلام الذي يدعو إليه بما تنسبون إليه من سلوك.. ألستم تروون أنه صنع سوطا من الحبال، ودخل به الهيكل، وطرد جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه وبعثر دراهمهم وقلب موائدهم.. لا يمكنك أن تكذب ذلك.. فقد جاء في (يوحنا:2: 14): (وإذ اقترب عيد الفصح اليهودي، صعد يسوع إلى أورشليم، فوجد في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى موائدهم، فجدل سوطا من حبال، وطردهم جميعا من الهيكل، مع الغنم والبقر، وبعثر نقود الصيارفة وقلب مناضدهم)
ألا يحمل هذا السلوك عنفا غير مبرر؟.. كان في إمكان يسوع المحبة أن يتصرف بما تمليه المحبة والسلام اللذان يدعو إليهما.
ألستم تروون في سفر الرؤيا [2: 21 _ 23] أن مسيح المحبة قال عن إمرأة اسمها إيزابل كانت تدعي انها نبية: (فإني سألقيها على فراش، وأبتلي الزانين معها بمحنة شديدة.. وأولادها أقتلهم بالموت، فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب، وأجازي كل واحد منكم بحسب أعماله)
فهل من المحبة والرحمة أن يقتل الأطفال بذنب أمهم؟
نعم أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يأمركم بكل قسوة ببغض أقرب الناس إليكم.. ألستم تروون قوله في (لوقا:14: 26): (إن جاء إلي أحد، ولم يبغض أباه وأمه وزوجته وأولاده وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضا، فلا يمكنه أن يكون تلميذا لي)؟
بل أنتم تناقضون أنفسكم حين تجعلون من رسو ل السلام يقول: (لا تظنوا أني جئت
النبي المعصوم (86)
لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها) (متى: 10: 34)
بل جعلتموه يقول: (جئت لألقي على الأرض نارا، فلكم أود أن تكون قد اشتعلت؟) (لوقا 12: 49)
بل جعلتم الله نفسه نارا.. ألم يقل صاحبكم في رسالة العبرانيين [12: 29]: (لأن إلهنا نار آكلة).. بل جعلتموه يتجرد من الرحمة ويترك ابنه يلاقي أبشع أنواع العذاب دون ذنب وهو يصرخ بصوت عظيم: (إلهي إلهي لماذا تركتني؟) (متى:27: 46)
التفت الحكيم إلى أخي، وقال: هل تراني زدت شيئا في كتابكم؟.. إن كل ما قرأته من كتبكم المقدسة.. إنها تحمل صورة مشوهة عن المسيح نرفضها ـ نحن المسلمين ـ رفضا شديدا.
ما انتهى الحكيم من حديثه هذا حتى وقف رجل من الجمع، وقال: وعينا كل ما ذكرته.. ولا نحسب هذا الرجل إلا وقد بهت لما ذكرت، فلذلك لا نراه يحير جوابا.
قال الحكيم: لا ينبغي أن تقول هذا.. فنحن نبحث عن الحقيقة، ولا نتصارع تصارع الديكة.. لقد ذكر ما كان يختمر في ذهنه من شبهات.. وقد ذكرت له ما أراه من حقائق.. ولا حرج عليه أن يسأل ما يشاء، أو يعقب بما يشاء.. أليس هذا ميدان الحرية التي لا يشتاق لها إلا العقلاء؟
قال الرجل: فلدينا نحن ـ المسلمين ـ من الشبه ما نريد طرحها.. فما ذكره من الآيات وقع بين أيدي نفر من قومنا نسميهم (المخطئة) راحوا يبحثون عما يتوهمونه من خطايا الأنبياء.. يفسرون بذلك القرآن.. ويصححون بذلك الحديث.
ولذلك نلتمس منك أن تخرج من الحديث الذي أملاه الجدل إلى الأحاديث التي تمليها
النبي المعصوم (87)
الحقيقة.. حقيقة النبوة.
قال الحكيم: أما إن قلت ذلك.. فإن لمقام النبوة في عين أهل الحقائق درجة من الطهارة لا نستطيع معها أن نتصور في حقهم معصية.
فالنبوة تعني القرب من الله.. ولا يقترب من الله إلا من امتلأ بالطهارة..
والنبوة تعني نصح الخلق.. ولا تقبل النصيحة من غير منتصح بها.
والنبوة تعني كمال الإنسانية.. ولا يصل كمال الإنسانية من تلطخ بأوزار المعاصي.
والنبوة تعني صفاء مرآة القلب حتى تنجلي فيها الحقائق كما هي.. والمعاصي هي السكين الذي يجرح الصفاء.. والدنس الذي يكدره.
قال الرجل: فما تقول فيما ذكرت من نصوص عن معاصي الأنبياء؟
قال الحكيم: ذلك من تحريف اليهود لكتبهم.. وتبعهم أحبار المسيحيين من غير تمحيص ولا تدقيق..
ولو أنهم أعملوا بعض عقولهم لعرفوا أن اليهود الذين لم يؤتمنوا على المسيح يستحيل أن يؤتمنوا على الكتاب المقدس.. وأن اليهود الذين شوهوا المسيح بكل ما أطاقت لهم عقولهم أن يشوهوه يستحيل أن يحفظوا نبيا.
قال الرجل: ولكن هناك أحاديث وصلتنا تنص على بعض ما نصت عليه هذه الكتب.
قال الحكيم: تلك أحاديث كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من اليهود الذين أسلموا.. ولكنهم لم يطيقوا أن يتخلصوا من مراتبهم الدينية.. فراحوا يمارسونها مع المسلمين.. فدخل في الإسلام منهم تلك اللوثة اليهودية..
ولكن الله خلص المسلمين منها بالعدول من العلماء الذين يغيرون على مقام الأنبياء.
قلت: فهل ستحدثنا عن ذلك الآن؟
قال: لا.. حديث ذلك يطول.. ولكني سأقتصر منه على ما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فسلوني
النبي المعصوم (88)
عما أشكل عليكم من الآيات.. وسأجيبكم بفضل الله ومنته.
وقبل أن تسألوني.. فقد رأيت أن كل النصوص التي قد يساء فهمها ترجع إلى أمرين: أما أولهما، فهو تلك الشفافية الروحية التي كانت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي جعلته ـ وهو الكامل ـ يستشعر التقصير.. فلا يمتلئ لسانه وكيانه إلا عبودية وتواضعا واستغفارا.
وأما الثانية.. فهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو محل قدوة للمؤمنين، فلذلك يكون هو واسطة الخطاب الإلهي للمؤمنين، فيتوهم القاصرون أن ذلك الخطاب بما فيه من زجر وعتاب خاص به صلى الله عليه وآله وسلم.
قام رجل من القوم، فقال: فلنبدأ حديثنا بما ذكره هذا الحبر من الأحاديث الكثيرة التي نرى فيها محمدا يستغفر ربه.. ألا ترى فيها دلالة على المعصية؟
قال الحكيم: لا.. لا أرى فيها ذلك.. بل أرى فيها نفسا ممتلئة حياء من الله، فهي تستغفره كل حين من تقصيرها وتفريطها في حقه.. فمقام الله أعظم من أن يؤدى.
ألا ترى الرجل الكريم يهدي الهدية التي لا هدية تعدلها، ومع ذلك يقدمها بحياء، وكأنه يقدم ذنبا لا هدية.. بينما ترى الرجل الوقح يدل بالحقير، ويمن به!؟
قال الرجل: ذلك صحيح..
قال الحكيم: فهكذا الأمر مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان له من الرقة والإيمان والأدب مع الله ما جعله يدمن على استغفاره.
التفت إلى أخي، ثم قال: ليس هذا خاصا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كل الصديقين والأنبياء يشعرون بهذه المشاعر النبيلة.. سأذكر لك نماذج من الكتاب المقدس لتدلك على هذا:
ففي إنجيل مرقس (10/ 17 - 18)، وإنجيل لوقا (18) نجد هذا النص الممتلئ بمثل هذه المشاعر: (وفيما هو خارج إلى الطريق، ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله).. ألا
النبي المعصوم (89)
ترى أن المسيح أقر في هذا النص بأنه ليس صالحا، ولا صالح إلا الله وحده؟
وفي الزبور (22/ 1 - 2) نجد هذا النص: (إلهي إلهي انظر لماذا تركتني تباعد عني خلاصي بكلام جهلي إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي وبالليل فلم تحفل بي).. ولما كانت آيات هذا الزبور راجعة إلى المسيح على زعمكم، فكان القائل بها عندكم هو المسيح.
وفي (إنجيل متى:27/ 46) نجد هذا النص: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني)
وفي إنجيل مرقس (1/ 4 - 9) نجد هذا النص: (كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم.. وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن)
لقد كانت هذه المعمودية، معمودية التوبة، بمغفرة الخطايا، كما صرح مرقس في الآية الرابعة والخامسة والآية الثالثة من الباب الثالث من إنجيل لوقا هكذا: (فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودة التوبة لمغفرة الخطايا)، وفي الآية الحادية عشر من الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (أنا أعمدكم بماء للتوبة)، وفي الآية الرابعة والعشرين من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال هكذا: (إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل)، والآية الرابعة من الباب التاسع عشر من كتاب الأعمال هكذا: (فقال بولس أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة)
فهذه النصوص كلها، تدل على أن هذه المعمودية، كانت معمودية التوبة لمغفرة الخطايا، فمتى سلم اعتماد المسيح من يحيى، لزم تسليم اعترافه بالخطايا والتوبة منهما أيضا، لأن حقيقة هذا الاعتماد ليست غير ذلك.
وفي الباب السادس من إنجيل متى في الصلاة التي علمها المسيح تلاميذه هكذا: (اغفر لنا
النبي المعصوم (90)
ذنوبنا كما نحن نغفر أيضا للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير)
والظاهر أن المسيح كان يصلي تلك الصلاة التي علمها تلاميذه، ولم يثبت من موضع من مواضع الإنجيل أنه ما كان يصلي هذه الصلاة.. بل إنه كان كثير الصلاة، فلزم أن يكون دعاؤه باغفر لنا ذنوبنا مرات كثيرة بلغت الآلاف.
قام رجل من القوم، وقال: قد يصح ما ذكرت إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المبادر للاستغفار.. ولكنا نرى الله تعالى هو الذي يحثه عليه، ويأمره به، فالله تعالى يقول: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء: 106)، ويقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55)، ويقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19).. وغيرها من الآيات التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار.. وقد ورد في الحديث: لزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الكلمات قبل موته بسنة: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، قالت فقلت: يا رسول الله لقد لزمت هذه الكلمات، قال: (إن ربي عهد إلي عهدا أو أمرني بأمر، فأنا أتبعه)، ثم قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر:1) حتى ختم السورة (1).
فكيف تجتمع العصمة مع الاأمر بطلب الغفران؟
قال الحكيم: إن التعرف على سر ذلك يقتضي الوقوف على أصل مسلَّم به بين العقلاء، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان، فربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.
سأحاول أن أبسط لك ذلك..
أنت تعرف أنّ الاَحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح.. وتعلم أنه لا محيص عن الاِتيان بالواجب وترك الحرام.. نعم هناك رخصة في ترك المستحب
__________
(1) محمد بن يحيى بن عمر برجال ثقات.
النبي المعصوم (91)
والاِتيان بالمكروه، ولكن المترقب من العارف بمصالح الاَحكام ومفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، وترك المحرمات مع ترك المكروهات، ولا يقصر عنه المباح، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.
فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمله غيره، فيكون المنتظر منه غير ما ينتظر من غيره، ولو صدر منه ما لا يليق، وتساهل في هذا الطريق، فإنه يتأكد منه الاستغفار وطلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسؤوليته.
وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر والبدوي، فالمرجوّ من الأَوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الاِنسانية، ولكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقف أشد وأكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.
وهذه الاَمثلة ونظائرها الوافرة تثبت أنّ عظمة الشخصية وكبر المسؤولية متحالفان، وأنّ الوظائف لا تنحصر في الاِتيان بالواجبات، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، وكلّما زاد العلم والعرفان توفرت الوظائف وكثرت المسؤوليات، ولاَجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً، مع أنها في الواقع ليست بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل إنها ذنب إذا قيس إلى ما أُعطوا من الاِ يمان والمعرفة، ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو، فإنّما هو لاَجل هذه الجهات.
ولهذا نرى شيخ الاَنبياء نوحاً ـ عليه السلام ـ يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح:28)
ويقتفيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ
النبي المعصوم (92)
الْحِسَابُ} (ابراهيم:41)
وعلى أثرهم يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)
والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأَعمال والطاعات وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.
قام رجل من القوم، وقال: لقد ورد في الحديث إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض له ما يستدعي الاستغفار، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله، وفي لفظ: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) (1).. فقد ذكر أن علة استغفاره ما يحل على قلبه من الغين.
قال الحكيم: سر هذا الحديث لا يفهمه إلا أولياء الله الذين رزقوا من أذواق أهل الله ما يتيح لهم التعبير عن بعض حقائق الجمال التي وردت فيه.. وقد قال أبو الحسن الشاذلي في الحديث: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن حديث: (إنه ليغان على قلبي)، فقال: (يا مبارك ذلك غين الأنوار).
وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لما كانت روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب.
وقال: لا تعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو حالة كمال.. فذلك مثل جفن العين حين يمسح الدمع القذى عن العين، فإنه يمنع العين عن الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة
__________
(1) رواه مسلم.
النبي المعصوم (93)
هو كمال.. فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته، صيانة لها، ووقاية عن ذلك.
وقال أبو سعيد الخراز: الغين شئ لا يجده إلا الأنبياء وأكابر الأبرار والأولياء، لصفاء أسرارهم، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم.
وقال آخر: إن في الاستغفار والتوبة معنى لطيفا، وهو استدعاء لمحبة الله تعالى، فإحداثه الاستغفار والتوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله تعالى.
وقال آخر: لقد رأى الاشتغال بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو نوم أو راحة ومخالطة الناس، والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله تعالى، والتضرع إليه، ومشاهدته، ومراقبته، ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس.
وقال آخر: هو ما يستغشي القلب، ولا يغطية كل التغطية، كالغيم الرقيق لذي لا يمنع ضوء الشمس، ثم لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة، وإنما هذا عدد الاستغفار لا الغين، فيكون المراد بهذا الغين الإشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، لما كان صلى الله عليه وآله وسلم من مقامات البشر، وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وأعباء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في هذا كله في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان صلى الله عليه وآله وسلم أرفع الخلق عند الله تعالى مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالة عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه أرفع حاليه، رأى حاله فترته عنها، وشغله بسواها، غمضا من علي حاله، ورفيع مقامه، فاستغفر من ذلك.
وقال آخر: لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم مترقيا من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين، فيستغفر منه.
وقال آخر: هو حالة خشية، وإعظام، والاستغفار شكرها.
النبي المعصوم (94)
وقال آخر: هو السكينة التي تغشي قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية والشكر لما أولاه.
وتأدب آخرون، فرأوا أنفسهم أقصر من أن يتحدثوا عن هذا المقام، فقد قال الجنيد: لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حال إلا من كان مشرفا عليها، وجملة حاله يشرف على نهايتها أحد من الخلق (1).
قام رجل آخر، فقال: فما تقول في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1 - 3).. فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه، بل ما تقدم منه وما تأخر.
قال الحكيم: قبل أن أجيبك لا ينبغي أن أتخطى سيدا من سادات آل البيت.. وهو الإمام الرضا.. فقد سأله المأمون عن الآية فقال: (لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاَنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الاِخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلاَ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمَلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} (ص: 5 ـ 7)، فلمّا فتح اللهُ عزّ وجلّ على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة (2)، قال له: يا محمد: (إنّا فتحنا لك (مكة) فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله عزّ وجلّ فيما تقدّم، وما تأخّر، لأنّ مشركي مكة، أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار
__________
(1) انظر هذه الأقوال وغيرها في (الشفا) للقاضي عياض، و(سبل الهدى) وغيرهما.
(2) هناك اختلاف في المراد من الفتح في هذه الآية، فقيل المراد: فتح مكة وهو ما ذكره هنا، وثانيها: فتح الروم وغيرها وثالثها: المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها: فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان وخامسها: المراد منه الحكم كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} (الأعراف: 89) وقوله: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} (سبأ: 26)، وكلها وجوه محتملة ولو أن الأرجح بينها هو كونه صلح الحديبية.
النبي المعصوم (95)
ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن.
قال الرجل: ماذا يقصد مولانا الإمام الرضا بقوله هذا؟
قال الحكيم: ألا تلاحظ أن في اعتبار القرآن الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما تقدّم منه وما تأخّر غرابة؟
قال الرجل: أجل.. أرى ذلك.. فطالما قلت لنفسي: كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم من فتح القلاع والبلدان سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الاَُخرى أو ملازمة لها، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الاَعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الجهر بالحق، ونشر التوحيد، ودحض الباطل، كان الترتب أمراً طبيعياً، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين، وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الاَصقاع، فالرابطة غير واضحة.
قال الحكيم: وهذا ما وضحه الإمام الرضا.. فقد أراد أنه لما جاء النبي الأَكرم صلى الله عليه وآله وسلم داعياً إلى التوحيد في مجالى الخلق والاَمر، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله، وأنّه لا معبود سواه ولا شفيع إلاّ بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الاَصنام، صارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الاَكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر، ومفتر وكذّاب.. ثم صاروا إلى حربه كما علمتم.
فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، وحدوث التفرقة في صفوفهم، والفتك بصناديدهم على يد النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم، صوّرته في مخيلتهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها، مجازر لقريش، ومذابح لاَسيادهم، فأىّ جرم أعظم من هذا، وأي ذنب أكبر منه
النبي المعصوم (96)
عند هوَلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير، والصديق من العدو، والمنجي من المهلك؟
فإذن ما هو الاَمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.
إنّ الاَمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الاَوهام والاَباطيل، ليس إلاّ ذلك الفتح الذي فتح الله به عليه.. فعرفوا الحقيقة التي كانوا يحاربونها.
ثم إن ذلك العطف الذي أبداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، وقريش في حالة الانحلال والضعف، صوّر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قومه وأتباعه بصورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال، وعضّوا الاَنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الاِسلام زرافات ووحداناً.
فهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن والساحر أقصر من أن يقوم بهذه الاَُمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري ولا يكذب، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم وموَامراتهم عليه.
وبذلك، فإن الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية والشرطية، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، وقد كسرته هذه الواقعة، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.
النبي المعصوم (97)
وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.
قال الرجل: هذا توجيه طيب.. ولكني أريد غيره.. فهل هناك غيره؟
قال الحكيم: أجل.. وهو ما سنعرفه في العلة الثانية من العلل التي يفسر بها هذا النوع من الخطاب.. وهي القدوة.
قال الرجل: فاشرح لنا ما يرتبط بهذا الآن.
قال الحكيم: القرآن الكريم ـ عند العارفين بالله الفاهمين عنه ـ هو خطاب الله للبشر جمعيا.. ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا واسطة لذلك الخطاب..
لهذا.. فكل عارف بالله يسمع القرآن من الله.. ويفهم أنه المخاطب بكل حرف من حروفه ما صيغ فيه بضمير المخاطب المفرد وما صيغ بغيره.. بل ما صيغ منه بكل الظمائر.
قال الرجل: فماذا يفهم هؤلاء الكمل من هذه الآيات؟
قال الحكيم: هذه الآيات تبين الجزاء الذي أعده الله لمن وصل به اجتهاده إلى الفتح المبين.. فقد ذكرت الآيات أنواعا من الجزاء.. ومهدت لها بالمغفرة الشاملة، فالمغفرة هي الأساس لغيرها من أنواع الجزاء.. كما أن تطهير التربة هو الأساس لغرس البذور الطيبة.
قال الرجل: وعينا هذا.. ولكنا نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الاستغفار إلى درجة أنه يلفت انتباه أصحابه.
قال الحكيم: ذلك صحيح.. وذلك من وظائف النبوة.. فالنبي قدوة لأمته.. ولهذا تجده يشعر أنه أول المخاطبين بكل تكليف..
ليس هذا خاصا بنبينا فقط.. بل هو عام لكل الأنبياء.. وقد قال تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)
النبي المعصوم (98)
وقد ورد في إنجيل متى أن المسيح صام أربعين نهاراً، أو أربعين ليلة، وفي (إنجيل مرقص:1/ 35} (وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك).. وفي (إنجيل لوقا:5/ 16): (وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة للّه)
التفت إلى أخي، ثم قال: أنتم تقولون بأن المسيح متحد في ذات اللّه.. ولذلك فإن هذه التكاليف لا تحمل عندكم إلا على معنى واحد.. وهو ما ذكرته من قصد الاقتداء والتعليم.
قام رجل من القوم، وقال: نرى في القرآن الكريم آيات كثيرة وردت في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحمل نوعا من الخطاب الحاد صار ذريعة للمخطئة يرمون بها نبيهم.
قال الحكيم: فاذكرها لي أفسرها بما يفهمه أهل الحقائق المعظمين لمقام النبوة (1).
قال الرجل: منها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} (الرعد:37)، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:145)، وقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة:120)
فهذه الآيات تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحن حاد.. وقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم، وإلاّ فلا وجه للوعيد.
قال الحكيم: ومن أين لهم هذا النوع من الاستدلال.. ألا يعرف هؤلاء اللغة العربية،
__________
(1) كثير من هذه الردود رجعنا فيه لمرجعين مهمين في هذا الباب، هما:
تنزيه الأنبياء، لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي، المعروف بالشريف المرتضى.
عصمة الاَنبياء في القرآن الكريم، تأليف: العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني.
وغيرها من المراجع.
النبي المعصوم (99)
وأساليبها.. بل إن هذا مما تتفق عليه جميع اللغات.. فالقضية الشرطية لا تدل إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء.. وهي لا تدل ـ بحال من الأحوال ـ على تحقّق الطرفين، ولا على إمكان تحقّقهما.
ألم يقرأ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الانبياء:22)!؟
قال الرجل: بلى قرأوها.. وهم يستدلون بها على توحيد الله.
قال الحكيم: فلم لم يستدلوا بها على وجود آلهة مع الله؟
قال الرجل: لعدم تحقق الجزاء.
قال الحكيم: فهل رأوا ربهم تخلى عن نبيهم.. فلم ينصره.. ولم يكن له وليا ولا واقيا؟
قال الرجل: حاشاهم أن يقولوا ذلك.
قال الحكيم: فكيف لهم أن يجوزوا شيئا لا دليل لهم عليه؟
قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} (الاسراء:86 - 87)؟
قال الحكيم: هذه الآيات لا يفهم منها الصادقون إلا صدق نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.. فالله لم يستلب الوحي من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع قدرته عليه.. وذلك دليل كمال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دليل قصور منه.
قال الرجل: لم أفهم.. كيف يكون ذلك دليل كمال؟
قال الحكيم: أرأيت لو أن رجلا اجتاز مسابقة يقوم عليها خبراء أشداء يلاحظون النقير والقطمير.. ونجا منها بنجاح.. هل يعتبر ذلك كمالا أم لا؟
قال الرجل: بل يعتبر ذلك عين الكمال.
قال الحكيم: فلو اجتاز هذا على خبراء لا يرون ولا يسمعون ولا يهتمون.. هل يصح لهذا أن يفخر بكماله بهذا الاجتياز؟
قال الرجل: لا يستطيع أن يفخر هذا بشيء.. وليس ما فعله كمالا.
قال الحكيم: فنزه الله عن لوثات التشبيه.. وارتق بهذا المثال لتعرف مقام نبيك صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي المعصوم (100)
قام رجل آخر، فقال: صدقت.. إن المثال الذي ذكرته فهمت به سر قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65)، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَقَاوِيلِ لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتينَ فَمَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزينَ} (الحاقة: 44 ـ 47)
قال الحكيم: إن هذه الآيات ونظائرها التي تحكى عن القضية الشرطية يفهم منها الصادقون أمرين:
أما أولهما.. فمقدار الكمال الذي من الله به على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فراح يجتاز كل الامتحانات الصعبة التي وضع فيها بنجاح لا مثله نجاح.
وأما الثاني.. فما ذكرته لكم من أن القرآن الكريم يخطاب الأمة عبر نبيها.. فالكمل يسمعون الخطاب لهم، فيشعرون بأليم العتاب إن قصروا أو حدثتهم أنفسهم بالتقصير.. أما القاصرون، فيرون العتاب مخصوصا بنبيهم، فينحجبون عن الغرض القرآني، كما ينحجب التلميذ الأبله.
قام رجل من القوم، وقال: وكيف ينحجب هذا التلميذ؟
قال الحكيم: لقد تعود الكثير من الأساتذة ان يوجهوا تلاميذهم عبر النجباء منهم.. فيحذرون النجيب من التقصير.. ليفهم غيرهم من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)
أما الأذكياء.. فيفهمون من هذا شدة الأمر.. وأنه حتى النجابة لا يمكن ان تشفع للمقصر.
وأما البله.. فيفهمون الأمر قاصرا على من توجه الخطاب له، فينحجبون بالمخاطب عن الخطاب.
قام رجل من القوم، وقال: لقد فهمت بما ذكرته أسرار آيات من القرآن:
منها آيات وردت فاصلتها بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون من الممترين، وهي قوله تعالى: {
النبي المعصوم (101)
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} (البقرة)، وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} (آل عمران)، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114)، وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس:94)
ففي الموضع الأول يعلمنا الله تعالى أن لا نقيم وزناً لاِرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:142)
وفي الموضع الثاني يبطل الله تعالى ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ بحجّة أنّه وليد مريم ـ عليها السلام ـ بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم، ثم يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران:60).. ولا شك ـ عند العقلاء ـ أنّ الخطاب جرى مجرى (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أعظم من أن يتسرب إليه الشك في مثل هذا.
وهكذا سائر المواضع.. فالنهي عن الشك نهي موجه للأمة عن طريق نبيها.. لا أنه موجه للنبي بسبب احتمال وقوع الشك منه.
قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء:107)، فإن هذه الآية الكريمة تنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المجادلة عن الخائنين.. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
النبي المعصوم (102)
أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء:105)
قال الحكيم: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي لحظة من لحظات حياته مدافعاً عن الخائنين، وانّما وردت الآية بهذا الأسلوب من باب تربية المجتمع وتوجيهه وتحذيره من هذا النوع من السلوك، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.
قام رجل آخر، فقال: فما تقول في قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} (الاسراء:22)، وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29)، وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)، وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للْكَافِرينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (86 ـ 88)
قال الحكيم: هو ما ذكرته في غيرها.. فهذه الخطابات وما يشبهها وإن كانت موجهة في الظاهر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن المقصد منها عامة الناس.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يشرك بالله تعالى.. فهو لم يحصل منه شرك قبل نبوته، فكيف يحصل منه بعد نبوته.
-\--\-
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد أخى ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
النبي المعصوم (103)
أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي المعصوم (104)
في مساء اليوم الثاني.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (نيكولاس إيلمنسكي) (1).. الرجل الذي تقلب في السياسة، وقلبته السياسة.. بوجه متغير حاول بابتسامته الدبلوماسية العريضة أن يخفي تغيره، لكنه لم يطق.
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بابتسامته العريضة، وقال: طبعا.. هناك نتائج إيجابية.. ولا يمكن إلا أن تكون هناك نتائج إيجابية.. لقد فزت في جميع جولاتي الدبلوماسية، فكيف لا أفوز في هذه.
أطرق قليلا، ثم قال: نعم.. لقد كانت الحرب مستميتة بيني وبين من يدعونه حكيما.. لقد كان مجادلا بارعا، ومحاميا قويا.. ولكن الحق كان معي.. وسيظل معي.. ولا ينبغي أن يكون إلا معي.
ابتدر أخي ليأخذ القرص، ليضعه في القارئ، فقال نيكولاس: أرى أن تتركوا الفرصة لأحدثكم أنا بدل رؤية القرص.. فليس هناك رواية أحسن من رواية الشفاه..
ثم ابتسم لهم، وقال: نعم هذا أسلوب قديم.. ولكني أرى أنه الأفضل.
قال رجل من الجماعة: أرى أن السياسة قد أثرت فيك يا نيكولاس.. فدعنا نسير بالطريقة التي اجتمعنا لنسير عليها.
سكت نيكولاس على مضض.. فابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط
__________
(1) أشير به إلى (نيكولاس إيلمنسكي) (ق 20 م)، وهو مبشر روسي، رسم سياسة تنصيرية للتتار بجذبهم إلى المسيحية عن طريق الدمج الديني والثقافي، فكان يهدف إلى (تنشئة نخبة مثقفة من المواطنين يعتنقون المذهب الأرثوذوكسي لكن ثقافتهم تترية ويستخدمون اللغة التترية القازانية المكتوبة بالأحرف الروسية)، وقد ارتد عن الإسلام بفعل هذه السياسة في عهد ألسكندر الثاني قرابة مائة ألف (000. 100) مسلم والتحقوا بطائفة كرياشن (ألكسندر بينيغسن وشانتال لوميرييه كيلكجاي: المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفييتي - ص 27، ونجيب العقيقي: المستشرقون: ص 26)
النبي المعصوم (105)
الأحداث:
رأينا نيكولاس يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟
قال رجل من الجمع: منا من يعرفه.. ومنا من لا يعرفه.. ولكنا نتفق جميعا ـ من يعرفه ومن لا يعرفه ـ في أنا نحب أن نعرفه، أو نستزيد من معرفته.. فإن كان لديك شيء منها، فأنبئنا.. فكلنا آذان صاغية.
قال نيكولاس: هل تعرفون لينين؟
قالوا: أجل.. ولكنه مستبد آثم.
قال نيكولاس: وهل تعرفون فرعون وأتاترك وهتلر؟
قالوا: أجل.. وهم لا يختلفون عن لينين.
قال رجل من الجماعة: نحن نبحث عن محمد.. ونريد أن نعرف محمدا.. ولا حاجة لنا بمعرفة هؤلاء المستبدين الظالمين.
قال نيكولاس: من عرف هؤلاء فقد عرف محمدا.. بل إن محمدا أسوأ منهم.. فإن أحدا منهم لم يقل: إني مستبد يوحي إلي، ولكن محمدا قالها.
هنا ظهر الحكيم بطلعته البهية، ونوره الساطع، وصاح من بعيد: في أي سورة ورد ما ذكرته؟
ثم أضاف: لقد قرأت القرآن.. وربما قرأت الآية خطأ، فالآية تقول: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف:110).. وليس في القرآن آية تدعو للاستبداد، أو تحث عليه، أو تشرع له.. بل إنه ليس هناك كتاب في الدنيا يدعو إلى الثورة على الاستبداد كالقرآن.
سكت قليلا، ثم قال: ربما تتصور أن ذلك حديثا.. ليس هناك حديث في الدنيا يحث على الاستبداد أو يشرع له.
النبي المعصوم (106)
قال نيكولاس: ربما يكون ما ذكرته صحيحا.. ونحن لا نتحدث عنه هنا.. نحن نبحث في حياة محمد.. وحياة محمد عنوان للاستبداد بجميع أشكاله.. وإلا لما تسنى له أن يقيم أي دولة، أو ينشئ أي مجتمع.
قال الحكيم: لست أدري هل أنت صاحب شبهة تبحث عن التحقيق.. أم أنك صاحب هوى تبحث عن الجدل؟
قال رجل من الجمع: لا.. لا نظنه إلا صاحب شبهة، فإن كان لديك ما يرفعها عنه، فاذكره له.. ونحن هنا لنرى أنصع الحجج.. حجتك أو حجته.. لنتبعها.
قال الحكيم: يسرني ذلك.. ولست أدري هل يرضى صاحبنا بذلك أم لا؟
لم يجد نيكولاس إلا أن يجيب بالإيجاب..
حينذاك قال الحكيم: أليس المستبد هو الذي يحتقر الرعية، ويتكبر عليها، ويستولي على جميع أمورها، بحيث يفرض رأيه على كل أحد، ولا يسمع لأي أحد؟
قالوا: بلى.. هذا هو المستبد.. وكل مظاهر الاستبداد تنطلق من هذا.
قال الحكيم: فإذا أثبت لكم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم كل من يحيط به، بل كل من ولي أمره من المسلمين، وأنه فوق ذلك كان يستشيرهم في الصغير والكبير، والحقير والجليل.. هل أكون بذلك قد دفعت شبهته؟
قال الجمع: لا نرى الصواب إلا فيما ذكرت.
التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: هل تقر بهذا الأصل أم أنك تخالف فيه؟
قال نيكولاس: ليس الشأن في التعرف على الأصول إنما الشأن في إثباتها.
قال الحكيم: فاسمع مني ما يثبتها لك.
النبي المعصوم (107)
استجمع الحكيم أنفاسه، ثم قال: لو تأملتم حياة جميع الزعماء والقادة والمصلحين وعلاقتهم بمن يحيط بهم لن تجدوا رجلا في سماحة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تواضعه ولا احترامه.
ضحك نيكولاس، وقال: وأستطيع أن أقول في المقابل: لو تأملتم جميع حياة المستبدين والمتكبرين والظالمين، فلن تجدوا رجلا مثل محمد.
قال الحكيم: ما دام كل منا له دعواه.. فليقدم كل واحد منا ما عنده من إثباتات.
قال نيكولاس: حسبي من الإثباتات أنه كان يفرض عليهم أي حكم، فلا يجدون مناصا من تنفيذه.
قال الحكيم: وكل الحكام يفعلون ذلك.. أم ترى أنه يستسلم لأهوائهم لتضع في الدين ما تشاء؟
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: أما أنا.. فسأذكر لكم أربعة أدلة تعرفون من خلالها أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم من ولي عليهم أعظم احترام، ولا يمكن لمن يكون له كل ذلك الاحترام أن تكون فيه ذرة من استبداد.
قال رجل من الجمع: فما الدليل الأول؟
قال الحكيم: الدليل الأول هو مخالطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ورعيته وعدم احتجابه عنهم بأي نوع من أنواع الحجاب.. بل إنه كان يعتبر الحجاب نوعا من الاستبداد، لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من الاحتجاب عن الرعية: (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة) (1)
ومن هذا المنطلق كان أسهل شيء على أي أحد من الناس مقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والجلوس معه..
__________
(1) رواه أبو داود، والترمذي.
النبي المعصوم (108)
فقد قال الحسن يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده) (1)
ووصفه حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ) (2)
وذات مرة لقيه رجل تصور أنه مثل كل القادة والزعماء.. وقد حدثنا حديثه ابن مسعود فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة) (3)
وفي حديث آخر عن عبد الله بن بسر، قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال: (إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا) (4)
وقد أشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث: قال العباس: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم) (5)
__________
(1) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر ـ وقال: هذا حديث مرسل ـ وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.
(2) رواه ابن سعد.
(3) رواه ابن ماجه.
(4) رواه ابن ماجه.
(5) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
النبي المعصوم (109)
وكان من تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن يتميز بشيء عن سائر الناس حتى أن من الناس من لا يعرفه كما روي عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة تبكي عند قبرٍ فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تجد عنده بوابين (1)، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (2).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسلم على كل من لقيه صغيرا كان أو كبيرا، يعرفه أو لا يعرفه، فعن أنس أنه مر على صبيان، فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى الله عليه وسلم يفعله (3).
وعن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام (4).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسير مع أي أحد يعرفه أو لا يعرفه، عن أنس قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتنطلق به حيث شاءت (5).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار كما يركبه سائر العوام، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف (6).
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يردف خلفه.. وقد ذكر العلماء أسماء من ردفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم نحو الخمسين أفرد أسماءهم الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ الكبير ابن عبد الله بن مندة في جزء لطيف وأضيف إليهم غيرهم.
وهم أكثر من أن يحصوا ـ كما روي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر، وغزا
__________
(1) ولا يعارض هذا بما ورد في بعض النصوص من الاستئذان عليه (.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه الترمذي وصححه والبيهقي.
(5) رواه البخاري.
(6) رواه الترمذي.
النبي المعصوم (110)
أردف كل يوم رجلا من أصحابه (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس لباسا بسيطا كسائر الناس، ففي الحديث: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي، فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر) (2)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل مع كل الناس حتى من عافهم الناس أو خافوا من عدواهم، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه) (3)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيب كل من دعاه، ولأي شيء دعاه، حتى لو كان حقيرا، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) (4)
قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الأول.. وعرفنا قوته.. فما الدليل الثاني؟
قال الحكيم: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بمخالطة الناس مجرد مخالطة ليقتنص ودهم كما يفعل بعض الزعماء والقادة.. وإنما كان يشاركهم في حياتهم وأعمالهم.. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم لرحمته لهم يستأثر بأشقها.
فمن مشاركته لمن كان معه صلى الله عليه وآله وسلم مشاركتهم في الأعمال التي يقومون بها:
ومما روي في ذلك مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لهم في بناء المسجد بعد هجرته إلى المدينة المنورة بالرغم من العناء الكبير الذي لاقاه في هجرته، عن الحسن قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قال: ابنوا لنا مسجدا،
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو يعلى.
(2) رواه ابن عدي.
(3) رواه أبو داود والترمذي.
(4) رواه أبو الشيخ، وابن سعد.
النبي المعصوم (111)
قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: عرش كعرش موسى، ابنوا لنا بلبن، فجعلوا يبنون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعاطيهم اللبن على ما دونه ثوب، وهو يقول:
اللهم إن العيش عيش الآخرة... فاغفر للانصار والمهاجرة
فمر عمار بن ياسر فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفض التراب عن رأسه، ويقول: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية (1).
وعن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة (2).
وفي غزوة الخندق.. بعد أن أحاطت الأحزاب بالمدينة المنورة.. وفي ذلك الموقف الشديد الذي تزلزلت له القلوب.. والذي يكتفي فيه القادة بالجلوس في غرفهم المكيفة للتخطيط وإلقاء الأوامر.. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابهم يشاركهم في كل صغيرة وكبيرة..
قالت أم سلمة: ما نسيت يوم الخندق، وهو يعاطيهم اللبن، وقد اغبر شعره، تعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3).
وعن البراء قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل التراب على ظهره، حتى حال التراب بيني وبينه وإني لانظر إلى بياض بطنه (4).
قال محمد بن عمر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شدة اجتهاده في العمل يضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل، وبلغ منه التعب يوما مبلغا فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الايسر فنام.
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف الشديد يتكفل بكل عمل شاق يتوقفون عنده، فعن جابر: أن المسلمين عرض لهم في بعض الخندق كدية عظيمة شديدة بيضاء مدورة، لا تأخذ فيها المعاول،
__________
(1) رواه ابن عساكر.
(2) رواه ابن أبي شيبة.
(3) رواه أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى.
(4) رواه محمد بن عمر.
النبي المعصوم (112)
فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبة تركية فقال: أنا نازل، ثم قام، وبطنه معصوب بحجر من الجوع، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن دعو به، ثم نضح من ذلك الماء عليها، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق إنها عادت كالكثيب المهيل ما ترد فأسا ولا مسحاة (1).
ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد يكتفي بالعمل فقط.. بل كان يسليهم ويرتجز بما يرتجزون، ويضحك كما يضحكون:
قال ابن إسحاق وابن عمر: وارتجز المسلمون في الخندق برجل يقال له (جعيل) أو جعالة بن سراقة، وكان رجلا دميما صالحا، وكان يعمل في الخندق، فغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه يومئذ فسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول شيئا من ذلك، إلا إذا قالوا: عمرا، وإذا قالوا: ظهرا، قال: ظهرا.
وعن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى وارى التراب بياض بطنه (2)، وكان كثيف الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات لابن رواحة:
والله لولا ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبت الاقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته: أبينا أبينا (3).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) وفي لفظ: حتى أغمر بطنه، أو قال اغبر بطنه، وفي لفظ: حتى وارى الغبار جلده.
(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
النبي المعصوم (113)
وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخندق وقال:
باسم الاله وبه هدينا ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا ربا وحب دينا (1)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد يدعو الله لهم، ويشجعهم بكل ما أطاق أن يشجعهم به، عن سهل بن سعد قالا: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نحفر في الخندق، وننقل التراب على أكتادنا (2) في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك، فلما رأى ما هم فيه من النصب والجوع قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة، فاغفر للانصار والمهاجرة)، فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ويؤتونه بملء كفي شعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة (3)، توضع بين يدي القوم، وهم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.
ومما كان يشجعهم به ما روي في الحديث من ضربه على تلك الكدية وما كان فيها من معجزات، فقد ورد في الحديث: فأخذ المعول من سلمان، وقال: (بسم الله)، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أعطيت مفاتيح اليمن، إني لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة، كأنها أنياب الكلاب)، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، وبرق منها برقة فخرج نور من قبل الروم فأضاء ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لابصر قصورها الحمر من مكاني الساعة.
ثم ضرب الثالثة، فقطع بقية الحجر وبرق برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتي
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي لفظ: أكتافنا، وفي لفظ عن متوننا.
(3) الاهالة: الودكة، والسنخة: المتغيرة الريح الفاسدة الطعم.
النبي المعصوم (114)
المدينة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لابصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا بالنصر.
فاستسر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، بأن وعدنا النصر بعد الحصر، وجعل يصف لسلمان، فقال سلمان: صدقت يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه صفته، أشهد أنك رسول الله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذه فتوح يفتحها الله تعالى بعدي يا سلمان، لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده)، قال سلمان: فكل هذا قد رأيت (1).
ومن مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ـ التي هي رعيته ـ أنه كان يذوق من الجوع ما يذوقون، بل يذوق أعظم مما يذوقون (2)، ففي غزوة الخندق قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم آخر من يأكل إذا ما دعوا إلى أي أكل، فعن أبن عباس: أن جابرا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق عاصبا بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا.
قال جابر: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنزل فأذن لي، فذهبت فقلت لامرأتي: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصا شديدا، ما في ذلك صبر، فعندك شئ؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير، وذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلنا اللحم في البرمة، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا، وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الانصراف ـ قال: وكنا نعمل نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا ـ قالت لي: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فساررته فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
__________
(1) سبق تخريج الحديث بتفاصيله، وانظر رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
(2) سنرى تفاصيل ذلك في محلها.
النبي المعصوم (115)
فشبك أصابعه في أصابعي وقال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ، وصاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي، هلا بكم)، وصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقلت: جاء الخلق، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي فقلت: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم، فقالت: أنت دعوتهم أو هو؟ قلت: بل هو دعاهم، قالت: دعهم، الله ورسوله أعلم، نحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشفت عني.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (ادخلوا عشرة عشرة، ولا تضاغطوا)، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، فقال لنا: (اخبزوا واغرفوا وغطوا البرمة، ثم أخرجوا الخبز من التنور، وغطوا الخبز)، ففعلنا، فجعلنا نغرف ويغطي البرمة، ثم يفتحها فما نراها نقصت شيئا، ويخرج الخبز من التنور، ثم يغطيه فما نراه نقص شيئا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويقرب إلى أصحابه ويقول لهم: (كلوا)
فإذا شبع قوم قاموا، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، فقال: (كلوا واهدوا، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة)
فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب ذلك (1).
قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثاني.. واقتنعنا به.. فما الدليل الثالث؟
قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى ذلك كله يتعامل مع من ولي أمرهم تعامل الأصحاب لا تعامل السلطان.. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمي من استظل بظل ولايته صاحبا، حتى لو كان له عدوا.
__________
(1) رواه اليخاري ومسلم، وانظر تفاصيل أكثر في (معجزات حسية)
النبي المعصوم (116)
فإنه لما قال رأس المنافقين ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تصديق زيد في سورة المنافقين، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأذنه فقال: أبشر فقد صدقك الله، ثم قال: هذا الذي وفى لله بأذنه فقال له: عمر يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) (1)
وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلممع سائر الناس.. فقد كان يسير مع كل أحد ليقضي حاجته، فعن أنس قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: (يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك)، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها (2).
وفي حديث آخر عنه قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة (3).
وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما (4).
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم من حاجاتهم (5).
وقد استدل عدي بن حاتم بهذا السلوك على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى
__________
(1) رواه ابن إسحق وغيره.
(2) رواه أحمد ومسلم.
(3) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.
(4) رواه الدارمي.
(5) رواه الخرائطي.
النبي المعصوم (117)
وقيصر (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعود مرضى المسلمين، ويهتم بهم، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم (2).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيب أي دعوة لا يهمه ما كانت، ولا ممن كانت:
فعن ابن عباس قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصف الليل على خبز الشعير فيجيبه (3).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لاجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت (4).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب دعوه المملوك (5).
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرق في إجابة الدعوة بين مسلم وكافر، فعن أنس أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه (6).
لقد وصف بعضهم سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والامة والمسكين ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم أحد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينحى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحى رأسه، وما أخذه بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ.
__________
(1) رواه البخاري في الأدب، وروي عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال: أتينا رسول الله (، وهو جالس في المسجد فقال القوم: هذا عدي، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال: فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: لنا إليك حاجة، فقام معهما، حتى قضى حاجتهما.
(2) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.
(3) رواه الطبراني، ورواه مسدد مرسلا برجال ثقات.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه ابن ماجه.
(6) رواه أحمد وابن سعد وابن شيبة.
النبي المعصوم (118)
ولم ير مقدما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد يكرم من يدخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التى تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وروى أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته (1)، وكان أكثر الناس تبسما وأطيبهم نفسا ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب، قال عبدالله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثالث.. واقتنعنا به.. فما الدليل الرابع؟
قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بمجرد المشاركة والمواساة ولا الخلطة المجردة عن أي عمل إيجابي.. بل كان فوق ذلك كله، ومع ذلك كله، يبادر لأي خدمة سواء شورك فيها أو لم يشارك، وسواء كانت في بيته أو خارج بيته، لا يسأل على ذلك أجرا ولا شكرا.
عن أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ولد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له (3).
وقد وصفت عائشة ما كان يصنع صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، فقالت: (كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، يعني خدمة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة) (4)
__________
(1) كما روي عن أنس بن مالك أن نبي الله (قال: أني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فاسمع بكاء الصبي فاتجوز في صلاتي مما اعلم من شدة وجد أمه من بكائه.
(2) انظر: عيون الأثر: 2/ 423.
(3) رواه أبو داود.
(4) رواه البخاري ومسلم.
النبي المعصوم (119)
وعنها ـ أيضا ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل عمل أهل البيت وأكثر ما يعمل للخياطة (1).
وكان خارج بيته في أي شغل أو خدمة يحتاجها المسلمون، لا يستكبر عن أي عمل:
وكان أخطر أعماله وأهمها تعليم الناس، يصبر في ذلك أيما صبر، عن أبي رفاعة تميم بن أسيدٍ قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسيٍ، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها (2).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك هذه الوظيفة حتى وهو منشغل بحاجاته الأساسية، عن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان وأمر أن تسلت القصعة. قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة (3).
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم حتى ما يرتبط بحياتهم من معايش، فقد روي أنه مر مرة بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال: (يا غلام هكذا فاسلخ) (4)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نام الناس يشتغل حارسا لهم، فيهب عند كل فزعة، عن محمد بن الحنفية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الناس، وقال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ما وجدت من شئ، وقال للفرس:
__________
(1) رواه ابن سعد.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني.
النبي المعصوم (120)
وجدناه بحرا، وإنه لبحر، قال: وكان فرسه بطيئا فيه قطاف فما سبق بعد (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم عند الغزو هو الترس الذي يتترسون به، عن علي قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه (2).
وروى عنه أيضا قال: لما كنا يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أشد الناس بأسا يومئذ، وما كان أحد أقرب من المشركين منه.
وعن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفر، كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) (3)
وعن عمران بن حصين قال: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب (4).
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذه بعض الدلائل على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من احترام لرعيته الذين ولي أمرهم.. ولو قعدت أفصل لك ما يدل على هذه الأدلة ما خرجنا من هنا (5).
ثم التفت إلى الجمع، وقال: هل يكفيكم ما ذكرنا من أدلة؟
قال رجل من الجمع: لقد كان يكفينا أقل مما ذكرت.. وقد صدقت، فلم نر زعيما في الدنيا مهما كان متواضعا، يبلغ به تواضعه لمن يتزعم عليهم إلى تلك الدرجة.
__________
(1) رواه ابن سعد، وهذا من جملة معجزاته (كونه ركب فرسا قطوفا بطيئا فعاد بحرا لا يسابق، ولا يجارى.
(2) رواه أحمد، وابن ماجه.
(3) رواه ابن أبي شيبة.
(4) رواه أبو الشيخ.
(5) سنرى أدلة أوفر على هذا في سائر السلسلة.
النبي المعصوم (121)
لم يجد نيكولاس في ذلك الموقف إلا أن قال: لا ينفي ما ذكرته من احترام محمد لمن تولى عليهم كونه مستبدا.. ذلك أن المستبد قد يفعل ذلك من باب كسب القلوب، ثم هو بعد ذلك يمارس ما يمليه عليه استبداده من تصرفات.
قال الحكيم: فما الذي ينفي استبداده؟
قال نيكولاس: رجوعه للرعية واستشارته لها.. وأن لا يبت أمرا إلا بعد استئذانها.
قال الحكيم: كلامك صحيح.. وسأشرح لك وللجمع ما يثبت لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي استطاع أن يجمع ذلك كله في منتهى كماله.
قال نيكولاس: كيف تقول ذلك.. وهو يملي عليهم الأوامر.. ويزعم أنها تأتيه من السماء.. فلا يملكون إلا تنفيذها.
قال الحكيم: إن في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناحيتين، لكل منهما حكمه الخاص: أما الناحية الأولى.. فهي كونه نبيا يوحى إليه من الله.. وأما الناحية الثانية، فهي كونه بشرا وضع له من حرية الاختيار ما يمكنه من التصرف كما يشاء، أو كما تشاء الحكمة.
لقد أشار إلى هاتين الناحيتين أحد الصحابة، وهو الحباب بن المنذر في غزوة بدر عندما رأى مكانا آخر أهم من المكان الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم
النبي المعصوم (122)
صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.
أنت ترى أن هذا الرجل الممتلئ أدبا لم يقدم مشورته إلا بعد أن علم أن المسألة من الأمور التي يمكن أن تقدم فيها الآراء المختلفة.
قال نيكولاس: ففي الناحية الأولى لا مجال للشورى إذن؟
قال الحكيم: يمكنك أن تقول ذلك.. ففي هذه الناحية لا يتنازل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء أمر به.. أو نهي عنه.. بل نهى المؤمنين أن يقفوا موقف الاختيار في هذا الجانب، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36)، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)
بل إنه حذر من مخالفة أمره، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)
بل إنه نهى أن يتبع محمد صلى الله عليه وآله وسلم آراء أحد من الناس مقابل الهدي الذي جاء به، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (المائدة:48)، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49)
قال نيكولاس: فهل تركت هذه النصوص للاستبداد شيئا؟
قال الحكيم: أرأيت لو ذهبت إلى طبيب من الأطباء، هو خبير في ميدانه، فوصف لك شيئا من الأدوية أنت أحوج الناس إليه.. أتراك تجادله في ذلك؟
قال نيكولاس بقوة: نعم قد أجادله.. وقد حصل ذلك كثيرا.. فأنا لست إمعة تحركني
النبي المعصوم (123)
الرياح حيث شاءت.
قال الحكيم: ولكنك بعد جدالك له لا تجد إلا أن تسلم له، ثم تتناول الأدوية التي وصفها لك.
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: ما ذكرت صحيح.. ولذلك فإن الله برحمته يذكر لنا ـ عند ذكره لأصناف الأدوية الربانية ـ الحكم منها، لتقبل عليها العقول والقلوب عن بينة.. وفي ذلك منتهى الرحمة والحكمة والعدالة.. فالله برحمته لا يفرض علينا فرائضه كما يفرضها الملوك الذين يشتهون التسلط على غيرهم.. بل إن الله يأمرنا بما يرحمنا به، وبما ينفي وصول مضرة لنا.
لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا هذا، فقد ذكر مثلا حكمة اعتزال النساء في المحيض وذكر أنها دفع الأذى قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222)
وذكر حكمة تحريم الخمر، وأنه مع ما فيها من المنافع المتوهمة تحوي أضرارا أخطر من منافعها، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة:219)، ثم فصل في ذكر المضار الكثيرة التي استدعت تحريمها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:90 - 91)
وذكر حكمة تحريم الزنا، وأنها فحشه وسوء سبيله، ومفاسد مآله، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الاسراء:32)
وذكر حكمة تشريع الزواج وأنها السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
النبي المعصوم (124)
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)
قال نيكولاس: ولكن هذه التشريعات تجعل الإنسان في دائرة ضيقة لا تقل عن الدائرة التي يرسمها المستبدون.
ابتسم الحكيم، وقال: حتى ولو لم تتحكم فيه هذه الدائرة التي تتصور ضيقها، فستتحكم فيه دوائر أخرى شاء أم أبى.. حتى الخمر ـ التي تتصور أن تحريمها استبداد ـ لو تحرر أي شخص من استبداد تحريمها، فسيقع في استبداد شربها.. لعلك تعرف الإدمان، وتعرف المخاطر التي يجلبها لصاحبه.
ومع ذلك.. فإن الشريعة التي جاء بها الإسلام تقوم على التوسعة ورفع الحرج ليعيش الإنسان حياته الطبيعية على حسب ما تتطلبه الفطرة السليمة.
ولذلك ترى من قواعد الشريعة هذه القاعدة الذهبية (المشقة تجلب التيسير)، وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، و(والضرورة تقدر بقدرها)، و(العادة محكمة)
قال نيكولاس: أنا لي رأي في هذه القواعد التي ذكرتها.
قال الحكيم: يسرني سماعه.
قال نيكولاس: أرى أن الفقهاء الذين لاحظوا ضيق الشريعة وتشددها وعدم تناسبها مع الحاجات المختلفة للإنسان هم الذين راحوا ينسخون أحكامها بمثل هذه القواعد، كما فعل بولس عندنا في المسيحية.. أرى أن كلاهما مارس نفس السلوك.
ابتسم الحكيم، وقال: ما كان لفقهائنا أن يفعلوا هذا.. ولن يتركهم أحد لو فعلوه.. إن ما ذكرته لك هو ما دلت عليه النصوص المقدسة من الكتاب والسنة.
لقد قال تعالى يقرر تلك القواعد: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
النبي المعصوم (125)
مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)، وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:173)، وقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:145)
وبمثل ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم يقرر تلك القواعد: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة) (1)
فهذا الحديث يقرر قواعد كثيرة توهمت أنت أنها من صنع الفقهاء، فهو يقرر التيسير (إن الدين يسر).. ويقرر منع التشدد والمبالغة من غير موجب: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).. ويقرر ملازمة السداد والوسطية، أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط: (فسددوا).. ويحث على بلوغ الكمال: (وقاربوا)، أي اعملوا بما يقرب من الأكمل.. ويحث على دوام العمل وزيادته: (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي تصفه بالاستبداد لا يختار من الأمور إلا أيسرها ـ قالت عائشة: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده خادما قط ولا امرأة ولا شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا انتقم لنفسه من شئ يؤتى به إليه حتى تنتهك محارم الله فيكون هو ينتقم لله عزوجل، ولا خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الاثم) (2)، فهذا الحديث ينص على أن المختار في الشريعة هو التيسير والرفق والتخفيف في الأمور كلها ما لم يكن إثما.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: ومع ذلك كله، فإن الدين الذي أمر به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر به
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد وعبد بن حميد وابن عساكر.
النبي المعصوم (126)
كما أمر به لينين..
هنا لاحظت وجه نيكولاس، وقد تغير تغيرا شديدا، وكأنه كان يقصده.
قال الحكيم ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: لعلك تعرفه.. لا أظن إلا أنك تعرفه.. فإن شئت ذكرت لك بعض جرائمه وجرائم إخوانه من الذين تصوروا أنهم رحمة نزلت من السماء لتحمي الإنسان.
لقد وقع حوالي (60 - 65) مليونا من المسلمين تحت وطأة الثورة البلشفية، وهؤلاء المسلمون ينتشرون على أرض مساحتها أكثر من (15) مليون ميل مربع (أكثر من مساحة إفريقيا).
وبعد أن انتصر الشيوعيون ـ بأفكارهم التي أرادوا فرضها فرضا ـ حصدوا كل من خالفهم من المسلمين حصدا مريعا.. في تركستان الشرقية التي احتلتها الصين سنة (1934 م) ـ بمساعدة الجيش الأحمر الروسي ـ قتل (ربع مليون مسلم) من المفكرين والعلماء والشباب.
وعندما قامت الثورة الصينية سنة (1952 م) قتلت (122) ألفا من المسلمين.
وفي يوغسلافيا أباد تلميذ لينين المخلص تيتو بعد الحرب العالمية من المسلمين (24) ألفا.
قارن هذا مع الطريقة التي دعا بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دينه، والحرية التي أتاحها في تقبله، لقد قال الله تعالى موضحا دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} (الغاشية)
إن هذه الآيات الكريمة تبين دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودور كل مسلم في نشره لدينه ودعوته إليه.. إن دوره قاصر على التذكير والتنيبه والموعظة.. أما ما عدا ذلك فلله، فالله هو الهادي وهو المحاسب وهو المعاقب.. فهو وحده رب الدين.
لقد قال الله تعالى يبين للمسلمين أسلوب نشر الحقائق التي لا ينبغي أن تكون محل
النبي المعصوم (127)
اختيار: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125)
فالآية تأمر المؤمن بأن يقدم رأيه مدعما بما يراه من أدلة، ثم يترك الحرية للآخر بالاقتناع بقوله أو عدم الاقتناع.
سأنقل لك نموذجا عن أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الدين الذي جاء به لتقارن بين استبداد المستبدين وجدلهم وبين سلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكمته وعدله..
حدث جابر بن عبد اللّه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد: فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد اللّه؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قولك، إنا واللّه ما رأينا سِخَلَةً قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (فرغت؟)، قال: (نعم)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: {بسم اللّه الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت:2) حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله (1).
__________
(1) رواه البغوي في تفسيره، وقد روي أن عتبة بن ربيعة لما سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: (يا معشر قريش واللّه ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فقال أبو جهل: (يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد)، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمد أبداً، وقال: (واللّه لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب)
النبي المعصوم (128)
ليس ذلك فقط.. فالقرآن يخاطب المخالفين ليقول لهم بعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سبأ:24)
فهو في حواره مع المخالفين يعتبرهم مع المسلمين سواء في الهداية أو الضلال، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ:24)، فيجعل اختياره هو بمرتبة الإجرام على الرغم من أنه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل.
أما عن سلوكه صلى الله عليه وآله وسلم مع المخالفين.. بل مع من لا يكتفون بالمخالفة المجردة، بل يضيفون إليها تدبير المكايد لحرب الإسلام، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى، فسأذكر لك ثلاثة نماذج مختلفة عنها، لترى كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم متسامحا.. ولا يمكن أن يكون المستبد متسامحا.
أما النموذج الأول، فهو تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين، ونختار للدلالة على ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، قد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإليه يجتمعون، وكان في محل بحيث يخاف أي زعيم من أن ينقلب عليه.. فعندما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها لا يختلف عليه اثنان، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره حتى جاء الإسلام.
بل كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه، ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على ذلك فما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استلبه ملكا.. فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن.
النبي المعصوم (129)
وهو الذي أطلق تهديده في غزوة بني المصطلق، فقال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) (المنافقون:8)
وهو الذي نزلت فيه سورة كاملة تبين خصال المنافقين ومواقفهم.. ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم على قتله، ولا اغتياله كما يفعل ذلك كل الزعماء بمختلف الأساليب.
لقد جاءه جمع من الناس يطلبون أن يقتلوه لخيانته.. لكنه لم يأذن لواحد منهم.
بل إن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي تقدم طالبا أن يقتل أباه إن أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لاحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالديه مني، وما أكل طعاما منذ كذا وكذا من الدهر ولا شرب شرابا إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار.. وعفوك أفضل، ومنك أعظم)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عبد الله ما أردت قتله ولا أمرت به، ولنحسنن له صحبته ما كان بين أظهرنا)
ولم يكتف هذا الابن المؤمن بهذا، بل عجل بعد ما أطلق أبوه تهديده، فأناخ بجامع طرق المدينة ودخل الناس حتى جاء أبوه عبد الله بن أبي فقال: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمن اليوم من الأعز من الأذل.
فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن خل عنه حتى يدخل ففعل.
وعندما حضرت هذا المنافق الخائن الموت دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى بينهما كلام، فقال له عبد الله بن أبي: قد أفقه ما تقول، ولكن من علي اليوم وكفني بقميصك هذا وصل علي..
النبي المعصوم (130)
فكفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقميصه وصلى عليه (1).
وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)
التفت إلى نيكولاس، وقال: أنت ترى أن الآية لم تأمر بشيء مما يأمر به المستبدون.. لقد اكتفت بذكر الأحكام الشرعية التعبدية المحضة.. والتي يتصور هؤلاء أنها لا تضرهم ولا تنفعهم.
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النواحي الأخروية تعامل معهم برحمة لا نظير لها، فقد روي أنه لما نزل قوله تعالى فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم) (2)
وحينذاك نزل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (المنافقون:6)
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هل ترى هذا المنطق، وهذه النفس الطاهرة نفس مستبد؟
سكت نيكولاس، وقد تغير وجهه تغيرا شديدا، فقال الحكيم: أما النموذج الثاني، فهم اليهود.. ولاشك أنك تعرف اليهود، وتعرف ما أصابهم من إخوانك المسيحيين في جميع فترات التاريخ..
أما مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أتيح لهم من الحرية ما لم يكونوا يحلمون به، فلذلك راحوا يفعلون ما يحلوا لهم، ويقولون ما يحلو لا يخشون في ذلك لومة لائم (3).
__________
(1) رواه عبد بن حميد.
(2) رواه ابن جرير.
(3) سنرى التفاصيل المرتبطة بتعامل رسول الله (مع اليهود في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
النبي المعصوم (131)
لقد روى المفسرون بأسانيدهم في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91) أن رجلا من اليهود ـ يقال له مالك بن الضيف ـ جاء ومعه جماعة فخاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا له: يا أبا القاسم، ألا تأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا؟
فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنشدك الله بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟) وكان حبرا سمينا.. فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ.
فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فأنزل الله تعالى الآية (1).
التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن كل ما كان يجري بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد محاورات.. وبالرغم من سلاطة لسانهم، وبالرغم من قدرته صلى الله عليه وآله وسلم على استئصالهم في أي لحظة، لكنه لم يفعلوا إلى أن وصل الأمر إلى الحد الذي لا يصبر عنه.. لأن الصبر عنه سيؤدي إلى زوال الأمة التي أسسها محمد صلى الله عليه وآله وسلم (2).
سكت قليلا، ثم قال: أما النموذج الثالث، فهو تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع من وقع في أخطاء كبرى من أصحابه، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى.
ونختار لذلك نموذج حاطب بن أبي بلتعة.. وقصة ما وقع من خيانته حدثنا بها علي بن
__________
(1) رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن جرير.
(2) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
النبي المعصوم (132)
أبي طالب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا، فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق، ولا تقولوا إلا خيراً (1).
التفت إلى دوج، وقال: هل ترى أن المستبد يمكن أن يقف مثل هذا الموقف.
إن المستبد يقتل بمجرد الظنة والاتهام، وأنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه نبيا يوحى إليه لم يستدعه حتى ثبت له في الواقع وبالدليل القطعي ما صنعه.
والمستبد لا يترك الفرصة لمن يتهمه، وأنت ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف استمع له.
والمستبد أسرع الناس إلى السيف، وأنت ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف عفا عنه.
والمستبد ينكر كل جميل قدم له، وأنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف لم ينس فضل حاطب ـ مع خيانته ـ في موقفه من غزوة بدر.
وهكذا.. فهذه المواقف التي هي مجرد نماذج تحيل أن يكون في محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذرة مما في نفوس المستبدين.
قال رجل من الجمع: وعينا هذه الناحية، وأدركنا مدى العدالة التي تحويها.. وأدركنا السر
__________
(1) رواه البخاري.
النبي المعصوم (133)
الذي دعا إلى عدم استشارتنا فيها.. وأدركنا مدى الحرية التي أعطيت لنا خلالها.. فحدثنا عن الناحية الثانية.
قال الحكيم: لقد نص القرآن الكريم على وجوب الشورى في هذه الناحية، وأمر بها، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى:38).. لقد قرن الله تعالى الشورى في هذه الآيات بأمور كلها واجبة، بل كلها من أصول الواجبات، كالصلاة والزكاة والاستجابة لله.
بل إن الله تعالى في هذه الآية الكريمة فصل بين الصلاة والزكاة مع أن العادة هي الجمع بينهما، وقد فصل بينهما بالأمر بالشورى، لأنه لا يمكن أن تؤدى الزكاة أو أي شيء له علاقة بالمجتمع إلا بعد الشورى، حتى يمحص المحتاج من غير المحتاج.
قال نيكولاس: نحن لا نتحدث عن الإسلام.. بل نتحدث عن سلوك محمد.. فقد يأمر أحد من الناس غيره بالشورى من غير أن يمارسها.
قال الحكيم: إن كان هناك أحد في الدنيا يمكن وصفه بأنه أكثر الناس استشارة لغيره، فلن يكون ذلك إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
فمع أن الله أغناه بما يوحى إليه (1) إلا أنه كان يشاور في الصغير والكبير تنفيذا لما دعاه الله إليه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159)
وقد ذكر بعض الصحابة كثرة استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فقال: ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).
بل إنه كان يستشيره حتى في شؤونه الخاصة، فقد روي أن قيصر أهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) روى سعيد بن منصور ابن المنذر عن الحسن في الاية قال: قد علم الله أن ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد ليستن به من بعده.
(2) رواه ابن أبي حاتم والخرائطي.
النبي المعصوم (134)
جبة من سندس، فاستشار أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، نرى أن تلبسها، يكبت الله بها عدوك، ويسر المسلمين، فلبسها، وصعد المنبر فخطب وكان جميلا يتلألأ وجهه فيها، ثم نزل فخلعها، فلما قدم عليه جعفر وهبها له.
أما في الشؤون العامة، فلم يترك الشورى في أي موقف من المواقف.. بل إنه كان يتوجه بطلب الشورى للناس جميعا لا لمجلس معين، ولا لناس مخصوصين.. وفوق ذلك يتنازل في أحيان كثيرة لما يراه غيره مع مخالفته لرأيه.
ففي غزوة بدر، وهي أول معركة يخوضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين تجلت الشورى بأعمق صورها وفي جميع مجالاتها.
ففي البداية استشارهم صلى الله عليه وآله وسلم في دخول المعركة، وعدم دخولها (1).. ثم استشارهم في المحل الذي ينزلون فيه.. ثم استشارهم فيما نتج عن المعركة من الأسرى:
أما الأول، فقد روي أنه لما علم صلى الله عليه وآله وسلم بخبر مسير قريش، ليمنعوا عيرهم، استشار الناس، فتكلم المهاجرون.. ثم قام المقداد، ققال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن اذهب أنت ربك، فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه.
وقد كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتفي بهذا.. فقد سكت الجميع بعد أن تكلم هؤلاء، وحصل بسكوتهم الإجماع السكوتي، وهو إجماع معتبر عند الجميع، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف به، بل راح يستشيرهم، ففهمت الانصار أنه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، كأنك
__________
(1) ذكر الحافظ في الفتح الروايات الواردة في هذا، ثم قال: ويمكن الجمع بأن النبي (استشارهم في غزوة بدر مرتين: الاولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم، والثانية: بعد أن خرج كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، وحيئذ قال سعد بن معاذ ما قال.
النبي المعصوم (135)
تعرض بنا.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعنيهم لانهم بايعوه على أن يمنعوه من الاحمر والاسود في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض لما أردت، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الانصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لامرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان (1) لنسيرن معك، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك، ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فسر بنا على بركة الله، فنحن عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون)
فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسر بقول سعد، وحين رأى صلى الله عليه وآله وسلم موافقة الجميع، أعلن بدء الحرب، فقال: (سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم) (2)
انتفض نيكولاس قائلا: ولكن.. ألم تسمع بأن هناك مخالفين رغبوا في العير، ولم يرغبوا في النفير؟
قال الحكيم: صدقت.. لقد ذكرهم أبو أيوب، فقال: لما سرنا يوما أو يومين قال لنا رسول
__________
(1) وفي رواية: برك الغماد من ذي يمن.
(2) انظر: البيهقي في الدلائل، وغيره.
النبي المعصوم (136)
الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟)، فقلنا: والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكن أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك، وذكر الحديث فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (لأنفال:5) (1)
قال نيكولاس: فكيف سار محمد إذن وخالف ما ذهب إليه هؤلاء؟
قال الحكيم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض على أي أحد من الناس الخروج.. حتى هؤلاء الذين لم يعجبهم ذلك، لم يقهرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه.. ولم يقل لهم بعد أن وافقت الأغلبية العظمى على الخروج: اخرجوا معي.. بل ترك لهم حرية الاختيار.. ولم يفعل ذلك في ذلك الوضع الصعب غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال رجل من الجمع: عرفنا استشارته للخروج للمعركة، فكيف استشارهم في خطتها؟
قال الحكيم: عندما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحل بمكان ظن أنه المكان المناسب، جاءه رجل من عامة المسلمين، هو الحباب بن المنذر، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.
قال رجل من الجمع: لقد سبق أن ذكرت هذا.. فكيف استشارهم فيما نتج عن الغزوة؟
قال الحكيم: أنتم تعلمون أن الله نصر المسلمين في غزوة بدر، وقد كان من مظاهر انتصار المسلمين في تلك الغزوة أن الله أمكنهم من كثير من أعدائهم الذين كانوا يسومونهم سوء
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
النبي المعصوم (137)
العذاب.. وكان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يفكر تفكير مستبد أن يبت فيهم بأمره، أو أن يقتلهم ليشفي غليله منهم، ولكنه لم يفعل.. بل استشار المسلمين في شأنهم..
سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة أحد شاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأى أكثريتهم، مخالفا لرأيه، مع أنهم تنازلوا بعد ذلك عما ذهب إليه من رأي مراعاة لرأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد روي أنه لما قصد أبو سفيان وأصحابه المدينة يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر، وهي مصيبة (1)، ورأيت بقرا تذبح، وهي مصيبة، ورأيت علي درعا وهي مدينتكم لا يصلون إليها، إن شاء الله تعالى) (2)
وبعد أن قص عليهم ما رأى من الرؤيا قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، ونجعل النساء والذرية في الآطام، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة فنحن أعلم بها منهم، ورموا من فوق الصياصي والآطام)، وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن.
وكان هذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأي الاكابر من المهاجرين والأنصار، وكان عبد الله بن أبي المنافق يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن جماعة من المسلمين غالبهم أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو، وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يوم أحد قالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة، ولا تخرج، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن
__________
(1) روى البيهقي عن ابن شهاب قال: يقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه.
(2) رواه الطبراني والبزار.
النبي المعصوم (138)
رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فقال حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل، فظفرك الله تعالى عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله تعالى به، فساقه الله تعالى إلينا في ساحتنا.
وقال إياس بن أوس بن عتيك: نحن بنو عبد الأشهل، إنا لنرجو أن نكون البقر المذبح.
وقال غيره: هي إحدى الحسنيين: الظفر أو الشهادة، والله لا تطمع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.
وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.. وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما.
وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لمه؟) قال: لأني أحب الله تعالى ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صدقت) (1)
وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك وجماعة على الخروج للقتال.
فلما رأى صلى الله عليه وآله وسلم رغبتهم في القتال خارج المدينة، صلى صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة بالناس ـ وكان ذلك اليوم يوم جمعة ـ ثم وعظهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشر كثير.
ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته، وقد صف الناس له بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه،
__________
(1) وقد استشهد يومئذ
النبي المعصوم (139)
فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، فقالا للناس: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم به فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه.
فبينما هم على ذلك إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم، واعتم، وتقلد السيف.
وندم الناس على إكراهه، فقالوا: يا رسول الله استكرهنا، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذ لبس لامته أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.. انظروا ما أمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله تعالى، فلكم النصر ما صبرتم) (1)
التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتنازل في هذا الأمر الخطير إلى رأي أصحابه مع يقينه بما لرأيه من مصداقية.
بل إنك ترى كيف أنه ـ مع تنازلهم عن آرائهم لرأيه ـ لم يتحين الفرصة، فيمضي رأيه.
سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة الأحزاب تلك الغزوة التي تعرض فيها المسلمون إلى أخطر ما تعرضوا له.. فقد كادت الأحزاب تستأصلهم.. أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصالحة غطفان لما بلغه نقض بني قريظة العهد.
وقد أرسل ـ لأجل ذلك ـ إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، فلما جاءا في عشرة من قومهما قال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيتما إن جعلت لكما ثلث تمر المدينة أترجعان بمن معكما، وتخذلان بين الأعراب؟)، فقالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة والدواة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير
__________
(1) رواه ابن عتبة وابن إسحاق وابن سعد وغيرهم.
النبي المعصوم (140)
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه الرمح، ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعيينة بن حصن ماد رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم ما يريدون قال: يا عين الهجرس اقبض رجليك، أتمدهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ والله لولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتلتك بهذا الرمح!
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك، فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما، والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما الخبر.
فقالا: يا رسول الله، إن كان الأمر من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فامض له سمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف.
وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله تعالى ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا!؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت وذاك.
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا (1).
__________
(1) رواه ابن إسحق وغيره، وقد روي أن غطفان هي التي طلبت المصالحة، فقد روى البزار والطبراني عن أبي هريرة قال: جاء الحارث إلى رسول الله (، فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملاتها عليك خيلا ورجالا، فقال: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم رسول الله (في ذلك، فقالوا: لا، والله ما أعطينا الدينة في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله تعالى بالاسلام، فرجع إلى الحارث فأخبره، فقال: غدرت يا محمد.
النبي المعصوم (141)
سكت قليلا، ثم قال: وفي حصاره الطائف.. وبعد أن مضت خمس عشرة من حصارها، استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوفل بن معاوية الديلي، فقال: (يا نوفل ما ترى في المقام عليهم)، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك (1).
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأيه، وأمر الناس بالرجوع.
قال ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يبت أمرا من أمور الحرب، والتي هي أخطر الأمور، إلا استشار فيه، بل يتنازل عن رأيه لما يراه غيره.. فهل يمكن لمستبد أن يفعل مثل هذا؟
قال نيكولاس: لقد وعيت هذا، وتقبلته، ولكن ألا ترى نبيكم يستشير الرجل فقط، ولا يعتبر النساء.. ألستم تقولون: (شاوروهن وخالفوهن) (2)؟
ابتسم الحكيم، وقال: إن كان أحد من الناس قال هذا، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله.. وكيف يقوله، وهو الذي لم يفرق بين رجل وامرأة في أي شيء؟
وكيف يقوله، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرهن، ويقبل مشورتهن، ففى (الحديبية) شاور أم سلمة في امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح، فقد عز عليهم ذلك بعد نية العمرة، فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلل من إحرامه أمامهم دون أن يتكلم، فما أن رأوه فعل ذلك، حتى بادروا إلى الاقتداء به.
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: وأزيدك شيئا ـ قد لا يستطيع عقلك أن يهضمه، ولكني
__________
(1) رواه محمد بن عمر، وانظر تفاصيل الحصار والحكمة من الرجوع في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
(2) روي هذا الحديث، وهو موضوع باتفاق المحدثين، ومثله ما روي عند العسكري من حديث حفص بن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: قال عمر: خالفوا النساء، فإن في خلافهن البركة، بل يروى في المرفوع من حديث أنس: لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير، فإن لم يجد من يستشير، فليستشر امرأة، ثم ليخالفها، فإن في خلافها البركة، وقد أخرجه ابن لال، ومن طريقه الديلمي من حديث أحمد بن الوليد الفحام، حدثنا كثير بن هشام، حدثنا عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن عمر بن محمد عنه به، وعيسى ضعيف جداً مع انقطاع فيه. (انظر: تذكرة الموضوعات: 128)
النبي المعصوم (142)
أقوله لتعرف شمول الشورى التي كان يمارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله سبحانه تعالى أرسل إلي ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل عليه السلام، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا، لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) (1)
بعد أن لم يجد نيكولاس ما يعترض به على الشورى التي كان يمارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع المجالات راح يقول: ولكن ممارسة الشورى وحدها لا تنفي الاستبداد، فقد يشاور المستبد مستبدين مثله، فيمارس من خلالهم ما تهواه نفسه من الاستبداد.
قال الحكيم: صدقت في هذا.. جزاك الله خيرا..
كان لهذا الدعاء تأثيره الشديد في نفس نيكولاس الذي أشرق وجهه بعد أن كان كالحا.
واصل الحكيم حديثه يقول: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن المستبدين قد يتخذون وزراء يعينونهم على استبدادهم.. وقد ذكر القرآن من نماذج ذلك فرعون الذي قال له ملؤه الذين كانوا مستشاريه: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} (الأعراف:127)
قال نيكولاس: فأنت توافقني فيما أقول إذن؟
قال الحكيم: لو وافقتك حقائق التاريخ لوافقتك.. فهلم جميعا نسأل التاريخ عن موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العدالة التي هي نقيض الاستبداد.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أتدري من أولهم؟
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: لقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إمامٌ عادلٌ)، وذكر صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.
النبي المعصوم (143)
(أن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (1)، فأنت ترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يعمم معنى العدالة لتشمل كل شيء.
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ (2).
فهل يمكن لنبي يدعو إلى مثل هذا، ويأمر بمثل هذا أن يجور!؟
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: شيء آخر كان يفعله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا، وهو دليل من دلائل انتقاض ما ترميه به من استبداد، وهو تخييره صلى الله عليه وآله وسلم لرعيته بين الاحتمالات المختلفة، ثم قبول ما تختاره منها، أو يترك لكل شخص ما اختاره منها.
وسأقتصر لك من التاريخ مثلين أختم بهما:
أما الأول، فهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما غنم غنائم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: ادع لي قومك، قال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الانصار كلها)، فدعا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإيثارهم على أنفسهم، ثم قال: (إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله تعالى علي بن بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم)
فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وجزاهما خيرا، فقالا: (يا رسول الله بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا)
ونادت الانصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
النبي المعصوم (144)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار) (1)
وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
أما النموذج الثاني فإنه بعد غزوة هوازن، وبعد أن أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد السبي إلى أهله عرض على الناس المسألة، وخيرهم في ذلك، فعن المسور ومروان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام في المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد فان إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أراد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول فئ يفيئه الله علينا فليفعل)، فقال الناس: قد طبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم (2).
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله.
فقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.
وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنوا سليم فلا.
فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أمسك
__________
(1) فقسم رسول الله (ما أفاء الله تعالى عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدا من الانصار من ذلك الفئ شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم.
(2) رواه البخاري.
النبي المعصوم (145)
منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ يفيئه الله)، فرد المسلمون الى الناس نساءهم وأبناهم.
-\--\-
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيكولاس إيلمنسكي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي المعصوم (146)
في مساء اليوم الثالث.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (روبرتو كالديرولي) (1).. الرجل الذي احترق في أتون الشيوعية إلى أن ذاب فيها، وذابت فيه.. فصار وكأنه يمثلها، وصارت وكأنها تمثله.. ولكنه جاء بغير الصورة التي ذهب بها.
لقد رأيته عندما ذهب صباحا إلى ميدان الحرية نشيطا، يختال في مشيته جذلا، وكأنه يحمل المدفع الذي يقضي به على ما عجز غيره أن يقضي عليه.
وكان يسير، وهو يردد الآيات التي يريد أن يلقي بقنابلها على الجمع.. ويحفظ معها الروايات التي تقضي على ما تبقي.
لقد ذهب بذلك النشاط في الصباح.. ولكنه عاد خائر القوى في مساء ذلك اليوم.. فابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
__________
(1) أشير به إلى وزير الإصلاح الإيطالي المتطرف (روبرتو كالديرولي) الذي ارتدى بصورة استفزازية قمصانًا مطبوع عليها الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي (في خطوة استفزازية وتحدٍ سافر للمسلمين، بعدما دعا قبل أيام لشن 'حملة صليبية' ضد الإسلام.
ونقلت وكالة أنباء (أنسا) الإيطالية عن (كالديرولي) ـ عضو حزب رابطة الشمال المعادي للأجانب، وخصوصًا المسلمين ـ قوله: (لدي قميص مطبوعة عليه الرسوم التي أزعجت الإسلام، وسوف أبدأ في ارتدائها اليوم)
وأضاف الوزير المتطرف أن على الغرب أن يقف ضد من أسماهم (المتطرفين الإسلاميين)، على حد وصفه، وعرض أن يقدم القمصان لأي شخص يريدها، وزعم أن القمصان ليس المقصود بها الاستفزاز.
وواصل كالديرولي ادعاءاته قائلاً: علينا أن نضع حدًا لهذه الرواية، بأننا يمكن أن نتحدث مع هؤلاء الناس، إنهم يريدون فقط إذلال أشخاص، وهذا كل ما هنالك، وماذا نصبح الآن، حضارة الزبدة المنصهرة.
يشار إلى أن الوزير الإيطالي المتطرف والمعروف بحملاته ضد المسلمين كان قد دعا إلى استخدام القوة ضد المسلمين، وطالب بتدخل بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر لتنظيم حملة صليبية جديدة ضد الإسلام.
وحزب رابطة الشمال الذي ينتمي إليه كالديرولي معروف بمعاداتها للأجانب والمسلمين، وقد سعى لاستثمار جريمة الصحف الغربية في التطاول على محمد (لترويج البرنامج اليميني المتطرف للحزب، قبل شهرين من الانتخابات التشريعية في إيطاليا.
النبي المعصوم (147)
نظر إليهم بابتسامة ذابلة، وقال: ربما.. طبعا.. لولا ذلك الرجل الذي يدعونه حكيما لكانت كل النتائج إيجابية.. لكن.. مع ذلك.. لا يمكن.. حتما.
وضع رجل من الجماعة يده على رأس روبرتو، فوجد الحمى بدأت تتسرب إليه، فالتفت إلى الجماعة، وقال: لا ينفع استجواب صاحبنا، فقد دبت إليه حمى شديدة.. ولن نسمع من محموم إلى الهذيان.
أخذ أخي القرص.. ووضعه في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:
رأينا روبرتو يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟
قال رجل من الجمع: وكيف لا نعرفه؟.. ومن لا يعرفه؟
وقال آخر: إن كان لديك حديث عنه، فحدثنا، فلا تحلو المجالس إلا بذكره، ولا تتعطر الأيام إلا بذكراه.
هنا صاح روبرتو كالثور الهائج قائلا: كيف تقولون هذا؟.. إن محمدا هذا الذي سلب عقولكم لا يعدو أن يكون مستكبرا من المستكبرين العظام الذين تشوه بهم تاريخ الإنسانية.. إنه عدو الفقراء والمستضعفين.. إنه ذلك البرجوازي الذي أراد أن تظل البروليتاريا تقدم خدماتها للرأسماليين النفعيين.. إنه الذي سقى المستضعفين الأفيون الذي تخدروا به، فانمحوا أمام المستكبرين.
ظهر الغضب على كثير من أفراد الجماعة، لكنهم لم يجدوا أن يفعلوا شيئا، فهذا الميدان يسمح لكل أحد أن يقول ما يشاء، ويعتبر مجرما كل من مس أحدا بأذى من أجل فكرة يطرحها.
هنا ظهر الحكيم، وصاح من بعيد في زميلنا (روبرتو) قائلا: لقد طرحت دعاوى عريضة.. ربما لم تسبق إليها.. ونحن نحترم دعاواك ولا نتهمك فيها.. ولكنا لن نقبلها منك حتى تعطينا من البينات ما يدل عليها فـ:
النبي المعصوم (148)
الدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
لم يعجب روبرتو الأسلوب الذي تحدث به الحكيم، فقد كان يحب الثورة، ولم يكن يعرف الانتصار إلا بالثورة، لكنه قال بهدوء متكلف: نعم.. لدي بينات.. وبينات كثيرة لا يمكن لهذا الجمع أن يستوعبها.
وسأبدأ من القرآن نفسه.. فخير من عرف بمحمد هو القرآن..
لقد جاء فيه هذا العتاب الشديد على ميل محمد إلى المستكبرين وهجره للمستضعفين: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:1 ـ 10)
فهذه الآيات تتحدث عن قصة محمد مع ابن أم مكتوم، وقد ذكر المفسرون أن محمدا كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل محمدا عن شيء ويلح عليه.. ولم يجد محمد إلا أن يعرض عنه.. أن يعرض عن ذلك المستضعف ليقبل على غيره من المستكبرين (1).
__________
(1) اختلف المفسرون فيمَن هو المعاتب في الآيات الكريمة على رأيين:
الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه (وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.. وكان رسول اللّه (بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: (مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي)، ويقول له: (هل لك من حاجة).استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين)
الثاني: ما روي عن الإمام الصادق: (إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه) (تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.
وقد قال ناصر مكارم الشيرازي عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي (والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:
أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه (بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.
ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ (عبد اللّه بن اُم مكتوم) لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي (مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.
ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي (، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي (صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه...
ومن مكارم خلقه (كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.
وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل: ج 19، ص 412)
النبي المعصوم (149)
أليس في هذا أعظم دليل على استكبار محمد؟
قال الحكيم: أرأيت لو كنت في ذلك الموقف ماذا كنت ستصنع؟
قال روبرتو: لا شك أني أقبل على المستضعف.. وأصفع ذلك المستكبر.
قال الحكيم: ألا ترى أنك ـ بذلك ـ تمارس عنصرية مقيتة؟
قال روبرتو: عندما أميل إلى المستكبر تكون العنصرية.. لا عند ميلي للمستضعف.
قال الحكيم: كلاهما سواء.. المستكبر والمستضعف كلاهما بشر.. وكلاهما يحتاج إلى التعرف على الحق.. بل إن حاجة المستكبر أشد، فقد يكون الحائل بينه وبين الحق شبهة أو شهوة أو جهل.. وإقبالك عليه قد يداويه من كل ذلك.
قال روبرتو: ولكني لن أفعل أبدا مثل محمد.. لن أترك المستضعف من أجل المستكبر.
قال الحكيم: إن محمدا لم يترك المستضعف.. وإنما طمع في المستكبر.
النبي المعصوم (150)
لقد كان يعلم أن المستضعف من أتباعه، وأنه ـ لذلك ـ يمكنه أن يتعلم منه في أي وقت.. أما المستكبر، فلم يكن من أتباعه، ولذلك لا مطمع في سماعه منه إلا الفينة بعد الفينة.
قال روبرتو: فلم عاتب ربكم محمدا إذن؟
قال الحكيم: العتاب الموجه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم - في حال صحة ما رويت- هو في حقيقته توبيخ لذلك المستكبر.. فهو توبيخ لبس لباس عتاب.. ولم يكن العتاب مقصودا لذاته.
قال روبرتو: لم أفهم.
قال الحكيم: أرأيت لو أنك جلست مع أحمق تريد أن تقنعه بشيء، وهو يجادلك فيه.. فجاءك صديق، وقال لك ـ وذلك الأحمق يسمع ـ: (لم تضيع وقتك في الحديث مع مثل هذا.. إن الحديث مع هذا مضيعة للوقت).. هل ترى في كلامه عتابا لك، أم تراه توبيخا لذلك الأحمق؟
قال روبرتو: أرى فيه كليهما.
قال الحكيم: ولكن العتاب الموجه إليك في هذا عتاب منطلق من محب لك.. أم أنك تخالفني في هذا؟
قال روبرتو: أجل.. ذلك صحيح.. فلولا محبته لي ما نهاني عن تضييع وقت مع من لا يجدي معه حديثي شيئا.
قال الحكيم: فهكذا قس الأمر على حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك المستكبر.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم امرؤ امتلأ محبة لخلق الله وحرصا عليهم.. فلذلك لم يكن يحمل أي حقد على أي أحد من الناس مستكبرا أو مستضعفا.. بل كان يبلغ الكل.. ويحرص على الكل..
لقد قال له ربه يعاتبه على ذلك الحرص الشديد على إيمان الخلق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6)، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا
النبي المعصوم (151)
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)
ونهاه أن يحزن على إعراضهم، فقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:176)، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:41)، وقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لقمان:23)
قال روبرتو: سلمت لك بهذا.. ولكني لن أسلم لك بأن محمدا كان في صف المستضعفين.
قال الحكيم: إن هذا يستدعي بحثا في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه المختلفة.. وأرى أن المنهج العلمي في التحقيق في هذا يقتضي البحث في مسألتين:
أما الأولى، فالبحث في موقفه من المستضعفين.
وأما الثانية، فالبحث في نوع الحياة التي عاشها، وهل هي أقرب لحياة المستضعفين أم هي أقرب لحياة المستكبرين.
قال روبرتو: يكفيني أن تثبت الأولى.
قال الحكيم: بل الكمال في إثبات الثانية، فكم من مستكبر يدعي أنه مع المستضعفين، وهو يعيش على دمائهم وعرقهم.. وكم من مستكبر يجعل من نصرة المستضعفين أحبولة يصطاد بها القلوب والعقول ليحقق ما تمليه عليه شهواته.
قال روبرتو: ليس الشأن أن نعرف القوانين.. ولكن الشأن في أن نثبتها.
النبي المعصوم (152)
قال الحكيم: فاصبر علي حتى أثبت لك كل ذلك (1).
قال روبرتو: فابدأ بإثبات الدعوى الأولى.
قال الحكيم: أول ما يثبت الدعوى الأولى هو ما ذكرت من عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ذلك الأعمى.. ألا ترى في إنزال عشر آيات قرآنية من أجل رجل بسيط فقير أعمى قلاه الناس وهجروه ما يدلك على عظم المكانة التي يحتلها الفقراء والمستضعفون في هذا الدين؟
سكت روبرتو، فقال الحكيم: ومثل ذلك ما روي أن المشركين عز عليهم أن يكون عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضعفاء الناس وفقراءهم، فقالوا: لو نحاهم لأتيناه فأنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)
ومثل ذلك ما ورد من الأمر بالصبر مع هؤلاء المستضعفين مع طيب الثناء عليهم، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)
ثم بعد هذا.. اذهب لتقرأ القرآن.. وقد كان خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن.. فلن تجد فيه إلا الأمر بالإحسان للمستضعفين والدعوة إلى رحمتهم، وبيان العذاب الأليم لمن قسى عليهم.
اقرأ في القرآن قوله تعالى وهو يحث على الجهاد والتضحية بالنفس في سبيل نصرة المستضعفين: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ
__________
(1) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.
النبي المعصوم (153)
لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
واقرأ فيه تلك الوصايا المتكررة بالمستضعفين، قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء:127)، وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الاسراء:34)
واقرأ فيه تلك الوصايا الرقيقة باليتامى قال تعالى: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر:17)، وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} (الضحى:9)
بل إن القرآن الكريم اعتبر من يؤذي اليتيم مكذبا بالدين، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} (الماعون)
فإن لم يكفك كل هذا، فاذهب إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف حضت على الإحسان للمستضعفين وكفالة جميع ما يرتبط بهم من حاجات بدءا بالحاجات النفسية، وانتهاء بجميع الحاجات المادية.
قال أبو ذر: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني، وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحدا شيئا، وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، فانها من كنز الجنة) (1)
وعنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انظر أرفع رجل في المسجد)، قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة قلت: هذا قال: قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، قال: فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق قال: قلت: هذا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض
__________
(1) رواه أحمد والطبراني.
النبي المعصوم (154)
مثل هذا) (1)
وعن مصعب بن سعد قال رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) (2)
وعن واثلة بن الأسقع قال: كنت في أصحاب الصفة فلقد رأيتنا وما منا إنسان عليه ثوب تام وأخذ العرق في جلودنا طرقا من الغبار والوسخ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ليبشر فقراء المهاجرين، إذ أقبل رجل عليه شارة حسنة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرف قال: (إن الله عز وجل لا يحب هذا وضربه، يلوون ألسنتهم للناس لي البقر بلسانها المرعى كذلك يلوي الله عز وجل ألسنتهم ووجوههم في النار) (3)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) (4)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله دينارا لم يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه فلو سأل الله الجنة أعطاها إياه ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) (5)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك)، ثم نقر بيده، فقال: (عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه) (6)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد
__________
(1) رواه أحمد بأسانيد رواتها محتج بهم في الصحيح وابن حبان في صحيحه.
(2) رواه البخاري والنسائي وعنده فقال النبي (: (إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)
(3) رواه الطبراني بأسانيد أحدها صحيح.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح.
(6) رواه الترمذي.
النبي المعصوم (155)
محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار) (1)
التفت الحكيم إلى روبرتو، وقال: إن كل هذه النصوص ملأت نفوس المستضعفين قوة، فلم يعودوا يشعرون بتلك المهانة ولا ذلك الاحتقار الذي نفخه فيهم فقرهم، أو القوانين والأعراف التي وضعها المستكبرون والتي كانت تعتبر الفقر بلاء وإهانة من الله لعباده.
قال روبرتو: ولكن المعنويات المرتفعة لا تكفي وحدها لإشباع بطون المستضعفين الخاوية؟
قال الحكيم: ولذلك ورد في النصوص الحث ـ بكل الأساليب ـ على إطعام المستضعفين.. لقد ذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل طعام لا يحضره مسكين، فقال: (شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها) (2)
أما القرآن، فقد حفل بالدعوة إلى إعطاء {ِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ((لأنفال:41) وغيرهم من أصناف المستضعفين.
ففي أموال الفيئ يقرن المستضعفون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته، قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ((الحشر:7)
ويخبر تعالى أن من شروط مجاوزة العقبة التي تحول بين الإنسان وفضل الله الإحسان إلى اليتامى، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة} (البلد:11 ـ 15)
بل إن الله تعالى ـ من باب الحث على الاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه ـ يخبرنا عن إيوائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يتيما، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ((الضحى:6)
أما من السنة، فقد وردت النصوص الكثيرة التي تعتبر الإحسان إلى اليتامى من خير أعمال
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
النبي المعصوم (156)
البر، فخير بيوت المسلمين بيت يكفل يتيما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه) (1)
بل إن المسح على رأس اليتيم عطفا وحنانا ورحمة يكتب لصاحبه بكل شعرة حسنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كانت له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات) (2)، بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بأن الساعي عليهم كالمجاهد والقائم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر) (3)
وأول جزاء يجازى به المحسن لليتيم أنه في حال إحسانه يبتعد عنه الشيطان، وبابتعاده تحل البركة، وينزل الخير، كما روي: (ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان) (4)
ومن الجزاء الذي يجازى به المحسن المغفرة، هي من أعظم الجزاء، وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم ما أعده الله لكافل اليتيم منها، فقال: (من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه) (5)
وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعذب من رحم اليتيم، وفيه دلالة على مغفرة ذنوبه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم
__________
(1) رواه ابن ماجه.
(2) رواه أحمد وغيره.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه والطبراني في الأوسط وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وهناك حديث آخر قريب منه هو (ما من مائدة أعظم بركة من مائدة جلس عليها يتيم) رواه لديلمي.
(5) رواه ابن سعد، والطبراني في الكبير.
النبي المعصوم (157)
يتمه وضعفه، ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله) (1)
وأخبرت النصوص أن جزاء المحسن لا يتوقف عند ذلك الحد، بل إن الإحسان إلى اليتيم لا يزال بصاحبه حتى يدخله الجنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له) (2)، وفي رواية: (حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة)
بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المحسنين إلى اليتامى من أول من يدخلون الجنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول ما لك ومن أنت؟ تقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) (3)
وفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا الجزاء في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ((الانسان:8)، فقد ذكر قبل هذه الآية الجزاء المعد هؤلاء، وهو من أعظم الجزاء، قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ((الانسان:5 ـ 6)
بل ورد في النصوص ما هو أعظم من ذلك كله، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن كافل اليتيم رفيقه في الجنة بصيغ مختلفة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما) (4)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة) وأشار بالسبابة والوسطى (5)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كفل يتيما له ذو قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو في الجنة كهاتين وضم إصبعيه، ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة، وكان له كأجر المجاهد في سبيل الله صائما
__________
(1) رواه الطبراني.
(2) رواه الترمذي وصححه.
(3) رواه أبو يعلى بسند حسن.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه مسلم.
النبي المعصوم (158)
قائما) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة أخوان، كما أن هاتين أختان، وألصق إصبعيه السبابة والوسطى) (2)
والشريعة الإسلامية لم تترك كل ذلك لضمائر الناس، وإنما شرعت التشريعات الكثيرة التي تكفل التكافل الاجتماعي في أرفع صوره وأرقى أساليبه مما لم يصل إليه البشر في أي حضارة من الحضارات (3).
قال رجل من الجمع: لقد أثبت الدعوى الأولى، فأثبت الثانية.
قال الحكيم: كل شيء في الأولى يدلك على الثانية.. فالرجل الذي دافع كل ذلك الدفاع عن المستضعفين.. بل لم يقم في العالم من يدعو لدولة المستضعفين كمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لم يكن في حياته يعيش إلا كواحد منهم.
لقد امتلأ بالعبودية التي قربته من كل الناس، فقيرهم وضعيفهم ومسكينهم ومريضهم.. وكل من هجره الناس وجد في محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصدر الحنون الذي يستقبله ويرعاه ويملؤه بالأنس.
لقد خير صلى الله عليه وآله وسلم بين حياة الكبراء الملوك، وبين حياة العبودية، فاختار حياة العبودية:
روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو جالس، ومعه جبريل - عليه السلام -، إذ انشق أفق السماء، فأقبل جبريل يدنو من الأرض، ويدخل بعضه في بعض، ويتضاءل، فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول
__________
(1) رواه البزار.
(2) رواه ابن ماجه.
(3) انظر في تفاصيل هذا رسالتي (كنوز الفقراء) و(مفاتيح المدائن) و(رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.
النبي المعصوم (159)
الله صلى الله عليه وآله وسلم (1)، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى جبريل - عليه السلام - كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا)
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة بعد أن أخبرها هذا الحديث: (يا عائشة لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) (2)
وقد عرفه الناس بهذا المظهر الممتلئ بالعبودية، عن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ (3).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الظهور بهذا المظهر الذي يقربه من الكل يتعمد على أن يتميز عن المستضعفين بأي شيء يجعله يهابونه:
ففي الوقت الذي يحرص فيه المستكبرون على تخير المراكب وتزيينها لبث المهابة في القلوب (4) كان صلى الله عليه وآله وسلم يركب أبسط المراكب.. والتي يستحيل على المستعلين أن يركبوها:
عن أبي ذر قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمارا وأردفني خلفه (5).
__________
(1) في لفظ: إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي (ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل - عليه السلام -.
(2) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.
(3) رواه ابن سعد.
(4) ويشير إلى ذلك قوله تعالى حكاية عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص:79)
(5) رواه أحمد ومسلم.
النبي المعصوم (160)
وعن يزيد الرقاشي قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، وقال: (اللهم حجة مبرورة، لا رياء فيها، ولا سمعة) (1)
وعن أنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقود راحلته، ويمشي هنيهة (2).
وعن أبي المثنى الأملوكي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قبله من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يمشون على العصا، يتوكئون عليها، تواضعا لله عز وجل (3).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويردف بعده، ويجيب دعوة المملوك (4).
وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعقل الشاة، ويأتي مدعاة الضعيف (5).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف (6).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة، وذقنه على رحله متخشعا (7).
وعنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعا (8).
وروي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمار، وهو يمشي، فقال له: اركب يا رسول الله،
__________
(1) رواه الحارث بن أبي أسامة.
(2) رواه بقي بن مخلد.
(3) رواه ابن الأعرابي.
(4) رواه ابن سعد.
(5) رواه الحاكم.
(6) رواه الترمذي.
(7) رواه الحاكم.
(8) رواه أبو يعلى.
النبي المعصوم (161)
فقال: (إن صاحب الدابة أحق بصدر دابته، إلا أن يجعل له)، قال: قد فعلت (1).
وفي الوقت الذي يحرص فيه المستكبرون على أجمل الثياب وأغلاها كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخير أبسطها، وأقربها إلى ثياب الفقراء:
عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر) (2)
وروى عن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي مع أصحابه إذ أخذ رجل منهم، فستره بثوب فلما رأى ما عليه، رفع رأسه، فإذا هو علاه قبلي ستر، فقال: (مه)، فأخذ الثوب، فوضعه، وقال: (إنما أنا بشر مثلكم) (3)
وفي الوقت الذي يتخبر فيه المتكبرون جلساءهم وندماءهم كان صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع المستضعفين من الفقراء والمرضى الذين قلاهم الناس:
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه) (4)
وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما (5).
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم
__________
(1) رواه الحاكم.
(2) رواه ابن عدي.
(3) رواه ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي.
(4) رواه أبو داود والترمذي.
(5) رواه الدارمي.
النبي المعصوم (162)
من حاجاتهم (1).
عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة) (2)
وعن أنس قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها (3).
وعن عدي بن حاتم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر (4).
وعن أنس قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة (5).
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم (6).
وعندما لاحظ العباس ما يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك قال له: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني
__________
(1) رواه الخرائطي.
(2) رواه ابن ماجه.
(3) رواه أحمد ومسلم.
(4) رواه البخاري في الأدب.
(5) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.
(6) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.
النبي المعصوم (163)
منهم) (1)
وفي الوقت الذي تقام فيه للمستكبرين الموائد الضخمة كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ببساطة وتواضع.
عن عبد الله بن عمرو قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئا، ولا يطأ عقبه رجلان (2).
وعن ابن عباس، وأنس قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، زاد أنس: ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) (3)
وعن الحسن قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده (4).
وعن عبد الله بن بسر قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال: (إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا) (5)
وفي الوقت الذي يجلس فيه المستكبرون لينحني المستضعفون بالسلام عليهم كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام:
__________
(1) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
(2) رواه أحمد، وأبو داود.
(3) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن سعد عن أنس.
(4) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر، وقال: هذا حديث مرسل، وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.
(5) رواه ابن ماجه.
النبي المعصوم (164)
عن هند بن أبي هالة وعن أمه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام (1).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على صبيان، فسلم عليهم (2).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استقبله الرجل وصافحه، لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له (3).
وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد أبي رداً خفياً، فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله، فقال: زده حتى يكثر علينا من السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها ثم رفع يديه وهو يقول: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد) (4)
وفي الوقت الذي يتخذ فيه المستكبرون أصناف الخدم والحشم كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بيده:
عن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة (5).
وعن أبي سعيد وغيره من الصحابة قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال: (يا غلام هكذا فاسلخ) (6)
__________
(1) رواه الترمذي، وصححه، والبيهقي.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه الترمذي وابن ماجه.
(4) رواه أحمد.
(5) رواه ابن أبي شيبة.
(6) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني.
النبي المعصوم (165)
وعن حسنة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعالج حائطا، أو بناء له (1).
وعن ابنة خباب أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاة فاعتقها فحلبها، وقال: (ائتني بأعظم إناء لكم)، فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها، قال: (اشربوا أنتم وجيرانكم) (2)
وعن عبد الله بن عبد العزيز العمري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهما استكفى أهله من شئ لم يكن يستكفيهم صب الوضوء لنفسه، وإعطاء المسكين بيده، ويكفيهم إجانة الثياب (3).
-\--\-
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد روبرتو ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد.
(2) رواه أبو داود الطيالسي.
(3) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
النبي المعصوم (166)
في مساء اليوم الرابع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل جيري فالويل (1).. وهو في مظهره الخارجي يمثل رجل دين كأحسن ما يكون رجال الدين هيبة ووقارا.. ولكنه في حقيقته التي لا يعرفه من خلالها إلا خواص أصحابه من أعظم رجال الدنيا، وأكثرهم شغفا بها وحرصا عليها وتضحية في سبيلها بكل شيء..
لقد كنت أرى فيه شخص (يهوذا الأسخريوطي) بكل ما يمثله يهوذا من معاني.. فإن كان يهوذا قد سلم المسيح من أجل قليل من المال.. فإن هذا يسلم بكل مبادئ المسيح من أجل ذلك القليل.
وقد كان لهذه الصفة فيه سيء الظن بمن حوله، فلا يرى من يقترب منه أو يتودد إليه إلا لصا يريد أن ينال من ماله، أو يأكل من طعامه.. فلذلك تجده أبعد الناس عن الناس.. يبتسم لهم.. ولكنه سرعان ما يعرض عنهم حتى لا يطمع أحد فيه..
ولكنه إن وجد في الناس من يستطيع أن يأكل هو من طعامه، أو ينال هو من ماله أقبل عليه إقبالا كليا، وسلمه ما شاء من صكوك الغفران..
وكان لهذا يذكرني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة:34)
__________
(1) أشير به هنا إلى قسيس إنجيلي معروف بهذا الاسم يقيم في منطقة لينشبرج في منطقة فيرجينيا، له برنامج أسبوعي إذاعي وتلفزيوني يصل إلى أكثر من 10 ملايين منزل أسبوعيا، وله جامعة خاصة أصولية تسمى جامعة الحرية، يهاجم النبي (من خلال وسائل إعلامية أمريكية كبرى، إضافة إلى موقعه الخاص على الانترنت [www.falwell.com] وضع في صفحته الأولى تاريخا زائفا عن النبي (، ومن أقواله التي ذكرها في برنامجه الذي استغرق مدة 60 دقيقة في 6/ 10/2002 م: (أنا أعتقد أن محمدا كان إرهابيا، في اعتقادي.. المسيح وضع مثالا للحب كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمدا وضع مثالا عكسيا، وإنه كان لصا وقاطع طريق)
وهذا القول هو الذي جعلنا نختاره لهذا الفصل.
النبي المعصوم (167)
دخل جيري فالويل في ذلك المساء دار الندوة الجديدة بوجه لا يصعب على أي أحد أن يرى ما فيه من تغير..
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بقسوة، وقال: أرى أننا نريد أن نخرج الماء من بئر شحيحة لا تسح بقطرة.. فدعنا منهم.. ولنبحث عن منبع آخر.. فليس عند أولئك الأشحاء شيء.
قالوا: ماذا فعلت معهم؟
قال: لقد رميتهم بكل أسلحتي.. لكنهم استغلوا بعض النصوص راحوا يصفعون بها وجهي.. ويستغلون بها طهارة قلوب العوام ليقنعوهم بدين اللصوص وقطاع الطرق.
قال ذلك، ثم راح يستغرق في اللاشيء المحيط به.. ابتدر أخي، ووضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:
ظهر جيري فالويل في ميدان الحرية محاطا بجماعة من الناس، وهو يقول لهم: هل تريدون وصفا جامعا لمحمد يغنيكم عن كل وصف؟
قال رجل من الجماعة: أي محمد تقصد؟.. هل تقصد ذلك النبي الذي ظهر في تلك الصحراء المجدبة فحولها جنة فيحاء.. وظهر في ذلك الزمن المملوء بالظلمات، فحوله زمنا مملوءا بالأنوار؟
قال جيري: بل أقصد ذلك اللص قاطع الطريق الذي راح يستغل كل شيء ليحقق لنفسه كل شيء.
قال الرجل: فأنت تقصد رجلا يسمى بمحمد غير النبي محمد؟
قال جيري: بل لا أقصد غير ذلك الرجل الذي استغل بساطة الناس، فراح يدعي النبوة ليجني منها ما شاءت له نفسه من أموال وجاه.
هنا ظهر الحكيم كالنور المشرق، وصاح: أرى أنك صاحب بنك؟
النبي المعصوم (168)
قال جيري: لا.. بل أنا رجل دين.
قال الحكيم: يمكن لرجل الدين أن يملك بنكا.. لا حرج عليه في ذلك.. لا حرج عليه في المسيحية، ولا حرج في الإسلام.
قال جيري: فلنفرض أني أملك بنكا.. ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
قال الحكيم: أصحاب البنوك في العادة هم الذين يعرفون مقادير الثروات التي تخفى على سائر الناس.
قال جيري: فلنفرض ذلك.. ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
قال الحكيم: لذلك علاقة عظيمة.. فأنت قد ذكرت بأن محمدا إنسان استغل النبوة لبجني من ورائها أموالا وجاها.. وصاحب المال يحتاج أن يضع ماله في بنك ليحفظه ويزيده.
قال جيري: لا شك أنك مجنون.
قال الحكيم: لم؟
قال جيري: لأن محمدا مات منذ قرون طويلة.. ولم يكن أهل تلك القرون يسمعون بالبنوك.
قال الحكيم: فكيف عرفت ثروة محمد.. وأنه جناها من خلف ستار النبوة؟
قال جيري: كل شيء يدل على ذلك.. فرجل بسيط كان يرعى الغنم بقراريط يتحول إلى زعيم عظيم تجبى إليه الأموال من كل صوب.. وتجبى إليه قبلها القلوب لاشك أنه إنسان مستغل.. أو بتعبير آخر أكثر صراحة: لاشك أنه لص مختبئ في ثياب نبي.
قال الحكيم: دعنا من الصراحة الوقحة.. ولنبحث في حقائق التاريخ عن حياة محمد، وعلاقتها بما تسميه استغلالا أو لصوصية.
قال جيري: أنا لم أحكم بما ذكرت لك إلا انطلاقا من حقائق التاريخ.
قال الحكيم: قبل أن أجيبك من حقائق التاريخ أجبني..
النبي المعصوم (169)
قال جيري: سل ما بدا لك.
قال الحكيم: لو أن لصا طالب جاه ومنصب استدعاه الملأ من قومه، وعرضوا عليه أموالهم وما اشتهاه من منصب وجاه من غير تعب منه ولا نصب، فأعرض عن ذلك، وقال: أنا لا أريد أن آخذ أموالكم إلا بالتعب والنصب، ولن أتأمر عليكم إلا بعد أن يشتعل رأسي شيبا، وتشتعل حياتي ألما وتعبا وهما وغما.
قال جيري: مجنون من يقول هذا.. ولا أظن أن هناك لصا في الدنيا يعرض عن الفريسة السهلة ليقع على الفريسة الشديدة.. إن الأسود مع بهيميتها وصغر عقولها لا تفعل ذلك.
قال الحكيم: فهل ترى محمدا صاحب عقل وحكمة، أم أنك تراه أضعف عقلا من الأسود وسائر الوحوش؟
قال جيري: بل أرى عقله قد اجتمعت فيه العقول، ولكنه راح يستغله في الحيلة ليقتنص من المال والجاه ما لم يحلم به أبوه وجده.
قال الحكيم: لقد روى المؤرخون الذين تستند إليهم أن محمدا قد عرض عليه في بداية حياته الدعوية ـ أي في نواحي الأربعين ـ كل ما يشتهي من جاه ومال ومنصب.. ولكنه أعرض عن ذلك..
سكت قليلا، ثم قال: سأحدثك حديث ذلك.. فلعله لم يبلغك.
لقد روى المؤرخون بأسانيد كثيرة (1) أن قريشا اجتمعت يوما بعد أن رأت أن الإسلام لا تزيده الأيام إلا قوة، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا شتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله والبيهقي وابن عساكر.
النبي المعصوم (170)
عتبة بن ربيعة (1)، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم.. فتكلم نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وأشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وإن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا بعضا إليك بالسيوف حتى نتفانى.
لما رأى صمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إجابته له، قال: أيها الرجل، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل أبا الوليد أسمع)
فقال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعناه لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به الشرف سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطلب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئكك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمعه منه قال له: أقد فرغت أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل.
فراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ من سورة فصلت، فلما سمعه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، فسمع منه إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ثم انتهى
__________
(1) وعند ابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي: أن عتبة بن ربيعة قال يوما، وكان جالسا في نادي قريش، والنبي (جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله (يزيدون ويكثرون.
النبي المعصوم (171)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فقال: ما عندك غير هذا؟ فقال: ما عندي غير هذا.
فقام عتبة ولم يعد إلى أصحابه واحتبس عنهم فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه، فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، قالوا: فما أجابك؟ قال: والله الذي نصها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
قالوا: ويك يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال؟! قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، يا قوم أطيعوني في هذا الأمر واعصوني بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد.
قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
التفت إلى جيري، وقال: أرأيت هذا الموقف.. هل يمكن لإنسان حريص جشع لص لم ينهض إلا ليحقق مآربه الشخصية أن يقف مثل هذا الموقف؟
ليس ذلك فقط.. ولم يعرض عليه ذلك في ذلك المحل فقط.. بل عرض عليه في محال
النبي المعصوم (172)
كثيرة إلى أن ملأ قلوب أعدائه يأسا بقوله لعمه: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى، والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته)
ليس ذلك فقط.. بل إنه لم يقبل أن ينتصر مع التخلي عن جزء بسيط من المبادئ التي كلف بأدائها، لقد روي أنه ـ في تلك الأيام الشديدة التي اشتد فيها أذى أعدائه عليه وعلى أصحابه ـ أتى إلى قبيلة بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم اسمه (بَيْحَرَة بن فِرَاس): (والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب)، ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء)، فقال الرجل: (أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه)
التفت إلى جيري، وقال: هل ترى هذا التصرف تصرف مستغل للفرص منتهز لها.. لقد كان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ما تفعله أكثر الأحزاب، حين تتخلى عن مبادئها، وتتحالف مع العدو والصديق.. لتحقق من مآربها الشخصية ما تشاء، ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك.. لقد كانت مبادئه أغلى من كل شيء.
قال جيري: يمكنك أن تذكر كل ذلك.. ويمكنك أن تذكر أكثر من ذلك، ولكن تاريخ محمد أوسع من أن ينحصر في حياته المكية..
ربما أسايرك في أن محمدا بدأ حياته كصاحب مبدأ.. ولكنه فعل في الأخير ما يفعله أكثر أصحاب المبادئ.. فإنهم سرعان ما يتيهون عن مبادئهم حين يعتلون عروش السلطة، أو حين يبهرهم بريق الذهب.
قال الحكيم: فأنت تريد إذن أن أحدثك عن حياته المدنية؟
قال جيري: في تلك الحياة استغل محمد منصبه أكبر استغلال.
قال الحكيم: إن المستغل هو الذي يأخذ ولا يعطي.. يأخذ كل شيء، ثم لا يعطي شيئا..
النبي المعصوم (173)
ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن كذلك.. بل كان العفيف الذي لا يأخذ، والكريم الذي لا يتوقف عن العطاء.. ويستحيل على المستغل أن يكون له هذان الخلقان.
قال جيري: من السهل أن تدعي ما تشاء.
قال الحكيم: فلنحتكم إلى حقائق التاريخ وأسانيده لنرى كيف كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.. وما علاقتها بما يفعله المستغلون من تلصص وشح.
تعلقت أنظار الجماعة بالحكيم، فشجعه ذلك على أن يتحدث عن الأدلة النافية للشبهة التي طرحها صاحبنا جيري فالويل.
قال الحكيم: لعل أول صفة وأعظم صفة في محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي صفة يشاركه فيها جميع رسل الله وأنبياؤه.. هي عفافه عن أموال الناس وزهده فيها..
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك، ويأمره به: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90)، وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)، وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (صّ:86)
ولهذا اعتبر القرآن الكريم من أدلة صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم عفافه عن أمواله قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (الطور:40)، وقال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (المؤمنون:72)
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينال على تلك الوظيفة الخطيرة التي كلف بها، والتي جعلته لا يرتاح ليل نهار، أي أجر سوى الأجر الذي أعده الله له.
بل هو فوق ذلك أمر بأن يعيش جميع حياته ـ مهما فتح الله عليه من الدنيا ـ بتواضع وزهد
النبي المعصوم (174)
وبعد عن الملذات التي يتهافت عليه الناس، قال تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر:88)، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)
بل إن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتكين من شدة العيش التي كن يعشنها، فنزل القرآن الكريم يخيرهن بين تلك الحياة التي فرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم وظيفته الخطيرة، وبين السراح للتمتع بما شئن من الحياة الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} (الأحزاب)
التفت الحكيم إلى جيري، وقال: لقد كان ذلك في المدينة المنورة، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو زعيمها الأوحد..
لقد كان في إمكانه حينها أن ينعم بأجمل حياة وأمتع حياة.. ولكنه رفض كل ذلك، وعاش حياة لا يعيشها أدنى فقيرا رأيته في حياتك.
لن أجازف، فأتكلم كلاما من عندي، ولذلك سنذهب إلى التاريخ الذي رضيت أن نعتبره حكما.. فالتاريخ هو الوحيد الذي يفسر تلك الآيات التي تبين كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.
حدث ابن عباس قال: كنت أريد أن أسأل عمر عن قول الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم:4)، فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة، فقلت: لئن لم أسأله في هذه الحجة لا أسأله، فلما قضينا حجنا أدركناه، وهو ببطن مر، وقد تخلف لبعض حاجاته، فقال: مرحبا بك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حاجتك؟ قلت: شئ كنت أريد أن أسألك عنه، فكنت أهابك فقال:
النبي المعصوم (175)
سلني عما شئت، فإنا لم نكن نعلم شيئا حين تعلمنا، فقلت: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} من هما؟ قال: لا تسأل أحدا أعلم بذلك مني، كنا بمكة لا يكلم أحدنا امرأته، إنما هي خادم البيت، فلما قدمنا المدينة، تعلمنا من نساء الأنصار، فجعلن يكلمننا ويراجعننا، وإني أمرت غلمانا لي ببعض الحاجة، فقالت امرأتي: بل اصنع كذا وكذا، فقمت إليها بقضيب، فضربتها به، فقالت: يا عجبا لك، يا بن الخطاب! تريد أن لا تكلم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلمه نساؤه، فخرجت فدخلت على حفصة، فقلت: يا بنية، انظري لا تكلمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تسأليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس عنده دينار ولا درهم يعطيكهن، فما كانت لك من حاجة حتى دهن رأسك فسليني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم دخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن جلس عندها، وإنها أهديت لحفصة بنت عمر عكة عسل من الطائف أو من مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل يسلم عليها حبسته حتى تلعقه منها أو تسقيه منها، وأن عائشة أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرية عندها حبشية ـ يقال لها خضراء ـ: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها، فانظري ما يصنع فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت عائشة إلى صواحبتها، فأخبرتهن، وقالت: إذا دخل عليكن فقلن: إنا نجد منك ريح معافيرن ثم إنه دخل على عائشة، فقالت: يا رسول الله، أطعمت شيئا منذ اليوم، فإني أجد منك ريح مغافير، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد شئ عليه أن يوجد منه ريح شئ، فقال: هو عسل، والله لا أطعمه أبدا حتى إذا كان يوم حفصة، قالت: يا رسول الله، إني لي حاجة إلى إن نفقت لي عنده، فأذن لي أن آتيه فأذن لها، ثم إنه أرسل إلى جاريته مارية، فأدخلها بيت حفصة، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو فزع ووجهه يقطر عرقا، وحفصة تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، أما والله ما يحل لك هذا يا رسول الله،
النبي المعصوم (176)
فقال: والله، ما صدقت: أليس هي جاريتي، قد أحلها الله تعالى لي، أشهدك أنها علي حرام، ألتمس بذلك رضاك، انظري لا تخبري بذلك امرأة منهن، فهي عندك أمانة.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشري، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم أمته، فقد أراحنا الله منها.
فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التحريم:1)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} (التحريم:4)، فهي عائشة وحفصة، وزعموا أنهما كانتا لا تكتم إحداهما للأخرى شيئا، وكان لي أخ من الانصار إذا حضرت، وغاب في بعض ضيعته، حدثته بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا غبت في بعض ضيعتي، حدثني فأتاني يوما وقد كنا نتخوف جبلة بن الايهم الغساني، فقال: ما دريت ما كان؟ فقلت: وما ذاك؟ لعله جبلة بن الايهم الغساني، تذكر قال: لا ولكنه أشد من ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح، فلم يجلس كما كان يجلس، ولم يدخل على أزواجه كما كان يصنع، وقد اعتزل في مسربته، وقد ترك الناس يموجون ولا يدرون ما شأنه، فأتيت والناس في المسجد يموجون ولا يدرون فقال: يا أيها الناس كما أنتم.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسربته، قد جعلت له عجلة، فرقى عليها، فقال لغلام له أسود ـ وكان يحجبه ـ: استأذن لعمر، فاستأذن لي فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسربته فيها حصير وأهب معلقة وقد أفضى بجنبه إلى الحصير، فأثر الحصير في جنبه وتحت رأسه وسادة من أدم محشوة ليفا، فلما رأيته بكيت، قال: ما يبكيك؟ قلت يا رسول الله، فارس والروم أحدهم يضطجع في الديباج والحرير، فقال: إنهم عجلت لهم طيباتهم، والآخرة لنا، ثم قلت: يا رسول الله، ما شأنك؟ فإني قد تركت الناس يموج بعضهم في بعض، فعن خبر أتاك فقال: اعتزلهن؟ فقال: لا، ولكن كان بيني وبين أزواجي شئ فأحببت ألا أدخل عليهن شهرا.
ثم خرجت على الناس، فقلت: يا أيها الناس، ارجعوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بينه وبين
النبي المعصوم (177)
أزواجه شئ، فأحب أن يعتزل، فدخلت على حفصة، فقلت: يا بنتي، أتكلمين رسول الله وتغيظينه وتغارين عليه؟ فقالت: لا أكلمه بعد بشئ يكرهه، ثم دخلت على أم سلمة وكانت خالتي، فقلت لها كما قلت لحفصة، فقالت: عجبا لك يا عمر، كل شئ تكلمت فيه، حتى تريد أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أزواجه، وما يمنعنا أن نغار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجكم يغرن عليكم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الأحزاب:28) حتى فرغ منها (1).
التفت الحكيم إلى جيري، وقال: إن هذه الحادثة التي ذكرتها لك بطولها وقعت في المدينة.. وكل لفظ منها يدلك على مدى الزهد الذي كان يعيشه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إنها عند أصحاب الرؤى القاصرة مثار شبه كثيرة، ولكنها عند أصحاب العقول النيرة دليل من دلائل الصدق والزهد والعفاف..
تصور لو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يملك قصرا كتلك القصور التي يملكها أثرياء عصره.. أو على الأقل كان يملك بيوتا كثيرة ممتلئة بالأثاث الكثير الذي كان ينعم به أهل عصره.. هل كان لمثل هذه الأحداث أن تقع؟
لا.. لن تقع أبدا.. لأن السبب الأول في هذه الأحداث هو المال.. فلو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا مال وذا ثروة وذا بيوت واسعة كثيرة ما حصل ما حصل.
لقد رأيت صورة لبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد ورد في رواية أخرى عن عمر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهب ثلاثة معلقة، وصبرة من شعير، فهملت عينا عمر، فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فجلس محمرا
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 13 من طريق عبد الله بن صالح، وعزاه للطبراني في الاوسط، وهو ـ بصيغة أخرى ـ في الصحيحين 8/ 656 (4912) (6691) ومسلم 2/ 1100 (20/ 1474)
النبي المعصوم (178)
وجهه، فقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟) قلت: بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل)، ثم قال: (يا عمر لو شاء أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت) (1)
وعن ابن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: (ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها) (2)
التفت إلى الجمع المحيط به، ثم قال: لا تحسبوا أن هذه الفاقة فاقة ناتجة عن حاجة حقيقية، أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يملك إلا هذا الخيار.. لا.. لقد كان الغنى أمامه.. لقد كان الغنى أقرب إليه من الفقر.. ولكنه آثر تلك الحياة حتى يكون كأبسط الناس، وأسوة لجميع الناس، وحتى لا يأتي أحد من الناس، فيتصور أن النبوة وسيلة من وسائل الثروة، أو طريق من طرقها.
لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخيارات التي كانت متاحة أمامه، فقال: (لو شئت لسارت معي جبال الذهب) (3)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك) (4)
وفي حديث آخر عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك
__________
(1) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي، وصححه.. والجملة الأخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.
(2) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي - وصححه.
(3) رواه ابن عساكر.
(4) رواه ابن سعد، والترمذي، وأبو الشيخ عن أبي هريرة وابن سعد وابن حبان عن أبي أمامة.
النبي المعصوم (179)
عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (الفرقان:10)
وعن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت) (1)
وروي أن جبريل - عليه السلام - جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تواضع لربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أكون نبيا عبدا)، قال ابن عباس: (فما أكل بعد تلك طعاما متكئا حتى لقي ربه) (2)
وعن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن شئت أعطيناك خزائن الأرض، ومفاتيحها، ما لم يعط شئ قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، ولا ينقصك ذلك مما عند الله شيئا، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اجمعوها لي في الآخرة) (3)
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما ـ أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك، وشكرتك) (4)
وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طول حياته، فقد حدث أبو سعيد عن الأيام الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر فقال: (إن عبدا خيره الله تعالى أن
__________
(1) رواه أبو ذر الهروي.
(2) رواه أحمد، وابن حبان عن أبي هريرة، ويعقوب بن سفيان وابن مردويه عن ابن عباس.
(3) رواه البرقاني وابن أبي شيبة، وابن جرير.
(4) رواه ابن المبارك.
النبي المعصوم (180)
يؤتيه من زهرة الدنيا وما عنده، فاختار ما عنده) (1)
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل الله أن يختار له هذا النوع من الحياة البسيطة التي تجعله أقرب الناس إلى الناس، فقد كان يدعو، ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) (2)
وكان يسأل الله حياة المسكنة التي هي أقرب أنواع الحياة للعبودية، كان أبو سعيد يقول: أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين) (3)
وعنه قال: (يا أيها الناس، لا يحملنكم العسر على طلب الرزق من غير حله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم توفني فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة) (4)
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بالدعاء.. بل كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم يتهرب من كل ما يمكن أن يملأ حياته بذخا وترفا.. بل من كل ما يملؤها هدوءا ودعة.
لقد حدثت عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة) (5)
وعن إسماعيل بن أمية قال: صنعت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين، فأبى أن يضطجع على
__________
(1) رواه البخاري، وغيره.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه ابن المبارك والترمذي.
(4) رواه ابن عدي.
(5) رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.
النبي المعصوم (181)
واحد (1).
وقد روي أن رجلا أنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدية، فنظر، فلم يجد شيئا يجعلها فيه، فقال: (ضعه في الحضيض، فإنما هو عبد يأكل كما يأكل العبد، ويشرب كما يشرب العبد، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها ماء) (2)
وعن عائشة، قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا) (3)
التفت الحكيم إلى جيري، وقال: هل يمكن لمستغل توفر له من الفرص ما توفر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يذوق طعم الجوع؟
سكت جيري، فقال بعض القوم: لعل صاحبنا لا يعرف معنى الجوع، فاشرحه له.
قال الحكيم: الجوع جوعان.. هناك جوع يمكن تسميته جوع المترفين، وهو جوع يرجع سببه إلى أن المترف لم يجد من الطعام الذي يشتهي ما يملأ بطنه.. فلذلك لا يرتبط هذا النوع من الجوع بعدم وجود الطعام، وإنما يرتبط بعدم وجود الطعام المشتهى.
وهناك جوع سببه عدم وجود الطعام مطلقا.. لا المشتهى، ولا غير المشتهى.. وهذا هو الجوع الذي ذاقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يعصب الحجر على بطنه منه.
التفت إلى جيري، وقال: سأذكر لك من النصوص التي تواترت لتدل على هذا (4)، وتنفي
__________
(1) رواه أحمد في الزهد.
(2) رواه ابن أبي شيبة.
(3) رواه ابن حبان.
(4) تعمدنا نقل الروايات الكثيرة بتخريجها هنا لأن هناك من يناقش في مثل هذا انطلاقا من صورة رسمها لرسول الله (راح يفرضها عليه ضاربا بالنصوص المقدسة عرض الحائط، أما ما قد يساء فهمه من هذه النصوص، فقد ذكرنا الرد عليه في مناسبات كثيرة.
النبي المعصوم (182)
أي دخن قد يتسرب منه الشيطان ليملأ القلوب بالوساوس، وسأبدأ حديثي بأقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي ذاقت معه من حياة الزهد ما ذاقت.
لقد ذكرت عائشة حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم (1).
وقالت: (ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالت: (ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)
وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.
وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.
وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.
وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة (2).
وقالت: (والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف (3).
وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير (4).
وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط (5).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.. والأقوال التي تلي قولها هذا روايات في الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.
(2) رواه ابن عساكر.
(3) رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.
(4) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.
(5) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.
النبي المعصوم (183)
وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله (1).
وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ألبانها، فيسقيناه.
وكانت تقول له: (وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار - جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم - فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف)
وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت (2).
وقالت: أهديت لنا ذات يوم يد شاة فوالله إني لأمسكها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحزها، أو يمسكها علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحزها، قبل على غير مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، ولا يطبخون فيه برمة (3).
وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا (4).
وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والبيهقي.
(2) رواه ابن عساكر.
(3) رواه ابن سعد وأحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي.
(4) رواه ابن عساكر.
النبي المعصوم (184)
التمرتين) (1)
وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه (2).
وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت بطعام فقالت لي: كل فلقل ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي أن بكيت، قال: قلت: لم يا أم المؤمنين؟ قالت: أذكر الحال التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مرتين من خبز شعير حتى لحق بالله (3).
وعلى ما شهدت به عائشة تواترت الشهادات الكثيرة من الذين عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم.. وسأذكر لك من ذلك ما يعطيك صورة عن هذا العفيف الزاهد الذي لم تجد له في قاموسك غير وصف الجشع والحرص والاستغلال.
ذكر أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) (4)
وقال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) (5)
وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف (6).
__________
(1) رواه ابن عدي.
(2) رواه ابن سعد.
(3) رواه ابن عساكر.
(4) رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود، والحارث بن أبي أسامة برجال ثقات.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه ابن أبي شيبة، أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل، وابن سعد بإسناد صحيح.
النبي المعصوم (185)
وقال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيها خبز ولا لحم (1).
وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفه إلا بجرعة من ماء (2).
وقال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط (3).
وعن عمر قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتوي يومه من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء به بطنه (4).
وعن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا (5).
وقال: (ما كان يفضل عند أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز الشعير) (6)
وقال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لى ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير (7).
وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الكسر اليابسة، حتى فارق الدنيا، وأصبحتم تهذرون الدنيا (8).
وقال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي جالسا، قلت: يا رسول الله ما أصابك؟ قال: (الجوع)، فبكيت قال: (لا تبك يا أبا هريرة، فإن شدة الجوع لا تصيب الجائع - يعني يوم القيامة
__________
(1) رواه ابن سعد.
(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(3) رواه ابن سعد.
(4) رواه ابن سعد.
(5) رواه أحمد والبخاري ومسلم، والترمذي.
(6) رواه الترمذي.
(7) رواه ابن سعد.
(8) رواه ابن سعد.
النبي المعصوم (186)
- إذا احتسب في دار الدنيا) (1)
وقال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بطعام سخين، فأكل، فلما فرغ قال: (الحمد لله ما دخل بطني طعام سخين منذ كذا وكذا) (2)
وقال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أعندك شئ؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني (3).
وروي أنه مر بالمغيرة بن شعبة وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النقي واللحم للمسلمين قال: وما النقي؟ قال: الدقيق، فعجب أبو هريرة، ثم قال: عجبا لك يا مغيرة، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضه الله تعالى، وما شبع من الخبز والزيت مرتين في يوم، وأنت وأصحابك تهذرون ههنا الدنيا بينكم ونقد باصبعه، يقول كأنكم صبيان (4).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير (5).
وعن أبي الدرداء قال: لم يكن ينخل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دقيق قط (6).
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا، ولم يشبع هو، ولا أهله
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا وأبو سعد الماليني وأبو الحسن بن الضحاك.
(2) رواه ابن ماجه.
(3) رواه ابن ماجة.
(4) رواه ابن سعد.
(5) رواه أحمد، وابن سعد والترمذي وصححه.
(6) رواه الطبراني.
النبي المعصوم (187)
من خبز الشعير (1).
وعنه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع من خبز الشعير، فما أرنا أخرنا لما هو خير لنا (2).
وعن نوفل بن إياس الهذلي قال: أتينا في بيت عبد الرحمن بن عوف بصحيفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، قلت: ما يبكيك؟ فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا (3).
وعن سهل بن سعد قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا (4).
وعن أبي أمامة قال: ما كان يفضل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5).
وعن عمران بن حصين قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خبز مأدوم حتى مضى لسبيله (6).
وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غداء وعشاء حتى لقي ربه (7).
وعن أبي حازم قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) (8)
وعن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حائطا من حيطان المدينة، فجعل يأكل بشرا أخضر، فقال: (كل يا ابن عمر)، فقلت ما أشتهيه يا رسول الله، قال: (ما تشتهيه؟ إنه لأول طعام
__________
(1) رواه البزار بسند جيد.
(2) رواه عبد بن حميد.
(3) رواه الترمذي وابن سعد.
(4) رواه الطبراني.
(5) رواه أحمد وابن سعد والترمذي وصححه.
(6) رواه أحمد.
(7) رواه الطبراني.
(8) رواه ابن سعد والدارقطني في الافراد، وصححه.
النبي المعصوم (188)
أكله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أربعة أيام) (1)
وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا (2).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعصب في أحيان كثيرة الحجر على بطنه من الجوع (3).. فهل يمكن لإنسان حريص مستغل أن يفعل هذا؟
لقد تواتر هذا عن الصحابة وسأذكر لك من الشهادات ما يدلك على ذلك:
عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع (4).
وعن جبير بن نفير قال: قال أبو البجير: أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما الجوع، فوضع على بطنه حجرا، وقال: (يا رب نفس ناعمة طاعمة، جائعة عارية يوم القيامة) (5)
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد حبليه بالحجر من الغرث (6).
وعن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهم يحفرون الخندق ثلاثا لم يذوقوا طعاما، قال جابر: فحانت مني التفاتة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شد على بطنه حجرا من الجوع (7).
وعن أنس قال: قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن حجر حجر،
__________
(1) رواه الطبراني.
(2) رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
(3) وقد كان ذلك من عادة العرب عند الجوع، فإذا خوى البطن لم يمكن معه الانتصاب، فيعمل الشخص حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف، أو أكثر، فيربطها على بطنه، ويشدها بعصابة فوقها، فتعتدل قامته بعض الاعتدال، وقد قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن أن الرجلين تحملان البطن، فإذا البطن هو الذي يحمل الرجلين.
(4) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند.
(5) رواه البيهقي وابن عساكر.
(6) رواه ابن سعد.
(7) رواه البخاري ومسلم.
النبي المعصوم (189)
فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين (1).
وعن أبي البجير قال: أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه (2).
وعن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب على بطنه بعصابة، قال أسامة: أنا أشد على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه؟ قالوا: من الجوع (3).
وعن حصين بن يزيد الكلبي قال: ربما شد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه الحجر من الجوع (4).
وقد صور الشاعر الصالح (5) ذلك بقوله:
كأن عيال الناس طرا عياله... فكلهم مما لديه يعال...
يبيت على فقر، ولو شاء حولت... له ذهبا محضا ربي وجبال...
وما كانت الدنيا لديه بموقع... فقد صرمت فيها لديه حبال...
رأى هذه الدنيا سريعا زوالها... فلم يرض شيئا يعتريه زوال...
لعمرك ما الأعمار إلا قصيرة... ولكن آمال الرجال طوال...
أتته مفاتيح الكنوز فردها... وعافت يمين مسها وشمال...
وكان يفيض المال بين عفاته... كما فضت الترب المهال شمال...
فما كان للمال الشديد بمائل... وكم غر أرباب العقول فمالوا
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لذلك كله يسد جوعه بأي طعام حلال، لا يسأل عن نوعه، ولا عن طيبته التي
__________
(1) رواه الترمذي بسند جيد قوي.
(2) رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر.
(3) رواه مسلم والبيهقي.
(4) رواه أبو نعيم وابن عساكر.
(5) هو ابن جابر الأندلسي.
النبي المعصوم (190)
يحرص عليها أهل الشهوات، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما أبالي ما رددت به عن الجوع) (1)
وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما لنا طعام إلا أوراق الشجر، حتى تقرحت أشداقنا (2).
وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل عندك طعام آكل) فقالت: إن عندي لكسرة يابسة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: (هلميها فكسرها في ماء)، فجاءته بملح، فقال: (ما من أدم؟) فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل، فقال: (هلميه)، فلما جاءت صبه على طعامه، وأكل، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: (نعم الأدم الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل) (3)
وعن أم سعد قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة وأنا عندها، فقال: هل من غداء؟ قالت: عندنا خبز وتمر وخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم الإدام الخل.. اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يفتقر بيت فيه خل) (4)
وعن أسماء بنت عميس، وكانت صاحبة عائشة التي خبأتها فأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نسوة، فما وجدنا عنده إلا قوتا، إلا قدحا من لبن، فتناول فشرب منه، ثم ناوله عائشة فاستحيت منه، فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذته فشربته، ثم قال: (ناولي صواحبك)، فقلن: لا نشتهيه، فقال: (لا تجمعن كذبا وجوعا)، فقلت: إن قالت إحدانا لشئ تشتهيه لا أشتهي، أيعد ذلك كذبا؟ فقال: (إن الكذب يكتب كذبا، حتى الكذيبة تكتب كذيبة) (5)
ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم في المقابل كان أحرص الناس على طيبة الطعام التي يعرفها الصالحون، والتي
__________
(1) رواه ابن المبارك في الزهد عن الأوزاعي.
(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(3) رواه ابن المبارك في الزهد.
(4) رواه ابن ماجة.
(5) رواه أحمد.
النبي المعصوم (191)
أمر الله تعالى بها أنبياءه في قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51)
وهي طيبة لا تعتمد الذوق ولا النكهة ولا تفنن الطباخين، وإنما تعتمد على كون الطعام حلالا لم يختلط بعرق المستضعفين، ولا دماء المحرومين.
ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يخشى من طعام الصدقة، ولا يأكله مع عظم حاجته إليه، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب التمرة، فيقول: (لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها) (1)
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقالت بعض نسائة: يا رسول الله أرقت البارحة، قال: (إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه) (2)
التفت إلى جيري، وقال: لاشك أن لكل مستغل حريص رصيد في البنك يخبئه لوقت الحاجة، فهو لا يكتفي ـ لحرصه ـ بما يأكله أو يلبسه في لحظته، بل يريد أن يضمن كل لحظة من حياته.. بل هو يسعى ليخزن من الأموال ما يكفيه لآلاف السنين.
أليس كذلك.. أم تراني خاطئا؟
قال رجل من الجماعة: بل هو كذلك.. بل من هؤلاء من يخزن المال الذي يكفي الملايين.. بينما لم يبق من عمره إلا أيام معدودة.
قال الحكيم: أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان خلاف ذلك تماما.. فلم يكن يدخر شيئا لغد (3).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أحمد برجال ثقات.
(3) أما ما روي من أنه كان يدخر قوت سنة، فقد أجاب عنه الحافظ البجلي بقوله: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن رسول الله (أنه لم يشبع في يوم من خبز مرتين، وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنة، فكيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة، فتنزل النازلة، فيقسمه، فيبقى بلا شئ.
ومما يؤيد هذا ما رواه أحمد، وأبو يعلى برجال ثقات عن أنس قال: أهديت لرسول الله (ثلاثة طوائر فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله (: (ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد)
النبي المعصوم (192)
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخر شيئا لغد (1).
وعن ابن عباس قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد فقال: (ما يسرني أنه ذهب لآل محمد، أنفقه في سيبل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران، إلا دينارين أعدهما للدين إن كان) (2)
وعن أنس قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يوما: (ما عندك شئ تطعمنا؟) قلت: نعم يا رسول الله، فضل من الطعام الذي كان أمس، قال: (ألم أنهك أن تدع طعام يوم لغد؟) (3)
وعنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائران، فقال: (ما هذا؟) قال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: (يا بلال لا تخف من ذي العرش إقلالا.. إن الله تعالى سيأتي يرزق كل غد، ألم أنهك أن تدخر شيئا لغد؟) (4)
وعن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (5)
وعن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساهم الوجه قالت: حسبت ذلك من وجع، قلت: ما لي أراك ساهم الوجه؟ قال: (من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس، ولم نقسمها) (6)
وعن عائشة أنها قالت لأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعروة بن الزبير: لو رأيتما رسول
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد وأبو يعلى بسند جيد.
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
(4) رواه أبو سعد الماليني والخطيب.
(5) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.
(6) رواه ابن حبان والبيهقي.
النبي المعصوم (193)
الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة، قالت: فأمرني نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أفرقها، قالت: فشغلني وجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، فقال: (ما فعلت، أكنت فرقت الستة الدنانير أو السبعة؟) فقلت: لا، والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: (ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟) (1)
وعن جمع من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه ذات يوم، وفي يده قطعة من ذهب، فقال لعبد الله بن عمر: ما كان قال لربه إذا مات وهذه عنده؟ فقسمها قبل أن يموت، والتفت إلى أحد، فقال: (والذي نفسي بيده ما يسرني أن يحول هذا ذهبا وفضة لآل محمد، أنفقه في سبيل الله، أبقي بعد صبح ثلاثة، وعندي منه شئ، إلا شيئا أعده لدين)، وفي لفظ: (أموت يوم أموت أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين أن كان)، قال ابن عباس: فمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة، وترك درعه مرهونة عند رجل من اليهود رهنا بثلاثين صاعا من شعير، كان يأكل منها ويطعم عياله (2).
وعن بلال: قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندي شئ من تمر، فقال: (ما هذا؟) فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: (أما تخاف أن ترى له بخارا في جهنم؟) (3)
عن عبد الله بن مسعود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، وعنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال)، قال: أعددت ذلك لأضيافنا، قال: (أما تخشى أن يكون له بخار في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (4)
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بلال أطعمنا)، قال: ما عندي إلا صبرة من
__________
(1) رواه ابن سعد والبيهقي.
(2) رواه البزار عن أبي سعيد، والبزار، والطبراني عن سمرة بن جندب، والطبراني، والبزار بسند حسن وأحمد، وأبو يعلى برجال ثقات والبزار وأحمد بسند حسن عن ابن عباس.
(3) رواه الطبراني والبزار.
(4) رواه البزار، والطبراني بسند حسن.
النبي المعصوم (194)
خبز خبأته لك، قال: (أما إن الله يجعل له بخارا في نار جهنم أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (1)
وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صرة المدينة فاستقبلنا أحدا، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، تمضي على ثلاثة، وعندي منه دينار، إلا شيئا أرصده لدين، إلا أن أقول في عباد الله هكذا، وهكذا) (2)
وعن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي: (يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟) قلت يا رسول الله لا أشتهيه، قال: (لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعفون؟ قال: فوالله ما برحنا، ولا زمنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارا، ولا درهما، ولا أخبئ رزقا لغد) (3)
التفت إلى جيري، وقال: أليس كل المستغلين الذين تنفتح لهم الدنيا لا يقنعون بما هم فيه، بل يضمون إلى غناهم غنى أولادهم، وغنى كل من يتقرب منهم.
قال رجل من الجماعة: ذلك صحيح.. ولا نحسب ذلك إلا طبعا في البشر، فلا ينفك أحد منهم منه.
قال الحكيم: إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو من رباه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فإنه يستحيل عليه أن يطعم ولده ثمرة
__________
(1) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أبو بكر الحميدي.
النبي المعصوم (195)
استغلال.. اسمعوا لما روته الأخبار الصحاح:
عن فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاها يوما فقال: (أين أبنائي؟) يعني: حسنا وحسينا، قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شئ يذوقه ذائق، فقال علي: اذهب بهما، فإني أتخوف أن يتليا عليك، وليس عندك شئ، فذهب إلى فلان اليهودي فتوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدهما يلعبان في سرية بين أيديهما فضل من تمر، فقال: (يا علي ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر؟)، قال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شئ، فلو جلست يا رسول الله، حتى أجمع لفاطمة شيئا من التمر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى اجتمع لفاطمة شئ من التمر، فجعله في صرته ثم أقبل، فحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما وعلي الآخر، حتى أقبلهما (1).
وعن علي أنه قال لفاطمة ذات يوم: والله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء أبوك بسبي فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله، لقد طحنت حتى مجلت يداي فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما جاء بك أي بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: يا رسول الله، لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخذمنا فقال: لا، والله، لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم فرجع.
فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما فتأثر فقال: مكانكما، ثم قال: (ألا أخبر كما بخير مما سألتماني)، قالا: بلى، قال: (كلمات علمنيهن جبريل فقال: تسبحان الله في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا، فإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين)
__________
(1) رواه الطبراني بسند حسن.
النبي المعصوم (196)
قال علي: فوالله، ما تركتهن منذ سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رجل: أين الكوا ولا ليلة صفين، فقال: قاتلكم الله ولا ليلة صفين (1).
وعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة له، فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع، ولم يدخل لها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيان، فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما يبكيان، فأخذه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا ثوبان، اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارا من عاج)، ثم قال: (هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا) (2)
وعن عمران بن حصين قال: إني لجالس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبلت فاطمة، فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابلة فقال: (ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة، ثم قال: (ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة، ثم قال: (ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة حتى قامت بين يديه قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها، وذهب الدم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه ثم وضع كفه بين ترائبها، فرفع رأسه قال: (اللهم، مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الوضعة، لا تجع فاطمة بنت محمد)، فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك (3).
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية، هل عندك أكلة، فإني جائع
__________
(1) رواه أحمد بسند جيد.
(2) رواه أحمد، والبيهقي في الشعب.
(3) رواه الطبران برجال ثقات إلا عتبة بن حميد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة.
النبي المعصوم (197)
فقالت: لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، وغطت عليها، قالت: والله، لاوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشئ فخبأته لك قال: (هلمي)، فأتته فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلما نظرت إليها بهتت، وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصلت على نبيه وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآه حمد الله وقال: (من أين لك هذا يا بنية؟)، فقالت: يا أبت، هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي، ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا وبقيت الجفنة كما هي، قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع جيرانها، وجعل الله فيه بركة وخيرا كثيرا (1).
التفت الحكيم إلى جيري فالويل، وقال: أظن أن ما ذكرته من زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموال الناس وعفافه عنها ما يكفي لصرفك عن ذلك الوسواس الذي دعاك إلى اتهامه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغلال والحرص والجشع.
إن النفس التي كان لها كل ذلك الصبر والتحمل مع عظم المشاق التي كانت تحملها يستحيل عليها أن تعرف الاستغلال..
ثم التفت إلى الجماعة، وقال: ومع ذلك.. ومع كل تلك الأحوال الشديدة التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كانت تستدعي قبض اليد، والشح عما فيها إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كالريح المرسلة لا يكاد يقع في يده شيء حتى يخرجه منها كرما وجودا وعطاء لا يمكن أن يقدر على مثله بشر.
__________
(1) رواه أبو يعلي.
النبي المعصوم (198)
سأذكر لكم بعض ما ذكرت الأسانيد من ذلك لتحكموا بأنفسكم، ولتروا هل يمكن لمن يملك هذه الصفات أن يكون له جشع المستغل وحرصه.
لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك النفس الممتلئة كرما وجودا، وكأنه يدعو كل محتاج لأن يمد يده إليه لينال من جوده، فقال (ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل) (1)
وقال، وقد التفت إلى أحد: (والذي نفسي بيده ما يسرني أن أحدا يحول لآل محمد ذهبا، أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت ما أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين إن كان) (2)
وقال: (لو عندي مثل أحد ذهبا ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدين) (3)
وقد كان أصحابه والمقربون إليه يعرفون هذه الصفة فيه، ويصفونه بها:
عن علي أنه كان إذا نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان أجود الناس كفا (4).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس (5).
وكان من الصفات التي عرفه من خلالها الكل هو أنه كان أبعد الناس عن رد أي سائل يسأله، مؤتمرا في ذلك بما أمره الله تعالى به، قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى:10)
لقد كانت الصفة التي عرف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. عرفه بها جميع الناس.. أنه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.
__________
(1) رواه بقي بن مخلد وأبو يعلى.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه البيهقي، وابن عساكر.
(4) رواه ابن أبي خيثمة.
(5) رواه ابن أبي شيبة.
النبي المعصوم (199)
قال أنس: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه (1).
وقد ذكر نموذجا لذلك، فقال: فسأله رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر (2).
قال أنس: وإن كان الرجل ليجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها (3).
وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل عن شئ، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشئ لا (4).
عن سهل بن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى (5).
وعن سهل بن سعد أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها، قال سهل: أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي لأكسوكها فخذها، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال الأعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، فقال: (نعم)، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها فأرسل بها إليه، ثم سأله، وعلم أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، رجوت بركتها حين لبسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال سهل: فكانت كفنه (6).
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الخرائطي، والطبراني، والمراد من عدم قوله: (لا) ما يفهم منها عدم الإعطاء مع القدرة عليه، أما إذا كانت من باب الاعتذار، فلا حرج في ذلك، وقد قالها (، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي (: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:92)
(5) رواه الدارمي.
(6) رواه البخاري، وابن ماجه، وابن سعد، والطبراني، والإسماعيلي والنسائي، زاد الطبراني: وأمر النبي (أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن تنزع.
النبي المعصوم (200)
وعن هارون بن أبان قال: قدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثر مال أتي به قط، فوضع على حصير من المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائلا، حتى فرغ منه (1).
وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين، فقال: انظروا يعني صبوه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطى إلى أن جاء العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، فقال: (خذ) فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي قال: (لا)، قال: فارفعه أنت، قال: (لا أستطيع)، ثم نثر منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله: مر بعضهم يرفعه علي، قال: (لا)، قال: فارفعه أنت)، قال: (لا) ثم نثر منه فاحتمله، فألقاه على كاهله، فانطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا منه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثم منها درهم (2).
وكان البعض يستغل هذه الخصلة العظيمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيروح يسأل من غير حاجة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بما أعطاه الله مع علمه بذلك منهم:
عن أبي سعيد قال: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألانه عن ثمن بعير فأعانهما بدينارين، فخرجا من عنده، فلقيا عمر، فأثنيا خيرا، وقالا معروفا، وشكرا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهما، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكن فلانا أعطيته ما بين العشرة والمائة فلم يقل ذلك، إن أحدهم يسألني، فينطلق بمسألته يتأبطها، وما هي إلا نار)، فقال عمر: يا رسول الله، فلم تعطهم ما هو نار؟ فقال: (يأبون إلا أن يسألوني ويأبي الله لي البخل) (3)
وعنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوهم فأعطاهم، وقال:
__________
(1) رواه الدارمي.
(2) رواه البخاري
(3) رواه ابن أبي الدنيا وغيره.
النبي المعصوم (201)
(ما يكون عندي من خير، فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير، وأوسع من الصبر) (1)
وعن جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه الناس، مقبلا من حنين علقت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته عليكم لا بخيلا، ولا كذابا، ولا جبانا) (2)
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حنين سأله الناس، فأعطاهم من البقر والغنم والإبل، حتى لم يبق من ذلك شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أنا ببخيل، ولا جبان، ولا كذوب)، فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته، فكأنما أنظر ـ حين مد يدا من منكبه ـ شقة القمر من بياضه) (3)
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني كذوبا ولا بخيلا) (4)
وعن سهل بن سعد قال: حكيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة أنمار صوف أسود، فجعل حاشيتها بيضاء، وقام فيها إلى أصحابه، فضرب بيده إلى فخذه فقال: (ألا ترون إلى هذه ما أحسنها!) فقال أعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسأل شيئا أبدا فيقول: لا، فقال: (نعم)، فأعطاه الجبة (5).
هذا كله إذا وجد، فإذا لم يجد تكلف كل السبل ليرضي من سأله، فلا يذهب إلا راضيا:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه ابن الأعرابي.
(4) رواه ابن عدي.
(5) رواه الطبري.
النبي المعصوم (202)
عن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شئ أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال عمر: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول عمر، حتى عرف في وجهه، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بهذا أمرت) (1)
وعن أبي عامر عبد الله قال: لقيت بلالا مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحلب، فقلت: حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما كان له شئ من ذلك، إلا أني الذي كنت آتي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى، إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان، فرآه عاريا يأمرني فأنطلق، فأستقرض، فأشتري البردة، والشئ، فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي قلت: لبيك، فتجهمني، وقال قولا غليظا، فقال: ألا ترى كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليال، فآخذك بالذي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، ولكن أعطيتك لتصير لي عبدا، فأذرك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت، ثم أذنت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة، رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن المشرك الذي قلت لك إني كنت أتدين منه قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحني، فأذن لي أن آتي بعض هؤلاء الأحياء الذين أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فحملت سيفي وجرابي ورمحي، ونعلي عند رأسي، واستقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق، فإذا
__________
(1) رواه الترمذي والخرائطي.
النبي المعصوم (203)
إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلقت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذنت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشر يا بلال، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، فحمدت الله تعالى)، فقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ قال: فقلت: بلى؟ قال: فإن لك رقابهن، وما عليهن، فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، قال: ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن، ثم عقلتهن، ثم عدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعي في أذني، فناديت، وقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في المسجد وحده، فسلمت عليه، فقال لي: (ما فعل ما قبلك؟) قلت: قضى الله كل شئ كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يبق شئ، فقال: (فضل شئ؟) قلت: نعم، قال: (انظر أن تريحني منها، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منها، فلم يأتنا أحد)، فبات في المسجد، حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: (ما فعل ما قبلك؟) قلت: قد أراحك الله منه، فكبر، وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم تبعته حتى جاء أزواجه، فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه (1).
فإذا لم يجد أي سبيل بحث عمن يعين السائل، فقد جاءه رجل مرة، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته:
__________
(1) رواه أبو داود والبيهقي.
النبي المعصوم (204)
أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخري شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي، فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (لقد عجب الله من فلان وفلانة) (1)، وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك كله مع ما به من فاقة وحاجة، بل كان يقدم ـ مع تلك الفاقة والحاجة غيره، ليكون آخر مستفيد إن بقيت هناك بقية.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا مع رجل من أصحابه، فغمز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه، فقال له الرجل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتشتكي بطنك؟ فقال: (لا، إنما هو جعار الجوع)، فقام الرجل ليدخل حيطان الأنصار، فرأى رجلا من الأنصار يسقي سقاية، فقال له: هل لك أن أسقي لك بكل سقاية تمرة جيدة؟ قال: نعم، قال: فوضع الرجل كساءه، ثم أخذ يسقي، وهو رجل قوي، فسقي مليا، حتى ابتهر وعيا، فجعل يتروح، ثم فتح حجره، وقال: عد لي تمري، قال: فعد له نحوا من المد، فجاء به، حتى نثره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه قبضة، ثم قال: اذهبوا بهذا إلى فلانة، واذهبوا بهذا إلى فلانة، فقال الرجل: يا رسول الله أراك تأخذ منه، ولا ينقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألست تقرأ هذه الآية؟) قال: فقلت: أية آية يا رسول الله؟ قال: قول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39)، قال: أشهد أنما هو من الله تعالى (2).
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه البيهقي في الأسماء والصفات.
(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
النبي المعصوم (205)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكافئ كل من يقدم له أي شيء، ولو كان بسيطا، بل حتى لو كان كلمة طيبة:
عن الربيع بن عفراء قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من رطب، وجرو زغب، فأعطاني مل ء كفي حليا، أو ذهبا (1).
عن أم سنبلة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدية، فأبى أزواجه أن يقبلنها، فأمرهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذنها، ثم أقطعها واديا (2).
وروي أنه في يوم حنين جاءت امرأة، فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعه في هوازن، فرد عليهم ما أخذ، وأعطاهم عطاء كثيرا، حتى قوم ما أعطاهم فكان خمسمائة ألف، قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الجود (3).
وعن جابر أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضربه، ودعا له، فسار سيرا لم يسر مثله، ثم قال: (بعنيه بوقية)، قلت: لا، ثم قال: (بعنيه بوقية)، فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا المدينة أتيته بالجمل، ونقد لي ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل إلي فقال: (ما كنت لآخذ جملك، هو لك) (4)
وفي رواية قال صلى الله عليه وآله وسلم لجابر في سفر: (بعني جملك)، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي وأمي، فقال: (بعنيه) فباعه إياه، وأمر بلالا أن ينقده ثمنه، فأنقده، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما) (5)، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكافأة لقوله: بل هو لك، فأعطاه الثمن، ورد عليه الجمل، وزاد الدعاء بالبركة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك يكافي المحسن بالدعوات الطيبات المباركات المجابات:
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه الطبراني.
(3) ذكره ابن فارس في كتابه أسماء النبي (.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه البخاري.
النبي المعصوم (206)
قال ابن عباس: كنت في بيت ميمونة فوضعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طهوره، فقال: (من وضع لي هذا؟)، فقالت ميمونة: عبد الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)
وفي حديث أبي قتادة الطويل العظيم المشتمل على معجزاتٍ متعدّداتٍ لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: فبينا رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يسيرُ حتى ابهارّ (1) الليل وأنا إلى جنبه، فنَعَس رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فمالَ عن راحلته فأتيتُه فدعَّمتُه من غير أن أُوقظَه حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى تهوَّر (2) الليلُ مال عن راحلته، فدعَّمتُه من غير أن أوقظَة حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى إذا كان من آخر السَّحَر مالَ ميلة هي أشدّ من الميلتين الأُولَيَيْن حتى كاد ينجفلُ (3)، فأتيتُه فدعَّمته، فرفعَ رأسَه فقال: (مَنْ هَذَا؟) قلتُ: أبو قتادة، قال: (مَتَى كان هَذَا مَسِيركَ مِنِّي؟) قلتُ: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: (حَفِظَكَ اللّه بِما حَفِظْتَ بِهِ نَبِيّهُ) وذكر الحديث (4).
وفي حديث جرير بن عبد اللّه البَجَليّ قال: كان في الجاهلية بيتٌ لخثعمَ يُقال له الكعبة اليمانية، ويُقال له ذو الخَلَصة، فقال لي رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (هَلْ أنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟)، فنفرتُ إليه في مئة وخمسين فارساً من أحمسَ فكسَّرْنَا وقتلنَا مَن وجدنا عنده، فأتيناه فأخبرناه، فدعا لنا ولأحمس (5).
وعن جابر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال: (مرحبا يا جويبر جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، آويتموني إذ طردني الناس، ونصرتموني إذ خذلني الناس، فجزاكم الله معشر الأنصار خيرا)، فقلت: (بل جزاك الله عنا خيرا، بك هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من شفا حفرة
__________
(1) انتصف.
(2) أي ذهب معظمه.
(3) يسقط.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري ومسلم.
النبي المعصوم (207)
من النار، وبك نرجو الدرجات العلى من الجنة) (1)
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن مقابلة المعروف بالدعاء من أعظم الجزاء على المعروف، ومن أفضل ما يقابل به الإحسان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صنع إليه معروف، فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء) (2)، وفي رواية: (من أسدى إليه بمعروف فقال للذي أسداه: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء)
وقد روي عن عبد اللّه بن أبي ربيعة قال: استقرضَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم منِّيَ أربعين ألفاً، فجاءَه مال فدفعَه إليَّ وقال: (بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ) (3)
بل دعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى كثرة الدعاء لمن عمل معروفا إلى أن يتيقن أنه قد أوفاه أجره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) (4)، وفي رواية: (حتى تعلموا أنكم شكرتموه، فإن الله تعالى شاكر يحب الشاكرين) (5)
سكت قليلا، ثم راح يترنم بقول الشاعر:
يروى حديث الندى والبشر عن يده... ووجهه بين منهل ومنسجم...
من وجه أحمد لي ندى ومن يده... بحر ومن فمه در لمنتظم...
يمم نبيا يباري الريح نافلة... والمزن من كل هامي الورد خير همي...
لو عامت الفلك فيما فاض من يده... لم تلق أعظم بحرا منه أن تعم...
يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ... به ودع كل طامي الموج ملتطم
لو لم تحط كفه بالبحر... ما شملت كل الأنام وروت قلب كل ظمي
-\--\-
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد جيري فالويل ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم.
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
(3) رواه النسائي وابن ماجه وابن السني.
(4) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
(5) رواه الطبراني.
النبي المعصوم (208)
في مساء اليوم الخامس.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (فرانكلين جراهام) (1).. وقد كان هذا الرجل في بداية حياته لاعب سيرك، وكان يتقن من فنون السيرك ما أثر في حياته جميعا، فهو يتصور جميع حركات الحياة بمنظار حركات التشويش البصري التي يقوم بها البهلوان في ميدان السيرك.
بعد ذلك.. وبعد أن عجزت أعضاؤه أن تقوم بحركات البهلوان، انضم إلى حزب مغمور من الأحزاب السياسية.. ولكنه استطاع بفضل ما تعلمه في السيرك من فنون الحيل أن يجعل لحزبه صوتا محترما مسموعا.
__________
(1) أشير به هنا إلى فرانكلين جراهام: وهو ابن القسيس الأمريكي بيلي جراهام، وقد عمل والده قسيساً خاصاً للرؤساء الأمريكيين منذ عهد ريتشارد نيكسون، وحتى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.
وتولى ابنه فرانكلين جراهام نفس المهمة بعد تقاعد الأب، وقام بعمل الطقوس الدينية لتنصيب الرئيس الأمريكي جورج دبليوبوش.
وقد تولى جميع مسئوليات الكنيسة التي أنشأها أبوه، والتي تعد من أكبر الكنائس الأمريكية عدداً وتأثيراً، وقامت خلال السنوات الماضية بأكثر من 450 حملة تنصير في جميع أنحاء العالم.
وقد أدلى فرانكلين جراهام بتصريحات إعلامية ذكر فيها أن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام، وأن القرآن (يحض على العنف) وكرر جراهام خلال برنامج (هاينتي وكولمز) المذاع على قناة فوكس نيوز الأمريكية في الخامس من أغسطس 2002 م رفضه الاعتذار عن تصريحات أدلى بها بعد حوادث سبتمبر 2001 م وصف فيها الإسلام بأنه دين (شرير)، وفي كتاب جديد لفرانكلين جراهام يسمى (الاسم) The name، يحتوي على نصوص تتسم بالسفه والحطة بهدف الإساءة إلى الإسلام ومنها قوله في صفحة 71: (الإسلام.. أسّسَ بواسطة فرد بشري مقاتل يسمى محمد، وفي تعاليمه ترى تكتيك (نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري)، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً، من الواضح أن هدف الإسلام النهائي هو السيطرة على العالم)
ويقول في صحفة 72: (إن القرآن يحتوي على قصص أُخذت وحُرّفت عن العهدين القديم والجديد.. لم يكن للقرآن التأثير الواسع على الثقافتين الغربية والمتحضرة الذي كان للإنجيل، الاختلاف رقم واحد بين الإسلام والمسيحية أن إله الإسلام ليس إله الديانة المسيحية)
وبسبب أقواله هذه اخترناه لهذا الفصل، مع التنبيه إلى أن ما نسوقه من معلومات أو حوار لا علاقة لها أصلا بالمسمى الحقيقي، وإنما هو مجرد اسم.
النبي المعصوم (209)
لكن أعضاء حزبه الذين تعلموا منه فنون الخداع والحيلة ارتدوا عليه، فصار في ذيل الحزب بعد أن كان رأسه المدبر.. ولم يرضه هذا، فاستقال منه، وانصرف إلى الكنيسة.
ولكن الخصال التي تولدت عنده من طول صحبته لرجال السيرك عادت فسيطرت عليه من جديد، فأخذ يتقرب من رجال السياسة بما يحبون أن يتقرب به البشر إليهم.. فقربوه إليهم كما لم يقربوا قبله أي رجل دين.
وقد بدأت علاقة أخي به بسبب هذه الصحبة.. فكلاهما يحب المناصب الرفيعة.. وكلاهما ينبهر بالعروش.. سواء عروش السلطة الدنيوية، أو عروش السلطة الدينية.. وكلاهما يتقن من فنون التكتيك ما يستطيع أن يحقق به كل ما يشتهي من مآرب.
لكنه عاد في ذلك المساء بغير ما كانت الجماعة تتوقع منه.. فقد جاء على غير العادة كالح الوجه مصفر الشفتين.. وكأنه كان يخوض غمار حرب من غير أن يحمل معه أي سلاح.
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
تفرس في وجوههم ـ كعادته ـ قبل أن ينطق بأي كلمة، ثم قال: لا شك أنكم تسمعون بما يسمى الكر والفر.. فإن لم تكونوا قد سمعتم به من قبل، فهو أسلوب من أخطر أساليب الحروب وأكثرها نفعا.. وقد مارسه المسلمون في جميع حروبهم.
قال رجل منا: فهل مارست اليوم هذا الأسلوب؟
قال فرانكلين: أجل.. لقد مارسته كما لم أمارسه طول حياتي.. وهم الآن في كمين.. ويوشك أن ننتصر عليهم.
قال الرجل: ما دمت تحمل هذه البشرى.. فلم نراك ذابلا ممتلئا بالمخافة؟
قال فرانكلين: المعركة صعبة.. وأسلوب الكر والفر أصعب أنواعها..
قال رجل من الجماعة: لم أفهم بعد مرادك من هذا الأسلوب.
قال فرانكلين: هذا الأسلوب يعتمد على تظاهر المنتصر القوي بالهزيمة أمام خصمه.. فإذا
النبي المعصوم (210)
ما اتبعه انقض عليه انقضاضا يقضي عليه.
قال الرجل: فقد تظاهرت اليوم بالهزيمة إذن؟
قال فرانكلين: هزيمة المنتصر.. لا هزيمة المنهزم.
قال الرجل: فهل انقضضت عليه بعد أن وضعته في كمينك؟
قال فرانكلين: إن ذلك يستدعي وقتا.. المهم أنهم الآن في الكمين..
ابتسم أخي، وقال مخاطبا الجماعة: لماذا نضيع وقتنا في كل هذا اللغو.. لقد سجلنا كل ما حصل.. ولنكتف بما وقع؟
ابتدر دون انتظار رد الجماعة، ووضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:
ظهر (فرانكلين جراهام) في ميدان الحرية كمهرج أكثر منه كرجل مرتبط بالكنيسة، وله مكانة عالية فيها..
لقد استعمل أسلوبا من أساليب الخداع التي تعلمها أثناء عمله مهرجا في السيرك، لقد أخرج منديلا.. وأراه للجماعة التي أحاطت به، وقال: ألا ترون هذا المنديل الأبيض؟..
أجابت الجماعة بالإيجاب، فقال: ألا تشكون في كونه منديلا؟
قالوا: لا نشك.
فقال: ألا تشكون في كونه أبيض؟
قالوا: لا نشك.
أدار المنديل بحركات بهلوانية، اختفى بعدها المنديل لتحل بدله حمامة حية ممتلئة حياة.
تعجبت الجماعة عجبا شديدا.. وفغرت فاهها لذاك، فقال: لا شك أن لكم من الذكاء ما يعتبر ما فعلته مجرد خدعة لها أصولها، وكيفيتها.. ولذلك لم تنخدعوا..
نعم.. أثار ذلك تعجبكم، ولكنكم في نفس الوقت تعلمون أن المنديل منديل.. هو هذا المختفي داخل كمي.. وأن الحمامة كنت أيضا أخفيها بطريقتي الخاصة.. وقد استطعت بما تعلمته
النبي المعصوم (211)
من أساليب الخداع أن أحول في أبصاركم المنديل حمامة.
ولكن.. لو كان بينكم أغرار أو مغفلون أو صغار لم تنضج عقولهم، فإنهم سينخدعون.. أليس كذلك؟
قالت الجماعة: بلى.. فهات خدعة أخرى.. وعلمنا من أسرارها ما علمتنا من أسرار هذه الخدعة.
قال: هناك خدعة تحتاج منكم صبرا كثيرا لتعلمها.
قالوا: هاتها.
قال: لقد تعلمت هذه الخدعة من رجل ظهر في بلاد العرب قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.. كان اسمه محمد..
تعجبت الجماعة، وقال بعض المسلمين منهم: أتقصد رسول الله.. ذلك الصادق الأمين الذي امتلأت الأرض رحمة وجمالا ونورا بمحياه.
التفت إليه فرانكلين، وقال: لاشك أنك من الأغرار الذين استطاع محمد أن يلعب بعقولهم.. فيحول من المنديل الأبيض الذي لا حياة فيه حمامة كتلك الحمامة التي أخرجتها لكم.
قال الرجل: ولكن محمدا رجل من أهل الله، أوحى الله إليه.. وكان ذلك الوحي هو النور الذي اهتدت به أجيال طويلة من الإنسانية.. بل لا تزال تهتدي.. بل إن الظمأ يصيبها أو يقتلها إن هي أعرضت عنه.
قال فرانكلين: لقد ذكرت لك أن محمدا لم يكن سوى مخادع أو ساحر لا يختلف خداعه وسحره عن الخداع والسحر الذي مارسته أمامكم الآن.
لقد أدرك قومه هذا.. فلهذا لم تنطل حيله على عقلاء قومه.. وقد ذكر قرآنه هذا.. ففيه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (النمل:13)، وفيه: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصافات:15)، وفيه: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}
النبي المعصوم (212)
(الزخرف:30)، وفيه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الاحقاف:7)، وفيه: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر:2)
قال الرجل: ولكنه أتى بقرآن معجز.. لا تزيده الأيام إلا إعجازا.
قال فرانكلين: لقد استطعت مع مجموعة من أصدقائي أن آتي بكتاب مثل القرآن.. نعم.. هو لم ينتشر بعد انتشار القرآن.. ولم يشتهر اشتهاره.. ولم يذب في الألسن ذوبانه.. ولكن الأيام وحدها كفيلة بأن تجعل له من القوة ما يبز به قرآن محمد (1).
قال الرجل: فاقرأ علينا من قرآنك ما يملؤنا بالخشوع الذي ملأنا به قرآن محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
استجمع فرانكلين كل ما تعلمه من فنون الخداع، وراح يمثل صورة الخاشع المتبتل، وبصوت ممتلئ بحشرجة الدموع راح يقرأ: (بسم الأب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد، مثلث التوحيد، موحد التثليث ما تعدد) (زعمتم بأننا قلنا: قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.. يا أهل الضلال من عبادنا: إنما دين الحق هو دين الإنجيل والفرقان الحق من بعده، فمن ابتغي غير ذلك دينا فلن يقبل منه فقد كفر بدين الحق كفر) (سورة الجزية: 12، 13)
ثم نظر للجمع، فلم ير دمعة واحدة تسقط من عيونهم.. فزاد من درجة خشوعه، وراح يقرأ: (ولقد أنزلنا الفرقان الحق وحياً، وألقيناه نوراً في قلب صفينا ليبلغه قولاً معجزاً بلسان عربي
__________
(1) أشير هنا إلى ما يسمى (الفرقان الحق) وهو الكتاب الذي يوزع في بعض بلادنا الإسلامية ويبث على عشرات المراقع على شبكة الإنترنت ويعرض على أنه القرآن البديل لقرآن المسلمين.. وهذا الكتاب لم يدع شيئا من الإسلام إلا ونال منه سواء على المستوى الديني أو السلوكي أو الاجتماعي.
وسُوَر هذا الفرقان كلها هجومٌ وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين، وتسفيهٌ لكل شئ جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ...
وقد اشتمل هذا الكتاب على: المقدمة والبسملة والخاتمة ثم سبعا وسبعين سورة، وكل سورة تتكون من عدد من الآيات، وقد اشتملت هذه السور على موضوعات تكاد تكون مكررة في كل سورة بصورة مملة.
النبي المعصوم (213)
مبين، مصدقاً لما بين يديه من الإنجيل الحق صِنْواً فاروقاً محقاً للحق، ومزهقاً للباطل وبشيراً ونذيراً للكافرين) (التنزيل 4، 5)
لم يلاحظ أي تأثر على وجوه الجمع المحيط به.. فضم إلى خشوعه ترتيلا كترتيل المسلمين للقرآن، وراح يقرأ: (واصطفيناه وشرحنا صدره للإيمان وجعلنا له عيناً تبصر وأذناً تسمع وقلباً يعقل، ولساناً ينطق، وأوحينا إليه بالفرقان الحق، فخطه في سبعة أيام وسبع ليال جليداً) (الشهيد:2).. (لقد طوعت لكم أنفسكم قتل صفينا شاهدين على أنفسكم بالكفر، أفتقتلون نفساً زكية، وتطمعون برحمتنا وأنتم المجرمون، لا جرم أنكم في الدنيا والآخرة أنتم الأخسرون، وختمتم بدمه آية تُكْوى بها جباهكم وتشهد عليكم بأنكم كفرة مجرمون، وأنه الصفي الأمين، وأن الفرقان الحق هو كلمتنا وهو الحق اليقين، ولو كره الكافرون) (الشهيد: 6: 8).. (فرقان حق صنو الإنجيل الحق الذي كلمنا به آباءكم وذكري للمدكرين) (الإعجاز:2).. (ونحن الله الرحمن الرحيم ثالوث فرد إله واحد لا شريك لنا في العالمين) (الثالوث:6).. (إنما صلبوا عيسي المسيح ابن مريم جسدا بشرا سويا وقتلوه يقينا) (الصلب:10).. (إن أهل الضلال من عبادنا أشركوا بنا شركاً عظيماً فجعلونا تسعة وتسعين شريكا ًبصفات متضاربة وأسماء للإنس والجان يدعونني بها وما أنزلنا بها من سلطان، وافتروا علينا كذباً بأنا الجبار المنتقم المهلك المتكبر المذل، وحاشا لنا أن نتصف بإفك المفترين ونزهنا عما يصفون) (الثالوث 8: 10).. (وقام منكم ناعٍ ينعق بنقمة الباطل على الحق، وحقد الكفر على الإيمان، ونصرة الشر على الخير، فكان لوحي الشيطان سميعا) (المسيح:15).. (والذين آمنوا بالإنجيل الحق وعملوا الصالحات، أولئك هم خير البرية، والذي كفروا وآمنوا بالشيطان ورسله أولئك هم شر البرية) (الإخاء:8).. (يأيها الناس إنما تتلى عليكم آيات الشيطان مضللات، ليخرجكم من النور إلى الظلمات، فلا تتبعوا وحي الشيطان، واتخذوه عدواً لدوداً) (الإخاء:15)
التفت إلى الجمع، فلم ير أي تأثر، فقال: سأقرأ عليكم ما يقول قرآننا عن محمد.. لقد قال
النبي المعصوم (214)
في (الأنبياء:18)،: (وحذرنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبينوه من بيِّنات الكفر، وعرفوه من ثمار أفعاله، وكشفوا إفكه وسحره المبين، فهو رسول شيطان رجيم لقوم كافرين) وفي (الأنبياء:16) (وما بشرنا بني إسرائيل برسول يأتي من بعد كلمتنا، وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق، وأنزلنا سنة الكمال، وبشرنا الناس كافة بدين الحق، ولن يجدوا له نسخاً، ولا تبديلاً إلى يوم يبعثون)
بل إن قرآننا وصف محمدا بالطاغوت.. بل خصه بسورة (الطاغوت)، اتهمه فيها بإشعال الحروب، وإخراج الناس من النور إلى الظلمات، والسلب، والزنى، والكفر..
وقال قرآننا في سورة (الإعجاز 5: 9): (وما نرسل من رسول إلا لخير عبادنا يريهم صراطنا المستقيم، وأما من أغواهم وأضلهم فهو رسول شيطان رجيم، فصراطه عِوج وإعجازه عجمة ونوره ظلمة فلا تتبعوه ولا تنصتوا له واتخذوه مهجورا، ولايزال الذين كفروا في مرية من الفرقان الحق حتي تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب مقيم، ومن الناس من يجادل فيه بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير)
وقال قرآننا في الشهادة التي يتسابق لها المسلمون: (يا أيها الذين ضلوا من عبادنا: إذا سئل أحدكم عن الروح قال: الروح من أمر ربي، فما أوتيتم من العلم كثيراً أو قليلاً وما سألتم أهل الذكر الذين بشروا بالروح قبل جاهلية ملتكم بمئات السنين، وإذا استشهدتم في سبيل جنة الزنى فقد نعم كفرة الروم قبلكم بجنة تجري من تحتها الأنهار يلبسون فيها ثياباً خضراً وحمراً متقابلين ومتكئين على الأرائك يطوف عليهم ولدان ونساء بخمور ولحم طير وما يشتهون وهم الكافرون، وبزت جنتهم جنتكم التي استشهدتم في سبيلها فرحين طمعاً بما وعدتم به من زنى وفجور)
النبي المعصوم (215)
التفت إلى الجمع، فلم ير أي تأثر، فقال: سأقرأ عليكم قرآنا آخر كتبه سلف صالح لنا (1).. لقد قال فيه: (بسم الله الغفور الرحيم، أعارض قرآن مَنْ آخر اسمه الدال وأوله الميم، بلسان فصيح عربي مبين، لا يمنعني منه سيف ولا سكين، إذ قال لي بلسان الإلهام سيد المرسلين: قل المعجزة لا شريك فيها لرب العالمين وفي الفصاحة يشترك كثير كثيرين يغلب فيها أحيانًا الصالح الطالح والكافر المؤمنين، فليست الفصاحة ولو في النهاية آية ولا معجزة اللهم إلا عند الذين أوطاهم عشوة معلم مجنون حتى قالوا عنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مع أنه بإقراره في سورة الأحقاف لم يدر قط ما يُفْعل به ولا بتباعه أجمعين أكتعين، فقل يا من اسمه رمند ولقبه مرَتْيِن: آه، لقومٍ يقبل الباطل والخرافات والترهات كأنها اليقين، وإن كنتم في شك مما ألهمنا إليه عبدنا يا معاشر المسلمين فأتوا بحلِّ هذه الحجة، وبمثل هذه السورة وادعوا لذلك إخوانكم من الجن إن كنتم مهتدين. فإن لم تقدروا، ولن تقدروا فقد زهق الباطل، وانتقام اليقين والحمد والشكر لله آمين، آمين)
بقي فرانكلين وقتا غير قليل يرطن بمثل هذه الركاكة إلى أن كاد الجمع ينفض عنه.. بل عزم بعضهم على ذلك إلى أن ارتفع صوت مهيب يخترق تلك الركاكات يرتل بخشوع ومهابة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
__________
(1) هو ريموند مارتيني (1220 ـ 1284 م) وهو راهب مبشر دومينيكاني إسباني، تبحر في دراسة القرآن، واجتهد في الجدل ضده، فألف كتابًا بعنوان (الخلاصة ضد القرآن)، وقد حاول معارضة القرآن، فوضع السورة المذكورة (عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص 213 ـ 215)
النبي المعصوم (216)
(115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (الأنعام)
ارتفعت العيون إلى صاحب الصوت المهيب، فإذا به الحكيم، فافترت ثغور المجتمعين على ابتسامة فرح وسرور، وانصرفت عن فرانكلين إلى الحكيم.
أراد فرانكلين أن يصرف إليه المستمعين، فقال: ما بكم؟.. هل غركم هذا الساحر عن أنفسكم.. أم أن سحره قد انطلى عليكم؟
قال الحكيم: الساحر لا يرى في حياته إلا السحر.. والمجنون لا يرى في حياته إلا الجنون.
قال فرانكلين: هل تراك تتهمني، أم تقذفني، أم تسبني؟
قال الحكيم: أنا لا أتهمك ولا أقذفك، وما علمنا نبينا أن نسب أحدا من الناس، ولكني أعرض عليك أن نبحث في الحقائق بعيون أهل الحقائق لا بعيون أهل الدجل.
قال فرانكلين: وما عيون أهل الدجل؟
قال الحكيم: تلك العيون التي رأى بها فرعون وملؤه ما جاءهم به موسى - عليه السلام - من الآيات، فقد رأوها سحرا لأنهم لم يروا في حياتهم إلا السحر، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} (غافر)، وقال تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)} (الذاريات).. ألا ترى عمى هذا الأحمق عن الاحتمالات التي يتطلب العقل السليم النظر فيها.. فقد انحصر ما فعله موسى - عليه السلام - عنده في السخر أو في الجنون.
قال فرانكلين: فأنت تشبهني به إذن؟
قال الحكيم: بل أنت تشبه نفسك به.
قال فرانكلين: كيف تقول ذلك، ثم تدعي أن نبيكم لم يعلمكم أن تسبوا أحدا من الناس.
قال الحكيم: في إمكانك أن تصرف هذه المسبة عنك، وتلصقها بي.
النبي المعصوم (217)
قال فرانكلين: كيف ذلك؟.. وهل يمكن للمسبة أن تتجول لتبحث عمن تحل به؟
قال الحكيم: لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (أيما امرئ قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: أنت لي عدو فقد باء أحدهما باثمه إن كان كذلك، وإلا رجعت على الأول) (2)
قال فرانكلين: فكيف أحولها إليك؟
قال الحكيم: هيا بنا نحتكم إلى ما احتكم إليه فرعون.
قال فرانكلين: وإلى ما احتكم فرعون؟
قال الحكيم: لقد قص القرآن علينا خبر ذلك، فقال: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} (الأعراف)
كان لقراءة الحكيم تأثيرها الكبير في نفوس المستمعين، بحيث كادوا ينحازون انحيازا كليا إليه، فخشي فرانكلين إن تصرف أي تصرف لا يقبله العقل أن يظهر بمظهر المنهزم، فقال: فاعتبرني موسى.. وتعال ألق بحبالك، لألقي بعصاي.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الخرائطي في مساوي الاخلاق.
النبي المعصوم (218)
قال الحكيم: لا يمكن أن يعتبر أحدنا نفسه موسى.. فموسى هو النتيجة التي نصل إليها.. وموسى هو الحقيقة التي تقضي على الباطل..
قال فرانكلين: فلنعتبر أنفسنا جميعا سحرة ومخادعين.. ولنلق ما عندنا من حبال وعصي لنعرف من منا موسى، ومن منا غيره؟
قال الحكيم: أما كون ما كنت تقرؤه سحرا وخداعا، فلا أظنك تخالفني فيه.. أم أنك تخالفني فيه؟
قال فرانكلين: ماذا تقصد؟
قال الحكيم: لا شك أنك تعرف كاتب تلك الآيات التي كنت تقرؤها إن كان يصح أن تسمى آيات.
قال فرانكلين: أجل.. وبيني وبينه علاقة وثيقة.
قال الحكيم: فهل ادعى هذا الرجل النبوة، أم أنه لا يزال تابعا للمسيح، ولما يأمر به رجال السلطة الكنسية؟
قال فرانكلين: بل هو لا يزال مخلصا للمسيحية.. ولرجال الدين المعصومين فيها.
قال الحكيم: فما قرأته إذن من اعتباره صفيا مرسلا إليه كذب وخداع؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: هل يزعم صاحبك هذا أن ما يقرؤه على الناس كلام الله موحى به إليه كما أوحيت الأسفار المقدسة للنبيين؟
قال فرانكلين: هو لا يزعم ذلك، وهو أكثر تواضعا من أن يزعم ذلك.
قال الحكيم: فقد كذب إذن في نسبة كلامه إلى الله..
قال فرانكلين: أنت لم تفهم غرض هذا الكتاب.
قال الحكيم: فوضح لي غرضه.
قال فرانكلين: إن غرضه أن يرد على التحدي الذي نطق به القرآن.. ألم يزعم القرآن أنه لو
النبي المعصوم (219)
اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل القرآن لن يأتوا بمثله؟
قال الحكيم: أجل.. لقد قال تعالى في ذلك التحدي: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} (الإسراء)
قال فرانكلين: فقد رد صاحبي هذا على هذه الدعوى.
قال الحكيم: بل لم يرد عليها؟
قال فرانكلين: كيف ذلك، وأنت ترى آياته لا تختلف كثيرا عن آيات القرآن؟
قال الحكيم: إن ما تقوله يشبه ما رآه فرعون من عصا موسى - عليه السلام - حين تصورها سحرا.. لأنه تصور أن كل خارق للعادة لن يكون إلا سحرا.
قال فرانكلين: فكيف تميز السخر عن غيره؟
قال الحكيم: بالاحتكام إلى أهل الاختصاص.. لقد احتكم فرعون إلى أهل الاختصاص من السحرة، فلم يملكوا إلا أن يسجدوا.
قال فرانكلين: فلمن نحتكم نحن الآن؟
قال الحكيم: لقد أثبتنا أن ما قرأته ليس كلاما من الله.. وأقررت بنفسك أن صاحبك هذا مجرد متلاعب، وليس صاحب رسالة كما تزعم كلماته.. وبذلك كانت حباله التي ألقاها مجرد سحر وخدعة بصرية كتلك الخدعة التي كنت تمارسها الآن بيننا.
قال فرانكلين: فالدور الآن إذن لمحمد.
قال الحكيم: أجل.. والعقل السليم يطلب منا أن ننظر فيما ألقاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما جاء به هل هو رسالة من الله إليه، أم هو مجرد خدعة لا تختلف عن خدعة صاحبك؟
قال فرانكلين: فكيف نعرف ذلك؟
قال الحكيم: إن المخادع يتميز بأربع صفات.. والخدعة لا يمكن أن تقوم إلا بأربعة أركان.. ولن ينجخ المخادع إلا إذا تحقق بها.. والعقل السليم يطلب منا تطبيق تلك المواصفات
النبي المعصوم (220)
على ما جاء به محمد - عليه السلام - لنميز بين كونه مخادعا أو صادقا.
قال فرانكلين: فما هي؟
قال الحكيم: أما الأولى، فهي الكذب، فلا يمكن للمخادع أن يكون صادقا، وصاحبك قد علمت أنه كذب فيما ادعاه في كتابك من الوحي الذي أوحي به، وأنت كذلك كذبت على الجماعة حين أخبرتهم أن المنديل تحول إلى حمامة.
قال فرانكلين: والثانية؟
قال الحكيم: الغش..
قال فرانكلين: ما تريد به؟
قال الحكيم: الغش مضاد للنصيحة.. فالغاش لا يطلب إلا تحقيق مطلب شخصي بغض النظر عن مصلحة من يخاعه.
قال فرانكلين: قد أوافقك في أن أفعال السحرة تنطلق من الغش، لأنهم لا يرون إلا مكاسبهم، ولكنك لا يمكنك أن تتهم صاحبي بالغش.
قال الحكيم: المنطق يتهمه.. لأنه مثل من تصدق بعملة مزورة، سر بها الفقير، ليرتد سروره حزنا.
قال فرانكلين: فما الثالثة؟
قال الحكيم: الاحتيال؟
قال فرانكلين: أتتهم صاحبي بالاحتيال؟
قال الحكيم: ما دمت قد أقررت بأن ما ذكره ليس وحيا موحى به إليه، فهو محتال، فالمحتال هو الذي يجعل الغاية مبررا للوسيلة.. فلو أن صاحبك طرق الأمر من بابه، ما اعتبر محتالا، ولكنه لما علا البيت من ظهره اعتبرته محتالا، بل هو نفسه يعتبر نفسه محتالا.
قال فرانكلين: فما الرابعة؟
النبي المعصوم (221)
قال الحكيم: الكسل.
ضخك فرانكلين، وقال: وما علاقة الكسل بالخداع؟
قال الحكيم: لأن المخادع لا يخادع إلا ليجني أرباحا من وراء خدعته.. وهو لذلك يتجنب الطرق المجهدة.. ويركن إلى الطرق السهلة.. وكل ذلك بسبب كسله.
قال فرانكلين: لم أفهم.
قال الحكيم: لاشك أنك ترى سلعا كثيرة مغشوشة تزاحم السلع الأصيلة.
قال فرانكلين: أجل.. أرى ذلك.
قال الحكيم: أيهما أكثر كلفة، وأعظم تعبا: السلع الأصيلة، أم السلع المغشوشة؟
قال فرانكلين: بل السلع المغشوشة.
قال الحكيم: فالكسل هو سبب غش السلع.. فالكسول الذي عجز عن الأصيل راح يخادع بالمغشوش.
قال فرانكلين: فكيف تطبق هذا على صاحبي؟
قال الحكيم: لقد عجز صاحبك أن يكون نبيا حقيقيا، فراح يدعي نبوة مغشوشة.
قال فرانكلين: سلمت لك بهذه الأصول التي تريد أن تطبقها على ما جاء به محمد.. ولكن هل يمكن لشخص في الدنيا أن يطبقها على محمد، وما جاء به محمد.
قال الحكيم: أجل.. وها أنا أمامك.. وسنعرض بعين العقل والمنطق هذه الأصول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال فرانكلين: فلنبدأ بالكذب.. أنت تزعم أن محمدا في دعواه الرسالة لم يكن كاذبا.. وأن ما يقوله من وحي الله إليه صدق لاشك فيه.
النبي المعصوم (222)
قال الحكيم: أجل.. أقول ذلك، كما يقوله المسلمون في جميع أجيالهم.
قال فرانكلين: أليس الصدق هو مطابقة الأمر للواقع؟
قال الحكيم: أجل.
قال فرانكلين: لقد ذكر القرآن الجنة والنار والملائكة وأشياء كثيرة من عالم الغيب.. فكيف تستطيع أن تتأكد من صدق كل ذلك، وأنت لم تر شيئا من ذلك؟
قال الحكيم: ألست تقرأ الجرائد؟
قال فرانكلين: أجل.. وما علاقة ذلك بهذا؟
قال الحكيم: ألست تصدقها فيما تخبرك به من أخبار؟
قال فرانكلين: أجل..
قال الحكيم: حتى لو لم تر ما وصفوه لك من أخبار.
قال فرانكلين: أجل.. فلا يمكنني أن أرحل في كل لحظة لكل بقعة من بقاع العالم لأتأكد مما جرى فيها.
قال الحكيم: فأنت تثق في الموكلين بنقل الأخبار إليك؟
قال فرانكلين: أجل.. فالصحف المحترمة في العادة لا تختار إلا الثقاة.
قال الحكيم: فقد عرفت إذن بأن التأكد من الصدق لا يحتاج إلى أن نعرض كل مايقوله الصادق إلى الواقع، وإلا لم نحتج إلى الصادق للتعرف على الحقائق.
قال فرانكلين: ذلك صحيح.
قال الحكيم: ما تقوله في عالم الشهادة هو نفسه ما يجري في عالم الغيب، فالله تعالى بحكمته لم يجعل البشر جميعا رسلا، وإنما انتقى منهم ناسا ثقاة ليبلغوا رسالته للناس، وليخبروا الناس بما غاب عنهم من حقائق، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:75)
النبي المعصوم (223)
قال فرانكلين: فكيف عرفت أن محمدا مصطفى كهؤلاء؟
قال الحكيم: ذلك علم طويل.. وأدلته لا يمكن استيفاؤها في هذا المحل وحده، وإن تك صادقا، فإن الله سيرسل لك من العقل ما تدرك به صدقه ونبوته.
قال فرانكلين: فكيف تثبت لنا صدق محمد فيما يدعيه؟
قال الحكيم: سأعرض لك ثلاث شهادات على صدقه، وأظن كل صاحب عقل سليم يكتفي بها.
قال فرانكلين: فما هي؟
قال الحكيم: شهادة أعدائه، وشهادة أتباعه، وشهادة الواقع.
قال فرانكلين: كيف يشهد له أعداؤه بالصدق، وهم الذين بارزوه المحاربة؟
قال الحكيم: أحيانا تقف الشهوات أو الأمراض النفسية حائلا بين الإنسان، وبين العمل بما يقتضيه عقله.. ألا ترى أن السكير المدمن يعلم من أضرار الخمر ما يعلم، ولكنه مغلوب على أمره لا يستطيع أن ينفك عن شربها؟
قال فرانكلين: بلى.. فما السكر الذي حال بين قوم محمد، وبين اتباعه ما داموا يعلمون صدقه؟
قال الحكيم: لقد كان لأعدائه من السلطة في بلادهم، ومن المنعة، ولهم فوق ذلك من الأعراف، ما جعلهم ينفرون مما يطالب به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانوا مستيقنين به.. لقد ذكر الله تعالى ذلك في معرض تسليته لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} (الأنعام)
لقد كان أعداؤهم يودون أن يكونوا نبيهم أحد كبرائهم كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31)
النبي المعصوم (224)
وكانوا يودون من نبيهم أن ينصب عرشه بينهم، ثم يدعو كل واحد منهم ليحقق له مطالبه وشهواته كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)
لكنه لما رفض نبيهم أن ينصاع لمطالب نفوسهم بارزوه المحاربة مع علمهم بصدقه.
قال فرانكلين: فلم لم يلب طلباتهم، ليقيم عليهم الحجة؟
قال الحكيم: ألا تعلم أن وظيفة النبي تختلف عن وظيفة الكاهن المتنبئ الساحر.. النبي هاد وطبيب، ولا يمكن للطبيب أن يستسلم لطلبات مريضه، وإلا أضر به استسلامه له؟
قال فرانكلين: لقد ذكرت لي أن قومه شهدوا له بالصدق مع إعراضهم عنه في نفس الوقت.. فكيف عرفت ذلك؟
قال الحكيم: لقد وردت الأسانيد الكثيرة المتواترة تخبر بذلك، وسأذكر لك بعضها لتعلم مدى صدق ما ذكره القرآن الكريم من ذلك.
لقد روي في سبب نزول قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33) أن أبا جهل لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله تعالى الآية (1).
وعن أبي يزيد المدني؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا جهل فصافحه، قال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟! فقال: والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟
وقد روي أن أبا جهل جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، هو وأبو سفيان صَخْر بنِ حَرْب، والأخْنَس بن شِريْق، ولا يشعر واحدٌ منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هَجَم
__________
(1) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
النبي المعصوم (225)
الصبح تَفرَّقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًا أن صاحبيه لا يجيئان، لما تقدم من العهود، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا ألا يعودوا. فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شَرِيق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حَنْظَلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، حملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تَجاثينا على الرُّكَب، وكنا كَفَرَسي رِهَان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه (1).
وروي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شَرِيق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدًا ابن أختكم، فأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبيًا لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غُلِبَ محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا. فيومئذ سُمِّي الأخنس: وكان اسمه (أبيّ)، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدًا
__________
(1) رواه ابن إسحق وغيره.
النبي المعصوم (226)
لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟) (1)
وعن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، أدعوك إلى الله. فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منتهٍ عن سبَِ آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلَّغت؟ فنحن نشهد أن قد بلَّغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء: أن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل (2).
وعن ابن عباس أن أبا سفيان ابن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا ذهبوا إلى الشام، لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد
__________
(1) رواه ابن جرير.
(2) رواه البيهقي، وابن أبي شيبة بنحوه.
النبي المعصوم (227)
أحد منهم؛ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؟ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي فقرأه، قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات فأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ أنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله
النبي المعصوم (228)
علي الإسلام) (1)
وعنه قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تبّا لك يا محمد ألهذا جمعتنا فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1) (2)
وعن عبد الله بن سلام قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كنت ممن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: (أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) (3)
ومن الأعداء الذين شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم عداوتهم الشديدة النضر بن الحارث الذي خاطب قومه قائلا: (يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، ثم قال لهم، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم)، فهذا كلام النضر بن الحارث الذى كان شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذى
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
النبي المعصوم (229)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينصب له العداوة.. وهكذا قال سائر أعدائه كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
ولم تكن هذه الشهادة خاصة بحياتة صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، بل إنه قبل البعثة اشتهر باسم الصادق الأمين، وقد ذكر شريكه في التجارة السائب المخزومي كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ـ بعد أن لقيه يوم الفتح ـ: (مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري) (1)، وفي لفظ أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري)
ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرحوا جميعا، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانته صلى الله عليه وآله وسلم.
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ومما يدخل في هذا الباب إيمان من حاربوه من قبل واحداً فواحداً، طوعاً لا إكراهاً.. ذلك لأنهم ما كانوا يشكون في أن محمداً صادق، ولكن فاجأهم بشيء لم يسمعوا به هم ولا آباؤهم فأنكروه، حتى إذا ذهب هول المفاجأة وحكّموا عقولهم التقى صدق الفكر بالثقة الأساسية بشخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتولد عن ذلك إيمان.
قال فرانكلين: ولكن سبب هذا الإيمان قد يكون طلبا لمصالح لا اقتناعا بصدقه.
قال الحكيم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أكثر حياته الدعوية وهو معدود من المستضعفين، فقد ظل في مكة ثلاث عشرة سنة أمضاها كلها في الاضطهاد والأذى هو وأصحابه، وأمضى في المدينة ثمان سنوات قبل فتح مكة، وهو معرض في كل لحظة للهجوم من كل الجهات.. بالإضافة إلى ذلك لم يكن لدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي مصلحة من المصالح التي تطلبها النفوس.. بل لم يكن عنده إلا التضحية بالنفس والمال والوطن.. فأي مصالح يطلبها هؤلاء بإيمانهم؟
التفت الجكيم إلى فرانكلين، وقال: هذه بعض شهادة خصوم محمد، بعضهم أسلم بعد
__________
(1) رواه أحمد.
النبي المعصوم (230)
خصومة شديدة، وبعضهم مات على كفره.. ولكن الجميع حتى في أشد حالات الخصومة كانوا مؤمنين أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد تمثلت فيه شخصية الصادق في أعلى مراتبها.
قال فرانكلين: ربما تواضعت، فقبلت منك شهادة أعدائه وخصومه، ولكن كيف تعتبر شهادة الأتباع شهادة.. وهي تنطلق من ذاتية محضة.
قال الحكيم: قد يكون التابع تابعا عن غرض، وحينذاك تكون شهادته تابعة لغرضه، ولكن إن خلت الشهادة من الأغراض، وكانت نابعة من إخلاص عميق، فإن ذلك دليل على صدق صاحبها في شهادته.
بالإضافة إلى ذلك فإن الأتباع يرون ما لا يرى غيرهم، وبذلك يكون لشهادتهم من القيمة ما ليس لغيرهم.. لقد قال المستشرق الإنجليزى (هـ جى ويلز) يقرر هذا: (إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا فى صدقه لما آمنوا به) (1)
ويقول هيجنس في كتابه (الاعتذار عن محمد والقرآن Appology for Md. And Quran): (إن أتباع عيسي ينبغي لهم أن يجعلوا علَى ذِكر منهم أن دعوة محمد أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم يحدُث مِثله في الأتباع الأولين لعيسى ومَن بحث عن مِثل ذلك لا يرجع إلَّا خائبًا؛ فقد هرب الحواريون، وانفضُّوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه؛ فخذله أصحابه، وصَحُوا من سكرتهم الدينية، وأسلموا نبيهم لأعدائه يسقونه كأس الموت! أما أصحاب محمد؛ فالتفوا حول نبيّهم المبغي عليه، ودافعوا عنه مخاطرين بأنفسهم إلَى أن تغلب بهم علَى أعدائه)
سكت قليلا، ثم قال: سأورد عليك بعض أخبار هؤلاء الأتباع لتعلم أنه لو لم يكتمل
__________
(1) الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب لأحمد بن حجر آل بوطامى ص 132.
النبي المعصوم (231)
لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كل الصدق ما أخلصوا له ذلك الإخلاص.
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: انتهى أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم، فاقل: فما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل (1).
وعن زيد بن ثابت قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. فقلت له: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه (2).
وفي رواية: فقال سعد: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني من الأموات، وأقرئه السلام، وقل له: يقول سعد: جزاك الله عنا، وعن جميع الأمة خيراً.
وعن مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لقيت العدو ولقيت أبي فيهم، فسمعت لك منه مقالة قبيحة فلم أصبر حتى طعنته بالرمح – أو حتى قتلته ـ، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء آخر فقال: إني لقيت أبي فتركته وأحببت أن يليه غيري، فسكت (3).
وعن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم فقال: غبّر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه!
__________
(1) رواه ابن إسحاق.
(2) رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح.
(3) رواه البيهقي، وقال: وهذا مرسل جيد.
النبي المعصوم (232)
فقال: لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته (1)
وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، وقالوا: قُتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ـ أي قتلى ـ لا أدري أيهم استقبلت به أولاً، كلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمتَ من عطب (2).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت كل هذا الإخلاص... وهل ترى أنه يمكن أن يتوجه لإنسان مخادع كاذب.
إن هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف لم يكونوا أغراراً ولا مغفلين ولا منعزلين عن العالم، بل بعضهم من مكة التي كان العرب يقصدونها سنوياً للحج، وتسلم الجزيرة العربية كلها لأهلها بالفضل والزعامة، عدا عن صلات أهلها بواسطة التجارة مع اليمن ومع الشام حيث مراكز الحضارة، وبعض أصحابه من المدينة حيث الصلات الفكرية مع اليهود وما ينشأ عن ذلك من تفتح ذهني.
لقد كانت هيئته صلى الله عليه وآله وسلم هي دليلهم الأول على مبلغ مكانته من الصدق، ودليلاً كافياً على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى كل ما يبلغه من وحى الله عز وجل، يعرفه بذلك كل من صفت فكرته، وتجرد عن الأنانية كما كان من الحبر عبد الله بن سلام الله عنه فإنه ما إن رآه عند مقدمة المدينة حتى استيقن صدقه كما قال: لما قدم النبى صلى الله عليه وآله وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت فى الناس لأنظر إليه، فلما استبنت
__________
(1) رواه البزار، قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
(2) رواه الطبراني.
النبي المعصوم (233)
وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شئ تكلم به أن قال: (أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام) (1)
فلم يسعه بعد ذلك غير أن يعلن إسلامه، ويتبرأ من كيد يهود وعنادهم ففعل ذلك مقتنعاً مختاراً، وقد نزل فى فضله آيات من كتاب الله تعالى منها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الاحقاف:10)، وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد:43)
وقد ذكر عبد الله بن رواحة هذا الشاهد، فقال:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
بل إن المعاصرين له كانوا يسمونه بالصادق المصدوق (2)، أى الصادق فى نفسه، المصدوق أى المعصوم فيما يجئ به عن ربه عز وجل، ويرون صدقه وعصمته ينبئ عنه مظهره وجواره، قبل أن تنبئ عنه أقواله.
قال فرانكلين: لا بأس.. سأسلم لك بجدوى هاتين الشهادتين.. ولكن كيف تعتبر الواقع شاهدا لنبيكم.. وقد ذكرت لك من قبل أنه لا أحد رأى ما يدعيه محمد من الملائكة، أو الجنة أو النار.. أو أي شيء من ذلك الغيب الذي يدعو له محمد؟
قال الحكيم: هل اجتزت في حياتك أي مسابقة علمية أو وظيفية؟
قال فرانكلين: أجل.. وأنا بسببها قد نلت أعلى الشهادات، وتبوأت أرقى المناصب.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) كما عبر عن ذلك ابن مسعود بقوله: حدثنا رسول الله (وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك... الحديث رواه أبو داود والترمذي.
النبي المعصوم (234)
قال الحكيم: فهل امتحنت في تلك المسابقات في كل ما درسته وطالعته وبحثت فيه؟
قال فرانكلين: لا يمكن ذلك.. فما طالعته وبحثت فيه وتعلمته أكبر بكثير من الأسئلة التي وجهت لي.
قال الحكيم: فكيف اكتفى واضعو الأسئلة بتلك الأسئلة.. وكيف جوزوا لأنفسهم أن يعطوك تلك الأوسمة من غير أن يمتحنوك في كل حرف تعلمته؟
قال فرانكلين: ذلك لا يمكن.. ثم إن الأسئلة التي سئلت عنها لا يمكن أن يجيب عنها إلا من اكتمل له حظ كبير من العلم.. وبهذا يستدل الممتحنون بما أجبت على ما لم أجب.
قال الحكيم: فطبق هذا المقياس على شهادة الواقع لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قال فرانكلين: كيف ذلك.. ونحن لم نر الملائكة ولا الجنة ولا النار.
قال الحكيم: لو رأيت كل ذلك لارتفع التكليف عنك.. لقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} (الفرقان)
قال فرانكلين: فكيف يشهد الواقع لمحمد إذن.. أم أنك تريد مني ثقة عمياء؟
قال الحكيم: استدل بما شهد له الواقع على ما لم يشهد.
قال فرانكلين: كيف ذلك؟
قال الحكيم: حينما استبعد المشركون بعقولهم الضيقة إمكانية البعث استدل الله لهم عن ذلك الغيب المكنون بالواقع المشهود، فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} (يس)
لقد استدل الله لهذا الأحمق الذي استبعد أن يحيي الله العظام بأن الله هو الذي أنشأها أول
النبي المعصوم (235)
مرة وهو الذي أنشأ كل شيء.. فكيف يستبعد منه أن يحيي الموتى.
قال فرانكلين: وما علاقة هذا بما نحن فيه؟
قال الحكيم: أنت تختصر ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الغيب الذي لا يمكن أن نراه ما دمنا في هذه الدنيا.. وتريد من خلال ذلك أن تبين استحالة برهنة الواقع على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك مغالطة عظمى..
قال فرانكلين: كيف تكون مغالطة.. وهي تعتمد منهجا عقليا محترما.
قال الحكيم: ولكنها تصور أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقتصر على ذلك الغيب.. إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يتطلب شهادة الواقع موجود في الغيب وموجود في الشهادة، وليس من المنطق أن نبحث في شهادة الغيب المكنون ونترك شهادة الواقع المعلوم.
قال فرانكلين: ولكن الواقع يشهده كل الناس.
قال الحكيم: من الواقع من لا يشهده أحد من الناس، فيكون حكمه حكم الغيب إلى أن يظهر للوجود.
قال فرانكلين: فهل هناك غيب من هذا النوع نطق به محمد؟
قال الحكيم: كثير هو ذلك الغيب.. وهو ليس من نطق محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل من نطق القرآن أيضا.. وأنا أتحدى كتابك الذي كنت تقرؤه أن ينطق بغيب محترم واحد.
قال فرانكلين: وهل نطق كتاب محمد بغيب من الغيب؟
قال الحكيم: بل نطق بكثير منه.. ولم تزد الأيام كتاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا صدقا وتصديقا (1).
سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنك تعلم بأن آخر النظريات العلمية تنص على أن مبدأ
__________
(1) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالتي (معجزات علمية)، و(معجزات حسية) من هذه السلسلة، وسنذكر هنا بعض النماذح باختصار من باب التمثيل، أما التفاصيل فموجودة في محالها من تينك الرسالتين.
النبي المعصوم (236)
الكون كان ما يسمى بالانفجار العظيم، وأن السماء بجميع ما فيها كانت مجتمعة في نقطة واحدة.
قال فرانكلين: أجل.. وقد كشف قومي ذلك بما أوتوا من حنكة ومعرفة.
قال الحكيم: ألا يمكن أن يكون اليونان هم الذين اكتشفوا ذلك؟
قال فرانكلين: يستحيل ذلك.. فأين معارف اليونان وهذا.. إن هذه المعرفة لم تأت من فراغ.. إنه نتيجة لدراسات فلكية كثيرة.. بل هي لم تعتمد على الدراسات المجردة.. فهي اعتمدت على وسائل متطورة لا يمكن أن يملكها اليونان ولا غير اليونان.
قال الحكيم: فإذا نطق بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطق بها القرآن من غير أي وسيلة.. ولا أي دراسات سابقة.
قال فرانكلين: ذلك مستحيل.
قال الحكيم: فقد نطق القرآن بذلك.. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الانبياء:104)
قال فرانكلين: ربما يكون ما قاله مجرد مصادفة.
قال الحكيم: المصادفة كما تكون في الصواب تكون في الخطأ.. أليس كذلك؟
قال فرانكلين: بلى.. ذلك صحيح.. بل إنها في الخطأ أكثر منها في الصواب.
قال الحكيم: ولكن القرآن الكريم، وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع فيه خطأ واحد (1).
قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الكذب، وعرفنا أن محمدا أبعد الناس عنه، فحدثنا عن
__________
(1) انظر التفاصيل الكثيرة في الرسالتين اللتين سبق ذكرهما.
النبي المعصوم (237)
الغش.
قال الحكيم: الغش مضاد للنصيحة.. والغاش هو الذي يستهين بمصالح الناس، فهو يعبث بها ليخدم مصالحه.
قال فرانكلين: وهذا لن تستطيع أن تنقذ منه محمدا، ولا دين محمد.
قال الحكيم: لا ينبغي أن نتسرع في أحكامنا.. ولننظر للواقع، فالواقع هو وحده الكفيل بتمييز الناصح من الغاش.
قال فرانكلين: أجل.. فما هو الواقع الذي أنجزه محمد غير سفك الدماء؟
قال الحكيم: سفك الدماء موجود في كل واقع.. ولهذا لا ينبغي أن ننحجب بالدماء عن الحقائق.
قال فرانكلين: فمن الشهود الذين تريد أن تستقدمهم ليشهدوا لمحمد بالنصيحة، ويجنبوه عار الغش؟
قال الحكيم: سأكتفي بشاهدين كلاهما تسلم له العقول السليمة، وكلاهما تذعن له.
قال فرانكلين: من هما؟
قال الحكيم: الدين والواقع
قال فرانكلين: وكيف يحق لهذين أن يشهدا؟
قال الحكيم: الدين هو الأصول والفروع التي جاء بها محمد.. والواقع هو تأثير تلك الأصول والفروع في البيئة التي آمنت بها وطبقتها (1).
التفت إلى فرانكلين، وقال: إن شئت مثالا يدلك على هذا.. فاذهب إلى الصيدلي، واسأله عن الشهادات التي تثبت مصداقية أي دواء من الأدوية، فسيذكر لك أنهما اثنان: احتواء الدواء
__________
(1) أكثر رسائل السلسة تحاول البرهنة على هذا، وينظر بصفة خاصة لتأثير الإسلام في الواقع الإنساني رسالة (ثمار من شجرة النبوة)
النبي المعصوم (238)
في نفسه على عناصر الشفاء.. وظهور النتائج الواقعية الدالة على جدواه.
قال فرانكلين: فحدثني عن نصيحة الدين الذي جاء به محمد.
قال الحكيم: أنتم ـ معشر المسيحيين ـ تفخرون على الديانات جميعا بتلك الوصايا التي وردت في الكتاب المقدس، وتكادون تستدلون بها وحدها على صدق ما ورد في الكتاب المقدس، مع ما فيه من تشويه كثير.
قال فرانكلين: ومن لا يفخر بتلك المعاني الإنسانية السامية؟
قال الحكيم: ففي نصوص الإسلام المقدسة من الكتاب والسنة أضعاف تلك النصوص، وهي تحمل من المعاني أضعاف ما ورد في الكتاب المقدس، وهي ليست مجرد وصايا عارية عن طرق التنفيذ، بل هي وصايا لها من التشريعات ما يملأ بها النفس والوجدان.
وسأكتفي بقراءة بعض النصوص المقدسة لترى المعاني السامية التي كان يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي تحيل أن يكون الداعي إليها إنسانا غاشا يكتفي باللهف على خدمة مصالحه.
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (البقرة)
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
النبي المعصوم (239)
وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (الأنعام)
وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} (الإسراء)
وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} (آل عمران)
النبي المعصوم (240)
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} (الأعراف)
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (آل عمران)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: في إمكانك أن تجري مقارنة بين المعاني السامية التي وردت في القرآن الكريم، وبين المعاني التي وردت في كتاب صديقك المقدس..
فإن لم تر كتاب صاحبك قادرا على ذلك، فارتفع لتجري مقارنة بين هذه المعاني وغيرها وبين المعاني التي وردت في الكتاب المقدس..
وأنا متيقن تماما أنك لن تجد في أي كتاب من كتب الدنيا مقدسة كانت أو غير مقدسة من القيم النبيلة ما في الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل يمكن أن يكون أشرف كتاب في الدنيا، وأنبل كتاب فيها كتاب غش؟
وهل يمكن أن يكون من جاء بذلك الكتاب رجلا غاشا كاذبا لا حظ له من الصدق والنصح؟
وهل يمكن لمن دعا إلى تلك القيم النبيلة، وأخبر بالوعيد الشديد المرتبط لمن خالفها أن يكون كاذبا وغاشا.
هل يمكن لمن حذر من الكذب على الله بمثل هذه الصيغ المشددة أن يكون تحذيره هذا
النبي المعصوم (241)
كذبا على الله..
اسمع لهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (آل عمران:94)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأنعام:93)، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:144)، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (لأعراف:37)، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (يونس:17)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود:18)، وقال تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طه:61)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} (العنكبوت:68)، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الشورى:24)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الصف:7)
أحس فرانكلين بثقل الآيات التي كان يقرؤها الحكيم، وكأنه كان يخاطبه بها، أو يخاطب
النبي المعصوم (242)
صديقه الذي سولت له نفسه أن يتحدى كلام الله، فقال برعدة لم يستطع أن يحبسها: فلندع هذا.. وأخبرنا عن تأثير ما جاء به محمد في الواقع.. فإن هناك فرقا واسعا بين النظريات وتطبيقاتها.
قال الحكيم: أولا.. لا ينبغي أن يؤاخذ الأستاذ النصيح الذي لم يألو جهدا في نصيحة طلابه إن قصر بعضهم أو فرط.. ولذلك فتطبيق الدين في جميع مراحل التاريخ الإسلامي تم على مستويات مختلفة، لعل أدناها هو المستوى الذي نعيشه في هذا العصر.. ولذلك لا ينبغي أن نحكم على الإسلام من خلال سلوك المسلمين.
لقد قال تعالى يبين أن خلفاء الرسل مختلفين في مدى تمسكهم بدين أنبيائهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)
بل ذكر أن التفريط أغلب على هؤلاء من الاقتصاد أو السبق، فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169)، وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59)
قال فرانكلين: فقد أخفقت دعوة محمد إذن في جانبها التطبيقي؟
قال الحكيم: بل لم تنجح دعوة في الدنيا كما نجحت دعوة محمد.. كل المبادئ بلت وانهارت وسقطت إلا المبادئ التي جاء بها محمد، فقد آتت أكلها في حياته، وهي لا تزال تؤتي أكلها كل حين.
لن أطيل عليك، بل سأكتفي بشهادة رجل كان يعيش في البيئة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو ابن عمه، وهو يتحدث مع ملك من الملوك حول المبادئ السامة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تحولت بعد ذلك واقعا ملموسا لا زلنا نشهد آثاره إلى اليوم.
النبي المعصوم (243)
لقد سأله النجاشي ملك الحبشة: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟
فقال جعفر: أيها الملك، إنا كنا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلغ، ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة، - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه.
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى العقل الذي يفكر به أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد استدلوا بما نصحهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدقه.. فالنصيحة لا يمكن أن تخرج من غاش.. والصدق لا يمكن أن يخرج من فم كذوب.
قال فرانكلين: ولكن الشريعة المبثوثة في كتب الفقه تحوي مفاسد كثيرة، فكيف تزعم أن الأصول التي تستند إليها أصول صحيحة؟
قال الحكيم: فرق كبير بين كتب الفقه وبين الشريعة.. كتب الفقه تحاول أن تصف الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قد تفلح في ذلك، وقد تخفق.. وإخفاقها لا ينبغي أن يكون مبررا للهجوم على الشريعة.
لقد ذكر علماء المسلمين أن الشريعة المستنبطة من النصوص المقدسة لا يمكن أن تخالطها أي مفسدة أو غش أو مضرة، لقد نص على ذلك بعضهم، فقال: (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل
النبي المعصوم (244)
الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس، وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة) (1)
لم يجد فرانكلين ما يجيب به الحكيم سوى أن قال: دعنا من هذا.. فلنسلم أن محمدا لم يكن يقصد غش من كان يدعوهم.. بل كان يقصد أن ينصحهم ويخرجهم من جاهليتهم إلى ما يسميه نور الإسلام.. ولكنه لم يجد وسيلة صالحة لذلك غير أن يدعي النبوة، فيحقق به ما تعجز سائر الوسائل عن تحقيقه (2).
__________
(1) إعلام الموقعين:3/ 3.
(2) رد بعضهم على هذا الاحتمال بقوله: (نسبة محمد (القرآن إلى الله لا تكون احتيالا منه لبسط نفوذه، وإلا لم لم ينسب أقواله كلها إلى الله.
ولو أننا افترضناه افتراضا لما عرفنا له تعليلا معقولا ولا شبه معقول، اللهم إلا شيئا واحدا قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في (نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم، ونفاذ أمره فيهم؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه، وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه؛ أما أنه فاسد في ذاته، فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئا، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئا، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتها في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.
و أما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه إلى يومنا هذا: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (يونس:16) (انظر: شبهات حول القرآن وتفنيدها، د. غازي عناية، ص:21)
النبي المعصوم (245)
لاشك أن محمدا كان يعرف الطبع العربي، ويعرف الأنفة التي جبل عليها، وهي أنفة تمنعه من أن يسلم إلا لصاحب زعامة دينية.. ولم يكن محمد يستطيع أن ينال هذه الزعامة من غير واسطة ادعاء النبوة، خاصة وأن الظروف قد ساعدته على ذلك، فالبيئة التي عايشها كانت كلها تزعم أن نبيا قد اقترب موعده، وأن بلده مكة (1)..
ابتسم الحكيم، وقال: نعم.. فلنعتبر هذا احتمالا من الاحتمالات، ولا نستعجل في قبوله أو رفضه حتى نعرضه على حياة محمد وسلوكه، فالمحتال لا بد أن يترك ثغرة تعرف بحيلته..
لاشك أنك تعلم ـ على حسب ما ينص الكتاب المقدس ـ على أن الله تعالى بحكمته لا يترك للمحتال فرصة كافية للتمادي في احتياله.. وأن من يتحدث باسم الله كاذبا على الله لابد أن يأتي اليوم الذي تقع فيه فضيحته.. تقع في حياته قبل موته.
لقد نص الكتاب المقدس على هذا، ولاشك أنك تعلم ما قال غمالائيل معلم اليهود لليهود في حق الحواريين، لقد قال لهم ـ على حسب (سفر أعمال الرسل: 5/ 36 - 39): (يا أيها الرجال الإسرائيليون احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس فيما أنتم مزمعون أن تفعلوا لأنه قبل هذه الأيام قام ثوداس قائلاً عن نفسه: أنه شيء الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة، الذي قتل وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا وصاروا لا شيء بعد هذا قام يهودا الجليلي في أيام
__________
(1) انظر رسالة (معجزات حسية)، فصل (إرهاصات)
النبي المعصوم (246)
الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعباً غفيراً، فذاك أيضاً هلك وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا والآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم لأنه إن كان هذا الرأي وهذا العمل من الناس فسوف ينتقض وإن كان من اللّه فلا تقدرون أن تنتقضوه لئلا توجدوا محاربين للّه أيضاً)
وقد ورد مثل هذا في العهد القديم، ففي الآية السابعة من الزبور الأول هكذا: (لأن الرب يعرف طريق الصديقين وطريق المنافقين تهلك)، وفي الآية السادسة من الزبور الخامس هكذا: (وتهلك كل الذين يتكلمون بالكذب، الرجل السافك الدماء والغاش يرذله الرب)، وفي الآية السادسة عشرة من الزبور الرابع والثلاثين هكذا: (وجه الرب على الذين يعملون المساوئ ليبيد من الأرض ذكرهم)، وفي الزبور السابع والثلاثين هكذا: (لأن سواعد الخطاة تنكر، والرب يعضد الصديقين الخطاة فيهلكون، وأعداء الرب جميعاً إذ يمجدون ويرتفعون، يبيدون، وكالدخان يفنون)
لقد نص القرآن الكريم على هذه السنة، ففيه هذا الخطاب الشديد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} (الحاقة)
إن هذه الآيات الكريمة تخاطب المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقول لهم: لو كان محمد مفتريا كما تزعمون، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. و{لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (1) {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (2)
ومثل ذلك ما نص عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (الإسراء)
__________
(1) قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذنا منه بيمينه.
(2) قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه، وقال محمد بن كعب: هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.
النبي المعصوم (247)
إن هذه الآيات تهديد عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هو افترى على الله ما لم يوح به إليه.
التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: هل ترون مفتريا يمكن أن يقول عن نفسه هذا؟
سكت الجمع، فقال: سأبرهن لكم من خلال القرآن الكريم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاحتيال، وكان أبعد الناس عن ذلك الدهاء الشيطاني الذي يزعمه له المفترون، وسأكتفي بثلاث شهادات تدل على ذلك:
أما الشهادة الأولى، فظاهرة الوحي نفسه، وهي ظاهرة كان يلاحظها الناس في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويصفونها.
وأما الشهادة الثانية، فتأخر الوحي في الوقت الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إليه.
وأما الشهادة الثالثة، فنزول الوحي بالعتاب والتخطئة لرأي رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سلوك سلكه.
فكل هذه الأمور يستحيل أن تصدر من محتال.
قال فرانكلين: كيف تعتبر ما تسميه ظاهرة الوحي دليلا، ونحن نعتبر الوحي نفسه متهما، هل يحق عندك أن يشهد الخصم لنفسه؟
قال الحكيم: إذا كان الخصم صادقا، فإنه يصح أن يشهد على نفسه، بل إن شهادته تبز كل شهادة، أليس الإقرار ـ كما يقال ـ سيد الأدلة؟
قال فرانكلين: فمن السهل إذن أن يدعي أي شخص أنه يوحى إليه، فإذا طولب بالشهود اكتفى بشهادة نفسه.
قال الحكيم: نحن لم نقتصر من الشهود على شهادة الوحي.. بل اعتبرنا شهادة الوحي من الشهادات المعتبرة التي ينبغي أن نأخذها في الحسبان، وهي تؤيد بعد ذلك بآلاف من الشهود.
النبي المعصوم (248)
قال فرانكلين: ما دامت مؤيدة بآلاف من الشهود، فما الوجه لإضافة هذه الشهادة؟
قال الحكيم: لولا شهادة الوحي ما اعتبرنا ـ نحن المسلمين ـ كل أولئك الشهود.. فالشاهد الأول على كون ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيا من الله هو الله نفسه.. فالله سيد الشهود، ولا ينبغي أن تقدم شهادة أخرى عليه.
قال فرانكلين: أنا لا زلت عاجزا عن إدراك سر ضرورة هذه الشهادة.
قال الحكيم: سأقرب لك ذلك.. أنتم المسيحيون تختلفون في طبيعة المسيح.. وأكثركم إما يقول بتأليه المسيح أو أنه ذو طبيعة مزودجة؟
قال فرانكلين: ذلك صحيح.. وما علاقته بما نحن فيه؟
قال الحكيم: فهل لهؤلاء فيما قالوه شهود يشهدون لهم؟
قال فرانكلين: لهم آلاف الشهود التي تدلهم على هذا.
قال الحكيم: هي كلها من أقوال القديسين.. أو استنتاجات الأحبار والرهبان.. وليس فيها نص واحد عن المسيح.. أليس كذلك (1)؟
قال فرانكلين: لا.. هناك نصوص نطق بها المسيح.. ألم تقرأ ما ورد في الأناجيل من قوله ـ مثلا ـ: (أنا والآب واحد)
قال الحكيم: أنت تعلم أن هذا النص ليس المراد به ما يوهمه ظاهره.. وقد فسر المسيح - عليه السلام - المراد منه.. وبذلك يكون قد نفى أي وهم يطرق لكل نص يشبه هذا النص..
لن أطيل عليك.. بل يكفي لتفهم النص أن تقرأ نص المحاورة للرد على الاستدلال بهذا الدليل، لقد ورد نص المحاورة هكذا: قال لهم: (أنا والآب واحد)، فتناول الْيَهُودُ أيضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَرَيْتُكُمْ أَعْمَالاً صَالِحَةً كَثِيرَةً مِنْ عِنْدِ أَبِي، فَبِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا
__________
(1) انظر رسالة (الله جل جلاله) ففيها مناقشات مفصلة لكل النصوص التي يتصور المسيحيون أنها شهادات من المسيح بألوهيتة أو بكونه أقنوما من الأقانيم.
النبي المعصوم (249)
تَرْجُمُونَنِي؟ فأجابه اليهود قائلين: ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك، ولكن لأجل التجديف، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلهاً، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: (أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي شَرِيعَتِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو أُولئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ آلِهَةً وَالْكِتَابُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ فَهَلْ تَقُولُونَ لِمَنْ قَدَّسَهُ الآبُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَالَمِ: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: أَنَا ابْنُ اللهِ؟)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: لا شك أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح: (أنا والآب واحد) أنه يدعي الألوهية، فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه، ويرجموه، فرد عليهم المسيح خطأهم، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته، لأن (آساف) قديماً أطلق على القضاة أنهم آلهة بقوله الثابت في المزمور (82: 6): (أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم)
ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطاناً أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله.
وبموجب هذا المنطق الذي شرحه المسيح لليهود ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله.
ولا يقتضي كل من التعبرين أن في المسيح، أو أن في القضاة لاهوتاً حسبما فهمه اليهود خطأ.
قال فرانكلين: ألا يمكن أن يكون المسيح قد فعل ذلك بهم من باب المداراة؟
قال الحكيم: فأنت ترمي المسيح بما تريد أن ترمي به محمدا.. لا شك أنك تعلم أنه لو فعل ذلك لكان مغالطة منه وغشاً لا مداراة، وهذا لا يليق بالأنبياء الهادين إلى الحق، فكيف يليق بمن تزعمونه إلها؟
فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم ذلك المثل، فيكون بذلك قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته.
النبي المعصوم (250)
قلت: فما تفهم أنت من هذا القول؟
قال: هذا القول يفهم على ضوء المحكمات، وعلى ضوء ما فسره المسيح ببساطة ويسر.. إن المسيح يريد أن يقول لهم: (إن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله).. هو تماما مثل قول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد.. وهو تماما مثل قول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد.. لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه.
أراد فرانكلين أن يغير مسار المناقشة، فقال: ما بالك استطردت كل هذا الاستطراد.. عد بنا إلى ما كنا فيه.
قال الحكيم: أنا لم أستطرد، ولكني أردت أن أبين لك أن أعظم شهادة هي شهادة الله.. وما دام الله لم يشهد للمسيح في الكتاب المقدس أنه إله أو ابن إله، فلا يحق لأحد في الدنيا أن يزيد على كلام الله ما لم يقله..
ولهذا، فإن العقلاء الحكماء يعتبرون أعظم شهادة على كون ما يوحى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي من الله هو نطق الوحي نفسه بأنه من الله.. خاصة إذا علمنا مدى صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فهل يمكن لمن يتحرى الصدق كل ذلك التحري أن يدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.
سكت قليلا، ثم قال: سأقرأ عليك بعض النصوص، وحاول أن تتمعن فيها جيدا لترى هل يمكن لكاذب أن ينطق بها.
أخذ الحكيم يقرأ بصوت خاشع تندك له الجبال قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} (ق)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال أن يدعي كل هذه الدعاوى
النبي المعصوم (251)
العريضة؟
ثم راح يقرأ قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} (النساء)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال أن يقول هذا؟.. وهل سمعت محتالا في الدنيا يستدعي الله ليشهد له على صدقه؟.. ثم كيف ترى الله يسكت على إشهاد محمد له هذه الشهادات ثم لا ينتقم منه؟
لم يجد فرانكلين ما يجيب به، فقال الحكيم: هذه شهادة واحدة من الشهادات.. والقرآن مليء بمثلها.. ولن أطيل عليك بقراءتها.. ولكني أنصحك أن تقرأ القرآن من أوله إلى آخره، وأنت متجرد من فكرة الاحتيال، فإنك لا بد أن تبصر الحقيقة أسطع من ضوء الشمس.
قال فرانكلين: فأنت تريد مني أن أقرأه وأنا أصدق أنه كلام الله.. أو تريد مني أن أعلن الشهادتين ثم أقرؤه؟
قال الحكيم: لا أطلب منك هذا ولا ذاك.. ولكني أطلب منك أن تسمع كلام المتهم وأنت تحمل في نفسك احتمالا بأن المتهم الواقف أمامك قد يكون بريئا مما ألصق به من تهم؟
قال فرانكلين: وما يجديه ذلك؟
النبي المعصوم (252)
قال الحكيم: بل يجديه ذلك كما يجديك ذلك.. فالحقيقة تتطلب منا موضوعة وحيادا.. والموضوعية والحياد كما تكون في القبول تكون في الرفض، فلا يحق لك أن تنطلق من رفض الحقائق لتصل إلى قبولها.
قال فرانكلين: أليس الشك مبدأ اليقين؟
قال الحكيم: ولكن الشك إن لبس لباس التهمة قد يسيء إلى الحقائق، ويضع الحجب دون فهمها.
سكت قليلا، ثم قال: دعنا نعود إلى استشهاد الوحي.. لنرى كيف بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونرى معه إمكانية ادعاء رجل في مثل صدق محمد مثل هذه الدعوى.
لقد ورد في الحديث: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو فى غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذنى فغطنى (1) حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده.
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: إن هذا النص مليء بالشهادات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
قال فرانكلين: أنا لا أرى فيه أي شيء مما تدعي.
__________
(1) الغط: العصر الشديد، والكبس، ومنه الغط فى الماء، الغوص. النهاية: 3/ 335.
النبي المعصوم (253)
قال الحكيم: سننطلق من المسلمات التي أثبتناها.. والتي دلت عليها كل الأدلة: رجل في مثل سن محمد.. في الأربعين من عمره.. كان مشهورا بالصفاء والطهارة والصدق والترفع إلى درجة لا يمكن تصور مداها.. هذا الرجل يأتي فجأة، ومن دون أي مقدمات يرتجف، ويحكي لهم ما حصل له، ويقرأ عليهم من الكلام الغريب ما قيل له، وهو لا يدعي في ذلك شيئا.. بل يأتي خائفا وجلا..
قال فرانكلين: قد يكون ذلك مجرد تمثيلية.
قال الحكيم: لو فعل ما فعل بولس لكان ذلك مجرد تمثيلية لا شك أنك تعلم ما فعل بولس.. ولا شك أنك تعلم ما ادعاه.. ولا شك أنك تعلم أثر كل تلك الدعاوى التي ادعاها.
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لو كان محمد مدعيا لمثل هذه المسرحية أمام قومه، لا أمام زوجته.. ولو كان مدعيا لكان له في الكلام الذي حرره باعتباره وحيا لله من أهواء البشرية ما فيه..
لقد زعم بولس أنه رأى المسيح بعد رفعه بسنوات، بينما هو ذاهب إلى دمشق في مهمة لرؤساء الكهنة تجلى له المسيح دون القافلة التي كان يسير معها، وفي ذلك التجلي منحه منصب الرسالة.. وكان مما قاله له بعد عتابه عما فعله بأتباعه من اضطهاد: (ولكن قم وقف على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به منقذا إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين) (اعمال 26/ 16 - 18).. وهذا الكلام هو نفس ما قال السامري حين قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (طه: 96)
أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي أول وحي يوحى إليه أمر بالقراءة.. وبالقراءة باسم الله.. هذا أول الوحي، وليس فيه أي ذكر لمحمد، ولا للمناصب الرفيعة التي هيئت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي المعصوم (254)
ليس هذا فقط ما أريد أن أستشهد به.. لقد بقيت هذه الظاهرة الغريبة ثلاثا وعشرين سنة.. فهل يمكن لكاذب محتال أن يمارس كذبه واحتياله طول هذه المدة من غير أن يكشف؟
لقد وصف أصحابه ما كان يحصل له عند الوحي، وهي ظواهر غريبة لا عهد للبشر العاديين بمثلها، وهي ظواهر لم يكن يملك محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها جلبا، ولا دفعا.
بالإضافة إلى هذا كله، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلا، فيحرك به لسانه وشفتيه طلبا لحفظه، وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجسا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته؛ من إنضاج الرأي، وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتيا ويلم به سريعا، بحيث لا تجدي الروية شيئا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفيا، فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه، أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة:16)، وقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من الطبيعة شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟
لم يجد فرانكلين ما يجيب به إلا أنه قال: كيف تعتبر تأخر ما تسميه بالوحي دليلا على صدق الوحي.. ألا يكون محمد هو الذي تسبب في تأخره.. أو أن قريحته لم تسمح له بالتأليف في ذلك الوقت؟
النبي المعصوم (255)
قال الحكيم: يمكنك أن تزعم أي شيء، ولكن الذي استطاع أن يحتال على العالم أجمع، بل استطاع أن يحتال على الله نفسه، فيزعم أنه يوحى إليه لن يعجز أن يضع لنفسه ما يخرجه من أي مأزق قد يقع فيه.. سأذكر لك أمثلة على بعض المواقف الحرجة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إلى الوحي، ولكن الوحي تأخر عنه.
من ذلك ما حدث به ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهما صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور. فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبركم غدا عما سألتم عنه)، ولم يستثن، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل - عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ
النبي المعصوم (256)
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)
التفت إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى هذا الموقف المحرج الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أرأيت لو كان محتالا كما زعمت يظل طول تلك المدة هدفا لحديث أعدائه.
قال فرانكلين: لعل المعلومات لم تكن تحضره ذلك الحين.
قال الحكيم: فكيف حضرته بعد خمسة عشر يوما.. إن المعلومات التي طلبها القرشيون معلومات لا علاقة لها بالفكر ولا بالنظر.. بل هي معلومات تحتاج إلى معلم خارجي، ومحمد لم يلتق في تلك المدة بأي معلم خارجي من المعلمين الذين تزعمونهم.
سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر يدلك على هذا.. والأمر فيه أيسر من الجميع:
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة إلى البيت الحرام، ولكن الله تعالى لم ينزل في هذا التحويل قرآنا، على الرغم من تلهف رسوله الكريم إليه إلا بعد قرابة عام ونصف العام.
ففي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة:144)
ولو كان الوحي من تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما تأخر كل هذه المدة لشيء يحبه ويشتهيه ويتشوف إليه ويتحرق شوقا له، ولكنه وحي الله ولا ينزل إلا بأمر الله وإذنه.
التفت إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن للمحتال ألا يفهم ما يقوله بحيث ينتظر أن يشرح له، أو يفصل، أو يبين؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: إن الذي استطاع أن يؤلف كل تلك المسرحية الطويلة
النبي المعصوم (257)
التي تزعمها لا يستحيل عليه مثل هذا، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدرك في بعض الأحيان بيان بعض ما يوحى إليه إلى أن يوحى إليه بتفسيره.
سأضرب لك أمثلة عن هذا:
عندما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (البقرة:284) انزعج الصحابة انزعاجا شديدا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها؛ فقالوا: يارسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:286)، وهناك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.
ومن أمثلة ذلك ما حصل في الحديبية.. لقد أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذرا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع.
فلما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشا قد جمعت جموعها على مقربة منهم، فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذلك استبسالا وصمموا على المضي إلى
النبي المعصوم (258)
البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه.
وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء ـ أي حرنت الناقة ـ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين، هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة.
وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى، فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير امتثالا لهذه الإشارة الإلهية، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلا: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ولكن قريشا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربا ولا مسالما، وأملت عليه شروطا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسالما، وألا ترد هي أحدا يجيئها من المدينة تاركا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا.
لقد كان لهذا الصلح وقع السيء في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضا ذهولا وغما، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين: (لم نعطي الدنية في ديننا؟) وهكذا كاد الجيش يتمرد على إمرة قائده ويفلت حبله من يده.
أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أن يبين لكبار الصحابة حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر: (إني رسول الله،
النبي المعصوم (259)
ولست أعصيه، وهو ناصري) أي: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقا بنصره قريبا أو بعيدا، وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح، فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيما وإجحافا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} (الفتح)
قال رجل من الجمع: وعينا هذا، فحدثنا عن الشاهد الثالث.. وهو ما سميته (آيات العتاب)
قال الحكيم: إن أول غرض للمحتال أي محتال هو أن يبرز شخصيته ويثبت وجوده وقيمته عند من يريد أن يحتال عليهم.. لقد عرفنا ماذا قال بولس عندما أراد أن يظفر بتلك الزعامة بين المسيحيين.
قال فرانكلين: ومحمد فعل ذلك.. ألم يكن يقول: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق
النبي المعصوم (260)
عنه الارض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر) (1)؟
قال الحكيم: أرأيت إن قال الطبيب عن نفسه لمرضاه: إنه طبيب، ليثقوا فيما يقول، وفيما يصف لهم، أيكون بذلك قاصدا الاستعلاء، أم أن المصلحة تطلبت منه ذلك؟
قال فرانكلين: بل المصلحة تطلبت منه ذلك.. ولكن هذا الطبيب الذي وصفته ذكر أنه طبيب، ولم يذكر أنه سيد الأطباء.
قال الحكيم: فإن حصل لطبيب من الأطباء أن اختير ليكون سيد الأطباء وعمدتهم بفضل ما تعلم من علوم وما حصل عليه من خبرة.. هل يكون إخباره بذلك لمرضاه ليزدادوا ثقة فيما يقول قاصدا الاستعلاء، أم قاصدا المصلحة؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لاشك أنك توافقني بأن مثل هذا لا علاقة له بالاستعلاء.. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاستعلاء.. وإنما كان يذكر ما يذكر من فضل الله عليه من باب تنفيذ ما أمره الله به في قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)، وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تعداد ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاقة، وما من الله به عليه بعدها من فضل، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} (الضحى)
أما الاستعلاء المجرد، والذي يحرص عليه المحتالون، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبعد الناس عنه، وسأضرب لك مثالين يدلانك على ذلك:
لقد روي أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، جريا على عادة الجاهلية في أن الشمس تنكسف لموت العظماء، وقد كان في قدرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغل هذه الفرصة ليثبت من الاستعلاء ما يحرص عليه المحتالون، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام خطيبا في أصحابه يحذر من هذه المقولة، ويقول: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
النبي المعصوم (261)
أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي) (1)
وفي رواية: (إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الارض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى تنجلي أو يحدث الله أمرا) (2)
التفت إلى فرانكلين، وقال: أترى أن مثل هذاالتصرف بمكن أن يفعله محتال؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد كان هذا التصرف مثار إعجاب المستشرق المعرفو (إميل درمنغم) (3) الذي قال: (ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلا، فحزن عليه كثيرا ولحده بيده، ووافق موتُه كسوف الشمس، فقال المسلمون: إنها انكسفت لموت إبراهيم، ولكن محمدا كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته..)؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال) (4)
وأما المثال الثاني، فهو ما حدث به بعض الصحابة قال: كان أهل بيت من الأنصار، لهم جمل يسنون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم، فمنعهم ظهره، وإن الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا، فقاموا، فدخل الحائط، والجمل في ناحية، فمشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، إنه قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) رواه النسائي.
(3) مستشرق فرنسي، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) في باريس عام (1929)، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي (، و(محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس (1955).. وقد تحدثنا عن موقفه من الإسلام في رسالة (قلوب مع محمد)
(4) حياة محمد (ص:318).
النبي المعصوم (262)
صولته، فقال: ليس علي منه بأس، فلما نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أقبل نحوه، حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناصيته، أذل ما كانت قط، حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر) (1)
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستغل هذا.. ولم يستغل طلبهم منه السجود له، فيأذن لهم فيه..
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحذرهم من المبالغة في حقه، وكان يقول: (لا تطروني كما أطرى الناصري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (2)، وقال: (لا ترفعوني فوق حقي) (3)، وفي لفظ: (قدري أن الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا)
وروي أن رجلا قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم) (4)
وعن أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك) (5)
التفت إلى فرانكلين، وقال: فإن شككت في بعض هذا، فاذهب إلى القرآن واقرأ حديثه عن محمدا.. إن الإنجيل يبدأ بذكر نسب المسيح.. والحديث عن أم المسيح، وبيئة المسيح.. ويسمي أصحاب المسيح واحدا واحدا.. وهكذا العهد القديم في حديثه عن الأنبياء.. أما القرآن الكريم فيخلو من كل ذلك، فالحديث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطاب توجيهي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إما باسمه غير مقرون بأي وصف من الأوصاف التي يحرص المحتالون على الاتصاف بها.. بل إن من المواضع القليلة
__________
(1) رواه أحمد والنسائي في الكبرى.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه مرسلا.
(4) رواه أحمد، والنسائي وأبو القاسم البغوي.
(5) رواه أحمد، والبخاري في الأدب، والترمذي، وصححه.
النبي المعصوم (263)
التي ورد فيها اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجد هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)، وهي آية تدعو المسلمين إلى الاهتمام بالمبادئ التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحرص عليها ولا يهمهم بعد ذلك هل مات رسول الله أو حيا.
وفي آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (محمد:2) ترى ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم حافيا ليس مسبوقا بأي وصف يحرص عليه المحتالون.. وهكذا في كل القرآن.
بل إن القرآن الكريم يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشرف المواضع بالعبودية، فيقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الاسراء:1)، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجن:19)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أظن أن ما ذكرته كاف ليبن لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاستعلاء..
قال فرانكلين: بل هو غير كاف.. ففي القرآن ثناء على محمد.. ألم تقرأ هذه الآية: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (الحج:67)، وهذه الآية: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (الأحزاب)؟
قال الحكيم: هذه الآيات تصف ما كان عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتصف الوظيفة التي كلف بها.. وليس فيها من المبالغة في حقه ما ذكرت.. لأن المبالغة هي أن تذكر الشيء على غير ما هو عليه، والآية لم تذكر إلا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يعرفه بها جميع الناس.. وهي من خلالها تدعو إلى التأسي به والتحلي بالخلال التي كان عليها، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
النبي المعصوم (264)
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، وهذه الآية مثل ما ورد في الحث على التأسي بإبراهيم - عليه السلام -، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة:4)، ومثل قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (الممتحنة:6)
قال رجل من الجمع: وعينا كل هذا.. فحدثنا عن آيات العتاب، ووجه الاستشهاد بها في رد شبهة الاحتيال عن محمد.
قال الحكيم: في الآيات التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حجة كافية لدى العقلاء في أن مصدر القرآن خارج ذات محمد، لأنه يستحيل أن يعاتب الإنسان نفسه ذلك العتاب الشديد، وعلى الملأ، خاصة إذا كان ذلك المعاتب زعيما يخشى في كل حين أن يرتد الناس عنه، وخاصة إذا كانت زعامته دينية تقتضي منه البحث عن مواطن العصمة والطهارة.
نظر إلى الجمع، وقال: سأكتفي من القرآن الكريم بشاهدين أظنهما كافيان ليكونا أمثلة لهذا النوع من الشهادات:
أما الأول، فما نص عليه قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37)
قام فرانكلين، والفرحة تغمر وجهه، وكأنه قد ظفر بفريسته، وقال: كيف تعتبر هذه الآية
النبي المعصوم (265)
شاهدا لمحمد، ونحن نعتبرها من أكبر ما يدينه؟
ابتسم الحكيم، وقال: إن هذه الآية الكريمة من أعظم دلائل صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان محتالا ـ كما تزعم ـ لم يكن بحاجة لأن ينزل على نفسه مثل هذه الآية التي ستكون محل شبهة كبيرة لجيله ولغير جيله.
قال فرانكلين: كيف تقول هذا، وقد روي أن محمدا أعْجِب بزوجة متبناه (زيد بن حارثة)، فطلقها منه وتزوجها.
ابتسم الحكيم، وقال: فلنفرض ذلك.. هل كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة لأن يكتب آيات في ذلك تظل الأجيال تتناقلها؟
وقبل ذلك: ألم تكن زينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، فقد كان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات، فما كان يمنعه من أن يتزوجها من البداية؟
وما الذي جعله يزوجها لمولاه (زيد)، فلو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؟
قال فرانكلين: فما تقصد هذه الآية من إخفاء محمد شيئا أراد الله أن يبديه؟
قال الحكيم: هذا ما يدلك على أن مصدر القرآن الكريم مصدر خارجي.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم يشتهي شيئا، والله تعالى يخالفه فيما يشتهي.. ولا يمكن أن يصدر ذلك من ذات واحدة لها من العقل والحكمة ما لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منهما.
سكت قليلا، ثم قال: إن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها حياة تعليم وتربية وأسوة.. فلذلك اختار الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لكسر عادة مستحكمة في الجاهلية لم يكن هناك بد من استعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكسرها.
لقد كان زيد أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش بالرغم من أن العرف العربي في ذلك الحين كان يرفض هذا النوع من الزواج.. باعتبار زيد أدنى
النبي المعصوم (266)
درجة من زينب.. وقد كان من أغراض هذا الزواج القضاء على هذه العادة.
وقد كان من عادات الجاهلية بالإضافة إلى هذا أنهم يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه، فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه، فأخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفى في نفسه ما أخبره به الله.
وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له ـ كما نص القرآن ـ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب:37) مراعياً في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد.
التفت إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لرجل في الدنيا يحب امرأة حبا شديدا، ثم لا يتمنى طلاقها من زوجها ليتزوجها هو بدله؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد.. فأنزل الله في هذا قرآناً، يكشف عما جال في خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها.
وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه.
إن شئت أن تتأكد مما ذكرت لك، فاقرأ ما ورد في شأنها في القرآن الكريم من المقدمات السوابق، والمتممات اللواحق، والتي تجعل من هذه الحادثة مادة تربوية وتشريعية عميقة.. لقد قال الله تعالى في بداية السورة التي وردت فيها حاثا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يجعل طاعته خالصة لله وحده لا يؤثر فيها مؤثر آخر مهما كانت درجته: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} (الأحزاب)، وفي نفس السورة نجد هذه الآية التي تحث على اقتصار المؤمن على مراعاة جانب الله قبل أي جانب آخر قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ
النبي المعصوم (267)
وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} (الأحزاب)
وقدم لذلك أيضا بنفي الأسس التي تقوم عليها تصورات المجاهلية المتعلقة بالمتبنين، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} (الأحزاب)، وفي نفس السورة ينفي الله تعالى أن يكون محمد أبا لأحد من الناس غير ما رزقه الله من أولاد، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} (الأحزاب)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألستم تراعون السياق في نقدكم للنصوص، وتعاملكم معها، فخذوا بهذا المقياس هنا، لتنفوا من الوساوس ما تريد الشياطين أن تمررها عبركم؟
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الثاني.
قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة:113)، وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} (التوبة)
فهذه الآيات تنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينساق وراء ما تمليه عليه الرحمة التي جبله الله عليها،
النبي المعصوم (268)
والتي جعلته يخاف أن ينال أي أحد عذاب الله حتى لو كان كافرا، فلذلك كان يستغفر الله لهم ويصلي عليهم إلى أن هي عن ذلك.
لقد توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين، والذي ملأ حياته بالإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل صنوف الإيذاء، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفنه في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وسأزيده على السبعين، وصلى عليه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)، فترك الصلاة عليهم (1).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت سموا مثل هذا السمو.. إن هذه القصة تمثل لك نفس هذا العبد الخاضع، وقد اتخذ من القرآن دستورا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييرا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.
وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها، تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة، ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض، بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل، وميزانا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود (2).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) النبأ العظيم، ص:28 - 30.
النبي المعصوم (269)
قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الكذب والغش والاحتيال، وعرفنا أن محمدا أبعد الناس عنها، فحدثنا عن الكسل وعلاقته بالاحتيال.
قال الحكيم: من أكبر دواعي الاحتيال الكسل.. فالمحتال عجز أن يأتي الأمور من أبوابها، فراح يحتال على الدخول عليها من نوافذها.
قال فرانكلين: وهل رأيت محمدا حتى تستطيع تنزيهه عن هذا؟
قال الحكيم: من عرف سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكرت فيها أدق التفاصيل لا يعجز أن ينزه محمدا عن هذا.
قال فرانكلين: لا أرى من تفاصيل محمد إلا أن له زوجات كثيرات، وكان يتردد بين بيوتهن.. وهذا هو الكسل بعينه، فكيف تنزه محمدا عنه.
قال الحكيم: ألستم تتهمون محمدا بأنه خاض حروبا كثيرة؟
قال فرانكلين: أجل.. لقد كانت كل حياته في المدينة حروبا وغزوات لم يستقر فيها لحظة واحدة.
قال الحكيم: ألا ترى أنك متناقض فيما تقول؟.. لقد كنت تزعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا هم له إلا الطواف على بيوت زوجاته، ثم أنت الآن تذكر أنه لا يستقر به المقام دون خوض الحروب (1).
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لا بأس.. سأكتفي بذكر أربعة شواهد تدلك على أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الكسل، وما يمليه الاحتيال من الكسل.
قال رجل من الجمع: حدثنا عن الشاهد الأول.
__________
(1) للأسف نجد مثل هذه التناقضات الكثيرة في الحاقدين على رسول الله (، فهم يصفون بأوصاف مختلفة متناقضة يدرك أي عقل تناقضها.
النبي المعصوم (270)
قال الحكيم: في أول دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن أحس المشركون خطرها عرض الملأ من قريش عروضا كثيرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها تيسر عليه ـ في ظاهرها النجاج فيما يصبو إليه من مكاسب دون بذل جهد كبير.. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عنها، وظل مع أسلوبه الذي أمره الله به.. وهو أسلوب ممتلئ بالكد والجهد والشدة، ولو كان محتالا مخادعا كما تتصور لقبل ما عرض عليه من حلول، ثم احتال عليهم بعد ذلك بما طبع عليه من حيلة ليحولهم إلى طريقه واحدا واحدا.
سأضرب لك مثالا على ذلك ذكره العلماء عند تفسير (سورة الكافرون).. ذكر ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوّجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكر آلهتنا بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (حتى أنظر ما يأتيني من ربي)، فجاء الوحي من عند الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون)، وأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} (الزمر) (1)
وفي حديث آخر عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا
__________
(1) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.
النبي المعصوم (271)
منه حظاً فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى انقضت السورة (1).
وفي حديث آخر عن ابن عباس أن قريشاً قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها (2).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى أن ما عرضه عليه المشركون فرصة عظيمة كان يمكنه استثمارها ليحولهم إلى صفه، فإن تحولوا فبها ونعمت، وإن لم يتحولوا عاد إلى أسلوبه الطبيعي الذي بدأ به؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد اختار محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير في دعوته بحسب ما سن الله له من أسلوب حتى يحافظ على صفاء الدعوة، وحتى لا تصبح الغاية مبررا للوسيلة.
ولذلك، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في جميع مراحل حياته الدعوية لم يجر وراء أي مكسب سريع وهين إذا كان وراءه تفريطا في جزء بسيط من الرسالة التي كلف بها.
وحسبك ما ذكرته لك من آيات العتاب التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف إلى المستكبرين يدعوهم طمعا في أن يفتح الله على البسطاء بسببهم، فنهي عن ذلك، وأمر بالعودة للمستضعفين.
قال رجل من الجمع: وعينا هذا الشاهد واقتنعنا به، فحدثنا عن الشاهد الثاني.
قال الحكيم: لقد نص الله تعالى على هذا الشاهد في قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} (المزمل)
__________
(1) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.
(2) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
النبي المعصوم (272)
إن هذه الآيات التي تأمر بقيام الليل من أول ما نزل من القرآن الكريم، وقد ظل صلى الله عليه وآله وسلم طول حياته يمارس ما أمر به فيها من أوامر إلى أن توفاه الله تعالى.
وقد روي في الحديث عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: ألست تقرأ هذه السورة {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قلت: بلى قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً (1)، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة (2)، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة (3).
وفي حديث آخر: نزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل (4).
ومما يدلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل هذا مع نزول التخفيف ما رواه جبير بن نفير قال: سألت عائشة عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل فقالت: ألست تقرأ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} (المزمل) قلت:
__________
(1) وقد روي ما هو أكثر من ذلك، فقد روى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) مكث النبي (على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين: {نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين..
(2) وهو ما نص عليه قوله تعالى: {نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} (المزمل)
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في سننه.
(4) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
النبي المعصوم (273)
بلى. قالت: هو قيامه (1).
وعنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلما ينام من الليل لما قال الله له: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) (2)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل ترى من الممكن أن يظل محتال مخادع في مثل الجو الحرج الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة لا ينام من الليل إلا قليلا؟
سكت فرانكين، فقال الحكيم: سأروي لك بعض الشهادات التي تبين كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا بصدق على عبادة ربه.. مما لا يطيق مثله، بل قريبا منه، بل ما دون ذلك بكثير أحد من الناس:
عن كُريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعد بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشْر الأياتِ الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضُوءه ثم قام يصلي.
قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح (3).
وعن حُميد، قال: سئل أنس بن مالك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، فقال: ما كنا
__________
(1) رواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والحاكم وصححه.
(2) رواه عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي المعصوم (274)
نشاء من الليل أن نراه مصلياً إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر شيئاً (1).
وعن عبد الله، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوءٍ. قلنا: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه (2).
وعن حذيفة، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة. قال: ثُمّ مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه (3).
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام حتى تتفطّر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً (4)؟
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل زرت الصحراء، وعاينت بنفسك شدة حرها؟
قال فرانكلين: أجل.. ولكن قومي تغلبوا على حرها بما أبدعوا من مكيفات؟
قال الحكيم: لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تعلم ـ يعيش في صحراء شديدة الحر.. ولم يكن له مكيفات.. وكان في ذلك الجو الشديد حريصا على الصوم حرصا لا يقل عن حرصه على الصلاة، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك لا يسارع إلى الإفطار إذا حل وقته كما يسارع الناس، بل كان يواصل.. أي
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
النبي المعصوم (275)
يصل في صومه ليله بنهاره..
فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تواصلوا)، قالوا: إنك تواصل، قال: (لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى، أو إني أبيت أطعم وأسقى)
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تواصلوا. قالوا: إنك تواصل. قال: إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أظل، أو قال: أبيت، أطعم وأسقى (1).
وفي حديث آخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصل في آخر الشهر، فواصل ناس من الناس، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لو مد لنا الشهر، لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني (2).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لرجل أن يجمع كل هذا الجهد والنشاط الذي لا نظير له، بل لا يطيقه غيره، ثم يكون فوق ذلك محتالا.
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الثالث.
قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)
هنا انتفض فرانكلين، وكأنه وجد فريسة يريد الانقضاض عليها، وقال: كيف تقول هذا.. ومحمد كان يتزوج من النساء ما يشاء.. بل أبيح له أن يتزوج أكثر مما يتزوج سائر المسلمين (3).
قال الحكيم: أجبني وكن صادقا في جوابك.. وأرجو أن لا تعتصم بالصمت.
قال فرانكلين: سأجيبك فاسأل ما بدا لك.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) سنرد على الشبهة المرتبطة بالزواج في فصل (زوجات) من هذه الرسالة.
النبي المعصوم (276)
قال الحكيم: أرأيت لو أن الله رزقك امرأة شابة جميلة يمتلئ قلبك محبة لها، وتمتلئ هي محبة لك.. ثم تكلف بعد ذلك بأن تتزوج معها امرأة عجوزا مسنة، ثم تقسم لكليهما بعدل لا نظير له.. أتطيق ذلك؟
قال فرانكلين: من الصعب على المرء أن يفعل ذلك.
قال الحكيم: فقد كلف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يفعل ذلك.. وكلف معها أن يعيش حياة بسيطة لا تختلف عن حياة أبسط الفقراء.. وكلف فوق ذلك أن يعيش مع البسطاء من الناس، وأن يصبر معهم، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)، وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما اقتضته هذه الأوامر من واجبات خير قيام، فكان ينهض لكل مسكين، ويقوم لكل محتاج.. وأنت تعلم كثرة المساكين، وكثرة الحاجات.
وقد قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رأى الجهد الذي يصيبه جراء ذلك: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى