×

الكتاب: النبي المعصوم

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1437 هـ

عدد الصفحات: 574

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34473-9

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

حاولت هذه الرواية أن تستعيد (دار الندوة) القرشية برمزيتها التاريخية التي تعني المواجهة والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تبين أن هذه الدار لم تهدم بعد.. وأنه كان لها وجود على مدار التاريخ.. ثم إن ثلة من الحاقدين أحيوا هذه الدار بمعونة الشيخ النجدي (الشيطان)، وجمعوا فيها ما ورثوه من أسلافهم من شبهات، وأضافوا إليها ما أفرزه حقدهم وبغضهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

ثم راحوا ينثرون هذه الشبهات في ساحة الحرية، في بلد من البلاد الأوروبية.. لكنهم ووجهوا برجل حكيم عاقل يعرف كيف يجيب على الشبهات بعلمه وأدبه وأخلاقه العالية، فلا يملك أحد الرد عليه أو مواجهته.. وهكذا يرجع كل مثير لأي شبهة من الشبهات خائبا كسيرا إلى أصحابه في دار الندوة.

وعندما يعجزون عن المواجهة العلمية يلجؤون إلى المواجهة بالخداع والمكر والحيلة..

هذه باختصار أحداث هذه الرواية الحوارية.. والتي تجيب على الشبهات الكثيرة التي أثيرت حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من منطلقات مختلفة، ابتداء بالمنطلقات التي يسلم بها الخصم، ويؤمن بها.

النبي المعصوم (9)

المقدمة

تتناول هذه الرواية الرد العلمي المفصل على الكثير من الشبهات المطروحة على مدار التاريخ حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوظيفة العظيمة التي كلفه الله بها، سواء كانت تلك الشبهات من رجال الدين أو من المستشرقين أو من غيرهم من أصناف الناس.

وقد حاولت فيها أن أستعيد (دار الندوة) القرشية برمزيتها التاريخية التي تعني المواجهة والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأبين أن هذه الدار لم تهدم بعد.. وأنه كان لها وجود على مدار التاريخ.. ثم إن ثلة من الحاقدين أحيوا هذه الدار بمعونة الشيخ النجدي (الشيطان)، وجمعوا فيها ما ورثوه من أسلافهم من شبهات، وأضافوا إليها ما أفرزه حقدهم وبغضهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

ثم راحوا ينثرون هذه الشبهات في ساحة الحرية، في بلد من البلاد الأوروبية.. لكنهم ووجهوا برجل حكيم عاقل يعرف كيف يجيب على الشبهات بعلمه وأدبه وأخلاقه العالية، فلا يملك أحد الرد عليه أو مواجهته.. وهكذا يرجع كل مثير لأي شبهة من الشبهات خائبا كسيرا إلى أصحابه في دار الندوة.

وعندما يعجزون عن المواجهة العلمية يلجؤون إلى المواجهة بالخداع والمكر والحيلة..

هذه باختصار أحداث هذه الرواية الحوارية.. والتي تجيب على الشبهات من المنطلقات المختلفة، ابتداء بالمنطلقات التي يسلم بها الخصم، ويؤمن بها.

وقد قسمناها كمثيلاتها من الروايات إلى عشرة فصول، تناولنا في كل فصل شبهة كبيرة من الشبه، وهي كما يلي:

الشبهة الأولى: شبهة الخطايا، وهي اتهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكونه لم يكن معصوما.. وأن القرآن الكريم والسنة المطهرة تقران بكونه كان كذلك.

الشبهة الثانية: شبهة الاستبداد، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في الفترة التي حكم فيها المدينة

النبي المعصوم (10)

المنورة مستبدا متحكما في الرعية لا يسمح لأحد مشاركته في الرأي، ولا في الحكم.

الشبهة الثالثة: شبهة الاستكبار، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مترفعا على المسلمين، وعلى المستضعفين منهم خصوصا.

الشبهة الرابعة: شبهة استغلال المكانة التي مكنه الله منها في تحقيق حاجاته الشخصية.

الشبهة الخامسة: شبهة الخداع والكذب والغش والاحتيال وغيرها من الشبهات.

الشبهة السادسة: شبهة الأمراض النفسية والعصبية والروحانية.

الشبهة السابعة: شبهة الانطواء، وعدم الانفتاح على المجتمعات والأمم والأفكار والأديان.

الشبهة الثامنة: شبهة التطرف في العقيدة والمواقف والحياة بمختلف مجالاتها.

الشبهة التاسعة: شبهة العنف والإرهاب والحروب.

الشبهة العاشرة: شبهة الزواج من نساء كثيرات.

وقد رددنا – بحمد الله – على كل هذه الشبهات من خلال الحوار العلمي مع مثيري الشبهات، بل ذكرنا لهم أحيانا من الأدلة ما لم يذكروه إمعانا في بيان قوة الحجج الدالة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد استفدنا في الردود على تلك الشبهات من الكثير من المراجع القديمة والحديثة التي اهتمت بذلك، مع صياغتها صياغة حوارية مبسطة، لأن هدف هذه السلسلة جميعا هو أن تكون مدرسة متكاملة في براهين النبوة ودلائلها، وفي رد الشبهات التي يبثها المبشرون والمستشرقون والمستغربون.. لتجعل من كل مسلم داعية إلى الله، وحاميا يحمي حمى رسوله، ومناظرا ينتصر به الحق، وينهزم به الباطل.

النبي المعصوم (11)

البداية

في ذلك الصباح كنت ممتلئا أشواقا للحديث الذي سيحدثني عنه ضيفي الغريب، فقد ذكر أنه سيروي لي رحلته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي رحلة لا مثلها رحلة.. وهو حديث لا مثله حديث..

فخير ما شنف الأسماع.. وخير ما وعته القلوب.. وخير ما اطمأن إليه الضمير.. وخير ما انطوت عليه الجوانح.. حديث يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك الذي تزينت به الأرض.. واستبشرت به السماء.. وتعطرت به الأكوان.

كنت أسير في غرفتي أنتظر بشغف شديد تلك اللحظات التي أدخل فيها على الغريب، لندخل جميعا إلى حضرة الحبيب، ونقبل تلك العتبات المقدسة التي وطئتها قدماه.

لكني.. وفجأة من غير ميعاد.. أصابني اكتئاب شديد، دونه كل اكتئاب، وحطت علي آلام دونها كل الآلام..

لقد تذكرت تلك الحرب الشعواء التي اجتمع لها كل الشياطين ليشوهوا جمال الشمس التي تتفتح بإشراقتها الأزهار، وتغرد بإطلالتها الأطيار، وتتمسح بأشعتها الأنهار والمحيطات والبحار والأشجار..

تذكرت تلك الأوصاف الكثيرة التي خطط لها شياطين دار الندوة.. فراحوا ـ بكل ما امتلأت به قلوبهم من أحقاد ـ يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالساحر والكاهن والمجنون.. ويصفون الأنوار التي أشرقت بإشراقته بالدجل والخرافة وأساطير الأولين.

ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يشيعون هذا في كل زمان.. وفي كل مكان.

فتلقفه من أفواههم مبشرون ومستشرقون ومستغربون وملحدون ووجوديون ودهريون.. كلهم صار ينطق بلسان أبي جهل، ويلقي خطب أبي لهب، ويحاكي أساطير النضر بن

النبي المعصوم (12)

الحرث..

وتلقفه من هؤلاء رسامون راحوا يسخرون من معلم السلام ليحولوه إلى قائد عصابة.

وتلقفه منهم روائيون راحوا يسخرون من معلم العفاف والزهد ليحولوه إلى زير نساء.

وتلقفه منهم سياسيون راحوا يحولون من معلم العدالة والشورى والحرية ليرسموا بدله صورة نيرون ولينين وأتاترك.

وتلقفه منهم رجال دين، طرحوا وقارهم، ورموا صلبانهم وكتبهم المقدسة، ليحولوا من المعراج الذي يعرج به إلى الله، ومن المرآة التي تتجلى فيها حقائق الأزل، ومن النور الذي يهتدى به.. إلى دجال ينصب الشراك، ويضع الأساطير، ويملأ الدنيا بالكفر والإلحاد والظلمات..

وتلقفه منهم رجال دنيا أصحاب بطون منتفخة.. راحوا يسقطون صور جشعهم وحرصهم واستغلالهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليحولوا من الزاهد الكريم الراغب في الله إلى حريص بخيل راغب في جيوب الناس.

وتلقفه منهم جامدون راحوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجمود..

وتلقفه منهم منغلقون راحوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالانغلاق..

وتلقفه منهم مستكبرون راحوا يصفون رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستكبار..

ولا زال المتلقفون يتلقفون.. ولا زالت الأقلام المملوءة بالحبر المدسوس في محبرة النفوس المدنسة يسيل.. ولا زالت الخطب.. ولا زالت الأفواه المنجسة بهجاء الشمس..

لا زال كل هؤلاء.. ولا زال هناك من يمدهم بكل شيء..

وضعت يدي على رأسي.. وقد ركبتني الهموم على هذه البشرية التي لا تتقن شيئا كما تتقن سب الشمس..

بينما أنا كذلك إذا بي أسمع ولدي في الغرفة المجاورة يردد قصيدة لأبي العتاهية، يقول فيها:

أرى الناسَ قد أُعْروا ببغْيٍ وريبةٍ... وغيٍ إِذا ما ميزَ الناسَ عاقلُ

وقد لزموا معنى الخِلافِ فكلهمْ... إِلى نحوِ ما عابَ الخليفةَ مائلُ...

إِذا ما رَأَوا خَيراً رَمَوهُ بظنةٍ... وإِن عاينوا شراً فكُلُّ مناضلُ...

وإِن عاينوا حَبْراً أديباً مهذباً... حَسيباً يقولوا إِنه لمُخاتِلُ...

وإِن كانَ ذا ذِهْنٍ رَمَوه ببدْعَةٍ... وسَمَّوهُ زنديقاً وفيه يُجادلُ...

وإِن كانَ ذا دينٍ يسموه نَعجةً... وليس له عَقْلٌ ولا فيه طائلُ...

وإن كانَ ذا صمتٍ يقولون صُورةٌ... ممثلة بالعَيِّ بل هو جاهلُ...

وإِن كانَ ذا شرٍ فويلٌ لأمهِ... لما عنهُ يَحْكي من تَضُمُّ المحافلُ...

وإِن كانَ ذا أصلٍ يقولون إِنما... يفاخرُ بالموتى وما هو زائلُ...

وإِن كانَ ذا مَجهولاً فذالك عندهم... كبيضِ رمالٍ ليس يُعرفُ عاملُ...

وإِن كان ذا مالٍ يقولون مالهُ... من السُّحْتِ قد رابني وبئسَ المآكلُ...

وإِن كانَ ذا فقرٍ فقد ذَلَّ بينهم... حقيراً مهيلاً تَزْدريهِ الأرذالُ...

وإِن قنعَ المسكينُ قالوا لقِلةٍ... وشحةِ نفسٍ قد حَوَتْها الأناملُ...

وإِن هو لمك يقنعْ يقولون: إِنما... يطالبُ من لم يُعْطهِ ويُقاتلُ...

وإِن يكسبْ مالاً يقولوا: بهيمةٌ... أتاها من المقدور حَظٌ ونائلُ...

وإِن جادَ قالوا: مُسْرِفٌ ومبذرٌ... وإِن لم يَجُدْ قالوا: شَحيحٌ وباخلُ...

وإِن صاحبَ الغِلْمانَ قالوا: لريبةٍ... وإِن أجمعوا في اللفظِ قالوا: مباذلُ...

وإِن هَوِيَ النسوانَ سموه فاجراً... وإِن عَفَّ قالوا: ذاك خُنْثى وباطلُ...

وإِن تابَ قالوا: لم يَتُبْ، منه عادةٌ... ولكن لإِفلاسٍ وما تَمَّ حاصلُ...

وإِن حَجَّ قالوا: ليس للّهِ حَجَّهُ... وذاكَ رياءٌ أنتجتْه المحافلُ...

وإِن كان بالشطرنجِ والنردِ لاعباً... ولاعبَ ذا الآدابِ قالوا: مُداخلُ

وإِن كانَ في كُلِّ المذاهبِ نابزاً... وكان خفيفَ الرُوحِ قالوا: مُثافلُ...

وإِن كان مِغراماً يقولون: أهوجٌ... وإِن كان ذا ثَبْتٍ يقولون: باطلُ...

وإِن يَعْتَلِلْ يوماً يقولون: عُقوبةٌ... لشَرَّ الذي يأتي وما هو فاعِلُ...

وإِن ماتَ قالوا: لم يَمُتْ حَتْفَ أنفهِ... لمات هو من شَرَّ المآكلِ آكلُ...

وما الناسُ إِلا جاحدٌ ومُعانِدٌ... وذو حَسَدٍ قد بانَ فيه التخاتلُ

كان لإنشاد ولدي لهذه القصيدة وقعا طيبا في نفسي.. وكأن الله ألهمه أن يقرأها في تلك الساعة ليسري عني ما أصابني من ألم.

نهضت نشيطا، وقلت: فليقولوا ما يشاءون.. ولينحجبوا بما يشاءون..

دعِ الناسَ لا ترجُ الرضى عنكَ منهم... فليس لإِرضاءِ العبيدِ سَبيلُ...

إِذا كنتَ مِقْداماً يقولونَ أَحْمقٌ... وإِن لم تكنْ فظاً يُقالُ ذليلُ...

وإِن كنتَ جواداً يقولون مُسْرِفٌ... وإِن أنتَ لم تُسْرِفْ يقالُ بخيلُ...

ولا تتهيبْ شرَّ ما أنتَ حاذٌق... ولا تترقبْ خيرَ ما أنت آملُ...

فخوفُكَ لا يقصي الذي هو قادمٌ... وشَوْقُكَ لا يُدْني الذي هو راحلُ

لكن الحزن عاد من جديد.. ولكن لا على هؤلاء.. ولا على الحبيب الذي أشرقت به الأكوان، وتعطرت به الأزمان.. فهو كالبحر لا تكدره الدلاء.. وإنما على أولئك البسطاء الذين لم يتح لهم أن يسمعوا إلا للأصوات المكدرة بسب الحبيب، ولم يتح لهم أن يقرأوا إلا ما يحجب عنهم الشمس التي لا حياة لهم إلا بها.

في غمرة تلك الأحزان التي ألمت بي، ولم أجد ما يرفعها عني سمعت صوت الغريب يناديني.. فأسرعت أحث خطاي إليه.. وفي وجهي من الكدورة ما لم أستطع أن أمسحه.

لما رآني، وتفرس في وجهي تلك الكدورة، قال: ما بالك.. لقد حسبتك مشتاقا إلى

النبي المعصوم (13)

الأحاديث التي سنتحدث عنها في رحلتنا إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: أجل.. ومن لا يفرح بالحديث عن الحبيب.

قال: فما بال الحزن يكسو وجهك!؟

قلت: لقد تذكرت أبا جهل وأبا لهب..

قال: لقد دفنا في طي النسيان.. ولم يبق إلا الحبيب الذي اشتغلا بسبه.. فتحقق بذلك تأويل قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر:3)

قلت: لكن الأمر لم يقتصر عليهما.. ولا على من عاصرهما.. لقد ولد في كل جيل من الأجيال من يخلفهما في الوظيفة القذرة التي تولوها.. ألم تسمع بسلمان رشدي.. أو برسامي الرسوم الكاريكاتورية.. أو أولئك الذين ملأوا مدرجات الجامعات بمحاضرات تلبست بلباس العلم لتصور الشمس بصورة المستنقعات والسموم والقمامات.. أو أولئك الذين تركوا سماحة المسيح ونور المسيح ومحبة المسيح ليشتغلوا بسب محمد!؟

قال: لقد سمعت بهم.. بل كنت في يوم من الأيام أمارس هذه الوظيفة القذرة.. وأنت تعلم قصتي..

شعرت بالحياء من ذكري لهذا، فقلت: أعتذر إليك.. لم أكن أقصدك، فأنت أرفع شأنا.. ولكني أقصد أولئك الذين لا يبالون بما يقولون، ولا يندمون على ما يقولون، ولا يرجعون عما يقولون.

قال: فهم لا يؤذون إلا أنفسهم..

قلت: بل يؤذون غيرهم.. فما ذنب أولئك البسطاء الذين لم يسمعوا إلا خطبهم، ولم يقرأوا إلا كتبهم، ولم يتفرجوا إلا على صورهم؟

قال: أصدقك القول.. من صدق وجد.. وقديما قال أولياء الله: جد صدقا، تجد مرشدا.

قلت: ما تقصد؟

النبي المعصوم (14)

قال: الحق عزيز.. فلذلك توضع في طريقه العقبات.

قلت: لم؟

قال: ليتميز الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، والراغب من النافر.. ألم تسمع قوله تعالى، وهو يشير إلى هذه السنة من سنن العدالة الإلهية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2 ـ 3

قلت: أعلم أن الفتن هي نار الله الحارقة التي يتميز بها الخبيث من الطيب.. وأنها أسئلة الاختبار التي يفلح المكلف على أساسها أو يخسر.. وأنها المقياس الذي يحدد أنواع القلوب وطبائعها.

قال: فلذلك كان لابد لتمييز الطيب من الخبيث من الفتنة.. والذي ينكر الفتن كالذي ينكر الامتحان نفسه، لأنه لا امتحان بدون أسئلة.

ولهذا كانت الفتن هي المحددة لحقيقة الإنسان كما قال تعالى على لسان نبيه موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} (لأعراف:155)، فالفتن حسب هذه الآية، وحسب ما ورد في النصوص المقدسة ليست شرا محضا، بل هي خير محض لمن عرف كيف يتعامل معها، كما أن أسئلة الامتحان خير محض لمن أتقن الإجابة عليها.

قلت: لقد ذكرتني بما روت أم سلمة قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فقال: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟.. وماذا فتح من الخزائن؟.. أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)

قال: أرأيت.. لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بين الفتن والخزائن، ولم يحدد الحديث نوع الخزائن المفتوحة لتشمل جميع ما يتصور من خزائن الثواب والعقاب، ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى إيقاظ أصحاب الحجر اغتناما لفرصة هذه الفتن لنيل أكبر نصيب من الثواب.

النبي المعصوم (15)

ارتدت إلي نفسي، وتلك الظلمة التي كانت تملأ علي جوانحي، فصحت بلسان الاعتراض من غير شعور: ولكن لم!؟

قال: أرأيت تلك الإعلانات التي تعلنها جهات متعددة عن فتح مسابقات ترفع الناجح فيها إلى ما تهفو إليه نفسه من مناصب ودرجات؟

قلت: أجل.. وكم رأيت الأبصار تتطلع إليها؟

قال: ألا تحوي تلك المسابقات على ما تتيه العقول في فك ألغازه.. أم تراها تأتي وحلها معها؟

قلت: لو كان الأمر كذلك ما كانت المسابقة مسابقة.. ولما كان الامتحان امتحانا.

قال: فهكذا الفتن.. إنها نوع من تلك المسابقات.. ليتميز الصادق فيها من الكاذب.. ويتميز المحب المخلص من المنافق الدجال.. ويتميز بائع نفسه لله من بائعها للشياطين.

قلت: فهل لهذا صلة بذاك؟

قال: أجل.. فلو رأى الناس.. جميع الناس.. الحقائق بصورتها الكاملة التي يشتهونها ما بقي أحد في الدنيا إلا وتعلق بها.

ثم التفت إلي، وقال: هل تراهم يختلفون في التنافس على الحسناء التي تسفر عن كل جمالها؟

قلت: لا شك أنهم لا يختلفون.

قال: ولكنها إن حجبت بعض محاسنها.. أو ظهرت بصورة قد لا ترضي أهواءهم تراهم يرغبون عنها.. بل قد يرمونها بالحجارة.

قلت: أجل.. فلا يبقى عند الامتحان إلا الصادقون.. وقد سبق أن قال الشاعر يعبر عن هذا:

وفي الأحبابِ مختصٌ بوَجْدٍ... وآخرُ يدعي معها اشتراكا...

إِذا اشتبكَتْ دموعٌ في خدودٍ... تبَّينَ من بَكَى ممن تَباكا

النبي المعصوم (16)

قال: فطبق هذا المثال على الفتن التي فتن الله بها عباده ليمحص الصادقين من الكاذبين والطيبين من الخبيثين.

قلت: علمني كيف أطبق هذا المثال.. فلا زلت أرى الحقائق ولا أعيشها.

قال: أترى من العجب أن يتخذ الله بشرا رسولا يجعله واسطة بينه وبين عباده ليكون سفيرا يوصل لهم حقائق الأزل؟

قلت: لا أرى عجبا في ذلك.. فلا يمكن أن يصبح كل البشر رسلا.. ولو أصبحوا كلهم رسلا لما بقي هناك تكليف.

قال: ولكن هذا كان فتنة لكثير من الناس.. لقد عموا عن كمالات الرسل بشيء توهموه عيبا، وهو كون الرسول بشرا مثلهم.

قلت: لقد ذكر الله تعالى هذا عن أقوام من الناس منذ بدأ الناس، فقد حكى الله تعالى عن قوم نوح ذلك، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} (هود)

قال: فبم أجابهم نوح؟

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود:28)

قال: فقد اعتبر أن ما حصل له من فضل الله رحمة من الله.. ولكنها عميت عليهم.. أو أنهم عموا عنها.. لأنهم احتجبوا بمظاهر البشرية عن خصائص الخصوصية.

إنهم يشبهون تلك الحسناء الجميلة التي قد تتنقب بنقاب لا يرضاه المغرورون، فيحجبون بالنقاب عن الجمال الذي تغير منه الشموس.

النبي المعصوم (17)

قلت: ولكن هناك من يقبل أن يكون البشر رسولا؟

قال: لله من الحجب ما لا يمكن لعقل أن يدرك منتهاه.. فمن لا يحجب بالبشرية قد يحجب بالعنصرية التي حجب بها اليهود وقومنا حين زعموا أن الله لا يحق له أن يتخذ رسولا من غير بني إسرائيل.

قلت: فمن لا يحجب بهذا؟

قال: قد يحجب بالبساطة التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حين كان يأكل كما يأكل الناس، ويتسوق كما يتسوق الناس.

قلت: صحيح ذلك.. فقد حجب أقوام بهذا، كما قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} (الفرقان)

قال: فقد حجب هؤلاء بمسير رسولهم في الأسواق، أو بأكله للطعام.

قلت: هناك كثيرون لا يحجبون بهذا.. بل يعتبرونه من الكمالات.. فالبساطة تقرب المرء من الناس.. فيشعر بما يشعرون.. ويعيش ما يعيشون.. فإذا تكلم تكلم عن بينة.. وإذا دعا دعا عن بصيرة.

قال: ولكن هؤلاء أيضا قد يحجبون.

قلت: فما الذي يحجبهم؟

قال: ألم أذكر لك أن لله من الحجب ما له من الأبواب.. بل إن كل باب من الأبواب حجاب من الحجب.. فمن انفتح له الحجاب جاوز الأبواب.. ومن لم ينفتح له الحجاب أغلقت في وجهه الأبواب؟

قلت: صدقت.. وقد ذكرتني بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً

النبي المعصوم (18)

كَبِيراً} (الاسراء:60)

فمع أن هذا الإخبار لا يحوي أي غرابة بالنسبة للعقل الذي يعلم قدرة الله التي لا تحدها الحدود إلا أنه كان فتنة كبيرة للعقول البسيطة المحدودة، وقد روي أنه لما لما نزلت الآيات التي ذكرت شجرة الزقوم (1) قال كفار قريش: (ما نعرف هذه الشجرة، فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه)، فقال: (هو عندنا الزُبد والتمر)، فقال ابن الزبعري: (أكثر الله في بيوتنا الزقوم)، فقال أبو جهل لجاريته: (زقمينا)؛ فأتته بزبد وتمر، ثم قال لأصحابه: (تزقموا؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر)

قال: ومثل هذا الفتن الكثيرة التي تجعل من الحقائق شبهات عظيمة ينظر إليها الغافلون بأعينهم المحجوبة عن الحق، فلا يرون إلا الظلمات.

قلت: أبهذا تبرر وجود الفتن التي تقف العقول دون إدراك أسرارها؟

قال: أجل.. ولكن هذا ليس تفسيري.. بل هو تفسير الله.. فالله هو الذي يختبر عباده ليتميز الخبيث من الطيب.. لقد ذكر الله ما فتن به ثمودا، فقال: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (القمر:27)

فقد كانت الناقة التي عمقت إيمان المؤمنين فتنة للجاحدين.. فتميز الخبيث من الطيب.

قلت: فالاختبار واحد إذن.. لكن المؤمن يستقبله استقبال الطيبين، والكافر يستقبل استقبال الخبيثين!؟

قال: أجل.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، منبها عباده إلى هذه الأنواع من الفتن، حتى يدخلوا كل شيء عن بينة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ

__________

(1) كقوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} (الصافات)، وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} (الدخان)

النبي المعصوم (19)

أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى عن عدة الملائكة: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر:31)

فقد أخبر الله تعالى أن في إخباره عن عدد الملائكة الموكلين بجهنم كان فتنة للخلق، وكان تأثير هذه الفتنة مختلفا على حسب قابلية كل شخص وتعامله مع إخبارات الله.

أما المؤمنون فزادتهم إيمانا إلى إيمانهم، وعرفوا أن قدرة الله التي لا يعجزها شيء لا تعجز عن مثل هذا، بل اعتبروا هذا من دلائل القدرة التي تزيدهم إيمانا إلى إيمانهم.

أما السطحيون البسطاء في تفكيرهم الغارقون في أوحال التشبيه، فاعتبروا ذلك سندا شرعيا لكفرهم.

وقد ورد في السيرة ذكر بعض آثار هذه الفتنة على الكافرين، قال ابن عباس: (لما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر:30) قال أبو جهل لقريش: (ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم!)

وقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: (لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة)؛ يقولها مستهزئا.

وقال آخر: (أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين)

وقال آخر: (أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟)

قال: فقس هذا على كل ما ذكره أحفاد أبي جهل وأبي لهب..

النبي المعصوم (20)

قلت: أمر هؤلاء أخطر بكثير..

قال: وما خطره؟

قلت: لم يكن لأبي جهل قناة فضائية، ولم يكن لأبي لهب موقعا إليكترونيا، ولم يكن لهما ولا لغيرهما ما لأهل عصرنا من الطاقات التي تحتار فيها الشياطين.

قال: ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لمحبيه في ذلك الوقت شيء من ذلك..

قلت: ماذا تقصد؟

قال: إن عدل الله الذي وضع الحجب حتى لا يدخل دار الطيبيبن إلا الطيبون صحبته رحمة الله.. فلذلك لم يترك للشر المجال وحده.. بل وضع مع الشر خيرا كثيرا لينسخه ويمسخه.. فمن التفت إليه غلب خيره شره، ومن لم يلتفت إليه حجب بالشر عن الخير.

قلت: ولكن الحملة في عصرنا شعواء.. والحرب مريرة.. لقد وضعوا أطهر خلق الله في قفص الاتهام.

قال: هم لا يفعلون إلا ما فعله المشركون والكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كل زمان.. ألم يحك الله عن المشركين تلك الشبهات الكثيرة التي طرحوها ووضعوا الخطب الطويلة في إثباتها؟

قلت: بلى.. فقد قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة:61)

وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:2)

وقال تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود:12)

النبي المعصوم (21)

وقال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر:6 - 15)

قاطعني، والدموع تفيض من عينيه قائلا: أرأيت.. إن ربي يخاطبني، ويخاطب كل تلك الجموع التي راحت تشوه الحقائق التي نطقت بها كل دلائل الأكوان.. إن هؤلاء الجاحدين لو فتحت لهم أبواب السماء.. فعرجوا إليها.. ورأوا جمالها.. لارتدوا يكذبون أبصارهم.. ويكذبوا الحقائق التي رأوها رأي العين.

قلت: نعم.. فمع أن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمثل قمة الزهد وقمة العفاف نجد من قومنا من يرمونه بالجاري وراء شهواته.. وهو الذي لم تستقر به أرض.. وهو الذي تفطرت قدماه من السجود.. واغبرتا من السير في سبيل الله.. وأدميتا من الأذى في سبيل الله.

وهو الذي عصب الحجر على بطنه من الجوع.. ولم يعرف الفنادق التي يعرفونها، ولا الليالي الحمراء التي يعيشونها.. فليله قيام، ونهاره جهاد وصيام وطاعة تقصر عنها الجبال.

قال: إن الشياطين التي تملأ عليهم قلوبهم حجبتهم عن كل ذلك.. فلم يروا إلا زوجاته..

قلت: ولكن ألا ترى في ذلك فتنة؟

قال: قد أخبرتك بأن الله تعالى جعل من حكمته اختبار عباده بمثل هذه الفتن.. ألم تسمع قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر زينب بنت جحش، فقد قال له معاتبا: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37).. أتدري لم خشي

النبي المعصوم (22)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قلت: لقد خشي على أن يفتن قومه، فيقولوا: تزوج ببنت متبناه.

قال: ولكن الله تعالى نهاه أن يخضع لتلك المخاوف.. لأن الله تعالى هو واضع الأسئلة.. وليس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ.

قلت: لقد وعيت هذا.. فبورك فيك.. ولكن ألا يستطيع هؤلاء المحجوبون بهذه الفتن أن يحتجوا يوم القيامة في محكمة العدل التي لا تضيع مثاقيل الذر؟

قال: فما يقولون؟

قلت: يقولون: يا ربنا.. لو أن نبيك لم يتزوج تسعة نساء.. ولم يغز بضعا وعشرين غزوة.. لكنا اتبعناه.

قال: فهل ترى في هذا حجة؟

قلت: هم يتصورون بينهم وبين أنفسهم أن في ذلك حجة.

قال: ليس الشأن في تصوراتهم.. بل الشأن في الحقيقة.. فالمتهم قد يرى نفسه بريئا.. ولكن الحقائق والبينات التي لدى القاضي هي التي تحدد البريء من المجرم.

قلت: فهل على هؤلاء أن يسحبوا اتهاماتهم حتى يتبصروا الحقائق؟

قال: إنهم إن لم يسحبوها بنور الحقائق.. فسيقفون يوم القيامة في تلك المحكمة التي لا تسمع إلا الحقائق.. ليقال لهم: إن الله الذي بعث محمدا.. أيده بكل تلك المعجزات.. ونصره كل ذلك النصر.. وأنطق كل الحقائق لتدل عليه.. هو الذي أباح له.. بل هو الذي أمره أن يتزوج بأولئك النسوة.. وأن يغزو تلك الغزوات.. فهل ستراهم يخاصمون الله؟

قلت: لا يمكنهم ذلك فالله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الانبياء:23)

قال: ومع ذلك.. فإن الله ـ بعدله ـ لو سألوه لأجابهم.. ولقال لهم: ألا ترون حكامكم يسلمون قصورا خاصة.. وتتاح لهم حصانة خاصة.. وتعطى لهم من الصلاحيات ما لا يعطى

النبي المعصوم (23)

لغيرهم.. ثم ترون كل ذلك طبيبعيا لا شبهة فيه؟

قلت: لا شك أنهم يجيبون بالإيجاب.. فكل حكام العالم.. وكل ملوكه.. لهم ما وصفت.. بل لهم من الدنيا ما لم تر عين، أو تسمع أذن، أو يخطر على قلب بشر.

قال: فلم يحجرون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجه الله من يشاء ومتى يشاء؟

سكت، فقال: إن العقول هي التي تحاسب.. ولذلك ستواجه بأنواع الحجج.

قلت: أترى المنطق الذي نعيش به في الدنيا هو نفسه الذي يحكم أحكام الآخرة؟

قال: أجل.. فالله هو الذي وضع برامج العقول.. وهي برامج لا تتخلف، فلا تبديل لكلمات الله.

قلت: فأنت ترى أن يخاطب هؤلاء بالعقل..!؟

قال: بالعقل المؤيد بالنقل.. لتقام عليهم الحجة.. ثم هم بعد ذلك وما يشاءون.. إن شاءوا أن يحكموا عقولهم.. وإن شاءوا حكموا الشياطين التي تملي على عقولهم كيف تفكر.

-\--\-

ما وصل الغريب من حديثه إلى هذا الموضع حتى شعرت براحة تملأ أقطار نفسي.. ولكن سرعان ما شعرت بالألم يعتريني من جديد.. فقد كنت أبحث عن فك رموز الشبهات.. وكنت ـ كعهدي بنفسي دائما ـ لا يقنعني الإجمال.. فلا يرضي همتي إلا التفاصيل التي أتبصر بها الحقائق.

طالع الغريب ـ بما أعطاه الله من بصيرة ـ ما في نفسي، فقال: أعلم ذلك.. أنت تحب التفاصيل.. ولا يقنعك الإجمال.

قلت: لقد آتاك الله فراسة.. ولكني مع ذلك لن أشغلك عن حديثك عن رحلتك إلى الإسلام.. فلندع هذا الموضوع إلى نهاية رحلتك إلى شمس محمدصلى الله عليه وآله وسلم.

قال: بل هذه هي مقدمة هذه الرحلة.. فرحلتنا اليوم إلى (النبي المعصوم).. ولا يصلح مقدمة لهذا إلا هذا.. ولا يجيب عن شبهاتك إلا رحلتي هذه.. فقد كنت ممتلئا شبهات تضيق بها

النبي المعصوم (24)

أركان نفسي.. وكنت في بيئة لا تنفخ في نفسي إلا شياطين الشبهات.

قلت: فهل وقاك الله شرها؟

قال: أجل.. ففضل الله واسع.. وقد كنت كلما محوت شبهة حل محلها نور وشعاع جديد من أشعة شمس محمدصلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فكيف بدأت رحلتك؟.. وهل التقيت في بدايتها معلمي (معلم السلام) كما تعود أن يلتقي به من يحدثني؟

قال: أجل.. ولكن قبل ذلك حصلت أحداث.. سأحكي لك ما نحتاج إليه منها في رحلتنا هذه.

-\--\-

اعتدل الغريب في جلسته، وحمد الله، وصلى وسلم على نبيه، ممتلئا في كل ذلك خشوعا ووقارا ملأني منه هيبة، ثم قال: ذات يوم دخلت إلى غرفتي فإذا بي أجد أخي يطالع دفتري الذي وضعته عن القلوب التي تعلقت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لكنه ما إن رآني حتى أسرع، فأغلقه، ثم قال لي: هذا دفتر مهم.. وقد أوحى لي نظري فيه مشروعا.. إن حققناه بنجاح، فسيتاح للمسيحية من الانتشار ما لم يتحقق لها في جميع تاريخها.

قلت: المسيحية تنتشر بقوة.. ولا تحتاج إلى أي مشاريع.

قال: ذلك صحيح.. ولكنها تنتشر ببذل المال (1).. وهي بذلك قد أصبحت عبئا ثقيلا

__________

(1) بسبب ما يملكه المبشرون من إمكانات ضخمة أوصلتهم إلى جميع الأماكن التي يريدونها والعمل فيها بكل قوة، وفي المقابل الإمكانات الضعيفة والشحيحة لدى الدعاة المسلمين هذا كله جعل التنصير عامل إعاقة قوي لانتشار الإسلام بين غير المسلمين. فقد توقف انتشار الإسلام في إفريقيا جنوبي الصحراء، فقد كان المسلمون عشرة أضعاف المسيحيين واليوم أصبح المسيحيون أضعاف المسلمين.

وفيما يلي بعض الحقائق عن الجهود التنصيرية وما يتوفر من إمكانات للتنصير في جنوب إفريقيا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر:

1600 مستشفى، 5112 مستوصف، 1050 صيدلية، 120 ملجأ للمرضى، 905 دار لإيداع الأيتام والعجزة والأرامل، 88610 كتاب تنصير مطبوعة بعناوين مختلفة ونشر منها مئات الملايين، 24900 مجلة كنسية أسبوعية يوزع منها ملايين النسخ، 700000 نشره يوزع منها عشرات الملايين، 2340 محطة إذاعية وتلفازية تنشر تعاليم الإنجيل وخدمة التنصير، 120000 معهد تنصير، 11000 روضة أطفال تلقنهم فيها التنصير، 112000000 نسخة توزع مجاناً من الإنجيل في العالم، 652 لغة ولهجة إفريقية ترجم لها الإنجيل على كاسيت للأميين.

ومع هذه الجهود الجبارة إلا أن التنصير بين المسلمين فيه صعوبة كبيرة جداً.

انظر:: التنصير طرقة وأساليبه ص (4)

النبي المعصوم (25)

على المحسنين.

قلت: هل تريد أن تنشرها بغير مال.. إن ذلك مستحيل؟

قال: وما وجه الاستحالة؟

قلت: أنت تعلم وجوه الاستحالة.. وقد جرب غيرنا من قبل ما ذكرته، فلم نحصل على شيء.

قال: ولكن الإسلام ينتشر من غير مال.. بل إنه ينتشر بقوة.. انظر ما كتبته هذه الجريدة من إحصائيات.. وما علقت عليها من تعاليق.

نظرت.. فوجدت فيها (في بريطانية يعتنق الإسلام أكثر من خمسة آلاف بريطاني كل عام.. وفي فرنسا بلغ الذين اعتنقوا الإسلام حتى الآن أكثر من 400 ألف فرنسي.. وفي الولايات المتحدة بلغ عدد المسلمين السود والبيض أكثر من مليونين.. وفي اليابان تجاوز الذين اعتنقوا الإسلام 15 ألف ياباني في عامين)

ثم رأيت تعقيبا على هذه الإحصائيات يقول: (وفق دراسات مركز (رصد العقائد) في مدينة (برن) بسويسرا فإن الإسلام أكثر الأديان انتشارا في العالم.. وهذه الحقيقة قد أكدها دارسو الأديان، فالباحثة الكهنوتية الأمريكية كارول أنوي تقول: (الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا الشمالية) (1)، والدكتور هستون سميث يقول: (إن الإسلام في هذا العصر كما في العصور

__________

(1) سر إسلام الأمريكيات، كارول أنوي، ص 180.

النبي المعصوم (26)

السابقة أسرع الأديان إلى كسب الأتباع المصدّقين) (1)، والمبشر جون تكل يقول: (الإسلام آخذ في الانتشار رغم أن الجهود التي تبذل في سبيله تكاد تكون في حكم العدم) (2)

فإذا علمنا أن الإسلام ينتشر بجهود فردية مبعثرة، وأنه لا يرصد في سبيله إلا نسبة ضئيلة جداً مما يرصد للتبشير بغيره من الأديان، إذا علمنا هذا علمنا يقيناً مدى الصدق الذي تحمله الصرخة البائسة التي أطلقها لورنس براون حين قال: (الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار) (3).. وأطلقها مثله المستشرق هاملتون جب حين قال: (إن أخطر ما في هذا الدين أنه ينبعث فجأة دون أسباب ظاهرة، ودون أن تستطيع أن تتنبأ بالمكان الذي يمكن أن ينبعث منه) (4)

أغلقت الجريدة، ثم نظرت إليه، وقلت: فأنت تريد أن تنتشر المسيحية بهذا الأسلوب..!؟

قال: وما الذي يمنعنا من ذلك؟

قلت: كل شيء يمنعنا من ذلك.. وأنت تعلم كل ذلك.. فكتابنا المقدس يختلف كثيرا عن كتابهم.. وليس في عقيدتنا من اليسر والوضوح والقوة ما في عقيدتهم.. وليس في شريعتنا ما في شرائعهم.

قال: ولكن المسيح لنا ومعنا.. وهو يغنينا عن كل ذلك.

قلت: وهم يؤمنون بالمسيح كما نؤمن به.. بل ويقدرونه أعظم من تقدير عوامنا وخواصنا له.

قال: وتلك ميزة تيسر علينا الدخول عليهم.. فسندخل عليهم من المسيح الذي يحبونه لنمحو من أذهانهم اسم (محمد)

__________

(1) ديانات الإنسان، د. هستون سميث.

(2) الغارة على العالم الإسلامي، ل. شاتلييه.

(3) عن (التبشير والاستعمار) د. عمر فروخ ومصطفى الخالدي، ص 148.

(4) عن (أمريكا والإسلام) د. عبد القادر طاش، ص 133.

النبي المعصوم (27)

لست أدري كيف شعرت بألم شديد، وهو يذكر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأسلوب.. لقد اكتشفت في تلك اللحظة أن البذور التي نبتت منها محبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد غرست في قلبي.. فلذلك آلمني ما قاله أخي.. لكني أمسكت لساني عن أن ينكر عنه ما قال.

قلت: فكيف نمحو اسم (محمد) الذي استقر في ضمائرهم، وامتلأت به جوانحهم؟

قال: بما يمحو به السياسيون بعضهم بعضا.

قلت: السياسيون يمحو بعضهم بعضا بالفضائح..

قال: فلنمارس هذا الأسلوب مع محمد.. إن محمدا ينال أكثر أصوات الناخبين، ليزاحم مسيحنا المقدس.. وإخلاصنا للمسيح يقتضي أن نمارس كل الأساليب حتى نحطم أخطر جبل يقف في وجه المسيحية.

قلت: ولكنا إن فعلنا ذلك وقعنا في كذب كثير.. ولم تعد لنا قداسة الأحبار.

قال: ومن ذكر لك بأن الذي يقوم بذلك نحن؟

قلت: ومن يقوم به؟

قال: هذا ما جئت لأحدثك عنه.. وهذا هو المشروع الذي لو قدر له أن ينجح، فسيكون فتحا عظيما في المسيحية لم يحصل مثله من قبل.

قلت: لم أفهم ما الذي ترمي إليه.

قال: ألا ترى الأحزاب الضعيفة كيف تتحالف، ثم كيف تتضخم مع ضعفها لتقضي على كل المنافسين؟

قلت: ذلك في السياسة ونحن في الدين.. وفي السياسة من التلاعب ما ليس في الدين.

قال: كل شيء سياسة..

قلت: فما السياسة التي تريد أن نمارسها لنوقف زحم الإسلام؟

قال: تشويه (محمد)..

النبي المعصوم (28)

لست أدري كيف نهضت من مكاني، وصحت في وجه أخي بقوة: لا.. لا.. ذلك ليس ممكنا.. لا ينبغي أن نفعل هذا.. إن كل شيء سيلعننا إن فعلنا ذلك.. إننا سنتحول إن فعلنا ذلك إلى شياطين أهل الندوة.

تعجب أخي من موقفي، وقال: ما بالك.. أراك تدافع عن محمد؟.. أرى سهام المسلمين المسمومة قد أثرت فيك؟

ارتدت إلي نفسي، فقلت: لا.. أنت لم تفهم موقفي.. لا يمكننا ـ ونحن في هذه المرتبة الرفيعة ـ أن نفعل هذا.

قال: صدقت في هذا.. وهذا ما خططت له.

قلت: أرحني بذكر مخططك.. ولا تكثر من المقدمات.

قال: لقد فكرت في إجراء تحالف قوي مع كل من يبغض محمدا صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان مسيحيا أو ملحدا.. حتى لو كان يكره المسيحية، ويكره المسيح، فيمكننا أن نتحالف معه لنقضي على (أسطورة محمد)

قلت: فكيف يتم هذا التحالف؟

قال: بأن نتفق جميعا فيما نقول، وفيما نفعل.

قلت: لا زال الجميع يسبون محمدا.. فما ميزة المشروع الذي جئت به؟

قال: التحالف.. فبالتحالف يصير الضعيف قويا، والجبان شجاعا..

قلت: ومن ترى أنه سيتحالف معك؟

قال: الجميع.. كلهم سيمدون أيديهم سواء كانوا ساسة أو اقتصاديين أو فلاسفة.. كل أصناف المجتمع يمكنها أن تمد يدها إلينا.

قلت: فهل أخبرت المسؤولين عن عزمك هذا؟

قال: لا يمكنني أن أخبرهم عنه إلا بعد أن ينجح..

النبي المعصوم (29)

قلت: كيف تعرف أنه نجح أو لم ينجح؟

قال: لقد كنت منذ مدة طويلة ـ بل في جميع فترات غيابك ـ أخطط لهذا، وقد كسبت عشرة رجال من مختلف المشارب، وكلهم يلبس عباءة بغض محمد.. وسنستثمرهم لنبدأ هذا المشروع.

ابتسمت ساخرا، وقلت: عشرة!؟.. أتريد بعشرة رجال أن توقف زحمم الإسلام، وتشوه شخص محمد!؟.. إن لدينا أساطيل من الجيوش.. وكلها لم تطق، فكيف يطيق عشرة.. أم أنك ستزود كل واحد منهم بقوة (السوبرمان) ليتمكن من غسل جميع أدمغة المسلمين.

قال: أنت إلى الآن لم تفهمني..

قلت: فاشرح لي..

قال: هذا مشروع.. وكل مشروع في الدنيا يعتمد عينة.. ثم تعمم أحكام العينة على الجميع بعد ذلك.

قلت: فأنت تريد أن تختبر مدى صلاحية مشروعك بهؤلاء العشرة؟

قال: لقد فهمتني الآن.. فلا يمكنني أن أطرح هذا المشروع إلا موثقا بالبينات والإحصائيات.. ألا تعلم أنا لم نعد نعتمد الأساليب التي مارسها أسلافنا..

قلت: فكيف تسجل البينات؟

قال: بكل أنواع التسجيل.. التسجيل الإحصائي وبالصور.. بل بالكاميرا أسجل كل ما سيحصل.. وسنرى من تحليلنا لما نراه ما ينبغي أن نفعله.

قلت: إن هذا يحتاج أموالا..

قال: إن وظيفتي هنا ترتبط بهذا.. ولي ميزانية خاصة لا أسأل فيها عما أصرفه من أموال.. ولكني مع ذلك لن أصرف شيئا.. فقد ذكرت لك أني أريد أن أوقف زحف الإسلام من غير مال ولا سلاح.

قلت: فهل سنذهب إلى أدغال إفريقيا لنفعل ذلك؟

النبي المعصوم (30)

قال: أهل إفريقيا يروننا خبزا قبل أن يرونا كنيسة.. ولذلك لن نذهب إليهم.. ولا إلى جميع فقراء العالم.. بل لن نخرج من أوروبا..

قلت: أوروبا لن تحتاج إلينا.. فأهلها مسيحيون.

قال: سنذهب إلى أولئك الذين باعوا المسيحية بالإسلام.. وانتخبوا محمدا بدل المسيح.

قلت: فماذا نقول لهم؟

قال: لقد ذكرت لك أن مشروعي يهدف إلى استخدام كل الطاقات وجمعها لتتحول وجهة واحدة هي رمي محمد بالفضائح التي تحول القلوب عنه.. ولهذا سنذهب إلى هؤلاء.. أو ستذهب هذه الطاقات إلى هؤلاء لتريهم من صور محمد ما لم يروا.. وتسمعهم من أخبار محمد ما لم يسمعوا.

-\--\-

في ذلك المساء..

خرجت إلى الغابة.. وهناك استلقيت على عشبها، وفي قلبي آلام لست أدري سببها.

نظرت إلى السماء الزرقاء الجميلة.. ونظرت إلى أشعة الشمس الحنون وهي تسقي الحقول والأزهار والمياه.. وقلت لنفسي: يا ترى كيف تكون الدنيا لو وضعت الحجب على الشمس.. هل ستتفتح الأزهار.. وهل ستغرد الأطيار.. وهل ستبقى الألوان الجميلة التي يكتسي بها الكون!؟

بينما أنا كذلك إذا بي أسمع صوت صاحبك (معلم السلام)، وهو يقول: الشمس أقوى من أن تحجبها الأكف المشلولة.

قلت: أنت!؟.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟

قال: الذي جاء بك إلى هنا.

قلت: الهم هو الذي جاء بي إلى هنا.. فقد قدر لي أن أعيش مع من لا شغل له غير سب الشمس، ووضع الحجب عليها.

النبي المعصوم (31)

قال: فقد أريد لك إذن أن ترى من الشمس ما لا يرى غيرك.. فأبشر.

قلت: كيف تبشر المتألم الحزين؟

قال: في كل شيء وضع الله الحزن والسرور.. فكل شيء يمكنه أن يملأك حزنا، وفي نفس الوقت يملؤك سرورا.

قلت: هذا تناقض.. فالحزن والسرور متناقضان لا يلتقيان إلا إذا التقى الخطان المتوازيان.

قال: هما لا يلتقيان.. ولكنهما يسيران في اتجاه واحد.. وهذا كاف لالتقائهما.

قلت: لم أفهم.

قال: أخبرني ما الذي يحزنك لأدلك على مواضع السرور فيه.. فيستحيل أن يكون هناك شيء محزن دون أن يضع الله فيه ما يملؤك سرورا.

قلت: فنلجرب ما تقول.. أنا حزين لأن أخي التوأم يريد أن يشوه الشمس.. وهو يطلب مني أن أشاركه في هذا.. وقد عقد لذلك حلفا شيطانيا أخاف على نفسي من لعناته.

قال: فأبشر.. فقد أراد الله أن يريك من جمال الشمس ما لم تكن ترى، ويعلمك من علومها ما لم تكن تعلم.

قلت: لم أفهم.

قال: إن أخطر ما يصاب به البشر هو الغفلة.. فالغفلة تعني احتقارك للأشياء وعدم شعورك بها.. فلذلك ينبهنا الله بالآلام والأحزان ليزيح عنا الغفلة..

نظر إلى عيني فوجدهما لا زالتا تبحثان عن تفسير، فقال: هل كان يمكن لك أن تعلم جمال الصحة لو لم تر آلام المرض؟

قلت: صحيح ما ذكرت.. فالصحة تاج على الأصحاء لا يراه إلا المرضى.

قال: وقد يراه الأصحاء إذا شفوا من أمراضهم.

قلت: صحيح ذلك.. فما علاقته بهذا؟

النبي المعصوم (32)

قال: إن ما ذكرت لي من هذا التحالف لا يختلف عن الفيروسات والجراثيم التي تغزو الأجسام لتنهك صحتها.. لكن الجسم القوي سرعان ما يقاومها.. فيكتسب بمقاومتها مناعة وصحة.

قلت: ولكنه قد يضعف.. فتقتله.

قال: لا خير في جسم ضعيف.. فلذلك لا تحزن عليه.. واطلب جسما أقوى.

قلت: فهمت.. لا ينبغي أن أفر إذن..

قال: إنك إن فررت تكون قد فررت من نفسك.. فليس في الخارج إلا صدى نفسك..

قلت: صدقت.. إني بيني وبين نفسي تعتريني شبه أجتهد اجتهادا مؤلما في صرفها.

قال: أنت تفر منها.. ولا يمكنك أن تفر من شيء يسكنك.. لأنها إن خرجت من قلبك ووعيك سكنت محلا من عقلك.. وما سكن محلا من عقلك يوشك أن تسقيه الأيام قوة ليسيطر على كل عقلك.

قلت: بدأت أفهم.. نعم.. صحيح ما تقول.. فما في الخارج صدى لما في نفسي.. إن نفسي تفر.. فلذلك ووجهت بما تفر منه.

نظر إلي نظرة حازمة ممتلئة عتابا كعتاب المحبين، ثم قال: لن ينجيك في هذه المفازة المملوءة بالأفاعي والسباع إلا حصن واحد.

قلت: ما هو؟

قال: العقل.. فلا يمكن لمن ألغى عقله أن ينجو في هذه المتاهة.

قلت: لا يمكن لأحد أن يلغي عقله.

قال: كلهم يلغون عقولهم.. كلهم يلغون عقولهم..

قال ذلك، ثم انصرف وهو يردد ذلك.. طلبت منه أن يقف، فلم يقف.. بل سار حتى غيبه الأفق.

النبي المعصوم (33)

-\--\-

بعد أيام قليلة طلب مني أخي أن أصحبه ليريني مفاجأة سماها (مفاجأة العصر)، فسرت معه، وأنا ممتلئ مخافة من هذه المفاجأة التي يريد أن يريها لي.. فأنا أعلم أن ما في نفسه من أحقاد على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لن يرشح منها أي خير.

وصلنا دارا واسعة محاطة بحديقة غريبة.. لقد كان ذوق أصحاب الدار عجيبا، حيث أنهم لم يرضوا لها إلا أن تزين بأفتك أنواع الأشجار الشوكية، حتى صارت تشبه دور السحرة كما تمثل في الأفلام الخيالية.

سألت أخي متعجبا عن تزيين الدار بمثل هذه الأشواك، فقال: هذه موضة جديدة.. والمصمم الذي صمم هذه الدار استوحى آخر التصاميم.

قلت: أتعرفه؟

قال: وكيف لا أعرفه.. وأنا الذي قصدته ليصممها؟

قلت: فهذه الدار ملكك إذن.. وهي المفاجأة التي تريد أن تريني إياها؟

قال: هذه الدار ملك لأجيال كثيرة من الناس.. وربما تصلح هذه الأيام أن تكون ملكا لنا.. أما المفاجأة التي أريد أن أريك إياها، فهي في داخل الدار.. فهلم معي إليها.

دخلنا الدار، وكان أول ما واجهنا لافتة مكتوب عليها (دار الندوة)، فدهشت، وقلت لأخي: ما هذا الاسم؟

قال أخي: هذا الاسم هو المفاجأة.

قلت: لم أفهم.

قال: لاشك أنك تعرف (دار الندوة) التاريخية.

قلت: أجل.. تلك الدار التي كان يجتمع فيها الملأ من قريش ليشوهوا محمدا ودين محمد.. ويحاربوا محمدا ودين محمد.

النبي المعصوم (34)

قال: فقد اجتمعت أنا والنفر الذين ذكرتهم لك.. وأحيينا تلك الدار من جديد، لتؤدي وظيفتها بأسلوب عصري يستخدم آخر تقنيات العصر.

قلت: ولكن تلك الدار التي كان يجتمع فيها الملأ من قريش كانت دارا مشؤومة، لم تنجز شيئا، ولم تستطع أن تصد زحف محمد ودين محمد.

قال: لأنهم اعتمدوا طرقا بدائية.. ثم إن خسارة معركة من المعارك لا تعني الهزيمة النهائية.

صحت في أخي: ولكن ألا تشعر بأنك تريد منا أن نمارس هرطقة لم تكن في أسلافنا؟

لست أدري كيف خرج رجل من منفذ من منافذ تلك الدار، وكأنه خرج من بطن من بطون الكتب المبعثرة فيها، وقال: لا.. بل نريد أن نحيي سنة مسيحية لم تزل ولن تزال.. وليس لنا من دور هنا فقط إلا التجديد.

قلت: من أنت؟

قال أخي: هذا أحد أفراد جماعتنا، بل هو أهم أفراد جماعتنا، وهو رجل حفظ التاريخ عن ظهر قلب، ويستطيع أن يعد لك الآلاف من رجال الكنيسة الذين ملأوا في يوم من الأيام رحاب مثل هذه الدار.

قلت: إن لهجته غريبة، وهي تدل على أنه ليس من أهل هذه البلاد.

قال: ذلك صحيح.. ولكنه يتقن جميع اللغات.. بل تستطيع أن تطلق عليه قاموس لغات.

قلت: ومن أين هو؟

قال: لقد ذكر لي بعض من سكن هذه الدار بأنه من نجد.. وقد كان بعض سلفنا يطلق عليه لقب (الشيخ النجدي) (1)

__________

(1) نريد بالشيخ النجدي هنا الشيطان الذي حضر اجتماع دار الندوة في الوقت الذي خطط فيه المشركون لقتل النبي (ففي الحديث عن عبد الله بن عباس قال: لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمره (غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل فادخل فدخل معهم.. الحديث رواه ابن إسحق وغيره.

النبي المعصوم (35)

قاطعنا الرجل، وقال: تعال أريك شيئا..

سرت معه، ففتح خزانة مملوءة بالمخطوطات القديمة، وقال: انظر هذه المخطوطات.. إنها جميعا حروب ساخنة ضد محمد ودين محمد.

قلت: من كتبها؟

قال: كثيرون هم.. منهم يوحنا الدمشقي، وتلميذه أبو قره، ويوحنا النقيوسي، ويحى بن عدي.. ومنهم ثيوفانس المعترف، ونيقتاس البيزنطي، وجرمانوس.. ومنهم ايزدور الأشبيلي، وأولوخيو، وبول الفارو.. ومنهم بدرودي الفونسو، وسان بدرو باسكوال، وريكولدو دي مونت كروس، ورامون مارتي، وريموندلول، ووليم الطرابلسي، ووليم الصوري، ووليم آدم، وجاكيوس دي فتري، وهامبرت الروماني، وفيد ينزو أوف بافيا.. وغيرهم كثير.

قال ذلك، ثم أخرج كتابا ضخما، وقال: انظر على سبيل المثال هذا الكتاب.. إنه يسمى المشروع الكلوني، وهو أول وأكبر مشروع استشراقي هدف بالدرجة الأولى إلى تفنيذ الإسلام (1).

إن هذا المشروع يصح أن يطلق عليه بأنه المشروع الغربي الأكبر لتشويه صورة الإسلام.

قلت: متى كان هذا، ومن تبناه؟

قال: لقد تأسس هذا المشروع سنة 1143 م، وهو يُنسب إلى دير كلوني في جنوب فرنسا ـ الذي تأسس سنة 910 م ـ ومنه انبثقت حركة لإصلاح الحياة الرهبانية عُرفت في التاريخ الأوربي باسم (حركة الإصلاح الكلونية) التي لم تلبث أن أسهمت في تقوية الجهاز الكنسي في الغرب الأوربي.

__________

(1) استفدنا المعلومات الواردة هنا من مقال علمي بعنوان: العدوان الفكري الغربي على الإسلام وعلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، بقلم: أ. د. علي بن محمد عوده.. وهو موجود على النت في مواقع مختلفة.

النبي المعصوم (36)

لقد تم في سنة 1122 اختيار رئيس جديد لدير كلوني هو الراهب بيير موريس دي مونتبوسيير، الذي أطلق عليه معاصروه لقب بطرس المكّرم.

لقد علم هذا الراهب المحترم من بعض المترجمين بوجود رسالة لنصراني شرقي تدافع عن النصرانية وتهاجم الإسلام مكتوبة باللغة العربية، وعرف منهم مضمونها، فقرر القيام بمشروع ترجمتها وترجمة القرآن الكريم.

فتح المؤرخ الكتاب الضخم على جزء من أجزائه، وقال: هذا الجزء على سبيل المثال نتاج لذلك المشروع.. إنه ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينية، وهي احدى الترجمات التي أصبحت تُعرف في أوربا باسم المجموعة الطليطلية، وقد قام بها مترجم انجليزي يسمى روبرت أوف كيتون.

لقد قام روبرت بترجمة ذكية لمعاني القرآن، كان لها تأثيرها الجيد في صياغة العقيدة الغربية الحاقدة تجاه محمد ودين محمد.

سأقرأ عليك بعض ما جاء في مقدمته.. لقد أطلق عليها بذكائه الحاد اسم (تمهيد عن الخرافة الإسلامية المسماة بالقرآن).. اسمع..

أخذ يقرأ من المخطوط بصوت عال، وكأنه تقمص شخصية كاتبها: (أنا كشفت عن شريعة محمد بيديّ، وجلبتها إلى خزينة اللغة الرومانية، الأمر الذي سوف يساعد رسالة المسيح المخلّص على الانتشار وتخليص الجنس البشري من هذا الإثم ـ الإسلام ـ.. ذلك أن دكاترة الكنيسة أهملوا تلك الهرطقه الكبرى ـ يقصد الإسلام ـ لتصل وتصعد إلى شئ ضخم جداً ومفرط لمدة خمسمائة وسبع وثلاثين سنة، لأنها مهلكة وضارة، بسبب أن الزهرة من تلك العقيدة المتعصبة الفاسدة، مجرد غطاء فوق عقرب، تحول دون أن تلفت الأنتباه إليه، وتُحطِّم بالخداع قانون الدين المسيحي)

التفت إلي، وقال: اسمع أنه يقول مخاطباً بطرس المكرَّم: (ولذلك قمت بالعمل معك لما علمت أن نفسك مجتهدة في سبيل كل شيء صالح، وأنك تتوق إلى ردم المستتنقع غير الخصب

النبي المعصوم (37)

للعقيدة الإسلامية.. لذلك أنا كشفت عن السُّبل والوسائل ـ بكل جهدي ـ للوصول إلى ذلك.. وهكذا أنا أحضرت الخشب والحجارة اللازمة لعمارتك الجميلة التي يجب أن تنتصب فوق الجميع خالدة، أنا كشفت الغطاء عن دخّان محمد الذي يجب أن يُخمد بواسطة منفاخك)

التفت إلي، وقال: سأضرب لك أمثلة عما قام به هذا الرجل الداهية المخلص:

انظر هنا.. لقد أعطى معنىً غامضاً لخطاب (يا أهل الكتاب) وجعله يبدو في معظم الأحيان وكأنه موجه للمسلمين.. وهو بذلك ـ وبذكاء حاد ـ يحول كل انتقادات القرآن لليهود والمسيحين إلى المسلمين أنفسهم.

فتح صفحات من الكتاب، وقال: انظر هنا.. لقد أضفى على كل الآيات المتعلقة بأحكام الزواج والطلاق معاني جنسية داعرة بحيث تبدو للقارئ الغربي لاسيما الرهبان مثيرة للاشمئزاز والنفور.. انظر ما يقول في الآية 230 من سورة البقرة.. (فإن طلقها فلا تحل له حتى يطأها رجل غيره) (1)

وانظر ما يقول في الآية 220 من سورة البقرة.. (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم بأن تمارسوا معهم اللواط) (2)

وانظر ما يقول في الآية 223 من سورة البقرة.. (نساؤكم حرث لكم فأتوا نساءكم في أدبارهن) (3)

وانظر ما يقول في الآية 50 من سورة الأحزاب.. (يا أيها النبي نحن نجيز لك أزواجك اللائي أتيتهن مهورهن، وجميع إيمائك اللائي أعطاكهن الله، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك، اللائي اتبعنك، وكل امرأة مؤمنة إذا هي ترغب أن تقدّم جسدها أو

__________

(1) يريد بذلك قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة:230)

(2) يريد بذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (البقرة:220)

(3) يريد بذلك قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة:223)

النبي المعصوم (38)

نفسها للرسول، وإذا الرسول يرغب أن يضطجع معها فليفعل، وهذا خاص لك وليس للمؤمنين الآخرين) (1)

أرسل ضحكة عالية، وقال: أرأيت هذا الذكاء الحاد الذي اتسم به هذا المترجم.. إن هذه الترجمة التي قام بها روبرت أوف كيتون لحساب بطرس المكرم سنة 1143 هي أول ترجمة عرفتها أوربا.. وقد كان لها تأثير خطير على الفهم الأوربي للإسلام حتى القرن الثامن عشر، فقد ظلت تنتشر مخطوطاتها حتى قام عالمان سويسريان بطباعتها في بازل سنة 1543 وعن هذه الترجمة اللاتينية قام أريفابيني الإيطالي بترجمتها إلى الإيطالية سنة 1547 وعن هذه الترجمة الإيطالية قام سالمون اشفجر بترجمتها إلى الألمانية سنة 1616 وعن هذه الترجمة الألمانية تُرجمت إلى الهولندية سنة 1641.

فتح الشيخ النجدي ذلك الكتاب الضخم على جزء آخر منه، وقال: هذه هنا (رسالة النصراني الشرقي)، وهي الأخيرة في المجموعة الطليطلية، وتُعرف باسم (الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي).. وقد كانت هذه الرسالة هي سبب المشروع الكلوني جميعه.

إن هذه الرسالة عبارة عن رسالة وجواب على الرسالة.. الرسالة مرسلة من رجل مسلم يُدعى عبدالله بن إسماعيل الهاشمي إلى صديق له مسيحي يدعى عبد المسيح بن إسحاق الكندي.

وقد صيغت رسالة الهاشمي بحيث يبدو قريباً للخليفة المأمون، بينما صيغ الجواب وكأن الكندي يعمل في بلاط الخليفة نفسه.

ابتسم، وقال: من الواضح أن كلا الاسمين مستعاران، وأن كاتب النصين عالم عربي مسيحي عاش في العراق في القرن العاشر الميلادي.. لقد كان هذا الكاتب في منتهى الذكاء

__________

(1) يريد بذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب:50)

النبي المعصوم (39)

والإخلاص.

لقد كلّف بطرس المكرم اثنين من المترجمين بترجمة هذا النص هما بطرس الطليطلي، وبطرس أوف بواتييه.

قلب الشيخ النجدي نظره في المخطوطة، ثم قال: تبدأ رسالة الهاشمي المزعوم بالسلام والرحمة على صديقه المسيحي، ثم يبدي الهاشمي المزعوم تعبيرات مختلفة من الاحترام لصديقه والإشارة إلى النسب الأصيل للكندي، والإشاده بتقواه وثقافته ومعرفته، ويدعوه إلى اعتناق الإسلام الذي هو دين الحنيفية، دين أبيهما الأول ابراهيم، وهو التوحيد الخالص لله تعالى، ثم يعرض أركان الإسلام الخمسة، والجهاد، ويسهب في ذكر نعيم الجنة لاغراء صديقه النصراني باعتناق الإسلام، وأنه إذا اعتنق الإسلام يمكنه الزواج بأربع زوجات ويطلق متى يشاء ويملك من الجواري ما يشاء، ويحصل على ترقية في بلاط الخليفة، وفي النهاية يعرض على صديقه أن يجيبه بكل صراحة على عرضه وأن يقول ما يحلو له في الدفاع عن دينه ويحثه على التخلي عن عبادة الثالوث.

وقد أجاب الكندي في 140 صفحة، أي أكبر بسبع مرات من رسالة الهاشمي، بحيث يترك جوابه الانطباع لدى القارئ المسيحي أنه نال الغلبة والقهر بالحجة والبرهان.

قلب الشيخ النجدي نظره في الكتاب، ثم قال: يبدأ الكندي المزعوم رسالته بالعرفان بالجميل لصديقه الهاشمي والدعاء للخليفة المأمون، ثم يدافع عن عقيدة الثالوث، ويذكر أن عقيدة الحنيفية التي يدعو إليها الهاشمي التي كان عليها إبراهيم إنما هي عبادة الأصنام، حيث يذكر أن إبراهيم ظل يعبدها لمدة سبعين سنة في حرّان مع آبائه.

وقد رد بأسلوب فلسفي قوي على عقيدة التوحيد.. ثم وجه هجومه على محمد، واتهمه بأنه تطلّع إلى المُلك، ولما كان يعرف أن نفوس قريش تأبى أن يصبح ملكاً عليها ادّعى النبوة للوصول إلى هدفه.

النبي المعصوم (40)

لا يتحدث جواب الكندي عن دعوة محمد في مكة، وإنما ينتقل فجأة إلى المدينة، حيث يذكر أن محمدا اغتصب مربد غلاميين يتيمين، وبنى عليه مسجده، وأنه اصطحب قوماً فراغاً لاعمل لهم وبدأ في شن الغارات وممارسة النهب والسلب وقطع الطريق وإخافة السبيل.

وهو يتهم محمدا أنه أمر باغتيال بعض الآمنين في بيوتهم.. ثم يشير إلى جروح محمد يوم أحد، ويرى أنه لو كان رسولاً لمنعه الله من الضرر، ثم يذكر أن محمدا لم يكن له هم إلا امرأة جميلة يتزوجها.. ويتهمه بالاستخفاف بالله في محاباة زوجاته.

وبعد ذلك يثير جواب الكندي موضوع النبوة وعلاماتها.. وهذا من أهم أجزاء هذه الرسالة.. وهو يذكر بذكاء حاد أن شروط النبوة لا تتوافر في محمد.. ذلك أن أهم علامات النبوة هي المعجزات، ومحمد لم يأت بشيء منها، وأنه أنكر أنه يستطيع أن يأت بآية كما جاء في القرآن، وأنه لا دليل لدى محمد على رسالته الإلهية..

وهو يذكر أن الإسلام انتشر بحد السيف.. وهو يذكر أن المسيحية انتشرت بالتبشير واستشهاد الحواريين، بينما الإسلام انتشر بالقهر والسيف.

وهو يذكر أن لغة القرآن ليست معجزة، ويعتبر لغة الشاعر امرئ القيس أقوى من لغة القرآن.

ويذكر أن الإغراء المادي والوعد بالملذات الحسية في جنة شهوانية هو الذي أغرى العرب المحرومين أن ينضموا إلى الإسلام وجيوشه، وأن جيوش المسلمين كانت مليئة بالمنافقين الذين انضموا إليها طلباً للغنائم.

وهو يهاجم شعائر الإسلام، ويعتبر الحج عملاً من أعمال الوثنية، ويرى أن الجهاد ليس إلا عملا شيطانيا.

وهو يذكر أن محمدا لم يكن يهدف مثلما هدف المسيح إلى أن يخلّص ويهذب الإنسان، وإنما هدف إلى ما هدف إليه الفاتحون الآخرون وهو أن يوسع مملكته.

النبي المعصوم (41)

وهو يذكر أن المسيحية هي الصراط المستقيم المذكور في سورة الفاتحة.

وهو يذكر أن الشرائع ثلاث: شريعة الكمال الإلهي وهي التي جاء بها المسيح، وشريعة العدل وهي التي جاء بها موسى، وشريعة الشيطان وهي التي جاء بها محمد.

وهو يذكر أن محمدا كان يتلقى قرآنه من راهب طُرد من الكنيسة، وذهب إلى إلى تهامة واسمه سرجيوس، وتسمى عند محمد باسم نسطوريوس، وأنه هو الذي كان يسميه محمد جبريل أو الروح القدس.

التفت إلي، وقال: هذه الترجمة الرئيسة في المشروع الكلوني نالت بين قومنا شعبية هائلة، وأصبحت بمثابة انجيل المبشرين والمستشرقين منذ ترجمتها وإلى اليوم، حيث اعتبروها أفضل دفاع عن المسيحية وأقوى هجوم على الإسلام.

وضع الشيخ النجدي الكتاب في الخزانة بلطف، ثم قال ـ وقد أخرج كتابين آخرين ـ: بعد أن انتهى بطرس المكرم من ترجمة هذا المشروع الذكي قام بتأليف ردين على الإسلام هما هذان الردان.. أما الأول فهو (المجمل الكامل عن الهرطقة الإسلامية).. وأما الثاني، فهو (الدحض)، وقد قسمه إلى كتابين، كل كتاب مكون من فصلين وكلاهما كتبه باللاتينية.

التفت إلي، وقال: سأقرأ عليك بعض ما ورد في هذا الرد..

أخذ الشيخ النجدي يقرأ بصوت عال: (إلى هذا الحد الفعلي علّم (محمد) القذر الشرير أتباعه إنكار جميع أسرار الدين المسيحي، وحكم تقريباً على ثلث الجنس البشري بعدم معرفة يوم الدينونة للرب، بواسطة حكايات مجنونه يهذي بما لم يُسمع بمثلها استجابة لأبليس والهلاك السرمدي)

إلى أن يقول: (هكذا كان (محمد) ناشطاً جداً في الشؤون العالمية، وذكيا إلى أبعد حد، هو انبثق من الأصل الوضيع والفقر إلى الغنى والشهرة، ونهض بنفسه إلى أعلى شيئاً فشيئاً، وتكراراً هاجم كل أولئك الذين كانوا بجواره، وكان بشكل بارز يضم إليه الأقرباء بالخداع، والسلب،

النبي المعصوم (42)

والغزوات، قاتلاً أي شخص غيلة إن استطاع، هو ازداد رعباً بواسطة اسمه، وفي الوقت المناسب وصل إلى القمة بالنزاعات، ثم بدأ يطمح إلى منصب الملك على شعبه، ولما كان يدرك أنه لا يستطيع أن يحقق هذه الرغبة بسبب أصله الوضيع قرَّر أن يصبح ملكاً عن طريق السيف، وتحت قناع الدين وبواسطة الإسم رسول الله)

قلب صفحات من أحد الكتابين، وأخذ يقرأ: (هكذا عُلِّم محمد من جانب أحسن علماء اللاهوت البارزين، والمتهرطقين، فانتجوا قرآنه، ونسجوا معاً، في ذلك الشكل غير الفصيح، له كتاباً مقدساً شيطانياً، صُنِّف على حد سواء من الخرافات اليهودية والأغاني العابثة للهراطقة، كاذباً أن هذه المجموعة جُلبت إليه سورة وراء سورة بواسطة جبريل، الذي اسمه هو عرفه من الكتاب المقدس في ذلك الوقت، هو أفسد بسم مهلك ذلك الشعب الذي لم يعرف الرب، وفي سلوك هذا المفُسد أن جعل في حواف القدح المملوء بالعسل السم المهلك الذي يتسرب معه، هو (محمد) حطَّم، واحسرتاه، الأرواح والأجساد لذلك الشعب البائس، ذلك الرجل، أثنى على الشريعة المسيحية واليهودية، والشرير مع ذلك يقتبس منها ويرفضها في الوقت نفسه)

قلب صفحات من أحد الكتابين، وقال: بعد ذلك يتناول بطرس المكرَّم، الجنة والنار، والتعاليم الأخلاقية ويهاجم التصوير القراني للجنة والنار فيقول: (محمد يصف عذاب جهنم كأنها تسرهُ حتى يصفها، وكأنه كان ملائماً لرسول زائف كبير أن يخترع تلك الأوصاف، وهو يصور جنة ليست من مجتمع ملائكي، ولا من تجلى الرب، ولا من ذلك الخير الأعلى، الذي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. بل في هذه الطريقة هو وصفها مثلما هو رغبها أن تكون معدَّة لنفسه، هو يعد أتباعه هناك بالأكل من اللحم، وكل أنواع الثمرات، هناك أنهار من اللبن والعسل والمياه المتدفقة. هناك العناق والإشباع الشهواني من النساء العذارى الأجمل، فيها أشياء كثيرة، جنته كلها حسية)

ثم يتناول بطرس المكرم تعدد الزوجات في الإسلام باعتباره عملاً من أعمال الفاحشة.

النبي المعصوم (43)

ثم يعود بطرس المبجل للهجوم البذئ على محمد، فيقول: (وبالإضافة إلى كل هذه الأشياء، استطاع أن يجتذب إليه الرغبات الشهوانية للرجال، حيث أطلق لهم الأعنة للنهم والتلوث هو نفسه كان له في ذات الوقت ستة عشر زوجة.. مقترفاً الزنى كأنه شرط بواسطة الأمر الإلهي، وبذلك أضاف إلى نفسه عدداً ضخماً من الناس المحكوم عليهم بالهلاك السرمدي)

التفت إلي، وقال ـ وهو يشير إلى الكتابين ـ: لقد ضم هذان الردان للمشروع الكلوني..

ثم قال معقبا: لقد كان هذا المشروع هو الإنجيل الذي الذي غدا في متناول الرهبان للاعتماد عليه في كتاباتهم العدائية ضد محمد ودين محمد.

فهذا وليم الصوري أسقف صور بدأ حديثه في تاريخه عن محمد فقال: (في زمن الامبراطور هرقل، وطبقاً للروايات والتواريخ الشرقية حققت معتقدات محمد الضارة موطئ قدم راسخ لها في الشرق، وهذا هو أول أبناء الشيطان المعُلِن بالكذب أنه رسول مرسل من الله، وبذلك أضل بلدان الشرق خصوصاً بلاد العرب، والبذرة السَّامة التي زرعها اخترقت إلى حد بعيد المناطق التي استخدم فيها خلفاؤه السيف والعنف بدلاً من التبشير والنصح، لاجبار الناس، مهما كانوا خاضعين، ليعتنقوا المعتقدات الخاطئة للرسول)

أما جاكيوس دي فتري اسقف عكا، فقال: (إن محمداً أخذ جيرانه الذين كان يحسدهم في الخفاء، وذبحهم بغدر)

أما سان بدرو باسكوال وهو راهب إسباني عاش في القرن 13 فقد كتب عدة كتب ضد المسلمين، ومنها كتاب أطلق عليه (الفرقة المحمدية)، قال فيه: (ما الذي جاء به محمد غير الفسوق والسلب، القرآن على حد سواء وبتناقض أمر بالسبب والحرب، والحديث أكدّ هذا، حيث وُعِدَ المسلمون بمكافأة ضخمة من أجل الموت في الحرب، وأن جروحهم سوف تكون جميلة يوم البعث، ذلك أن محمداً أمر بأن الناس من غير المسلمين يجب أن يُقتلوا بواسطة الجهاد، وتُغتصب نساؤهم ويؤخذن سبايا مع الأطفال، وخيراتهم تُنهب وبلادهم تُحتل)

النبي المعصوم (44)

وقد ذكر سان بدرو باسكوال هذا أن محمداً أثنى ذات مرة على آلهة الوثنيين في آيات زعم أن المسلمين يسمونها الآيات الشيطانية.

التفت إلي، وقال: لقد كان هذا القول هو الذي أوحى لأحد زملائنا في هذا المشروع الذي أسسنا من أجله هذه الدار بكتابة روايته (الآيات الشيطانية)، كما أن باسكوال وفندينزو وريكولدو وغيرهم من كتّاب العصور الوسطى كانوا المصدر الرئيس لهذه الرواية.

لقد اخترع سان بدور باسكوال قصصاً وأساطير عجيبة تناول فيها جوانب من سيرة محمد، ونزول الوحي عليه وموقف خديجة..

فمثلاً غزوة بدر يقدمها بهذا الشكل: (اصطحب محمد عصابة من اللصوص، وبعد ذلك سمع أن تجاراً كثيرين من مكة كانوا يقتربون من تلك المدينة من مناطق أخرى في طابور عظيم من البهائم المحملة بالأثقال، هو اختبأ في مكمن مع أصحابه وقتل سبعين من التجار وسائقي البغال من أهل مكة، وأخذ أكثر من سبعين أسيراً، ونهبوا القافلة بالكامل)

وعن قصة نزول الوحي يذكر أن محمدا تلبسَّه الشيطان، ويسب خديجة التي صدقته ويقول مخاطباً محمدا: (في الواقع أنا أقول لك يا محمد إن هذا الذي فعلته ليس نبوة، بل إنك قلت أشياء معينة مثلما تعوَّد العّرافون اليوم أن يقولونها عن طريق استحضار العفاريت بأي أسلوب، فهذا لن يكون مدهشاً لأنه سيوجد عرَّافون كثيرون في العالم يقولون حقائق قليلة وكذب كثير)

ويقول عن وفاة محمد: (إن محمداً عندما أوشك أن يموت حاول أن يعمِّد نفسه ـ أي يتنصَّر ـ لكن الشياطين منعته)

سرنا قليلا في القاعة، فرأينا صورة لرجل مشرقي يلبس ألبسة القرون الوسطى، وقد وضع على رأسه تاجا مزينا بالصلبان المذهبة، فقلت: أي ملك هذا؟

قال: هذا ملك من ملوك هذه الدار.. إنه يوحنا الدمشقي.. لاشك أنك تعرفه.. فيستحيل أن يدخل هذه الدار أحد لا يعرف يوحنا الدمشقي.. لقد كان من مسيحيي الشام، عاش في

النبي المعصوم (45)

العصر الأموي، وتضلع في اللاهوت، وكتب كتباً كثيرة، ومن ضمنها كتاب كتبه باليونانية بعنوان الهرطقات.

لقد أفرد فيه فصلاً عن الإسلام أطلق عليه اسم (هرطقة الأسماعيليين) ويقصد بالإسماعيلين العرب من أبناء اسماعيل بن ابراهيم، وهذا الفصل شديد الطعن، اتهم فيه يوحنا العرب بالهرطقه والضلال والخرافة، واعتبرهم فرقة نصرانية متهرطقة، وزعم أن محمداً كان رسولاً زائفاً ادَّعى النبوة زمن الامبراطور هرقل، بعد أن قرأ العهد القديم والعهد الجديد وتعلّم من راهب أريوسي فتظاهر بالتقوى حتى استمال العرب إليه وأخبرهم أنه تلقى كتاباً من السماء، وقدّم فيه تلك الشرائع المضحكة التي تسمى بالإسلام.

ومما ذكره هذا الرجل ـ وهو دليل من أدلة ذكائه وإخلاصه ـ أن محمدا دخل إلى بيت زينب بنت جحش في غياب زوجها فافتتن، بها وخرج وهو يقول: سبحان مقلب القلوب..

لقد كتب كتابه هذا في بلاد الدولة البيزنطية (دولة الروم) واستخدمه الكتّاب البيزنطيون في هجماتهم الفكرية على الإسلام، ثم تُرجم إلى اللاتينية وأسهم في صياغة العقيدة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين طوال العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر.

سرنا قليلا، فرأينا صورة أخرى، فقال: هذه صورة الراهب الإيطالي (فيدينزو أوف بافيا) الذي جاء إلى بلاد الشام في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي..

لقد كتب هذا الرجل الفاضل وصفاً مختصراً لتشويه صورة محمد عند القراء الغربيين ومما قاله: (إن محمداً جمع حوله عبيداً آبقين، ورجالاً مؤذين مرتشين ومضطهدين للاخرين، من أصناف مختلفة، وعندما أطاعوه وأصبح أميرهم، أرسلهم إلى غابة ذات طرق فرعية وإلى قمم الجبال، وأخذوا يغيرون على الطرق التي يتردد عليها المسافرون، فيسلبون الناس، وينهبون بضائعهم ويقتلون كل من يُبدي مقاومة. وحل الخوف من محمد وأصحابه بجميع الناس الذين يقطنون بتلك البلاد)

النبي المعصوم (46)

وقد كان هذا الراهب أحد الكتّاب الغربيين الذين تلقّفوا القصة المختلقة على محمد مع زينب بنت جحش، والتي اخترعها يوحنا الدمشقي وصاغها بشكل داعر، ومما قاله فيدينزو: (كان هناك رجل معروف يُدعى سايدوس ـ زيد ـ وكان له زوجة تُدعى سيبيب ـ زينب ـ كانت من أجمل النساء الجميلات اللائي عشن على الأرض في أيامها، فسمع محمد بشهرة جمالها، واشتعل بالرغبة فيها، وأراد أن يراها، فجاء إلى منزل المرأة في غياب زوجها، وسأل عن زوجها. هي قالت: يارسول الله، ما ذا تريد، لماذا أنت هنا؟ زوجي ذهب إلى الخارج في العمل، هذا لم يكن مخفياً عن زوجها، هو عندما عاد إلى بيته، قال لزوجته: هل كان رسول الله هنا؟ هي أجابت: هو كان هنا، هو قال هل رأى وجهك؟ هي أجابت: نعم هو رآه، وهو أيضاً سهّرني وقتاً طويلاً، هو قال لها: أنا لا أستطيع أن أعيش معك وقتاً أطول من هذا..)

نظر إلي، وقال: أرأيت ما أذكاه..

سرنا قليلا، فرأينا صورة أخرى، فقال: هذه صورة الراهب (ريكولدو أوف مونت كروس) المتوفى سنة 1320، وقد جاء إلى عكا سنة 1289 وانتقل منها إلى آسيا الصغرى، ومنها إلى الشرق حيث وصل إلى مراغة في رحلة تبشيرية، ثم جاء إلى الموصل وإلى بغداد. ثم عاد إلى دير مونت كروس.

وقد صنّف هذا الرجل الفاضل عدة كتب يهاجم فيها الإسلام منها كتاب سماه (دحض القرآن).. ومما جاء فيه قوله: (إن الإسلام مجرد خدعة شيطانية ابتدعها الشيطان كي يمهد الطريق لمجئ المسيح الدجّال، وذلك حين شعر الشيطان بعدم قدرته على إيقاف انتشار المسيحية، وأن الوثنيات بدأت تتهاوى أمام المسيحية، وأنه ليس في مقدوره دحض شريعة موسى وانجيل عيسى، فابتدع الشيطان ذلك الدين ليكون وسطاً بين المسيحية واليهودية.. والقرآن ليس قانون الله، نظراً لأن أسلوبه لا يطابق الأسلوب الإلهي، الذي لا يوجد فيه سجع ولا عبارات موزونة كتلك التي جاءت في الكتب المقدسة)

النبي المعصوم (47)

-\--\-

ما وصل الشيخ النجدي من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعت الباب يدق بشدة.. فأصابني رعب شديد.. فقد كانت الدار بكل ما تحمله من تحف وصور ومخطوطات تشبه الديار التي لا تسكنها إلا الأشباح..

أسرع أخي، ففتح الباب، فدخل مجموعة رجال مختلفي المظاهر والمشارب، وكأن كل واحد منهم عالم قائم بذاته.

عرفني بهم أخي واحدا واحدا.. واتفقنا في ذلك المجلس على طريقة تنفيذ المشروع الذي أراد أخي أن يجربه في تلك المدينة..

وقد اتفقوا على اختيار ساحة في المدينة تسمى (ساحة الحرية)، فتحت خصيصا لكل من يريد أن يتكلم ما يشاء، وفيما يشاء.. فلا قمع فيها، ولا ردع.

وقد دعاهم إلى اختيارها ما رأوه من استغلال المسلمين لها لنشر إسلامهم.. وما رأوه كذلك من الإقبال المتزايد للناس على الإسلام فيها، وفي مثلها من المحال.

التفت الغريب إلي، وقال: هذه قصة هذه الدار.. أما قصة النفر، وما يرتبط بشبهاتهم من وجوه الردود، فهي موضوع رحلتنا هذه.

النبي المعصوم (48)

أولا ـ خطايأ

كان أول من أراد أن يرسم منهج التشكيك لهذه الجماعة التي اجتمعت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أخي.. وتوأمي.. ونفسي الثانية.

لقد أراد بخروجه للمسلمين، بعد أن جمع ما أطاق من أنواع السموم، أن يكون أسوة حسنة لكل الفريق الذي اجتمع على أخطر مهمة في التاريخ وأصعبها.. وهي مهمة تشويه الشمس التي لا تغيب.

وقد أراد في نفس الوقت أن يمهد الأرض التي تجعل كل المسلمين يتقبلون كل ما سيفرزه غيره من سموم التشكيك والتشويه.

وقد كان لأخي من الذكاء والفطنة ما جعله يستند إلى مصادر المسلمين وحدها، وخاصة المصادر الأصلية التي لا يشك فيها أحد منهم، ليمزج منها خلطات تحول وجه كل من شرب منها عن قبلة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وكان من الآيات التي جذبت انتباهه لهذا، الآيات التي أسند الله تعالى فيها الغفلة والضلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ:50)، وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى:7)، وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف:3)، وقوله تعالى في الآية التي قصم أخي ظهرها: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (الأنعام:56) (1)

وكان منها الآيات التي أخبرت عن مغفرة الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ

__________

(1) الآية كاملة هكذا: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (الأنعام:56)

النبي المعصوم (49)

اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح:2)، وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)، وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (الشرح:2)، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43)، وقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (لأنفال:68).. وغيرها من الآيات.

ومن السنة جميعا لم يلفت انتباهه إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ) (2)

أخذ أخي في حقيبته هذه النصوص المقدسة، ثم مزجها بما شاء من فهوم، واستنتج منها ما شاء من استنتاجات.. ثم راح إلى ساحة الحرية ليبشر بما تصوره من خطايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: فهل ذهبت معه؟

قال: لست أدري.. ولكني ربما كنت معه.. فكل كلمة قالها، أشعر أني ـ مثله ـ نطقت بها.. وكل كلمة سمعها أشعر أني ـ مثله ـ سمعتها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لا تسأل عن ذلك.. فلن ينفعك البحث في ذلك.

-\--\-

وقف أخي في تلك الساحة التي هيئت لمن يشاء أن يقول ما يشاء، ثم قال: أنا أخاطب بكلمتي هذه العقول.. ولا أخاطب غير العقول.. فمن كان ذا عقل، فليسمع لي، وليرد علي بما

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه مسلم.

النبي المعصوم (50)

يشاء.. ومن لم يكن له عقل يميز به الحقائق من الأباطيل، وأهل الضلال من أهل الهداية.. فلا أرغب في سماعه لحديثي.. لسبب بسيط، وهو أنه لن يفهمه.. وإذا فهمه، فلن يتقبله.

اجتمعت جموع كثيرة حوله، وكان من بينها تلك الجماعة التي أسلمت حديثا، وفي ذلك المحل الذي أتيح لحرية التعبير.

بدأ أخي حديثه بما تعودته منه من طرق الاستفزاز، فهو يتصور أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يبني به ما يشاء، ويهدم ما يشاء.

وقد كان أخي يستخدم هذا الأسلوب في علاقاته جميعا، وقد بنى به كل ما كان يحلم به من مجد ومن مناصب ابتداء من أول السلم إلى منتهاه.

بعد أن اجتمعت الجموع أخذ أخي يرسل أول قنابله، فقال: لقد سمعت أنه ـ وقبل أسبوع ـ وقف رجل في هذا الموقف.. وحدث الناس كثيرا عن محمد.. وكان من نتيجة حديثه أن ألغى البعض عقولهم، وراحوا يسيرون خلف رجل امتلأ ضلالة وخطيئة..

نادى رجل من الجمع بغضب قائلا: من ترميه بالضلال والخطيئة؟

نظر إليه أخي.. ثم قال ببساطة يستفزه: وهل هناك غير محمد!؟.. إن هذا الوصف لا ينطبق على أحد في الدنيا كما ينطبق على محمد.

غضب الرجل.. وغضب معه كثير من أفراد الجماعة الملتفة بأخي.. بل قام يعضهم لينزله من ذلك المحل الذي يخطب منه.. فقام رجل من القوم، هو أشبه الناس بصاحبك (معلم السلام).. بل لعله (معلم السلام) نفسه إلا أني سمعت القوم يسمونه حكيما.. ولا أزال إلى الآن لا أعرف هذا الرجل، ولا أعرف سر وجوده في كل محل يتعرض له مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإساءة.

ولم يكن هذا العجب عجبي فقط، بل كان عجب العصابة جميعا، والتي عبر بعض أفرادها عن سخطه بقوله: (ما بال هذا المحامي يظهر كل مرة ليحبط جميع مخططاتنا)

بل إن بعض أفراد عصابتنا هم به ذات مرة ليخنقه.. ولكن الله خلصه منه.

النبي المعصوم (51)

لن أستعجل في حكاية هذا.. ولهذا سأعود بك إلى موقفه.. وكيف استطاع أن يواجه ذلك الموقف الشديد بحكمة وعقل وسلام.

قال الحكيم، بنبرة ممتلئة حكمة ووقارا وهدوءا، متوجها للجمع الغاضب: رويدكم يا جماعة.. فما ينبغي لنا، ونحن تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن الذين شملتنا أشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نتصرف هذا التصرف.

إن هذا أخ من إخواننا وقع في شبه جرته إلى هذا التصرف.. والشبه تعالج بالعلم، لا بالأيدي.. هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهكذا ينبغي أن نمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال ذلك، ثم التفت إلى أخي، وقال: هو ذا أنا أمامك.. أنا الذي تقصده.. فقد قمت قبل أسبوع بالوقوف في موقفك هذا.. لأحدث من أراد أن يستمع إلي عن رحلتي إلى محمد وشمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان لحديثي أن يطول.. ولكن الجمع الذي التف حولي كان كالزيت الذي يكاد يضيئ ولو لم تمسسه نار.. فلذلك ما إن ذكرت أول شعاع من أشعة محمد حتى راحوا يعلنون حبهم له وإيمانهم به.

قال أخي: وقد أرسلتني الحقيقة لأنقذ هذا الجمع الذي استغفلته، فرحت ترميه في شباك الضلال.

قال الحكيم: وأنا ممتن لك.. لتنقذني ـ أنا أيضا ـ من هذه الشباك.. فاذكر لي، واذكر للجمع ما ينقذنا من هذا الضلال الذي جعلنا نتبع محمدا.

سكت أخي يستجمع أنفاسه، وقد ساءه هذا الموقف اللين الذي أبداه الحكيم، ثم قال: تخيلوا معي ـ أيها الجمع ـ أنكم في صحراء.. وليس لديكم أي بوصلة تهتدون بها.. ثم جاءكم أمي لا يعرف الطريق، ولا علم له بالجغرافية، فأخبركم أنه الهادي.. هل تقبلونه؟

ثم أجاب نفسه بنفسه: لا شك أنكم لن تقبلوه.. فالضال لن يكون هاديا.. والخطاء لن يكون مربيا.. والمخطئ لن يكون معلما.. هكذا علمنا الكتاب المقدس.. وهذا هو المقياس العلمي

النبي المعصوم (52)

الذي ملأ به عقولنا، فرحنا لا نخضع إلا للحقيقة.

غضبت الجماعة المسلمة لهذا الاستفزاز.. لكنه قال بهدوئه المعتاد: لا تغضبوا.. فأنا لن أحدثكم إلا بالقرآن الذي جاء به محمد.. وبالأحاديث التي ينزلها المسلمون منزلة القرآن.

التفت الجمع إليه مستغرقين فيما يقول، متعجبين منه، فشجعه ذلك، فراح يقول: لقد ذكرت لكم أن محمدا خطاء.. والخطاء لا يكون مربيا.. ولا يكون هاديا.. ولا يكون رسولا.

لأن أول صفات المربي أن يكون قدوة لغيره.. ومن كان ذا خطيئة لم يرب غيره إلا على الخطيئة..

ومن أدوار الرسول أن يكون شافعا.. ومن كان ذا خطيئة يستحيل أن يكون شافعا للمذنبين.. لأنه يحتاج هو نفسه لمن يشفع له.

سكت قليلا، ثم قال: لا تغضبوا.. فليس هذا كلامي.. هذا ما قال القرآن.. لقد جاء في القرآن أمر محمد بالاستغفار، والاستغفار لا يكون إلا للمذنبين، ففي القرآن هذه الأوامر الشديدة لمحمد: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:106).. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55).. {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)

وفي القرآن وعد لمحمد بأن يغفر له ذنبه.. والمغفرة لا تكون إلا للمذنبين: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح:1 - 2)

بل إن محمدا نفسه يصرح بوقوع الخطايا منه.. اسمعوا هذا الدعاء الذي لا ينطق به إلا من امتلأ بالخطايا.. (اللهم انت ربى لا اله الا انت خلقتني وانا عبدك وانا على عهدك ووعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت ابوء لك بنعمتك على وابوء لك بذنبى فاغفر لى فانه لا يغفر

النبي المعصوم (53)

الذنوب إلا انت) (1)

واسمعوا هذا الدعاء الذي تفوح منه روائح الخطايا: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطأي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شئ قدير) (2)

أرأيتم.. إن محمدا في هذا الدعاء يقر بأن له خطايا.. وأنه أسرف فيها.. وأنه ارتكب من الخطايا جميع أنواعها وفي جميع المحال.

ليس هذا فقط.. اسمعوا هذا الدعاء: (اللهم انى اعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) (3)

ولكثرة خطاياه كان يقول لأصحابه: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً) (4).. بل كان يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرةٍ) (5)

وقد عد أحد أصحابه كثرة استغفاره، فقال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس، يقول: رب اغفر لى، وتب علي، انك انت التواب الغفور مائة مرة (6).

التفت إلى الجمع، وقال: أرأيتم.. هل يمكن الوثوق في نبي خطاء؟

ثم أضاف بسخرية قائلا: إن أي تصرف ستنقلونه عن هذا النبي يمكن أن يكون من

__________

(1) رواه البخاري والنسائي.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

(4) رواه البخاري.

(5) رواه مسلم.

(6) البيهقي في الشعب.

النبي المعصوم (54)

الذنوب التي تاب منها.. فهل تجيزون لأنفسكم أن تكرروا أخطاء غيركم؟.. وهل تجيزون لأنفسكم أن تعبدوا الله بالأخطاء التي تيب منها؟

سكت الجمع، فقام الحكيم، وقال: إذا أذنت لي.. فسأجيبك عما طرحت من أسئلة؟

قال أخي: أجب بما تشاء.. لن تجد عندي إلا سعة الصدر.

الخطايا والنبوة

قال الحكيم: سأجيبك عن هذا بأمرين.. أما أحدهما فأعتمد فيه على الجدل، فلذلك سأقنعك بما لا يقبله عقلي وديني.. ولكن دينك وعقلك يقبله.. وهو أسلوب اعتمده القرآن حين قال يخاطب اليهود: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93)

ولذلك أقول لك: ائت بكتابك المقدس.. وأجبني عما أطرحه عليك من أسئلة.

قال أخي: كتابي المقدس دائما معي.. هو في عقلي وقلبي وروحي.. وحروفه تنتقش في ذاكرتي.

قال الحكيم: فأنت أقرب إلى الحق إذن من كل هذا الجمع.. فمن قرأ الكتاب المقدس بصدق لن يصل إلا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال أخي: بل يصل المسيح..

قال الحكيم: المسيح ومحمد.. وغيرهما من الأنبياء كلهم قد خرجوا من عالم واحد، فمن وصل لأحدهم بصدق وصل للآخر لا محالة.

قال أخي: كيف تضع محمدا مع الأنبياء.. وقد ذكرت لك من ضلالاته وخطاياه ما يرفعه عن ذلك المقام الرفيع الذي تدعونه له!؟

قال الحكيم: اعذرني.. ربما أكون قد أخطأت في تعبيري.. ولكن المنهج العلمي يدعوني

النبي المعصوم (55)

ويدعوك للتريث حتى نبحث في سير هؤلاء الأنبياء الذين رأيت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أقل شأنا من أن يوضع معهم.

آدم

أشار الجمع موافقين لما ذكره الحكيم، فقال: فلنبدأ بآدم.. أليس آدم أبا البشر، وأول الأنبياء.. أجبني ما مقامه فيكم (1

قال أخي: هو فينا ذو مقام.. فهو أبونا الأول الذي ولدنا منه الولادة الأولى.. وكل مسيحي يشعر أنه ابن آدم بحكم ولادته، ويولد ولادة جديدة في المسيح بإيمانه، لذلك يحتفظ المسيحي بعلاقة دائمة مع آدم الأول وآدم الآخر، وإن اختلفت طبيعة هذه العلاقة وأثرها في

__________

(1) من المراجع التي رجعنا إليها في ذكر ما نسبب للأنبياء من معاصي (إظهار الحق) لرحمة الله الهندي، وقد قدم لذكره لما نسب للأنبياء باعتذار قال فيه: (اعلم أرشدك اللّه تعالى في الدارين أن المسيحيين يدعون أن الأنبياء إنما يكونون معصومين في تبليغ الوحي فقط، تقريراً كان أو تحريراً. وأما في غير التبليغ، فليسوا بمعصومين لا قبل النبوّة ولا بعدها. فيصدر عنهم بعدها جميع الذنوب قصداً، فضلاً عن الخطأ والنسيان، فيصدر عنهم الزنا بالمحارم فضلاً عن الأجنبيات، ويصدر عنهم عبادة الأوثان، وبناء المعابد لها، ولا يخرج عندهم نبي من إبراهيم إلى يحيى عليهما السلام لا يكون زانياً أو من أولاد الزنا أعاذنا اللّه من أمثال هذه العقائد الفاسدة في حق الأنبياء عليهم السلام.

وقد عرفت في الأمر السابع من مقدمة الكتاب، وفي الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وفي المقصد الأول من الباب الثاني أن ادعاءهم العصمة في التبليغ أيضاً باطل لا أصل له على أصولهم. ويصدر هذا الادعاء عنهم لتغليط العوام، فمطاعنهم على محمد (في بعض الأمور التي يفهمونها ذنوباً في زعمهم الفاسد، لا تقدح في نبوته على أصولهم. وإني وإن كنت أستكره أن أنقل ذنوب الأنبياء والكفريات المفتريات عن كتبهم ولو إلزاماً، ولا أعتقد في حضرات الأنبياء إنصافهم بهذه الذنوب والكفريات حاشا وكلا. لكني لما رأيت أن علماء بروتستنت أطالوا ألسنتهم إطالة فاحشة في حق محمد (في الأمور الخفيفة، وجعلوا الخردلة جبلاً لتغليط العوام الغير الواقفين على كتبهم، وكان مظنة وقوع السذج في الاشتباه بتمويهاتهم الباطلة، نقلت بعضها إلزاماً، وأتبرأ عن اعتقادها بألف لسان وليس نقلها إلا كنقل كلمات الكفر، ونقل الكفر ليس بكفر، وقدمت نقلها على نقل مطاعنهم في محمد (والجواب عنها)

وقد ذكر أنه نقل هذه النصوص وبعض التعليقات عليها من كتاب كتبه القسيس (وليم اسمت) (من علماء بروتستنت كتاباً في لسان أردو وطبعه في البلد مرزابور من بلاد الهند في سنة 1848 من الميلاد، وسماه طريق الأولياء، وكتب فيه حال الأنبياء من آدم إلى يعقوب عليهم السلام ناقلاً عن سفر التكوين وتفاسيره المعتبرة عند علماء بروتستنت)

النبي المعصوم (56)

الحالتين.

قال الحكيم: ولكنكم تذكرون لنا ـ خلافا لنا ـ بأنه ظل على خطيئته.. لقد قال أحدكم في كتاب كتبه عن أولياء الكتاب المقدس سماه (طريق الأولياء): (يا أسفي على أنه لم تثبت توبته وعلى أنه ما استغفر اللّه لذنبه مرة واحدة أيضاً)

نوح

قال ذلك، ثم التفت إلى أخي قائلا: وما تقولون في نوح؟

قال أخي: نوح ـ في معتقدنا نحن المسيحيين ـ هو الرجل البار الذي ينجو من العقاب وينعم بالخلاص.. ففي وسط الشر المدمّر للعالم، يبرز نوح كرأس للإنسانية الجديدة وصورة مسبقة للمسيح.

قال الحكيم: فافتح كتابك المقدس، واقرأ من سفر التكوين (9: 20)

أخذ أخي يقرأ: (واشتغل نوح بالفلاحة وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته، فشاهد حام أبو الكنعانيين عري أبيه، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا خارجا. فأخذ سام ويافث رداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا القهقرى إلى داخل الخيمة، وسترا عري أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عريه. وعندما أفاق نوح من سكره وعلم ما فعله به ابنه الصغير قال: (ليكن كنعان ملعونا، وليكن عبد العبيد لإخوته)، ثم قال: تبارك الله إله سام. وليكن كنعان عبدا له. ليوسع الله ليافث فيسكن في خيام سام. وليكن كنعان عبدا لهم)

ابتسم الحكيم، وقال: ألا ترى الخطايا الكثيرة التي تفوح من هذا النص، والتي تنسب لهذا النبي الكريم.

ألا ترون أن الذي شاهد عري أبيه هو (حام)؟

قال الجمع: نعم..

قال الحكيم: ولكن نوحا ـ في هذا النص ـ لا يلعن ابنه الذي شاهده، وإنما يلعن نسل أحد

النبي المعصوم (57)

أبنائه.. وهو كنعان.. وهذا الابن لم يولد حينذاك.. بل ولد بعد عشرين سنة..

ولو فرضنا أنه حمل إثم الأب على الابن، وهو خلاف العدل، فما وجه تخصيص كنعان.. فقد كان لحام أربعة أبناء: كوش ومصرايم وفوط وكنعان.

نظر الحكيم، وقال: من المؤسف أن يحمل الكتاب المقدس مثل هذه العنصرية.. إن هذه القصة ـ بلا شك ـ من افتراءات الكتاب المقدس على أنبياء الله واتهامهم بارتكاب الكبائر.. وهي تفضح عنصرية اليهود حيث قصدوا بهذه اللعنة الكنعانيين سكان فلسطين قبل اليهود، فنسبوا أنفسهم إلي سام، وادعوا اختصاصهم بذلك ليتسنى لهم ادعاء حق السيطرة على الكنعانيين.

إبراهيم

ثم التفت إلى أخي، وقال: أنبئني عن مقام إبراهيم فيكم، وفي الكتاب المقدس؟

قال أخي: هو نبي من أنبياء الكتاب المقدس العظام.. بل إنه يحتل مركزا ممتازا في تاريخ الخلاص.. فدعوته ليست مجرد نقطة البداية في تدبير الله، لكنها أيضا تحدد الاتجاهات الأساسية لهذا التدبير.

قال الحكيم: ولكنكم تعتقدون أنه وقع في خطايا كثيرة.. سأذكر لك منها بعض ما وصلت إليه، ولا أرى إلا أنك ستقرني عليها.

منها ما ذكره صاحبكم في كتابه الذي كتبه عن (طريق الأولياء)، فقد قال في حال إبراهيم: (لا يعلم حاله إلى سبعين سنة من عمره، وهو تربى في الوثنيين، ومضى أكثر عمره فيهم، ويعلم أن أبويه ما كانا يعرفان الإله الحق. ويحتمل أن إبراهيم أيضا كان يعبد الأصنام ما لم يظهر الله عليه، ثم ظهر عليه وانتخبه من أبناء العالم، وجعله عبدا خاصا) (1)

فظهر أن المظنون عندكم أن إبراهيم إلى سبعين سنة من عمره كان يعبد الأصنام.. بل إن كونه عابد الأصنام إلى أن بلغ سبعين سنة، قريب اليقين، نظرا لأصولكم، لأن أهل العالم في هذا

__________

(1) طريق الأولياء، 74، نقلا عن (إظهار الحق)

النبي المعصوم (58)

الوقت عندكم كانوا وثنيين، وهو تربى فيهم، وأبواه أيضا كانا منهم. ولم يظهر عليه الرب إلى ذلك الوقت، والعصمة عن عبادة الأوثان ليست بشرط بعد النبوة، فضلا عن أن تكون شرطا قبل النبوة.

لنترك هذا.. فقد تتعلل بأن هذا قبل النبوة.. ولننتقل إلى ما تذكرونه عنه بعد النبوة.. اقرأ علي ما ورد في (سفر التكوين:12/ 1013)

قرأ أخي: (وكان جوع في أرض كنعان، فنزل أبرام إلى مصر ليتغرب هناك، لأن الجوع كان شديدا. فلما وصل إلى أبواب مصر قال لساراي امرأته: (أعرف أنك امرأة جميلة المنظر، فإذا رآك المصريون سيقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويبقون عليك. قولي إنك أختي، فيحسنوا معاملتي بسببك ويبقوا على حياتي لأجلك)

قال الحكيم: ألا ترى الخطيئة العظيمة التي وقع فيها إبراهيم في هذا النص؟.. إن سبب الكذب ـ كما يدل هذا النص ـ ما كان مجرد الخوف، بل رجاء حصول الخير أيضا، بل الخير كان أقوى، ولذلك قدمه، وقال ليكون لي خير بسببك، وتحيي نفسي من أجلك.

على أن خوفه من القتل مجرد وهم، لا سيما إذا كان راضيا بتركها، فإنه لا وجه لخوفه بعد ذلك أصلا، وكيف يجوز العقل أن يرضى إبراهيم بترك حريمه وتسليمها ولا يدافع دونها، ولا يرضى بمثله من له غيرة ما، فكيف يرضى مثل إبراهيم الغيور.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: لم يكن هذا هو الذنب الوحيد.. بل إن إبراهيم ـ على حسب ما ذكر الكتاب المقدس ـ كرر نفس هذا الذنب.. ففي (سفر التكوين: 20/ 1 - 18): (وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض النقب، فأقام بين قادش وشور ونزل بمدينة جرار. وقال إبراهيم عن سارة امرأته: (هي أختي) فأرسل أبيمالك، ملك جرار، فأخذ سارة. فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: (ستموت بسبب المرأة التي أخذتها، فهي متزوجة برجل). ولم يكن أبيمالك اقترب إليها، فقال: (يا سيدي، أأمة بريئة تقتل؟ أما قال لي إبراهيم: هي أختي، وقالت لي امرأته أيضا:

النبي المعصوم (59)

هو أخي؟ فبسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا). قال له الله في الحلم: (أنا أعرف أنك بسلامة قلبك فعلت هذا، ولذلك منعتك من أن تمسها فتخطأ إلي. والآن رد امرأة الرجل، فهو نبي يصلي لأجلك فتحيا. وإن كنت لا تردها، فاعلم أنك لا بد هالك أنت وجميع شعبك)

فبكر أبيمالك في الغد واستدعى جميع رجاله وأخبرهم بكل ما جرى، فخافوا خوفا شديدا. ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له: (ماذا فعلت بنا؟ وبماذا أذنبت إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطيئة عظيمة؟ ما فعلت بي لا يفعله أحد) وسأل أبيمالك إبراهيم: (ماذا خطر لك حتى فعلت هذا؟) فأجاب إبراهيم: ((ظننت أن لا وجود لخوف الله في هذا المكان، فيقتلني الناس بسبب امرأتي. وبالحقيقة هي أختي ابنة أبي لا ابنة أمي، فصارت امرأة لي. فلما شردني الله من بيت أبي قلت لها: تحسنين إلي إن قلت عني حيثما ذهبنا: هو أخي)

فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وجواري وأعطى هذا كله لإبراهيم وأعاد إليه سارة امرأته. وقال أبيمالك: (هذه بلادي بين يديك، فأقم حيثما طاب لك)

وقال لسارة: (أعطيت أخاك ألفا من الفضة، وهو لك رد اعتبار أمام عيون كل من معك وسواهم بأنيلم أتزوجك)

فصلى إبراهيم إلى الله، فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه فولدن، وكان الرب أغلق كل رحم في بيت أبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم)

التفت الحكيم إلى أخي، ثم قال: ألا أن إبراهيم في هذا النص أيضا مارس نفس الأسلوب.. ولعل السبب هاهنا ما عدا الخوف أيضا، كان حصول المنفعة، وقد حصلت كما صرح بذلك هذا السفر المبارك..

لقد قال صاحبكم.. صاحب (طريق الأولياء) معلقا على هذا: (لعل إبراهيم لما أنكر كون سارة زوجة له في المرة الأولى، عزم في قلبه أنه لا يصدر عنه مثل هذا الذنب، لكنه وقع في شبكة

النبي المعصوم (60)

الشيطان السابقة مرة أخرى بسبب الغفلة) (1)

وقال في موضع آخر: (لا يمكن أن يكون إبراهيم غير مذنب في نكاح هاجر، لأنه كان يعلم جيدا قول المسيح المكتوب في الإنجيل، أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى، وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا) (2)

بل أقول: إنه لا يمكن أن يكون غير مذنب في زواجه من سارة، لأنه كان يعلم جيدا قول موسى المكتوب في التوراة: (لا تكشف أختك من أبيك كانت أو من أمك التي ولدت في البيت أو خارجا من البيت)، وقوله: (أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو أخته ابنة أمه، ورأى عورتها ورأت عورته، فهذا عار شديد، فيقتلان أمام شعبهما. وذلك لأنه كشف عورة أخته فيكون إثمهما في رأسهما)، وقوله: (يكون ملعونا من يضاجع أخته من أبيه أو أمه)

إن هذا الزواج مساو للزنا عندكم.. ويلزم من هذا أن يكون إبراهيم ـ عليه السلام ـ زانيا قبل النبوة وبعدها، ويكون أولاده كلهم من سارة أولاد الزنا.

ولو جوزتم زواج الأخت في شريعته لزم تجويز تعدد الزواج أيضا في تلك الشريعة.

إسحق

سكت قليلا، ثم قال: ليس إبراهيم وحده هو من وقع في هذا.. إن مثل هذا ورد عن ابنه الوارث لبركاته إسحق.. اقرأ ما ورد في (سفر التكوين:26/ 6 - 11)

قرأ أخي: (فأقام إسحق في جرار وسأله أهل جرار عن امرأته فقال: (هي أختي)، لأنه خاف أن يقول: (هي امرأتي)، لئلا يقتلوه بسببها وكانت جميلة المنظر. ولما مضى على إقامته هناك وقت طويل حدث أن أبيمالك، ملك الفلسطيين أطل من نافذة له ونظر فرأى إسحق يداعب رفقة امرأته. فدعاه وقال له: (إذا هي امرأتك، فلماذا قلت إنها أختك؟) فقال إسحق: (لأني ظننت

__________

(1) طريق الأولياء: 99.

(2) طريق الأولياء: 92 و93.

النبي المعصوم (61)

أنني ربما أهلك بسببها) فقال أبيمالك: (ماذا فعلت بنا؟ لولا قليل لضاجع أحد أبناء شعبنا امرأتك فنذنب) وأوصى أبيمالك جميع الشعب قال: (من مس هذا الرجل أو امرأته فموتا يموت)

قال الحكيم: ألا ترى إسحق في هذا النص يقتفي أثر أبيه، فيعود إلى نفس الخطيئة؟.. لقد قال صاحب طريق الأولياء: (زل إيمان إسحاق لأنه قال لزوجته أنها أخته) (1).. وفي موضع آخر قال: (يا أسفي إنه لا يوجد كمال في أحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير، والعجب أن شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم، وقع فيها إسحاق أيضا، وقال عن زوجته أنها أخته، فيا أسفي أن أمثال هؤلاء المقربين عند الله محتاجون إلى الوعظ) (2)

يعقوب

ثم التفت إلى أخي، وقال: ونفس الأمر حصل مع يعقوب.. فهو لم يكتف بالكذب، بل راح يخدع أباه.. بل يخدع الله.. اقرأ على الجمع من (سفر التكوين:27/ 1 - 45)

قرأ أخي: (ولما شاخ إسحق وكلت عيناه عن النظر دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: (يا ابني)، قال: (نعم. ها أنا). فقال: (صرت شيخا كما ترى ولا أعرف متى أموت. فخذ عدتك وجعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيد لي صيدا، 4 وهيئ لي الأطعمة التي أحب، وجئني بها فآكل وأباركك قبل أن أموت).

وكانت رفقة سامعة حينما كلم إسحق عيسو ابنه. فلما خرج عيسو إلى البرية ليصطاد صيدا ويجيء به إلى أبيه، قالت رفقة ليعقوب ابنها: (سمعت أباك يقول لعيسو أخيك: جئني بصيد وهيئ لي أطعمة فآكل منها وأباركك أمام الرب قبل موتي. والآن يا ابني، اسمع لكلامي واعمل بما أوصيك به. اذهب إلى الماشية وخذ لي منها جديين من خيرة المعز، فأهيئهما أطعمة لأبيك كما يحب. فتحضرهما إلى أبيك، ويأكل ليباركك قبل موته). فقال يعقوب لرفقة أمه: (لكن عيسو أخي رجل

__________

(1) طريق الأولياء: 168.

(2) طريق الأولياء:169.

النبي المعصوم (62)

أشعر وأنا رجل أملس. ماذا لو جسني أبي فوجدني مخادعا؟ ألا أجلب على نفسي لعنة لا بركة؟) فقالت له أمه: (علي لعنتك يا ابني. ما عليك إلا أن تسمع لكلامي وتذهب وتجيئني بالجديين. فذهب وجاء بهما إلى أمه، فهيأت أطعمة على ما يحب أبوه. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي عندها في البيت، فألبستها يعقوب ابنها الأصغر وكست يديه والجانب الأملس من عنقه بجلد المعز. وناولت رفقة يعقوب ما هيأته من الأطعمة والخبز، فدخل على أبيه وقال: (يا أبي)، قال: (نعم، من أنت يا ابني؟) فقال له يعقوب: (أنا عيسو بكرك. فعلت كما أمرتني. قم اجلس، وكل من صيدي، وامنحني بركتك). فقال له إسحق: (ما أسرع ما وجدت صيدا يا ابني!) قال: (الرب إلهك وفقني). فقال: (تعال لأجسك يا ابني، فأعرف هل أنت ابني عيسو أم لا). فتقدم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسه وقال: (الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو). ولم يعرفه، لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه. فقبل أن يباركه. قال: (هل أنت حقا ابني عيسو؟) قال: (أنا هو). فقال: (قدم لي من صيدك، يا ابني، حتى آكل وأباركك). فقدم له فأكل، وجاء بخمر فشرب. وقال له إسحق: (تقدم وقبلني يا ابني). فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه وقال: (ها رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب يعطيك الله من ندى السماء ومن خصوبة الأرض فيضا من الحنطة والخمر! وتخدمك الشعوب وتسجد لك الأمم! سيدا تكون لإخوتك، وبنو أمك يسجدون لك. ملعون من يلعنك، ومبارك من يباركك!)

فما إن فرغ إسحق من بركته، وخرج يعقوب من عنده حتى رجع عيسو أخوه من الصيد فهيأ هو أيضا أطعمة وجاء بها إلى أبيه وقال له: (قم يا أبي، وكل من صيدي، وباركني). فقال له أبوه: (من أنت؟) قال: (أنا ابنك البكر عيسو). فارتعش إسحق ارتعاشا شديدا وقال: (فمن هو الذي صاد صيدا وجاءني به، فأكلت منه كله قبل أن تجيء وباركته؟ نعم، باركته ومباركا يكون). فلما سمع عيسو كلام أبيه صرخ عاليا بمرارة وقال له: (باركني أنا أيضا يا أبي). فأجابه: (جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك). فقال عيسو: (ألأن اسمه يعقوب تعقبني مرتين؟ أخذ بكوريتي، وها

النبي المعصوم (63)

هو الآن يأخذ بركتي). وقال: (أما أبقيت لي بركة؟)

فأجابه إسحق: (هاأنا جعلته سيدا لك، وأعطيته جميع إخوته عبيدا، وزودته بالحنطة والخمر، فماذا أعمل لك يا ابني؟) فقال عيسو: (أما لك غير بركة واحدة يا أبي؟ باركني أنا أيضا يا أبي). ورفع عيسو صوته وبكى. فأجابه أبوه: (بعيدا عن خصوبة الأرض يكون مسكنك، وعن ندى السماء من فوق. بسيفك تعيش وأخاك تخدم فإذا قويت تكسر عن عنقك نيره)

وحقد عيسو على يعقوب بسبب البركة التي باركه بها أبوه. وقال عيسو في نفسه: (إقتربت أيام الحداد على أبي. فأقتل يعقوب أخي). وجاء من أخبر رفقة بكلام عيسو، فاستدعت يعقوب وقالت له: (أخوك ينوي أن يقتلك. والآن اسمع لكلامي يا ابني، فقم اهرب إلى لابان أخي في حاران، وأقم عنده أياما قليلة حتى يهدأ غضب أخيك فإذا هدأ غضب أخيك ونسي ما فعلت به أرسل وآخذك من هناك. لماذا أفقدكما في يوم واحد؟)

قال الحكيم: يكفيني ما قرأته.. هل ترى هذا سلوك نبي أبي أنبياء!؟.. نحن المسلمين لا نقول هذا.. بل ننزه الأنبياء عن كل خطيئة صغيرة كانت أو كبيرة..

لقد ذكر بعض علماء المسلمين.. وهو ابن حزم.. في نقد لاذع وتحليل رائع، ما في هذا النص من أكاذيب وخرافات ومتناقضات فقال: وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات، فأول ذلك اطلاقهم على نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ أنه خدع أباه وغشه وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس مع الكفار والأعداء، فكيف من نبي مع أبيه وهو نبي أيضا؟! هذه سوءات مضاعفات.

ثانيا: اخبارهم أن بركة يعقوب إنما كانت مسروقه بغش وخديعة وتخابث، وحاشا للأنبياء عليهم السلام من هذا. ولعمري انها لطريقة اليهود، فما تلقى منهم إلا الخبيث الخادع والشاذ.

ثالثا: اخبارهم أن الله أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغش والخديعة، وحاش لله من هذا.

النبي المعصوم (64)

رابعا: أنه لا يشك أحد في أن إسحق ـ عليه السلام ـ لما بارك يعقوب حينما خدعه، كما زعم النذل الذي كتب لهم هذا الهوس، إنما قصد بتلك البركة عيسو، وأنه دعا لعيسو لا ليعقوب. فأي منفعة للخديعة ها هنا؟ لو كان لهم عقل.

وأما وجوه الكذب فكثيرة جدا. من ذلك نسبتهم الكذب إلى يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو نبي الله ورسوله، في أربع مواضع:

أولها وثانيها قوله لأبيه اسحاق أنا ابنك عيسو وبكرك، فهاتان كذبتان في نسق، لأنه لم يكن ابنه عيسو، ولا كان بكره، وثالثها ورابعها قوله لأبيه: صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي. فهاتان كذبتان في نسق، لأنه لم يكن له شيئا ولا أطعمه من صيده، وكذبات أخرى هي: بطلان بركة اسحق إذ قال ليعقوب تخدمك الأمة وتخضع لك الشعوب وتكون مولى اخوتك، ويسجد لك بنو أمك، وبطلان قوله لعيسو تستعبد لأخيك. فهذه كذبات متواليات. فوالله ما خدعت الأمم يعقوب ولا بنيه بعده، ولا خضغت لهم الشعوب، ولا كانوا موالى اخوتهم، ولا سجد لهم ولا له بنو أمه. بل إن بني اسرائيل هم الذين خدموا الأمم في كل بلدة وخضعوا للشعوب قديما وحديثا في أيام دولتهم وبعدها.

وأما قوله (تكون مولى اخوتك ويسجد لك بنو أمك)، فلعمري لقد صح ضد ذلك جهارا، إذ في توراتهم أن يعقوب كان راعيا لأنعام ابن عمه لابان بن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة، وأنه بعد ذلك سجد هو وجميع ولده حاشا من لم يكن خلق منهم بعد لأخيه عيسو مرارا كثيرة.

وما سجد عيسو قط ليعقوب، ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو. وقد تعبد يعقوب لعيسو في جميع خطابه له، وما تعبد قط عيسو ليعقوب. وقد سأل عيسو يعقوب عن أولاده فقال له يعقوب: هم أصاغر من الله بهم على عبدك. وقد طلب يعقوب رضاء عيسو وقال له: اني نظرت الى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله، فارض عني، واقبل ما اهديت اليك. فما نرى

النبي المعصوم (65)

عيسو وبنيه إلا موالى يعقوب وبنيه.

فما نرى تلك البركة إلا انها معكوسة منكوسة! ونعوذ بالله من الخذلان.

قال ذلك، ثم ابتسم، وقال: لقد ذكرني هذا النص قصة حكاها رحمة الله الهندي، فذكر أن فاجرا من فرقة بانو طلب حشيشا من الحمار لأجل حصانه، وما أعطاه الحمار، فقال: إن لم تعطني أدع على حمارك، فيموت الليلة، وراح، فمات حصانه في تلك الليلة، فلما استيقظ ووجد حصانه ميتا، حرك رأسه متعجبا، فقال: يا عجبا يا عجبا أنه مضى مليونات من السنين على ألوهية إلهنا، ولا يميز الحصان من الحمار إلى هذا الحين، دعوت على الحمار وأهلك حصاني.

ثم علق على هذا بقوله: ولو كان حال ديانة أبي الأنبياء الإسرائيلية هكذا أو حال علم الله هكذا، فللمنكر أن يقول: يجوز أن يكون مبنى معاملات الأنبياء الإسرائيلية مع الله أيضا على الخداع كأبيهم الأعلى، ويجوز أن يكون عيسى ـ عليه السلام ـ وعد الله أن تعطيني قدرة الكرامات، أدع الخلق إلى توحيدك وربوبيتك، لكن الله ما ميز الصدق عن الكذب، فأعطاه القدرة فدعا إلى ربوبية نفسه وبغى على الله.. أعوذ بالله من هذه الأمور الواهية.

ليس هذا فقط ما ذكر عن يعقوب..

لقد ذكر الكتاب المقدس أن يعقوب اشترى النبوة من أخيه عيسو فى مقابل طبق عدس وقطعة لحم، ففي (تكوين 25/ 29 - 34): (وطبخ يعقوب طبيخا فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت. (لذلك دعي اسمه أدوم). فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو: ها أنا ماض إلى الموت فلماذا لي بكورية؟ فقال يعقوب: احلف لي اليوم. فحلف له. فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس فأكل وشرب وقام ومضى. فاحتقر عيسو البكورية)

لوط

التفت إلى أخي، وقال: أنبئني عن مقام لوط فيكم، وفي الكتاب المقدس؟

النبي المعصوم (66)

قال أخي: هو من الأنبياء البررة، وقد شهد له بطرس في رسالته الثانية (2: 7) بالبر والصلاح والاستقامة فهو يقول: (وإذ حكم الله على مدينتي سدوم وعمورة بالخراب، حولهما إلى رماد، جاعلا منهما عبرة للذين يعيشون حياة فاجرة. ولكنه أنقذ لوطا البار، الذي كان متضايقا جدا من سلوك أشرار زمانه في الدعارة. فإذ كان ساكنا بينهم، وهو رجل بار، كانت نفسه الزكية تتألم يوميا من جرائمهم التي كان يراها أو يسمع بها. وهكذا نرى أن الرب يعرف كيف ينقذ الأتقياء من المحنة)

قال الحكيم: فاقرأ ما ورد عنه في الكتاب المقدس من سفر التكوين: 19/ 3038)

قرأ أخي: (وخاف لوط أن يسكن في صوغر، فصعد إلى الجبل وأقام بالمغارة هو وابنتاه. فقالت الكبرى للصغرى: ((شاخ أبونا وما في الأرض رجل يتزوجنا على عادة أهل الأرض كلهم. تعالي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه ونقيم من أبينا نسلا)). فسقتا أباهما خمرا تلك الليلة، وجاءت الكبرى وضاجعت أباها وهو لا يعلم بنيامها ولا قيامها. وفي الغد قالت الكبرى للصغرى: ((ضاجعت البارحة أبي، فلنسقه خمرا الليلة أيضا، وضاجعيه أنت لنقيم من أبينا نسلا)). فسقتا أباهما خمرا تلك الليلة أيضا، وقامت الصغرى وضاجعته وهو لا يعلم بنيامها ولا قيامها. فحملت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت الكبرى ابنا وسمته موأب، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم. والصغرى أيضا ولدت ابنا وسمته بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم)

قال الحكيم: أهذا هو الطهر والبراءة والتقى!؟.. لقد قال صاحب (طريق الأولياء) (1) يتأسف عليه: (حاله حري أن يبكى عليه، ونحن بعد التأسف والخوف والخشية على أنفسنا نتعجب منه، أهو الذي بقي نقي الثوب عن جميع شرور سادوم، وكان قويا في السلوك على صراط الله، وبعيدا عن جميع نجاسات تلك البلدة وغلب عليه الفسق بعد ما خرج إلى البر، فأي شخص يكون مأمونا في بلد أو بر أو كهف)

__________

(1) طريق الأولياء:128.

النبي المعصوم (67)

فإذا كان القسيسيون قد بكوا عليه، فليكفنا بكاؤهم (1).. ولنبحث في سجل خطايا نبي

__________

(1) من باب تبرئة نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ فسنعيد هنا ذكر ما ذكرناه في رسالة (الكلمات المقدسة) من أدلة براءة لوط ـ عليه السلام ـ من تلك التهمة الشنيعة، فقد جاء فيه:

كعادة الكتاب المقدس، فإنه يترك في نصوصه أدلة التحريف والكذب، وسنقتصر من أدلة كذب هذه القصة ما ذكره الكتاب المقدس علي لسان بنت لوط الكبرى أنه لا يوجد رجال في الأرض (و ليس في الأرض رجل)، فهذا القول خطأ من وجوه:

1. أن الرب دمر قرية سدوم وعمورة فقط بما فيها من البشر، أما باقي الأرض وما بها من البشر، فلم يمسهم.

2. كان لوط قريبا جدا من عمه إبراهيم وقومه، وقد مرت ملائكة الرب علي إبراهيم وهم في طريقهم لتدمير قرية سدوم وعمورة بل شاهد إبراهيم القرية والدخان ينبعث منها، كما في (تكوين: 19: 27 - 28): (وبكر ابراهيم في الغد الى المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون) أي أن لوط لم يبعد عن إبراهيم وقومه، وبالتالي يمكن لبنات لوط الزواج من قوم إبراهيم أو من أي قرية قريبة منهم.

3. أن في الكتاب المقدس ما يدل على كون بناته متزوجات.. حيث أن لوطا طلب من أزواج بناته الاستعداد للرحيل معهم (تكوين:19: 14): (فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة فكان كمازح في أعين أصهاره)

وقد ورد في نفس الوقت ما يدل على أنهما غير متزوجتين حيث أن لوط أخبر قومه أن لديه بنتين لم يعرفا رجلا، أي لم يسبق لهم الزواج (تكوين: 19: 8): (هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا اخرجهما اليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي)

ولسنا ندري أي النصين نصدق!؟

4. أن الرب أهلك الآثمين فقط، ونجى البارين فقط.. فإن كان زوجي بنتي لوط ـ ان صح أنهما من المتزوجات ـ من الآثمين لماذا طلب ملاك الرب من لوط أن يأخذهم معه (تكوين: 19: 12): (وقال الرجلان للوط من لك أيضا ههنا اصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة اخرج من المكان). فهل الرب يحابي لوط وبناته وأصهاره!؟

5. أن المخمور الذى لا يستطيع أن يفرق بين بناته والأجنبيات لشدة سُكره، لا يكون فى هذا الوقت مستعدا للممارسة الجنسية، والغريب فى باقى القصة أن الأب لم يسأل ابنتيه العذراوتين عن سبب الحمل؟ ومثل هذا الوضع لو وقع لبعض آحاد الناس لضاقت عليه الأرض بما رحُبت حزناً وغماً.

6. أنه لو كان الموابيين والعمونيين من الزنى لغضب الله عليهم أو أهمل شأنهم، ولكننا نرى فى سفر التثنية أن الله قد أعطى أرض الإيميين للموآبيين ميراثاً (فَقَال لِي الرَّبُّ: لا تُعَادِ مُوآبَ وَلا تُثِرْ عَليْهِمْ حَرْباً لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِهِمْ مِيرَاثاً. لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍَ قَدْ أَعْطَيْتُ (عَارَ) مِيرَاثاً. 10 الإِيمِيُّونَ سَكَنُوا فِيهَا قَبْلاً. شَعْبٌ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ وَطَوِيلٌ كَالعَنَاقِيِّينَ) (سفر التثنية 2: 9 - 10)، كما أعطى أرض الرفائيين لبنى عمون ميراثاً: (19 فَمَتَى قَرُبْتَ إِلى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ لا تُعَادِهِمْ وَلا تَهْجِمُوا عَليْهِمْ لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثاً - لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍ قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِيرَاثاً. 20 هِيَ أَيْضاً تُحْسَبُ أَرْضَ رَفَائِيِّينَ. سَكَنَ الرَّفَائِيُّونَ فِيهَا قَبْلاً لكِنَّ العَمُّونِيِّينَ يَدْعُونَهُمْ زَمْزُمِيِّينَ) (تثنية 2: 19 - 20)

وقد أعطى الله الموآبيين والعمونيين ميراث الأرض قبل أن يورث بنى إسرائيل وقبل أن يدخلوا أرض الميعاد، بل وحرَّمَ أرض الموآبيين والعمونيين على بنى إسرائيل كما ورد فى سفر (التثنية 2: 9 و19)

ولو كان الإرث يستلزم عهداً من الرب، فقد حصل عليه العمونيون والموابيون، وبذلك يكونون قد دخلوا فى جماعة الرب، لأن الرب لا يعطى عهداً لأبناء الزنى: (2 لا يَدْخُلِ ابْنُ زِنىً فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الجِيلِ العَاشِرِ لا يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ) (تثنية 23: 2)، وبذلك يكون الموآبيون والعمونيون ليسوا من أبناء زنى ويكون كتبة هذه القصة من الكاذبين. ويكون بنى إسرائيل قد ادعوا وجود هذا العهد من الله ويكونوا أيضاً من الكاذبين.

ولو صدقنا قول التوراة أن العمونيين والموآبيين من نسل الزنى، وعلى الرغم من ذلك قد حصلوا على عهد من الله وعلى إرث، يكون قد نال عهد الله أبناء الزنى والأطهار (بنى إسرائيل)، فلا ميزة إذن للأطهار عن أبناء الزنى، ويصبح قول التوراة بأن بنى إسرائيل شعب الله المختار لأنهم أخذوا عهداً من الله بتملك الأرض، هو قول كذب.

7. أن راعوث كانت موآبية وهى أم نبى الله داود الذى كان من ذريته كل ملوك يهوذا حتى السبى، والذى قال عنه الرب: (14 أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ. 15 وَلَكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ كَمَا نَزَعْتُهَا مِنْ شَاوُلَ الَّذِي أَزَلْتُهُ مِنْ أَمَامِكَ. 16 وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتاً إِلَى الأَبَدِ) (صموئيل الثانى 7: 14 - 16)

فلا يمكن أن من شرفه الله بهذا الشرف أن يكون من سلالة زنى. كما أن سليمان قد تزوج من نعمة العمونية وأنجب منها رحبعام (ملوك الأول 14: 21)، ولا يمكن أن يكون رؤوس جماعة الرب من أمهات زنى، فضلاً عن أنهم من نسل الرب (تبعاً للتشريع النصرانى)، فلابد أن يكون هذا التشريع مدسوس على التوراة.

وقد بين السموال بن يحيى المغربى ـ أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وقد كان أبوه حبراً يهودياً كبيراً وإماماً ضليعاً فى اليهودية وكذلك كانت أمه ـ السر الذي دعا إلى اختلاق هذه القصة، فقال: (وأيضاً فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة فى الهارونيين، فلما ولى طالوت (شاول) وثقلت وطأته على الهارونيين وقتلَ منهم مقتلة عظيمة، ثم انتقل الأمر إلى داود، بقى فى نفوس الهارونيين التشوق إلى الأمر الذى زال عنهم، وكان (عزرا) هذا خادماً لملك الفرس، حظيا لديه، فتوصل إلى بناء بيت المقدس، وعمل لهم هذه التوراة التى بأيديهم، فلما كان هارونياً، كره أن يتولى عليهم فى الدولة الثانية داودىّ، فأضاف فى التوراة فصلين للطعن فى نسب داود، أحدهما قصة بنات لوط والآخر قصة ثامار (مع يهوذا) ولقد بلغ - لعمرى - غرضه، فإن الدولة الثانية كانت لهم فى بيت المقدس، لم يملك عليها داوديون، بل كان ملوكهم هارونيون) إفحام اليهود:151 و152.

النبي المعصوم (68)

آخر.. أخبرني عن موسى.. ما مقامه فيكم؟

موسى

قال أخي: هو فينا النبي منقطع النظير (تثنية 34: 10 - 12) الذي على يده حرر الله شعبه،

النبي المعصوم (69)

وعقد عهده معه (خروج 24: 8)، وأعلن له شريعته (خروج 34: 10، راجع 34: 27).. وموسى هو الوحيد ـ بالاشتراك مع يسوع ـ الذي يطلق عليهما العهد الجديد لقب الوسيط.

لكن بينما أعطى الله الشريعة بواسطة عبده الأمين موسى (عبرانيين 3: 5، غلاطية 3: 19) لشعبه إسرائيل وحده، فهو يخلص جميع البشر بوساطة ابنه (عبرانيين 3: 6) يسوع المسيح (1 تيموتاوس 2: 4 - 6).. ولهذا، فإن الشريعة أتتنا عن يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا عن يد يسوع المسيح (يوحنا 1: 17)

قال الحكيم: لن أجادلك فيما ذكرته.. ولكني لن آخذ منه إلا شيئا واحدا أحتاجه الآن.. وهو أن موسى نبي من أنبياء الكتاب المقدس.. أليس كذلك؟

قال أخي: إن لم يكن موسى نبيا، فليس هناك نبي في الكتاب المقدس.

قال الحكيم: ما دمت قد ذكرت هذا.. فاقرأ لي ما ورد في (الخروج:2/ 11 - 12)

قرأ أخي: (وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته فالتفت الى هنا وهناك ورأى ان ليس احد فقتل المصري وطمره في الرمل)

قال الحكيم: ألا ترى كيف يصور الكتاب المقدس نبي الله موسى متعمدا للقتل.. بل تعتبره عنصريا، فهو لم يقتله إلا لأنه مصري.

التفت إلى أخي، ثم قال: اقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج:4/ 10 - 17)

قرأ أخي: (فقال موسى للرب: (يا رب! ما كنت يوما رجلا فصيحا. لا بالأمس ولا من يوم كلمتني أنا عبدك بل أنا بطيء النطق وثقيل اللسان) فقال له الرب: (من الذي خلق للإنسان فما؟ ومن الذي خلق الأخرس أو الأصم أو البصير أو الأعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فاذهب وأنا أعينك على الكلام وأعلمك ما تقول) فقال موسى: (يا رب! أرسل أحدا غيري) فغضب الرب على موسى غضبا شديدا وقال له: (أعرف هرون اللاوي أخاك أنه فصيح اللسان وها هو الآن

النبي المعصوم (70)

خارج للقائك وحين يراك يفرح في قلبه. فكلمه أنت بما تريد أن ينطق به، وأنا أعينكما على ما تقولانه وأعلمكما وأريكما ما تعملانه. هو يخاطب الشعب عنك وينطق باسمك، وأنت تكون له كأنك الله يوحي إليه. وخذ بيدك هذه العصا، فبها تصنع المعجزات)

قال الحكيم: ألا ترى كيف نص الكتاب المقدس على أن الله غضب على موسى غضبا شديدا؟

سكت أخي، فقال له الحكيم: اقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج:32/ 19)

قرأ أخي: (فلما دنا من المحلة وأبصر العجل وجوق المغنيين فاشتد غضب موسى ورمى باللوحين من يده فكسرهما في أسفل الجبل)

قال الحكيم: أليس هذان اللوحان كانا من عمل الله وخط الله؟

قال أخي: بلى.. وقد صرح بذلك في هذا الباب.

قال الحكيم: فكسرهما خطأ، ولم يحصل بعد ذلك مثلهما، لأن اللوحين اللذين حصلا بعدهما كانا من عمل موسى ومن خطه.

قال أخي: أجل.. وقد صرح بذلك في الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج.

قال الحكيم: ليس هذا فقط ما رمى به الكتاب المقدس هذا النبي الكريم.. اقرأ علي ما ورد في (سفر العدد:20/ 12)

قرأ أخي: (وقال الرب لموسى وهارون من أجل إنكما لم تصدقاني وتقدساني قدام بني إسرائيل، من أجل ذلك لا تدخلان أنتما بهذه الجماعة إلى الأرض التي وهبت لهم)

قال الحكيم: ليس هذا فقط.. اقرأ ما ورد في (سفر الاستثناء: 32/ 48 - 52)

قرأ اخي: (وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له ارق هذا الجبل عبريم وهو جبل المجازاة إلى جبل نابو الذي في أرض مواب تلقاء أريحاء، ثم انظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ليرثوها ثم مت في الجبل الذي تصعد إليه ويجتمع إلى شعوبك، كما مات أخوك

النبي المعصوم (71)

هارون في هور الطور واجتمع إلى شعبه على أنكما عصيتماني في بني إسرائيل عند ماء الخصام في قادس برية صين ولم تطهراني في بني إسرائيل فإنك ستنظر إلى الأرض التي أنا أعطيها بني إسرائيل من تلقائها، وأما أنت فلا تدخلها)

قال الحكيم: ألا ترى في هاتين العبارتين تصريحا بصدور الخطأ عن موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ بحيث صارا محرومين عن الدخول في الأرض المقدسة، بل قد قال الله لهما زاجرا: (إنكما لم تصدقاني وتقدساني وإنكما عصيتماني)!؟

سكت أخي، فقال الحكيم: فلنترك موسى.. ولنذهب إلى أخيه هارون.. شريكه في النبوة.. أخبرني ما مقامه فيكم؟

هارون

قال أخي: هو عندنا ـ كان ولا يزال ـ مثال الكاهن الأعظم كما في (سيراخ 45: 6 - 22) ومثال الشفيع القدير الذي صرف عن الشعب الغضب الإلهي (حكمة 18: 20 - 25).. وقد كان الأسينيون في عصر يسوع ينتظرون لا المسيا الملك ابن داود فقط، بل المسيا الكاهن الأسمى ابن هارون.

قال الحكيم: وأنتم تنصون على نبوته.. فقد كتب القسيس (اسمت) في القسم الأول من كتابه المسمى بتحقيق الدين الحق المطبوع سنة 1842 في الصفحة 42: (كما أنه لم يكن بينهم ـ أي بين بني إسرائيل ـ سلطان لم يكن بينهم نبي غير موسى وهارون وسبعين من المعينين)، ثم قال: (لم يكن غير موسى وهارون ومعينيهما نبيا لهم) (1)، فدل هذا على أن هارون نبي عند المسيحيين.

ثم التفت إلى أخي، فوجده، وكأن هذا النقل لم يعجبه، فقال: لا بأس.. فلنترك هذا

__________

(1) نقل رحمة الله الهندي هذا النقل من هذا الكتاب، ثم عقب عليه بقوله: ولا بد أن يعلم الناظر أني نقلت هاتين العبارتين من النسخة المطبوعة سنة 1842 وكتبت الرد على هذه النسخة، وسميته تقليب المطاعن، ورد صاحب الاستفسار أيضاً على هذه النسخة، وسمعت أن هذا القسيس بعد الرد حرف كتابه، فزاد في بعض المواضع ونقص في البعض، وبدل البعض، كما فعل صاحب ميزان الحق في نسخة الميزان مثله، فلا أعلم أن هذا القسيس ألقى هاتين العبارتين في النسخة الأخيرة المحرفة أم لا.

النبي المعصوم (72)

القسيس.. ولنرجع إلى الكتاب المقدس.. فهو الذي ينص بصراحة لا فوقها صراحة على نبوته.. ولا يضره أن يكون متبعا لشريعة موسى، فهذا لا يتنافى مع النبوة كما لا ينافي هذا نبوة يوشع وداود وأشعيا وأرمياء وحزقيال وغيرهم من الأنبياء الإسرائيليين، الذين كانوا ما بين زمان موسى.

لقد جاء في (سفر الخروج: 4/ 27): (فقال الرب لهارون اذهب وتلق موسى إلى البرية فمضى وتلقى به إلى جبل الله وقبله).. وفي (سفر العدد:18/ 1): (وقال الرب لهارون).. وفي (سفر العدد:18/ 8): (ثم كلم الرب هارون وقال له).. وفي (سفر العدد:18/ 20): (ثم قال الرب لهارون).. وفي هذا الباب من الأول إلى الآخر هو المخاطب حقيقة.

وفي الباب الثاني والرابع والرابع عشر والسادس عشر والتاسع عشر توجد هذه العبارة: (وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما) في ستة مواضع.

وفي الآية الثالثة عشر من الباب السادس من سفر الخروج هكذا: (فكلم الرب موسى وهارون وأوصاهما وأرسلهما إلى بني إسرائيل وإلى فرعون ملك مصر ليخرجا بني إسرائيل من مصر)

أنت ترى من هذه العبارات أن الله أوحى إلى هارون منفردا وبشركة موسى، وأرسله إلى بني إسرائيل وفرعون كما أرسل موسى.. بل من طالع سفر الخروج يظهر له أن المعجزات التي صدرت في مقابلة فرعون، ظهر أكثرها على يد هارون.

قال أخي: لا حاجة لك لذكر كل هذه الأدلة.. فأنا لا أنكر نبوة هارون (1).

قال الحكيم: ما دمت قد قلت ذلك، فاقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج: 32/ 1 - 6)

قرأ أخي: (ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمعوا على هرون وقالوا له: (قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. فهذا الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا نعرف

__________

(1) ذكرنا هذه الأدلة هنا على اعتبار أن من المسيحيين من ينكر نبوته، ومنهم صاحب ميزان الحق ـ كما يذكر رحمة الله الهندي ـ فقد أنكر نبوة هارون في الصفحة 105 من كتابه المسمى بحل الإشكال المطبوع سنة 1847.

النبي المعصوم (73)

ماذا أصابه) فقال لهم هرون: (انزعوا حلق الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وجيئوني بها) فنزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون. فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل. فقال الشعب: (هذه آلهتكم يا بني إسرائيل، آلهتكم التي أخرجتكم من أرض مصر) فلما رأى هرون ذلك بنى أمام الصنم مذبحا ونادى وقال: (غدا عيد للرب) فبكروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون)

قال الحكيم: ألا ترى في هذا النص ما يدلك على الخطيئة العظيمة التي وقع فيها هارون.. بل هي أعظم الخطايا على الإطلاق..

ألا ترى أن هارون صنع عجلا، وبنى مذبحا أمامه، ونادى وقال: غدا عيد للرب. فعبد العجل وأمر بني إسرائيل بعبادته فقربوا وقودا وذبائح؟

التفت إلى أخي، فلم يجبه بشيء، فقال: دعنا من هارون.. ولنبحث في سيرة نبي آخر.. اذكر لي.. ما مقام داود فيكم؟

داود

قال أخي: لقد دعي داود من قبل الله، وكرس بدهن المسحة (1 صموئيل 16: 16/ 1 - 13) فهو دائما مبارك من الله، وهو الشخص الذي يقصده الله بحضوره، ولأن الله كان معه فقد نجح في كل مساعيه (16: 18)، في محاربته لجليات (17: 45 - 47)، وفي حروبه التي قام بها في خدمته لشاول (18: 14 - 16)، وفي الحروب التي قام بها كملك ومحرر لإسرائيل.. (ووقى الرب داود حيثما توجه) (2 صموئيل 8: 14)

قال الحكيم: فاقرأ علي ما قصه الكتاب المقدس عنه في سفر صموئيل الثاني (11: 1 - 27)

قرأ أخي: (ولما جاء الربيع، وهو وقت خروج الملوك إلى الحرب، أرسل داود يوآب والقادة معه على رأس كل جيش بني إسرائيل، فسحقوا بني عمون وحاصروا مدينة ربة. وأما داود فبقي

النبي المعصوم (74)

في أورشليم. وعند المساء قام داود عن سريره وتمشى على سطح القصر، فرأى على السطح امرأة تستحم وكانت جميلة جدا. فسأل عنها، فقيل له: (هذه بتشابع بنت أليعام، زوجة أوريا الحثي). فأرسل إليها رسلا عادوا بها وكانت اغتسلت وتطهرت، فدخل عليها ونام معها، ثم رجعت إلى بيتها. وحين أحست أنها حبلى أعلمته بذلك. فأرسل داود إلى يوآب يقول: (أرسل إلي أوريا الحثي) فأرسله. فلما جاء سأله داود عن سلامة يوآب والجيش وعن الحرب، ثم قال له: (إنزل إلى بيتك واغسل رجليك واسترح). فخرج أوريا من القصر وتبعته هدية من عند داود. فنام على باب القصر مع الحرس ولم ينزل إلى بيته. فلما قيل لداود: (أوريا لم ينزل إلى بيته)، دعاه وقال له: (أما جئت من السفر؟ فما بالك لا تنزل إلى بيتك؟) فأجابه أوريا: (تابوت العهد ورجال إسرائيل ويهوذا مقيمون في الخيام، ويوآب وقادة سيدي الملك في البرية، فكيف أدخل بيتي وآكل وأشرب وأنام مع زوجتي؟ لا وحياتك، لا أفعل هذا). فقال له داود: (أقم هنا اليوم، وغدا أصرفك). فبقي أوريا ذلك اليوم في أورشليم، وفي اليوم التالي دعاه داود، فأكل معه وشرب حتى سكر. ثم خرج مساء، فنام حيث ينام الحرس، ولم ينزل إلى بيته. فلما طلع الصباح كتب داود إلى يوآب مكتوبا وأرسله بيد أوريا، يقول فيه: (وجهوا أوريا إلى حيث يكون القتال شديدا، وارجعوا من ورائه فيضربه العدو ويموت). وكان يوآب يحاصر المدينة، فعين لأوريا موضعا علم أن للعدو فيه رجالا أشداء. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط لداود بعض القادة ومن بينهم أوريا الحثي. فأرسل يوآب وأخبر داود بكل ما جرى في الحرب. وقال يوآب للرسول: (بعدما تخبر الملك بكل ما جرى في الحرب، وإذا ثار غضبه وقال: لماذا دنوتم من سور المدينة لتحاربوا؟ أما تعلمون أن الذين فوق السور يرمونكم بالسهام؟ من قتل أبيمالك بن يروبشث؟ أما هي امرأة في تاباص رمته بحجر طاحونة من فوق السور فقتل؟ فلماذا دنوتم من السور؟) إذا قال لك هذا الكلام أجبه: (عبدك أوريا الحثي أيضا مات). فذهب الرسول إلى داود وأخبره بجميع ما أمره به يوآب، وقال لداود: (قوي علينا الأعداء وخرجوا لقتالنا في البرية، فطاردناهم إلى باب المدينة،

النبي المعصوم (75)

فرمانا العدو بالسهام من فوق السور، فمات البعض من قادة الملك، وقتل أيضا عبدك أوريا الحثي). فقال له داود: (هذا ما تقول ليوآب: (لا يحزنك ذلك، لأن السيف لا يرحم أحدا. تابع هجومك على المدينة ودمرها. قل له ذلك حتى يتشجع). وسمعت زوجة أوريا أن زوجها مات، فناحت عليه. ولما انتهت أيام مناحتها، أرسل داود وضمها إلى بيته، فكانت زوجة له وولدت له ابنا. واستاء الرب مما فعله داود)

قال الحكيم: أهذا هو داود النبي الذي وصفته بما وصفته؟

قال أخي: هذا ما قاله الكتاب المقدس عنه.

قال الحكيم: ألا ترى داود كيف صار في الكتاب المقدس رمزا للرذيلة.. إن هذا الحدث الذي ورد في صمويل كان في الوقت الذي كان جيشه يحارب فيه؟

وفي الوقت الذي كان أوريا يضحي بنفسه كان عرضه ينتهك.. ثم يرمى أوريا في سلة مهملات الكتاب المقدس، بينما يمجد داود، ويتشرف بأن يكون أبا للمسيح.. أليس في هذا تمجيدا للرذيلة؟

سليمان

سكت أخي، فقال: فلنتحدث عن ابنه وثمرة فؤاده سليمان.. أجبني: ما مقام سليمان فيكم؟

قال أخي: إن سليمان يرمز عندنا للحكمة.. فإذا ذكرت الحكمة ذكرنا معها سليمان.. وإذا ذكرنا سليمان ذكرنا معه الحكمة.. وقد قال عنه الكتاب المقدس في (سفر ملوك الأول: 30:4): (وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق)

قال الحكيم: هذا ما قاله سفر الملوك الأول في إصحاحه الرابع.. فاقرأ علي ما ذكره نفس السفر في الباب الحادي عشر.

أخذ أخي يقرأ: (وكان سليمان الملك قد أحب نساء كثيرة غريبة، وابنة فرعون، ونساء من

النبي المعصوم (76)

بنات الموابيين، ومن بنات عمون، ومن بنات أدوم، ومن بنات الصيدانيين، ومن بنات الحيثانيين من الشعوب الذين قال الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم، ولا يدخلوا إليكم لئلا يميلوا قلوبكم إلى آلهتكم، وهؤلاء التصق بهم سليمان بحب شديد وصار له سبعمائة امرأة حرة، وثلثمائة سرية، وأغوت نساءه قلبه فلما كان عند كبر سليمان أغوت نساءه إلى آلهة أخر، ولم يكن قلبه سليما لله ربه مثل قلب داود أبيه وتبع سليمان عستروت إله الصيدانيين وملكوم صنم بني عمون وارتكب سليمان القبح أمام الرب ولم يتم أن يتبع الرب مثل داود أبيه ثم نصب سليمان نصبة لكاموش صنم مواب في الجبل الذي قدام أورشليم، ولملكوم وثن بني عمون وكذلك صنع لجميع نسائه الغرباء، وهن يبخرن، ويذبحن لآلهتهن فغضب الرب على سليمان حيث مال قلبه عن الرب إله إسرائيل الذي ظهر له مرتين ونهاه عن هذا الكلام أن لا يتبع آلهة الغرباء، ولم يحفظ ما أمره به الرب فقال الرب لسليمان: إنك فعلت هذا الفعل، ولم تحفظ عهدي ووصاياي التي أمرتك بهن، أشق شقا ملكك، وأصيره إلى عبدك (الملوك الأول:11/ 1 ـ 11)

أشار الحكيم إلى أخي أن يسكت، ثم قال: ألا ترى هذه الخطايا الكثيرة التي لا يفعل مثلها أضعف المؤمنين إيمانا..

إن هذا السفر يذكر أن سليمان ارتد آخر عمره.. وهو الوقت الذي تتوجه فيه القلوب إلى الله.. مع أن جزاء المرتد في الشريعة الموسوية هو الرجم حتى لو كان المرتد نبيا ذا معجزات كما صرح بذلك الباب الثالث عشر، والسابع عشر من سفر الاستثناء، بل لا يعلم من موضع من مواضع التوراة، أنه يقبل توبة المرتد، ولو كان توبة المرتد مقبولة، لما أمر موسى بقتل عبدة العجل، حتى قتل ثلاثة وعشرين ألف رجل على خطأ عبادته.

ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أنه بنى المعابد العالية للأصنام في الجبل قدام أورشليم، وهذه المعابد كانت باقية مئتي سنة حتى نجسها، وكسر الأصنام يوسنا بن آمون ملك يهوذا في عهده، بعد موت سليمان بأزيد من ثلثمائة وثلاثين سنة.. لا يمكنك أن تخالفني في ذلك، فقد جاء

النبي المعصوم (77)

ذلك صريحا في الباب الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني.

ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدو أنه تزوج نساء من سفر الشعوب، التي منع الله من الزواج منهن، كما في الباب السابع من الاستثناء: (ولا تجعل معهم زيجة فلا تعط ابنتك لابنه، ولا تتخذ ابنته لابنك)

ليس ذلك فقط.. بل انتم تعتقدون أنه تزوج ألف امرأة، وقد كانت كثرة الأزواج محرمة على من يكون سلطان بني إسرائيل في الآية السابعة عشر من الباب السابع عشر من سفر الاستثناء: (ولا تكثر نساؤه لئلا يخدعن نفسه)

ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أن نساءه كن يبخرن ويذبحن للأوثان، مع أنه ورد في الباب الثاني والعشرين من سفر الخروج: (من يذبح للأوثان فليقتل)، فكان قتلهن واجبا.

بل أنتم تعتقدون أن هؤلاء النسوة أغوين قلبه، فكان رجمهن واجبا على ما هو مصرح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء، وهو ما أجرى عليهم الحدود إلى آخر حياته.

التفت إلى أخي، ثم قال: هل تراني زدت على ما ذكرت الكتاب المقدس عن هذا النبي الكريم حرفا واحدا.

لم يملك أخي إلا أن يقول: صدقت في كل هذا.. ولكن الله تواب رحيم.

فقال الحكيم: كل هذه كبائر لابد لها من توبة.. فهل ثبتت توبة سليمان في كتبكم.

صمت أخي، فقال: لقد قرأت الكتاب المقدس مرات لا تحصى.. ولم أظفر بشيء.. بل لو تاب لهدم المعابد التي بناها، وكسر الأصنام التي وضعها في تلك المعابد، ورجم تلك النساء المغويات.. على أن توبته ما كانت نافعة لأن حكم المرتد في التوراة ليس إلا الرجم.

صمت أخي، فقال: فما دمت قد جوزت لهذا الحكيم أن يخطئ، ثم يتوب، لم ترفعت عن أن تضم محمدا إلى أولئك الأنبياء مع أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ثبتت توبته، ولم تثبت معصيته.. بينما سليمان وكل من ذكرنا ثبتت معاصيهم ولم تثبت توبتهم.

النبي المعصوم (78)

أفتعتبر التوبة جريمة ينبغي أن يطرد من يمارسها من حضرة أنبياء الله.. بينما تعتبر المعصية طاعة تجعل من المجرم الفاسق المنحرف حكيما من الحكماء ونبيا من الأنبياء.

الحواريون

لم يجد أخي بما يجيبه، فقال الحكيم: فلنترك العهد القديم.. فربما كان فيه أثر من آثار اليهود.. ولنذهب إلى العهد الجديد.. ولنبحث في سيرة الحواريين.. حدثني ما مقامهم فيكم؟

قال أخي: الحواريون هم تلاميذ المسيح..

قال الحكيم: لا أقصد هذا.. بل أقصد علاقتهم بالنبوة.

قال أخي: نحن نؤمن بنبوتهم.. بل نرى أنهم لتشرفهم بصحبة المسيح أفضل من موسى وسائر الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهد القديم.

قال الحكيم: فلنبحث في سيرهم.. لقد ذكر الكتاب المقدس أنهم في الليلة التي أخذ اليهود فيها المسيح تركوه في أيدي الأعداء، أليس هذا ذنبا عظيما؟

قال أخي: بلى.. ولكنه صدر عن الجبن الذي طبعت عليه النفوس..

قال الحكيم: فلنسلم هذا.. ولكن هل ترى أنهم يعذرون في شيء هو أسهل الأشياء.. لقد كان المسيح في غاية الاضطراب في تلك الليلة، وقال لهم: إن نفسي حزينة جدا، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلا للصلاة، ثم جاء إليهم فوجدهم نياما، فقال لبطرس: أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، اسهروا وصلوا.

فمضى ثانية للصلاة، ثم جاء فوجدهم نياما، فتركهم ومضى، ثم جاء إلى تلاميذه، وقال لهم: ناموا واستريحوا.

قال أخي: ذلك صحيح.. وقد صرح به متى في إنجيله (متى: 26/ 36 - 46).. ففيه: (ثم جاء يسوع مع تلاميذه إلى موضع اسمه جتسماني، فقال لهم: (اقعدوا هنا، حتى أذهب وأصلي هناك) وأخذ معه بطرس وابني زبدي، وبدأ يشعر بالحزن والكآبة. فقال لهم: (نفسي حزينة حتى

النبي المعصوم (79)

الموت. انتظروا هنا واسهروا معي) وابتعد عنهم قليلا وارتمى على وجهه وصلى فقال: (إن أمكن يا أبي، فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد) ورجع إلى التلاميذ فوجدهم نياما، فقال لبطرس: (أهكذا لا تقدرون أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة. الروح راغبة، ولكن الجسد ضعيف) وابتعد ثانية وصلى، فقال: (يا أبي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك) ثم رجع فوجدهم نياما، لأن النعاس أثقل جفونهم فتركهم وعاد إلى الصلاة مرة ثالثة، فردد الكلام نفسه. ثم رجع إلى التلاميذ وقال لهم: (أنيام بعد ومستريحون؟ جاءت الساعة التي فيها يسلم ابن الإنسان إلى أيدي الخاطئين. قوموا ننصرف! اقترب الذي يسلمني)

قال الحكيم: هل ترى هذا الموقف موقف أنبياء.. بل أشرف الأنبياء.. إن العصاة من أهل الدنيا لا يفعلون مثل هذا مع من هو مثلهم في معاصيهم.. فكيف يفعل أنبياء كرام مثل هذا.. وأي محبة لهم للمسيح الذي شرفوا به، وهم ينامون عنه وقد علموا أنه سيفقدونه في تلك اللحظات.

سكت قليلا: هؤلاء هم الحواريون في مجموعهم.. أما أفرادا.. فسأكتفي باثنين منهما.. كلاهما ورد فيه الثناء في الكتاب المقدس.

أما الأول.. فهو يهوذا الأسخريوطي، فقد كان أحد الحواريين، وكان مستفيضا بروح القدس، وممتلئا به، بل صاحب الكرامات.. فقد ورد في (إنجيل متى: 10/ 1 - 4): (ودعا يسوع تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل داء ومرض وهذه أسماء الرسل الاثني عشر: أولهم سمعان الملقب ببطرس وأخوه أندراوس، ويعقوب بن زبدي وأخوه يوحنا، وفيلبس وبرتولماوس، وتوما ومتى جابي الضرائب، ويعقوب بن حلفى وتداوس، وسمعان الوطني الغيور، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلم يسوع)

قال أخي: أجل.. ومن لا يعرف يهوذا؟

قال الحكيم: فهذا النبي باع دينه بدنياه، وسلم المسيح لليهود مقابل ثلاثين درهما، ثم خنق

النبي المعصوم (80)

نفسه ومات.. أليس كذلك؟

قال أخي: بلى.. ففي إنجيل متى (26/ 14 - 16): (وفي ذلك الوقت ذهب أحد التلاميذ الاثني عشر، وهو يهوذا الملقب بالإسخريوطي، إلى رؤساء الكهنة وقال لهم: (ماذا تعطوني لأسلم إليكم يسوع؟) فوعدوه بثلاثين من الفضة. وأخذ يهوذا من تلك الساعة يترقب الفرصة ليسلم يسوع)

وفيه (27/ 1 - 5) (ولما طلع الصبح، تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع ليقتلوه. ثم قيدوه وأخذوه وأسلموه إلى الحاكم بيلاطس. فلما رأى يهوذا الذي أسلم يسوع أنهم حكموا عليه، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، وقال لهم: (خطئت حين أسلمت دما بريئا) فقالوا له: (ما علينا؟ دبر أنت أمرك) فرمى يهوذا الفضة في الهيكل وانصرف، ثم ذهب وشنق نفسه)

قال الحكيم: أيمكن لنبي أن يفعل كل هذه الجرائم؟

سكت أخي، فقال الحكيم: ليس ذلك فقط.. بل شهد يوحنا في حقه في الباب الثاني عشر من إنجيله أنه كان سارقا، وكان الكيس عنده، وكان يحمل ما يلقى فيه. أيكون مثل هذا السارق البائع دينه بدنياه نبيا.. ثم لا ترضون أن يكون محمد الطاهر المطهر نبيا!؟

فلندع هذا.. ولنبحث في سيرة بطرس.. أليس هو رئيس الحواريين.. بل خليفة المسيح على حسب ادعائكم!؟

قال أخي: أجل.. هو كذلك.. بل كال له المسيح من الثناء ما لم يكل لأحد غيره، ففي (متى: 16/ 17 - 19): (فقال له يسوع: (هنيئا لك، يا سمعان بن يونا! ما كشف لك هذه الحقيقة أحد من البشر، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي، وقوات الموت لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السماء، وما تحله في الأرض يكون محلولا في السماء)

النبي المعصوم (81)

قال الحكيم: ومع هذا الفضل الذي تحسبونه له.. فقد أنكر المسيح خائفا على نفسه..

قال أخي: أجل.. فعندما أخذ اليهود المسيح تبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة، فجلس خارج الدار، فجاءت جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر قدام الجميع، ثم رأى أخرى، وقالت للذين هناك: هذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضا يقسم أني لست أعرف هذا الرجل، وبعد قليل جاء القيام، وقالوا لبطرس: حقا أنت أيضا منهم، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل. وللوقت صاح الديك، فتذكر بطرس كلام المسيح: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات (1).

قال الحكيم: ليس ذلك فقط.. بل في نفس الإنجيل نرى المسيح يقول له: (ابتعد عني يا شيطان! أنت عقبة في طريقي، لأن أفكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله) (متى: 16/ 23)

بل إن بولس قال عنه في الباب الثاني من رسالته إلى أهل غلاطية: (ولكن لما أتى بطرس إلى أنطاكية، قاومته مواجهة لأنه كان ملوما لأنه قبل ما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم، ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفا من الذين هم من أهل الختان ورأى معه باقي اليهود أيضا حتى أن برنابا أيضا انقاد إلى ريائهم لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل، قلت لبطرس قدام الجميع إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميا، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا) (غلاطية:2/ 11 - 14)

المسيح

التفت الحكيم إلى أخي، وقال: أنتم تزعمون بأن المسيح إله أو أقنوم من إله.. ومن كان كذلك فهو أرفع بكثير من درجة النبوة.. بل لا مقارنة بينهما.. أليس كذلك؟

__________

(1) ففي (متى:26/ 31 - 35): (وقالَ لهُم يَسوعُ: (في هذِهِ اللَّيلَةِ ستَترُكوني.. كُلُّكُم، فالكِتابُ يَقولُ: سَأضرِبُ الرّاعيَ، فتَتَبدَّدُ خِرافُ القَطيعِ. ولكِنْ بَعدَ قيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ أسبُقُكُم إلى الجليلِ) فقالَ بُطرُسُ: (لَو تَركوكَ كُلٌّهُم، فأنا لن أترُكَكَ) فقالَ لَه يَسوعُ: (الحقَّ أقولُ لكَ: في هذِهِ اللَّيلَةِ، قَبلَ أن يَصيحَ الدّيكُ، تُنكِرُني ثلاثَ مرّاتٍ) فأجابَهُ بُطرُسُ: (لا أُنكِرُكَ وإنْ كانَ علَيَّ أن أموتَ معَكَ) وهكذا قالَ التَّلاميذُ كُلٌّهُم)

النبي المعصوم (82)

قال أخي: بلى.. ما تقوله صحيح.. فلا يمكن المقارنة بين ابن الله الحقيقي وكل البشر..

قال الحكيم: ولكنكم مع ذلك تشوهون صورة المسيح.. وتملؤونه سيرته المختصرة التي وصلتكم بأصناف الخطايا.

انتفض أخي (1)، وقال: كيف تقول هذا؟.. إن المسيح هو مثال الرحمة والسلام والمحبة.. أليس هو الذي يقول: (أريد رحمة لا ذبيحة) (متى: 9: 13

قال الحكيم: أنتم تنقلون عنه هذه الكلمات القليلة لتحسنوا صورته، ولكنها أضعف من أن تقاوم الصورة التي شوهتموها بما نسبتم إليه من أقوال وأفعال.

أنتم تجلعون لسانه الممتلئ بذكر الله، الغارق في التبشير به، لسانا ممتلئا سبابا وشتائم ولعنات مع أنكم تعلمون بـ (أن الشتامون لا يرثون ملكوت الله) كما صرح بذلك بولس في رسالته الأولى الي كورنثوس (6: 10)

ألستم الذين نسبتم إلى المسيح شتمه لتلك المرأة الكنعانية الطيبة، بل جعلتموه يعتبرها من زمرة الكلاب؟.. ألستم الذين تررون في متى (15: 26) أنه عندما جاءت المرأة الكنعانية تسترحمه بأن يشفى ابنتها رد عليها قائلا: (لا يجوز أن يأخذ خبز البنين، ويرمى للكلاب)؟

وبعدما أراقت هذه المرأة المسكينة آخر نقطة من ماء وجهها، وأقامت الحجة بقولها للمسيح: (والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها)، حقق لها أملها، وشفيت ابنتها (متى 15: 27)

أنتم تروون هذا، وتتباهون به، بل وتجعلونه من دلائل ألوهيته.. مع أنه لو وقف مثل هذا الموقف أي إنسان، فإنكم تتهمونه بالعنصرية، وبقساوة القلب، وبسوء الأدب.

ليس ذلك فقط.. فموسوعة الشتائم التي نسبتموها للمسيح لا تقف هنا:

فالمسيح ـ على حسب كتابكم المقدس ـ يمتد إلى الأنبياء الكرام ليصفهم باللصوص..

__________

(1) سبق أن ذكرنا جزءا من هذا الحوار في رسالة (أنبياء يبشرون بمحمد)، وقد اقتضى المقام إعادته هنا.

النبي المعصوم (83)

ألستم تقرأون في يوحنا (10: 7) أن المسيح قال: (أنا باب الخراف، وجميع الذين جاءوا قبلي سارقون ولصوص)

أنتم تجعلون المسيح رمزا للسلام، وتروون عن المسيح وصيته للتلاميذ بمحبة الاعداء والإحسان إليهم.. أليس كذلك؟

قلت: بلى..

قال: ولكنكم عندما تصورون حياة المسيح تصورونها بصورة المناقض لأقواله، فهو لا يبغض أعداءه فقط، وإنما يبغض أقرب الأقربين إليه، ويسبه، ويلقي الشتائم عليه.

ألستم تروون أنه أهان أمه وسط الحضور، فقال لها: (مالي ولك يا إمرأة) (يوحنا:2: 4

ألستم الذين تروون إهانته لمعلمي الشريعة بقوله لهم: (يا أولاد الأفاعي) (متى:3: 7)؟.. وبقوله لهم: (أيها الجهال العميان) (متى:23: 17

ألستم الذين تروون إهانته لتلاميذه، وشتمه لهم، إذ قال لبطرس كبير الحواريين: (يا شيطان) (متى:16: 23)، وشتم آخرين منهم بقوله: (أيها الغبيان، والبطيئا القلوب في الإيمان) (لوقا 24: 25).. مع أنه هو نفسه الذي قال لهم: (قد أعطى لكم أن تفهموا أسرار ملكوت الله) (لوقا: 8: 10

ألستم الذين جعلتموه يشتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده، وجعلتموه يشتمه في بيته.. أليس في الكتاب المقدس: (سأله فريسي أن يتغذى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولا قبل الغداء، فقال له الرب: (أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس، وأما باطنكم فمملوء اختطافا وخبثا يا أغبياء، ويل لكم أيها الفريسيون)، فأجاب واحد من الناموسيين، وقال له: يا معلم، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضا، فقال: (وويل لكم أنتم أيها الناموسيون) (إنجيل لوقا:11: 39

ألستم الذين نسبتم إليه قوله لهيرودس: (قولوا لهذا الثعلب) (لوقا: 13: 32

النبي المعصوم (84)

ألستم الذين جعلتموه يطلب من تلاميذه عدم إفشاء السلام في الطريق (لوقا: 10: 4

ألستم الذين قولتموه: (لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير) (متى:7: 6

ألستم الذين جعلتموه يكذب على إخوته.. لقد رويتم في إنجيل يوحنا (7: 3) أن إخوة المسيح طلبوا منه أن يصعد إلي عيد المظال عند اليهود، فرد عليهم قائلا: (اصعدوا انتم إلي العيد، فأنا لا أصعد إلي هذا العيد.. ولما صعد إخوته إلي العيد، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية)؟

أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يقول بكل قسوة: (أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا: 19: 27)

نعم.. أنتم تتقنون الفرار.. فتهربون من قسوة هذا القول بشتى محاولات التأويل والتحريف، فتارة تذكرون أن هذا سيكون يوم القيامة مع أن النص واضح، فالمسيح يقول: (فأتوا بهم إلى هنا)، وليس فيه أي إشارة إلى يوم القيامة.. وتارة تقولون: إن هذا مثل، مع أنكم تعلمون أن المثل انتهى عند الفقرة السادسة والعشرين من نفس الإصحاح..

أنتم لم تكتفوا بكل ذلك.. بل جعلتموه يتجرد من أبسط مظاهر الرحمة ليلعن شجرة مسكينة لا ذنب لها سوى أنها لم تثمر.. ولم تثمر من عندها، بل لأنه لم يكن وقت الثمر.. ألستم تروون في (مرقس:11: 12): (وفي الغد، بعدما غادروا بيت عنيا، جاع. وإذ رأى من بعيد شجرة تين مورقة، توجه إليها لعله يجد فيها بعض الثمر. فلما وصل إليها لم يجد فيها إلا الورق، لأنه ليس أوان التين. فتكلم وقال لها: (لا يأكلن أحد ثمرا منك بعد إلى الأبد)؟

ولم تكتفوا بالشجر، بل رحتم تنسبون إلحاق الأذى بالحيوانات البريئة.. بل تجلعونه يتسبب بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. ألستم تروون في (مرقس: 5: 11): (وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى عند الجبل، فتوسلت الأرواح النجسة إلى يسوع قائلة: أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها، فأذن لها بذلك، فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير، فاندفع

النبي المعصوم (85)

قطيع الخنازير من على حافة الجبل إلى البحيرة، فغرق فيها، وكان عدده نحو ألفين)؟

ألا تسألون أنفسكم: ما ذنب الخنازير وصاحب الخنازير، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟.. ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!

أنتم تجلعونه رمزا للسلام، لكنكم تشوهون السلام الذي يدعو إليه بما تنسبون إليه من سلوك.. ألستم تروون أنه صنع سوطا من الحبال، ودخل به الهيكل، وطرد جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه وبعثر دراهمهم وقلب موائدهم.. لا يمكنك أن تكذب ذلك.. فقد جاء في (يوحنا:2: 14): (وإذ اقترب عيد الفصح اليهودي، صعد يسوع إلى أورشليم، فوجد في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى موائدهم، فجدل سوطا من حبال، وطردهم جميعا من الهيكل، مع الغنم والبقر، وبعثر نقود الصيارفة وقلب مناضدهم)

ألا يحمل هذا السلوك عنفا غير مبرر؟.. كان في إمكان يسوع المحبة أن يتصرف بما تمليه المحبة والسلام اللذان يدعو إليهما.

ألستم تروون في سفر الرؤيا [2: 21 _ 23] أن مسيح المحبة قال عن إمرأة اسمها إيزابل كانت تدعي انها نبية: (فإني سألقيها على فراش، وأبتلي الزانين معها بمحنة شديدة.. وأولادها أقتلهم بالموت، فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب، وأجازي كل واحد منكم بحسب أعماله)

فهل من المحبة والرحمة أن يقتل الأطفال بذنب أمهم؟

نعم أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يأمركم بكل قسوة ببغض أقرب الناس إليكم.. ألستم تروون قوله في (لوقا:14: 26): (إن جاء إلي أحد، ولم يبغض أباه وأمه وزوجته وأولاده وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضا، فلا يمكنه أن يكون تلميذا لي)؟

بل أنتم تناقضون أنفسكم حين تجعلون من رسو ل السلام يقول: (لا تظنوا أني جئت

النبي المعصوم (86)

لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها) (متى: 10: 34)

بل جعلتموه يقول: (جئت لألقي على الأرض نارا، فلكم أود أن تكون قد اشتعلت؟) (لوقا 12: 49)

بل جعلتم الله نفسه نارا.. ألم يقل صاحبكم في رسالة العبرانيين [12: 29]: (لأن إلهنا نار آكلة).. بل جعلتموه يتجرد من الرحمة ويترك ابنه يلاقي أبشع أنواع العذاب دون ذنب وهو يصرخ بصوت عظيم: (إلهي إلهي لماذا تركتني؟) (متى:27: 46)

التفت الحكيم إلى أخي، وقال: هل تراني زدت شيئا في كتابكم؟.. إن كل ما قرأته من كتبكم المقدسة.. إنها تحمل صورة مشوهة عن المسيح نرفضها ـ نحن المسلمين ـ رفضا شديدا.

الأدب والخطيئة

ما انتهى الحكيم من حديثه هذا حتى وقف رجل من الجمع، وقال: وعينا كل ما ذكرته.. ولا نحسب هذا الرجل إلا وقد بهت لما ذكرت، فلذلك لا نراه يحير جوابا.

قال الحكيم: لا ينبغي أن تقول هذا.. فنحن نبحث عن الحقيقة، ولا نتصارع تصارع الديكة.. لقد ذكر ما كان يختمر في ذهنه من شبهات.. وقد ذكرت له ما أراه من حقائق.. ولا حرج عليه أن يسأل ما يشاء، أو يعقب بما يشاء.. أليس هذا ميدان الحرية التي لا يشتاق لها إلا العقلاء؟

قال الرجل: فلدينا نحن ـ المسلمين ـ من الشبه ما نريد طرحها.. فما ذكره من الآيات وقع بين أيدي نفر من قومنا نسميهم (المخطئة) راحوا يبحثون عما يتوهمونه من خطايا الأنبياء.. يفسرون بذلك القرآن.. ويصححون بذلك الحديث.

ولذلك نلتمس منك أن تخرج من الحديث الذي أملاه الجدل إلى الأحاديث التي تمليها

النبي المعصوم (87)

الحقيقة.. حقيقة النبوة.

قال الحكيم: أما إن قلت ذلك.. فإن لمقام النبوة في عين أهل الحقائق درجة من الطهارة لا نستطيع معها أن نتصور في حقهم معصية.

فالنبوة تعني القرب من الله.. ولا يقترب من الله إلا من امتلأ بالطهارة..

والنبوة تعني نصح الخلق.. ولا تقبل النصيحة من غير منتصح بها.

والنبوة تعني كمال الإنسانية.. ولا يصل كمال الإنسانية من تلطخ بأوزار المعاصي.

والنبوة تعني صفاء مرآة القلب حتى تنجلي فيها الحقائق كما هي.. والمعاصي هي السكين الذي يجرح الصفاء.. والدنس الذي يكدره.

قال الرجل: فما تقول فيما ذكرت من نصوص عن معاصي الأنبياء؟

قال الحكيم: ذلك من تحريف اليهود لكتبهم.. وتبعهم أحبار المسيحيين من غير تمحيص ولا تدقيق..

ولو أنهم أعملوا بعض عقولهم لعرفوا أن اليهود الذين لم يؤتمنوا على المسيح يستحيل أن يؤتمنوا على الكتاب المقدس.. وأن اليهود الذين شوهوا المسيح بكل ما أطاقت لهم عقولهم أن يشوهوه يستحيل أن يحفظوا نبيا.

قال الرجل: ولكن هناك أحاديث وصلتنا تنص على بعض ما نصت عليه هذه الكتب.

قال الحكيم: تلك أحاديث كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من اليهود الذين أسلموا.. ولكنهم لم يطيقوا أن يتخلصوا من مراتبهم الدينية.. فراحوا يمارسونها مع المسلمين.. فدخل في الإسلام منهم تلك اللوثة اليهودية..

ولكن الله خلص المسلمين منها بالعدول من العلماء الذين يغيرون على مقام الأنبياء.

قلت: فهل ستحدثنا عن ذلك الآن؟

قال: لا.. حديث ذلك يطول.. ولكني سأقتصر منه على ما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فسلوني

النبي المعصوم (88)

عما أشكل عليكم من الآيات.. وسأجيبكم بفضل الله ومنته.

وقبل أن تسألوني.. فقد رأيت أن كل النصوص التي قد يساء فهمها ترجع إلى أمرين: أما أولهما، فهو تلك الشفافية الروحية التي كانت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي جعلته ـ وهو الكامل ـ يستشعر التقصير.. فلا يمتلئ لسانه وكيانه إلا عبودية وتواضعا واستغفارا.

وأما الثانية.. فهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو محل قدوة للمؤمنين، فلذلك يكون هو واسطة الخطاب الإلهي للمؤمنين، فيتوهم القاصرون أن ذلك الخطاب بما فيه من زجر وعتاب خاص به صلى الله عليه وآله وسلم.

شفافية

قام رجل من القوم، فقال: فلنبدأ حديثنا بما ذكره هذا الحبر من الأحاديث الكثيرة التي نرى فيها محمدا يستغفر ربه.. ألا ترى فيها دلالة على المعصية؟

قال الحكيم: لا.. لا أرى فيها ذلك.. بل أرى فيها نفسا ممتلئة حياء من الله، فهي تستغفره كل حين من تقصيرها وتفريطها في حقه.. فمقام الله أعظم من أن يؤدى.

ألا ترى الرجل الكريم يهدي الهدية التي لا هدية تعدلها، ومع ذلك يقدمها بحياء، وكأنه يقدم ذنبا لا هدية.. بينما ترى الرجل الوقح يدل بالحقير، ويمن به!؟

قال الرجل: ذلك صحيح..

قال الحكيم: فهكذا الأمر مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان له من الرقة والإيمان والأدب مع الله ما جعله يدمن على استغفاره.

التفت إلى أخي، ثم قال: ليس هذا خاصا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كل الصديقين والأنبياء يشعرون بهذه المشاعر النبيلة.. سأذكر لك نماذج من الكتاب المقدس لتدلك على هذا:

ففي إنجيل مرقس (10/ 17 - 18)، وإنجيل لوقا (18) نجد هذا النص الممتلئ بمثل هذه المشاعر: (وفيما هو خارج إلى الطريق، ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله).. ألا

النبي المعصوم (89)

ترى أن المسيح أقر في هذا النص بأنه ليس صالحا، ولا صالح إلا الله وحده؟

وفي الزبور (22/ 1 - 2) نجد هذا النص: (إلهي إلهي انظر لماذا تركتني تباعد عني خلاصي بكلام جهلي إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي وبالليل فلم تحفل بي).. ولما كانت آيات هذا الزبور راجعة إلى المسيح على زعمكم، فكان القائل بها عندكم هو المسيح.

وفي (إنجيل متى:27/ 46) نجد هذا النص: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني)

وفي إنجيل مرقس (1/ 4 - 9) نجد هذا النص: (كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم.. وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن)

لقد كانت هذه المعمودية، معمودية التوبة، بمغفرة الخطايا، كما صرح مرقس في الآية الرابعة والخامسة والآية الثالثة من الباب الثالث من إنجيل لوقا هكذا: (فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودة التوبة لمغفرة الخطايا)، وفي الآية الحادية عشر من الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (أنا أعمدكم بماء للتوبة)، وفي الآية الرابعة والعشرين من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال هكذا: (إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل)، والآية الرابعة من الباب التاسع عشر من كتاب الأعمال هكذا: (فقال بولس أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة)

فهذه النصوص كلها، تدل على أن هذه المعمودية، كانت معمودية التوبة لمغفرة الخطايا، فمتى سلم اعتماد المسيح من يحيى، لزم تسليم اعترافه بالخطايا والتوبة منهما أيضا، لأن حقيقة هذا الاعتماد ليست غير ذلك.

وفي الباب السادس من إنجيل متى في الصلاة التي علمها المسيح تلاميذه هكذا: (اغفر لنا

النبي المعصوم (90)

ذنوبنا كما نحن نغفر أيضا للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير)

والظاهر أن المسيح كان يصلي تلك الصلاة التي علمها تلاميذه، ولم يثبت من موضع من مواضع الإنجيل أنه ما كان يصلي هذه الصلاة.. بل إنه كان كثير الصلاة، فلزم أن يكون دعاؤه باغفر لنا ذنوبنا مرات كثيرة بلغت الآلاف.

قام رجل من القوم، وقال: قد يصح ما ذكرت إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المبادر للاستغفار.. ولكنا نرى الله تعالى هو الذي يحثه عليه، ويأمره به، فالله تعالى يقول: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء: 106)، ويقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55)، ويقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19).. وغيرها من الآيات التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار.. وقد ورد في الحديث: لزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الكلمات قبل موته بسنة: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، قالت فقلت: يا رسول الله لقد لزمت هذه الكلمات، قال: (إن ربي عهد إلي عهدا أو أمرني بأمر، فأنا أتبعه)، ثم قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر:1) حتى ختم السورة (1).

فكيف تجتمع العصمة مع الاأمر بطلب الغفران؟

قال الحكيم: إن التعرف على سر ذلك يقتضي الوقوف على أصل مسلَّم به بين العقلاء، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان، فربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

سأحاول أن أبسط لك ذلك..

أنت تعرف أنّ الاَحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح.. وتعلم أنه لا محيص عن الاِتيان بالواجب وترك الحرام.. نعم هناك رخصة في ترك المستحب

__________

(1) محمد بن يحيى بن عمر برجال ثقات.

النبي المعصوم (91)

والاِتيان بالمكروه، ولكن المترقب من العارف بمصالح الاَحكام ومفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، وترك المحرمات مع ترك المكروهات، ولا يقصر عنه المباح، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمله غيره، فيكون المنتظر منه غير ما ينتظر من غيره، ولو صدر منه ما لا يليق، وتساهل في هذا الطريق، فإنه يتأكد منه الاستغفار وطلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسؤوليته.

وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر والبدوي، فالمرجوّ من الأَوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الاِنسانية، ولكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقف أشد وأكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.

وهذه الاَمثلة ونظائرها الوافرة تثبت أنّ عظمة الشخصية وكبر المسؤولية متحالفان، وأنّ الوظائف لا تنحصر في الاِتيان بالواجبات، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، وكلّما زاد العلم والعرفان توفرت الوظائف وكثرت المسؤوليات، ولاَجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً، مع أنها في الواقع ليست بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل إنها ذنب إذا قيس إلى ما أُعطوا من الاِ يمان والمعرفة، ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو، فإنّما هو لاَجل هذه الجهات.

ولهذا نرى شيخ الاَنبياء نوحاً ـ عليه السلام ـ يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح:28)

ويقتفيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ

النبي المعصوم (92)

الْحِسَابُ} (ابراهيم:41)

وعلى أثرهم يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)

والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأَعمال والطاعات وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.

قام رجل من القوم، وقال: لقد ورد في الحديث إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض له ما يستدعي الاستغفار، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله، وفي لفظ: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) (1).. فقد ذكر أن علة استغفاره ما يحل على قلبه من الغين.

قال الحكيم: سر هذا الحديث لا يفهمه إلا أولياء الله الذين رزقوا من أذواق أهل الله ما يتيح لهم التعبير عن بعض حقائق الجمال التي وردت فيه.. وقد قال أبو الحسن الشاذلي في الحديث: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن حديث: (إنه ليغان على قلبي)، فقال: (يا مبارك ذلك غين الأنوار).

وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لما كانت روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب.

وقال: لا تعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو حالة كمال.. فذلك مثل جفن العين حين يمسح الدمع القذى عن العين، فإنه يمنع العين عن الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة

__________

(1) رواه مسلم.

النبي المعصوم (93)

هو كمال.. فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته، صيانة لها، ووقاية عن ذلك.

وقال أبو سعيد الخراز: الغين شئ لا يجده إلا الأنبياء وأكابر الأبرار والأولياء، لصفاء أسرارهم، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم.

وقال آخر: إن في الاستغفار والتوبة معنى لطيفا، وهو استدعاء لمحبة الله تعالى، فإحداثه الاستغفار والتوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله تعالى.

وقال آخر: لقد رأى الاشتغال بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو نوم أو راحة ومخالطة الناس، والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله تعالى، والتضرع إليه، ومشاهدته، ومراقبته، ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس.

وقال آخر: هو ما يستغشي القلب، ولا يغطية كل التغطية، كالغيم الرقيق لذي لا يمنع ضوء الشمس، ثم لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة، وإنما هذا عدد الاستغفار لا الغين، فيكون المراد بهذا الغين الإشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، لما كان صلى الله عليه وآله وسلم من مقامات البشر، وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وأعباء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في هذا كله في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان صلى الله عليه وآله وسلم أرفع الخلق عند الله تعالى مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالة عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه أرفع حاليه، رأى حاله فترته عنها، وشغله بسواها، غمضا من علي حاله، ورفيع مقامه، فاستغفر من ذلك.

وقال آخر: لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم مترقيا من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين، فيستغفر منه.

وقال آخر: هو حالة خشية، وإعظام، والاستغفار شكرها.

النبي المعصوم (94)

وقال آخر: هو السكينة التي تغشي قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية والشكر لما أولاه.

وتأدب آخرون، فرأوا أنفسهم أقصر من أن يتحدثوا عن هذا المقام، فقد قال الجنيد: لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حال إلا من كان مشرفا عليها، وجملة حاله يشرف على نهايتها أحد من الخلق (1).

قام رجل آخر، فقال: فما تقول في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1 - 3).. فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه، بل ما تقدم منه وما تأخر.

قال الحكيم: قبل أن أجيبك لا ينبغي أن أتخطى سيدا من سادات آل البيت.. وهو الإمام الرضا.. فقد سأله المأمون عن الآية فقال: (لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاَنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الاِخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلاَ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمَلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} (ص: 5 ـ 7)، فلمّا فتح اللهُ عزّ وجلّ على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة (2)، قال له: يا محمد: (إنّا فتحنا لك (مكة) فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله عزّ وجلّ فيما تقدّم، وما تأخّر، لأنّ مشركي مكة، أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار

__________

(1) انظر هذه الأقوال وغيرها في (الشفا) للقاضي عياض، و(سبل الهدى) وغيرهما.

(2) هناك اختلاف في المراد من الفتح في هذه الآية، فقيل المراد: فتح مكة وهو ما ذكره هنا، وثانيها: فتح الروم وغيرها وثالثها: المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها: فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان وخامسها: المراد منه الحكم كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} (الأعراف: 89) وقوله: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} (سبأ: 26)، وكلها وجوه محتملة ولو أن الأرجح بينها هو كونه صلح الحديبية.

النبي المعصوم (95)

ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن.

قال الرجل: ماذا يقصد مولانا الإمام الرضا بقوله هذا؟

قال الحكيم: ألا تلاحظ أن في اعتبار القرآن الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما تقدّم منه وما تأخّر غرابة؟

قال الرجل: أجل.. أرى ذلك.. فطالما قلت لنفسي: كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم من فتح القلاع والبلدان سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الاَُخرى أو ملازمة لها، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الاَعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الجهر بالحق، ونشر التوحيد، ودحض الباطل، كان الترتب أمراً طبيعياً، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين، وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الاَصقاع، فالرابطة غير واضحة.

قال الحكيم: وهذا ما وضحه الإمام الرضا.. فقد أراد أنه لما جاء النبي الأَكرم صلى الله عليه وآله وسلم داعياً إلى التوحيد في مجالى الخلق والاَمر، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله، وأنّه لا معبود سواه ولا شفيع إلاّ بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الاَصنام، صارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الاَكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر، ومفتر وكذّاب.. ثم صاروا إلى حربه كما علمتم.

فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، وحدوث التفرقة في صفوفهم، والفتك بصناديدهم على يد النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم، صوّرته في مخيلتهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها، مجازر لقريش، ومذابح لاَسيادهم، فأىّ جرم أعظم من هذا، وأي ذنب أكبر منه

النبي المعصوم (96)

عند هوَلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير، والصديق من العدو، والمنجي من المهلك؟

فإذن ما هو الاَمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.

إنّ الاَمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الاَوهام والاَباطيل، ليس إلاّ ذلك الفتح الذي فتح الله به عليه.. فعرفوا الحقيقة التي كانوا يحاربونها.

ثم إن ذلك العطف الذي أبداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، وقريش في حالة الانحلال والضعف، صوّر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قومه وأتباعه بصورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال، وعضّوا الاَنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الاِسلام زرافات ووحداناً.

فهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن والساحر أقصر من أن يقوم بهذه الاَُمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري ولا يكذب، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم وموَامراتهم عليه.

وبذلك، فإن الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية والشرطية، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، وقد كسرته هذه الواقعة، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

النبي المعصوم (97)

وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

قال الرجل: هذا توجيه طيب.. ولكني أريد غيره.. فهل هناك غيره؟

قال الحكيم: أجل.. وهو ما سنعرفه في العلة الثانية من العلل التي يفسر بها هذا النوع من الخطاب.. وهي القدوة.

قال الرجل: فاشرح لنا ما يرتبط بهذا الآن.

قال الحكيم: القرآن الكريم ـ عند العارفين بالله الفاهمين عنه ـ هو خطاب الله للبشر جمعيا.. ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا واسطة لذلك الخطاب..

لهذا.. فكل عارف بالله يسمع القرآن من الله.. ويفهم أنه المخاطب بكل حرف من حروفه ما صيغ فيه بضمير المخاطب المفرد وما صيغ بغيره.. بل ما صيغ منه بكل الظمائر.

قال الرجل: فماذا يفهم هؤلاء الكمل من هذه الآيات؟

قال الحكيم: هذه الآيات تبين الجزاء الذي أعده الله لمن وصل به اجتهاده إلى الفتح المبين.. فقد ذكرت الآيات أنواعا من الجزاء.. ومهدت لها بالمغفرة الشاملة، فالمغفرة هي الأساس لغيرها من أنواع الجزاء.. كما أن تطهير التربة هو الأساس لغرس البذور الطيبة.

قدوة

قال الرجل: وعينا هذا.. ولكنا نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الاستغفار إلى درجة أنه يلفت انتباه أصحابه.

قال الحكيم: ذلك صحيح.. وذلك من وظائف النبوة.. فالنبي قدوة لأمته.. ولهذا تجده يشعر أنه أول المخاطبين بكل تكليف..

ليس هذا خاصا بنبينا فقط.. بل هو عام لكل الأنبياء.. وقد قال تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)

النبي المعصوم (98)

وقد ورد في إنجيل متى أن المسيح صام أربعين نهاراً، أو أربعين ليلة، وفي (إنجيل مرقص:1/ 35} (وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك).. وفي (إنجيل لوقا:5/ 16): (وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة للّه)

التفت إلى أخي، ثم قال: أنتم تقولون بأن المسيح متحد في ذات اللّه.. ولذلك فإن هذه التكاليف لا تحمل عندكم إلا على معنى واحد.. وهو ما ذكرته من قصد الاقتداء والتعليم.

قام رجل من القوم، وقال: نرى في القرآن الكريم آيات كثيرة وردت في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحمل نوعا من الخطاب الحاد صار ذريعة للمخطئة يرمون بها نبيهم.

قال الحكيم: فاذكرها لي أفسرها بما يفهمه أهل الحقائق المعظمين لمقام النبوة (1).

قال الرجل: منها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} (الرعد:37)، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:145)، وقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة:120)

فهذه الآيات تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحن حاد.. وقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم، وإلاّ فلا وجه للوعيد.

قال الحكيم: ومن أين لهم هذا النوع من الاستدلال.. ألا يعرف هؤلاء اللغة العربية،

__________

(1) كثير من هذه الردود رجعنا فيه لمرجعين مهمين في هذا الباب، هما:

تنزيه الأنبياء، لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي، المعروف بالشريف المرتضى.

عصمة الاَنبياء في القرآن الكريم، تأليف: العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني.

وغيرها من المراجع.

النبي المعصوم (99)

وأساليبها.. بل إن هذا مما تتفق عليه جميع اللغات.. فالقضية الشرطية لا تدل إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء.. وهي لا تدل ـ بحال من الأحوال ـ على تحقّق الطرفين، ولا على إمكان تحقّقهما.

ألم يقرأ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الانبياء:22)!؟

قال الرجل: بلى قرأوها.. وهم يستدلون بها على توحيد الله.

قال الحكيم: فلم لم يستدلوا بها على وجود آلهة مع الله؟

قال الرجل: لعدم تحقق الجزاء.

قال الحكيم: فهل رأوا ربهم تخلى عن نبيهم.. فلم ينصره.. ولم يكن له وليا ولا واقيا؟

قال الرجل: حاشاهم أن يقولوا ذلك.

قال الحكيم: فكيف لهم أن يجوزوا شيئا لا دليل لهم عليه؟

قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} (الاسراء:86 - 87

قال الحكيم: هذه الآيات لا يفهم منها الصادقون إلا صدق نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.. فالله لم يستلب الوحي من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع قدرته عليه.. وذلك دليل كمال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دليل قصور منه.

قال الرجل: لم أفهم.. كيف يكون ذلك دليل كمال؟

قال الحكيم: أرأيت لو أن رجلا اجتاز مسابقة يقوم عليها خبراء أشداء يلاحظون النقير والقطمير.. ونجا منها بنجاح.. هل يعتبر ذلك كمالا أم لا؟

قال الرجل: بل يعتبر ذلك عين الكمال.

قال الحكيم: فلو اجتاز هذا على خبراء لا يرون ولا يسمعون ولا يهتمون.. هل يصح لهذا أن يفخر بكماله بهذا الاجتياز؟

قال الرجل: لا يستطيع أن يفخر هذا بشيء.. وليس ما فعله كمالا.

قال الحكيم: فنزه الله عن لوثات التشبيه.. وارتق بهذا المثال لتعرف مقام نبيك صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (100)

قام رجل آخر، فقال: صدقت.. إن المثال الذي ذكرته فهمت به سر قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65)، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَقَاوِيلِ لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتينَ فَمَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزينَ} (الحاقة: 44 ـ 47)

قال الحكيم: إن هذه الآيات ونظائرها التي تحكى عن القضية الشرطية يفهم منها الصادقون أمرين:

أما أولهما.. فمقدار الكمال الذي من الله به على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فراح يجتاز كل الامتحانات الصعبة التي وضع فيها بنجاح لا مثله نجاح.

وأما الثاني.. فما ذكرته لكم من أن القرآن الكريم يخطاب الأمة عبر نبيها.. فالكمل يسمعون الخطاب لهم، فيشعرون بأليم العتاب إن قصروا أو حدثتهم أنفسهم بالتقصير.. أما القاصرون، فيرون العتاب مخصوصا بنبيهم، فينحجبون عن الغرض القرآني، كما ينحجب التلميذ الأبله.

قام رجل من القوم، وقال: وكيف ينحجب هذا التلميذ؟

قال الحكيم: لقد تعود الكثير من الأساتذة ان يوجهوا تلاميذهم عبر النجباء منهم.. فيحذرون النجيب من التقصير.. ليفهم غيرهم من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)

أما الأذكياء.. فيفهمون من هذا شدة الأمر.. وأنه حتى النجابة لا يمكن ان تشفع للمقصر.

وأما البله.. فيفهمون الأمر قاصرا على من توجه الخطاب له، فينحجبون بالمخاطب عن الخطاب.

قام رجل من القوم، وقال: لقد فهمت بما ذكرته أسرار آيات من القرآن:

منها آيات وردت فاصلتها بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون من الممترين، وهي قوله تعالى: {

النبي المعصوم (101)

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} (البقرة)، وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} (آل عمران)، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114)، وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس:94)

ففي الموضع الأول يعلمنا الله تعالى أن لا نقيم وزناً لاِرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:142)

وفي الموضع الثاني يبطل الله تعالى ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ بحجّة أنّه وليد مريم ـ عليها السلام ـ بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم، ثم يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران:60).. ولا شك ـ عند العقلاء ـ أنّ الخطاب جرى مجرى (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أعظم من أن يتسرب إليه الشك في مثل هذا.

وهكذا سائر المواضع.. فالنهي عن الشك نهي موجه للأمة عن طريق نبيها.. لا أنه موجه للنبي بسبب احتمال وقوع الشك منه.

قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء:107)، فإن هذه الآية الكريمة تنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المجادلة عن الخائنين.. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا

النبي المعصوم (102)

أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء:105)

قال الحكيم: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي لحظة من لحظات حياته مدافعاً عن الخائنين، وانّما وردت الآية بهذا الأسلوب من باب تربية المجتمع وتوجيهه وتحذيره من هذا النوع من السلوك، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.

قام رجل آخر، فقال: فما تقول في قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} (الاسراء:22)، وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29)، وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)، وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للْكَافِرينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (86 ـ 88)

قال الحكيم: هو ما ذكرته في غيرها.. فهذه الخطابات وما يشبهها وإن كانت موجهة في الظاهر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن المقصد منها عامة الناس.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يشرك بالله تعالى.. فهو لم يحصل منه شرك قبل نبوته، فكيف يحصل منه بعد نبوته.

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد أخى ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

النبي المعصوم (103)

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (104)

ثانيا ـ استبداد

في مساء اليوم الثاني.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (نيكولاس إيلمنسكي) (1).. الرجل الذي تقلب في السياسة، وقلبته السياسة.. بوجه متغير حاول بابتسامته الدبلوماسية العريضة أن يخفي تغيره، لكنه لم يطق.

ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بابتسامته العريضة، وقال: طبعا.. هناك نتائج إيجابية.. ولا يمكن إلا أن تكون هناك نتائج إيجابية.. لقد فزت في جميع جولاتي الدبلوماسية، فكيف لا أفوز في هذه.

أطرق قليلا، ثم قال: نعم.. لقد كانت الحرب مستميتة بيني وبين من يدعونه حكيما.. لقد كان مجادلا بارعا، ومحاميا قويا.. ولكن الحق كان معي.. وسيظل معي.. ولا ينبغي أن يكون إلا معي.

ابتدر أخي ليأخذ القرص، ليضعه في القارئ، فقال نيكولاس: أرى أن تتركوا الفرصة لأحدثكم أنا بدل رؤية القرص.. فليس هناك رواية أحسن من رواية الشفاه..

ثم ابتسم لهم، وقال: نعم هذا أسلوب قديم.. ولكني أرى أنه الأفضل.

قال رجل من الجماعة: أرى أن السياسة قد أثرت فيك يا نيكولاس.. فدعنا نسير بالطريقة التي اجتمعنا لنسير عليها.

سكت نيكولاس على مضض.. فابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط

__________

(1) أشير به إلى (نيكولاس إيلمنسكي) (ق 20 م)، وهو مبشر روسي، رسم سياسة تنصيرية للتتار بجذبهم إلى المسيحية عن طريق الدمج الديني والثقافي، فكان يهدف إلى (تنشئة نخبة مثقفة من المواطنين يعتنقون المذهب الأرثوذوكسي لكن ثقافتهم تترية ويستخدمون اللغة التترية القازانية المكتوبة بالأحرف الروسية)، وقد ارتد عن الإسلام بفعل هذه السياسة في عهد ألسكندر الثاني قرابة مائة ألف (000. 100) مسلم والتحقوا بطائفة كرياشن (ألكسندر بينيغسن وشانتال لوميرييه كيلكجاي: المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفييتي - ص 27، ونجيب العقيقي: المستشرقون: ص 26)

النبي المعصوم (105)

الأحداث:

رأينا نيكولاس يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال رجل من الجمع: منا من يعرفه.. ومنا من لا يعرفه.. ولكنا نتفق جميعا ـ من يعرفه ومن لا يعرفه ـ في أنا نحب أن نعرفه، أو نستزيد من معرفته.. فإن كان لديك شيء منها، فأنبئنا.. فكلنا آذان صاغية.

قال نيكولاس: هل تعرفون لينين؟

قالوا: أجل.. ولكنه مستبد آثم.

قال نيكولاس: وهل تعرفون فرعون وأتاترك وهتلر؟

قالوا: أجل.. وهم لا يختلفون عن لينين.

قال رجل من الجماعة: نحن نبحث عن محمد.. ونريد أن نعرف محمدا.. ولا حاجة لنا بمعرفة هؤلاء المستبدين الظالمين.

قال نيكولاس: من عرف هؤلاء فقد عرف محمدا.. بل إن محمدا أسوأ منهم.. فإن أحدا منهم لم يقل: إني مستبد يوحي إلي، ولكن محمدا قالها.

هنا ظهر الحكيم بطلعته البهية، ونوره الساطع، وصاح من بعيد: في أي سورة ورد ما ذكرته؟

ثم أضاف: لقد قرأت القرآن.. وربما قرأت الآية خطأ، فالآية تقول: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف:110).. وليس في القرآن آية تدعو للاستبداد، أو تحث عليه، أو تشرع له.. بل إنه ليس هناك كتاب في الدنيا يدعو إلى الثورة على الاستبداد كالقرآن.

سكت قليلا، ثم قال: ربما تتصور أن ذلك حديثا.. ليس هناك حديث في الدنيا يحث على الاستبداد أو يشرع له.

النبي المعصوم (106)

قال نيكولاس: ربما يكون ما ذكرته صحيحا.. ونحن لا نتحدث عنه هنا.. نحن نبحث في حياة محمد.. وحياة محمد عنوان للاستبداد بجميع أشكاله.. وإلا لما تسنى له أن يقيم أي دولة، أو ينشئ أي مجتمع.

قال الحكيم: لست أدري هل أنت صاحب شبهة تبحث عن التحقيق.. أم أنك صاحب هوى تبحث عن الجدل؟

قال رجل من الجمع: لا.. لا نظنه إلا صاحب شبهة، فإن كان لديك ما يرفعها عنه، فاذكره له.. ونحن هنا لنرى أنصع الحجج.. حجتك أو حجته.. لنتبعها.

قال الحكيم: يسرني ذلك.. ولست أدري هل يرضى صاحبنا بذلك أم لا؟

لم يجد نيكولاس إلا أن يجيب بالإيجاب..

حينذاك قال الحكيم: أليس المستبد هو الذي يحتقر الرعية، ويتكبر عليها، ويستولي على جميع أمورها، بحيث يفرض رأيه على كل أحد، ولا يسمع لأي أحد؟

قالوا: بلى.. هذا هو المستبد.. وكل مظاهر الاستبداد تنطلق من هذا.

قال الحكيم: فإذا أثبت لكم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم كل من يحيط به، بل كل من ولي أمره من المسلمين، وأنه فوق ذلك كان يستشيرهم في الصغير والكبير، والحقير والجليل.. هل أكون بذلك قد دفعت شبهته؟

قال الجمع: لا نرى الصواب إلا فيما ذكرت.

التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: هل تقر بهذا الأصل أم أنك تخالف فيه؟

قال نيكولاس: ليس الشأن في التعرف على الأصول إنما الشأن في إثباتها.

قال الحكيم: فاسمع مني ما يثبتها لك.

احترامه للرعية

النبي المعصوم (107)

استجمع الحكيم أنفاسه، ثم قال: لو تأملتم حياة جميع الزعماء والقادة والمصلحين وعلاقتهم بمن يحيط بهم لن تجدوا رجلا في سماحة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تواضعه ولا احترامه.

ضحك نيكولاس، وقال: وأستطيع أن أقول في المقابل: لو تأملتم جميع حياة المستبدين والمتكبرين والظالمين، فلن تجدوا رجلا مثل محمد.

قال الحكيم: ما دام كل منا له دعواه.. فليقدم كل واحد منا ما عنده من إثباتات.

قال نيكولاس: حسبي من الإثباتات أنه كان يفرض عليهم أي حكم، فلا يجدون مناصا من تنفيذه.

قال الحكيم: وكل الحكام يفعلون ذلك.. أم ترى أنه يستسلم لأهوائهم لتضع في الدين ما تشاء؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: أما أنا.. فسأذكر لكم أربعة أدلة تعرفون من خلالها أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم من ولي عليهم أعظم احترام، ولا يمكن لمن يكون له كل ذلك الاحترام أن تكون فيه ذرة من استبداد.

المخالطة

قال رجل من الجمع: فما الدليل الأول؟

قال الحكيم: الدليل الأول هو مخالطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ورعيته وعدم احتجابه عنهم بأي نوع من أنواع الحجاب.. بل إنه كان يعتبر الحجاب نوعا من الاستبداد، لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من الاحتجاب عن الرعية: (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة) (1)

ومن هذا المنطلق كان أسهل شيء على أي أحد من الناس مقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والجلوس معه..

__________

(1) رواه أبو داود، والترمذي.

النبي المعصوم (108)

فقد قال الحسن يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده) (1)

ووصفه حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ) (2)

وذات مرة لقيه رجل تصور أنه مثل كل القادة والزعماء.. وقد حدثنا حديثه ابن مسعود فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة) (3)

وفي حديث آخر عن عبد الله بن بسر، قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال: (إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا) (4)

وقد أشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث: قال العباس: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم) (5)

__________

(1) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر ـ وقال: هذا حديث مرسل ـ وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.

(2) رواه ابن سعد.

(3) رواه ابن ماجه.

(4) رواه ابن ماجه.

(5) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

النبي المعصوم (109)

وكان من تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن يتميز بشيء عن سائر الناس حتى أن من الناس من لا يعرفه كما روي عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة تبكي عند قبرٍ فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تجد عنده بوابين (1)، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسلم على كل من لقيه صغيرا كان أو كبيرا، يعرفه أو لا يعرفه، فعن أنس أنه مر على صبيان، فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى الله عليه وسلم يفعله (3).

وعن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام (4).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسير مع أي أحد يعرفه أو لا يعرفه، عن أنس قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتنطلق به حيث شاءت (5).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار كما يركبه سائر العوام، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف (6).

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يردف خلفه.. وقد ذكر العلماء أسماء من ردفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم نحو الخمسين أفرد أسماءهم الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ الكبير ابن عبد الله بن مندة في جزء لطيف وأضيف إليهم غيرهم.

وهم أكثر من أن يحصوا ـ كما روي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر، وغزا

__________

(1) ولا يعارض هذا بما ورد في بعض النصوص من الاستئذان عليه (.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه البخاري ومسلم.

(4) رواه الترمذي وصححه والبيهقي.

(5) رواه البخاري.

(6) رواه الترمذي.

النبي المعصوم (110)

أردف كل يوم رجلا من أصحابه (1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس لباسا بسيطا كسائر الناس، ففي الحديث: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي، فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر) (2)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل مع كل الناس حتى من عافهم الناس أو خافوا من عدواهم، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه) (3)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيب كل من دعاه، ولأي شيء دعاه، حتى لو كان حقيرا، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) (4)

المشاركة

قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الأول.. وعرفنا قوته.. فما الدليل الثاني؟

قال الحكيم: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بمخالطة الناس مجرد مخالطة ليقتنص ودهم كما يفعل بعض الزعماء والقادة.. وإنما كان يشاركهم في حياتهم وأعمالهم.. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم لرحمته لهم يستأثر بأشقها.

فمن مشاركته لمن كان معه صلى الله عليه وآله وسلم مشاركتهم في الأعمال التي يقومون بها:

ومما روي في ذلك مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لهم في بناء المسجد بعد هجرته إلى المدينة المنورة بالرغم من العناء الكبير الذي لاقاه في هجرته، عن الحسن قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قال: ابنوا لنا مسجدا،

__________

(1) رواه أحمد والبخاري وأبو يعلى.

(2) رواه ابن عدي.

(3) رواه أبو داود والترمذي.

(4) رواه أبو الشيخ، وابن سعد.

النبي المعصوم (111)

قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: عرش كعرش موسى، ابنوا لنا بلبن، فجعلوا يبنون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعاطيهم اللبن على ما دونه ثوب، وهو يقول:

اللهم إن العيش عيش الآخرة... فاغفر للانصار والمهاجرة

فمر عمار بن ياسر فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفض التراب عن رأسه، ويقول: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية (1).

وعن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة (2).

وفي غزوة الخندق.. بعد أن أحاطت الأحزاب بالمدينة المنورة.. وفي ذلك الموقف الشديد الذي تزلزلت له القلوب.. والذي يكتفي فيه القادة بالجلوس في غرفهم المكيفة للتخطيط وإلقاء الأوامر.. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابهم يشاركهم في كل صغيرة وكبيرة..

قالت أم سلمة: ما نسيت يوم الخندق، وهو يعاطيهم اللبن، وقد اغبر شعره، تعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3).

وعن البراء قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل التراب على ظهره، حتى حال التراب بيني وبينه وإني لانظر إلى بياض بطنه (4).

قال محمد بن عمر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شدة اجتهاده في العمل يضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل، وبلغ منه التعب يوما مبلغا فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الايسر فنام.

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف الشديد يتكفل بكل عمل شاق يتوقفون عنده، فعن جابر: أن المسلمين عرض لهم في بعض الخندق كدية عظيمة شديدة بيضاء مدورة، لا تأخذ فيها المعاول،

__________

(1) رواه ابن عساكر.

(2) رواه ابن أبي شيبة.

(3) رواه أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى.

(4) رواه محمد بن عمر.

النبي المعصوم (112)

فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبة تركية فقال: أنا نازل، ثم قام، وبطنه معصوب بحجر من الجوع، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن دعو به، ثم نضح من ذلك الماء عليها، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق إنها عادت كالكثيب المهيل ما ترد فأسا ولا مسحاة (1).

ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد يكتفي بالعمل فقط.. بل كان يسليهم ويرتجز بما يرتجزون، ويضحك كما يضحكون:

قال ابن إسحاق وابن عمر: وارتجز المسلمون في الخندق برجل يقال له (جعيل) أو جعالة بن سراقة، وكان رجلا دميما صالحا، وكان يعمل في الخندق، فغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه يومئذ فسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:

سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا

وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول شيئا من ذلك، إلا إذا قالوا: عمرا، وإذا قالوا: ظهرا، قال: ظهرا.

وعن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى وارى التراب بياض بطنه (2)، وكان كثيف الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات لابن رواحة:

والله لولا ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا... وثبت الاقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته: أبينا أبينا (3).

__________

(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

(2) وفي لفظ: حتى أغمر بطنه، أو قال اغبر بطنه، وفي لفظ: حتى وارى الغبار جلده.

(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

النبي المعصوم (113)

وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخندق وقال:

باسم الاله وبه هدينا ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا ربا وحب دينا (1)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد يدعو الله لهم، ويشجعهم بكل ما أطاق أن يشجعهم به، عن سهل بن سعد قالا: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نحفر في الخندق، وننقل التراب على أكتادنا (2) في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك، فلما رأى ما هم فيه من النصب والجوع قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة، فاغفر للانصار والمهاجرة)، فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا

ويؤتونه بملء كفي شعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة (3)، توضع بين يدي القوم، وهم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.

ومما كان يشجعهم به ما روي في الحديث من ضربه على تلك الكدية وما كان فيها من معجزات، فقد ورد في الحديث: فأخذ المعول من سلمان، وقال: (بسم الله)، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أعطيت مفاتيح اليمن، إني لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة، كأنها أنياب الكلاب)، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، وبرق منها برقة فخرج نور من قبل الروم فأضاء ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لابصر قصورها الحمر من مكاني الساعة.

ثم ضرب الثالثة، فقطع بقية الحجر وبرق برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتي

__________

(1) رواه البيهقي.

(2) جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي لفظ: أكتافنا، وفي لفظ عن متوننا.

(3) الاهالة: الودكة، والسنخة: المتغيرة الريح الفاسدة الطعم.

النبي المعصوم (114)

المدينة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لابصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا بالنصر.

فاستسر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، بأن وعدنا النصر بعد الحصر، وجعل يصف لسلمان، فقال سلمان: صدقت يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه صفته، أشهد أنك رسول الله.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذه فتوح يفتحها الله تعالى بعدي يا سلمان، لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده)، قال سلمان: فكل هذا قد رأيت (1).

ومن مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ـ التي هي رعيته ـ أنه كان يذوق من الجوع ما يذوقون، بل يذوق أعظم مما يذوقون (2)، ففي غزوة الخندق قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم آخر من يأكل إذا ما دعوا إلى أي أكل، فعن أبن عباس: أن جابرا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق عاصبا بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا.

قال جابر: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنزل فأذن لي، فذهبت فقلت لامرأتي: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصا شديدا، ما في ذلك صبر، فعندك شئ؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير، وذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلنا اللحم في البرمة، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا، وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الانصراف ـ قال: وكنا نعمل نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا ـ قالت لي: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه.

فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فساررته فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.

__________

(1) سبق تخريج الحديث بتفاصيله، وانظر رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

(2) سنرى تفاصيل ذلك في محلها.

النبي المعصوم (115)

فشبك أصابعه في أصابعي وقال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ، وصاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي، هلا بكم)، وصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقلت: جاء الخلق، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي فقلت: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم، فقالت: أنت دعوتهم أو هو؟ قلت: بل هو دعاهم، قالت: دعهم، الله ورسوله أعلم، نحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشفت عني.

فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (ادخلوا عشرة عشرة، ولا تضاغطوا)، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، فقال لنا: (اخبزوا واغرفوا وغطوا البرمة، ثم أخرجوا الخبز من التنور، وغطوا الخبز)، ففعلنا، فجعلنا نغرف ويغطي البرمة، ثم يفتحها فما نراها نقصت شيئا، ويخرج الخبز من التنور، ثم يغطيه فما نراه نقص شيئا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويقرب إلى أصحابه ويقول لهم: (كلوا)

فإذا شبع قوم قاموا، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، فقال: (كلوا واهدوا، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة)

فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب ذلك (1).

المواساة

قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثاني.. واقتنعنا به.. فما الدليل الثالث؟

قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى ذلك كله يتعامل مع من ولي أمرهم تعامل الأصحاب لا تعامل السلطان.. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمي من استظل بظل ولايته صاحبا، حتى لو كان له عدوا.

__________

(1) رواه اليخاري ومسلم، وانظر تفاصيل أكثر في (معجزات حسية)

النبي المعصوم (116)

فإنه لما قال رأس المنافقين ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تصديق زيد في سورة المنافقين، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأذنه فقال: أبشر فقد صدقك الله، ثم قال: هذا الذي وفى لله بأذنه فقال له: عمر يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) (1)

وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلممع سائر الناس.. فقد كان يسير مع كل أحد ليقضي حاجته، فعن أنس قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: (يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك)، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها (2).

وفي حديث آخر عنه قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة (3).

وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما (4).

وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم من حاجاتهم (5).

وقد استدل عدي بن حاتم بهذا السلوك على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى

__________

(1) رواه ابن إسحق وغيره.

(2) رواه أحمد ومسلم.

(3) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.

(4) رواه الدارمي.

(5) رواه الخرائطي.

النبي المعصوم (117)

وقيصر (1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعود مرضى المسلمين، ويهتم بهم، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم (2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيب أي دعوة لا يهمه ما كانت، ولا ممن كانت:

فعن ابن عباس قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصف الليل على خبز الشعير فيجيبه (3).

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لاجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت (4).

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب دعوه المملوك (5).

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرق في إجابة الدعوة بين مسلم وكافر، فعن أنس أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه (6).

لقد وصف بعضهم سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والامة والمسكين ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم أحد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينحى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحى رأسه، وما أخذه بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ.

__________

(1) رواه البخاري في الأدب، وروي عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال: أتينا رسول الله (، وهو جالس في المسجد فقال القوم: هذا عدي، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال: فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: لنا إليك حاجة، فقام معهما، حتى قضى حاجتهما.

(2) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.

(3) رواه الطبراني، ورواه مسدد مرسلا برجال ثقات.

(4) رواه البخاري.

(5) رواه ابن ماجه.

(6) رواه أحمد وابن سعد وابن شيبة.

النبي المعصوم (118)

ولم ير مقدما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد يكرم من يدخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التى تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وروى أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته (1)، وكان أكثر الناس تبسما وأطيبهم نفسا ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب، قال عبدالله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

الخدمة

قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثالث.. واقتنعنا به.. فما الدليل الرابع؟

قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بمجرد المشاركة والمواساة ولا الخلطة المجردة عن أي عمل إيجابي.. بل كان فوق ذلك كله، ومع ذلك كله، يبادر لأي خدمة سواء شورك فيها أو لم يشارك، وسواء كانت في بيته أو خارج بيته، لا يسأل على ذلك أجرا ولا شكرا.

عن أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ولد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له (3).

وقد وصفت عائشة ما كان يصنع صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، فقالت: (كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، يعني خدمة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة) (4)

__________

(1) كما روي عن أنس بن مالك أن نبي الله (قال: أني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فاسمع بكاء الصبي فاتجوز في صلاتي مما اعلم من شدة وجد أمه من بكائه.

(2) انظر: عيون الأثر: 2/ 423.

(3) رواه أبو داود.

(4) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (119)

وعنها ـ أيضا ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل عمل أهل البيت وأكثر ما يعمل للخياطة (1).

وكان خارج بيته في أي شغل أو خدمة يحتاجها المسلمون، لا يستكبر عن أي عمل:

وكان أخطر أعماله وأهمها تعليم الناس، يصبر في ذلك أيما صبر، عن أبي رفاعة تميم بن أسيدٍ قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسيٍ، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها (2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك هذه الوظيفة حتى وهو منشغل بحاجاته الأساسية، عن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان وأمر أن تسلت القصعة. قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة (3).

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم حتى ما يرتبط بحياتهم من معايش، فقد روي أنه مر مرة بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال: (يا غلام هكذا فاسلخ) (4)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نام الناس يشتغل حارسا لهم، فيهب عند كل فزعة، عن محمد بن الحنفية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الناس، وقال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ما وجدت من شئ، وقال للفرس:

__________

(1) رواه ابن سعد.

(2) رواه مسلم.

(3) رواه مسلم.

(4) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني.

النبي المعصوم (120)

وجدناه بحرا، وإنه لبحر، قال: وكان فرسه بطيئا فيه قطاف فما سبق بعد (1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم عند الغزو هو الترس الذي يتترسون به، عن علي قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه (2).

وروى عنه أيضا قال: لما كنا يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أشد الناس بأسا يومئذ، وما كان أحد أقرب من المشركين منه.

وعن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفر، كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) (3)

وعن عمران بن حصين قال: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب (4).

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذه بعض الدلائل على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من احترام لرعيته الذين ولي أمرهم.. ولو قعدت أفصل لك ما يدل على هذه الأدلة ما خرجنا من هنا (5).

ثم التفت إلى الجمع، وقال: هل يكفيكم ما ذكرنا من أدلة؟

قال رجل من الجمع: لقد كان يكفينا أقل مما ذكرت.. وقد صدقت، فلم نر زعيما في الدنيا مهما كان متواضعا، يبلغ به تواضعه لمن يتزعم عليهم إلى تلك الدرجة.

__________

(1) رواه ابن سعد، وهذا من جملة معجزاته (كونه ركب فرسا قطوفا بطيئا فعاد بحرا لا يسابق، ولا يجارى.

(2) رواه أحمد، وابن ماجه.

(3) رواه ابن أبي شيبة.

(4) رواه أبو الشيخ.

(5) سنرى أدلة أوفر على هذا في سائر السلسلة.

النبي المعصوم (121)

استشارته للرعية

لم يجد نيكولاس في ذلك الموقف إلا أن قال: لا ينفي ما ذكرته من احترام محمد لمن تولى عليهم كونه مستبدا.. ذلك أن المستبد قد يفعل ذلك من باب كسب القلوب، ثم هو بعد ذلك يمارس ما يمليه عليه استبداده من تصرفات.

قال الحكيم: فما الذي ينفي استبداده؟

قال نيكولاس: رجوعه للرعية واستشارته لها.. وأن لا يبت أمرا إلا بعد استئذانها.

قال الحكيم: كلامك صحيح.. وسأشرح لك وللجمع ما يثبت لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي استطاع أن يجمع ذلك كله في منتهى كماله.

قال نيكولاس: كيف تقول ذلك.. وهو يملي عليهم الأوامر.. ويزعم أنها تأتيه من السماء.. فلا يملكون إلا تنفيذها.

قال الحكيم: إن في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناحيتين، لكل منهما حكمه الخاص: أما الناحية الأولى.. فهي كونه نبيا يوحى إليه من الله.. وأما الناحية الثانية، فهي كونه بشرا وضع له من حرية الاختيار ما يمكنه من التصرف كما يشاء، أو كما تشاء الحكمة.

لقد أشار إلى هاتين الناحيتين أحد الصحابة، وهو الحباب بن المنذر في غزوة بدر عندما رأى مكانا آخر أهم من المكان الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.

فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم

النبي المعصوم (122)

صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.

أنت ترى أن هذا الرجل الممتلئ أدبا لم يقدم مشورته إلا بعد أن علم أن المسألة من الأمور التي يمكن أن تقدم فيها الآراء المختلفة.

الناحية التوقيفية

قال نيكولاس: ففي الناحية الأولى لا مجال للشورى إذن؟

قال الحكيم: يمكنك أن تقول ذلك.. ففي هذه الناحية لا يتنازل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء أمر به.. أو نهي عنه.. بل نهى المؤمنين أن يقفوا موقف الاختيار في هذا الجانب، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36)، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)

بل إنه حذر من مخالفة أمره، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)

بل إنه نهى أن يتبع محمد صلى الله عليه وآله وسلم آراء أحد من الناس مقابل الهدي الذي جاء به، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (المائدة:48)، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49)

قال نيكولاس: فهل تركت هذه النصوص للاستبداد شيئا؟

قال الحكيم: أرأيت لو ذهبت إلى طبيب من الأطباء، هو خبير في ميدانه، فوصف لك شيئا من الأدوية أنت أحوج الناس إليه.. أتراك تجادله في ذلك؟

قال نيكولاس بقوة: نعم قد أجادله.. وقد حصل ذلك كثيرا.. فأنا لست إمعة تحركني

النبي المعصوم (123)

الرياح حيث شاءت.

قال الحكيم: ولكنك بعد جدالك له لا تجد إلا أن تسلم له، ثم تتناول الأدوية التي وصفها لك.

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: ما ذكرت صحيح.. ولذلك فإن الله برحمته يذكر لنا ـ عند ذكره لأصناف الأدوية الربانية ـ الحكم منها، لتقبل عليها العقول والقلوب عن بينة.. وفي ذلك منتهى الرحمة والحكمة والعدالة.. فالله برحمته لا يفرض علينا فرائضه كما يفرضها الملوك الذين يشتهون التسلط على غيرهم.. بل إن الله يأمرنا بما يرحمنا به، وبما ينفي وصول مضرة لنا.

لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا هذا، فقد ذكر مثلا حكمة اعتزال النساء في المحيض وذكر أنها دفع الأذى قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222)

وذكر حكمة تحريم الخمر، وأنه مع ما فيها من المنافع المتوهمة تحوي أضرارا أخطر من منافعها، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة:219)، ثم فصل في ذكر المضار الكثيرة التي استدعت تحريمها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:90 - 91)

وذكر حكمة تحريم الزنا، وأنها فحشه وسوء سبيله، ومفاسد مآله، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الاسراء:32)

وذكر حكمة تشريع الزواج وأنها السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ

النبي المعصوم (124)

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)

قال نيكولاس: ولكن هذه التشريعات تجعل الإنسان في دائرة ضيقة لا تقل عن الدائرة التي يرسمها المستبدون.

ابتسم الحكيم، وقال: حتى ولو لم تتحكم فيه هذه الدائرة التي تتصور ضيقها، فستتحكم فيه دوائر أخرى شاء أم أبى.. حتى الخمر ـ التي تتصور أن تحريمها استبداد ـ لو تحرر أي شخص من استبداد تحريمها، فسيقع في استبداد شربها.. لعلك تعرف الإدمان، وتعرف المخاطر التي يجلبها لصاحبه.

ومع ذلك.. فإن الشريعة التي جاء بها الإسلام تقوم على التوسعة ورفع الحرج ليعيش الإنسان حياته الطبيعية على حسب ما تتطلبه الفطرة السليمة.

ولذلك ترى من قواعد الشريعة هذه القاعدة الذهبية (المشقة تجلب التيسير)، وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، و(والضرورة تقدر بقدرها)، و(العادة محكمة)

قال نيكولاس: أنا لي رأي في هذه القواعد التي ذكرتها.

قال الحكيم: يسرني سماعه.

قال نيكولاس: أرى أن الفقهاء الذين لاحظوا ضيق الشريعة وتشددها وعدم تناسبها مع الحاجات المختلفة للإنسان هم الذين راحوا ينسخون أحكامها بمثل هذه القواعد، كما فعل بولس عندنا في المسيحية.. أرى أن كلاهما مارس نفس السلوك.

ابتسم الحكيم، وقال: ما كان لفقهائنا أن يفعلوا هذا.. ولن يتركهم أحد لو فعلوه.. إن ما ذكرته لك هو ما دلت عليه النصوص المقدسة من الكتاب والسنة.

لقد قال تعالى يقرر تلك القواعد: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ

النبي المعصوم (125)

مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)، وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:173)، وقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:145)

وبمثل ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم يقرر تلك القواعد: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة) (1)

فهذا الحديث يقرر قواعد كثيرة توهمت أنت أنها من صنع الفقهاء، فهو يقرر التيسير (إن الدين يسر).. ويقرر منع التشدد والمبالغة من غير موجب: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).. ويقرر ملازمة السداد والوسطية، أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط: (فسددوا).. ويحث على بلوغ الكمال: (وقاربوا)، أي اعملوا بما يقرب من الأكمل.. ويحث على دوام العمل وزيادته: (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي تصفه بالاستبداد لا يختار من الأمور إلا أيسرها ـ قالت عائشة: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده خادما قط ولا امرأة ولا شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا انتقم لنفسه من شئ يؤتى به إليه حتى تنتهك محارم الله فيكون هو ينتقم لله عزوجل، ولا خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الاثم) (2)، فهذا الحديث ينص على أن المختار في الشريعة هو التيسير والرفق والتخفيف في الأمور كلها ما لم يكن إثما.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: ومع ذلك كله، فإن الدين الذي أمر به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر به

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه أحمد وعبد بن حميد وابن عساكر.

النبي المعصوم (126)

كما أمر به لينين..

هنا لاحظت وجه نيكولاس، وقد تغير تغيرا شديدا، وكأنه كان يقصده.

قال الحكيم ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: لعلك تعرفه.. لا أظن إلا أنك تعرفه.. فإن شئت ذكرت لك بعض جرائمه وجرائم إخوانه من الذين تصوروا أنهم رحمة نزلت من السماء لتحمي الإنسان.

لقد وقع حوالي (60 - 65) مليونا من المسلمين تحت وطأة الثورة البلشفية، وهؤلاء المسلمون ينتشرون على أرض مساحتها أكثر من (15) مليون ميل مربع (أكثر من مساحة إفريقيا).

وبعد أن انتصر الشيوعيون ـ بأفكارهم التي أرادوا فرضها فرضا ـ حصدوا كل من خالفهم من المسلمين حصدا مريعا.. في تركستان الشرقية التي احتلتها الصين سنة (1934 م) ـ بمساعدة الجيش الأحمر الروسي ـ قتل (ربع مليون مسلم) من المفكرين والعلماء والشباب.

وعندما قامت الثورة الصينية سنة (1952 م) قتلت (122) ألفا من المسلمين.

وفي يوغسلافيا أباد تلميذ لينين المخلص تيتو بعد الحرب العالمية من المسلمين (24) ألفا.

قارن هذا مع الطريقة التي دعا بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دينه، والحرية التي أتاحها في تقبله، لقد قال الله تعالى موضحا دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} (الغاشية)

إن هذه الآيات الكريمة تبين دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودور كل مسلم في نشره لدينه ودعوته إليه.. إن دوره قاصر على التذكير والتنيبه والموعظة.. أما ما عدا ذلك فلله، فالله هو الهادي وهو المحاسب وهو المعاقب.. فهو وحده رب الدين.

لقد قال الله تعالى يبين للمسلمين أسلوب نشر الحقائق التي لا ينبغي أن تكون محل

النبي المعصوم (127)

اختيار: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125)

فالآية تأمر المؤمن بأن يقدم رأيه مدعما بما يراه من أدلة، ثم يترك الحرية للآخر بالاقتناع بقوله أو عدم الاقتناع.

سأنقل لك نموذجا عن أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الدين الذي جاء به لتقارن بين استبداد المستبدين وجدلهم وبين سلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكمته وعدله..

حدث جابر بن عبد اللّه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد: فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد اللّه؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قولك، إنا واللّه ما رأينا سِخَلَةً قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (فرغت؟)، قال: (نعم)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: {بسم اللّه الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت:2) حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله (1).

__________

(1) رواه البغوي في تفسيره، وقد روي أن عتبة بن ربيعة لما سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: (يا معشر قريش واللّه ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فقال أبو جهل: (يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد)، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمد أبداً، وقال: (واللّه لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب)

النبي المعصوم (128)

ليس ذلك فقط.. فالقرآن يخاطب المخالفين ليقول لهم بعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سبأ:24)

فهو في حواره مع المخالفين يعتبرهم مع المسلمين سواء في الهداية أو الضلال، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ:24)، فيجعل اختياره هو بمرتبة الإجرام على الرغم من أنه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل.

أما عن سلوكه صلى الله عليه وآله وسلم مع المخالفين.. بل مع من لا يكتفون بالمخالفة المجردة، بل يضيفون إليها تدبير المكايد لحرب الإسلام، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى، فسأذكر لك ثلاثة نماذج مختلفة عنها، لترى كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم متسامحا.. ولا يمكن أن يكون المستبد متسامحا.

أما النموذج الأول، فهو تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين، ونختار للدلالة على ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، قد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإليه يجتمعون، وكان في محل بحيث يخاف أي زعيم من أن ينقلب عليه.. فعندما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها لا يختلف عليه اثنان، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره حتى جاء الإسلام.

بل كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه، ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على ذلك فما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استلبه ملكا.. فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن.

النبي المعصوم (129)

وهو الذي أطلق تهديده في غزوة بني المصطلق، فقال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) (المنافقون:8)

وهو الذي نزلت فيه سورة كاملة تبين خصال المنافقين ومواقفهم.. ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم على قتله، ولا اغتياله كما يفعل ذلك كل الزعماء بمختلف الأساليب.

لقد جاءه جمع من الناس يطلبون أن يقتلوه لخيانته.. لكنه لم يأذن لواحد منهم.

بل إن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي تقدم طالبا أن يقتل أباه إن أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لاحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالديه مني، وما أكل طعاما منذ كذا وكذا من الدهر ولا شرب شرابا إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار.. وعفوك أفضل، ومنك أعظم)

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عبد الله ما أردت قتله ولا أمرت به، ولنحسنن له صحبته ما كان بين أظهرنا)

ولم يكتف هذا الابن المؤمن بهذا، بل عجل بعد ما أطلق أبوه تهديده، فأناخ بجامع طرق المدينة ودخل الناس حتى جاء أبوه عبد الله بن أبي فقال: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمن اليوم من الأعز من الأذل.

فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن خل عنه حتى يدخل ففعل.

وعندما حضرت هذا المنافق الخائن الموت دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى بينهما كلام، فقال له عبد الله بن أبي: قد أفقه ما تقول، ولكن من علي اليوم وكفني بقميصك هذا وصل علي..

النبي المعصوم (130)

فكفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقميصه وصلى عليه (1).

وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)

التفت إلى نيكولاس، وقال: أنت ترى أن الآية لم تأمر بشيء مما يأمر به المستبدون.. لقد اكتفت بذكر الأحكام الشرعية التعبدية المحضة.. والتي يتصور هؤلاء أنها لا تضرهم ولا تنفعهم.

بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النواحي الأخروية تعامل معهم برحمة لا نظير لها، فقد روي أنه لما نزل قوله تعالى فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم) (2)

وحينذاك نزل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (المنافقون:6)

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هل ترى هذا المنطق، وهذه النفس الطاهرة نفس مستبد؟

سكت نيكولاس، وقد تغير وجهه تغيرا شديدا، فقال الحكيم: أما النموذج الثاني، فهم اليهود.. ولاشك أنك تعرف اليهود، وتعرف ما أصابهم من إخوانك المسيحيين في جميع فترات التاريخ..

أما مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أتيح لهم من الحرية ما لم يكونوا يحلمون به، فلذلك راحوا يفعلون ما يحلوا لهم، ويقولون ما يحلو لا يخشون في ذلك لومة لائم (3).

__________

(1) رواه عبد بن حميد.

(2) رواه ابن جرير.

(3) سنرى التفاصيل المرتبطة بتعامل رسول الله (مع اليهود في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

النبي المعصوم (131)

لقد روى المفسرون بأسانيدهم في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91) أن رجلا من اليهود ـ يقال له مالك بن الضيف ـ جاء ومعه جماعة فخاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا له: يا أبا القاسم، ألا تأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا؟

فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنشدك الله بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟) وكان حبرا سمينا.. فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ.

فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فأنزل الله تعالى الآية (1).

التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن كل ما كان يجري بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد محاورات.. وبالرغم من سلاطة لسانهم، وبالرغم من قدرته صلى الله عليه وآله وسلم على استئصالهم في أي لحظة، لكنه لم يفعلوا إلى أن وصل الأمر إلى الحد الذي لا يصبر عنه.. لأن الصبر عنه سيؤدي إلى زوال الأمة التي أسسها محمد صلى الله عليه وآله وسلم (2).

سكت قليلا، ثم قال: أما النموذج الثالث، فهو تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع من وقع في أخطاء كبرى من أصحابه، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى.

ونختار لذلك نموذج حاطب بن أبي بلتعة.. وقصة ما وقع من خيانته حدثنا بها علي بن

__________

(1) رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن جرير.

(2) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

النبي المعصوم (132)

أبي طالب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا، فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق، ولا تقولوا إلا خيراً (1).

التفت إلى دوج، وقال: هل ترى أن المستبد يمكن أن يقف مثل هذا الموقف.

إن المستبد يقتل بمجرد الظنة والاتهام، وأنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه نبيا يوحى إليه لم يستدعه حتى ثبت له في الواقع وبالدليل القطعي ما صنعه.

والمستبد لا يترك الفرصة لمن يتهمه، وأنت ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف استمع له.

والمستبد أسرع الناس إلى السيف، وأنت ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف عفا عنه.

والمستبد ينكر كل جميل قدم له، وأنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف لم ينس فضل حاطب ـ مع خيانته ـ في موقفه من غزوة بدر.

وهكذا.. فهذه المواقف التي هي مجرد نماذج تحيل أن يكون في محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذرة مما في نفوس المستبدين.

الناحية الاختيارية

قال رجل من الجمع: وعينا هذه الناحية، وأدركنا مدى العدالة التي تحويها.. وأدركنا السر

__________

(1) رواه البخاري.

النبي المعصوم (133)

الذي دعا إلى عدم استشارتنا فيها.. وأدركنا مدى الحرية التي أعطيت لنا خلالها.. فحدثنا عن الناحية الثانية.

قال الحكيم: لقد نص القرآن الكريم على وجوب الشورى في هذه الناحية، وأمر بها، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى:38).. لقد قرن الله تعالى الشورى في هذه الآيات بأمور كلها واجبة، بل كلها من أصول الواجبات، كالصلاة والزكاة والاستجابة لله.

بل إن الله تعالى في هذه الآية الكريمة فصل بين الصلاة والزكاة مع أن العادة هي الجمع بينهما، وقد فصل بينهما بالأمر بالشورى، لأنه لا يمكن أن تؤدى الزكاة أو أي شيء له علاقة بالمجتمع إلا بعد الشورى، حتى يمحص المحتاج من غير المحتاج.

قال نيكولاس: نحن لا نتحدث عن الإسلام.. بل نتحدث عن سلوك محمد.. فقد يأمر أحد من الناس غيره بالشورى من غير أن يمارسها.

قال الحكيم: إن كان هناك أحد في الدنيا يمكن وصفه بأنه أكثر الناس استشارة لغيره، فلن يكون ذلك إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

فمع أن الله أغناه بما يوحى إليه (1) إلا أنه كان يشاور في الصغير والكبير تنفيذا لما دعاه الله إليه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159)

وقد ذكر بعض الصحابة كثرة استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فقال: ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).

بل إنه كان يستشيره حتى في شؤونه الخاصة، فقد روي أن قيصر أهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) روى سعيد بن منصور ابن المنذر عن الحسن في الاية قال: قد علم الله أن ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد ليستن به من بعده.

(2) رواه ابن أبي حاتم والخرائطي.

النبي المعصوم (134)

جبة من سندس، فاستشار أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، نرى أن تلبسها، يكبت الله بها عدوك، ويسر المسلمين، فلبسها، وصعد المنبر فخطب وكان جميلا يتلألأ وجهه فيها، ثم نزل فخلعها، فلما قدم عليه جعفر وهبها له.

أما في الشؤون العامة، فلم يترك الشورى في أي موقف من المواقف.. بل إنه كان يتوجه بطلب الشورى للناس جميعا لا لمجلس معين، ولا لناس مخصوصين.. وفوق ذلك يتنازل في أحيان كثيرة لما يراه غيره مع مخالفته لرأيه.

ففي غزوة بدر، وهي أول معركة يخوضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين تجلت الشورى بأعمق صورها وفي جميع مجالاتها.

ففي البداية استشارهم صلى الله عليه وآله وسلم في دخول المعركة، وعدم دخولها (1).. ثم استشارهم في المحل الذي ينزلون فيه.. ثم استشارهم فيما نتج عن المعركة من الأسرى:

أما الأول، فقد روي أنه لما علم صلى الله عليه وآله وسلم بخبر مسير قريش، ليمنعوا عيرهم، استشار الناس، فتكلم المهاجرون.. ثم قام المقداد، ققال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن اذهب أنت ربك، فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه.

وقد كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتفي بهذا.. فقد سكت الجميع بعد أن تكلم هؤلاء، وحصل بسكوتهم الإجماع السكوتي، وهو إجماع معتبر عند الجميع، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف به، بل راح يستشيرهم، ففهمت الانصار أنه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، كأنك

__________

(1) ذكر الحافظ في الفتح الروايات الواردة في هذا، ثم قال: ويمكن الجمع بأن النبي (استشارهم في غزوة بدر مرتين: الاولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم، والثانية: بعد أن خرج كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، وحيئذ قال سعد بن معاذ ما قال.

النبي المعصوم (135)

تعرض بنا.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعنيهم لانهم بايعوه على أن يمنعوه من الاحمر والاسود في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض لما أردت، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الانصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لامرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان (1) لنسيرن معك، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك، ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فسر بنا على بركة الله، فنحن عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون)

فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسر بقول سعد، وحين رأى صلى الله عليه وآله وسلم موافقة الجميع، أعلن بدء الحرب، فقال: (سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم) (2)

انتفض نيكولاس قائلا: ولكن.. ألم تسمع بأن هناك مخالفين رغبوا في العير، ولم يرغبوا في النفير؟

قال الحكيم: صدقت.. لقد ذكرهم أبو أيوب، فقال: لما سرنا يوما أو يومين قال لنا رسول

__________

(1) وفي رواية: برك الغماد من ذي يمن.

(2) انظر: البيهقي في الدلائل، وغيره.

النبي المعصوم (136)

الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟)، فقلنا: والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكن أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك، وذكر الحديث فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (لأنفال:5) (1)

قال نيكولاس: فكيف سار محمد إذن وخالف ما ذهب إليه هؤلاء؟

قال الحكيم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض على أي أحد من الناس الخروج.. حتى هؤلاء الذين لم يعجبهم ذلك، لم يقهرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه.. ولم يقل لهم بعد أن وافقت الأغلبية العظمى على الخروج: اخرجوا معي.. بل ترك لهم حرية الاختيار.. ولم يفعل ذلك في ذلك الوضع الصعب غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال رجل من الجمع: عرفنا استشارته للخروج للمعركة، فكيف استشارهم في خطتها؟

قال الحكيم: عندما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحل بمكان ظن أنه المكان المناسب، جاءه رجل من عامة المسلمين، هو الحباب بن المنذر، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.

فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.

قال رجل من الجمع: لقد سبق أن ذكرت هذا.. فكيف استشارهم فيما نتج عن الغزوة؟

قال الحكيم: أنتم تعلمون أن الله نصر المسلمين في غزوة بدر، وقد كان من مظاهر انتصار المسلمين في تلك الغزوة أن الله أمكنهم من كثير من أعدائهم الذين كانوا يسومونهم سوء

__________

(1) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

النبي المعصوم (137)

العذاب.. وكان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يفكر تفكير مستبد أن يبت فيهم بأمره، أو أن يقتلهم ليشفي غليله منهم، ولكنه لم يفعل.. بل استشار المسلمين في شأنهم..

سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة أحد شاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأى أكثريتهم، مخالفا لرأيه، مع أنهم تنازلوا بعد ذلك عما ذهب إليه من رأي مراعاة لرأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد روي أنه لما قصد أبو سفيان وأصحابه المدينة يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر، وهي مصيبة (1)، ورأيت بقرا تذبح، وهي مصيبة، ورأيت علي درعا وهي مدينتكم لا يصلون إليها، إن شاء الله تعالى) (2)

وبعد أن قص عليهم ما رأى من الرؤيا قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، ونجعل النساء والذرية في الآطام، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة فنحن أعلم بها منهم، ورموا من فوق الصياصي والآطام)، وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن.

وكان هذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأي الاكابر من المهاجرين والأنصار، وكان عبد الله بن أبي المنافق يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن جماعة من المسلمين غالبهم أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو، وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يوم أحد قالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة، ولا تخرج، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن

__________

(1) روى البيهقي عن ابن شهاب قال: يقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه.

(2) رواه الطبراني والبزار.

النبي المعصوم (138)

رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.

فقال حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل، فظفرك الله تعالى عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله تعالى به، فساقه الله تعالى إلينا في ساحتنا.

وقال إياس بن أوس بن عتيك: نحن بنو عبد الأشهل، إنا لنرجو أن نكون البقر المذبح.

وقال غيره: هي إحدى الحسنيين: الظفر أو الشهادة، والله لا تطمع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.

وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.. وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما.

وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لمه؟) قال: لأني أحب الله تعالى ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صدقت) (1)

وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك وجماعة على الخروج للقتال.

فلما رأى صلى الله عليه وآله وسلم رغبتهم في القتال خارج المدينة، صلى صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة بالناس ـ وكان ذلك اليوم يوم جمعة ـ ثم وعظهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشر كثير.

ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام.

ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته، وقد صف الناس له بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه،

__________

(1) وقد استشهد يومئذ

النبي المعصوم (139)

فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، فقالا للناس: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم به فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه.

فبينما هم على ذلك إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم، واعتم، وتقلد السيف.

وندم الناس على إكراهه، فقالوا: يا رسول الله استكرهنا، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذ لبس لامته أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.. انظروا ما أمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله تعالى، فلكم النصر ما صبرتم) (1)

التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتنازل في هذا الأمر الخطير إلى رأي أصحابه مع يقينه بما لرأيه من مصداقية.

بل إنك ترى كيف أنه ـ مع تنازلهم عن آرائهم لرأيه ـ لم يتحين الفرصة، فيمضي رأيه.

سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة الأحزاب تلك الغزوة التي تعرض فيها المسلمون إلى أخطر ما تعرضوا له.. فقد كادت الأحزاب تستأصلهم.. أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصالحة غطفان لما بلغه نقض بني قريظة العهد.

وقد أرسل ـ لأجل ذلك ـ إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، فلما جاءا في عشرة من قومهما قال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيتما إن جعلت لكما ثلث تمر المدينة أترجعان بمن معكما، وتخذلان بين الأعراب؟)، فقالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة والدواة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير

__________

(1) رواه ابن عتبة وابن إسحاق وابن سعد وغيرهم.

النبي المعصوم (140)

إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه الرمح، ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعيينة بن حصن ماد رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم ما يريدون قال: يا عين الهجرس اقبض رجليك، أتمدهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ والله لولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتلتك بهذا الرمح!

ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك، فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟

فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما، والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما الخبر.

فقالا: يا رسول الله، إن كان الأمر من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فامض له سمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف.

وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله تعالى ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا!؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت وذاك.

فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا (1).

__________

(1) رواه ابن إسحق وغيره، وقد روي أن غطفان هي التي طلبت المصالحة، فقد روى البزار والطبراني عن أبي هريرة قال: جاء الحارث إلى رسول الله (، فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملاتها عليك خيلا ورجالا، فقال: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم رسول الله (في ذلك، فقالوا: لا، والله ما أعطينا الدينة في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله تعالى بالاسلام، فرجع إلى الحارث فأخبره، فقال: غدرت يا محمد.

النبي المعصوم (141)

سكت قليلا، ثم قال: وفي حصاره الطائف.. وبعد أن مضت خمس عشرة من حصارها، استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوفل بن معاوية الديلي، فقال: (يا نوفل ما ترى في المقام عليهم)، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك (1).

وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأيه، وأمر الناس بالرجوع.

قال ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يبت أمرا من أمور الحرب، والتي هي أخطر الأمور، إلا استشار فيه، بل يتنازل عن رأيه لما يراه غيره.. فهل يمكن لمستبد أن يفعل مثل هذا؟

قال نيكولاس: لقد وعيت هذا، وتقبلته، ولكن ألا ترى نبيكم يستشير الرجل فقط، ولا يعتبر النساء.. ألستم تقولون: (شاوروهن وخالفوهن) (2

ابتسم الحكيم، وقال: إن كان أحد من الناس قال هذا، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله.. وكيف يقوله، وهو الذي لم يفرق بين رجل وامرأة في أي شيء؟

وكيف يقوله، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرهن، ويقبل مشورتهن، ففى (الحديبية) شاور أم سلمة في امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح، فقد عز عليهم ذلك بعد نية العمرة، فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلل من إحرامه أمامهم دون أن يتكلم، فما أن رأوه فعل ذلك، حتى بادروا إلى الاقتداء به.

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: وأزيدك شيئا ـ قد لا يستطيع عقلك أن يهضمه، ولكني

__________

(1) رواه محمد بن عمر، وانظر تفاصيل الحصار والحكمة من الرجوع في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

(2) روي هذا الحديث، وهو موضوع باتفاق المحدثين، ومثله ما روي عند العسكري من حديث حفص بن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: قال عمر: خالفوا النساء، فإن في خلافهن البركة، بل يروى في المرفوع من حديث أنس: لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير، فإن لم يجد من يستشير، فليستشر امرأة، ثم ليخالفها، فإن في خلافها البركة، وقد أخرجه ابن لال، ومن طريقه الديلمي من حديث أحمد بن الوليد الفحام، حدثنا كثير بن هشام، حدثنا عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن عمر بن محمد عنه به، وعيسى ضعيف جداً مع انقطاع فيه. (انظر: تذكرة الموضوعات: 128)

النبي المعصوم (142)

أقوله لتعرف شمول الشورى التي كان يمارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله سبحانه تعالى أرسل إلي ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل عليه السلام، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا، لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) (1)

بعد أن لم يجد نيكولاس ما يعترض به على الشورى التي كان يمارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع المجالات راح يقول: ولكن ممارسة الشورى وحدها لا تنفي الاستبداد، فقد يشاور المستبد مستبدين مثله، فيمارس من خلالهم ما تهواه نفسه من الاستبداد.

قال الحكيم: صدقت في هذا.. جزاك الله خيرا..

كان لهذا الدعاء تأثيره الشديد في نفس نيكولاس الذي أشرق وجهه بعد أن كان كالحا.

واصل الحكيم حديثه يقول: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن المستبدين قد يتخذون وزراء يعينونهم على استبدادهم.. وقد ذكر القرآن من نماذج ذلك فرعون الذي قال له ملؤه الذين كانوا مستشاريه: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} (الأعراف:127)

قال نيكولاس: فأنت توافقني فيما أقول إذن؟

قال الحكيم: لو وافقتك حقائق التاريخ لوافقتك.. فهلم جميعا نسأل التاريخ عن موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العدالة التي هي نقيض الاستبداد.

لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أتدري من أولهم؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: لقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إمامٌ عادلٌ)، وذكر صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.

النبي المعصوم (143)

(أن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (1)، فأنت ترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يعمم معنى العدالة لتشمل كل شيء.

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ (2).

فهل يمكن لنبي يدعو إلى مثل هذا، ويأمر بمثل هذا أن يجور!؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: شيء آخر كان يفعله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا، وهو دليل من دلائل انتقاض ما ترميه به من استبداد، وهو تخييره صلى الله عليه وآله وسلم لرعيته بين الاحتمالات المختلفة، ثم قبول ما تختاره منها، أو يترك لكل شخص ما اختاره منها.

وسأقتصر لك من التاريخ مثلين أختم بهما:

أما الأول، فهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما غنم غنائم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: ادع لي قومك، قال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الانصار كلها)، فدعا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإيثارهم على أنفسهم، ثم قال: (إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله تعالى علي بن بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم)

فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وجزاهما خيرا، فقالا: (يا رسول الله بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا)

ونادت الانصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله.

__________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه مسلم.

النبي المعصوم (144)

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار) (1)

وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)

أما النموذج الثاني فإنه بعد غزوة هوازن، وبعد أن أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد السبي إلى أهله عرض على الناس المسألة، وخيرهم في ذلك، فعن المسور ومروان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام في المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد فان إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أراد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول فئ يفيئه الله علينا فليفعل)، فقال الناس: قد طبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم (2).

قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله.

فقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.

وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.

وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنوا سليم فلا.

فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أمسك

__________

(1) فقسم رسول الله (ما أفاء الله تعالى عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدا من الانصار من ذلك الفئ شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم.

(2) رواه البخاري.

النبي المعصوم (145)

منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ يفيئه الله)، فرد المسلمون الى الناس نساءهم وأبناهم.

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيكولاس إيلمنسكي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (146)

ثالثا ـ استكبار

في مساء اليوم الثالث.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (روبرتو كالديرولي) (1).. الرجل الذي احترق في أتون الشيوعية إلى أن ذاب فيها، وذابت فيه.. فصار وكأنه يمثلها، وصارت وكأنها تمثله.. ولكنه جاء بغير الصورة التي ذهب بها.

لقد رأيته عندما ذهب صباحا إلى ميدان الحرية نشيطا، يختال في مشيته جذلا، وكأنه يحمل المدفع الذي يقضي به على ما عجز غيره أن يقضي عليه.

وكان يسير، وهو يردد الآيات التي يريد أن يلقي بقنابلها على الجمع.. ويحفظ معها الروايات التي تقضي على ما تبقي.

لقد ذهب بذلك النشاط في الصباح.. ولكنه عاد خائر القوى في مساء ذلك اليوم.. فابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

__________

(1) أشير به إلى وزير الإصلاح الإيطالي المتطرف (روبرتو كالديرولي) الذي ارتدى بصورة استفزازية قمصانًا مطبوع عليها الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي (في خطوة استفزازية وتحدٍ سافر للمسلمين، بعدما دعا قبل أيام لشن 'حملة صليبية' ضد الإسلام.

ونقلت وكالة أنباء (أنسا) الإيطالية عن (كالديرولي) ـ عضو حزب رابطة الشمال المعادي للأجانب، وخصوصًا المسلمين ـ قوله: (لدي قميص مطبوعة عليه الرسوم التي أزعجت الإسلام، وسوف أبدأ في ارتدائها اليوم)

وأضاف الوزير المتطرف أن على الغرب أن يقف ضد من أسماهم (المتطرفين الإسلاميين)، على حد وصفه، وعرض أن يقدم القمصان لأي شخص يريدها، وزعم أن القمصان ليس المقصود بها الاستفزاز.

وواصل كالديرولي ادعاءاته قائلاً: علينا أن نضع حدًا لهذه الرواية، بأننا يمكن أن نتحدث مع هؤلاء الناس، إنهم يريدون فقط إذلال أشخاص، وهذا كل ما هنالك، وماذا نصبح الآن، حضارة الزبدة المنصهرة.

يشار إلى أن الوزير الإيطالي المتطرف والمعروف بحملاته ضد المسلمين كان قد دعا إلى استخدام القوة ضد المسلمين، وطالب بتدخل بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر لتنظيم حملة صليبية جديدة ضد الإسلام.

وحزب رابطة الشمال الذي ينتمي إليه كالديرولي معروف بمعاداتها للأجانب والمسلمين، وقد سعى لاستثمار جريمة الصحف الغربية في التطاول على محمد (لترويج البرنامج اليميني المتطرف للحزب، قبل شهرين من الانتخابات التشريعية في إيطاليا.

النبي المعصوم (147)

نظر إليهم بابتسامة ذابلة، وقال: ربما.. طبعا.. لولا ذلك الرجل الذي يدعونه حكيما لكانت كل النتائج إيجابية.. لكن.. مع ذلك.. لا يمكن.. حتما.

وضع رجل من الجماعة يده على رأس روبرتو، فوجد الحمى بدأت تتسرب إليه، فالتفت إلى الجماعة، وقال: لا ينفع استجواب صاحبنا، فقد دبت إليه حمى شديدة.. ولن نسمع من محموم إلى الهذيان.

أخذ أخي القرص.. ووضعه في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا روبرتو يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال رجل من الجمع: وكيف لا نعرفه؟.. ومن لا يعرفه؟

وقال آخر: إن كان لديك حديث عنه، فحدثنا، فلا تحلو المجالس إلا بذكره، ولا تتعطر الأيام إلا بذكراه.

هنا صاح روبرتو كالثور الهائج قائلا: كيف تقولون هذا؟.. إن محمدا هذا الذي سلب عقولكم لا يعدو أن يكون مستكبرا من المستكبرين العظام الذين تشوه بهم تاريخ الإنسانية.. إنه عدو الفقراء والمستضعفين.. إنه ذلك البرجوازي الذي أراد أن تظل البروليتاريا تقدم خدماتها للرأسماليين النفعيين.. إنه الذي سقى المستضعفين الأفيون الذي تخدروا به، فانمحوا أمام المستكبرين.

ظهر الغضب على كثير من أفراد الجماعة، لكنهم لم يجدوا أن يفعلوا شيئا، فهذا الميدان يسمح لكل أحد أن يقول ما يشاء، ويعتبر مجرما كل من مس أحدا بأذى من أجل فكرة يطرحها.

هنا ظهر الحكيم، وصاح من بعيد في زميلنا (روبرتو) قائلا: لقد طرحت دعاوى عريضة.. ربما لم تسبق إليها.. ونحن نحترم دعاواك ولا نتهمك فيها.. ولكنا لن نقبلها منك حتى تعطينا من البينات ما يدل عليها فـ:

النبي المعصوم (148)

الدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء

لم يعجب روبرتو الأسلوب الذي تحدث به الحكيم، فقد كان يحب الثورة، ولم يكن يعرف الانتصار إلا بالثورة، لكنه قال بهدوء متكلف: نعم.. لدي بينات.. وبينات كثيرة لا يمكن لهذا الجمع أن يستوعبها.

وسأبدأ من القرآن نفسه.. فخير من عرف بمحمد هو القرآن..

لقد جاء فيه هذا العتاب الشديد على ميل محمد إلى المستكبرين وهجره للمستضعفين: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:1 ـ 10)

فهذه الآيات تتحدث عن قصة محمد مع ابن أم مكتوم، وقد ذكر المفسرون أن محمدا كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل محمدا عن شيء ويلح عليه.. ولم يجد محمد إلا أن يعرض عنه.. أن يعرض عن ذلك المستضعف ليقبل على غيره من المستكبرين (1).

__________

(1) اختلف المفسرون فيمَن هو المعاتب في الآيات الكريمة على رأيين:

الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه (وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.. وكان رسول اللّه (بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: (مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي)، ويقول له: (هل لك من حاجة).استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين)

الثاني: ما روي عن الإمام الصادق: (إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه) (تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

وقد قال ناصر مكارم الشيرازي عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي (والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:

أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه (بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.

ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ (عبد اللّه بن اُم مكتوم) لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي (مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي (، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي (صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه...

ومن مكارم خلقه (كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل: ج 19، ص 412)

النبي المعصوم (149)

أليس في هذا أعظم دليل على استكبار محمد؟

قال الحكيم: أرأيت لو كنت في ذلك الموقف ماذا كنت ستصنع؟

قال روبرتو: لا شك أني أقبل على المستضعف.. وأصفع ذلك المستكبر.

قال الحكيم: ألا ترى أنك ـ بذلك ـ تمارس عنصرية مقيتة؟

قال روبرتو: عندما أميل إلى المستكبر تكون العنصرية.. لا عند ميلي للمستضعف.

قال الحكيم: كلاهما سواء.. المستكبر والمستضعف كلاهما بشر.. وكلاهما يحتاج إلى التعرف على الحق.. بل إن حاجة المستكبر أشد، فقد يكون الحائل بينه وبين الحق شبهة أو شهوة أو جهل.. وإقبالك عليه قد يداويه من كل ذلك.

قال روبرتو: ولكني لن أفعل أبدا مثل محمد.. لن أترك المستضعف من أجل المستكبر.

قال الحكيم: إن محمدا لم يترك المستضعف.. وإنما طمع في المستكبر.

النبي المعصوم (150)

لقد كان يعلم أن المستضعف من أتباعه، وأنه ـ لذلك ـ يمكنه أن يتعلم منه في أي وقت.. أما المستكبر، فلم يكن من أتباعه، ولذلك لا مطمع في سماعه منه إلا الفينة بعد الفينة.

قال روبرتو: فلم عاتب ربكم محمدا إذن؟

قال الحكيم: العتاب الموجه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم - في حال صحة ما رويت- هو في حقيقته توبيخ لذلك المستكبر.. فهو توبيخ لبس لباس عتاب.. ولم يكن العتاب مقصودا لذاته.

قال روبرتو: لم أفهم.

قال الحكيم: أرأيت لو أنك جلست مع أحمق تريد أن تقنعه بشيء، وهو يجادلك فيه.. فجاءك صديق، وقال لك ـ وذلك الأحمق يسمع ـ: (لم تضيع وقتك في الحديث مع مثل هذا.. إن الحديث مع هذا مضيعة للوقت).. هل ترى في كلامه عتابا لك، أم تراه توبيخا لذلك الأحمق؟

قال روبرتو: أرى فيه كليهما.

قال الحكيم: ولكن العتاب الموجه إليك في هذا عتاب منطلق من محب لك.. أم أنك تخالفني في هذا؟

قال روبرتو: أجل.. ذلك صحيح.. فلولا محبته لي ما نهاني عن تضييع وقت مع من لا يجدي معه حديثي شيئا.

قال الحكيم: فهكذا قس الأمر على حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك المستكبر.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم امرؤ امتلأ محبة لخلق الله وحرصا عليهم.. فلذلك لم يكن يحمل أي حقد على أي أحد من الناس مستكبرا أو مستضعفا.. بل كان يبلغ الكل.. ويحرص على الكل..

لقد قال له ربه يعاتبه على ذلك الحرص الشديد على إيمان الخلق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6)، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا

النبي المعصوم (151)

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)

ونهاه أن يحزن على إعراضهم، فقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:176)، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:41)، وقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لقمان:23)

قال روبرتو: سلمت لك بهذا.. ولكني لن أسلم لك بأن محمدا كان في صف المستضعفين.

قال الحكيم: إن هذا يستدعي بحثا في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه المختلفة.. وأرى أن المنهج العلمي في التحقيق في هذا يقتضي البحث في مسألتين:

أما الأولى، فالبحث في موقفه من المستضعفين.

وأما الثانية، فالبحث في نوع الحياة التي عاشها، وهل هي أقرب لحياة المستضعفين أم هي أقرب لحياة المستكبرين.

قال روبرتو: يكفيني أن تثبت الأولى.

قال الحكيم: بل الكمال في إثبات الثانية، فكم من مستكبر يدعي أنه مع المستضعفين، وهو يعيش على دمائهم وعرقهم.. وكم من مستكبر يجعل من نصرة المستضعفين أحبولة يصطاد بها القلوب والعقول ليحقق ما تمليه عليه شهواته.

قال روبرتو: ليس الشأن أن نعرف القوانين.. ولكن الشأن في أن نثبتها.

النبي المعصوم (152)

قال الحكيم: فاصبر علي حتى أثبت لك كل ذلك (1).

موقفه من المستضعفين

قال روبرتو: فابدأ بإثبات الدعوى الأولى.

قال الحكيم: أول ما يثبت الدعوى الأولى هو ما ذكرت من عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ذلك الأعمى.. ألا ترى في إنزال عشر آيات قرآنية من أجل رجل بسيط فقير أعمى قلاه الناس وهجروه ما يدلك على عظم المكانة التي يحتلها الفقراء والمستضعفون في هذا الدين؟

سكت روبرتو، فقال الحكيم: ومثل ذلك ما روي أن المشركين عز عليهم أن يكون عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضعفاء الناس وفقراءهم، فقالوا: لو نحاهم لأتيناه فأنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)

ومثل ذلك ما ورد من الأمر بالصبر مع هؤلاء المستضعفين مع طيب الثناء عليهم، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)

ثم بعد هذا.. اذهب لتقرأ القرآن.. وقد كان خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن.. فلن تجد فيه إلا الأمر بالإحسان للمستضعفين والدعوة إلى رحمتهم، وبيان العذاب الأليم لمن قسى عليهم.

اقرأ في القرآن قوله تعالى وهو يحث على الجهاد والتضحية بالنفس في سبيل نصرة المستضعفين: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ

__________

(1) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (153)

لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)

واقرأ فيه تلك الوصايا المتكررة بالمستضعفين، قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء:127)، وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الاسراء:34)

واقرأ فيه تلك الوصايا الرقيقة باليتامى قال تعالى: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر:17)، وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} (الضحى:9)

بل إن القرآن الكريم اعتبر من يؤذي اليتيم مكذبا بالدين، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} (الماعون)

فإن لم يكفك كل هذا، فاذهب إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف حضت على الإحسان للمستضعفين وكفالة جميع ما يرتبط بهم من حاجات بدءا بالحاجات النفسية، وانتهاء بجميع الحاجات المادية.

قال أبو ذر: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني، وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحدا شيئا، وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، فانها من كنز الجنة) (1)

وعنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انظر أرفع رجل في المسجد)، قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة قلت: هذا قال: قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، قال: فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق قال: قلت: هذا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض

__________

(1) رواه أحمد والطبراني.

النبي المعصوم (154)

مثل هذا) (1)

وعن مصعب بن سعد قال رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) (2)

وعن واثلة بن الأسقع قال: كنت في أصحاب الصفة فلقد رأيتنا وما منا إنسان عليه ثوب تام وأخذ العرق في جلودنا طرقا من الغبار والوسخ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ليبشر فقراء المهاجرين، إذ أقبل رجل عليه شارة حسنة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرف قال: (إن الله عز وجل لا يحب هذا وضربه، يلوون ألسنتهم للناس لي البقر بلسانها المرعى كذلك يلوي الله عز وجل ألسنتهم ووجوههم في النار) (3)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) (4)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله دينارا لم يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه فلو سأل الله الجنة أعطاها إياه ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) (5)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك)، ثم نقر بيده، فقال: (عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه) (6)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد

__________

(1) رواه أحمد بأسانيد رواتها محتج بهم في الصحيح وابن حبان في صحيحه.

(2) رواه البخاري والنسائي وعنده فقال النبي (: (إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)

(3) رواه الطبراني بأسانيد أحدها صحيح.

(4) رواه مسلم.

(5) رواه الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح.

(6) رواه الترمذي.

النبي المعصوم (155)

محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار) (1)

التفت الحكيم إلى روبرتو، وقال: إن كل هذه النصوص ملأت نفوس المستضعفين قوة، فلم يعودوا يشعرون بتلك المهانة ولا ذلك الاحتقار الذي نفخه فيهم فقرهم، أو القوانين والأعراف التي وضعها المستكبرون والتي كانت تعتبر الفقر بلاء وإهانة من الله لعباده.

قال روبرتو: ولكن المعنويات المرتفعة لا تكفي وحدها لإشباع بطون المستضعفين الخاوية؟

قال الحكيم: ولذلك ورد في النصوص الحث ـ بكل الأساليب ـ على إطعام المستضعفين.. لقد ذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل طعام لا يحضره مسكين، فقال: (شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها) (2)

أما القرآن، فقد حفل بالدعوة إلى إعطاء {ِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ((لأنفال:41) وغيرهم من أصناف المستضعفين.

ففي أموال الفيئ يقرن المستضعفون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته، قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ((الحشر:7)

ويخبر تعالى أن من شروط مجاوزة العقبة التي تحول بين الإنسان وفضل الله الإحسان إلى اليتامى، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة} (البلد:11 ـ 15)

بل إن الله تعالى ـ من باب الحث على الاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه ـ يخبرنا عن إيوائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يتيما، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ((الضحى:6)

أما من السنة، فقد وردت النصوص الكثيرة التي تعتبر الإحسان إلى اليتامى من خير أعمال

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه مسلم.

النبي المعصوم (156)

البر، فخير بيوت المسلمين بيت يكفل يتيما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه) (1)

بل إن المسح على رأس اليتيم عطفا وحنانا ورحمة يكتب لصاحبه بكل شعرة حسنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كانت له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات) (2)، بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بأن الساعي عليهم كالمجاهد والقائم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر) (3)

وأول جزاء يجازى به المحسن لليتيم أنه في حال إحسانه يبتعد عنه الشيطان، وبابتعاده تحل البركة، وينزل الخير، كما روي: (ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان) (4)

ومن الجزاء الذي يجازى به المحسن المغفرة، هي من أعظم الجزاء، وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم ما أعده الله لكافل اليتيم منها، فقال: (من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه) (5)

وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعذب من رحم اليتيم، وفيه دلالة على مغفرة ذنوبه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم

__________

(1) رواه ابن ماجه.

(2) رواه أحمد وغيره.

(3) رواه البخاري ومسلم.

(4) رواه والطبراني في الأوسط وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وهناك حديث آخر قريب منه هو (ما من مائدة أعظم بركة من مائدة جلس عليها يتيم) رواه لديلمي.

(5) رواه ابن سعد، والطبراني في الكبير.

النبي المعصوم (157)

يتمه وضعفه، ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله) (1)

وأخبرت النصوص أن جزاء المحسن لا يتوقف عند ذلك الحد، بل إن الإحسان إلى اليتيم لا يزال بصاحبه حتى يدخله الجنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له) (2)، وفي رواية: (حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة)

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المحسنين إلى اليتامى من أول من يدخلون الجنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول ما لك ومن أنت؟ تقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) (3)

وفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا الجزاء في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ((الانسان:8)، فقد ذكر قبل هذه الآية الجزاء المعد هؤلاء، وهو من أعظم الجزاء، قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ((الانسان:5 ـ 6)

بل ورد في النصوص ما هو أعظم من ذلك كله، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن كافل اليتيم رفيقه في الجنة بصيغ مختلفة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما) (4)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة) وأشار بالسبابة والوسطى (5)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كفل يتيما له ذو قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو في الجنة كهاتين وضم إصبعيه، ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة، وكان له كأجر المجاهد في سبيل الله صائما

__________

(1) رواه الطبراني.

(2) رواه الترمذي وصححه.

(3) رواه أبو يعلى بسند حسن.

(4) رواه البخاري.

(5) رواه مسلم.

النبي المعصوم (158)

قائما) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة أخوان، كما أن هاتين أختان، وألصق إصبعيه السبابة والوسطى) (2)

والشريعة الإسلامية لم تترك كل ذلك لضمائر الناس، وإنما شرعت التشريعات الكثيرة التي تكفل التكافل الاجتماعي في أرفع صوره وأرقى أساليبه مما لم يصل إليه البشر في أي حضارة من الحضارات (3).

حياة المستضعفين

قال رجل من الجمع: لقد أثبت الدعوى الأولى، فأثبت الثانية.

قال الحكيم: كل شيء في الأولى يدلك على الثانية.. فالرجل الذي دافع كل ذلك الدفاع عن المستضعفين.. بل لم يقم في العالم من يدعو لدولة المستضعفين كمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لم يكن في حياته يعيش إلا كواحد منهم.

لقد امتلأ بالعبودية التي قربته من كل الناس، فقيرهم وضعيفهم ومسكينهم ومريضهم.. وكل من هجره الناس وجد في محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصدر الحنون الذي يستقبله ويرعاه ويملؤه بالأنس.

لقد خير صلى الله عليه وآله وسلم بين حياة الكبراء الملوك، وبين حياة العبودية، فاختار حياة العبودية:

روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو جالس، ومعه جبريل - عليه السلام -، إذ انشق أفق السماء، فأقبل جبريل يدنو من الأرض، ويدخل بعضه في بعض، ويتضاءل، فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول

__________

(1) رواه البزار.

(2) رواه ابن ماجه.

(3) انظر في تفاصيل هذا رسالتي (كنوز الفقراء) و(مفاتيح المدائن) و(رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (159)

الله صلى الله عليه وآله وسلم (1)، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى جبريل - عليه السلام - كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا)

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة بعد أن أخبرها هذا الحديث: (يا عائشة لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) (2)

وقد عرفه الناس بهذا المظهر الممتلئ بالعبودية، عن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ (3).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الظهور بهذا المظهر الذي يقربه من الكل يتعمد على أن يتميز عن المستضعفين بأي شيء يجعله يهابونه:

ففي الوقت الذي يحرص فيه المستكبرون على تخير المراكب وتزيينها لبث المهابة في القلوب (4) كان صلى الله عليه وآله وسلم يركب أبسط المراكب.. والتي يستحيل على المستعلين أن يركبوها:

عن أبي ذر قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمارا وأردفني خلفه (5).

__________

(1) في لفظ: إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي (ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل - عليه السلام -.

(2) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.

(3) رواه ابن سعد.

(4) ويشير إلى ذلك قوله تعالى حكاية عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص:79)

(5) رواه أحمد ومسلم.

النبي المعصوم (160)

وعن يزيد الرقاشي قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، وقال: (اللهم حجة مبرورة، لا رياء فيها، ولا سمعة) (1)

وعن أنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقود راحلته، ويمشي هنيهة (2).

وعن أبي المثنى الأملوكي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قبله من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يمشون على العصا، يتوكئون عليها، تواضعا لله عز وجل (3).

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويردف بعده، ويجيب دعوة المملوك (4).

وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعقل الشاة، ويأتي مدعاة الضعيف (5).

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف (6).

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة، وذقنه على رحله متخشعا (7).

وعنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعا (8).

وروي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمار، وهو يمشي، فقال له: اركب يا رسول الله،

__________

(1) رواه الحارث بن أبي أسامة.

(2) رواه بقي بن مخلد.

(3) رواه ابن الأعرابي.

(4) رواه ابن سعد.

(5) رواه الحاكم.

(6) رواه الترمذي.

(7) رواه الحاكم.

(8) رواه أبو يعلى.

النبي المعصوم (161)

فقال: (إن صاحب الدابة أحق بصدر دابته، إلا أن يجعل له)، قال: قد فعلت (1).

وفي الوقت الذي يحرص فيه المستكبرون على أجمل الثياب وأغلاها كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخير أبسطها، وأقربها إلى ثياب الفقراء:

عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر) (2)

وروى عن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي مع أصحابه إذ أخذ رجل منهم، فستره بثوب فلما رأى ما عليه، رفع رأسه، فإذا هو علاه قبلي ستر، فقال: (مه)، فأخذ الثوب، فوضعه، وقال: (إنما أنا بشر مثلكم) (3)

وفي الوقت الذي يتخبر فيه المتكبرون جلساءهم وندماءهم كان صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع المستضعفين من الفقراء والمرضى الذين قلاهم الناس:

عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه) (4)

وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما (5).

وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم

__________

(1) رواه الحاكم.

(2) رواه ابن عدي.

(3) رواه ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي.

(4) رواه أبو داود والترمذي.

(5) رواه الدارمي.

النبي المعصوم (162)

من حاجاتهم (1).

عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة) (2)

وعن أنس قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها (3).

وعن عدي بن حاتم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر (4).

وعن أنس قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة (5).

وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم (6).

وعندما لاحظ العباس ما يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك قال له: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني

__________

(1) رواه الخرائطي.

(2) رواه ابن ماجه.

(3) رواه أحمد ومسلم.

(4) رواه البخاري في الأدب.

(5) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.

(6) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.

النبي المعصوم (163)

منهم) (1)

وفي الوقت الذي تقام فيه للمستكبرين الموائد الضخمة كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ببساطة وتواضع.

عن عبد الله بن عمرو قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئا، ولا يطأ عقبه رجلان (2).

وعن ابن عباس، وأنس قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، زاد أنس: ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) (3)

وعن الحسن قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده (4).

وعن عبد الله بن بسر قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال: (إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا) (5)

وفي الوقت الذي يجلس فيه المستكبرون لينحني المستضعفون بالسلام عليهم كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام:

__________

(1) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

(2) رواه أحمد، وأبو داود.

(3) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن سعد عن أنس.

(4) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر، وقال: هذا حديث مرسل، وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.

(5) رواه ابن ماجه.

النبي المعصوم (164)

عن هند بن أبي هالة وعن أمه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام (1).

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على صبيان، فسلم عليهم (2).

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استقبله الرجل وصافحه، لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له (3).

وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد أبي رداً خفياً، فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله، فقال: زده حتى يكثر علينا من السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها ثم رفع يديه وهو يقول: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد) (4)

وفي الوقت الذي يتخذ فيه المستكبرون أصناف الخدم والحشم كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بيده:

عن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة (5).

وعن أبي سعيد وغيره من الصحابة قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال: (يا غلام هكذا فاسلخ) (6)

__________

(1) رواه الترمذي، وصححه، والبيهقي.

(2) رواه البخاري.

(3) رواه الترمذي وابن ماجه.

(4) رواه أحمد.

(5) رواه ابن أبي شيبة.

(6) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني.

النبي المعصوم (165)

وعن حسنة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعالج حائطا، أو بناء له (1).

وعن ابنة خباب أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاة فاعتقها فحلبها، وقال: (ائتني بأعظم إناء لكم)، فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها، قال: (اشربوا أنتم وجيرانكم) (2)

وعن عبد الله بن عبد العزيز العمري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهما استكفى أهله من شئ لم يكن يستكفيهم صب الوضوء لنفسه، وإعطاء المسكين بيده، ويكفيهم إجانة الثياب (3).

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد روبرتو ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) رواه البخاري في الأدب المفرد.

(2) رواه أبو داود الطيالسي.

(3) رواه أبو الحسن بن الضحاك.

النبي المعصوم (166)

رابعا ـ استغلال

في مساء اليوم الرابع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل جيري فالويل (1).. وهو في مظهره الخارجي يمثل رجل دين كأحسن ما يكون رجال الدين هيبة ووقارا.. ولكنه في حقيقته التي لا يعرفه من خلالها إلا خواص أصحابه من أعظم رجال الدنيا، وأكثرهم شغفا بها وحرصا عليها وتضحية في سبيلها بكل شيء..

لقد كنت أرى فيه شخص (يهوذا الأسخريوطي) بكل ما يمثله يهوذا من معاني.. فإن كان يهوذا قد سلم المسيح من أجل قليل من المال.. فإن هذا يسلم بكل مبادئ المسيح من أجل ذلك القليل.

وقد كان لهذه الصفة فيه سيء الظن بمن حوله، فلا يرى من يقترب منه أو يتودد إليه إلا لصا يريد أن ينال من ماله، أو يأكل من طعامه.. فلذلك تجده أبعد الناس عن الناس.. يبتسم لهم.. ولكنه سرعان ما يعرض عنهم حتى لا يطمع أحد فيه..

ولكنه إن وجد في الناس من يستطيع أن يأكل هو من طعامه، أو ينال هو من ماله أقبل عليه إقبالا كليا، وسلمه ما شاء من صكوك الغفران..

وكان لهذا يذكرني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة:34)

__________

(1) أشير به هنا إلى قسيس إنجيلي معروف بهذا الاسم يقيم في منطقة لينشبرج في منطقة فيرجينيا، له برنامج أسبوعي إذاعي وتلفزيوني يصل إلى أكثر من 10 ملايين منزل أسبوعيا، وله جامعة خاصة أصولية تسمى جامعة الحرية، يهاجم النبي (من خلال وسائل إعلامية أمريكية كبرى، إضافة إلى موقعه الخاص على الانترنت [www.falwell.com] وضع في صفحته الأولى تاريخا زائفا عن النبي (، ومن أقواله التي ذكرها في برنامجه الذي استغرق مدة 60 دقيقة في 6/ 10/2002 م: (أنا أعتقد أن محمدا كان إرهابيا، في اعتقادي.. المسيح وضع مثالا للحب كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمدا وضع مثالا عكسيا، وإنه كان لصا وقاطع طريق)

وهذا القول هو الذي جعلنا نختاره لهذا الفصل.

النبي المعصوم (167)

دخل جيري فالويل في ذلك المساء دار الندوة الجديدة بوجه لا يصعب على أي أحد أن يرى ما فيه من تغير..

ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بقسوة، وقال: أرى أننا نريد أن نخرج الماء من بئر شحيحة لا تسح بقطرة.. فدعنا منهم.. ولنبحث عن منبع آخر.. فليس عند أولئك الأشحاء شيء.

قالوا: ماذا فعلت معهم؟

قال: لقد رميتهم بكل أسلحتي.. لكنهم استغلوا بعض النصوص راحوا يصفعون بها وجهي.. ويستغلون بها طهارة قلوب العوام ليقنعوهم بدين اللصوص وقطاع الطرق.

قال ذلك، ثم راح يستغرق في اللاشيء المحيط به.. ابتدر أخي، ووضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:

ظهر جيري فالويل في ميدان الحرية محاطا بجماعة من الناس، وهو يقول لهم: هل تريدون وصفا جامعا لمحمد يغنيكم عن كل وصف؟

قال رجل من الجماعة: أي محمد تقصد؟.. هل تقصد ذلك النبي الذي ظهر في تلك الصحراء المجدبة فحولها جنة فيحاء.. وظهر في ذلك الزمن المملوء بالظلمات، فحوله زمنا مملوءا بالأنوار؟

قال جيري: بل أقصد ذلك اللص قاطع الطريق الذي راح يستغل كل شيء ليحقق لنفسه كل شيء.

قال الرجل: فأنت تقصد رجلا يسمى بمحمد غير النبي محمد؟

قال جيري: بل لا أقصد غير ذلك الرجل الذي استغل بساطة الناس، فراح يدعي النبوة ليجني منها ما شاءت له نفسه من أموال وجاه.

هنا ظهر الحكيم كالنور المشرق، وصاح: أرى أنك صاحب بنك؟

النبي المعصوم (168)

قال جيري: لا.. بل أنا رجل دين.

قال الحكيم: يمكن لرجل الدين أن يملك بنكا.. لا حرج عليه في ذلك.. لا حرج عليه في المسيحية، ولا حرج في الإسلام.

قال جيري: فلنفرض أني أملك بنكا.. ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

قال الحكيم: أصحاب البنوك في العادة هم الذين يعرفون مقادير الثروات التي تخفى على سائر الناس.

قال جيري: فلنفرض ذلك.. ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

قال الحكيم: لذلك علاقة عظيمة.. فأنت قد ذكرت بأن محمدا إنسان استغل النبوة لبجني من ورائها أموالا وجاها.. وصاحب المال يحتاج أن يضع ماله في بنك ليحفظه ويزيده.

قال جيري: لا شك أنك مجنون.

قال الحكيم: لم؟

قال جيري: لأن محمدا مات منذ قرون طويلة.. ولم يكن أهل تلك القرون يسمعون بالبنوك.

قال الحكيم: فكيف عرفت ثروة محمد.. وأنه جناها من خلف ستار النبوة؟

قال جيري: كل شيء يدل على ذلك.. فرجل بسيط كان يرعى الغنم بقراريط يتحول إلى زعيم عظيم تجبى إليه الأموال من كل صوب.. وتجبى إليه قبلها القلوب لاشك أنه إنسان مستغل.. أو بتعبير آخر أكثر صراحة: لاشك أنه لص مختبئ في ثياب نبي.

قال الحكيم: دعنا من الصراحة الوقحة.. ولنبحث في حقائق التاريخ عن حياة محمد، وعلاقتها بما تسميه استغلالا أو لصوصية.

قال جيري: أنا لم أحكم بما ذكرت لك إلا انطلاقا من حقائق التاريخ.

قال الحكيم: قبل أن أجيبك من حقائق التاريخ أجبني..

النبي المعصوم (169)

قال جيري: سل ما بدا لك.

قال الحكيم: لو أن لصا طالب جاه ومنصب استدعاه الملأ من قومه، وعرضوا عليه أموالهم وما اشتهاه من منصب وجاه من غير تعب منه ولا نصب، فأعرض عن ذلك، وقال: أنا لا أريد أن آخذ أموالكم إلا بالتعب والنصب، ولن أتأمر عليكم إلا بعد أن يشتعل رأسي شيبا، وتشتعل حياتي ألما وتعبا وهما وغما.

قال جيري: مجنون من يقول هذا.. ولا أظن أن هناك لصا في الدنيا يعرض عن الفريسة السهلة ليقع على الفريسة الشديدة.. إن الأسود مع بهيميتها وصغر عقولها لا تفعل ذلك.

قال الحكيم: فهل ترى محمدا صاحب عقل وحكمة، أم أنك تراه أضعف عقلا من الأسود وسائر الوحوش؟

قال جيري: بل أرى عقله قد اجتمعت فيه العقول، ولكنه راح يستغله في الحيلة ليقتنص من المال والجاه ما لم يحلم به أبوه وجده.

قال الحكيم: لقد روى المؤرخون الذين تستند إليهم أن محمدا قد عرض عليه في بداية حياته الدعوية ـ أي في نواحي الأربعين ـ كل ما يشتهي من جاه ومال ومنصب.. ولكنه أعرض عن ذلك..

سكت قليلا، ثم قال: سأحدثك حديث ذلك.. فلعله لم يبلغك.

لقد روى المؤرخون بأسانيد كثيرة (1) أن قريشا اجتمعت يوما بعد أن رأت أن الإسلام لا تزيده الأيام إلا قوة، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا شتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير

__________

(1) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله والبيهقي وابن عساكر.

النبي المعصوم (170)

عتبة بن ربيعة (1)، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه.

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم.. فتكلم نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وأشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وإن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا بعضا إليك بالسيوف حتى نتفانى.

لما رأى صمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إجابته له، قال: أيها الرجل، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل أبا الوليد أسمع)

فقال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعناه لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به الشرف سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطلب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئكك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.

حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمعه منه قال له: أقد فرغت أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل.

فراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ من سورة فصلت، فلما سمعه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، فسمع منه إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ثم انتهى

__________

(1) وعند ابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي: أن عتبة بن ربيعة قال يوما، وكان جالسا في نادي قريش، والنبي (جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله (يزيدون ويكثرون.

النبي المعصوم (171)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فقال: ما عندك غير هذا؟ فقال: ما عندي غير هذا.

فقام عتبة ولم يعد إلى أصحابه واحتبس عنهم فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه، فأتوه.

فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.

فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، قالوا: فما أجابك؟ قال: والله الذي نصها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

قالوا: ويك يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال؟! قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، يا قوم أطيعوني في هذا الأمر واعصوني بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه.

قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد.

قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.

التفت إلى جيري، وقال: أرأيت هذا الموقف.. هل يمكن لإنسان حريص جشع لص لم ينهض إلا ليحقق مآربه الشخصية أن يقف مثل هذا الموقف؟

ليس ذلك فقط.. ولم يعرض عليه ذلك في ذلك المحل فقط.. بل عرض عليه في محال

النبي المعصوم (172)

كثيرة إلى أن ملأ قلوب أعدائه يأسا بقوله لعمه: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى، والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته)

ليس ذلك فقط.. بل إنه لم يقبل أن ينتصر مع التخلي عن جزء بسيط من المبادئ التي كلف بأدائها، لقد روي أنه ـ في تلك الأيام الشديدة التي اشتد فيها أذى أعدائه عليه وعلى أصحابه ـ أتى إلى قبيلة بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم اسمه (بَيْحَرَة بن فِرَاس): (والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب)، ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء)، فقال الرجل: (أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه)

التفت إلى جيري، وقال: هل ترى هذا التصرف تصرف مستغل للفرص منتهز لها.. لقد كان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ما تفعله أكثر الأحزاب، حين تتخلى عن مبادئها، وتتحالف مع العدو والصديق.. لتحقق من مآربها الشخصية ما تشاء، ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك.. لقد كانت مبادئه أغلى من كل شيء.

قال جيري: يمكنك أن تذكر كل ذلك.. ويمكنك أن تذكر أكثر من ذلك، ولكن تاريخ محمد أوسع من أن ينحصر في حياته المكية..

ربما أسايرك في أن محمدا بدأ حياته كصاحب مبدأ.. ولكنه فعل في الأخير ما يفعله أكثر أصحاب المبادئ.. فإنهم سرعان ما يتيهون عن مبادئهم حين يعتلون عروش السلطة، أو حين يبهرهم بريق الذهب.

قال الحكيم: فأنت تريد إذن أن أحدثك عن حياته المدنية؟

قال جيري: في تلك الحياة استغل محمد منصبه أكبر استغلال.

قال الحكيم: إن المستغل هو الذي يأخذ ولا يعطي.. يأخذ كل شيء، ثم لا يعطي شيئا..

النبي المعصوم (173)

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن كذلك.. بل كان العفيف الذي لا يأخذ، والكريم الذي لا يتوقف عن العطاء.. ويستحيل على المستغل أن يكون له هذان الخلقان.

قال جيري: من السهل أن تدعي ما تشاء.

قال الحكيم: فلنحتكم إلى حقائق التاريخ وأسانيده لنرى كيف كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.. وما علاقتها بما يفعله المستغلون من تلصص وشح.

العفاف

تعلقت أنظار الجماعة بالحكيم، فشجعه ذلك على أن يتحدث عن الأدلة النافية للشبهة التي طرحها صاحبنا جيري فالويل.

قال الحكيم: لعل أول صفة وأعظم صفة في محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي صفة يشاركه فيها جميع رسل الله وأنبياؤه.. هي عفافه عن أموال الناس وزهده فيها..

لقد قال الله تعالى يذكر ذلك، ويأمره به: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90)، وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)، وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (صّ:86)

ولهذا اعتبر القرآن الكريم من أدلة صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم عفافه عن أمواله قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (الطور:40)، وقال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (المؤمنون:72)

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينال على تلك الوظيفة الخطيرة التي كلف بها، والتي جعلته لا يرتاح ليل نهار، أي أجر سوى الأجر الذي أعده الله له.

بل هو فوق ذلك أمر بأن يعيش جميع حياته ـ مهما فتح الله عليه من الدنيا ـ بتواضع وزهد

النبي المعصوم (174)

وبعد عن الملذات التي يتهافت عليه الناس، قال تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر:88)، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)

بل إن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتكين من شدة العيش التي كن يعشنها، فنزل القرآن الكريم يخيرهن بين تلك الحياة التي فرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم وظيفته الخطيرة، وبين السراح للتمتع بما شئن من الحياة الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} (الأحزاب)

التفت الحكيم إلى جيري، وقال: لقد كان ذلك في المدينة المنورة، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو زعيمها الأوحد..

لقد كان في إمكانه حينها أن ينعم بأجمل حياة وأمتع حياة.. ولكنه رفض كل ذلك، وعاش حياة لا يعيشها أدنى فقيرا رأيته في حياتك.

لن أجازف، فأتكلم كلاما من عندي، ولذلك سنذهب إلى التاريخ الذي رضيت أن نعتبره حكما.. فالتاريخ هو الوحيد الذي يفسر تلك الآيات التي تبين كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.

حدث ابن عباس قال: كنت أريد أن أسأل عمر عن قول الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم:4)، فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة، فقلت: لئن لم أسأله في هذه الحجة لا أسأله، فلما قضينا حجنا أدركناه، وهو ببطن مر، وقد تخلف لبعض حاجاته، فقال: مرحبا بك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حاجتك؟ قلت: شئ كنت أريد أن أسألك عنه، فكنت أهابك فقال:

النبي المعصوم (175)

سلني عما شئت، فإنا لم نكن نعلم شيئا حين تعلمنا، فقلت: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} من هما؟ قال: لا تسأل أحدا أعلم بذلك مني، كنا بمكة لا يكلم أحدنا امرأته، إنما هي خادم البيت، فلما قدمنا المدينة، تعلمنا من نساء الأنصار، فجعلن يكلمننا ويراجعننا، وإني أمرت غلمانا لي ببعض الحاجة، فقالت امرأتي: بل اصنع كذا وكذا، فقمت إليها بقضيب، فضربتها به، فقالت: يا عجبا لك، يا بن الخطاب! تريد أن لا تكلم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلمه نساؤه، فخرجت فدخلت على حفصة، فقلت: يا بنية، انظري لا تكلمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تسأليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس عنده دينار ولا درهم يعطيكهن، فما كانت لك من حاجة حتى دهن رأسك فسليني.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم دخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن جلس عندها، وإنها أهديت لحفصة بنت عمر عكة عسل من الطائف أو من مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل يسلم عليها حبسته حتى تلعقه منها أو تسقيه منها، وأن عائشة أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرية عندها حبشية ـ يقال لها خضراء ـ: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها، فانظري ما يصنع فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت عائشة إلى صواحبتها، فأخبرتهن، وقالت: إذا دخل عليكن فقلن: إنا نجد منك ريح معافيرن ثم إنه دخل على عائشة، فقالت: يا رسول الله، أطعمت شيئا منذ اليوم، فإني أجد منك ريح مغافير، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد شئ عليه أن يوجد منه ريح شئ، فقال: هو عسل، والله لا أطعمه أبدا حتى إذا كان يوم حفصة، قالت: يا رسول الله، إني لي حاجة إلى إن نفقت لي عنده، فأذن لي أن آتيه فأذن لها، ثم إنه أرسل إلى جاريته مارية، فأدخلها بيت حفصة، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو فزع ووجهه يقطر عرقا، وحفصة تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، أما والله ما يحل لك هذا يا رسول الله،

النبي المعصوم (176)

فقال: والله، ما صدقت: أليس هي جاريتي، قد أحلها الله تعالى لي، أشهدك أنها علي حرام، ألتمس بذلك رضاك، انظري لا تخبري بذلك امرأة منهن، فهي عندك أمانة.

فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشري، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم أمته، فقد أراحنا الله منها.

فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التحريم:1)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} (التحريم:4)، فهي عائشة وحفصة، وزعموا أنهما كانتا لا تكتم إحداهما للأخرى شيئا، وكان لي أخ من الانصار إذا حضرت، وغاب في بعض ضيعته، حدثته بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا غبت في بعض ضيعتي، حدثني فأتاني يوما وقد كنا نتخوف جبلة بن الايهم الغساني، فقال: ما دريت ما كان؟ فقلت: وما ذاك؟ لعله جبلة بن الايهم الغساني، تذكر قال: لا ولكنه أشد من ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح، فلم يجلس كما كان يجلس، ولم يدخل على أزواجه كما كان يصنع، وقد اعتزل في مسربته، وقد ترك الناس يموجون ولا يدرون ما شأنه، فأتيت والناس في المسجد يموجون ولا يدرون فقال: يا أيها الناس كما أنتم.

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسربته، قد جعلت له عجلة، فرقى عليها، فقال لغلام له أسود ـ وكان يحجبه ـ: استأذن لعمر، فاستأذن لي فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسربته فيها حصير وأهب معلقة وقد أفضى بجنبه إلى الحصير، فأثر الحصير في جنبه وتحت رأسه وسادة من أدم محشوة ليفا، فلما رأيته بكيت، قال: ما يبكيك؟ قلت يا رسول الله، فارس والروم أحدهم يضطجع في الديباج والحرير، فقال: إنهم عجلت لهم طيباتهم، والآخرة لنا، ثم قلت: يا رسول الله، ما شأنك؟ فإني قد تركت الناس يموج بعضهم في بعض، فعن خبر أتاك فقال: اعتزلهن؟ فقال: لا، ولكن كان بيني وبين أزواجي شئ فأحببت ألا أدخل عليهن شهرا.

ثم خرجت على الناس، فقلت: يا أيها الناس، ارجعوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بينه وبين

النبي المعصوم (177)

أزواجه شئ، فأحب أن يعتزل، فدخلت على حفصة، فقلت: يا بنتي، أتكلمين رسول الله وتغيظينه وتغارين عليه؟ فقالت: لا أكلمه بعد بشئ يكرهه، ثم دخلت على أم سلمة وكانت خالتي، فقلت لها كما قلت لحفصة، فقالت: عجبا لك يا عمر، كل شئ تكلمت فيه، حتى تريد أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أزواجه، وما يمنعنا أن نغار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجكم يغرن عليكم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الأحزاب:28) حتى فرغ منها (1).

التفت الحكيم إلى جيري، وقال: إن هذه الحادثة التي ذكرتها لك بطولها وقعت في المدينة.. وكل لفظ منها يدلك على مدى الزهد الذي كان يعيشه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

إنها عند أصحاب الرؤى القاصرة مثار شبه كثيرة، ولكنها عند أصحاب العقول النيرة دليل من دلائل الصدق والزهد والعفاف..

تصور لو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يملك قصرا كتلك القصور التي يملكها أثرياء عصره.. أو على الأقل كان يملك بيوتا كثيرة ممتلئة بالأثاث الكثير الذي كان ينعم به أهل عصره.. هل كان لمثل هذه الأحداث أن تقع؟

لا.. لن تقع أبدا.. لأن السبب الأول في هذه الأحداث هو المال.. فلو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا مال وذا ثروة وذا بيوت واسعة كثيرة ما حصل ما حصل.

لقد رأيت صورة لبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد ورد في رواية أخرى عن عمر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهب ثلاثة معلقة، وصبرة من شعير، فهملت عينا عمر، فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فجلس محمرا

__________

(1) ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 13 من طريق عبد الله بن صالح، وعزاه للطبراني في الاوسط، وهو ـ بصيغة أخرى ـ في الصحيحين 8/ 656 (4912) (6691) ومسلم 2/ 1100 (20/ 1474)

النبي المعصوم (178)

وجهه، فقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟) قلت: بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل)، ثم قال: (يا عمر لو شاء أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت) (1)

وعن ابن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: (ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها) (2)

التفت إلى الجمع المحيط به، ثم قال: لا تحسبوا أن هذه الفاقة فاقة ناتجة عن حاجة حقيقية، أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يملك إلا هذا الخيار.. لا.. لقد كان الغنى أمامه.. لقد كان الغنى أقرب إليه من الفقر.. ولكنه آثر تلك الحياة حتى يكون كأبسط الناس، وأسوة لجميع الناس، وحتى لا يأتي أحد من الناس، فيتصور أن النبوة وسيلة من وسائل الثروة، أو طريق من طرقها.

لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخيارات التي كانت متاحة أمامه، فقال: (لو شئت لسارت معي جبال الذهب) (3)

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك) (4)

وفي حديث آخر عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك

__________

(1) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي، وصححه.. والجملة الأخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.

(2) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي - وصححه.

(3) رواه ابن عساكر.

(4) رواه ابن سعد، والترمذي، وأبو الشيخ عن أبي هريرة وابن سعد وابن حبان عن أبي أمامة.

النبي المعصوم (179)

عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (الفرقان:10)

وعن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت) (1)

وروي أن جبريل - عليه السلام - جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تواضع لربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أكون نبيا عبدا)، قال ابن عباس: (فما أكل بعد تلك طعاما متكئا حتى لقي ربه) (2)

وعن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن شئت أعطيناك خزائن الأرض، ومفاتيحها، ما لم يعط شئ قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، ولا ينقصك ذلك مما عند الله شيئا، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اجمعوها لي في الآخرة) (3)

وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما ـ أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك، وشكرتك) (4)

وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طول حياته، فقد حدث أبو سعيد عن الأيام الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر فقال: (إن عبدا خيره الله تعالى أن

__________

(1) رواه أبو ذر الهروي.

(2) رواه أحمد، وابن حبان عن أبي هريرة، ويعقوب بن سفيان وابن مردويه عن ابن عباس.

(3) رواه البرقاني وابن أبي شيبة، وابن جرير.

(4) رواه ابن المبارك.

النبي المعصوم (180)

يؤتيه من زهرة الدنيا وما عنده، فاختار ما عنده) (1)

بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل الله أن يختار له هذا النوع من الحياة البسيطة التي تجعله أقرب الناس إلى الناس، فقد كان يدعو، ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) (2)

وكان يسأل الله حياة المسكنة التي هي أقرب أنواع الحياة للعبودية، كان أبو سعيد يقول: أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين) (3)

وعنه قال: (يا أيها الناس، لا يحملنكم العسر على طلب الرزق من غير حله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم توفني فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة) (4)

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بالدعاء.. بل كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم يتهرب من كل ما يمكن أن يملأ حياته بذخا وترفا.. بل من كل ما يملؤها هدوءا ودعة.

لقد حدثت عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة) (5)

وعن إسماعيل بن أمية قال: صنعت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين، فأبى أن يضطجع على

__________

(1) رواه البخاري، وغيره.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه ابن المبارك والترمذي.

(4) رواه ابن عدي.

(5) رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.

النبي المعصوم (181)

واحد (1).

وقد روي أن رجلا أنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدية، فنظر، فلم يجد شيئا يجعلها فيه، فقال: (ضعه في الحضيض، فإنما هو عبد يأكل كما يأكل العبد، ويشرب كما يشرب العبد، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها ماء) (2)

وعن عائشة، قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا) (3)

التفت الحكيم إلى جيري، وقال: هل يمكن لمستغل توفر له من الفرص ما توفر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يذوق طعم الجوع؟

سكت جيري، فقال بعض القوم: لعل صاحبنا لا يعرف معنى الجوع، فاشرحه له.

قال الحكيم: الجوع جوعان.. هناك جوع يمكن تسميته جوع المترفين، وهو جوع يرجع سببه إلى أن المترف لم يجد من الطعام الذي يشتهي ما يملأ بطنه.. فلذلك لا يرتبط هذا النوع من الجوع بعدم وجود الطعام، وإنما يرتبط بعدم وجود الطعام المشتهى.

وهناك جوع سببه عدم وجود الطعام مطلقا.. لا المشتهى، ولا غير المشتهى.. وهذا هو الجوع الذي ذاقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يعصب الحجر على بطنه منه.

التفت إلى جيري، وقال: سأذكر لك من النصوص التي تواترت لتدل على هذا (4)، وتنفي

__________

(1) رواه أحمد في الزهد.

(2) رواه ابن أبي شيبة.

(3) رواه ابن حبان.

(4) تعمدنا نقل الروايات الكثيرة بتخريجها هنا لأن هناك من يناقش في مثل هذا انطلاقا من صورة رسمها لرسول الله (راح يفرضها عليه ضاربا بالنصوص المقدسة عرض الحائط، أما ما قد يساء فهمه من هذه النصوص، فقد ذكرنا الرد عليه في مناسبات كثيرة.

النبي المعصوم (182)

أي دخن قد يتسرب منه الشيطان ليملأ القلوب بالوساوس، وسأبدأ حديثي بأقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي ذاقت معه من حياة الزهد ما ذاقت.

لقد ذكرت عائشة حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم (1).

وقالت: (ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)

وقالت: (ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)

وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.

وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.

وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.

وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة (2).

وقالت: (والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف (3).

وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير (4).

وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط (5).

__________

(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.. والأقوال التي تلي قولها هذا روايات في الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.

(2) رواه ابن عساكر.

(3) رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.

(4) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

(5) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

النبي المعصوم (183)

وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله (1).

وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ألبانها، فيسقيناه.

وكانت تقول له: (وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار - جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم - فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف)

وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت (2).

وقالت: أهديت لنا ذات يوم يد شاة فوالله إني لأمسكها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحزها، أو يمسكها علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحزها، قبل على غير مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، ولا يطبخون فيه برمة (3).

وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا (4).

وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا

__________

(1) رواه البخاري ومسلم والبيهقي.

(2) رواه ابن عساكر.

(3) رواه ابن سعد وأحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي.

(4) رواه ابن عساكر.

النبي المعصوم (184)

التمرتين) (1)

وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه (2).

وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت بطعام فقالت لي: كل فلقل ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي أن بكيت، قال: قلت: لم يا أم المؤمنين؟ قالت: أذكر الحال التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مرتين من خبز شعير حتى لحق بالله (3).

وعلى ما شهدت به عائشة تواترت الشهادات الكثيرة من الذين عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم.. وسأذكر لك من ذلك ما يعطيك صورة عن هذا العفيف الزاهد الذي لم تجد له في قاموسك غير وصف الجشع والحرص والاستغلال.

ذكر أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) (4)

وقال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) (5)

وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف (6).

__________

(1) رواه ابن عدي.

(2) رواه ابن سعد.

(3) رواه ابن عساكر.

(4) رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود، والحارث بن أبي أسامة برجال ثقات.

(5) رواه البخاري ومسلم.

(6) رواه ابن أبي شيبة، أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل، وابن سعد بإسناد صحيح.

النبي المعصوم (185)

وقال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيها خبز ولا لحم (1).

وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفه إلا بجرعة من ماء (2).

وقال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط (3).

وعن عمر قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتوي يومه من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء به بطنه (4).

وعن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا (5).

وقال: (ما كان يفضل عند أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز الشعير) (6)

وقال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لى ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير (7).

وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الكسر اليابسة، حتى فارق الدنيا، وأصبحتم تهذرون الدنيا (8).

وقال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي جالسا، قلت: يا رسول الله ما أصابك؟ قال: (الجوع)، فبكيت قال: (لا تبك يا أبا هريرة، فإن شدة الجوع لا تصيب الجائع - يعني يوم القيامة

__________

(1) رواه ابن سعد.

(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.

(3) رواه ابن سعد.

(4) رواه ابن سعد.

(5) رواه أحمد والبخاري ومسلم، والترمذي.

(6) رواه الترمذي.

(7) رواه ابن سعد.

(8) رواه ابن سعد.

النبي المعصوم (186)

- إذا احتسب في دار الدنيا) (1)

وقال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بطعام سخين، فأكل، فلما فرغ قال: (الحمد لله ما دخل بطني طعام سخين منذ كذا وكذا) (2)

وقال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أعندك شئ؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني (3).

وروي أنه مر بالمغيرة بن شعبة وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النقي واللحم للمسلمين قال: وما النقي؟ قال: الدقيق، فعجب أبو هريرة، ثم قال: عجبا لك يا مغيرة، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضه الله تعالى، وما شبع من الخبز والزيت مرتين في يوم، وأنت وأصحابك تهذرون ههنا الدنيا بينكم ونقد باصبعه، يقول كأنكم صبيان (4).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير (5).

وعن أبي الدرداء قال: لم يكن ينخل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دقيق قط (6).

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا، ولم يشبع هو، ولا أهله

__________

(1) رواه ابن أبي الدنيا وأبو سعد الماليني وأبو الحسن بن الضحاك.

(2) رواه ابن ماجه.

(3) رواه ابن ماجة.

(4) رواه ابن سعد.

(5) رواه أحمد، وابن سعد والترمذي وصححه.

(6) رواه الطبراني.

النبي المعصوم (187)

من خبز الشعير (1).

وعنه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع من خبز الشعير، فما أرنا أخرنا لما هو خير لنا (2).

وعن نوفل بن إياس الهذلي قال: أتينا في بيت عبد الرحمن بن عوف بصحيفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، قلت: ما يبكيك؟ فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا (3).

وعن سهل بن سعد قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا (4).

وعن أبي أمامة قال: ما كان يفضل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5).

وعن عمران بن حصين قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خبز مأدوم حتى مضى لسبيله (6).

وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غداء وعشاء حتى لقي ربه (7).

وعن أبي حازم قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) (8)

وعن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حائطا من حيطان المدينة، فجعل يأكل بشرا أخضر، فقال: (كل يا ابن عمر)، فقلت ما أشتهيه يا رسول الله، قال: (ما تشتهيه؟ إنه لأول طعام

__________

(1) رواه البزار بسند جيد.

(2) رواه عبد بن حميد.

(3) رواه الترمذي وابن سعد.

(4) رواه الطبراني.

(5) رواه أحمد وابن سعد والترمذي وصححه.

(6) رواه أحمد.

(7) رواه الطبراني.

(8) رواه ابن سعد والدارقطني في الافراد، وصححه.

النبي المعصوم (188)

أكله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أربعة أيام) (1)

وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا (2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعصب في أحيان كثيرة الحجر على بطنه من الجوع (3).. فهل يمكن لإنسان حريص مستغل أن يفعل هذا؟

لقد تواتر هذا عن الصحابة وسأذكر لك من الشهادات ما يدلك على ذلك:

عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع (4).

وعن جبير بن نفير قال: قال أبو البجير: أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما الجوع، فوضع على بطنه حجرا، وقال: (يا رب نفس ناعمة طاعمة، جائعة عارية يوم القيامة) (5)

وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد حبليه بالحجر من الغرث (6).

وعن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهم يحفرون الخندق ثلاثا لم يذوقوا طعاما، قال جابر: فحانت مني التفاتة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شد على بطنه حجرا من الجوع (7).

وعن أنس قال: قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن حجر حجر،

__________

(1) رواه الطبراني.

(2) رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه.

(3) وقد كان ذلك من عادة العرب عند الجوع، فإذا خوى البطن لم يمكن معه الانتصاب، فيعمل الشخص حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف، أو أكثر، فيربطها على بطنه، ويشدها بعصابة فوقها، فتعتدل قامته بعض الاعتدال، وقد قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن أن الرجلين تحملان البطن، فإذا البطن هو الذي يحمل الرجلين.

(4) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند.

(5) رواه البيهقي وابن عساكر.

(6) رواه ابن سعد.

(7) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (189)

فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين (1).

وعن أبي البجير قال: أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه (2).

وعن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب على بطنه بعصابة، قال أسامة: أنا أشد على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه؟ قالوا: من الجوع (3).

وعن حصين بن يزيد الكلبي قال: ربما شد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه الحجر من الجوع (4).

وقد صور الشاعر الصالح (5) ذلك بقوله:

كأن عيال الناس طرا عياله... فكلهم مما لديه يعال...

يبيت على فقر، ولو شاء حولت... له ذهبا محضا ربي وجبال...

وما كانت الدنيا لديه بموقع... فقد صرمت فيها لديه حبال...

رأى هذه الدنيا سريعا زوالها... فلم يرض شيئا يعتريه زوال...

لعمرك ما الأعمار إلا قصيرة... ولكن آمال الرجال طوال...

أتته مفاتيح الكنوز فردها... وعافت يمين مسها وشمال...

وكان يفيض المال بين عفاته... كما فضت الترب المهال شمال...

فما كان للمال الشديد بمائل... وكم غر أرباب العقول فمالوا

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لذلك كله يسد جوعه بأي طعام حلال، لا يسأل عن نوعه، ولا عن طيبته التي

__________

(1) رواه الترمذي بسند جيد قوي.

(2) رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر.

(3) رواه مسلم والبيهقي.

(4) رواه أبو نعيم وابن عساكر.

(5) هو ابن جابر الأندلسي.

النبي المعصوم (190)

يحرص عليها أهل الشهوات، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما أبالي ما رددت به عن الجوع) (1)

وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما لنا طعام إلا أوراق الشجر، حتى تقرحت أشداقنا (2).

وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل عندك طعام آكل) فقالت: إن عندي لكسرة يابسة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: (هلميها فكسرها في ماء)، فجاءته بملح، فقال: (ما من أدم؟) فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل، فقال: (هلميه)، فلما جاءت صبه على طعامه، وأكل، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: (نعم الأدم الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل) (3)

وعن أم سعد قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة وأنا عندها، فقال: هل من غداء؟ قالت: عندنا خبز وتمر وخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم الإدام الخل.. اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يفتقر بيت فيه خل) (4)

وعن أسماء بنت عميس، وكانت صاحبة عائشة التي خبأتها فأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نسوة، فما وجدنا عنده إلا قوتا، إلا قدحا من لبن، فتناول فشرب منه، ثم ناوله عائشة فاستحيت منه، فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذته فشربته، ثم قال: (ناولي صواحبك)، فقلن: لا نشتهيه، فقال: (لا تجمعن كذبا وجوعا)، فقلت: إن قالت إحدانا لشئ تشتهيه لا أشتهي، أيعد ذلك كذبا؟ فقال: (إن الكذب يكتب كذبا، حتى الكذيبة تكتب كذيبة) (5)

ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم في المقابل كان أحرص الناس على طيبة الطعام التي يعرفها الصالحون، والتي

__________

(1) رواه ابن المبارك في الزهد عن الأوزاعي.

(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.

(3) رواه ابن المبارك في الزهد.

(4) رواه ابن ماجة.

(5) رواه أحمد.

النبي المعصوم (191)

أمر الله تعالى بها أنبياءه في قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51)

وهي طيبة لا تعتمد الذوق ولا النكهة ولا تفنن الطباخين، وإنما تعتمد على كون الطعام حلالا لم يختلط بعرق المستضعفين، ولا دماء المحرومين.

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يخشى من طعام الصدقة، ولا يأكله مع عظم حاجته إليه، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب التمرة، فيقول: (لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها) (1)

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقالت بعض نسائة: يا رسول الله أرقت البارحة، قال: (إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه) (2)

التفت إلى جيري، وقال: لاشك أن لكل مستغل حريص رصيد في البنك يخبئه لوقت الحاجة، فهو لا يكتفي ـ لحرصه ـ بما يأكله أو يلبسه في لحظته، بل يريد أن يضمن كل لحظة من حياته.. بل هو يسعى ليخزن من الأموال ما يكفيه لآلاف السنين.

أليس كذلك.. أم تراني خاطئا؟

قال رجل من الجماعة: بل هو كذلك.. بل من هؤلاء من يخزن المال الذي يكفي الملايين.. بينما لم يبق من عمره إلا أيام معدودة.

قال الحكيم: أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان خلاف ذلك تماما.. فلم يكن يدخر شيئا لغد (3).

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه أحمد برجال ثقات.

(3) أما ما روي من أنه كان يدخر قوت سنة، فقد أجاب عنه الحافظ البجلي بقوله: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن رسول الله (أنه لم يشبع في يوم من خبز مرتين، وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنة، فكيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة، فتنزل النازلة، فيقسمه، فيبقى بلا شئ.

ومما يؤيد هذا ما رواه أحمد، وأبو يعلى برجال ثقات عن أنس قال: أهديت لرسول الله (ثلاثة طوائر فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله (: (ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد)

النبي المعصوم (192)

عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخر شيئا لغد (1).

وعن ابن عباس قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد فقال: (ما يسرني أنه ذهب لآل محمد، أنفقه في سيبل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران، إلا دينارين أعدهما للدين إن كان) (2)

وعن أنس قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يوما: (ما عندك شئ تطعمنا؟) قلت: نعم يا رسول الله، فضل من الطعام الذي كان أمس، قال: (ألم أنهك أن تدع طعام يوم لغد؟) (3)

وعنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائران، فقال: (ما هذا؟) قال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: (يا بلال لا تخف من ذي العرش إقلالا.. إن الله تعالى سيأتي يرزق كل غد، ألم أنهك أن تدخر شيئا لغد؟) (4)

وعن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (5)

وعن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساهم الوجه قالت: حسبت ذلك من وجع، قلت: ما لي أراك ساهم الوجه؟ قال: (من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس، ولم نقسمها) (6)

وعن عائشة أنها قالت لأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعروة بن الزبير: لو رأيتما رسول

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه أحمد وأبو يعلى بسند جيد.

(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف.

(4) رواه أبو سعد الماليني والخطيب.

(5) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.

(6) رواه ابن حبان والبيهقي.

النبي المعصوم (193)

الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة، قالت: فأمرني نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أفرقها، قالت: فشغلني وجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، فقال: (ما فعلت، أكنت فرقت الستة الدنانير أو السبعة؟) فقلت: لا، والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: (ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟) (1)

وعن جمع من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه ذات يوم، وفي يده قطعة من ذهب، فقال لعبد الله بن عمر: ما كان قال لربه إذا مات وهذه عنده؟ فقسمها قبل أن يموت، والتفت إلى أحد، فقال: (والذي نفسي بيده ما يسرني أن يحول هذا ذهبا وفضة لآل محمد، أنفقه في سبيل الله، أبقي بعد صبح ثلاثة، وعندي منه شئ، إلا شيئا أعده لدين)، وفي لفظ: (أموت يوم أموت أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين أن كان)، قال ابن عباس: فمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة، وترك درعه مرهونة عند رجل من اليهود رهنا بثلاثين صاعا من شعير، كان يأكل منها ويطعم عياله (2).

وعن بلال: قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندي شئ من تمر، فقال: (ما هذا؟) فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: (أما تخاف أن ترى له بخارا في جهنم؟) (3)

عن عبد الله بن مسعود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، وعنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال)، قال: أعددت ذلك لأضيافنا، قال: (أما تخشى أن يكون له بخار في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (4)

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بلال أطعمنا)، قال: ما عندي إلا صبرة من

__________

(1) رواه ابن سعد والبيهقي.

(2) رواه البزار عن أبي سعيد، والبزار، والطبراني عن سمرة بن جندب، والطبراني، والبزار بسند حسن وأحمد، وأبو يعلى برجال ثقات والبزار وأحمد بسند حسن عن ابن عباس.

(3) رواه الطبراني والبزار.

(4) رواه البزار، والطبراني بسند حسن.

النبي المعصوم (194)

خبز خبأته لك، قال: (أما إن الله يجعل له بخارا في نار جهنم أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (1)

وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صرة المدينة فاستقبلنا أحدا، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، تمضي على ثلاثة، وعندي منه دينار، إلا شيئا أرصده لدين، إلا أن أقول في عباد الله هكذا، وهكذا) (2)

وعن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي: (يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟) قلت يا رسول الله لا أشتهيه، قال: (لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعفون؟ قال: فوالله ما برحنا، ولا زمنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارا، ولا درهما، ولا أخبئ رزقا لغد) (3)

التفت إلى جيري، وقال: أليس كل المستغلين الذين تنفتح لهم الدنيا لا يقنعون بما هم فيه، بل يضمون إلى غناهم غنى أولادهم، وغنى كل من يتقرب منهم.

قال رجل من الجماعة: ذلك صحيح.. ولا نحسب ذلك إلا طبعا في البشر، فلا ينفك أحد منهم منه.

قال الحكيم: إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو من رباه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فإنه يستحيل عليه أن يطعم ولده ثمرة

__________

(1) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.

(2) رواه البخاري.

(3) رواه أبو بكر الحميدي.

النبي المعصوم (195)

استغلال.. اسمعوا لما روته الأخبار الصحاح:

عن فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاها يوما فقال: (أين أبنائي؟) يعني: حسنا وحسينا، قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شئ يذوقه ذائق، فقال علي: اذهب بهما، فإني أتخوف أن يتليا عليك، وليس عندك شئ، فذهب إلى فلان اليهودي فتوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدهما يلعبان في سرية بين أيديهما فضل من تمر، فقال: (يا علي ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر؟)، قال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شئ، فلو جلست يا رسول الله، حتى أجمع لفاطمة شيئا من التمر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى اجتمع لفاطمة شئ من التمر، فجعله في صرته ثم أقبل، فحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما وعلي الآخر، حتى أقبلهما (1).

وعن علي أنه قال لفاطمة ذات يوم: والله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء أبوك بسبي فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله، لقد طحنت حتى مجلت يداي فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما جاء بك أي بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: يا رسول الله، لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخذمنا فقال: لا، والله، لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم فرجع.

فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما فتأثر فقال: مكانكما، ثم قال: (ألا أخبر كما بخير مما سألتماني)، قالا: بلى، قال: (كلمات علمنيهن جبريل فقال: تسبحان الله في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا، فإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين)

__________

(1) رواه الطبراني بسند حسن.

النبي المعصوم (196)

قال علي: فوالله، ما تركتهن منذ سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رجل: أين الكوا ولا ليلة صفين، فقال: قاتلكم الله ولا ليلة صفين (1).

وعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة له، فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع، ولم يدخل لها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيان، فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما يبكيان، فأخذه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا ثوبان، اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارا من عاج)، ثم قال: (هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا) (2)

وعن عمران بن حصين قال: إني لجالس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبلت فاطمة، فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابلة فقال: (ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة، ثم قال: (ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة، ثم قال: (ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة حتى قامت بين يديه قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها، وذهب الدم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه ثم وضع كفه بين ترائبها، فرفع رأسه قال: (اللهم، مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الوضعة، لا تجع فاطمة بنت محمد)، فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك (3).

وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية، هل عندك أكلة، فإني جائع

__________

(1) رواه أحمد بسند جيد.

(2) رواه أحمد، والبيهقي في الشعب.

(3) رواه الطبران برجال ثقات إلا عتبة بن حميد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة.

النبي المعصوم (197)

فقالت: لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، وغطت عليها، قالت: والله، لاوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشئ فخبأته لك قال: (هلمي)، فأتته فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلما نظرت إليها بهتت، وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصلت على نبيه وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآه حمد الله وقال: (من أين لك هذا يا بنية؟)، فقالت: يا أبت، هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي، ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا وبقيت الجفنة كما هي، قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع جيرانها، وجعل الله فيه بركة وخيرا كثيرا (1).

العطاء

التفت الحكيم إلى جيري فالويل، وقال: أظن أن ما ذكرته من زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموال الناس وعفافه عنها ما يكفي لصرفك عن ذلك الوسواس الذي دعاك إلى اتهامه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغلال والحرص والجشع.

إن النفس التي كان لها كل ذلك الصبر والتحمل مع عظم المشاق التي كانت تحملها يستحيل عليها أن تعرف الاستغلال..

ثم التفت إلى الجماعة، وقال: ومع ذلك.. ومع كل تلك الأحوال الشديدة التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كانت تستدعي قبض اليد، والشح عما فيها إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كالريح المرسلة لا يكاد يقع في يده شيء حتى يخرجه منها كرما وجودا وعطاء لا يمكن أن يقدر على مثله بشر.

__________

(1) رواه أبو يعلي.

النبي المعصوم (198)

سأذكر لكم بعض ما ذكرت الأسانيد من ذلك لتحكموا بأنفسكم، ولتروا هل يمكن لمن يملك هذه الصفات أن يكون له جشع المستغل وحرصه.

لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك النفس الممتلئة كرما وجودا، وكأنه يدعو كل محتاج لأن يمد يده إليه لينال من جوده، فقال (ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل) (1)

وقال، وقد التفت إلى أحد: (والذي نفسي بيده ما يسرني أن أحدا يحول لآل محمد ذهبا، أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت ما أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين إن كان) (2)

وقال: (لو عندي مثل أحد ذهبا ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدين) (3)

وقد كان أصحابه والمقربون إليه يعرفون هذه الصفة فيه، ويصفونه بها:

عن علي أنه كان إذا نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان أجود الناس كفا (4).

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس (5).

وكان من الصفات التي عرفه من خلالها الكل هو أنه كان أبعد الناس عن رد أي سائل يسأله، مؤتمرا في ذلك بما أمره الله تعالى به، قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى:10)

لقد كانت الصفة التي عرف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. عرفه بها جميع الناس.. أنه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.

__________

(1) رواه بقي بن مخلد وأبو يعلى.

(2) رواه أحمد.

(3) رواه البيهقي، وابن عساكر.

(4) رواه ابن أبي خيثمة.

(5) رواه ابن أبي شيبة.

النبي المعصوم (199)

قال أنس: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه (1).

وقد ذكر نموذجا لذلك، فقال: فسأله رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر (2).

قال أنس: وإن كان الرجل ليجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها (3).

وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل عن شئ، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشئ لا (4).

عن سهل بن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى (5).

وعن سهل بن سعد أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها، قال سهل: أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي لأكسوكها فخذها، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال الأعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، فقال: (نعم)، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها فأرسل بها إليه، ثم سأله، وعلم أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، رجوت بركتها حين لبسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال سهل: فكانت كفنه (6).

__________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه مسلم.

(3) رواه مسلم.

(4) رواه الخرائطي، والطبراني، والمراد من عدم قوله: (لا) ما يفهم منها عدم الإعطاء مع القدرة عليه، أما إذا كانت من باب الاعتذار، فلا حرج في ذلك، وقد قالها (، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي (: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:92)

(5) رواه الدارمي.

(6) رواه البخاري، وابن ماجه، وابن سعد، والطبراني، والإسماعيلي والنسائي، زاد الطبراني: وأمر النبي (أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن تنزع.

النبي المعصوم (200)

وعن هارون بن أبان قال: قدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثر مال أتي به قط، فوضع على حصير من المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائلا، حتى فرغ منه (1).

وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين، فقال: انظروا يعني صبوه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطى إلى أن جاء العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، فقال: (خذ) فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي قال: (لا)، قال: فارفعه أنت، قال: (لا أستطيع)، ثم نثر منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله: مر بعضهم يرفعه علي، قال: (لا)، قال: فارفعه أنت)، قال: (لا) ثم نثر منه فاحتمله، فألقاه على كاهله، فانطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا منه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثم منها درهم (2).

وكان البعض يستغل هذه الخصلة العظيمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيروح يسأل من غير حاجة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بما أعطاه الله مع علمه بذلك منهم:

عن أبي سعيد قال: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألانه عن ثمن بعير فأعانهما بدينارين، فخرجا من عنده، فلقيا عمر، فأثنيا خيرا، وقالا معروفا، وشكرا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهما، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكن فلانا أعطيته ما بين العشرة والمائة فلم يقل ذلك، إن أحدهم يسألني، فينطلق بمسألته يتأبطها، وما هي إلا نار)، فقال عمر: يا رسول الله، فلم تعطهم ما هو نار؟ فقال: (يأبون إلا أن يسألوني ويأبي الله لي البخل) (3)

وعنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوهم فأعطاهم، وقال:

__________

(1) رواه الدارمي.

(2) رواه البخاري

(3) رواه ابن أبي الدنيا وغيره.

النبي المعصوم (201)

(ما يكون عندي من خير، فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير، وأوسع من الصبر) (1)

وعن جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه الناس، مقبلا من حنين علقت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته عليكم لا بخيلا، ولا كذابا، ولا جبانا) (2)

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حنين سأله الناس، فأعطاهم من البقر والغنم والإبل، حتى لم يبق من ذلك شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أنا ببخيل، ولا جبان، ولا كذوب)، فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته، فكأنما أنظر ـ حين مد يدا من منكبه ـ شقة القمر من بياضه) (3)

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني كذوبا ولا بخيلا) (4)

وعن سهل بن سعد قال: حكيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة أنمار صوف أسود، فجعل حاشيتها بيضاء، وقام فيها إلى أصحابه، فضرب بيده إلى فخذه فقال: (ألا ترون إلى هذه ما أحسنها!) فقال أعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسأل شيئا أبدا فيقول: لا، فقال: (نعم)، فأعطاه الجبة (5).

هذا كله إذا وجد، فإذا لم يجد تكلف كل السبل ليرضي من سأله، فلا يذهب إلا راضيا:

__________

(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

(2) رواه البخاري.

(3) رواه ابن الأعرابي.

(4) رواه ابن عدي.

(5) رواه الطبري.

النبي المعصوم (202)

عن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شئ أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال عمر: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول عمر، حتى عرف في وجهه، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بهذا أمرت) (1)

وعن أبي عامر عبد الله قال: لقيت بلالا مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحلب، فقلت: حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما كان له شئ من ذلك، إلا أني الذي كنت آتي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى، إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان، فرآه عاريا يأمرني فأنطلق، فأستقرض، فأشتري البردة، والشئ، فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي قلت: لبيك، فتجهمني، وقال قولا غليظا، فقال: ألا ترى كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليال، فآخذك بالذي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، ولكن أعطيتك لتصير لي عبدا، فأذرك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت، ثم أذنت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة، رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن المشرك الذي قلت لك إني كنت أتدين منه قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحني، فأذن لي أن آتي بعض هؤلاء الأحياء الذين أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فحملت سيفي وجرابي ورمحي، ونعلي عند رأسي، واستقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق، فإذا

__________

(1) رواه الترمذي والخرائطي.

النبي المعصوم (203)

إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلقت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذنت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشر يا بلال، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، فحمدت الله تعالى)، فقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ قال: فقلت: بلى؟ قال: فإن لك رقابهن، وما عليهن، فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، قال: ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن، ثم عقلتهن، ثم عدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعي في أذني، فناديت، وقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في المسجد وحده، فسلمت عليه، فقال لي: (ما فعل ما قبلك؟) قلت: قضى الله كل شئ كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يبق شئ، فقال: (فضل شئ؟) قلت: نعم، قال: (انظر أن تريحني منها، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منها، فلم يأتنا أحد)، فبات في المسجد، حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: (ما فعل ما قبلك؟) قلت: قد أراحك الله منه، فكبر، وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم تبعته حتى جاء أزواجه، فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه (1).

فإذا لم يجد أي سبيل بحث عمن يعين السائل، فقد جاءه رجل مرة، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته:

__________

(1) رواه أبو داود والبيهقي.

النبي المعصوم (204)

أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخري شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي، فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (لقد عجب الله من فلان وفلانة) (1)، وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك كله مع ما به من فاقة وحاجة، بل كان يقدم ـ مع تلك الفاقة والحاجة غيره، ليكون آخر مستفيد إن بقيت هناك بقية.

روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا مع رجل من أصحابه، فغمز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه، فقال له الرجل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتشتكي بطنك؟ فقال: (لا، إنما هو جعار الجوع)، فقام الرجل ليدخل حيطان الأنصار، فرأى رجلا من الأنصار يسقي سقاية، فقال له: هل لك أن أسقي لك بكل سقاية تمرة جيدة؟ قال: نعم، قال: فوضع الرجل كساءه، ثم أخذ يسقي، وهو رجل قوي، فسقي مليا، حتى ابتهر وعيا، فجعل يتروح، ثم فتح حجره، وقال: عد لي تمري، قال: فعد له نحوا من المد، فجاء به، حتى نثره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه قبضة، ثم قال: اذهبوا بهذا إلى فلانة، واذهبوا بهذا إلى فلانة، فقال الرجل: يا رسول الله أراك تأخذ منه، ولا ينقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألست تقرأ هذه الآية؟) قال: فقلت: أية آية يا رسول الله؟ قال: قول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39)، قال: أشهد أنما هو من الله تعالى (2).

__________

(1) رواه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه البيهقي في الأسماء والصفات.

(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.

النبي المعصوم (205)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكافئ كل من يقدم له أي شيء، ولو كان بسيطا، بل حتى لو كان كلمة طيبة:

عن الربيع بن عفراء قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من رطب، وجرو زغب، فأعطاني مل ء كفي حليا، أو ذهبا (1).

عن أم سنبلة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدية، فأبى أزواجه أن يقبلنها، فأمرهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذنها، ثم أقطعها واديا (2).

وروي أنه في يوم حنين جاءت امرأة، فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعه في هوازن، فرد عليهم ما أخذ، وأعطاهم عطاء كثيرا، حتى قوم ما أعطاهم فكان خمسمائة ألف، قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الجود (3).

وعن جابر أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضربه، ودعا له، فسار سيرا لم يسر مثله، ثم قال: (بعنيه بوقية)، قلت: لا، ثم قال: (بعنيه بوقية)، فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا المدينة أتيته بالجمل، ونقد لي ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل إلي فقال: (ما كنت لآخذ جملك، هو لك) (4)

وفي رواية قال صلى الله عليه وآله وسلم لجابر في سفر: (بعني جملك)، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي وأمي، فقال: (بعنيه) فباعه إياه، وأمر بلالا أن ينقده ثمنه، فأنقده، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما) (5)، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكافأة لقوله: بل هو لك، فأعطاه الثمن، ورد عليه الجمل، وزاد الدعاء بالبركة.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك يكافي المحسن بالدعوات الطيبات المباركات المجابات:

__________

(1) رواه الترمذي.

(2) رواه الطبراني.

(3) ذكره ابن فارس في كتابه أسماء النبي (.

(4) رواه البخاري ومسلم.

(5) رواه البخاري.

النبي المعصوم (206)

قال ابن عباس: كنت في بيت ميمونة فوضعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طهوره، فقال: (من وضع لي هذا؟)، فقالت ميمونة: عبد الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)

وفي حديث أبي قتادة الطويل العظيم المشتمل على معجزاتٍ متعدّداتٍ لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: فبينا رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يسيرُ حتى ابهارّ (1) الليل وأنا إلى جنبه، فنَعَس رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فمالَ عن راحلته فأتيتُه فدعَّمتُه من غير أن أُوقظَه حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى تهوَّر (2) الليلُ مال عن راحلته، فدعَّمتُه من غير أن أوقظَة حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى إذا كان من آخر السَّحَر مالَ ميلة هي أشدّ من الميلتين الأُولَيَيْن حتى كاد ينجفلُ (3)، فأتيتُه فدعَّمته، فرفعَ رأسَه فقال: (مَنْ هَذَا؟) قلتُ: أبو قتادة، قال: (مَتَى كان هَذَا مَسِيركَ مِنِّي؟) قلتُ: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: (حَفِظَكَ اللّه بِما حَفِظْتَ بِهِ نَبِيّهُ) وذكر الحديث (4).

وفي حديث جرير بن عبد اللّه البَجَليّ قال: كان في الجاهلية بيتٌ لخثعمَ يُقال له الكعبة اليمانية، ويُقال له ذو الخَلَصة، فقال لي رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (هَلْ أنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟)، فنفرتُ إليه في مئة وخمسين فارساً من أحمسَ فكسَّرْنَا وقتلنَا مَن وجدنا عنده، فأتيناه فأخبرناه، فدعا لنا ولأحمس (5).

وعن جابر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال: (مرحبا يا جويبر جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، آويتموني إذ طردني الناس، ونصرتموني إذ خذلني الناس، فجزاكم الله معشر الأنصار خيرا)، فقلت: (بل جزاك الله عنا خيرا، بك هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من شفا حفرة

__________

(1) انتصف.

(2) أي ذهب معظمه.

(3) يسقط.

(4) رواه مسلم.

(5) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (207)

من النار، وبك نرجو الدرجات العلى من الجنة) (1)

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن مقابلة المعروف بالدعاء من أعظم الجزاء على المعروف، ومن أفضل ما يقابل به الإحسان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صنع إليه معروف، فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء) (2)، وفي رواية: (من أسدى إليه بمعروف فقال للذي أسداه: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء)

وقد روي عن عبد اللّه بن أبي ربيعة قال: استقرضَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم منِّيَ أربعين ألفاً، فجاءَه مال فدفعَه إليَّ وقال: (بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ) (3)

بل دعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى كثرة الدعاء لمن عمل معروفا إلى أن يتيقن أنه قد أوفاه أجره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) (4)، وفي رواية: (حتى تعلموا أنكم شكرتموه، فإن الله تعالى شاكر يحب الشاكرين) (5)

سكت قليلا، ثم راح يترنم بقول الشاعر:

يروى حديث الندى والبشر عن يده... ووجهه بين منهل ومنسجم...

من وجه أحمد لي ندى ومن يده... بحر ومن فمه در لمنتظم...

يمم نبيا يباري الريح نافلة... والمزن من كل هامي الورد خير همي...

لو عامت الفلك فيما فاض من يده... لم تلق أعظم بحرا منه أن تعم...

يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ... به ودع كل طامي الموج ملتطم

لو لم تحط كفه بالبحر... ما شملت كل الأنام وروت قلب كل ظمي

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد جيري فالويل ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) رواه الترمذي والحاكم.

(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

(3) رواه النسائي وابن ماجه وابن السني.

(4) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.

(5) رواه الطبراني.

النبي المعصوم (208)

خامسا ـ خداع

في مساء اليوم الخامس.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (فرانكلين جراهام) (1).. وقد كان هذا الرجل في بداية حياته لاعب سيرك، وكان يتقن من فنون السيرك ما أثر في حياته جميعا، فهو يتصور جميع حركات الحياة بمنظار حركات التشويش البصري التي يقوم بها البهلوان في ميدان السيرك.

بعد ذلك.. وبعد أن عجزت أعضاؤه أن تقوم بحركات البهلوان، انضم إلى حزب مغمور من الأحزاب السياسية.. ولكنه استطاع بفضل ما تعلمه في السيرك من فنون الحيل أن يجعل لحزبه صوتا محترما مسموعا.

__________

(1) أشير به هنا إلى فرانكلين جراهام: وهو ابن القسيس الأمريكي بيلي جراهام، وقد عمل والده قسيساً خاصاً للرؤساء الأمريكيين منذ عهد ريتشارد نيكسون، وحتى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.

وتولى ابنه فرانكلين جراهام نفس المهمة بعد تقاعد الأب، وقام بعمل الطقوس الدينية لتنصيب الرئيس الأمريكي جورج دبليوبوش.

وقد تولى جميع مسئوليات الكنيسة التي أنشأها أبوه، والتي تعد من أكبر الكنائس الأمريكية عدداً وتأثيراً، وقامت خلال السنوات الماضية بأكثر من 450 حملة تنصير في جميع أنحاء العالم.

وقد أدلى فرانكلين جراهام بتصريحات إعلامية ذكر فيها أن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام، وأن القرآن (يحض على العنف) وكرر جراهام خلال برنامج (هاينتي وكولمز) المذاع على قناة فوكس نيوز الأمريكية في الخامس من أغسطس 2002 م رفضه الاعتذار عن تصريحات أدلى بها بعد حوادث سبتمبر 2001 م وصف فيها الإسلام بأنه دين (شرير)، وفي كتاب جديد لفرانكلين جراهام يسمى (الاسم) The name، يحتوي على نصوص تتسم بالسفه والحطة بهدف الإساءة إلى الإسلام ومنها قوله في صفحة 71: (الإسلام.. أسّسَ بواسطة فرد بشري مقاتل يسمى محمد، وفي تعاليمه ترى تكتيك (نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري)، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً، من الواضح أن هدف الإسلام النهائي هو السيطرة على العالم)

ويقول في صحفة 72: (إن القرآن يحتوي على قصص أُخذت وحُرّفت عن العهدين القديم والجديد.. لم يكن للقرآن التأثير الواسع على الثقافتين الغربية والمتحضرة الذي كان للإنجيل، الاختلاف رقم واحد بين الإسلام والمسيحية أن إله الإسلام ليس إله الديانة المسيحية)

وبسبب أقواله هذه اخترناه لهذا الفصل، مع التنبيه إلى أن ما نسوقه من معلومات أو حوار لا علاقة لها أصلا بالمسمى الحقيقي، وإنما هو مجرد اسم.

النبي المعصوم (209)

لكن أعضاء حزبه الذين تعلموا منه فنون الخداع والحيلة ارتدوا عليه، فصار في ذيل الحزب بعد أن كان رأسه المدبر.. ولم يرضه هذا، فاستقال منه، وانصرف إلى الكنيسة.

ولكن الخصال التي تولدت عنده من طول صحبته لرجال السيرك عادت فسيطرت عليه من جديد، فأخذ يتقرب من رجال السياسة بما يحبون أن يتقرب به البشر إليهم.. فقربوه إليهم كما لم يقربوا قبله أي رجل دين.

وقد بدأت علاقة أخي به بسبب هذه الصحبة.. فكلاهما يحب المناصب الرفيعة.. وكلاهما ينبهر بالعروش.. سواء عروش السلطة الدنيوية، أو عروش السلطة الدينية.. وكلاهما يتقن من فنون التكتيك ما يستطيع أن يحقق به كل ما يشتهي من مآرب.

لكنه عاد في ذلك المساء بغير ما كانت الجماعة تتوقع منه.. فقد جاء على غير العادة كالح الوجه مصفر الشفتين.. وكأنه كان يخوض غمار حرب من غير أن يحمل معه أي سلاح.

ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

تفرس في وجوههم ـ كعادته ـ قبل أن ينطق بأي كلمة، ثم قال: لا شك أنكم تسمعون بما يسمى الكر والفر.. فإن لم تكونوا قد سمعتم به من قبل، فهو أسلوب من أخطر أساليب الحروب وأكثرها نفعا.. وقد مارسه المسلمون في جميع حروبهم.

قال رجل منا: فهل مارست اليوم هذا الأسلوب؟

قال فرانكلين: أجل.. لقد مارسته كما لم أمارسه طول حياتي.. وهم الآن في كمين.. ويوشك أن ننتصر عليهم.

قال الرجل: ما دمت تحمل هذه البشرى.. فلم نراك ذابلا ممتلئا بالمخافة؟

قال فرانكلين: المعركة صعبة.. وأسلوب الكر والفر أصعب أنواعها..

قال رجل من الجماعة: لم أفهم بعد مرادك من هذا الأسلوب.

قال فرانكلين: هذا الأسلوب يعتمد على تظاهر المنتصر القوي بالهزيمة أمام خصمه.. فإذا

النبي المعصوم (210)

ما اتبعه انقض عليه انقضاضا يقضي عليه.

قال الرجل: فقد تظاهرت اليوم بالهزيمة إذن؟

قال فرانكلين: هزيمة المنتصر.. لا هزيمة المنهزم.

قال الرجل: فهل انقضضت عليه بعد أن وضعته في كمينك؟

قال فرانكلين: إن ذلك يستدعي وقتا.. المهم أنهم الآن في الكمين..

ابتسم أخي، وقال مخاطبا الجماعة: لماذا نضيع وقتنا في كل هذا اللغو.. لقد سجلنا كل ما حصل.. ولنكتف بما وقع؟

ابتدر دون انتظار رد الجماعة، ووضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:

ظهر (فرانكلين جراهام) في ميدان الحرية كمهرج أكثر منه كرجل مرتبط بالكنيسة، وله مكانة عالية فيها..

لقد استعمل أسلوبا من أساليب الخداع التي تعلمها أثناء عمله مهرجا في السيرك، لقد أخرج منديلا.. وأراه للجماعة التي أحاطت به، وقال: ألا ترون هذا المنديل الأبيض؟..

أجابت الجماعة بالإيجاب، فقال: ألا تشكون في كونه منديلا؟

قالوا: لا نشك.

فقال: ألا تشكون في كونه أبيض؟

قالوا: لا نشك.

أدار المنديل بحركات بهلوانية، اختفى بعدها المنديل لتحل بدله حمامة حية ممتلئة حياة.

تعجبت الجماعة عجبا شديدا.. وفغرت فاهها لذاك، فقال: لا شك أن لكم من الذكاء ما يعتبر ما فعلته مجرد خدعة لها أصولها، وكيفيتها.. ولذلك لم تنخدعوا..

نعم.. أثار ذلك تعجبكم، ولكنكم في نفس الوقت تعلمون أن المنديل منديل.. هو هذا المختفي داخل كمي.. وأن الحمامة كنت أيضا أخفيها بطريقتي الخاصة.. وقد استطعت بما تعلمته

النبي المعصوم (211)

من أساليب الخداع أن أحول في أبصاركم المنديل حمامة.

ولكن.. لو كان بينكم أغرار أو مغفلون أو صغار لم تنضج عقولهم، فإنهم سينخدعون.. أليس كذلك؟

قالت الجماعة: بلى.. فهات خدعة أخرى.. وعلمنا من أسرارها ما علمتنا من أسرار هذه الخدعة.

قال: هناك خدعة تحتاج منكم صبرا كثيرا لتعلمها.

قالوا: هاتها.

قال: لقد تعلمت هذه الخدعة من رجل ظهر في بلاد العرب قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.. كان اسمه محمد..

تعجبت الجماعة، وقال بعض المسلمين منهم: أتقصد رسول الله.. ذلك الصادق الأمين الذي امتلأت الأرض رحمة وجمالا ونورا بمحياه.

التفت إليه فرانكلين، وقال: لاشك أنك من الأغرار الذين استطاع محمد أن يلعب بعقولهم.. فيحول من المنديل الأبيض الذي لا حياة فيه حمامة كتلك الحمامة التي أخرجتها لكم.

قال الرجل: ولكن محمدا رجل من أهل الله، أوحى الله إليه.. وكان ذلك الوحي هو النور الذي اهتدت به أجيال طويلة من الإنسانية.. بل لا تزال تهتدي.. بل إن الظمأ يصيبها أو يقتلها إن هي أعرضت عنه.

قال فرانكلين: لقد ذكرت لك أن محمدا لم يكن سوى مخادع أو ساحر لا يختلف خداعه وسحره عن الخداع والسحر الذي مارسته أمامكم الآن.

لقد أدرك قومه هذا.. فلهذا لم تنطل حيله على عقلاء قومه.. وقد ذكر قرآنه هذا.. ففيه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (النمل:13)، وفيه: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصافات:15)، وفيه: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}

النبي المعصوم (212)

(الزخرف:30)، وفيه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الاحقاف:7)، وفيه: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر:2)

قال الرجل: ولكنه أتى بقرآن معجز.. لا تزيده الأيام إلا إعجازا.

قال فرانكلين: لقد استطعت مع مجموعة من أصدقائي أن آتي بكتاب مثل القرآن.. نعم.. هو لم ينتشر بعد انتشار القرآن.. ولم يشتهر اشتهاره.. ولم يذب في الألسن ذوبانه.. ولكن الأيام وحدها كفيلة بأن تجعل له من القوة ما يبز به قرآن محمد (1).

قال الرجل: فاقرأ علينا من قرآنك ما يملؤنا بالخشوع الذي ملأنا به قرآن محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

استجمع فرانكلين كل ما تعلمه من فنون الخداع، وراح يمثل صورة الخاشع المتبتل، وبصوت ممتلئ بحشرجة الدموع راح يقرأ: (بسم الأب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد، مثلث التوحيد، موحد التثليث ما تعدد) (زعمتم بأننا قلنا: قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.. يا أهل الضلال من عبادنا: إنما دين الحق هو دين الإنجيل والفرقان الحق من بعده، فمن ابتغي غير ذلك دينا فلن يقبل منه فقد كفر بدين الحق كفر) (سورة الجزية: 12، 13)

ثم نظر للجمع، فلم ير دمعة واحدة تسقط من عيونهم.. فزاد من درجة خشوعه، وراح يقرأ: (ولقد أنزلنا الفرقان الحق وحياً، وألقيناه نوراً في قلب صفينا ليبلغه قولاً معجزاً بلسان عربي

__________

(1) أشير هنا إلى ما يسمى (الفرقان الحق) وهو الكتاب الذي يوزع في بعض بلادنا الإسلامية ويبث على عشرات المراقع على شبكة الإنترنت ويعرض على أنه القرآن البديل لقرآن المسلمين.. وهذا الكتاب لم يدع شيئا من الإسلام إلا ونال منه سواء على المستوى الديني أو السلوكي أو الاجتماعي.

وسُوَر هذا الفرقان كلها هجومٌ وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين، وتسفيهٌ لكل شئ جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ...

وقد اشتمل هذا الكتاب على: المقدمة والبسملة والخاتمة ثم سبعا وسبعين سورة، وكل سورة تتكون من عدد من الآيات، وقد اشتملت هذه السور على موضوعات تكاد تكون مكررة في كل سورة بصورة مملة.

النبي المعصوم (213)

مبين، مصدقاً لما بين يديه من الإنجيل الحق صِنْواً فاروقاً محقاً للحق، ومزهقاً للباطل وبشيراً ونذيراً للكافرين) (التنزيل 4، 5)

لم يلاحظ أي تأثر على وجوه الجمع المحيط به.. فضم إلى خشوعه ترتيلا كترتيل المسلمين للقرآن، وراح يقرأ: (واصطفيناه وشرحنا صدره للإيمان وجعلنا له عيناً تبصر وأذناً تسمع وقلباً يعقل، ولساناً ينطق، وأوحينا إليه بالفرقان الحق، فخطه في سبعة أيام وسبع ليال جليداً) (الشهيد:2).. (لقد طوعت لكم أنفسكم قتل صفينا شاهدين على أنفسكم بالكفر، أفتقتلون نفساً زكية، وتطمعون برحمتنا وأنتم المجرمون، لا جرم أنكم في الدنيا والآخرة أنتم الأخسرون، وختمتم بدمه آية تُكْوى بها جباهكم وتشهد عليكم بأنكم كفرة مجرمون، وأنه الصفي الأمين، وأن الفرقان الحق هو كلمتنا وهو الحق اليقين، ولو كره الكافرون) (الشهيد: 6: 8).. (فرقان حق صنو الإنجيل الحق الذي كلمنا به آباءكم وذكري للمدكرين) (الإعجاز:2).. (ونحن الله الرحمن الرحيم ثالوث فرد إله واحد لا شريك لنا في العالمين) (الثالوث:6).. (إنما صلبوا عيسي المسيح ابن مريم جسدا بشرا سويا وقتلوه يقينا) (الصلب:10).. (إن أهل الضلال من عبادنا أشركوا بنا شركاً عظيماً فجعلونا تسعة وتسعين شريكا ًبصفات متضاربة وأسماء للإنس والجان يدعونني بها وما أنزلنا بها من سلطان، وافتروا علينا كذباً بأنا الجبار المنتقم المهلك المتكبر المذل، وحاشا لنا أن نتصف بإفك المفترين ونزهنا عما يصفون) (الثالوث 8: 10).. (وقام منكم ناعٍ ينعق بنقمة الباطل على الحق، وحقد الكفر على الإيمان، ونصرة الشر على الخير، فكان لوحي الشيطان سميعا) (المسيح:15).. (والذين آمنوا بالإنجيل الحق وعملوا الصالحات، أولئك هم خير البرية، والذي كفروا وآمنوا بالشيطان ورسله أولئك هم شر البرية) (الإخاء:8).. (يأيها الناس إنما تتلى عليكم آيات الشيطان مضللات، ليخرجكم من النور إلى الظلمات، فلا تتبعوا وحي الشيطان، واتخذوه عدواً لدوداً) (الإخاء:15)

التفت إلى الجمع، فلم ير أي تأثر، فقال: سأقرأ عليكم ما يقول قرآننا عن محمد.. لقد قال

النبي المعصوم (214)

في (الأنبياء:18)،: (وحذرنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبينوه من بيِّنات الكفر، وعرفوه من ثمار أفعاله، وكشفوا إفكه وسحره المبين، فهو رسول شيطان رجيم لقوم كافرين) وفي (الأنبياء:16) (وما بشرنا بني إسرائيل برسول يأتي من بعد كلمتنا، وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق، وأنزلنا سنة الكمال، وبشرنا الناس كافة بدين الحق، ولن يجدوا له نسخاً، ولا تبديلاً إلى يوم يبعثون)

بل إن قرآننا وصف محمدا بالطاغوت.. بل خصه بسورة (الطاغوت)، اتهمه فيها بإشعال الحروب، وإخراج الناس من النور إلى الظلمات، والسلب، والزنى، والكفر..

وقال قرآننا في سورة (الإعجاز 5: 9): (وما نرسل من رسول إلا لخير عبادنا يريهم صراطنا المستقيم، وأما من أغواهم وأضلهم فهو رسول شيطان رجيم، فصراطه عِوج وإعجازه عجمة ونوره ظلمة فلا تتبعوه ولا تنصتوا له واتخذوه مهجورا، ولايزال الذين كفروا في مرية من الفرقان الحق حتي تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب مقيم، ومن الناس من يجادل فيه بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير)

وقال قرآننا في الشهادة التي يتسابق لها المسلمون: (يا أيها الذين ضلوا من عبادنا: إذا سئل أحدكم عن الروح قال: الروح من أمر ربي، فما أوتيتم من العلم كثيراً أو قليلاً وما سألتم أهل الذكر الذين بشروا بالروح قبل جاهلية ملتكم بمئات السنين، وإذا استشهدتم في سبيل جنة الزنى فقد نعم كفرة الروم قبلكم بجنة تجري من تحتها الأنهار يلبسون فيها ثياباً خضراً وحمراً متقابلين ومتكئين على الأرائك يطوف عليهم ولدان ونساء بخمور ولحم طير وما يشتهون وهم الكافرون، وبزت جنتهم جنتكم التي استشهدتم في سبيلها فرحين طمعاً بما وعدتم به من زنى وفجور)

النبي المعصوم (215)

التفت إلى الجمع، فلم ير أي تأثر، فقال: سأقرأ عليكم قرآنا آخر كتبه سلف صالح لنا (1).. لقد قال فيه: (بسم الله الغفور الرحيم، أعارض قرآن مَنْ آخر اسمه الدال وأوله الميم، بلسان فصيح عربي مبين، لا يمنعني منه سيف ولا سكين، إذ قال لي بلسان الإلهام سيد المرسلين: قل المعجزة لا شريك فيها لرب العالمين وفي الفصاحة يشترك كثير كثيرين يغلب فيها أحيانًا الصالح الطالح والكافر المؤمنين، فليست الفصاحة ولو في النهاية آية ولا معجزة اللهم إلا عند الذين أوطاهم عشوة معلم مجنون حتى قالوا عنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مع أنه بإقراره في سورة الأحقاف لم يدر قط ما يُفْعل به ولا بتباعه أجمعين أكتعين، فقل يا من اسمه رمند ولقبه مرَتْيِن: آه، لقومٍ يقبل الباطل والخرافات والترهات كأنها اليقين، وإن كنتم في شك مما ألهمنا إليه عبدنا يا معاشر المسلمين فأتوا بحلِّ هذه الحجة، وبمثل هذه السورة وادعوا لذلك إخوانكم من الجن إن كنتم مهتدين. فإن لم تقدروا، ولن تقدروا فقد زهق الباطل، وانتقام اليقين والحمد والشكر لله آمين، آمين)

بقي فرانكلين وقتا غير قليل يرطن بمثل هذه الركاكة إلى أن كاد الجمع ينفض عنه.. بل عزم بعضهم على ذلك إلى أن ارتفع صوت مهيب يخترق تلك الركاكات يرتل بخشوع ومهابة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

__________

(1) هو ريموند مارتيني (1220 ـ 1284 م) وهو راهب مبشر دومينيكاني إسباني، تبحر في دراسة القرآن، واجتهد في الجدل ضده، فألف كتابًا بعنوان (الخلاصة ضد القرآن)، وقد حاول معارضة القرآن، فوضع السورة المذكورة (عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص 213 ـ 215)

النبي المعصوم (216)

(115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (الأنعام)

ارتفعت العيون إلى صاحب الصوت المهيب، فإذا به الحكيم، فافترت ثغور المجتمعين على ابتسامة فرح وسرور، وانصرفت عن فرانكلين إلى الحكيم.

أراد فرانكلين أن يصرف إليه المستمعين، فقال: ما بكم؟.. هل غركم هذا الساحر عن أنفسكم.. أم أن سحره قد انطلى عليكم؟

قال الحكيم: الساحر لا يرى في حياته إلا السحر.. والمجنون لا يرى في حياته إلا الجنون.

قال فرانكلين: هل تراك تتهمني، أم تقذفني، أم تسبني؟

قال الحكيم: أنا لا أتهمك ولا أقذفك، وما علمنا نبينا أن نسب أحدا من الناس، ولكني أعرض عليك أن نبحث في الحقائق بعيون أهل الحقائق لا بعيون أهل الدجل.

قال فرانكلين: وما عيون أهل الدجل؟

قال الحكيم: تلك العيون التي رأى بها فرعون وملؤه ما جاءهم به موسى - عليه السلام - من الآيات، فقد رأوها سحرا لأنهم لم يروا في حياتهم إلا السحر، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} (غافر)، وقال تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)} (الذاريات).. ألا ترى عمى هذا الأحمق عن الاحتمالات التي يتطلب العقل السليم النظر فيها.. فقد انحصر ما فعله موسى - عليه السلام - عنده في السخر أو في الجنون.

قال فرانكلين: فأنت تشبهني به إذن؟

قال الحكيم: بل أنت تشبه نفسك به.

قال فرانكلين: كيف تقول ذلك، ثم تدعي أن نبيكم لم يعلمكم أن تسبوا أحدا من الناس.

قال الحكيم: في إمكانك أن تصرف هذه المسبة عنك، وتلصقها بي.

النبي المعصوم (217)

قال فرانكلين: كيف ذلك؟.. وهل يمكن للمسبة أن تتجول لتبحث عمن تحل به؟

قال الحكيم: لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (أيما امرئ قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: أنت لي عدو فقد باء أحدهما باثمه إن كان كذلك، وإلا رجعت على الأول) (2)

قال فرانكلين: فكيف أحولها إليك؟

قال الحكيم: هيا بنا نحتكم إلى ما احتكم إليه فرعون.

قال فرانكلين: وإلى ما احتكم فرعون؟

قال الحكيم: لقد قص القرآن علينا خبر ذلك، فقال: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} (الأعراف)

كان لقراءة الحكيم تأثيرها الكبير في نفوس المستمعين، بحيث كادوا ينحازون انحيازا كليا إليه، فخشي فرانكلين إن تصرف أي تصرف لا يقبله العقل أن يظهر بمظهر المنهزم، فقال: فاعتبرني موسى.. وتعال ألق بحبالك، لألقي بعصاي.

__________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه الخرائطي في مساوي الاخلاق.

النبي المعصوم (218)

قال الحكيم: لا يمكن أن يعتبر أحدنا نفسه موسى.. فموسى هو النتيجة التي نصل إليها.. وموسى هو الحقيقة التي تقضي على الباطل..

قال فرانكلين: فلنعتبر أنفسنا جميعا سحرة ومخادعين.. ولنلق ما عندنا من حبال وعصي لنعرف من منا موسى، ومن منا غيره؟

قال الحكيم: أما كون ما كنت تقرؤه سحرا وخداعا، فلا أظنك تخالفني فيه.. أم أنك تخالفني فيه؟

قال فرانكلين: ماذا تقصد؟

قال الحكيم: لا شك أنك تعرف كاتب تلك الآيات التي كنت تقرؤها إن كان يصح أن تسمى آيات.

قال فرانكلين: أجل.. وبيني وبينه علاقة وثيقة.

قال الحكيم: فهل ادعى هذا الرجل النبوة، أم أنه لا يزال تابعا للمسيح، ولما يأمر به رجال السلطة الكنسية؟

قال فرانكلين: بل هو لا يزال مخلصا للمسيحية.. ولرجال الدين المعصومين فيها.

قال الحكيم: فما قرأته إذن من اعتباره صفيا مرسلا إليه كذب وخداع؟

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: هل يزعم صاحبك هذا أن ما يقرؤه على الناس كلام الله موحى به إليه كما أوحيت الأسفار المقدسة للنبيين؟

قال فرانكلين: هو لا يزعم ذلك، وهو أكثر تواضعا من أن يزعم ذلك.

قال الحكيم: فقد كذب إذن في نسبة كلامه إلى الله..

قال فرانكلين: أنت لم تفهم غرض هذا الكتاب.

قال الحكيم: فوضح لي غرضه.

قال فرانكلين: إن غرضه أن يرد على التحدي الذي نطق به القرآن.. ألم يزعم القرآن أنه لو

النبي المعصوم (219)

اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل القرآن لن يأتوا بمثله؟

قال الحكيم: أجل.. لقد قال تعالى في ذلك التحدي: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} (الإسراء)

قال فرانكلين: فقد رد صاحبي هذا على هذه الدعوى.

قال الحكيم: بل لم يرد عليها؟

قال فرانكلين: كيف ذلك، وأنت ترى آياته لا تختلف كثيرا عن آيات القرآن؟

قال الحكيم: إن ما تقوله يشبه ما رآه فرعون من عصا موسى - عليه السلام - حين تصورها سحرا.. لأنه تصور أن كل خارق للعادة لن يكون إلا سحرا.

قال فرانكلين: فكيف تميز السخر عن غيره؟

قال الحكيم: بالاحتكام إلى أهل الاختصاص.. لقد احتكم فرعون إلى أهل الاختصاص من السحرة، فلم يملكوا إلا أن يسجدوا.

قال فرانكلين: فلمن نحتكم نحن الآن؟

قال الحكيم: لقد أثبتنا أن ما قرأته ليس كلاما من الله.. وأقررت بنفسك أن صاحبك هذا مجرد متلاعب، وليس صاحب رسالة كما تزعم كلماته.. وبذلك كانت حباله التي ألقاها مجرد سحر وخدعة بصرية كتلك الخدعة التي كنت تمارسها الآن بيننا.

قال فرانكلين: فالدور الآن إذن لمحمد.

قال الحكيم: أجل.. والعقل السليم يطلب منا أن ننظر فيما ألقاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما جاء به هل هو رسالة من الله إليه، أم هو مجرد خدعة لا تختلف عن خدعة صاحبك؟

قال فرانكلين: فكيف نعرف ذلك؟

قال الحكيم: إن المخادع يتميز بأربع صفات.. والخدعة لا يمكن أن تقوم إلا بأربعة أركان.. ولن ينجخ المخادع إلا إذا تحقق بها.. والعقل السليم يطلب منا تطبيق تلك المواصفات

النبي المعصوم (220)

على ما جاء به محمد - عليه السلام - لنميز بين كونه مخادعا أو صادقا.

قال فرانكلين: فما هي؟

قال الحكيم: أما الأولى، فهي الكذب، فلا يمكن للمخادع أن يكون صادقا، وصاحبك قد علمت أنه كذب فيما ادعاه في كتابك من الوحي الذي أوحي به، وأنت كذلك كذبت على الجماعة حين أخبرتهم أن المنديل تحول إلى حمامة.

قال فرانكلين: والثانية؟

قال الحكيم: الغش..

قال فرانكلين: ما تريد به؟

قال الحكيم: الغش مضاد للنصيحة.. فالغاش لا يطلب إلا تحقيق مطلب شخصي بغض النظر عن مصلحة من يخاعه.

قال فرانكلين: قد أوافقك في أن أفعال السحرة تنطلق من الغش، لأنهم لا يرون إلا مكاسبهم، ولكنك لا يمكنك أن تتهم صاحبي بالغش.

قال الحكيم: المنطق يتهمه.. لأنه مثل من تصدق بعملة مزورة، سر بها الفقير، ليرتد سروره حزنا.

قال فرانكلين: فما الثالثة؟

قال الحكيم: الاحتيال؟

قال فرانكلين: أتتهم صاحبي بالاحتيال؟

قال الحكيم: ما دمت قد أقررت بأن ما ذكره ليس وحيا موحى به إليه، فهو محتال، فالمحتال هو الذي يجعل الغاية مبررا للوسيلة.. فلو أن صاحبك طرق الأمر من بابه، ما اعتبر محتالا، ولكنه لما علا البيت من ظهره اعتبرته محتالا، بل هو نفسه يعتبر نفسه محتالا.

قال فرانكلين: فما الرابعة؟

النبي المعصوم (221)

قال الحكيم: الكسل.

ضخك فرانكلين، وقال: وما علاقة الكسل بالخداع؟

قال الحكيم: لأن المخادع لا يخادع إلا ليجني أرباحا من وراء خدعته.. وهو لذلك يتجنب الطرق المجهدة.. ويركن إلى الطرق السهلة.. وكل ذلك بسبب كسله.

قال فرانكلين: لم أفهم.

قال الحكيم: لاشك أنك ترى سلعا كثيرة مغشوشة تزاحم السلع الأصيلة.

قال فرانكلين: أجل.. أرى ذلك.

قال الحكيم: أيهما أكثر كلفة، وأعظم تعبا: السلع الأصيلة، أم السلع المغشوشة؟

قال فرانكلين: بل السلع المغشوشة.

قال الحكيم: فالكسل هو سبب غش السلع.. فالكسول الذي عجز عن الأصيل راح يخادع بالمغشوش.

قال فرانكلين: فكيف تطبق هذا على صاحبي؟

قال الحكيم: لقد عجز صاحبك أن يكون نبيا حقيقيا، فراح يدعي نبوة مغشوشة.

قال فرانكلين: سلمت لك بهذه الأصول التي تريد أن تطبقها على ما جاء به محمد.. ولكن هل يمكن لشخص في الدنيا أن يطبقها على محمد، وما جاء به محمد.

قال الحكيم: أجل.. وها أنا أمامك.. وسنعرض بعين العقل والمنطق هذه الأصول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الكذب

قال فرانكلين: فلنبدأ بالكذب.. أنت تزعم أن محمدا في دعواه الرسالة لم يكن كاذبا.. وأن ما يقوله من وحي الله إليه صدق لاشك فيه.

النبي المعصوم (222)

قال الحكيم: أجل.. أقول ذلك، كما يقوله المسلمون في جميع أجيالهم.

قال فرانكلين: أليس الصدق هو مطابقة الأمر للواقع؟

قال الحكيم: أجل.

قال فرانكلين: لقد ذكر القرآن الجنة والنار والملائكة وأشياء كثيرة من عالم الغيب.. فكيف تستطيع أن تتأكد من صدق كل ذلك، وأنت لم تر شيئا من ذلك؟

قال الحكيم: ألست تقرأ الجرائد؟

قال فرانكلين: أجل.. وما علاقة ذلك بهذا؟

قال الحكيم: ألست تصدقها فيما تخبرك به من أخبار؟

قال فرانكلين: أجل..

قال الحكيم: حتى لو لم تر ما وصفوه لك من أخبار.

قال فرانكلين: أجل.. فلا يمكنني أن أرحل في كل لحظة لكل بقعة من بقاع العالم لأتأكد مما جرى فيها.

قال الحكيم: فأنت تثق في الموكلين بنقل الأخبار إليك؟

قال فرانكلين: أجل.. فالصحف المحترمة في العادة لا تختار إلا الثقاة.

قال الحكيم: فقد عرفت إذن بأن التأكد من الصدق لا يحتاج إلى أن نعرض كل مايقوله الصادق إلى الواقع، وإلا لم نحتج إلى الصادق للتعرف على الحقائق.

قال فرانكلين: ذلك صحيح.

قال الحكيم: ما تقوله في عالم الشهادة هو نفسه ما يجري في عالم الغيب، فالله تعالى بحكمته لم يجعل البشر جميعا رسلا، وإنما انتقى منهم ناسا ثقاة ليبلغوا رسالته للناس، وليخبروا الناس بما غاب عنهم من حقائق، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:75)

النبي المعصوم (223)

قال فرانكلين: فكيف عرفت أن محمدا مصطفى كهؤلاء؟

قال الحكيم: ذلك علم طويل.. وأدلته لا يمكن استيفاؤها في هذا المحل وحده، وإن تك صادقا، فإن الله سيرسل لك من العقل ما تدرك به صدقه ونبوته.

قال فرانكلين: فكيف تثبت لنا صدق محمد فيما يدعيه؟

قال الحكيم: سأعرض لك ثلاث شهادات على صدقه، وأظن كل صاحب عقل سليم يكتفي بها.

قال فرانكلين: فما هي؟

قال الحكيم: شهادة أعدائه، وشهادة أتباعه، وشهادة الواقع.

الأعداء

قال فرانكلين: كيف يشهد له أعداؤه بالصدق، وهم الذين بارزوه المحاربة؟

قال الحكيم: أحيانا تقف الشهوات أو الأمراض النفسية حائلا بين الإنسان، وبين العمل بما يقتضيه عقله.. ألا ترى أن السكير المدمن يعلم من أضرار الخمر ما يعلم، ولكنه مغلوب على أمره لا يستطيع أن ينفك عن شربها؟

قال فرانكلين: بلى.. فما السكر الذي حال بين قوم محمد، وبين اتباعه ما داموا يعلمون صدقه؟

قال الحكيم: لقد كان لأعدائه من السلطة في بلادهم، ومن المنعة، ولهم فوق ذلك من الأعراف، ما جعلهم ينفرون مما يطالب به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانوا مستيقنين به.. لقد ذكر الله تعالى ذلك في معرض تسليته لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} (الأنعام)

لقد كان أعداؤهم يودون أن يكونوا نبيهم أحد كبرائهم كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31)

النبي المعصوم (224)

وكانوا يودون من نبيهم أن ينصب عرشه بينهم، ثم يدعو كل واحد منهم ليحقق له مطالبه وشهواته كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)

لكنه لما رفض نبيهم أن ينصاع لمطالب نفوسهم بارزوه المحاربة مع علمهم بصدقه.

قال فرانكلين: فلم لم يلب طلباتهم، ليقيم عليهم الحجة؟

قال الحكيم: ألا تعلم أن وظيفة النبي تختلف عن وظيفة الكاهن المتنبئ الساحر.. النبي هاد وطبيب، ولا يمكن للطبيب أن يستسلم لطلبات مريضه، وإلا أضر به استسلامه له؟

قال فرانكلين: لقد ذكرت لي أن قومه شهدوا له بالصدق مع إعراضهم عنه في نفس الوقت.. فكيف عرفت ذلك؟

قال الحكيم: لقد وردت الأسانيد الكثيرة المتواترة تخبر بذلك، وسأذكر لك بعضها لتعلم مدى صدق ما ذكره القرآن الكريم من ذلك.

لقد روي في سبب نزول قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33) أن أبا جهل لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله تعالى الآية (1).

وعن أبي يزيد المدني؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا جهل فصافحه، قال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟! فقال: والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟

وقد روي أن أبا جهل جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، هو وأبو سفيان صَخْر بنِ حَرْب، والأخْنَس بن شِريْق، ولا يشعر واحدٌ منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هَجَم

__________

(1) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

النبي المعصوم (225)

الصبح تَفرَّقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًا أن صاحبيه لا يجيئان، لما تقدم من العهود، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا ألا يعودوا. فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شَرِيق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حَنْظَلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، حملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تَجاثينا على الرُّكَب، وكنا كَفَرَسي رِهَان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه (1).

وروي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شَرِيق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدًا ابن أختكم، فأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبيًا لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غُلِبَ محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا. فيومئذ سُمِّي الأخنس: وكان اسمه (أبيّ)، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدًا

__________

(1) رواه ابن إسحق وغيره.

النبي المعصوم (226)

لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟) (1)

وعن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، أدعوك إلى الله. فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منتهٍ عن سبَِ آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلَّغت؟ فنحن نشهد أن قد بلَّغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء: أن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل (2).

وعن ابن عباس أن أبا سفيان ابن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا ذهبوا إلى الشام، لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد

__________

(1) رواه ابن جرير.

(2) رواه البيهقي، وابن أبي شيبة بنحوه.

النبي المعصوم (227)

أحد منهم؛ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؟ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي فقرأه، قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات فأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ أنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله

النبي المعصوم (228)

علي الإسلام) (1)

وعنه قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تبّا لك يا محمد ألهذا جمعتنا فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1) (2)

وعن عبد الله بن سلام قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كنت ممن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: (أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) (3)

ومن الأعداء الذين شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم عداوتهم الشديدة النضر بن الحارث الذي خاطب قومه قائلا: (يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، ثم قال لهم، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم)، فهذا كلام النضر بن الحارث الذى كان شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذى

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.

النبي المعصوم (229)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينصب له العداوة.. وهكذا قال سائر أعدائه كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما.

ولم تكن هذه الشهادة خاصة بحياتة صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، بل إنه قبل البعثة اشتهر باسم الصادق الأمين، وقد ذكر شريكه في التجارة السائب المخزومي كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ـ بعد أن لقيه يوم الفتح ـ: (مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري) (1)، وفي لفظ أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري)

ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرحوا جميعا، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانته صلى الله عليه وآله وسلم.

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ومما يدخل في هذا الباب إيمان من حاربوه من قبل واحداً فواحداً، طوعاً لا إكراهاً.. ذلك لأنهم ما كانوا يشكون في أن محمداً صادق، ولكن فاجأهم بشيء لم يسمعوا به هم ولا آباؤهم فأنكروه، حتى إذا ذهب هول المفاجأة وحكّموا عقولهم التقى صدق الفكر بالثقة الأساسية بشخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتولد عن ذلك إيمان.

قال فرانكلين: ولكن سبب هذا الإيمان قد يكون طلبا لمصالح لا اقتناعا بصدقه.

قال الحكيم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أكثر حياته الدعوية وهو معدود من المستضعفين، فقد ظل في مكة ثلاث عشرة سنة أمضاها كلها في الاضطهاد والأذى هو وأصحابه، وأمضى في المدينة ثمان سنوات قبل فتح مكة، وهو معرض في كل لحظة للهجوم من كل الجهات.. بالإضافة إلى ذلك لم يكن لدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي مصلحة من المصالح التي تطلبها النفوس.. بل لم يكن عنده إلا التضحية بالنفس والمال والوطن.. فأي مصالح يطلبها هؤلاء بإيمانهم؟

التفت الجكيم إلى فرانكلين، وقال: هذه بعض شهادة خصوم محمد، بعضهم أسلم بعد

__________

(1) رواه أحمد.

النبي المعصوم (230)

خصومة شديدة، وبعضهم مات على كفره.. ولكن الجميع حتى في أشد حالات الخصومة كانوا مؤمنين أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد تمثلت فيه شخصية الصادق في أعلى مراتبها.

الأتباع

قال فرانكلين: ربما تواضعت، فقبلت منك شهادة أعدائه وخصومه، ولكن كيف تعتبر شهادة الأتباع شهادة.. وهي تنطلق من ذاتية محضة.

قال الحكيم: قد يكون التابع تابعا عن غرض، وحينذاك تكون شهادته تابعة لغرضه، ولكن إن خلت الشهادة من الأغراض، وكانت نابعة من إخلاص عميق، فإن ذلك دليل على صدق صاحبها في شهادته.

بالإضافة إلى ذلك فإن الأتباع يرون ما لا يرى غيرهم، وبذلك يكون لشهادتهم من القيمة ما ليس لغيرهم.. لقد قال المستشرق الإنجليزى (هـ جى ويلز) يقرر هذا: (إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا فى صدقه لما آمنوا به) (1)

ويقول هيجنس في كتابه (الاعتذار عن محمد والقرآن Appology for Md. And Quran): (إن أتباع عيسي ينبغي لهم أن يجعلوا علَى ذِكر منهم أن دعوة محمد أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم يحدُث مِثله في الأتباع الأولين لعيسى ومَن بحث عن مِثل ذلك لا يرجع إلَّا خائبًا؛ فقد هرب الحواريون، وانفضُّوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه؛ فخذله أصحابه، وصَحُوا من سكرتهم الدينية، وأسلموا نبيهم لأعدائه يسقونه كأس الموت! أما أصحاب محمد؛ فالتفوا حول نبيّهم المبغي عليه، ودافعوا عنه مخاطرين بأنفسهم إلَى أن تغلب بهم علَى أعدائه)

سكت قليلا، ثم قال: سأورد عليك بعض أخبار هؤلاء الأتباع لتعلم أنه لو لم يكتمل

__________

(1) الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب لأحمد بن حجر آل بوطامى ص 132.

النبي المعصوم (231)

لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كل الصدق ما أخلصوا له ذلك الإخلاص.

عن القاسم بن عبد الرحمن قال: انتهى أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم، فاقل: فما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل (1).

وعن زيد بن ثابت قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. فقلت له: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه (2).

وفي رواية: فقال سعد: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني من الأموات، وأقرئه السلام، وقل له: يقول سعد: جزاك الله عنا، وعن جميع الأمة خيراً.

وعن مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لقيت العدو ولقيت أبي فيهم، فسمعت لك منه مقالة قبيحة فلم أصبر حتى طعنته بالرمح – أو حتى قتلته ـ، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء آخر فقال: إني لقيت أبي فتركته وأحببت أن يليه غيري، فسكت (3).

وعن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم فقال: غبّر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه!

__________

(1) رواه ابن إسحاق.

(2) رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح.

(3) رواه البيهقي، وقال: وهذا مرسل جيد.

النبي المعصوم (232)

فقال: لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته (1)

وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، وقالوا: قُتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ـ أي قتلى ـ لا أدري أيهم استقبلت به أولاً، كلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمتَ من عطب (2).

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت كل هذا الإخلاص... وهل ترى أنه يمكن أن يتوجه لإنسان مخادع كاذب.

إن هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف لم يكونوا أغراراً ولا مغفلين ولا منعزلين عن العالم، بل بعضهم من مكة التي كان العرب يقصدونها سنوياً للحج، وتسلم الجزيرة العربية كلها لأهلها بالفضل والزعامة، عدا عن صلات أهلها بواسطة التجارة مع اليمن ومع الشام حيث مراكز الحضارة، وبعض أصحابه من المدينة حيث الصلات الفكرية مع اليهود وما ينشأ عن ذلك من تفتح ذهني.

لقد كانت هيئته صلى الله عليه وآله وسلم هي دليلهم الأول على مبلغ مكانته من الصدق، ودليلاً كافياً على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى كل ما يبلغه من وحى الله عز وجل، يعرفه بذلك كل من صفت فكرته، وتجرد عن الأنانية كما كان من الحبر عبد الله بن سلام الله عنه فإنه ما إن رآه عند مقدمة المدينة حتى استيقن صدقه كما قال: لما قدم النبى صلى الله عليه وآله وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت فى الناس لأنظر إليه، فلما استبنت

__________

(1) رواه البزار، قال الهيثمي: ورجاله ثقات.

(2) رواه الطبراني.

النبي المعصوم (233)

وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شئ تكلم به أن قال: (أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام) (1)

فلم يسعه بعد ذلك غير أن يعلن إسلامه، ويتبرأ من كيد يهود وعنادهم ففعل ذلك مقتنعاً مختاراً، وقد نزل فى فضله آيات من كتاب الله تعالى منها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الاحقاف:10)، وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد:43)

وقد ذكر عبد الله بن رواحة هذا الشاهد، فقال:

لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر

بل إن المعاصرين له كانوا يسمونه بالصادق المصدوق (2)، أى الصادق فى نفسه، المصدوق أى المعصوم فيما يجئ به عن ربه عز وجل، ويرون صدقه وعصمته ينبئ عنه مظهره وجواره، قبل أن تنبئ عنه أقواله.

الواقع

قال فرانكلين: لا بأس.. سأسلم لك بجدوى هاتين الشهادتين.. ولكن كيف تعتبر الواقع شاهدا لنبيكم.. وقد ذكرت لك من قبل أنه لا أحد رأى ما يدعيه محمد من الملائكة، أو الجنة أو النار.. أو أي شيء من ذلك الغيب الذي يدعو له محمد؟

قال الحكيم: هل اجتزت في حياتك أي مسابقة علمية أو وظيفية؟

قال فرانكلين: أجل.. وأنا بسببها قد نلت أعلى الشهادات، وتبوأت أرقى المناصب.

__________

(1) رواه البخاري.

(2) كما عبر عن ذلك ابن مسعود بقوله: حدثنا رسول الله (وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك... الحديث رواه أبو داود والترمذي.

النبي المعصوم (234)

قال الحكيم: فهل امتحنت في تلك المسابقات في كل ما درسته وطالعته وبحثت فيه؟

قال فرانكلين: لا يمكن ذلك.. فما طالعته وبحثت فيه وتعلمته أكبر بكثير من الأسئلة التي وجهت لي.

قال الحكيم: فكيف اكتفى واضعو الأسئلة بتلك الأسئلة.. وكيف جوزوا لأنفسهم أن يعطوك تلك الأوسمة من غير أن يمتحنوك في كل حرف تعلمته؟

قال فرانكلين: ذلك لا يمكن.. ثم إن الأسئلة التي سئلت عنها لا يمكن أن يجيب عنها إلا من اكتمل له حظ كبير من العلم.. وبهذا يستدل الممتحنون بما أجبت على ما لم أجب.

قال الحكيم: فطبق هذا المقياس على شهادة الواقع لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

قال فرانكلين: كيف ذلك.. ونحن لم نر الملائكة ولا الجنة ولا النار.

قال الحكيم: لو رأيت كل ذلك لارتفع التكليف عنك.. لقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} (الفرقان)

قال فرانكلين: فكيف يشهد الواقع لمحمد إذن.. أم أنك تريد مني ثقة عمياء؟

قال الحكيم: استدل بما شهد له الواقع على ما لم يشهد.

قال فرانكلين: كيف ذلك؟

قال الحكيم: حينما استبعد المشركون بعقولهم الضيقة إمكانية البعث استدل الله لهم عن ذلك الغيب المكنون بالواقع المشهود، فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} (يس)

لقد استدل الله لهذا الأحمق الذي استبعد أن يحيي الله العظام بأن الله هو الذي أنشأها أول

النبي المعصوم (235)

مرة وهو الذي أنشأ كل شيء.. فكيف يستبعد منه أن يحيي الموتى.

قال فرانكلين: وما علاقة هذا بما نحن فيه؟

قال الحكيم: أنت تختصر ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الغيب الذي لا يمكن أن نراه ما دمنا في هذه الدنيا.. وتريد من خلال ذلك أن تبين استحالة برهنة الواقع على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك مغالطة عظمى..

قال فرانكلين: كيف تكون مغالطة.. وهي تعتمد منهجا عقليا محترما.

قال الحكيم: ولكنها تصور أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقتصر على ذلك الغيب.. إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يتطلب شهادة الواقع موجود في الغيب وموجود في الشهادة، وليس من المنطق أن نبحث في شهادة الغيب المكنون ونترك شهادة الواقع المعلوم.

قال فرانكلين: ولكن الواقع يشهده كل الناس.

قال الحكيم: من الواقع من لا يشهده أحد من الناس، فيكون حكمه حكم الغيب إلى أن يظهر للوجود.

قال فرانكلين: فهل هناك غيب من هذا النوع نطق به محمد؟

قال الحكيم: كثير هو ذلك الغيب.. وهو ليس من نطق محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل من نطق القرآن أيضا.. وأنا أتحدى كتابك الذي كنت تقرؤه أن ينطق بغيب محترم واحد.

قال فرانكلين: وهل نطق كتاب محمد بغيب من الغيب؟

قال الحكيم: بل نطق بكثير منه.. ولم تزد الأيام كتاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا صدقا وتصديقا (1).

سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنك تعلم بأن آخر النظريات العلمية تنص على أن مبدأ

__________

(1) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالتي (معجزات علمية)، و(معجزات حسية) من هذه السلسلة، وسنذكر هنا بعض النماذح باختصار من باب التمثيل، أما التفاصيل فموجودة في محالها من تينك الرسالتين.

النبي المعصوم (236)

الكون كان ما يسمى بالانفجار العظيم، وأن السماء بجميع ما فيها كانت مجتمعة في نقطة واحدة.

قال فرانكلين: أجل.. وقد كشف قومي ذلك بما أوتوا من حنكة ومعرفة.

قال الحكيم: ألا يمكن أن يكون اليونان هم الذين اكتشفوا ذلك؟

قال فرانكلين: يستحيل ذلك.. فأين معارف اليونان وهذا.. إن هذه المعرفة لم تأت من فراغ.. إنه نتيجة لدراسات فلكية كثيرة.. بل هي لم تعتمد على الدراسات المجردة.. فهي اعتمدت على وسائل متطورة لا يمكن أن يملكها اليونان ولا غير اليونان.

قال الحكيم: فإذا نطق بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطق بها القرآن من غير أي وسيلة.. ولا أي دراسات سابقة.

قال فرانكلين: ذلك مستحيل.

قال الحكيم: فقد نطق القرآن بذلك.. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الانبياء:104)

قال فرانكلين: ربما يكون ما قاله مجرد مصادفة.

قال الحكيم: المصادفة كما تكون في الصواب تكون في الخطأ.. أليس كذلك؟

قال فرانكلين: بلى.. ذلك صحيح.. بل إنها في الخطأ أكثر منها في الصواب.

قال الحكيم: ولكن القرآن الكريم، وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع فيه خطأ واحد (1).

الغش

قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الكذب، وعرفنا أن محمدا أبعد الناس عنه، فحدثنا عن

__________

(1) انظر التفاصيل الكثيرة في الرسالتين اللتين سبق ذكرهما.

النبي المعصوم (237)

الغش.

قال الحكيم: الغش مضاد للنصيحة.. والغاش هو الذي يستهين بمصالح الناس، فهو يعبث بها ليخدم مصالحه.

قال فرانكلين: وهذا لن تستطيع أن تنقذ منه محمدا، ولا دين محمد.

قال الحكيم: لا ينبغي أن نتسرع في أحكامنا.. ولننظر للواقع، فالواقع هو وحده الكفيل بتمييز الناصح من الغاش.

قال فرانكلين: أجل.. فما هو الواقع الذي أنجزه محمد غير سفك الدماء؟

قال الحكيم: سفك الدماء موجود في كل واقع.. ولهذا لا ينبغي أن ننحجب بالدماء عن الحقائق.

قال فرانكلين: فمن الشهود الذين تريد أن تستقدمهم ليشهدوا لمحمد بالنصيحة، ويجنبوه عار الغش؟

قال الحكيم: سأكتفي بشاهدين كلاهما تسلم له العقول السليمة، وكلاهما تذعن له.

قال فرانكلين: من هما؟

قال الحكيم: الدين والواقع

قال فرانكلين: وكيف يحق لهذين أن يشهدا؟

قال الحكيم: الدين هو الأصول والفروع التي جاء بها محمد.. والواقع هو تأثير تلك الأصول والفروع في البيئة التي آمنت بها وطبقتها (1).

التفت إلى فرانكلين، وقال: إن شئت مثالا يدلك على هذا.. فاذهب إلى الصيدلي، واسأله عن الشهادات التي تثبت مصداقية أي دواء من الأدوية، فسيذكر لك أنهما اثنان: احتواء الدواء

__________

(1) أكثر رسائل السلسة تحاول البرهنة على هذا، وينظر بصفة خاصة لتأثير الإسلام في الواقع الإنساني رسالة (ثمار من شجرة النبوة)

النبي المعصوم (238)

في نفسه على عناصر الشفاء.. وظهور النتائج الواقعية الدالة على جدواه.

الدين

قال فرانكلين: فحدثني عن نصيحة الدين الذي جاء به محمد.

قال الحكيم: أنتم ـ معشر المسيحيين ـ تفخرون على الديانات جميعا بتلك الوصايا التي وردت في الكتاب المقدس، وتكادون تستدلون بها وحدها على صدق ما ورد في الكتاب المقدس، مع ما فيه من تشويه كثير.

قال فرانكلين: ومن لا يفخر بتلك المعاني الإنسانية السامية؟

قال الحكيم: ففي نصوص الإسلام المقدسة من الكتاب والسنة أضعاف تلك النصوص، وهي تحمل من المعاني أضعاف ما ورد في الكتاب المقدس، وهي ليست مجرد وصايا عارية عن طرق التنفيذ، بل هي وصايا لها من التشريعات ما يملأ بها النفس والوجدان.

وسأكتفي بقراءة بعض النصوص المقدسة لترى المعاني السامية التي كان يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي تحيل أن يكون الداعي إليها إنسانا غاشا يكتفي باللهف على خدمة مصالحه.

قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (البقرة)

قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا

النبي المعصوم (239)

وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (الأنعام)

وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} (الإسراء)

وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} (آل عمران)

النبي المعصوم (240)

وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} (الأعراف)

وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (آل عمران)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: في إمكانك أن تجري مقارنة بين المعاني السامية التي وردت في القرآن الكريم، وبين المعاني التي وردت في كتاب صديقك المقدس..

فإن لم تر كتاب صاحبك قادرا على ذلك، فارتفع لتجري مقارنة بين هذه المعاني وغيرها وبين المعاني التي وردت في الكتاب المقدس..

وأنا متيقن تماما أنك لن تجد في أي كتاب من كتب الدنيا مقدسة كانت أو غير مقدسة من القيم النبيلة ما في الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فهل يمكن أن يكون أشرف كتاب في الدنيا، وأنبل كتاب فيها كتاب غش؟

وهل يمكن أن يكون من جاء بذلك الكتاب رجلا غاشا كاذبا لا حظ له من الصدق والنصح؟

وهل يمكن لمن دعا إلى تلك القيم النبيلة، وأخبر بالوعيد الشديد المرتبط لمن خالفها أن يكون كاذبا وغاشا.

هل يمكن لمن حذر من الكذب على الله بمثل هذه الصيغ المشددة أن يكون تحذيره هذا

النبي المعصوم (241)

كذبا على الله..

اسمع لهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (آل عمران:94)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأنعام:93)، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:144)، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (لأعراف:37)، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (يونس:17)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود:18)، وقال تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طه:61)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} (العنكبوت:68)، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الشورى:24)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الصف:7)

الواقع

أحس فرانكلين بثقل الآيات التي كان يقرؤها الحكيم، وكأنه كان يخاطبه بها، أو يخاطب

النبي المعصوم (242)

صديقه الذي سولت له نفسه أن يتحدى كلام الله، فقال برعدة لم يستطع أن يحبسها: فلندع هذا.. وأخبرنا عن تأثير ما جاء به محمد في الواقع.. فإن هناك فرقا واسعا بين النظريات وتطبيقاتها.

قال الحكيم: أولا.. لا ينبغي أن يؤاخذ الأستاذ النصيح الذي لم يألو جهدا في نصيحة طلابه إن قصر بعضهم أو فرط.. ولذلك فتطبيق الدين في جميع مراحل التاريخ الإسلامي تم على مستويات مختلفة، لعل أدناها هو المستوى الذي نعيشه في هذا العصر.. ولذلك لا ينبغي أن نحكم على الإسلام من خلال سلوك المسلمين.

لقد قال تعالى يبين أن خلفاء الرسل مختلفين في مدى تمسكهم بدين أنبيائهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)

بل ذكر أن التفريط أغلب على هؤلاء من الاقتصاد أو السبق، فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169)، وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59)

قال فرانكلين: فقد أخفقت دعوة محمد إذن في جانبها التطبيقي؟

قال الحكيم: بل لم تنجح دعوة في الدنيا كما نجحت دعوة محمد.. كل المبادئ بلت وانهارت وسقطت إلا المبادئ التي جاء بها محمد، فقد آتت أكلها في حياته، وهي لا تزال تؤتي أكلها كل حين.

لن أطيل عليك، بل سأكتفي بشهادة رجل كان يعيش في البيئة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو ابن عمه، وهو يتحدث مع ملك من الملوك حول المبادئ السامة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تحولت بعد ذلك واقعا ملموسا لا زلنا نشهد آثاره إلى اليوم.

النبي المعصوم (243)

لقد سأله النجاشي ملك الحبشة: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟

فقال جعفر: أيها الملك، إنا كنا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلغ، ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة، - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه.

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى العقل الذي يفكر به أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد استدلوا بما نصحهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدقه.. فالنصيحة لا يمكن أن تخرج من غاش.. والصدق لا يمكن أن يخرج من فم كذوب.

قال فرانكلين: ولكن الشريعة المبثوثة في كتب الفقه تحوي مفاسد كثيرة، فكيف تزعم أن الأصول التي تستند إليها أصول صحيحة؟

قال الحكيم: فرق كبير بين كتب الفقه وبين الشريعة.. كتب الفقه تحاول أن تصف الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قد تفلح في ذلك، وقد تخفق.. وإخفاقها لا ينبغي أن يكون مبررا للهجوم على الشريعة.

لقد ذكر علماء المسلمين أن الشريعة المستنبطة من النصوص المقدسة لا يمكن أن تخالطها أي مفسدة أو غش أو مضرة، لقد نص على ذلك بعضهم، فقال: (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل

النبي المعصوم (244)

الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس، وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة) (1)

الاحتيال

لم يجد فرانكلين ما يجيب به الحكيم سوى أن قال: دعنا من هذا.. فلنسلم أن محمدا لم يكن يقصد غش من كان يدعوهم.. بل كان يقصد أن ينصحهم ويخرجهم من جاهليتهم إلى ما يسميه نور الإسلام.. ولكنه لم يجد وسيلة صالحة لذلك غير أن يدعي النبوة، فيحقق به ما تعجز سائر الوسائل عن تحقيقه (2).

__________

(1) إعلام الموقعين:3/ 3.

(2) رد بعضهم على هذا الاحتمال بقوله: (نسبة محمد (القرآن إلى الله لا تكون احتيالا منه لبسط نفوذه، وإلا لم لم ينسب أقواله كلها إلى الله.

ولو أننا افترضناه افتراضا لما عرفنا له تعليلا معقولا ولا شبه معقول، اللهم إلا شيئا واحدا قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في (نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم، ونفاذ أمره فيهم؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه، وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه؛ أما أنه فاسد في ذاته، فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئا، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئا، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتها في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.

و أما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه إلى يومنا هذا: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (يونس:16) (انظر: شبهات حول القرآن وتفنيدها، د. غازي عناية، ص:21)

النبي المعصوم (245)

لاشك أن محمدا كان يعرف الطبع العربي، ويعرف الأنفة التي جبل عليها، وهي أنفة تمنعه من أن يسلم إلا لصاحب زعامة دينية.. ولم يكن محمد يستطيع أن ينال هذه الزعامة من غير واسطة ادعاء النبوة، خاصة وأن الظروف قد ساعدته على ذلك، فالبيئة التي عايشها كانت كلها تزعم أن نبيا قد اقترب موعده، وأن بلده مكة (1)..

ابتسم الحكيم، وقال: نعم.. فلنعتبر هذا احتمالا من الاحتمالات، ولا نستعجل في قبوله أو رفضه حتى نعرضه على حياة محمد وسلوكه، فالمحتال لا بد أن يترك ثغرة تعرف بحيلته..

لاشك أنك تعلم ـ على حسب ما ينص الكتاب المقدس ـ على أن الله تعالى بحكمته لا يترك للمحتال فرصة كافية للتمادي في احتياله.. وأن من يتحدث باسم الله كاذبا على الله لابد أن يأتي اليوم الذي تقع فيه فضيحته.. تقع في حياته قبل موته.

لقد نص الكتاب المقدس على هذا، ولاشك أنك تعلم ما قال غمالائيل معلم اليهود لليهود في حق الحواريين، لقد قال لهم ـ على حسب (سفر أعمال الرسل: 5/ 36 - 39): (يا أيها الرجال الإسرائيليون احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس فيما أنتم مزمعون أن تفعلوا لأنه قبل هذه الأيام قام ثوداس قائلاً عن نفسه: أنه شيء الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة، الذي قتل وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا وصاروا لا شيء بعد هذا قام يهودا الجليلي في أيام

__________

(1) انظر رسالة (معجزات حسية)، فصل (إرهاصات)

النبي المعصوم (246)

الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعباً غفيراً، فذاك أيضاً هلك وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا والآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم لأنه إن كان هذا الرأي وهذا العمل من الناس فسوف ينتقض وإن كان من اللّه فلا تقدرون أن تنتقضوه لئلا توجدوا محاربين للّه أيضاً)

وقد ورد مثل هذا في العهد القديم، ففي الآية السابعة من الزبور الأول هكذا: (لأن الرب يعرف طريق الصديقين وطريق المنافقين تهلك)، وفي الآية السادسة من الزبور الخامس هكذا: (وتهلك كل الذين يتكلمون بالكذب، الرجل السافك الدماء والغاش يرذله الرب)، وفي الآية السادسة عشرة من الزبور الرابع والثلاثين هكذا: (وجه الرب على الذين يعملون المساوئ ليبيد من الأرض ذكرهم)، وفي الزبور السابع والثلاثين هكذا: (لأن سواعد الخطاة تنكر، والرب يعضد الصديقين الخطاة فيهلكون، وأعداء الرب جميعاً إذ يمجدون ويرتفعون، يبيدون، وكالدخان يفنون)

لقد نص القرآن الكريم على هذه السنة، ففيه هذا الخطاب الشديد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} (الحاقة)

إن هذه الآيات الكريمة تخاطب المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقول لهم: لو كان محمد مفتريا كما تزعمون، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. و{لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (1) {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (2)

ومثل ذلك ما نص عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (الإسراء)

__________

(1) قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذنا منه بيمينه.

(2) قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه، وقال محمد بن كعب: هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.

النبي المعصوم (247)

إن هذه الآيات تهديد عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هو افترى على الله ما لم يوح به إليه.

التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: هل ترون مفتريا يمكن أن يقول عن نفسه هذا؟

سكت الجمع، فقال: سأبرهن لكم من خلال القرآن الكريم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاحتيال، وكان أبعد الناس عن ذلك الدهاء الشيطاني الذي يزعمه له المفترون، وسأكتفي بثلاث شهادات تدل على ذلك:

أما الشهادة الأولى، فظاهرة الوحي نفسه، وهي ظاهرة كان يلاحظها الناس في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويصفونها.

وأما الشهادة الثانية، فتأخر الوحي في الوقت الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إليه.

وأما الشهادة الثالثة، فنزول الوحي بالعتاب والتخطئة لرأي رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سلوك سلكه.

فكل هذه الأمور يستحيل أن تصدر من محتال.

شهادة الوحي

قال فرانكلين: كيف تعتبر ما تسميه ظاهرة الوحي دليلا، ونحن نعتبر الوحي نفسه متهما، هل يحق عندك أن يشهد الخصم لنفسه؟

قال الحكيم: إذا كان الخصم صادقا، فإنه يصح أن يشهد على نفسه، بل إن شهادته تبز كل شهادة، أليس الإقرار ـ كما يقال ـ سيد الأدلة؟

قال فرانكلين: فمن السهل إذن أن يدعي أي شخص أنه يوحى إليه، فإذا طولب بالشهود اكتفى بشهادة نفسه.

قال الحكيم: نحن لم نقتصر من الشهود على شهادة الوحي.. بل اعتبرنا شهادة الوحي من الشهادات المعتبرة التي ينبغي أن نأخذها في الحسبان، وهي تؤيد بعد ذلك بآلاف من الشهود.

النبي المعصوم (248)

قال فرانكلين: ما دامت مؤيدة بآلاف من الشهود، فما الوجه لإضافة هذه الشهادة؟

قال الحكيم: لولا شهادة الوحي ما اعتبرنا ـ نحن المسلمين ـ كل أولئك الشهود.. فالشاهد الأول على كون ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيا من الله هو الله نفسه.. فالله سيد الشهود، ولا ينبغي أن تقدم شهادة أخرى عليه.

قال فرانكلين: أنا لا زلت عاجزا عن إدراك سر ضرورة هذه الشهادة.

قال الحكيم: سأقرب لك ذلك.. أنتم المسيحيون تختلفون في طبيعة المسيح.. وأكثركم إما يقول بتأليه المسيح أو أنه ذو طبيعة مزودجة؟

قال فرانكلين: ذلك صحيح.. وما علاقته بما نحن فيه؟

قال الحكيم: فهل لهؤلاء فيما قالوه شهود يشهدون لهم؟

قال فرانكلين: لهم آلاف الشهود التي تدلهم على هذا.

قال الحكيم: هي كلها من أقوال القديسين.. أو استنتاجات الأحبار والرهبان.. وليس فيها نص واحد عن المسيح.. أليس كذلك (1

قال فرانكلين: لا.. هناك نصوص نطق بها المسيح.. ألم تقرأ ما ورد في الأناجيل من قوله ـ مثلا ـ: (أنا والآب واحد)

قال الحكيم: أنت تعلم أن هذا النص ليس المراد به ما يوهمه ظاهره.. وقد فسر المسيح - عليه السلام - المراد منه.. وبذلك يكون قد نفى أي وهم يطرق لكل نص يشبه هذا النص..

لن أطيل عليك.. بل يكفي لتفهم النص أن تقرأ نص المحاورة للرد على الاستدلال بهذا الدليل، لقد ورد نص المحاورة هكذا: قال لهم: (أنا والآب واحد)، فتناول الْيَهُودُ أيضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَرَيْتُكُمْ أَعْمَالاً صَالِحَةً كَثِيرَةً مِنْ عِنْدِ أَبِي، فَبِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا

__________

(1) انظر رسالة (الله جل جلاله) ففيها مناقشات مفصلة لكل النصوص التي يتصور المسيحيون أنها شهادات من المسيح بألوهيتة أو بكونه أقنوما من الأقانيم.

النبي المعصوم (249)

تَرْجُمُونَنِي؟ فأجابه اليهود قائلين: ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك، ولكن لأجل التجديف، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلهاً، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: (أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي شَرِيعَتِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو أُولئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ آلِهَةً وَالْكِتَابُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ فَهَلْ تَقُولُونَ لِمَنْ قَدَّسَهُ الآبُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَالَمِ: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: أَنَا ابْنُ اللهِ؟)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: لا شك أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح: (أنا والآب واحد) أنه يدعي الألوهية، فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه، ويرجموه، فرد عليهم المسيح خطأهم، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته، لأن (آساف) قديماً أطلق على القضاة أنهم آلهة بقوله الثابت في المزمور (82: 6): (أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم)

ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطاناً أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله.

وبموجب هذا المنطق الذي شرحه المسيح لليهود ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله.

ولا يقتضي كل من التعبرين أن في المسيح، أو أن في القضاة لاهوتاً حسبما فهمه اليهود خطأ.

قال فرانكلين: ألا يمكن أن يكون المسيح قد فعل ذلك بهم من باب المداراة؟

قال الحكيم: فأنت ترمي المسيح بما تريد أن ترمي به محمدا.. لا شك أنك تعلم أنه لو فعل ذلك لكان مغالطة منه وغشاً لا مداراة، وهذا لا يليق بالأنبياء الهادين إلى الحق، فكيف يليق بمن تزعمونه إلها؟

فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم ذلك المثل، فيكون بذلك قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته.

النبي المعصوم (250)

قلت: فما تفهم أنت من هذا القول؟

قال: هذا القول يفهم على ضوء المحكمات، وعلى ضوء ما فسره المسيح ببساطة ويسر.. إن المسيح يريد أن يقول لهم: (إن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله).. هو تماما مثل قول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد.. وهو تماما مثل قول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد.. لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه.

أراد فرانكلين أن يغير مسار المناقشة، فقال: ما بالك استطردت كل هذا الاستطراد.. عد بنا إلى ما كنا فيه.

قال الحكيم: أنا لم أستطرد، ولكني أردت أن أبين لك أن أعظم شهادة هي شهادة الله.. وما دام الله لم يشهد للمسيح في الكتاب المقدس أنه إله أو ابن إله، فلا يحق لأحد في الدنيا أن يزيد على كلام الله ما لم يقله..

ولهذا، فإن العقلاء الحكماء يعتبرون أعظم شهادة على كون ما يوحى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي من الله هو نطق الوحي نفسه بأنه من الله.. خاصة إذا علمنا مدى صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فهل يمكن لمن يتحرى الصدق كل ذلك التحري أن يدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.

سكت قليلا، ثم قال: سأقرأ عليك بعض النصوص، وحاول أن تتمعن فيها جيدا لترى هل يمكن لكاذب أن ينطق بها.

أخذ الحكيم يقرأ بصوت خاشع تندك له الجبال قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} (ق)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال أن يدعي كل هذه الدعاوى

النبي المعصوم (251)

العريضة؟

ثم راح يقرأ قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} (النساء)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال أن يقول هذا؟.. وهل سمعت محتالا في الدنيا يستدعي الله ليشهد له على صدقه؟.. ثم كيف ترى الله يسكت على إشهاد محمد له هذه الشهادات ثم لا ينتقم منه؟

لم يجد فرانكلين ما يجيب به، فقال الحكيم: هذه شهادة واحدة من الشهادات.. والقرآن مليء بمثلها.. ولن أطيل عليك بقراءتها.. ولكني أنصحك أن تقرأ القرآن من أوله إلى آخره، وأنت متجرد من فكرة الاحتيال، فإنك لا بد أن تبصر الحقيقة أسطع من ضوء الشمس.

قال فرانكلين: فأنت تريد مني أن أقرأه وأنا أصدق أنه كلام الله.. أو تريد مني أن أعلن الشهادتين ثم أقرؤه؟

قال الحكيم: لا أطلب منك هذا ولا ذاك.. ولكني أطلب منك أن تسمع كلام المتهم وأنت تحمل في نفسك احتمالا بأن المتهم الواقف أمامك قد يكون بريئا مما ألصق به من تهم؟

قال فرانكلين: وما يجديه ذلك؟

النبي المعصوم (252)

قال الحكيم: بل يجديه ذلك كما يجديك ذلك.. فالحقيقة تتطلب منا موضوعة وحيادا.. والموضوعية والحياد كما تكون في القبول تكون في الرفض، فلا يحق لك أن تنطلق من رفض الحقائق لتصل إلى قبولها.

قال فرانكلين: أليس الشك مبدأ اليقين؟

قال الحكيم: ولكن الشك إن لبس لباس التهمة قد يسيء إلى الحقائق، ويضع الحجب دون فهمها.

سكت قليلا، ثم قال: دعنا نعود إلى استشهاد الوحي.. لنرى كيف بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونرى معه إمكانية ادعاء رجل في مثل صدق محمد مثل هذه الدعوى.

لقد ورد في الحديث: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو فى غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذنى فغطنى (1) حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده.

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: إن هذا النص مليء بالشهادات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

قال فرانكلين: أنا لا أرى فيه أي شيء مما تدعي.

__________

(1) الغط: العصر الشديد، والكبس، ومنه الغط فى الماء، الغوص. النهاية: 3/ 335.

النبي المعصوم (253)

قال الحكيم: سننطلق من المسلمات التي أثبتناها.. والتي دلت عليها كل الأدلة: رجل في مثل سن محمد.. في الأربعين من عمره.. كان مشهورا بالصفاء والطهارة والصدق والترفع إلى درجة لا يمكن تصور مداها.. هذا الرجل يأتي فجأة، ومن دون أي مقدمات يرتجف، ويحكي لهم ما حصل له، ويقرأ عليهم من الكلام الغريب ما قيل له، وهو لا يدعي في ذلك شيئا.. بل يأتي خائفا وجلا..

قال فرانكلين: قد يكون ذلك مجرد تمثيلية.

قال الحكيم: لو فعل ما فعل بولس لكان ذلك مجرد تمثيلية لا شك أنك تعلم ما فعل بولس.. ولا شك أنك تعلم ما ادعاه.. ولا شك أنك تعلم أثر كل تلك الدعاوى التي ادعاها.

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لو كان محمد مدعيا لمثل هذه المسرحية أمام قومه، لا أمام زوجته.. ولو كان مدعيا لكان له في الكلام الذي حرره باعتباره وحيا لله من أهواء البشرية ما فيه..

لقد زعم بولس أنه رأى المسيح بعد رفعه بسنوات، بينما هو ذاهب إلى دمشق في مهمة لرؤساء الكهنة تجلى له المسيح دون القافلة التي كان يسير معها، وفي ذلك التجلي منحه منصب الرسالة.. وكان مما قاله له بعد عتابه عما فعله بأتباعه من اضطهاد: (ولكن قم وقف على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به منقذا إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين) (اعمال 26/ 16 - 18).. وهذا الكلام هو نفس ما قال السامري حين قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (طه: 96)

أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي أول وحي يوحى إليه أمر بالقراءة.. وبالقراءة باسم الله.. هذا أول الوحي، وليس فيه أي ذكر لمحمد، ولا للمناصب الرفيعة التي هيئت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (254)

ليس هذا فقط ما أريد أن أستشهد به.. لقد بقيت هذه الظاهرة الغريبة ثلاثا وعشرين سنة.. فهل يمكن لكاذب محتال أن يمارس كذبه واحتياله طول هذه المدة من غير أن يكشف؟

لقد وصف أصحابه ما كان يحصل له عند الوحي، وهي ظواهر غريبة لا عهد للبشر العاديين بمثلها، وهي ظواهر لم يكن يملك محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها جلبا، ولا دفعا.

بالإضافة إلى هذا كله، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلا، فيحرك به لسانه وشفتيه طلبا لحفظه، وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجسا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته؛ من إنضاج الرأي، وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتيا ويلم به سريعا، بحيث لا تجدي الروية شيئا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفيا، فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه، أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة:16)، وقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من الطبيعة شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟

تأخر الوحي

لم يجد فرانكلين ما يجيب به إلا أنه قال: كيف تعتبر تأخر ما تسميه بالوحي دليلا على صدق الوحي.. ألا يكون محمد هو الذي تسبب في تأخره.. أو أن قريحته لم تسمح له بالتأليف في ذلك الوقت؟

النبي المعصوم (255)

قال الحكيم: يمكنك أن تزعم أي شيء، ولكن الذي استطاع أن يحتال على العالم أجمع، بل استطاع أن يحتال على الله نفسه، فيزعم أنه يوحى إليه لن يعجز أن يضع لنفسه ما يخرجه من أي مأزق قد يقع فيه.. سأذكر لك أمثلة على بعض المواقف الحرجة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إلى الوحي، ولكن الوحي تأخر عنه.

من ذلك ما حدث به ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهما صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور. فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبركم غدا عما سألتم عنه)، ولم يستثن، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل - عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ

النبي المعصوم (256)

عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)

التفت إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى هذا الموقف المحرج الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أرأيت لو كان محتالا كما زعمت يظل طول تلك المدة هدفا لحديث أعدائه.

قال فرانكلين: لعل المعلومات لم تكن تحضره ذلك الحين.

قال الحكيم: فكيف حضرته بعد خمسة عشر يوما.. إن المعلومات التي طلبها القرشيون معلومات لا علاقة لها بالفكر ولا بالنظر.. بل هي معلومات تحتاج إلى معلم خارجي، ومحمد لم يلتق في تلك المدة بأي معلم خارجي من المعلمين الذين تزعمونهم.

سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر يدلك على هذا.. والأمر فيه أيسر من الجميع:

لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة إلى البيت الحرام، ولكن الله تعالى لم ينزل في هذا التحويل قرآنا، على الرغم من تلهف رسوله الكريم إليه إلا بعد قرابة عام ونصف العام.

ففي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة:144)

ولو كان الوحي من تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما تأخر كل هذه المدة لشيء يحبه ويشتهيه ويتشوف إليه ويتحرق شوقا له، ولكنه وحي الله ولا ينزل إلا بأمر الله وإذنه.

التفت إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن للمحتال ألا يفهم ما يقوله بحيث ينتظر أن يشرح له، أو يفصل، أو يبين؟

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: إن الذي استطاع أن يؤلف كل تلك المسرحية الطويلة

النبي المعصوم (257)

التي تزعمها لا يستحيل عليه مثل هذا، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدرك في بعض الأحيان بيان بعض ما يوحى إليه إلى أن يوحى إليه بتفسيره.

سأضرب لك أمثلة عن هذا:

عندما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (البقرة:284) انزعج الصحابة انزعاجا شديدا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها؛ فقالوا: يارسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:286)، وهناك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.

ومن أمثلة ذلك ما حصل في الحديبية.. لقد أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذرا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع.

فلما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشا قد جمعت جموعها على مقربة منهم، فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذلك استبسالا وصمموا على المضي إلى

النبي المعصوم (258)

البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه.

وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء ـ أي حرنت الناقة ـ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين، هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة.

وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى، فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير امتثالا لهذه الإشارة الإلهية، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلا: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ولكن قريشا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربا ولا مسالما، وأملت عليه شروطا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسالما، وألا ترد هي أحدا يجيئها من المدينة تاركا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا.

لقد كان لهذا الصلح وقع السيء في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضا ذهولا وغما، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين: (لم نعطي الدنية في ديننا؟) وهكذا كاد الجيش يتمرد على إمرة قائده ويفلت حبله من يده.

أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أن يبين لكبار الصحابة حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر: (إني رسول الله،

النبي المعصوم (259)

ولست أعصيه، وهو ناصري) أي: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقا بنصره قريبا أو بعيدا، وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح، فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيما وإجحافا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} (الفتح)

آيات العتاب

قال رجل من الجمع: وعينا هذا، فحدثنا عن الشاهد الثالث.. وهو ما سميته (آيات العتاب)

قال الحكيم: إن أول غرض للمحتال أي محتال هو أن يبرز شخصيته ويثبت وجوده وقيمته عند من يريد أن يحتال عليهم.. لقد عرفنا ماذا قال بولس عندما أراد أن يظفر بتلك الزعامة بين المسيحيين.

قال فرانكلين: ومحمد فعل ذلك.. ألم يكن يقول: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق

النبي المعصوم (260)

عنه الارض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر) (1

قال الحكيم: أرأيت إن قال الطبيب عن نفسه لمرضاه: إنه طبيب، ليثقوا فيما يقول، وفيما يصف لهم، أيكون بذلك قاصدا الاستعلاء، أم أن المصلحة تطلبت منه ذلك؟

قال فرانكلين: بل المصلحة تطلبت منه ذلك.. ولكن هذا الطبيب الذي وصفته ذكر أنه طبيب، ولم يذكر أنه سيد الأطباء.

قال الحكيم: فإن حصل لطبيب من الأطباء أن اختير ليكون سيد الأطباء وعمدتهم بفضل ما تعلم من علوم وما حصل عليه من خبرة.. هل يكون إخباره بذلك لمرضاه ليزدادوا ثقة فيما يقول قاصدا الاستعلاء، أم قاصدا المصلحة؟

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لاشك أنك توافقني بأن مثل هذا لا علاقة له بالاستعلاء.. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاستعلاء.. وإنما كان يذكر ما يذكر من فضل الله عليه من باب تنفيذ ما أمره الله به في قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)، وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تعداد ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاقة، وما من الله به عليه بعدها من فضل، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} (الضحى)

أما الاستعلاء المجرد، والذي يحرص عليه المحتالون، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبعد الناس عنه، وسأضرب لك مثالين يدلانك على ذلك:

لقد روي أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، جريا على عادة الجاهلية في أن الشمس تنكسف لموت العظماء، وقد كان في قدرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغل هذه الفرصة ليثبت من الاستعلاء ما يحرص عليه المحتالون، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام خطيبا في أصحابه يحذر من هذه المقولة، ويقول: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت

__________

(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.

النبي المعصوم (261)

أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي) (1)

وفي رواية: (إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الارض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى تنجلي أو يحدث الله أمرا) (2)

التفت إلى فرانكلين، وقال: أترى أن مثل هذاالتصرف بمكن أن يفعله محتال؟

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد كان هذا التصرف مثار إعجاب المستشرق المعرفو (إميل درمنغم) (3) الذي قال: (ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلا، فحزن عليه كثيرا ولحده بيده، ووافق موتُه كسوف الشمس، فقال المسلمون: إنها انكسفت لموت إبراهيم، ولكن محمدا كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته..)؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال) (4)

وأما المثال الثاني، فهو ما حدث به بعض الصحابة قال: كان أهل بيت من الأنصار، لهم جمل يسنون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم، فمنعهم ظهره، وإن الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا، فقاموا، فدخل الحائط، والجمل في ناحية، فمشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، إنه قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك

__________

(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

(2) رواه النسائي.

(3) مستشرق فرنسي، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) في باريس عام (1929)، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي (، و(محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس (1955).. وقد تحدثنا عن موقفه من الإسلام في رسالة (قلوب مع محمد)

(4) حياة محمد (ص:318).

النبي المعصوم (262)

صولته، فقال: ليس علي منه بأس، فلما نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أقبل نحوه، حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناصيته، أذل ما كانت قط، حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر) (1)

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستغل هذا.. ولم يستغل طلبهم منه السجود له، فيأذن لهم فيه..

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحذرهم من المبالغة في حقه، وكان يقول: (لا تطروني كما أطرى الناصري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (2)، وقال: (لا ترفعوني فوق حقي) (3)، وفي لفظ: (قدري أن الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا)

وروي أن رجلا قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم) (4)

وعن أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك) (5)

التفت إلى فرانكلين، وقال: فإن شككت في بعض هذا، فاذهب إلى القرآن واقرأ حديثه عن محمدا.. إن الإنجيل يبدأ بذكر نسب المسيح.. والحديث عن أم المسيح، وبيئة المسيح.. ويسمي أصحاب المسيح واحدا واحدا.. وهكذا العهد القديم في حديثه عن الأنبياء.. أما القرآن الكريم فيخلو من كل ذلك، فالحديث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطاب توجيهي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إما باسمه غير مقرون بأي وصف من الأوصاف التي يحرص المحتالون على الاتصاف بها.. بل إن من المواضع القليلة

__________

(1) رواه أحمد والنسائي في الكبرى.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه مرسلا.

(4) رواه أحمد، والنسائي وأبو القاسم البغوي.

(5) رواه أحمد، والبخاري في الأدب، والترمذي، وصححه.

النبي المعصوم (263)

التي ورد فيها اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجد هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)، وهي آية تدعو المسلمين إلى الاهتمام بالمبادئ التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحرص عليها ولا يهمهم بعد ذلك هل مات رسول الله أو حيا.

وفي آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (محمد:2) ترى ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم حافيا ليس مسبوقا بأي وصف يحرص عليه المحتالون.. وهكذا في كل القرآن.

بل إن القرآن الكريم يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشرف المواضع بالعبودية، فيقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الاسراء:1)، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجن:19)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أظن أن ما ذكرته كاف ليبن لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاستعلاء..

قال فرانكلين: بل هو غير كاف.. ففي القرآن ثناء على محمد.. ألم تقرأ هذه الآية: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (الحج:67)، وهذه الآية: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (الأحزاب)؟

قال الحكيم: هذه الآيات تصف ما كان عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتصف الوظيفة التي كلف بها.. وليس فيها من المبالغة في حقه ما ذكرت.. لأن المبالغة هي أن تذكر الشيء على غير ما هو عليه، والآية لم تذكر إلا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يعرفه بها جميع الناس.. وهي من خلالها تدعو إلى التأسي به والتحلي بالخلال التي كان عليها، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ

النبي المعصوم (264)

حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، وهذه الآية مثل ما ورد في الحث على التأسي بإبراهيم - عليه السلام -، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة:4)، ومثل قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (الممتحنة:6)

قال رجل من الجمع: وعينا كل هذا.. فحدثنا عن آيات العتاب، ووجه الاستشهاد بها في رد شبهة الاحتيال عن محمد.

قال الحكيم: في الآيات التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حجة كافية لدى العقلاء في أن مصدر القرآن خارج ذات محمد، لأنه يستحيل أن يعاتب الإنسان نفسه ذلك العتاب الشديد، وعلى الملأ، خاصة إذا كان ذلك المعاتب زعيما يخشى في كل حين أن يرتد الناس عنه، وخاصة إذا كانت زعامته دينية تقتضي منه البحث عن مواطن العصمة والطهارة.

نظر إلى الجمع، وقال: سأكتفي من القرآن الكريم بشاهدين أظنهما كافيان ليكونا أمثلة لهذا النوع من الشهادات:

الشاهد الأول

أما الأول، فما نص عليه قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37)

قام فرانكلين، والفرحة تغمر وجهه، وكأنه قد ظفر بفريسته، وقال: كيف تعتبر هذه الآية

النبي المعصوم (265)

شاهدا لمحمد، ونحن نعتبرها من أكبر ما يدينه؟

ابتسم الحكيم، وقال: إن هذه الآية الكريمة من أعظم دلائل صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان محتالا ـ كما تزعم ـ لم يكن بحاجة لأن ينزل على نفسه مثل هذه الآية التي ستكون محل شبهة كبيرة لجيله ولغير جيله.

قال فرانكلين: كيف تقول هذا، وقد روي أن محمدا أعْجِب بزوجة متبناه (زيد بن حارثة)، فطلقها منه وتزوجها.

ابتسم الحكيم، وقال: فلنفرض ذلك.. هل كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة لأن يكتب آيات في ذلك تظل الأجيال تتناقلها؟

وقبل ذلك: ألم تكن زينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، فقد كان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات، فما كان يمنعه من أن يتزوجها من البداية؟

وما الذي جعله يزوجها لمولاه (زيد)، فلو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؟

قال فرانكلين: فما تقصد هذه الآية من إخفاء محمد شيئا أراد الله أن يبديه؟

قال الحكيم: هذا ما يدلك على أن مصدر القرآن الكريم مصدر خارجي.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم يشتهي شيئا، والله تعالى يخالفه فيما يشتهي.. ولا يمكن أن يصدر ذلك من ذات واحدة لها من العقل والحكمة ما لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منهما.

سكت قليلا، ثم قال: إن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها حياة تعليم وتربية وأسوة.. فلذلك اختار الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لكسر عادة مستحكمة في الجاهلية لم يكن هناك بد من استعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكسرها.

لقد كان زيد أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش بالرغم من أن العرف العربي في ذلك الحين كان يرفض هذا النوع من الزواج.. باعتبار زيد أدنى

النبي المعصوم (266)

درجة من زينب.. وقد كان من أغراض هذا الزواج القضاء على هذه العادة.

وقد كان من عادات الجاهلية بالإضافة إلى هذا أنهم يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه، فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه، فأخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفى في نفسه ما أخبره به الله.

وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له ـ كما نص القرآن ـ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب:37) مراعياً في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد.

التفت إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لرجل في الدنيا يحب امرأة حبا شديدا، ثم لا يتمنى طلاقها من زوجها ليتزوجها هو بدله؟

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد.. فأنزل الله في هذا قرآناً، يكشف عما جال في خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها.

وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه.

إن شئت أن تتأكد مما ذكرت لك، فاقرأ ما ورد في شأنها في القرآن الكريم من المقدمات السوابق، والمتممات اللواحق، والتي تجعل من هذه الحادثة مادة تربوية وتشريعية عميقة.. لقد قال الله تعالى في بداية السورة التي وردت فيها حاثا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يجعل طاعته خالصة لله وحده لا يؤثر فيها مؤثر آخر مهما كانت درجته: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} (الأحزاب)، وفي نفس السورة نجد هذه الآية التي تحث على اقتصار المؤمن على مراعاة جانب الله قبل أي جانب آخر قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ

النبي المعصوم (267)

وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} (الأحزاب)

وقدم لذلك أيضا بنفي الأسس التي تقوم عليها تصورات المجاهلية المتعلقة بالمتبنين، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} (الأحزاب)، وفي نفس السورة ينفي الله تعالى أن يكون محمد أبا لأحد من الناس غير ما رزقه الله من أولاد، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} (الأحزاب)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألستم تراعون السياق في نقدكم للنصوص، وتعاملكم معها، فخذوا بهذا المقياس هنا، لتنفوا من الوساوس ما تريد الشياطين أن تمررها عبركم؟

الشاهد الثاني

قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الثاني.

قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة:113)، وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} (التوبة)

فهذه الآيات تنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينساق وراء ما تمليه عليه الرحمة التي جبله الله عليها،

النبي المعصوم (268)

والتي جعلته يخاف أن ينال أي أحد عذاب الله حتى لو كان كافرا، فلذلك كان يستغفر الله لهم ويصلي عليهم إلى أن هي عن ذلك.

لقد توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين، والذي ملأ حياته بالإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل صنوف الإيذاء، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفنه في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وسأزيده على السبعين، وصلى عليه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)، فترك الصلاة عليهم (1).

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت سموا مثل هذا السمو.. إن هذه القصة تمثل لك نفس هذا العبد الخاضع، وقد اتخذ من القرآن دستورا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييرا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.

وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها، تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة، ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض، بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل، وميزانا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود (2).

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) النبأ العظيم، ص:28 - 30.

النبي المعصوم (269)

الكسل

قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الكذب والغش والاحتيال، وعرفنا أن محمدا أبعد الناس عنها، فحدثنا عن الكسل وعلاقته بالاحتيال.

قال الحكيم: من أكبر دواعي الاحتيال الكسل.. فالمحتال عجز أن يأتي الأمور من أبوابها، فراح يحتال على الدخول عليها من نوافذها.

قال فرانكلين: وهل رأيت محمدا حتى تستطيع تنزيهه عن هذا؟

قال الحكيم: من عرف سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكرت فيها أدق التفاصيل لا يعجز أن ينزه محمدا عن هذا.

قال فرانكلين: لا أرى من تفاصيل محمد إلا أن له زوجات كثيرات، وكان يتردد بين بيوتهن.. وهذا هو الكسل بعينه، فكيف تنزه محمدا عنه.

قال الحكيم: ألستم تتهمون محمدا بأنه خاض حروبا كثيرة؟

قال فرانكلين: أجل.. لقد كانت كل حياته في المدينة حروبا وغزوات لم يستقر فيها لحظة واحدة.

قال الحكيم: ألا ترى أنك متناقض فيما تقول؟.. لقد كنت تزعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا هم له إلا الطواف على بيوت زوجاته، ثم أنت الآن تذكر أنه لا يستقر به المقام دون خوض الحروب (1).

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لا بأس.. سأكتفي بذكر أربعة شواهد تدلك على أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الكسل، وما يمليه الاحتيال من الكسل.

الشاهد الأول

قال رجل من الجمع: حدثنا عن الشاهد الأول.

__________

(1) للأسف نجد مثل هذه التناقضات الكثيرة في الحاقدين على رسول الله (، فهم يصفون بأوصاف مختلفة متناقضة يدرك أي عقل تناقضها.

النبي المعصوم (270)

قال الحكيم: في أول دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن أحس المشركون خطرها عرض الملأ من قريش عروضا كثيرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها تيسر عليه ـ في ظاهرها النجاج فيما يصبو إليه من مكاسب دون بذل جهد كبير.. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عنها، وظل مع أسلوبه الذي أمره الله به.. وهو أسلوب ممتلئ بالكد والجهد والشدة، ولو كان محتالا مخادعا كما تتصور لقبل ما عرض عليه من حلول، ثم احتال عليهم بعد ذلك بما طبع عليه من حيلة ليحولهم إلى طريقه واحدا واحدا.

سأضرب لك مثالا على ذلك ذكره العلماء عند تفسير (سورة الكافرون).. ذكر ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوّجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكر آلهتنا بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (حتى أنظر ما يأتيني من ربي)، فجاء الوحي من عند الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون)، وأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} (الزمر) (1)

وفي حديث آخر عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا

__________

(1) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.

النبي المعصوم (271)

منه حظاً فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى انقضت السورة (1).

وفي حديث آخر عن ابن عباس أن قريشاً قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها (2).

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى أن ما عرضه عليه المشركون فرصة عظيمة كان يمكنه استثمارها ليحولهم إلى صفه، فإن تحولوا فبها ونعمت، وإن لم يتحولوا عاد إلى أسلوبه الطبيعي الذي بدأ به؟

سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد اختار محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير في دعوته بحسب ما سن الله له من أسلوب حتى يحافظ على صفاء الدعوة، وحتى لا تصبح الغاية مبررا للوسيلة.

ولذلك، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في جميع مراحل حياته الدعوية لم يجر وراء أي مكسب سريع وهين إذا كان وراءه تفريطا في جزء بسيط من الرسالة التي كلف بها.

وحسبك ما ذكرته لك من آيات العتاب التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف إلى المستكبرين يدعوهم طمعا في أن يفتح الله على البسطاء بسببهم، فنهي عن ذلك، وأمر بالعودة للمستضعفين.

الشاهد الثاني

قال رجل من الجمع: وعينا هذا الشاهد واقتنعنا به، فحدثنا عن الشاهد الثاني.

قال الحكيم: لقد نص الله تعالى على هذا الشاهد في قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} (المزمل)

__________

(1) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.

(2) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

النبي المعصوم (272)

إن هذه الآيات التي تأمر بقيام الليل من أول ما نزل من القرآن الكريم، وقد ظل صلى الله عليه وآله وسلم طول حياته يمارس ما أمر به فيها من أوامر إلى أن توفاه الله تعالى.

وقد روي في الحديث عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: ألست تقرأ هذه السورة {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قلت: بلى قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً (1)، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة (2)، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة (3).

وفي حديث آخر: نزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل (4).

ومما يدلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل هذا مع نزول التخفيف ما رواه جبير بن نفير قال: سألت عائشة عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل فقالت: ألست تقرأ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} (المزمل) قلت:

__________

(1) وقد روي ما هو أكثر من ذلك، فقد روى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) مكث النبي (على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين: {نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين..

(2) وهو ما نص عليه قوله تعالى: {نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} (المزمل)

(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في سننه.

(4) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

النبي المعصوم (273)

بلى. قالت: هو قيامه (1).

وعنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلما ينام من الليل لما قال الله له: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) (2)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل ترى من الممكن أن يظل محتال مخادع في مثل الجو الحرج الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة لا ينام من الليل إلا قليلا؟

سكت فرانكين، فقال الحكيم: سأروي لك بعض الشهادات التي تبين كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا بصدق على عبادة ربه.. مما لا يطيق مثله، بل قريبا منه، بل ما دون ذلك بكثير أحد من الناس:

عن كُريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعد بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشْر الأياتِ الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضُوءه ثم قام يصلي.

قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح (3).

وعن حُميد، قال: سئل أنس بن مالك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، فقال: ما كنا

__________

(1) رواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والحاكم وصححه.

(2) رواه عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.

(3) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (274)

نشاء من الليل أن نراه مصلياً إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر شيئاً (1).

وعن عبد الله، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوءٍ. قلنا: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه (2).

وعن حذيفة، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة. قال: ثُمّ مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه (3).

وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام حتى تتفطّر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً (4

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل زرت الصحراء، وعاينت بنفسك شدة حرها؟

قال فرانكلين: أجل.. ولكن قومي تغلبوا على حرها بما أبدعوا من مكيفات؟

قال الحكيم: لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تعلم ـ يعيش في صحراء شديدة الحر.. ولم يكن له مكيفات.. وكان في ذلك الجو الشديد حريصا على الصوم حرصا لا يقل عن حرصه على الصلاة، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك لا يسارع إلى الإفطار إذا حل وقته كما يسارع الناس، بل كان يواصل.. أي

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه مسلم.

(4) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (275)

يصل في صومه ليله بنهاره..

فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تواصلوا)، قالوا: إنك تواصل، قال: (لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى، أو إني أبيت أطعم وأسقى)

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تواصلوا. قالوا: إنك تواصل. قال: إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أظل، أو قال: أبيت، أطعم وأسقى (1).

وفي حديث آخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصل في آخر الشهر، فواصل ناس من الناس، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لو مد لنا الشهر، لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني (2).

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لرجل أن يجمع كل هذا الجهد والنشاط الذي لا نظير له، بل لا يطيقه غيره، ثم يكون فوق ذلك محتالا.

الشاهد الثالث

قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الثالث.

قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)

هنا انتفض فرانكلين، وكأنه وجد فريسة يريد الانقضاض عليها، وقال: كيف تقول هذا.. ومحمد كان يتزوج من النساء ما يشاء.. بل أبيح له أن يتزوج أكثر مما يتزوج سائر المسلمين (3).

قال الحكيم: أجبني وكن صادقا في جوابك.. وأرجو أن لا تعتصم بالصمت.

قال فرانكلين: سأجيبك فاسأل ما بدا لك.

__________

(1) رواه أحمد والبخاري.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) سنرد على الشبهة المرتبطة بالزواج في فصل (زوجات) من هذه الرسالة.

النبي المعصوم (276)

قال الحكيم: أرأيت لو أن الله رزقك امرأة شابة جميلة يمتلئ قلبك محبة لها، وتمتلئ هي محبة لك.. ثم تكلف بعد ذلك بأن تتزوج معها امرأة عجوزا مسنة، ثم تقسم لكليهما بعدل لا نظير له.. أتطيق ذلك؟

قال فرانكلين: من الصعب على المرء أن يفعل ذلك.

قال الحكيم: فقد كلف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يفعل ذلك.. وكلف معها أن يعيش حياة بسيطة لا تختلف عن حياة أبسط الفقراء.. وكلف فوق ذلك أن يعيش مع البسطاء من الناس، وأن يصبر معهم، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)، وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)

وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما اقتضته هذه الأوامر من واجبات خير قيام، فكان ينهض لكل مسكين، ويقوم لكل محتاج.. وأنت تعلم كثرة المساكين، وكثرة الحاجات.

وقد قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رأى الجهد الذي يصيبه جراء ذلك: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم) (1)

التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال مخادع كسول أن يفعل هذا؟

قال فرانكلين: هناك من يفعله.

قال الحكيم: هناك من يفعله أياما أو أشهرا أو أسابيع.. ولكن ليس هناك زعيم في الدنيا

__________

(1) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

النبي المعصوم (277)

يستطيع أن يصبر على البقاء طول عمره يعيش المسكنة، ويعيش مع المساكين في الوقت الذي يستطيع فيه أن يتنعم بأرفه عيش، وأمتع حياة.

الشاهد الرابع

قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الرابع.

قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67)

قال فرانكلين: فما في هذا الشاهد إن الآية تأمر محمد بالبلاغ.. وهي تعتبر تقصيره فيه تقصير في أمر الله؟

قال الحكيم: إن هذه الآية تحمل أخطر الأوامر الإلهية وأكثرها ثقلا (1).. فالبلاغ والدعوة بين قوموا ألفوا ما هم فيه من حياة شيء لا يطيقه إلى الكبار من الناس..

قال فرانكلين: فهل أدى محمد هذا الواجب كما أمر به؟

قال الحكيم: لو اجتمعت البشرية جميعا على أن تقوم بما قام به صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها لا تطيق.. لقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تعجز الجبال عنه..

وقد تحمل صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل ذلك أذى المشركين والمنافقين واليهود ومن في حكمهم بالصبر تارة وبالجهاد معهم تارة أخرى طيلة ربع قرن من الزمن تقريبًا.

لقد أقام صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية،

__________

(1) وقد ورد في سبب نزول الآية الكريمة أنه لما انصرف رسول الله (من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان، فنزلت الآية، فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله ورسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله..

النبي المعصوم (278)

فيما تظهر به حكمه ونشاهد آياته في الخلق، وتتسع بها العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابرًا مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين.

وقد عرضوا عليه حينها الملك والمال والدثر، على أن يترك هذا الأمر، ولو كان خرج لطلب الرياسة لآثرها على الضعف والفقر.

ثم هاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وفيها ازدادت جهوده، وضم إليها الجهاد في سبيل الله لحماية الدعوة، وحماية مكتبسباتها.. فكاد صلى الله عليه وآله وسلم داعية معلما مجاهدا لا يهدأ أبدا، ولا يسكن إلى راحة.

وقد أثمرت هذه الجهود العظيم من الثمار ما لا يزال الناس ينعمون به إلى اليوم.. وقد شهد له صلى الله عليه وآله وسلم بنجاحه في تلك الوظيفة التي كلف بها الجموع الكثيرة من الناس، سواء كانوا من صحابته (1) أو من غيرهم في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة في يوم عرفة: أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: (نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فقال بأصبعه

__________

(1) للمؤلف رأي في هذا، وهو أن المراد بالصحابة من تربى على يده (بحيث أصبح مثالا حسنا للدين الذي جاء به (أما من عداهم كالطلقاء وغيرهم، أو من لم يظفروا بمثل هذا، فلا دليل من النصوص على اعتبارهم صحابة.

وهؤلاء هم الذين اتفقت الأمة بطوائفها المختلفة على اعتبارهم وتبجيلهم، وهم الذين وصفهم الإمام علي، فقال: (لقد رأيت أصحاب محمد (، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب)

أما القول المتداول بأن الصحابي هو كل من رأى رسول الله (، فهو اجتهاد لا دليل عليه، بل هو يضر رسول الله (، ويضر سنته، فلا نستطيع أن ننسب ما فعله معاوية من الحكم الاستبدادي الوراثي إلى صاحب لرسول الله (، لأن ذلك يجعل مما فعله سنة معتبرة، وربما يكون المدافع عن معاوية ـ شعر أو لم يشعر ـ مدافعا عن سنة الاستبداد.

وإنما ذكرنا هذا هنا حتى لا نحمل رسول الله (ما لا يحتمل.. فقد بلغ رسول الله (عن ربه، وهو ليس مسؤولا بعد ذلك هل التزم الناس أو لم يلتزموا، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله (: (ترد على أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! تعرفنا؟ قال: نعم لكم سيماء ليست لاحد غيركم، تردون على غرا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك فيقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟) رواه مسلم، وفي حديث آخر: (ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب! أصيحابي أصيحابي! فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (279)

السبابة ـ يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس ـ: (اللهم اشهد اللهم اشهد، ثلاث مرات) (1)

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (فرانكلين جراهام) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) رواه مسلم وأبو داود.

النبي المعصوم (280)

سادسا ـ أمراض

في مساء اليوم السادس.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (جيري فاينز) (1).. الطبيب النفسي.. بوجه لم يصعب علي أن أتبين ما فيه من تغير.

لقد خرج في الصباح يحمل حقيبته الطبية بثقة عظيمة.. فهو ـ نتيجة غلوه في الدراسات النفسية ـ صارت له قدرة عجيبة على أن يلصق أي مرض نفسي أو عصبي بمن يشاء.. ولهذا كان المرشحون في الحملات الانتخابية يحضرون عنده ليدرس خصومهم، لا لينتفعوا بما يذكره عنهم للعلاج، وإنما ليجعلوا تلك القوائم العريضة من الأمراض وسيلة للإشهار بخصومهم.

وهو ـ لسبب لا أعرفه ـ لا يهتم إلا بالمشاهير، أو من أنجزوا إنجازات ضخمة، بل إنه بقدر عظمة المنجزات تكون في تصوره كثرة الأمراض.. ولهذا لا يسلم شخص من تهمه إلا إذا كان مغمورا خاملا لا علاقة له بالحياة، ولا علاقة للحياة به.

عندما دخل ذلك المساء بذلك الوجه المتغير.. ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

صاح فيهم مثلما يصيح المجانين: لقد بعثتموني إلا مارستان مجانين، ولم تبعثوني إلى ساحة الحرية.. إن كل من فيها مريض.. ويستحيل على جميع أطباء الدنيا أن يشخصوا أدواء أولئك المرضى.. فكيف أستطيع أنا لوحدي علاجهم؟

قال ذلك، ثم وضع كلتا يديه على رأسه، لا يسمع لما نحدثه به، أو لا يهتم بجوابنا.. ابتدر

__________

(1) أشير به إلى (جيري فاينز) راعي كنيسة في (جاكسونفيل فلوريدا) والتي يصل عدد أتباعها إلى 25 ألف شخص، وهو من أبرز المتحدثين في المؤتمر السنوي للكنائس المعمدانية الجنوبية، والذي يعد أكبر مؤتمر ديني يعقد في كل عام، وقد قام كلينتون وبوش الابن بمدح هذا القسيس وعده من المتحدثين بصدق عن دينهم، ومن أقواله التي جعلتنا نختاره لهذا الفصل قوله عن رسول الله (في الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الذي عقد في سانت لويس في ميسوري الأمريكية ـ: (.. شاذ يميل للأطفال، ويتملكه الشيطان)

النبي المعصوم (281)

أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا جيري فاينز يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: أنا طبيب نفسي.. ولدي إلمام كبير بكل ما يرتبط بالأمراض النفسية والعصبية.. ولذلك سأحاول أن أخدمكم في هذا الجانب.

ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: لا تخافوا.. لن أسلب من أموالكم فلسا واحدا.. فخدماتي التي أقدمها هنا خدمات مجانية.

سكت قليلا، وكأنه يعطيهم الفرصة للحديث، لكنه ما إن رأى الأفواه تبادر إلى سؤاله حتى قطعها قائلا: لا بأس.. ما دمتم لم تسألوا فسأفيدكم أنا من واقع اختصاصي.. بل سأعطيكم جرعة تقيكم كل مخاطر الأمراض النفسية والعصبية.

ظهر السرور على الجماعة المحيطة به، فابتدر ذلك السرور قائلا: أتعلمون أن في الأرض أكثر من مليار.. بل من مليار ونصف من السكان مصابون بأخطر الأمراض النفسية من غير أن يشعروا؟

ظهر العجب على الجماعة، فاستحثه ذلك ليقول: لا شك أنكم لستم منهم.. فأنتم في بقعة من العالم لم يصبها ذلك الداء الذي أصابهم..

تنفست الجماعة الصعداء، فقال: ولكن مع ذلك.. فإن عدوى هذا الداء قد تصيب جميع أركان العالم..

عاد الخوف للجماعة المحيطة به.. فاستغل ذلك الخوف ليقول: لم تسألوني عن البلاد التي تستوطن بها هذه الأدواء النفسية الخطيرة.

سأله رجل من الجماعة، فقال: لم نسمع ببلاد تختص بأمراض نفسية دون غيرها من البلاد!؟

قال جيري فاينز: لك الحق في أنك لم تسمع.. ذلك أن أكثر الأطباء بخلاء، ولا يهمهم إلا

النبي المعصوم (282)

ما يدخل في جيوبهم من أموال، فلذلك لا ينصحون المرضى، ولا يهتمون بصحتهم.

قال آخر: لقد أخفتنا.. فحدثنا حديثا صريحا من دون مقدمات.

قال جيري فاينز: شكرا على هذه الملاحظة.. هل تعرفون البلاد التي يسكنها المسلمون؟

قالوا: وكيف لا نعرفها؟.. نحن على أرض واحدة، وتظللنا سماء واحدة.

قال جيري فاينز: فتلك البلاد هي موطن أخطر الأمراض النفسية.

قالوا: لم؟

قال جيري فاينز: لقد عرفت من خلال خبرتي الطويلة مع المرضى أن كل من يصدق مريضا نفسيا أو يعجب به يصاب بنفس أمراضه.. فعدوى الأمراض النفسية تختلف عن عدوى الأمراض العضوية، فتلك تنتقل بالجراثيم والفيروسات، وهذه تنتقل بالمحبة والتأثر والميلان والذوبان..

قالوا: فمن هذ الذي أحبوه حتى مرضوا بحبه؟

قال جيري فاينز: ومن غير محمد؟

قالوا: إنا نسمع أحاديث طيبة عن محمد.. ولم نسمع أن به مرضا نفسيا..

قال جيري فاينز: مرض نفسي واحد!؟.. بل إن كل أمراض الدنيا النفسية والعصبية اجتمعت فيه..

هنا ظهر الحكيم بنوره المشرق، وصاح في جيري فاينز: هل دخل محمد عيادتك في يوم من الأيام؟

ضحك جيري فاينز ضحكا شديدا، وقال: لا شك أن معلومات هذا الرجل المسكين في التاريخ معلومات هزيلة.

قال الحكيم: وما علاقة التاريخ بالطب؟

قال جيري فاينز: كيف يدخل محمد عيادتي، وقد مات منذ مئات السنين؟

النبي المعصوم (283)

قال الحكيم: فكيف عرفت أنه مريض، وأنه اجتمعت فيه جميع الأمراض النفسية، بل والعصبية؟

قال جيري فاينز: ذلك ليس صعبا لمن هو في مثل اختصاصي، فمن السهل أن تدرس سلوك أي كان لتحكم عليه بعد ذلك بالصحة أو المرض.

قال الحكيم: فهل عرفت من خلال سلوك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحياته ما أصيب به من أمراض نفسية؟

قال جيري فاينز: أجل.. وقد اعتمدت في ذلك على أدق الدراسات، وأكثرها موضوعية.. لاشك أنك تعرف ذلك العلامة الباحث المدقق جولد تسيهر (1).. لقد كانت أبحاثه القيمة أهم مراجعي، لقد قال في كتابه (العقيدة والشريعة فى الإسلام) عن محمد: (وفى خلال النصف الأول من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتصال بأوساط استقى منها أفكاراً أخذ يجتريها فى قرارة نفسه، وهو منطو فى تأملاته أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأملات المجردة، والتى يلمح فيها أثر حالته المرضية، نراه ينساق ضد العقلية الدينية والأخلاقية لقومه الأقربين والأبعدين) (2)

قال الحكيم: فما هي الأمرض التي استخلصتها من خلال دراستك لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه المراجع؟

قال جيري فاينز: قائمة طويلة من الأمراض منها ما سبقت إلى معرفته، ومنها ما كان لي براءة اكتشافه..

__________

(1) مستشرق مجرى يهودى، رحل إلى سورية وفلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر، له تصانيف باللغات الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور السباعى: عرف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، وهو من محررى دائرة المعارف الإسلامية، كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامى، والعقيدة والشريعة فى الإسلام، وغير ذلك مات سنة 1921 م.

(2) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 112.

النبي المعصوم (284)

أما ما سبقت إليه، فقد سبقني شبرنجر (1) وجوستاف فايل (2) وغيرهم إلى أنه كان مصاباً بحالات من الصرع، يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على أثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقاً، ويثقل جسمه، وتعتريه التشنجات، وتخرج منه الرغوة، فإذا أفاق ذكر أنه أوحى إليه، وتلا على أتباعه ما يزعم أنه وحى من الله (3).

وسبقني بعضهم إلى اعتبار حالته حالة هستيريا، وتهيج عصبي، يظهر عليه أثرها فى مزاجه العصبى القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه (4).

وسبقني آهرون إلى أن به نوعا من الهوس.. لقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (ونرى محمداً الثاقب النظر من الناحية العلمية من ذوى الهوس، كما هو شأن أكثر مؤسسى الديانات) (5)

قال الحكيم: فما الذي أضفت أنت إلى ما ذكروه؟

قال جيري فاينز: لقد نسيت أن أخبركم بأني ـ بالإضافة إلى تخصصي الطبي ـ رجل دين.. لا تستغربوا ذلك.. ففي المسيحية يمكنك أن تجمع بين كونك عالما وبين كونك رجل دين..

قال الحكيم: فما الذي أفادك كونك رجل دين في التعرف على أمراض محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال جيري فاينز: بفضل كوني رجل دين عرفت السر الذي تاه فيه الناس والذي يفسر

__________

(1) هو ابن كرستوفر شبرنجر، مستشرق نمسوى، يجيد كثيراً من اللغات، له إلمام بالأدب الشرقى مات سنة 1893 م، من آثاره: حياة محمد، وقد نشر بعض الكتب العربية مثل: الإصابة فى تمييز الصحابة، والإتقان فى علوم القرآن.

(2) مستشرق ألمانى، له كتاب مدخل تاريخى نقدى إلى القرآن، مات سنة 1889 م. ينظر: آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره 1/ 229.

(3) الإسلام والمستشرقين لنخبة من العلماء ص 2.2.

(4) مقدمة القرآن لمونتجمرى وات ص 17، 18، ومقدمة القرآن لبل ص 29، 3.

(5) الوحى القرآنى فى المنظور الاستشراقى ونقده للدكتور محمود ماضى ص 1.9، 123.

النبي المعصوم (285)

جميع أمراض محمد.

قال الحكيم: فما هو؟

قال جيري فاينز: الشيطان.. إن محمدا مصاب بأمراض شيطانية.. البعض يسميها أمراض روحانية، وأنا أسميها أمراضا شيطانية.

قال الحكيم: فهذه هي قائمة الأمراض التي نسبتها لمحمد؟

قال جيري فاينز: وهل تستهين بكل هذه القائمة؟

قال الحكيم: لا.. ولكني أردت فقط أن أحصيها.

قال جيري فاينز: فهذه هي الأمراض.. ويمكنك أن تحصرها في ثلاثة أنواع من الأمراض: أمراض عصبية.. وأمراض نفسية.. وأمراض روحانية.

قال الحكيم: لقد سمعت لتحاليلك.. فهل تأذن لي في أن أجيبك؟

قال جيري فاينز: عم تجيبني؟

قال الحكيم: أنتم ـ معاشر الأطباء ـ تختلفون أحيانا في وصف مريض ببعض الأمراض، أو عدم وصفه؟

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فلذلك سأستعرض من خلال حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يبين وجه الحق فيما ذكرته.. فنعرف إن كان حقيقة مريضا أم لا.

قال جيري فاينز: قل ما تشاء.. فلي صدر أوسع من المحيط.

أمراض عصبية

قال الحكيم: فلنبدأ بالأمراض العصبية.. فقد ذكرت بأن هناك من اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصابا

النبي المعصوم (286)

بالصرع (1)..

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.. ولقوله الدلائل الكثيرة في حياة محمد.

قال الحكيم: قبل أن أجيبك بما يقتضيه المنطق أجيبك بما ذكره بعض قومك، اسمع لما يقول المستشرق الطبيب ماكس مايرهوف (2) الذي قال ردا على من نسب هذا المرض لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: (أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شئ يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول) (3)

ومثله قال (بودلي) في كتابه (الرسول حياة محمد) مفندا هذا الزعم: (لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتع بها محمد حتى قبل وفاته بأسبوع واحد (4)، وإن كان ممن تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته، فهو محمد)

بعد هذا أجبني.. هل كان قوم محمد حريصين على تتبع كل ثغرة يمكنهم من خلالها نشر الفضائح التي تشوه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؟

__________

(1) الصرع مرض عضوي عصبي يظهر على هيئة نوبات تصيب الشخص، وفيها يفقد الوعي ويسقط أرضاً ثم تظهر لدية حركات تشنجية منتظمة في أجراء مختلفة من جسمه أو أعراض أخرى.

وللصرع أسباب متعددة منها التغيرات التي تظهر على شكل إفرازات كهربائية غير طبيعية في المخ، والعوامل الوراثية، ووجود عيوب خلقية بالمخ، وقد تؤدي إصابات الرأس والتهابات المخ إلى الصرع في جميع الأعمار.

(2) مستشرق ألمانى، من كبار أطباء العيون العالميين، وفى طليعة مؤرخى الطب العربى، تعد اكتشافاته فيه، وكتابته عنه، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية، مرجعاً دقيقاً وافياً، سكن مصر، وانتخب نائباً لرئيس المعهد المصرى، والجمعية الطبية المصرية. توفى بالقاهرة سنة 1945 م. انظر: الأعلام للزركلى 5/ 256، 257.

(3) الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب، أحمد بوطامى ص 162.

(4) كان النبي (أصح الناس بدنا وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة تدل على البطولة الجسمانية. وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي (الدعوة قال: صارعني فإن أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله، فصارعه الرسول فغلبه، فقيل إنه أسلم عقب ذلك (التاريخ الكبير رقم 1146) والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة.

النبي المعصوم (287)

قال جيري فاينز: أجل.. ذلك صحيح.. وأنا لا أعتبرها فضائح، بل أعتبرها حقائق.

قال الحكيم: فهل سجل التاريخ أنهم رموه بهذا الداء الذي كان معروفا عندهم (1)، كما كان معروفا عند جميع شعوب العالم؟

قال جيري فاينز: لكنهم رموه بالجنون؟

قال الحكيم: الرمي بالجنون مختلف عن الرمي بالصرع.. وأنت وهم وجميع العالم تعلمون أن تصرفات محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبعد التصرفات عن تصرفات المجانين.

لعلك سمعت بالوليد بن المغيرة.

قال جيري فاينز: وكيف لا أسمع به، وقد كان من العقلاء الذي رفعوا ألوية المعارضة ضد محمد؟

قال الحكيم: ما دمت قد أقررت بعقله، فاسمع لشهادته، لقد حدث ابن عباس أن الوليد ابن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به، فقال: بل أنتم فقولوا لأسمع فقالوا: نقول كاهن فقال: ما هو بكاهن لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره فقالوا: نقول مجنون فقال: وما هو بمجنون ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قال: فنقول شاعر قال: فما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قال: فنقول: ساحر قال: فما هو ساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده فقالوا: ما تقول با ابا عبد شمس قال: والله ان لقوله

__________

(1) من الأدلة المثبتة لمعرفتهم به ما ورد في الحديث عن عطاء بن أبى رباح قال قال لى ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبى (قالت إنى أصرع وإنى أتكشف فادع الله لى. قال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. قالت أصبر. قالت فإنى أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها (رواه البخاري ومسلم)

النبي المعصوم (288)

لحلاوة وان أصله لمعذق وأن فرعه لجنى فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وأن أقرب القول لأن تقولوا ساحر فتقولوا هذا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وبين زوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عند ذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره (1).

التفت إلى جيري فاينز، وقال: أنت ترى قومه قد احتاروا فيما ينسبوه إليه مما يصرف الناس عنه، فلو علموا أنه كان يصرع ويصيبه المصروع من تخبط يسكتون عن هذا.. خاصة وأنهم كانوا يعتبرون الصرع من الأمراض الشيطانية المنفرة؟

قال جيري فاينز: لعل قومه لم تكن لديهم معرفة مفصلة بالصرع، فلذلك توقفوا عن رميه به.

قال الحكيم: ولكنهم كانوا يعرفونه؟

قال جيري فاينز: ربما كانوا يعرفون نوعا واحدا.. فللصرع أنواع كثيرة.

قال الحكيم: فصفها لي لنرى مدى انطباقها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال جيري فاينز: منها الصرع الأصغر، ومن أعراضه: السرحان.. وفقدان الذاكرة.. وفقدان الكلام، أو الكلام غير المفهوم.. وتوقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.. وفقدان النشاط العادي.

ومنها الصرع الأكبر، ومن أعراضه تصلب في الجسم.. واحتقان في الوجه.. وهزات متكررة في الجسم كله.. ولعاب كثيف في الفم.. وعض للسان.

ومنها الصرع البؤري، ويكون المريض فيه في كامل وعيه، وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة، ومن أعراضه تشنجات حركية.. وتشنجات حسية.. وتخيلات مرئية أو سمعية أو شميه (هلاوس).. وإحساس داخلي بالخوف.

__________

(1) رواه ابن اسحاق والبيهقي.

النبي المعصوم (289)

قال الحكيم: أرى أن المنهج العلمي يستدعي أن نبحث من خلال ما ورد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما ينطبق على ما ذكرت من أعراض.

قال جيري فاينز: وذلك ما نفعله نحن.

الصرع الأصغر

قال الحكيم: فلنبدأ بالصرع الأصغر، فقد ذكرت من أعراضه السرحان.. وفقدان الذاكرة.. وفقدان الكلام، أو الكلام غير المفهوم.. وتوقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.. وفقدان النشاط العادي.

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فهل يمكن لرجل يتسم بكل هذا الضعف أن يؤسس أمة لا يزال لها وجود إلى اليوم؟

وهل يمكن لمن كان عاجزا عن الكلام، أو كان كلامه غير مفهوم أن يترك من التعاليم الممتلئة بالحكمة ما لم تزده الأيام إلا إثباتا؟

وهل يمكن لمن كان شارد الذهن أن تحمل حياته.. بل دقائق حياته وثوانيها.. من الأحمال ما تنوء به الجبال؟

إن الذي ذكرت لا ينجح في حياته البسيطة العادية، فكيف برجل حمل كل الأثقال، وتحمل كل المتاعب والمشاق، ولم تكن له في حياته لحظة من السكون والراحة.

لقد قال ربه يأمره بالتفرغ إليه في حال الراحة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} (الشرح)

وقال يخبره عن ليله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} (المزمل:20)

وقال يخبر عن عظم الأمانة التي تحملها: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل:5)

النبي المعصوم (290)

فهل يمكن لمن حمل كل هذه الأثقال، فحملها خير حمل أن يكون بذلك الضعف والقصور؟

الصرع الأكبر

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: أرى أن قومك ممن يرمون محمدا بالصرع يقصدون الصرع الأكبر، الذي ذكرت من أعراضه تصلب الجسم.. واحتقان الوجه.. وهزات متكررة في الجسم كله.. ولعاب كثيف في الفم.. وعض للسان.

قال جيري فاينز: أجل.. وأدل دليل على ذلك ما تسمونه بالوحي.. فما الوحي في نظرنا ـ معشر الأطباء ـ سوى نوبة من نوبات الصرع الأكبر.

قال الحكيم: إن هذا يستدعي النظر في هيئة الوحي الذي كان يعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومقارنة ذلك بما وصفت من أعراض الصرع الأكبر.

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: لقد ورد في النصوص ذكر أربعة أنواع من الوحي، وسنرى مدى علاقة هذه الأنواع بما ذكرت من أعراض.

قال جيري فاينز: فما النوع الأول؟

قال الحكيم: الرؤيا الصادقة، فقد روي أنها كانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) (1)

بل قد ورد التصريح بذلك، ففي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رؤيا الأنبياء وحى) (2)

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره مرفوعا، ورواه موقوفاً على ابن عباس، الحاكم فى المستدرك، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى.

النبي المعصوم (291)

بل قد نص القرآن على هذا عند ذكره لرؤيا إبراهيم - عليه السلام - فى المنام من ذبح ولده إسماعيل - عليه السلام -، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} (الصافات)

ومن الرؤى التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقص علينا القرآن الكريم قصتها ما نص عليه قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لأنفال:43)، ففى غزوة بدر واجه المسلمون المشركين فى أول واقعة حربية حاسمة، وكان المشركون ضعف عدد المسلمين، وقد وقعت رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاهد فيها المشركين قلة قليلة، فأخبر أصحابه يومئذ بذلك، فكان ذلك تثبيتاً لهم.

ومن الرؤى التي قصها القرآن الكريم ما نص عليه قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:27، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صحابته فى العام السادس للهجرة بأنه رأى المسلمين داخلين المسجد الحرام فى أمن تام مؤدين المناسك.

ولما سار المسلمون، ووصلوا إلى الحديبية لم يشك جماعة منهم أن الرؤيا النبوية تتحقق عامهم ذلك، وحين وقع ما وقع من صلح الحديبية تساءل عمر: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به (1).

وقد حصل تحقيق هذه الرؤية فى العام السابع، ففى ذى القعدة أدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون عمرة القضاء، ودخلوا مكة معتمرين.

التفت إلى جيري فاينز، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي أي عرض من أعراض الصرع؟

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (292)

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لا.. ولا يمكنك إلا أن تقول ذلك، وإلا لكان كل الخلق مصابين بالصرع..

قال رجل من القوم: فحدثنا عن النوع الثاني.

قال الحكيم: النوع الثاني من الوحي هو الإلهام والقذف فى القلب من غير رؤية ملك، وذلك بأن يلقى الله أو الملك الموكل بالوحى فى قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يريد، مع تيقنه صلى الله عليه وآله وسلم أن ما ألقى إليه وحي من قبل الله تعالى.

وقد أشار إلى هذه الكيفية قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} (الشورى:51)

ومن الوحي المتنزل بهذه الصورة ما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، ولا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل - عليه السلام - ألقى فى روعى أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا فى الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية) (1)

التفت إلى جيري فاينز، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي أي عرض من أعراض الصرع؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لا.. ولا يمكنك إلا أن تقول ذلك، فكل إنسان يجد في ذهنه ـ أحيانا كثيرة ـ من الخواطر والأفكار ما لم يكن يخطر له على بال.

قال جيري فاينز: ولكني لا أسلم أن ذلك وحي من الله.

قال الحكيم: لا يهمني أن تسلم أو لا تسلم.. فتلك مسألة أخرى.. وهي تستدعي بحثا آخر.. فنحن الآن نناقش علاقة أنواع الوحي بالصرع الذي تذكره.

__________

(1) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى، ورواه الشافعى فى الرسالة وأبو نعيم فى الحلية.

النبي المعصوم (293)

قال رجل من القوم: فحدثنا عن النوع الثالث.

قال الحكيم: النوع الثالث هو تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب، وهو ما نص عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى:51)

وهو نفس الوحي الذي حصل لموسى صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء:164)

وقد حصل هذا النوع من الوحي لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء والمعراج (1)، وقد دل على هذا قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (لنجم:10)

التفت الحكيم إلى جيري فاينز، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي عرضا من أعراض الصرع؟

قال جيري فاينز: نعم.. فقد يرى المصروع أشياء قبل حصول صرعه.

قال الحكيم: فقد كان ما حصل لموسى - عليه السلام - إذن نوع من الصرع.. فقد ورد حديث الله مع موسى - عليه السلام - في التوراة.. سأقرأ عليك ما ورد من ذلك، فأنت كما ذكرت تؤمن بالكتاب المقدس، وتجمع بين الطب والدين في ذلك.

أخرج الحكيم الكتاب المقدس من جيبه، وراح يقرأ من (سفر الخروج: 3/ 1 - 14): (وكان موسى يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى ما وراء البرية حتى وصل

__________

(1) ذكر بعضهم هنا التكليم في المنام، واستدل له بحديث معاذ أن النبي (تأخر عنهم ذات غداة، فخرج عليهم وصلى وتجاوز فى صلاته، فلما سلم قال: (كما أنتم على مصافكم)، ثم أقبل إلينا فقال: (إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: لا أدرى يا رب... الحديث (رواه أحمد والترمذى وقال: حسن صحيح، سألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح)

وهذا النوع يدخل فيما ذكرناه من الوحي عن طريق الرؤى المنامية.

أما الحديث الذي استدلوا به، فنرى التوقف في صحته، فلم نر نصا واحدا صحيحا يثبت ما أثبته هذا النص من التشبيه، فإما أن يكون الحديث صحيحا تصرف الرواة في ألفاظه، وإما أن لا يكون صحيحا أصلا.. والله أعلم.

النبي المعصوم (294)

إلى جبل الله حوريب. فتراءى له ملاك الرب في لهيب نار من وسط العليقة. ورأى موسى العليقة تتوقد بالنار وهي لا تحترق. فقال في نفسه: (أميل وأنظر هذا المشهد العظيم. ما بال العليقة لا تحترق؟) ورأى الرب أنه مال لينظر، فناداه من وسط العليقة: (موسى، موسى). فقال: (نعم). قال: (لا تقترب إلى هنا. إخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة)، وقال: (أنا إله آبائك. إله إبراهيم وإسحق ويعقوب). فستر موسى وجهه خوفا من أن ينظر إلى الله. فقال له الرب: (نظرت إلى معاناة شعبي الذين في مصر، وسمعت صراخهم من ظلم مسخريهم وعلمت بعذابهم، فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأخرجهم من تلك الأرض إلى أرض رحبة تدر لبنا وعسلا، إلى موطن الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين. والآن ها صراخ بني إسرائيل وصل إلي ورأيت كيف يجور المصريون عليهم، فتعال أرسلك إلى فرعون لتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر). فقال موسى لله: (من أنا حتى أذهب إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر؟) قال: (أنا أكون معك، وهذه علامة لك على أني أنا أرسلتك: إذا أخرجت الشعب من مصر، فاعبدوا الله على هذا الجبل) فقال موسى لله: (إذا ذهبت إلى بني إسرائيل وقلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن سألوني ما اسمه؟ فماذا أجيبهم؟) فقال الله لموسى: (أنا هو الذي هو. هكذا تجيب بني إسرائيل: هو الذي هو أرسلني إليكم)

التفت إلى جيري فاينز، وقال: فهل تعتبر ما حصل لموسى - عليه السلام - نوبة من نوبات الصرع؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: إن لم تعتبره من الصرع، فلا يحق لك أن تعتبر ما حصل لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الصرع.

قال جيري فاينز: ولكن موسى كان نبيا.

قال الحكيم: ونحن نعتبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كذلك نبيا..

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لننتقل إلى النوع الرابع من أنواع الوحي، وهو نزول الملك وتكلمه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

النبي المعصوم (295)

وفي هذه الحالة إما أن يتمثل له الملك فى صورة رجل، فيكلمه كما يكلم البشر بعضهم بعضا، كما حصل للأنبياء قبله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر الله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - أن الملائكة قدموا عليه، فقدم لهم عجلاً حنيذاً، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين أفصحوا له عن حقيقة أمرهم، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} (الذاريات)

وأخبر تعالى أن الملائكة ـ عليهم السلام ـ أتوا لوطا - عليه السلام - فى صورة شباب حسان، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} (هود:77)

وأخبر تعالى أن الله أرسل إلى مريم البتول ـ عليها السلام ـ جبريل - عليه السلام - فى صورة بشر سوى يبشرها باصطفائها واصطفاء وليدها، قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم:17)

وعلى هذا الأسلوب من أساليب الوحي كان جبريل - عليه السلام - يتنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم متخذا صورة رجل، بحيث يراه النبى صلى الله عليه وآله وسلم وحده ويكلمه بما أراد فيعى عنه ما يقول، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم، لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال: (وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول) (1)

وقد يظهر الملك المتشكل فى صورة رجل للعيان، فيراه الناس ويسمعون كلامه للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد فى الحديث أن جبريل - عليه السلام - جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة، وفي نهايته قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) (2)

ومن الأحوال النادرة لهذا النوع من الوحي أن يأتى جبريل - عليه السلام - للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فى صورته التى

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (296)

خلقه الله عليها، وقد ورد في النصوص ذكر مرتين فقط لهذه الحالة (1).. والتي رأى فيها النبى صلى الله عليه وآله وسلم جبريل - عليه السلام - على صورته الملائكية التى خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق. مرتين:

أما المرة الأولى، فكانت فى الأرض، كما روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ـ عند حديثه عن فترة الوحى ـ: (بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: دثرونى، وصبوا على ماء بارد، وأنزل الله على: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (المدثر)

وقد أشار إلى هذه الصورة قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} (التكوير:23)

أما المرة الثانية، فقد حصلت في السماء عند سدرة المنتهى ليلة المعراج، وقد نص عليها قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} (النجم)

أما الحالة الثالثة المرتبطة بهذا النوع من الوحي، فهي أن يأتى جبريل - عليه السلام - على صورته الملائكية من غير أن يرى، أى أنه يأتى خفية فيتلبس بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم ويتغشاه.

ويصحب مجيئه في هذه الحالة شدة يراها كل من حضر الوحي، ويكون مجئ الملك بصوت يشبه صلصلة الجرس، فيوحى إليه بما شاء الله وحيه، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال: (أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال) (2)

وفى رواية: سئل صلى الله عليه وآله وسلم هل تحس بالوحى؟ فقال: (أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك،

__________

(1) وهاتان الحالتان لم تذكرا بصيغة الحصر، ولهذا لا نرى مانعا من أن يكون النبي (قد رأى جبريل - عليه السلام - غير هاتين المرتين، وما روي مرفوعاً: (لم أره على صورته التى خلق عليها إلا مرتين)، فهي إخبار منه (عن عدد المرات وقت حديثه بالحديث.

(2) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (297)

فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض) (1)

ووصف الحاضرون حاله عند نزول الوحي، فقالوا: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً) (2)

التفت الحكيم إلى جيري فاينز، وقال: أظن أن هذا هو ما كنت تبحث عنه.

قال جيري فاينز: أجل.. فهذه الحالة لا أتصور إلا أنها صورة من صور الصرع، أو عرض من أعراضه.

قال الحكيم: قبل أن أناقشك في هذا اسمح لي أن أقرأ عليك ما ورد في الإنجيل عن المسيح - عليه السلام -.. فقد جاء فيه: (ثم انطلق وذهب كعادته إلى جبل الزيتون، وتبعه التلاميذ أيضا. ولما وصل إلى المكان، قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة وابتعد عنهم مسافة تقارب رمية حجر، وركع يصلي قائلا: ياأبي، إن شئت أبعد عني هذه الكأس. ولكن، لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك. وظهر له ملاك من السماء ليقويه. وإذ كان في صراع، أخذ يصلي بأشد إلحاح؛ حتى إن عرقه صار كقطرات دم نازلة على الأرض) (لوقا 22: 43)

أنت ترى في هذا النص المسيح - عليه السلام - يظهر له الملاك، وأن عرقه صار ينزل كقطرات الدم.. ألا ترى أن هذا وصف مقارب للوحي الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لن أحدثك كرجل دين.. بل سأحدثك كطبيب، فأجبني.. أليست الحمى عرضا من أعراض التهاب اللوزتين؟

قال جيري فاينز: بلى.. ما تقوله صحيح.

قال الحكيم: أرأيت لو أن طبيبا كسولا راح يقيس حرارة كل من يأتي إليه من المرضى، فإذا وجد حرارة أي مريض مرتفعة اعتبره مريضا بالتهاب اللوزتين.. ووصف له دواء ذلك؟

__________

(1) رواه أحمد.

(2) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (298)

قال جيري فاينز: هذا طبيب جاهل.. فالحمى عرض لأمراض كثيرة.. ولا يمكن أن يعرف أحد نوع المرض إلا بعد التشخيص الدقيق.

قال الحكيم: فأخبر جميع الأطباء الذين نسبوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نسبوا من الأمراض عن جهلهم.. فقد استدلوا بالعرض وحده من غير أن يقوموا بأي تشخيص.

قال جيري فاينز: أنى لهم أن يقوموا بالتشخيص.. ومحمد ليس بينهم.

قال قال الحكيم: فكيف حكموا عليه إذن.. أم أنكم تعالجون في بلادكم المرضى غيابيا.

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لا بأس.. فلنعتبر كل ما تذكره صحيحا، ولنحاول أن ننظر فيما يصدر من المصروعين.. وندرسه دراسة متأنية، ونقارنه بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. هل ترى هذا المنهج صحيحا؟

قال جيري فاينز: نعم.. هذا منهج صحيح.. ونحن نمارسه في كل بحوثنا ودراساتنا.

قال الحكيم: ألست تعلم أن المريض في حالة الصرع تمر بذهنه ذكريات أو أحلام مرئية أو الاثنان معا.

قال جيري فاينز: أجل، ونحن نسميها بالهلاوس.

قال الحكيم: ألم يثبت الطب أن الذكريات التي تمر بالمريض لابد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما.

قال جيري فاينز: أجل.. فالنوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيا أجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ، فشعر المريض بنفس الهلاوس التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو الهلاوس فهذا مريض يسمع أغنية أو قطعة من شعر، أو حديثا من أي نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولابد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته. أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة

النبي المعصوم (299)

تثير منظرا لابد أن يكون قد مر عليه.

قال الحكيم: بتطبيق ما ذكرته مما توصل إليه الطب الحديث في حقائق الصرع على ما يعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته.

فهل رأيت مصروعا في الدنيا نطق ـ في حال صرع ـ بما نطق به محمد من الكلام الذي لا زالت الدنيا محتارة في أسرار إعجازه؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: أنت تعلم أن كل مصروع ينسى ما حدث له أثناء النوبة (1)..

قال جيري فاينز: وقد يذكره.

قال الحكيم: إذا ذكره، فإنه يتألم لذكره.. ويتمنى لو شفي من حالته.. بل يبذل أمواله من أجل ذلك (2)..

أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أحب الأشياء إليه رؤية ملاك الوحي، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل - عليه السلام -: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فنزل قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (مريم:64)

الصرع البؤري

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: أرى أن هذا النوع من الصرع كان أبعد الأمراض عن

__________

(1) ورد في كتاب (الموسوعة العربية الميسرة) أن مريض الصرع يمكن أن يرى شبحاً، ويسمع صوتاً أو يشم رائحة ويعقب ذلك وقوع المريض صارخاً على الأرض، وفاقداً وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً... ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خالى الذهن من تذكر ما حدث له (الموسوعة العربية الميسرة ليوسف إلياس سركيس)

(2) يصاب مريض الصرع بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع، ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات فلو كان ما يعتري النبي (عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.

النبي المعصوم (300)

محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان صلى الله عليه وآله وسلم أبعد الناس عنه.. فلننتقل إلى النوع الثالث من أنواع الصرع.. والذي سميته الصرع البؤري، وذكرت أن المريض فيه يكون في كامل وعيه، وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة، ومن أعراضه تشنجات حركية.. وتشنجات حسية.. وتخيلات مرئية أو سمعية أو شميه (هلاوس).. وإحساس داخلي بالخوف.

والرد على هذا مثل الرد على ما سبق.. فهذه حالة مرضية، أما ما كان يعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان من أعلى مظاهر الصحة والكمال.. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أكمل البشر عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً، وقد تحدى الله المشركين الذين عرفوه وعايشوه وخبروا حاله أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، فلم يفعلوا، ولو وجدوا ما سكتوا قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46)

فهذه الآية الكريمة تقول لجميع أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جميع فترات التاريخ: (ها هو ذا تاريخ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديثه، وسننه، وآدابه، وأخلاقه، وشريعته، تحت أنظاركم فانظروا وتفكروا من غير هوى ولا عصبية فى جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه ـ ولن تستطيعوا ـ ما يقيم عوج دعاواكم، وأفك أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معصوم بعصمة الله عز وجل، الذى أرسله ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد (1).

أمراض نفسية

قال رجل من القوم: لقد أجبته عن شبهة الأمراض العصبية، فأجبه عن شبهة الأمراض النفسية.

قال جيري فاينز: أجل.. فإن سهل عليك أن تجيب عن ذلك النوع من الأمراض، فإنه

__________

(1) محاسن التأويل للقاسمى.

النبي المعصوم (301)

يستحيل عليك أن تجيب عن هذا النوع منها.

فإن طلبت الدليل، فلن يعز علي طلب الدليل.. لقد قال المستشرق بروكلمان (1) ـ وهو الخبير العارف بالتاريخ ـ عن علاقة محمد بهذا النوع من الأمراض: (بينما كان بعض معاصرى النبى، كأمية بن أبى الصلت (2)، شاعر الطائف، وهى بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل فى تأملاته حول خلاصة الروحى، ليالى بطولها فى غار حراء قرب مكة، لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج فى نفسه هذا السؤال، إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى، آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت فى نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطرى حال بينه وبين إعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبد شكوكه إلا بعد أن خضع لإحدى الخبرات الخارقة فى غار حراء، ذلك بأن طائفاً تجلى له هنالك يوماً، هو الملك جبريل، على ما تمثله محمد فى ما بعد، فأوحى إليه أن الله قد اختاره لهداية الأمة، وآمنت زوجه فى الحال برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من آخر شكوكه بعد أن تكررت الحالات التى ناداه فيها الصوت الإلهى وتكاثرت، ولم تكد هذه الحالات تنقضى حتى أعلن ما ظن أنه قد سمعه كوحى من عند الله) (3)

ابتسم الحكيم، وقال: إن ما ذكره هذا المؤرخ لا يختلف كثيرا عما رمى به القرشيون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد اعتبروا النبى صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذن شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه، حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه؛ وما ذاك

__________

(1) هو مستشرق ألمانى، تعلم اللغة العربية، وكان عالماً بتاريخ الأدب العربى، وعضو المجمع العربى. مات سنة 1956 م من آثاره: تاريخ الأدب العربى، وتاريخ الشعوب الإسلامية، وغيرها.

(2) هو أمية بن عبد الله بن أبى الصلت بن أبى ربيعة بن عوف الثقفى، شاعر جاهلى من أهل الطائف، فى شعره حكم، اطلع على الكتب القديمة، وقد لقى النبى (، ولم يؤمن به، مات سنة 5 هـ على خلاف فى ذلك.

(3) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 36.

النبي المعصوم (302)

الذى يراه ويسمعه إلا صورة أخليته ووجد آناته، فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام.

قال جيري فاينز: إن ما تقوله لا يزيد ما قاله بروكلمان وإخوانه المستشرقون إلا تأكيدا.

قال الحكيم: إن هذا الاعتراض يمكن أن يوجه لأي نبي من الأنبياء الذي تؤمن بنبوتهم.. فموسى - عليه السلام - كان رجلا يحلم بإنقاذ قومه.. فلذلك تخيل ذلك الوحي.. ثم انطلق منه ليدعي النبوة، ويصبح نبيا لبني إسرائيل.

والمسيح كان يسمع في الأحياء اليهودية اسم المسيح يردد صباح مساء.. فحلم بأن يصير مسيحا، فصار مسيحا..

قال جيري فاينز: ولكن من ذكرتهم أيدوا بمعجزات خارقة دلت على صدق دعواهم.

قال الحكيم: ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أيد بأضعاف ما أيدوا به.. بل لا تزال الدلائل الدالة عليه حية ناضجة بالحياة..

قال جيري فاينز: فلنفرض أني تخليت عن المسيح وموسى وسائر الأنبياء.. فخاطبني كطبيب لا كرجل دين.

قال الحكيم: هل رأيت في حياتك.. أو في حياة البشر جميعا.. رجلا أميا في بيئة أمية حلم بأن يصير عالما يبز كل العلماء بعلمه، فتحقق له حلمه من غير أي سبب اكتسبه، ولا حيلة احتالها؟

قال جيري فاينز: لم يحدث ذلك..

قال الحكيم: فقد اشتمل الوحى الإلهى الذى بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ سواء كان قرآناً أو سنة ـ على أسرار فى الكون والأنفس والآفاق، ما كانت تخطر على بال بشر قط ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم والمعارف فى العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وهى لم تخطر له على بال (1).

ثم.. هل كان الدين الذى جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعقائده وتشريعاته فى العبادات والمعاملات،

__________

(1) المدخل لدراسة القرآن للدكتور محمد أبو شهبة.. وانظر رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (303)

والحدود، والجنايات، والاقتصاد، والسياسة، والأخلاق والآداب، وأحوال السلم والحرب، مركوزاً فى نفسه صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة لم يبح به حتى بلغ تلك السن.. مع العلم أن كل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم وما بلغه من وحى الله من المعارف يعتبر مناقضاً لكل ما كان سائداً فى العالم حينئذ، من عقائد، كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث، والصلب، وإنكار البعث، واليوم الآخر.

ثم.. هل يمكن للأحلام النفسية أن تصنع التاريح.. وهل يمكن لأحد أن يقول: إن التاريخ يمكن وضعه بإعمال الفكر، ودقة الفراسة؟.. أم أنك ترى أن محمداً قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرناً قرناً، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان أو أنه ورث كتب الأولين، فعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين فى علم دقائقها؟

سكت قليلا، ثم قال: لقد رد القرآن الكريم على هذه الشبهة، فبين أن الوحي ليس نابعاً من نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو أمانة حملها جبريل - عليه السلام - من عند الله إليه، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (الشعراء)، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} (التكوير)

التفت إلى جيري فاينز، وقال: إن هذه الآيات الكريمة تخاطبكم بكل الدلائل، فهي تذكر أن ما رآه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملاك حقيقي أرسله الله إليه ليبلغ وحيه..

حلل تلك النصوص بما شئت من صنوف التحليل، فلن تجد فيها إلا الصدق والحقيقة.

قال جيري فاينز: وما أدرانا.. ونحن لم نر ولم نسمع.

قال الحكيم: إنك بهذا المنطق تقضي على كل المعارف والعلوم.. أليس مبدأ التعامل في كل شيء هو الثقة.. أليس الذي ذهب إلى القمر، ووطئت قدماه على القمر ثلة محدودة من الناس..

النبي المعصوم (304)

ولكنا نصدقهم في كل ما ذكروه ابتداء من صعودهم وانتهاء بمشاهداتهم.

قال جيري فاينز: ولكن الصور التي قدموا بها أكبر دليل على صدقهم.

قال الحكيم: أنت ترى أن مصانع الفنون تبدع من الصور ما يحيل الخيال حقيقة.. فهل تصدق كل ما ذكرته تلك المصانع؟

قال جيري فاينز: ولكن تلك المصانع لم تدع أن ما صنعته حقائق.. بل هي تحذر من اعتبارها حقائق.

قال الحكيم: فلم اعتبرت ما ذكره رواد الفضاء حقائق، وما ذكره صانعو الأفلام خيالا؟

قال جيري فاينز: لقد صدقت كليها فيما ذكره عن نفسه.

قال الحكيم: فقد رجع الأمر إذن إلى أنك وثقت في الطرفين؟

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فاستعمل نفس الأسلوب مع نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

قال جيري فاينز: ولكنه لم يأت بأي صور.

قال الحكيم: لقد أتانا بحقائق أعظم بكثير من الصور.. وهي حقائق لا يمكن لأي ذكي في الدنيا أن يجتنيها بذكائه، ولا لأي محتال أن يقتنصها بحيلته.

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: ومن الردود التي رد بها القرآن الكريم على هذه الشبهة ذكره لعدم استشراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يستشرف للنبوة، وما كان يرجوها، ولم يطمع فى حصولها له، بل لم يرد فى الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وآله وسلم يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه علماء اليهود والنصارى قبل البعثة، ولو ثبت ذلك عنه لما ترك المحدثون تدوينه، وقد دونوا ذلك عن أمية بن أبى الصلت، لما كان يتوقع أن يكون نبياً.

قال تعالى مقررا هذه الحقيقة: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} (القصص:86)، فما كان صلى الله عليه وآله وسلم يظن أن الوحى قبل إنزاله عليه، ينزل

النبي المعصوم (305)

عليه، وإنما أنزله الله رحمة به وبالعباد، فهو نعمة من الله وفضل.

قال جيري فاينز: واختلاؤه بغار حراء؟

قال الحكيم: ذلك شيء آخر.. وذلك شيء لا يمكن لأحد في الدنيا أن يعرف سره.. فالله تعالى أعد نبيه إعدادا خاصا لهذه الوظيفة العظيمة التي تنوء بحملها الجبال.

ألا ترى كيف مهد الله لتربية نبيه موسى - عليه السلام - بأن فر بنفسه، ورعى الغنم، وحصل له من البلاء ما حصل.. ليكون كل ذلك زادا يعينه في الوظيفة التي أعد لها؟

لم يجد جيري فاينز ما يجيب به، فأخرج ورقة صغيرة من جيبه، طالعها بسرعة، ثم قال: نعم.. نعم.. لقد نسيت أن أذكر لك الدليل الذي ينهار أمامه كل ما ذكرت من أدلة..

إن الثابت علميا أن المنتحر لا ينتحر إلا بعد تعرضه لمرض نفسي خطير كالاكتئاب ونحوه.. وبما أن محمدا حاول الانتحار مرات عديدة، فهذا دليل على أنه مصاب بمرض نفسي.

ابتسم الحكيم، وقال: ومن أين عرفت أنه حاول الانتحار، ومن تدخل لينقذه من محاولة انتحاره؟

قال جيري فاينز: لقد روي هذا عن محمد.. لقد حدث الزهرى بلاغاً عن فترة الوحي، فقال: وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما بلغنا ـ حزناً غدا منه مراراً، كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكى يلقى منه نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك (1).

ابتسم الحكيم، وقال: ليس كل ما يروى في التاريخ يصح قبوله.

قال جيري فاينز: وليس كل ما يروى في التاريخ يمكن رفضه.

قال الحكيم: فلنحتكم إلى أهل التاريخ أنفسهم لنرى مدى صدق هذه الرواية.

__________

(1) رواه عبد الرزاق.

النبي المعصوم (306)

إن راوي هذه الرواية يقول: (حزن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فيما بلغنا)، والقائل (فيما بلغنا) هو الزهرى.. ولم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنما كان يتلقى حديثه ممن صحبوه أو من التابعين، وقد قال فيه يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهرى شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى! وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه.. وهذه الزيادة من هذه القبيل، حيث أنها منقطعة قد رواها الزهرى بلاغاً، وهو من صغار التابعين، وجل روايته عن كبار التابعين، وأقلها عن صغار الصحابة، فكيف بالكبار منهم، لاسيما من شهدوا بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وبناء على ذلك، فلا سند يعتمد عليه، ولعل البخارى وغيره ممن أخرج هذه الزيادة أرادوا بذلك التنبيه إلى مخالفتها لما صح من حديث بدء الوحى الذى لم تذكر فيه هذه الزيادة، وخصوصاً أن البخارى لم يذكر هذه الزيادة فى بدء الوحى، ولا التفسير، وإنما ذكرها فى التعبير.

ويؤيد ما سبق، أن الأئمة الحفاظ يذكرون عقب هذه الزيادة حديث جابر الصحيح فى فترة الوحى إلى الزهرى بنفس السند الذى يروونه عنه فى حديث عائشة الأول، ويفهم من صنيعهم ذلك: أن الزهرى نفسه كان يحدث بحديث جابر عقب حديث عائشة.

ففى مصنف عبد الرزاق بعد فراغه من حديث عائشة: قال معمر، قال الزهرى، فأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يحدث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: (بينما أنا أمشى سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسى، فإذا الذى جاءنى بحراء جالساً على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ (1) منه رعباً، ثم رجعت، فقلت: زملونى، زملونى، ودثرونى، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} (المدثر)

وكذلك البخارى ذكر حديث عائشة فى بدء الوحى عن ابن شهاب، عن عروة، عن

__________

(1) فى بعض الروايات (فجثثت) بمثلثة بدل الهمزة، ومعناهما: فزعت منه، وخفت، وذعرت، وقيل: معناه: قلعت من مكانى. النهاية: 1/ 231، 225.

النبي المعصوم (307)

عائشة إلى قولها: ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى، ثم قال عقبة: قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال... فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، غير أنه زاد فى آخره: (فحمى الوحى وتتابع) (1)

وقد علق الحافظ ابن حجر على هذا بقوله: (قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرق العطف، ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمة بكذا، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن فى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقديم شئ عطفته ـ وهو حديث عائشة المتقدم ـ ثم قال ابن شهاب ـ أى بالسند المذكور ـ وأخبرنى أبو سلمة بخبر آخر، وهو حديث جابر عن فترة الوحى) (2)

وكذلك فعل أحمد فى مسنده، مع أنه قد جمع فى مسنده مرويات كل صحابى على حده، دون الالتزام بالوحدة الموضوعية للأحاديث، لكنه لما روى حديث عائشة المتقدم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، قال: فذكر حديثاً لعله يشير إلى حديث جابر الذى أخرجه قبل ذلك فى المسند (3).

وكذلك صنع مسلم، وابن حبان فى صحيحيهما عقب إخراجهما لحديث عائشة فدل هذا كله، على أن ابن شهاب الزهرى كان يحدث بالحديثين معاً، كما روى عنه غير واحد مما سبق بيانه، وأن الصواب فى رواية حديث عائشة بدون تلك الزيادة، كما أخرجه مسلم، والبخارى فى بعض مواضعه، وغيرهما.

قال جيري فاينز: فلنسلم بما ذكرت من حديث الزهري، فهو تابعي قد لا يكون الحديث

__________

(1) رواه البخاري.

(2) فتح البارى: 1/ 37.

(3) انظر: المسند: 3/ 232، 233.

النبي المعصوم (308)

بلغه بصورة صحيحة.. فما تقول فيما روى عن ابن عباس من قوله: (مكث النبى صلى الله عليه وآله وسلم أياماً بعد مجئ الوحى لا يرى جبريل، فحزن حزناً شديداً حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء أخرى، يريد أن يلقى نفسه)

قال الحكيم: هذا الحديث غير مسلم تاريخيا مثل ذاك.

قال جيري فاينز: أتشكك في كون ابن عباس صحابيا؟.. لو سمعك الغلاة في الصحابة لطعنوك بسيوفهم.

قال الحكيم: أنا لا أشكك في صحبة ابن عباس، فهو حبر هذه الأمة وعالمها، ولكني أشكك فيمن روى عن ابن عباس.. فالحديث الذي ذكرته من رواية الواقدى (1)، وهو معروف بالضعف، لا يقبل الجهابذة من المحدثين روايته إلا إذا اعتضدت بروايات الثقات.

قال جيري فاينز: فلنسلم بما ذكرت من ضعف الرواية عن ابن عباس، ولكن ما تقول في القرآن.. وما تقول في هذه الآية التي تخبر عن محاولة محمد الانتحار بسبب تكذيب قومه له.. لقد جاء فيها: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)، وفي آية أخرى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6

ابتسم الحكيم، وقال: هاتان الآيتان لا تشيران أبداً إلى معنى الانتحار، بل هما تعبير أدبي عن شدة حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان؛ وهما تبينان كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.

وهذا خاطر طبيعي للنبي الإنسان البشر الذي يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم اعترافه بأنه بشر

__________

(1) هو: محمد بن عمر بن واقد الواقدى، قاضى العراق، رغم دقته فى المغازى وإمامته فيها إلا أنهم ضعفوه فى الحديث، قال الذهبى: الواقدى وإن كان لا نزاع فى ضعفه، فهو صادق اللسان، كبير القدر، وقال: ابن حجر: متروك مع سعة علمه، من أشهر مؤلفاته: المغازى، والردة، مات سنة 207 هـ له ترجمة فى: لسان الميزان 9/ 531.

النبي المعصوم (309)

في قوله ـ رداً على ما طلبه منه بعض المشركين ـ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)

انظر.. لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد عليهم متعجبا مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}

أمراض روحانية

قال رجل من القوم: لقد أجبته عن شبهة الأمراض العصبية والنفسية، فأجبه عن شبهة الأمراض الروحانية.

قال جيري فاينز: أجل.. فإن سهل عليك أن تجيب عن ذلك النوع من الأمراض، فإنه يستحيل عليك أن تجيب عن هذا النوع منها.

فإن طلبت الدليل، فلن يعز علي طلب الدليل.. ولن أستشهد هنا بما قال المستشرقون.. لا بروكلمان.. ولا غير بروكلمان.. بل سأستشهد بتاريخ محمد نفسه.. التاريخ الذي روي في كتب التفسير.

الشيطان

لقد روى المفسرون أنه بعد نزول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (لنجم:19) ألقى الشيطان في قلب محمد ـ نتيجة تمنيه ألا ينزل عليه ما يغضب قومه من قريش، لأنه كان يطمع بإسلام بعض وجهائهم ـ بعض الكلمات، فاعتقد أنها من الوحى، فطلب من كتبه الوحى تسجيلها وكتابتها فى نص القرآن، وكانت تلك الكلمات هي: (أفرأيتم اللات والعزى، تلك الغرانيق العلى، وإن

النبي المعصوم (310)

شفاعتهن لترتجى) (1)

وقد روى هؤلاء المفسرون أن القرشيين من المشركين سروا بذلك، وسجدوا مع محمد فى الصلاة، ولكن بعد فترة نزل جبريل، وعاتب الرسول، وصحح الآية، ناسخاً ما ألقى الشيطان.

ومما يدلك على صدق هذه الرواية ما ورد في القرآن من نهي محمد عن الوقوع في الشرك الذي تسلط الشيطان به عليه.. ففي القرآن: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (القصص:87)، وفيه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106)، وفيه: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:88

وهذا ليس خاصا بهذه الحادثة.. فقد ذكر القرآن أن الشيطان يمكن أن يتسلط على الأنبياء.. ففيه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج:52)

قال الحكيم: هذه قصة مكذوبة على نبينا.. ولا يصح لباحث عن الحقيقة أن يعتمد على الأكاذيب في التعرف عليها.

قال جيري فاينز: وما يثبت لنا كذبها؟

قال الحكيم: أمور كثيرة تثبت كذبها.. وأولها القرآن الكريم نفسه.. فهو أكبر دليل على على بطلانها.

قال جيري فاينز: ليس من المنهج العلمي أن تبرهن على بطلانها من القرآن.

قال الحكيم: بل هو عين المنهج العلمي.. فالمنهج العلمي القديم والحديث يعتمد على تحليل الوثائق المختلفة ليتبين من خلالها المواقف المختلفة.

__________

(1) سنرى المصادر التي روت هذه الرواية بتفصيل عند مناقشتنا لسندها، وننبه إلى أنا كنا قد رددنا بإجمال على هذه الشبهة في (الكلمات المقدسة) فصل (الربانية)

النبي المعصوم (311)

قال جيري فاينز: ولكن الشخص قد يقول اليوم قولا، ثم يتراجع عنه غدا.

قال الحكيم: ولذلك سأكتفي بقراءة السورة التي نزل فيها ما توهمته من آيات.. تلك السورة هي سورة النجم.. وهي تبدأ ببيان عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الهوى ومن الغواية، وأنه لذلك يستحيل أن يصل الشيطان إليه لينطق على لسانه بما يخالف الحقيقة التي كلف بتبليغها.

اسمع معي الآيات التي وردت قبل ما ذكرت من قصة الغرانيق، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم)

إن كل حرف من هذه الآيات يشير إلى عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه يستحيل عليه أن يكذب في رؤاه أو في سمعه أو في قوله، فكيف ينتظم هذا مع نطقه في نفس السورة عن الهوى.. بل وترديده ما يلقيه إليه الشيطان، على أنه آيات قرآنية إلهية.

ثم إنه ورد في نفس السورة قوله تعالى ـ بعد الموضع الذى زعموا أنه ذكرت فيه تلك الفرية العظيمة ـ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} (النجم)

فلو كانت القصة صحيحة لما كان هناك أي تناسب بينها، وبين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظم بذلك مفككاً، والكلام متناقضاً.. وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون، وهم أهل اللسان والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولاسيما أعداؤه الذين يلتمسون له

النبي المعصوم (312)

العثرات والزلات.

فلو أن ما روى كان واقعاً لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكئاً يستندون إليه فى الطعن على النبى صلى الله عليه وآله وسلم، والتشكيك فى عصمته، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن.

بل إن القرآن الكريم ينص على الوعيد الشديد المتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما فكر في إضافة حرف واحد لم يتنزل عليه، قال تعالى في سورة الحاقة، وهي سورة نزلت بعد سورة النجم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} (الحاقة)

قال جيري فاينز: ولكن آية من القرآن تشير إلى أن محمدا قد تعرض لفتنة.. وأنه كاد يقع فيها في حبائل المشركين.

قال الحكيم: تقصد قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (الإسراء)

قال جيري فاينز: أجل.. ألا ترى أن فيها إشارة واضحة لتلك الحادثة؟

قال الحكيم: لا.. بل أرى فيها دليلا من أدلة تفنيد تلك الحادثة.. فالله تعالى في هذه الآيات يخبر عن تأييد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها (1).

ثم إن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، وذلك يدل على أن الفتنة لم تقع، وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكن يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلاً عن

__________

(1) ابن كثير: 5/ 100.

النبي المعصوم (313)

الركون.. فالأسلوب القرآنى جاء على أبلغ ما يكون فى تنزيه ساحته صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فكيف ينسجم هذا مع مدح آلهتهم؟

قال جيري فاينز: إن كل ما ذكرته من استنادك للقرآن مجرد استنتاجات.. والعبرة في التاريخ بالأحداث لا بالاستنتاجات.

قال الحكيم: صدقت.. وسنحتكم للتاريخ.. لا للاستنتاجات.

قال جيري فاينز: فالتاريخ يؤيد ما ذكرت.

قال الحكيم: أرأيت لو أن مؤرخا جاء بتاريخ مخالف لجميع المؤرخين.. فذكر ـ مثلا ـ أن دولتنا هذه ألمانيا، والتي لا يجهل أحد منا تاريخها.. وفي سنة 2000.. قامت بحرب حقيقية مع جيرانها.. فهل يمكن لأحد أن يقبل هذه الحادثة بحجة أن راويها مؤرخ؟

قال جيري فاينز: لا.. لا يمكن ذلك.. ومثل هذا لا يقبل مؤرخا.. ولن يسمع كلامه أحد من الناس.

قال الحكيم: فلماذا تسمعون كلام كل من يتفوه بكلمة ترضيكم إذا تعلق الأمر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل وتعتبرونه مؤرخا، ولو خالف جميع المؤرخين.. بل خالف العقل والنقل.

قال جيري فاينز: ولكن كلامه مؤيد بإسناد.

قال الحكيم: من السهل على أي أفاك أن يضع ألف إسناد من أجل نشر أي إفك يريد نشره.. فهل ترى من الحكمة أن نتيح له الفرصة؟

قال جيري فاينز: لا..

قال الحكيم: وهذا ما مارسه المؤرخون المسلمون الذين وضعوا منهجا علميا يميز الصادق من الكاذب ليحموا دينهم مما تعرضت له سائر الأديان من ألوان التحريف.

قال جيري فاينز: فما قال هؤلاء في هذه الحادثة؟

قال الحكيم: لقد اتفقوا على تكذيبها.. لا بالأسلوب الذي كذبناها به، وإنما بأسلوب

النبي المعصوم (314)

المؤرخين المعتمد على نقد الأسانيد وتمحيصها.

سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض نقدهم للحادثة لتعلم علم اليقين أنه يستحيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يصل إليه الشيطان.. وتعلم قبل ذلك أن الله الرحيم بعباده يستحيل أن يترك الشيطان يعبث بمن جعله شمسا لهداية عباده.

من أكبر ما يبين لك عظم المغالطة التي وقع فيها من وضع هذه القصة هو أن تاريخ السيرة العطرة يؤكد أن المعراج وقع بعد السنة العاشرة من البعثة باتفاق، أما قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، إبان الهجرة الأولى للحبشة، وفى رمضان منها؛ وهذا مما يؤكد بطلان تلك المرويات.

قال جيري فاينز: وما علاقة المعراج بسورة النجم التي نزلت فيها تلك الآيات؟

قال الحكيم: لأن سورة النجم تحمل الحديث عن المعراج، وتصف ما حصل ليلة المعراج من أحداث..

قال جيري فاينز: لا يكفي كل هذا لتفنيد الحادثة.

قال الحكيم: مع أنك تخالف المنهج العلمي بقولك هذا إلا أني سأذكر لك ما قال المحدثون في نقدهم لهذه الحادثة (1)..

__________

(1) الحادثة رواها الطبرى فى تفسيره: 17/ 186، وابن أبى حاتم فى تفسيره 8/ 25 وابن المنذر، ثلاثتهم من طرق عن سعيد بن جبير مرسلاً، ووصلها البزار فى مسنده، وكذا الطبرانى، وابن مردويه، والضياء فى المختارة من طريق آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال ابن جبير: فيما أحسب، شك فى أن القصة بمكة، وأخرجه النحاس بسند فيه الواقدى عن ابن عباس، وابن مردويه من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وابن جرير فى تفسيره: 17/ 186 من طريق العوفى عنه، وعن محمد بن كعب القرظى، ومحمد بن قيس، وأبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبى العاليه، وكلها مرسلة، وابن أبى حاتم فى تفسيره 8/ 25.2 رقم 14.. 3، عن السدى، وموسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى، ومن طريق موسى بن عقبة أخرجه البيهقى فى دلائل النبوة 2/ 285، ورواها الطبرانى مرسلة عن عروة بن الزبير، وفى سنده ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا منه، كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/ 72. وينظر: 6/ 32 – 34، والمعنى فى الروايات السابقة كلها للقصة واحد، كما قال الحافظ فى فتح البارى كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/ 293، انظر: مناهل الصفا فى تخريج أحاديث الشفا للسيوطى ص 221.

النبي المعصوم (315)

لقد ذهب جماهير العلماء من المحدثين، ومن المحققين إلى إنكار القصة، والجزم بوضعها واختلاقها:

قال القاضى عياض: (إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم... ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين التابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها، ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث ابن عباس، وضعفه الأئمة أيضاً) (1)

وقال الحافظ البزار: (هذا الحديث ـ أى فرية الغرانيق ـ لا نعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد وهو: (يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن جبير: فيما أحسبه)، وقد ضعفه الإمام البزار بما يلى:

1. تفرد أمية بن خالد بنقل هذا الحديث مسنداً عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وغير أمية بن خالد يرويه مرسلاً عن سعيد بن جبير عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ومن غير ذكر ابن عباس.

2. وقوع الشك فى حديث شعبة، فسعيد بن جبير، وإن كان معتمداً لكن تردد أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان بمكة فى هذه القضية، أو بغيرها.

3. رواية الكلبى لهذا الحديث عن أبى صالح عن ابن عباس، مضعفة أيضاً بأن الكلبى غير ثقة، وأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس، ففيها انقطاع، والمنقطع من أقسام الضعيف، فلا

__________

(1) الشفا: 2/ 125، 126.

النبي المعصوم (316)

يحتج به (1).

وقال القاضى بكر بن العلاء المالكى: (لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته: فقائل يقول إنه فى الصلاة، وآخر يقول: قالها فى نادى قومه، حيث أنزلت عليه السورة؛ وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قال: والله ما هكذا نزلت؛ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة) (2)

وقال ابن حزم: (وأما الحديث الذى فيه (وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى) فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد) (3)

وقال الإمام الرازى: (أهل التحقيق قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، ونقل عن الحافظ ابن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتاباً، كما حكى عن الإمام البيهقى قوله: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم) (4)

وقال الشوكانى: (ولم يصح شئ من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه) (5)

ومن المعاصرين قال الشيخ محمد الصادق عرجون بعد أن فند الروايات التى ذكرها

__________

(1) انظر: نسيم الرياض فى شرح الشفا للخفاجى 4/ 87، والشفا 2/ 126.

(2) انظر: الشفا: 1/ 125.

(3) الفصل فى الملل والنحل 2/ 3.8، 3.9، 311.

(4) التفسير الكبير 12/ 51.

(5) فتح القدير 3/ 461.

النبي المعصوم (317)

السيوطى فى تفسيره: (ليس فى روايات فرية الغرانيق، رواية قط متصلة الإسناد على وجه الصحة، ولم يذكر فى جميع الروايات صحابى قط على وجه موثق، وما ذكر فيه باسم ابن عباس، فكلها ضعيفة واهية خلا رواية سعيد بن جبير على الشك فى إسنادها إلى الحبر ابن عباس، والشك يوهيها) (1)

سكت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا كله كيف يغفل المحدثون الكبار عن رواية هذه القصة مع أهميتها.. إن مثلها يحتاج ـ على الأقل ـ إلى إسناد التواتر، خاصة وأنه ارتبط بها حادث تاريخي هام هو عودة المسلمين من الحبشة.

قال جيري فاينز: ولكن الحديث رواه البخاري.. أم أنك لم تقرأ البخاري؟

قال الحكيم: إن راوية البخاري للحادثة تبين وجه الحق فيها.. ففيه عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قرأ النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس.. وفى رواية للبخارى عن ابن مسعود قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم)، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف) (2)

فأنت ترى أن البخارى اقتصر على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه فرية الغرانيق.

قال جيري فاينز: فكيف سجد المشركون مع أنهم يرفضون السجود لله.. لقد ذكر القرآن مدى نفورهم من السجود، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان:60

قال الحكيم: أحيانا تغفل نفس الإنسان عن نفسها، أو يغفل الشيطان عن النفوس فلا

__________

(1) محمد رسول الله (2/ 69.

(2) رواه البخاري.

النبي المعصوم (318)

تملك إلا أن تسجد.. ألم تسمع قصة السحرة مع موسى - عليه السلام - الذين لم يملكوا إلا أن يسجدوا؟

قال جيري فاينز: أولئك لاحظوا العصا.. والمعجزات التي تحملها؟

قال الحكيم: وهؤلاء لاحظوا القرآن.. والقرآن كلام الله.. وهو لمن تأمله وعاشه يحمل من المعجزات أضعاف ما تحمله العصا.

قال جيري فاينز: ولكن السحرة ثبتوا على سجودهم إلى أن ماتوا في سبيله؟

قال الحكيم: وهؤلاء عادوا إلى عنادهم الذي اعتادوه..

قال جيري فاينز: فقد وقع الفرق بينهما إذن؟

قال الحكيم: لا.. ليس هذا فرقا.. فقد يقر المجرم بإجرامه، ثم يتراجع عنه.

قال جيري فاينز: دعنا من هذا.. فلن أصل معك فيه إلى أي نتيجة.. وهلم بنا إلى الأسانيد التي زعمت أنها أسانيد واهية.. فإن كنت استدللت بمن استدللت به على ضعفها، فإن معي من يقويها (1).. لقد قال ابن حجر، وهو العالم المتبحر المحقق في الصناعة الحديثية: (لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثانى: عن أبى العالية)

وقال: (وقد تجرأ أبو بكر بن العربى كعادته فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه)

وقال: (وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل

__________

(1) للأسف فإن القصة مع الدلائل الكثيرة على وضعها ومنافاتها للنبوة ظهر من العلماء من يؤيدها أو يسكت على الأقل عن ذكر وضعها، ومن هؤلاء: ابن تيمية (فى كتابه الفتاوى 10/ 170 – 172) حيث عمم الكلام فى إثبات القصة دون تحقيق منه.

ومنهم السيوطى فى الدر المنثور 6/ 65، ومناهل الصفا ص 221، والقسطلانى فى المواهب اللدنية، والزرقانى فى شرحه على المواهب 2/ 19 – 26، وذلك فى نهاية كلامهما، بعد أن كانا فى فاتحته مع ما قاله القاضى عياض من رد القصة وإبطالها.

النبي المعصوم (319)

ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: (ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يزيد فى القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته) (1)

قال الحكيم: فقد رجع كلام الحافظ ابن حجر إلى ما ذكرنا، وهو أن القصة في أصلها صحيحة.. ومن أكبر دلائل صحتها أن البخاري رواها..

قاطعه جيري فاينز قائلا: فلم تناقشني كل تلك المناقشات في صحتها؟

قال الحكيم: أنا لا أناقشك في صحة الحادثة.. ولكني أناقشك فيما التصق بها من الإفك والبهتان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك أن الكاذب لا يكذب من فراغ، وإنما يعتمد على أصل صحيح ليبني عليه كذبه (2)..

بالإضافة إلى هذا.. فإن كلام ابن حجر لا يقبل على علاته.. فقاعدة (الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلت على أن موضوع الروايات له أصل) ليست على عمومها، ففى باب العقائد لا يقبل إلا النص الصحيح المقطوع بصحته، وفى غير أبواب العقائد من الأحكام الفرعية، فإن هذه القاعدة مقيدة، كما قال المحدثون. بالضعف الذى يزيله ما يجبره، وذلك إذا كان الضعف ناشئاً عن ضعف حفظ الراوى، أما الضعف الذى لا يزول لقوته، وتقاعد الجابر عن جبره

__________

(1) فتح البارى، كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/ 293.

(2) ويشير إلى هذا قوله (: (ذا قضى الله تعالى الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع في قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا واحد فوق آخر فربما لم أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذى يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الارض فتلقي على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق، فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التى سمعت من السماء) رواه البخاري والترمذي.

النبي المعصوم (320)

ومقاومته فلا وزن له، ولو جاء من سبعين طريقاً متباينة المخارج، وذلك كالضعف الذى ينشأ من كون الراوى متهماً بالكذب ـ كما فى بعض روايات أقصوصة الغرانيق التى جاءت من طريق الكلبى، وهو كذوب ولا تجوز الرواية عنه ـ ومثل ذلك كون الحديث شاذاً.

أما ذكره للاحتجاج بالمراسيل، فلا يسلم له.. لأن الخلاف فى الاحتجاج بالمرسل إنما هو فى أحكام الفروع، ولا يمكن أن يكون جارياً فى أصول العقائد، لأنها لا تثبت إلا بدليل صحيح، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين كما قال مسلم: (إن المرسل من الروايات فى أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) (1)

وقال ابن الصلاح: (ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر، وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه هو المذهب الذى استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، ونقاد الأثر) (2)

قاطع جيري فاينز الحكيم قائلا: دعنا من كل هذا.. واذكر لي ما تقول في الآية التي تقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج:52)

قال الحكيم: أولا.. هذه الآية الكريمة من سورة الحج.. وسورة الحج مدنية باتفاق العلماء.. ولا يمكنك أن تجادلني في ذلك، فقد ورد فيها الأمر بالأذان فى الناس بالحج، والأمر بالقتال، والأمر بالجهاد، وذكر فيها الصد عن المسجد الحرام، وكل ذلك إنما كان بعد الهجرة، وبعضه أتى بعدها بعدة سنوات، وهذا يعنى أن هذه الآية قد نزلت بعد الغرانيق بسنوات عديدة، لأن قصة الغرانيق ـ كما يذكر من أرخها ـ قد حصلت فى السنة الخامسة من البعثة، فكيف أخر الله تسلية وتهدئة خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه السنين الطويلة.

__________

(1) مقدمة صحيح مسلم، باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن 1/ 163.

(2) علوم الحديث ص 49.

النبي المعصوم (321)

ثم إن هذه الآية بعد ذلك ليس فيها دلالة على شئ من فرية الغرانيق.. فالتمنى هو تشهى حصول أمر محبوب ومرغوب فيه، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتشهى ويتمنى ما يتناسب مع وظيفته كرسول، وهى ظهور الحق والهدى، وطمس الباطل والضلال، فيلقى الشيطان بغوايته للناس ما يشوش هذه الأمنية، ويكون فتنة للذين فى قلوبهم مرض، كما ألقى فيما بين أمة موسى من الغواية ما ألقى، فينسخ الله بنور الهدى غواية الشيطان، ويظهر الحق للعقول السليمة.

قال جيري فاينز: ولكن العلماء ذكروا أن المراد بالتمنى هو القراءة والتلاوة.

قال الحكيم: ذلك معنى غريب، يخالف ظاهر اللفظ، والأصل في الألفاظ دلالتها على ظواهرها.. ومع ذلك، فإن معنى الآية لو فسرنا التمني بالقراءة لا ينسجم مع الفرية التي ذكرتها..

فالآية ـ حينذاك ـ إعلام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن من أرسل قبله من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه، حرفوا عليه، وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود فى الكذب على أنبيائهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:41)، وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء:46)، وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة:75)، وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ

النبي المعصوم (322)

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:102)

لقد ذكر أبو حيان للآية تفسيرا حسنا قال فيه: (ذكر الله تعالى مسلاة لنبيه، باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء، وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم، متمنين لذلك، مثابرين عليه، وأنه ما منهم أحد إلا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه، وبث ذلك إليهم، وإلقائه فى نفوسهم، كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه، وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث، يلقون لقومه، وللوافدين عليه شبهات يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (الحج:51)، وسعيهم بإلقاء الشبه فى قلوب من استمالوه، ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه هو المغوى والمحرك شياطين الإنس للإغواء لما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (صّ:82) ومعنى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) (الحج:52) يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس كما قال: {رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} (النصر:2) {ثم يحكم الله آياته} معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها {ليجعل ما يلقى الشيطان} من تلك الشبه وزخارف القول {فتنة} لمريض القلب ولقاسية، وليعلم من أوتى العلم أن ما تمنى الرسول والنبى من هداية قومه، وإيمانهم هو الحق. وهذه الآية ليس فيها إسناد شئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا) (1)

السحر

قال جيري فاينز: لا بأس.. فلنسلم بأن تلك الحادثة حادثة مزورة مكذوبة.. ولكن.. ما تقول فيما روي من سحر نبيكم؟.. لا يمكنك أن ترد هذا فقد روي في الصحيح.. بل رواه

__________

(1) البحر المحيط 6/ 381.

النبي المعصوم (323)

البخارى ومسلم جميعا.. فقد حدثت عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهودى من يهود بنى زُريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دعا، ثم دعا، ثم قال: يا عائشة أَشَعَرْتِ أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه؟ جاءنى رجلان (1) فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسى، للذى عند رجلى، أو الذى عند رجلى، للذى عند رأسى: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (2) قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: فى أى شئ؟ قال: فى مشط (3) ومشاطة (4) وجب (5) طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أروان (6) قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى أناس من أصحابه، ثم قال: يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين، قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: لا. أما أنا فقد عافانى الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمرت بها فدفنت (7)..

قال الحكيم: إن هذا الحديث يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من استحالة سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو أن ذلك كان صحيحا لكان أكبر فرصة للذين يثيرون الشبهات حوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو حصل ذلك لنقل بالتواتر، ولم يكتف فيه بالآحاد..

أليس عجيبا ألا يروي هذا الحديث الخطير إلا هشام لا غير.. عن عروة لا غير.. عن عائشة لا غير.. ألا ترى هذا التفرد الغريب في الرواية في أمر تتوافر الدواعي على نقله.. النبي

__________

(1) أى ملكان فى صورة رجلين، دل على ذلك ما جاء فى مسند أحمد 6/ 63: (أتانى ملكان)، وكان ذلك مناماً.

(2) أى مسحور، كنو بالطب عن السحر، تفاؤلاً بالبرء، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. النهاية 3/ 101.

(3) بضم الميم، ويجوز كسرها، هو الآلة المعروفة التى يسرح بها شعر الرأس واللحية.

(4) هى: الشعر الذى يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. النهاية 4/ 284.

(5) بالجيم والباء، وفى رواية: بالجيم والفاء، وهما بمعنى واحد، وهو الوعاء الذى يكون فيه ثمرة النخلة، سواء النخلة الذكر أو الأنثى، ولهذا قيده فى الحديث بأنه كان من نخلة ذكر، وهو الذى يكون فيه اللقاح. النهاية 1/ 227.

(6) وهى بئر بالمدينة فى بستان بنى زريق. النهاية 2/ 148.

(7) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (324)

يُسحر ويمكث شهوراً في بعض الروايات ستة أشهر وفي بعضها لم يحدد الوقت حتى صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله.. ومع ذلك لا يروى إلا فردا عن فرد.

قال جيري فاينز: ولكن الذي رواه هو البخاري ومسلم.

قال الحكيم: ولو.. فأحاديث البخاري ومسلم ليست متواترة.. والعلماء المحققون ردوا الكثير منها..

قال جيري فاينز: ولكن علماءكم يذكرون أن البخاري هو أصح كتاب بعد قرآنكم.

ابتسم الحكيم، وقال: حتى لو قالوا ذلك.. فذلك لا يعني الصحة المطلقة.. وإلا لصار حكمه حكم القرآن.. لقد قال محمد عبده عند ذكره لحديث السحر مبينا مصدره: (نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته، والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين الذى حكاه القرآن عنهم: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} (الفرقان:8)، وإن صدقنا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قد سحر، فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابه الحكيم: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (الشعراء:212)، وقال عز وجل: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} (الجن:9)

ثم قال: (وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئاً، وهو لم يبلغه، أو أن شيئاً نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

النبي المعصوم (325)

ثم ختم كلامه قائلاً: (أحب أن أكذب البخارى، من أن أنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سحر) (1)

ومثله سيد قطب الذي قال في تفسير سورة الفلق بعد إيراده لهذا الحديث: (ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثم تستبعد هذه الروايات.. وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد. وهذه الروايات ليست من المتواتر. فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح. مما يوهن أساس الروايات الأخرى) (2)

ولم يكن إنكار ذلك الحديث قاصرا على المتأخرين.. بل ذهب إليه كثير من المتقدمين، ومنهم العلامة الكبير الفخر الرازي الذي قال في تفسيره [مفاتيح الغيب]: عند تفسير المعوذات في ذكر سبب نزولها وحديث سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذه رواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة؛ ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكلُّ ذلك باطلٌ، ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور. فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة، ولحصل فيه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك العيب

__________

(1) تفسير جزء عم، ص 18. – 183، ومجلة المنار: 12/ 697، و29/ 1.4.

(2) الظلال: 6/ 4008.

النبي المعصوم (326)

ومعلوم أن ذلك غير جائز) (1)

ومنهم العلامة الكبير أبو بكر الجصاص الذي قال في كتابه [أحكام القرآن]: (زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُحر، وأن السحر عمل فيه حتى أنه يتخيل أنه يفعل الشيء ولم يفعله.. وقد قال الله تعالى مكذباً للكفار فيما أدعوه من ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} (الفرقان:8).. ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعباً بالحشوا الطغام، واستجرار لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها) (2)

ومنهم العلامة جمال الدين القاسمي الذي قال في الحديث: (ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرَّجاً في الصحاح؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد، سنداً أو معنى، كما يعرفوه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة) (3)

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (جيري فاينز) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا، فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) تفسير الرازي مفاتيح الغيب ج 32 ص 172.

(2) أحكام القرآن: [1: 49].

(3) محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي.

النبي المعصوم (327)

سابعا ـ انطواء

في مساء اليوم السابع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (نيقتاس البيزنطي) (1)..

قاطعت الغريب قائلا ـ وقد كاد يغلبني الضحك ـ: نيقتاس البيزنطي..!؟

التفت إلي الغريب مبتسما، وقال: أجل.. هذا اسمه الذي سماه به أبوه.. وهو حريص عليه أكثر من حرصه على كل شيء.. بل إنه يرفض أن يجيب من يناديه (نيقتاس) إلا بعد أن يضم إليه

__________

(1) أشير به إلى (نيقتاس البيزنطي)، وهو من الكُتّاب البيزنطيين الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري ـ التاسع الميلادي.

وقد كتب كتاباً زعم أنه دحضٌ للقرآن الكريم، ذلك أن الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث (227 ـ 254/ 842 ـ 867) تلقى مقالتين من بعض العلماء المسلمين تفندان مقولة الأقانيم الثلاثة.

فكلَّفَ الإمبراطور نيقتاس بالرد عليهما، فقام نيقتاس بتأليف رده الذي وصفه بأنه (دحض لكتاب محمد المزوَّر)، ولم يكن نيقتاس متضلعاً في اللغة العربية، فقام باستعراض سور القرآن من سورة البقرة إلى سورة الكهف، وكل سورة يسميها الأسطورة المحمدية رقم كذا ـ مثلما هو رقمها في القرآن ـ ثم يذكر اسمها.

وأصدر حكمه الباطل بأن القرآن يصوّر الله ـ جل وعلا ـ على شكل كروي كامل، أو على شكل مطرقة معدنية مطروقة في السماء.

ثم أخذ يسخر من المسلمين على مناصرتهم لهذا التصور المادي ـ بزعمه ـ وقال بأن محمداً قاد المسلمين ليعبدوا في مكة وثناً مصنوعاً على غرار أفروديت ـ معبودة الحب والجمال عند الإغريق ـ وأنه جعل الشيطان رباً للخلق، وظل يؤكد على أن دين محمد (دين وثني وأن أتباعه مجرد جماعة من الوثنيين.

وكان في كل سورة يتحدث عنها يوجه السب والشتم إلى النبي (زاعماً أنه هو الذي وضع القرآن وشحنه بالأساطير، وأنه أمر أتباعه بقتل من يجعل شريكاً في جانب الله، ولذلك وقع معظم ذلك القتل على المسيحيين الذين يعبدون المسيح ابن الله ـ بزعمه ـ

وأخذ نيقتاس يحاول تفنيد بعض نصوص القرآن وقصصه عن طريق مقارنتها بنصوص العهدين القديم والجديد.

وقد كان لبعض آراء نيقتاس الزائفة أثرها في الدولة البيزنطية حتى أن أحد رجال الدين ألف رسالة في زمن الإمبراطور مانويل كومنين (549 ـ 585 هـ/ 1143 ـ 1180 م) يشجب فيها الدين الإسلامي وفيها يلعن مصنفها (الرب الذي يعبده محمد () وقدَّم تلك الرسالة للإمبراطور الذي أراد شطب هذه العبارة المقيتة محتجاً بأن الرب الذي يعبده محمد (إنما هو الأب الذي يعبده النصارى فأصَّر رجال الدين على أن الذي يعبده محمد (إنما هو إله غير إله المسيحيين، وقد بقيت هذه العقيدة الزائفة حية حتى اعتنقها وقال بها فرانكلين جراهام وجيري فاينز وغيرهما.

النبي المعصوم (328)

(البيزنطي)

قلت: فما سر هذا الاسم، وما سر حرصه عليه؟

قال: أنت تعلم أن هذا اسم للكاتب البيزنطي المعروف الذي أعلن عداوته للإسلام في الوقت الذي أسر بها غيره.

قلت: أجل.. ومن لا يعرفه.. وهو الذي سن تلك السنن التي لا نزال نرى آثارها إلى اليوم.

قال: فهذا نسخة من ذاك.. ولو كنت أؤمن بتناسخ الأرواح لقلت بأن هذا هو ذاك..

لقد كان يعيش شخصية (نيقتاس البيزنطي) بكل أبعادها.. كان يلبس لباسه، ويحيا حياته، ويلوي لسانه ليتحدث بلهجته، والتاريخ يتوقف عنده بوفاة نيقتاس، والجغرافية تنتهي عنده عند حدود بيزنطة.

قلت: فهو من نسله إذن؟

قال: إن شئت قلت: هو من نسل روحه.. لا من نسل طينه.. فلا أعرف أن نيقتاس التاريخي قد تزوج حتى يخلف ولدا.

قلت: فحدثني حديثه معكم.

قال: عندما دخل علينا دار الندوة، ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بنظرته التي تذكرك بالقرون السوالف، ثم قال: منذ متى كان لغير البيزنطيين منطق يفكرون به.. لقد أرسلتموني إلى قوم بدائيين لا يعرفون قوانين أرسطو.. ولا فلسفة أفلاطون.. ولا جدليات نيقتاس البيزنطي.

قالو: نعرف ذلك.. ماذا فعلت أنت.. هل أفلحت فيما أرسلناك له؟

قال: إن لم يفلح نيقتاس البيزنطي، فلن يفلح أي أحد في الدنيا.

النبي المعصوم (329)

قالوا: فهل تأذن لنا في الاطلاع على ما جرى في ميدان الحرية؟

قال بصوت مملوء بالاستعلاء: كما يحلو لكم.. ولو أني لا أثق كثيرا في هذه الوسائل المعاصرة.

ابتدر أخي، فوضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:

ظهر نيقتاس في ساحة الحرية كدبابة مصفحة لا يمكن لأي رصاص في الدنيا أن يخترقها، ثم صاح في الجموع بلهجة لا تذكر بأحد في الدنيا كما تذكر بنيقتاس البيزنطي، قائلا: هلموا إلي أيها الناس.. فإن نيقتاس البيزنطي يريد أن يعلن بينكم أمرا هو في غاية النفع لكم.. بل لن تنتفعوا بغيره إن لم تنتفعوا به.

دبت إليه جموع كثيرة، كل تركوا مجالسهم ليسمعوا لهذا الذي خرج من التاريخ، ليدخل واقعهم، ويصيح فيه.

لما اجتمعت الجموع، قال بصوت جهوري: هل تعلمون أخطر أسطورة في الدنيا؟

حسبت الجموع أنه سيقص عليها أساطير الأدويسة والإلياذة.. ففتحت آذانها، وأخذت تنتظر منه أن يجيبها على ما سأله.

انتظر برهة، فلما لم يجبه أحد قال: محمد.. محمد..

قالوا: ما به؟.. ومن تقصد؟

قال نيقتاس: ذلك الذي ادعى النبوة، ليؤسس بدعواه أخطر أسطورة في الدنيا.

قال رجل من الجمع: نحن لا نسمع عن محمد إلا كلاما طيبا، فما الذي حوله إلى أسطورة خطيرة؟

قال نيقتاس: ما تسمعونه من السمعة الطيبة عنه أثر من آثار تلك الأساطير التي نشرها في تلك الأيام المشؤومة، ولا يزال أتباعه الأغبياء ينشرونها.. وأخاف أن يكون من بينكم من عدي بعدواها.

النبي المعصوم (330)

قال رجل من الجمع: صدقت في هذا.. ففي هذا الجمع من أحب محمدا واتبعه، وفيهم من أحبه، ولكن حبه لم يرق به إلى أن يتبعه.. فلذلك يكتفي بالثناء عليه واحترامه.

قال نيقتاس: كلاهما عندي سواء من اتبعه أو من لم يتبعه.. ما دام يحبه فإن أثر عدواه ستنتقل إليه.

قال رجل من الجمع: ولكن عن أي عدوى تتحدث.. لا نحسب أن في أتباع محمد مرضا معديا خاصا بهم.

قال نيقتاس: ليس مرضا واحدا.. بل أمراض كثيرة.. أو قل مرض اجتمعت فيه جميع الأمراض.

قالوا: لقد ملأت قلوبنا مخافة، فحدثنا عنه، وعن سر إصابتهم به.

قال نيقتاس: الانطواء.. لا شك أنكم تعرفون هذا المرض النفسي الخطير.

قالوا: أجل.. ولكنا نرى أتباع محمد أبعد الناس عنه.

قال نيقتاس: لقد كان الناس يسمعون بأن الانطواء انطواء أفراد.. ولكن محمدا حول منه انطواء مجتمع، بل انطواء أمة.

قالوا: لا نكاد نفهم ما تريد.

قال نيقتاس: سأضرب لكم مثالا يقرب لكم هذا، وفي نفس الوقت يبرهن عليه.

أصاخت الجماعة بأسماعها، فراح يقول: أتعرفون العهد القديم؟

قالوا: أجل.. وهو ركن من أركان الكتاب المقدس.

قال نيقتاس: أليس هو في أصله كتاب اليهود المقدس؟

قالوا: أجل..

قال نيقتاس: ولكنه كتاب المسيحيين أيضا.. فالمسيجيون يقبلون الآخر، ويحترمونه، ويستفيدون منه.

النبي المعصوم (331)

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط.. إن المسيحية استفادت من كل الديانات والفلسفات التي وجدت في العهود الأولى للمسيحية.. ولم تكن لتستفيد منها لو لم تكن تعترف بها.

قالوا: كل ما ذكرت صحيح.. ونحن نؤمن به.

قال نيقتاس: فقارنوا بين هذه المواقف المتفتحة وموقف الإسلام من الآخر.. افتحوا القرآن لتجدوا هذه الآية: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)، إن هذه الآية تعتبر كل دين غير دين الإسلام لغو.. وأن الله لن يقبل من عباده إلا الإسلام.

ليس ذلك فقط.. فالقرآن يسمي غير المسلمين كفارا، وهو يأمر محمد بالتميز التام عنهم.. اقرأوا سورة تسمى (سورة الكافرون).. سأقرأها عليكم.. لتروا موقف المسلمين من غيرهم..: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون)

أخرج الكتاب المقدس من جيبه، وقال: فتشوا هذا الكتاب سفرا سفرا، فلن تجدوا فيه سفرا يسمى (سفر الكافرين)

لكن القرآن مليء بتوعد الكفار ـ كما يسميهم ـ وتهديدهم بالنار التي يخلدون فيها أبد الآباد.. اسمعوا هذه الطلقات النارية التي أطلقها القرآن في وجوه المؤمنين ليعبسوا في وجوه الكافرين..: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:144).. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51).. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:57).. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي

النبي المعصوم (332)

وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (الممتحنة:1)

بل إن القرآن ينهى عن موالاة الأب لابنه والابن لأبيه إن كان كافرا.. اسمعوا.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (التوبة:23)

أما محمد الذي تأدب بآداب القرآن كما يزعم، فقد كان أكبر شخصية انطوائية في التاريخ.. لقد وقف كالجدار الصلب أمام كل المحاولات التي بذلها قومه ليقيموا حلا وسطا تحقن فيه الدماء، وتحفظ لكل واحد من الفريقين حرمته.. لكنه رفض كل ذلك، وأصر على ذلك التميز الذي جعل من دينه دينا مغلقا لا يمكن لأحد أن يخترقه، وجعل من أتباعه ناسا انطوائيين لا يمكن لأحد أن يسمعهم صوته..

لقد روي أن بعض أصحابه جاءه يوما، فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟

قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، قال: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين) (1)

وفي رواية أنه قال له: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذى نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبونه وبباطل فتصدقونه، والذى نفسي بيده

__________

(1) رواه أحمد، قال الهيثمي في المجمع (1/ 173): رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابرا الجعفي.

النبي المعصوم (333)

لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني) (1)

وفي حديث آخر قال: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه ـ والله ـ لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني) (2)

وفي حديث آخر قال: (لا تسألوا اهل الكتاب عن شئ، فإنى أخاف أن يخبروكم بالصدق فتكذبوهم أو يخبروكم بالكذب فتصدقوهم عليكم بالقرآن فان فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم) (3)

وفي حديث آخر قال: (لا تحملوا دينكم على مساءلة أهل الكتاب فإنهم قد ضلوا وأضلوا من كان قبلكم ضلالا مبينا) (4)

نظر إليهم كما ينظر الأباطرة إلى رعاياهم، وقال: أظن أن ما ذكرته يكفي لتعرفوا من هو محمد.. وأظن أن ما ذكرته يكفي لتدركوا عظم الخطر الذي تحمله أسطورة محمد.

هنا ظهر الحكيم، وصاح في نيقتاس قائلا: لقد طرحت دعواك، فهل تسمح لي، وهل يسمح لي هذا الجمع أن أجيبك عنها؟

لاحظت تغيرا شديدا بدا على ملامح نيقتاس، لكنه لم يملك إلا أن يقول: إن شئت.. فنحن لسنا محمديين حتى ننطوي على أنفسنا، ونغلق آذاننا عن سماع غيرنا..

قال ذلك، ثم التفت إلى الجمع، وقال: هيا نستمع جميعا.. أنا نيقتاس البيزنطي.. وأنتم جميعا.. فلنتواضع كما علمنا المسيح لنسمع بعض هرطقات هذا المحمدي.

قال الحكيم: أرى أن كل ما ذكرته في كلامك هذا يدور حول اتهام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودينه

__________

(1) رواه أحمد وابن ماجة.

(2) رواه أحمد والبزار والدارمي.

(3) رواه ابن عساكر.

(4) رواه ابن عساكر.

النبي المعصوم (334)

بالانطواء..

قال نيقتاس: إن كنت تقصد بالانطواء انغلاق محمد ودينه على نفسيهما، وعدم انفتاحها على الآخر، أو عدم اعترافهما بالآخر، فذلك ما أقصده.

قال الحكيم: وهذا ما أقصده أنا أيضا.. وقد بحثت في هذه المسألة في تاريخ الأديان والمذاهب والأفكار المختلفة التي تحكم سلوك البشرية ومواقفها، فوجدت انحصار الانغلاق في أمرين: انغلاق مرتبط بالأفكار والمذاهب والأديان.. وانغلاق مرتبط بالأعراق والسلالات المختلفة.

وقد رحت انطلاقا من هذا أبحث في تاريخ البشرية الطويل، فلم أجد دينا أكثر انفتاحا من الإسلام، ولم أجد بشرا أكثر انفتاحا على الإنسانية جميعا، بل على الكون جميعا مثل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال نيقتاس: من السهل أن تدعي.. ومن الصعب أن تثبت.

الانفتاح الديني

قال الحكيم: فاسمع لي لأثبت لك ما أقول.. وسأكتفي بالنماذج والأمثلة.. وسأدع لك الفرصة لتناقشني فيما تشاء.. فقد علمنا ديننا أن نحاور المخالف بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)

انتفض نيقتاس، وقال: لا.. ليس إلهنا وإلهكم واحد (1).. لنا إلهنا الخاص، ولكم إلهكم الخاص.. إن إلهكم ـ كما ذكره نيقتاس البيزنطي ـ ذو شكل كروي كامل، أو على شكل مطرقة معدنية مطروقة في السماء (2).

__________

(1) ذكرنا عند تعريفنا لنيقتاس أنه يذهب إلى هذا، وأن هذا هو رأي الكثير من الحاقدين على الإسلام من أمثال فرانكلين جراهام وجيري فاينز وغيرهما.

(2) انظؤ الرد المفصل على الشبه المرتبطة بتصور المسلمين للألوهية في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (335)

ابتسم الحكيم، وقال: أرى أن نيقتاس قد نال منك كل منال، فلست تسمع لغيره، ولست تروي لغيره.. ألا تعتبر ذلك انطواء؟

قال نيقتاس: ما دام نيقتاس يقول الحقيقة، فلا حرج علي في أن أنطوي في ظله.

قال الحكيم: فلم تلوم إذن المسلمين إذا انطووا في ظل نبيهم؟.. ولم تعتبرهم منغلقين بذلك الانطواء؟

قال نيقتاس: لأن المسلمين ألغوا غيرهم، ولم يعترفوا لهم بوجود.

قال الحكيم: لا.. إن المسلمين هم الأمة الوحيدة في الأرض التي تعترف بغيرها، وتحترم غيرها.. وتحترم مقدسات غيرها..

ألا ترى نيقتاس البيزنطي، وإخوانه يفترون على نبينا ما شاءت لهم نفوسهم أن تفترى، بل يسبونه علنا، بل يتسابقون فيمن هو أطولهم لسانا على نبينا بينما كل المسلمين بجميع مذاهبهم يحترمون كل الأنبياء.. بل كل الشخصيات المقدسة في جميع الأديان.. لقد قرأت قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)، ونسيت أن تقرأ قبلها هذه الآيات التي تفسرها وتبين المراد منها.. سأقرؤها عليك.. قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (آل عمران)

ألا ترى أن المسلمين يحترمون كل الأشياء، ويعتبرونها تلهج بتسبيح الله وحمده كل حين.. ألا ترى كيف تقدس هذه الآيات الأنبياء؟

قال نيقتاس: أجل.. وهم لذلك يقتلون كل من يسخر من نبيهم.

قال الحكيم: نحن مأمورون أن نحاور من يسخر من نبينا أو أي نبي من الأنبياء ودعوته

النبي المعصوم (336)

الحق.. لا بقتله.. إننا لا نفرق بين أنبياء الله ورسله.. هكذا أمرنا ربنا.. قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)، وقال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:84)

التفت إلى نيقتاس، ثم قال: لقد كنت تتصور بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتقر موسى - عليه السلام - حين نهى عمر عن صحائف التوراة.. لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليفعل ذلك.

قال نيقتاس: لقد صحت النصوص بذلك.

قال الحكيم: ولكن أي توراة هذه التي نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر عنها.. إنها التوراة التي تمتلئ بالأحقاد والعنصرية والسخرية من الأنبياء..

أما عن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من موسى - عليه السلام - فهو كل التعظيم والاحترام.. لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلما أصابه الأذى يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) (1)

وعندما أراد الصحابة تزيين مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نهاهم، واعتل لذلك بعدم مخالفته لما كان عليه موسى - عليه السلام -، ففي الحديث: قالت الأنصار: إلى متى يصلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الجريد، فجمعوا له دنانير، فأتوا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: نصلح هذا المسجد ونزينه، فقال: ليس لي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى) (2)

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه الطبراني في الكبير.

النبي المعصوم (337)

بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الله بما دعا به موسى - عليه السلام -، عن أسماء بنت عميس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإزاء ثبير وهو يقول: (أشرق ثبير، أشرق ثبير، اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي أشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) (1)

التفت إلى نيقتاس، وقال: هذا ليس خاصا بموسى - عليه السلام - فقط.. بل كل الأنبياء لهم حرمة ومكانة عظيمة في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس كل مؤمن.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)

ولذلك لن تجد أي مسلم يحمل تلك التصورات المشوهة التي يحملها قومك عن الأنبياء.. ولن تجد أي مسلم يستطيع أن يتخيل أن نبيا من الأنبياء يمكن أن يقع في المعصية.

سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا خاصا بالأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، والذين اقتصر القرآن الكريم على ذكرهم باعتبارهم نماذج فاضلة عن القضايا التي يدعو إليها، وإنما كل الأنبياء.. من نعرفهم ومن لا نعرفهم.. لهم هذه الحرمة في نفس المؤمن.. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر:78)

بل إن القرآن الكريم أخبرنا بأن كل الأمم لها حظها من الأنبياء والرسل، ولم يستثن من ذلك أمة من الأمم، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)

ولهذا، فإن المسلمين الذين وعوا هذه النصوص ينظرون بكل مهابة لكل الشخصيات المقدسة عند جميع الأمم خشية أن تكون تلك الشخصيات من الأنبياء الذين لم تذكر أسماؤهم في القرآن الكريم.

__________

(1) رواه ابن مردويه والخطيب وابن عساكر.

النبي المعصوم (338)

قال نيقتاس: ولكن لم يعتبرون أتباع هؤلاء الأنبياء كفارا.. ويخبرون أنهم في جهنم؟

قال الحكيم: بالنسبة لجهنم.. المسلمون لا يجزمون لأحد بأنه من أهل جهنم إلا لمن جزمت لهم النصوص المقدسة بذلك.. أما من عداهم، فكل مسلم متورع يتورع من إطلاق ذلك (1)..

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاكرا صعوبة الحكم في مثل هذه المسائل التي هي من اختصاص الله: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وأن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم عمله بعمل أهل الجنة) (2)

لقد قطع هذا الحديث وغيره الألسن من أن تتدخل في دور الجزاء التي أعدها الله لعباده، كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الاحقاف:9)

بالإضافة إلى ذلك، فإن التكاليف الإسلامية لا يؤاخذ بها إلى من بلغته عبر طرق صحيحة، ثم جحدها، أما من عداهم ممن لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم عبر طرق مشوهة، فإنهم لا يؤاخذون (3).. لقد قال تعالى ينص على هذا: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء:15)

__________

(1) عبر الشعراني عن وصايا رسول الله (المرتبطة بهذا، فقال: (أخذ علينا العهد العام من رسول الله (أن لا نحتقر مسلما ولو بلغ في الفسق ما بلغ لجهلنا بخاتمته وإنما نأمره وننهاه من غير احتقار وربما يكون أحسن حالا منا فكيف نحتقر من نحن أسوأ حالا منه؟ وإيضاح ذلك أن السبب الموجب لوقوعنا في احتقاره إنما هو حسن الظن بأنفسنا وسوء الظن بغيرنا والواجب العكس كما قالوا من حكمة العارف بالله أن يوسع على الناس ويضيق على نفسه، ويرى أن الله تعالى سامح الخلق ويؤاخذه هو} (العهود المحمدية)

وما ذكره الشيخ الشعراني ـ حسبما تدل النصوص ـ ليس خاصا بالمسلم.. فالمسلم لا يحتقر غير المسلمين حين يدعوهم الله.. بل هو لا يدعوهم إلا انطلاقا من احترامه لهم، ولو لم يكن يحترمهم لما أعارهم أي اهتمام.

(2) رواه مسلم.

(3) انظر التفاصيل المرتبطة بهذه المسألة، وعلاقتها بالعدل الإلهي في رسالة (أسرار الأقدار) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (339)

قال نيقتاس: وعقيدة الولاء والبراء التي تمتلئ بها حناجر المسلمين وكتبهم؟

قال الحكيم: لا توجد أمة في الدنيا لها خصوصيتها إلا وتحمل هذه العقيدة.. ولكن ليس هناك أمة في الدنيا تحملها بمثل الطهر الذي تحمله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

إن عقيدة (الولاء والبراء) لا تعني عند المسلم إلا ما يعنيه اختيار المريض الذي اختلف الأطباء في تشخيص دائه وصفة من الوصفات وترك ما عداها.

ألا ترى أن ذلك المريض يستحيل عليه أن يجمع كل الوصفات؟

قال نيقتاس: بل يمكن أن يجمع بينها، وبذلك يحقق أكبر احتمال بشفائه.

قال الحكيم: لكن الأدوية قد تتعارض فيما بينها، فيتحقق الموت بدل الشفاء..

قال نيقتاس: ذلك في الدواء.

قال الحكيم: ومثله في الأديان.. سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. ألا ترى أن مبنى دين الإسلام على وحدانية الله التي تنفي الشريك مطلقا مهم كانت صورته، وهي لذلك تعتبر المسيح - عليه السلام - بشرا كسائر البشر، له حظه من ولاية الله، ومن تكريم الله.. ولكن ذلك الحظ لا يرقى به إلى المرتبة التي تزعمونها له.

قال نيقتاس: بل هي منزلته الحقيقية التي غفلتهم عنها، كما غفل عنها غيركم.

قال الحكيم: ولكن.. هل تستيطع أن تجمع بين هذين المتناقضين، فتعتقد بأن المسيح - عليه السلام - بشر، وأنه يستحيل أن يكون إلها، أو أقنوما من إله.. ثم تعتقد في نفس الوقت بأنه إله أو أقنوم من إله.

سكت نيقتاس، فقال الحكيم: ولهذا.. فإن المسلم ككل متدين في العالم يحرص على اتباع ما اقتنع به، واعتقد صدقه.. وهذا الاقتناع والإذعان هو الذي يسمى ولاء.

قال نيقتاس: والبراء؟

قال الحكيم: من والى شيئا تبرأ من ضده.. ومن أحب شيئا أبغض عدوه.

النبي المعصوم (340)

قال نيقتاس: وبغضه هو الذي يجره إلى الانطواء.

قال الحكيم: في ديننا لا نعرف شيئا اسمه البغض..

قال نيقتاس: والبغض في الله.. أم تراك لم تسمع به.. فإن لم تسمع به، فقد اعتبره نبيكم من علامات كمال الإيمان، فقال: (لا يحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله تبارك وتعالى وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم) (1)

قال الحكيم: قبل أن أبين لك معاني المحبة التي ينطوي عليها هذا النوع من البغض أذكر لك كلاما منطقيا لبعض علمائنا لترى من خلالها مدى منطقية هذا النوع من البغض..

لقد قال الغزالي: (إن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله، فإنك إن أحببت إنساناً لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات)

فالحب والبغض شعوران كل منهما يتطلب الآخر، فكل من أحب لا بد أن يبغض ما يتضاد مع حبه، وكل من أبغض لا بد أن يحب ما يتضاد مع بغضه.

وهذان الشعوران الدفينان في سويداء الصدور يترشحان (بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة وفي المخالطة والموافقة فإذا ظهر في الفعل سمي موالاة ومعاداة)

ولهذا جمع القرآن الكريم بين الأمر بموالاة المؤمنين مع الأمر بعدم موالاة أعدائهم، فلا يمكن للقلب أن يجمع بين الحبين، حب الحبيب وحب عدوه، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران:28)

__________

(1) رواه أحمد.

النبي المعصوم (341)

فالآية الكريمة تنفي أي مكانة لمن يوالي الكافرين دون المؤمنين، وتعقب ذلك بالتحذير الشديد الذي يدل على خطر موالاة أعداء الله.

بل إن القرآن الكريم يجعل مولى القوم منهم، فمولى اليهود والنصارى لا يختلف عن اليهود والنصارى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51)

قال نيقتاس: فهاهو البغض إذن أصل من أصول دينكم، فكيف تزعم أنه لا مكان للبغض فيه؟

قال الحكيم: أرأيت لو أن الله ابتلاك بداء منفر.. نفرت نفسك منه.. أو نفرت نفوس الناس منه.. هل تراك تحب ذلك الداء؟

قال نيقتاس: ليس هناك من يحب أي داء منفرا كان أو غير منفر.

قال الحكيم: ولكنك لا تبغض جسدك الذي حل به هذا الداء؟

قال نيقتاس: لولا حبي له ما أبغضت الداء الذي أصابه.. بل إني.. وأقولها بكل صراحة.. أفرح بكل داء يصيب أعدائي.. بل إني أمتلئ بحب ذلك الداء الذي أصابهم.. ولو أن في إمكاني أن أقدم جائرة له لفعلت.

قال الحكيم: فبغض المسلمين وحبهم من هذا الباب.. فهم لا يبغضون المرء لذاته، وإنما يبغضونه لأجل الله.. ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يوقد له نار فيقذف فيها) (1)

فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أساس الحب وسببه هو حب الله.. وهو فوق ذلك حب في الله.

وهكذا ما سميناه بغضا.. فهو لله لا لأي اعتبار آخر.

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (342)

قال نيقتاس: فما معنى كونه لله؟

قال الحكيم: أي أنه بغض غير ناشئ عن حقد، ولا عن مصالح شخصية، وإنما هو بغض مرتبط بطاعة الله ومعصيته.. ولذلك فإن المؤمن سرعان ما يمتلئ محبة لهذا الذي أبغضه في الله إن هو تخلص من انحرافه.

بل هو في أثناء بغضه له في الله يحبه كل المحبة.

قال نيقتاس: أنت تكاد تخبلني بقولك هذا.

قال الحكيم: أرأيت الأب الذي يحزن لمرض ولده.. وهو في نفس الوقت يمتلئ بغضا لذلك الداء الذي أصابه.. هل يمكن أن يكون هذا الأب حقودا على ولده؟

قال نيقتاس: يستحيل ذلك.. بل إن حزنه دليل على محبته.

قال الحكيم: ما دمت وعيت هذا.. فاسمع ما يقول الله تعالى مخبرا عما كان يملأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو الذين واجهوه بالمحاربة، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6)، وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3).. أتدري ما معنى (باخع)؟

قال نيقتاس: أعرف أنها (قاتل)

قال الحكيم: فقد كاد الحزن يقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه.. ولهذا نهي عن ذلك، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8)

ونهي عن الحزن عليهم، فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل:127)

التفت الحكيم إلى نيقتاس، وقال: هل ترى رجلا مثل هذا يمكن أن يحمل البغض الذي يحمله الحاقدون؟

النبي المعصوم (343)

قال نيقتاس: ولكن ما علاقة ذلك كله بالانفتاح الديني الذي تزعمه؟

قال الحكيم: هذا هو أساس الانفتاح وقلبه ومحركه.. فالانفتاح ليس صورة أو طلاء، وإنما هو حقائق تملأ النفوس طهرا، والسلوك أدبا.

ولهذا، فإن المسلم ـ خارج الإطار الديني المحض ـ مطالب بالإحسان والأدب مع كل الناس مسلمهم وكافرهم، لقد قال الله تعالى يحث على رعاية الوالدين الكافرين والإحسان إليهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان:15)

ففي هذه الآية نهي المسلمون أن يطيعوا آباءهم فيما يأمرونهم به من الكفر، ولكنهم نهوا في نفس الوقت أن يسيئوا إليهم أو يقصروا في الإحسان إليهم.

وقد ضرب الله تعالى للمؤمنين مثلا لذلك بإبراهيم - عليه السلام - الذي كان برا بأبيه مع كفره بالله، قال تعالى مخبرا عنه: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} (مريم:47)

وقد جاءت أسماء بنت أبي بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: قدمت علي أمي، وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: قدمت علي أمي، وهي راغبة (1) أفأصل أمي، قال: (نعم، صلي أمك) (2)

أرأيت.. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تصل أمها وتحسن إليها مع كونها مشركة.

إن الود الذي نهي عنه المسلمون هو الود الذي يضحي بود الله من أجل ود ذلك القريب.. كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي

__________

(1) أي طامعة فيما عندي تسألني الإحسان إليها.

(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود ولفظه قالت: قدمت علي أمي راغبة في عهد قريب وهي راغمة مشركة، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغمة مشركة، أفأصلها قال: نعم صلي أمك.

النبي المعصوم (344)

سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).. هذا هو الود المنهي عنه.. وهو ود يجعل هم صاحبه أن يرضي من وده على حساب حبه لله.

ولهذا ما نهي المسلمون عن الموادة التي لا تضحي بمودة الله، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8)

ثم بين موضع العداوة، فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة:9)

ولهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بإنذار أهله في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) جمع الأقربين من أهله، فخص وعم، فقال: (يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا.. يا بني كعب بن لؤى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا.. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار.. يا معشر بني قصى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا.. يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا.. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار.. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.. يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا، سلونى من مالى ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا.. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئًا.. يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، لا أغنى عنك من الله شيئًا.. يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سلينى ما شئت من مالى، أنقذى نفسك من النار، فإنى لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنك من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها) (1) أي أصلها حسب حقها.

__________

(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة.

النبي المعصوم (345)

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا البيان ذكر علاقة المسلم بالمخالفين، فهو ينصحهم ويدعوهم ويكل أمرهم إلى الله، وفي نفس الوقت يصلهم ويحسن إليهم ما دام الإحسان إليهم لا يضر بدينهم ولا بدينه.

قال نيقتاس: كيف يضر الإحسان.. وهل يمكن أن يضر الإحسان أحدا من الناس؟

قال الحكيم: أجل.. يمكن أن يضر الإحسان.. ألا ترى أن الشفقة على الصبي المريض بعدم إعطائه الدواء المر مضرة له؟

قال نيقتاس: أجل.. ذلك صحيح.

قال الحكيم: ولهذا، فإن الإحسان بصورة من الصور إذا جر إلى مضرة كان الأولى تركه إلى صورة أخرى من الإحسان.. قد تكون قاسية ولكن منفعتها أعظم.

قال نيقتاس: فأنت تبرر إذن بعض القسوة التي قد يتعامل بها المسلم مع المخالف؟

قال الحكيم: هي قسوة منطلقة من رحمة.. وهو بغض مدده محبة.

الانفتاح الإنساني

قال رجل من الجمع: لقد عرفنا مدى انفتاح المسلمين الديني.. وعرفنا أن ذلك ميراث ورثوه من نبيهم.. فحدثنا عن الانفتاح الإنساني.

قال الحكيم: قبل أن أحدثكم عن الانفتاح الإنساني أطلب من السيد الفاضل نيقتاس البيزنطي أن يقرأ لنا ما ذكرته الأناجيل من خير المرأة الكنعانية مع المسيح.

قال نيقتاس: أحفظ ذلك النص عن ظهر قلب.. ويسرني أن تستمع له لترى رحمة المسيح، وتفتحه على كل شعوب الأرض حتى ولو لم يكونوا من بني إسرائيل.

استجمع نيقتاس كل ما لديه من مشاعر ومن قدرات تأثيرية، وراح يقرأ بخشوع: (ثم غادر يسوع تلك المنطقة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا، فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي،

النبي المعصوم (346)

قد تقدمت إليه صارخة: (ارحمني ياسيد، ياابن داود! ابنتي معذبة جدا، يسكنها شيطان) لكنه لم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه يلحون عليه قائلين: (اقض لها حاجتها. فهي تصرخ في إثرنا!)، فأجاب: (ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة، إلى بيت إسرائيل!)، ولكن المرأة اقتربت إليه، وسجدت له، وقالت: (أعني ياسيد!)، فأجاب: (ليس من الصواب أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لجراء الكلاب!)، فقالت: (صحيح ياسيد؛ ولكن جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أصحابها!) (متى 15: 23 ـ 27)

لاحظ نيقتاس بعض التقزز في نفوس الجمع، فقال: اصبروا.. ولا تستعجلوا، فإن المشهد لم يتوقف هنا.. لقد ورد في (متى: 28): (فأجابها يسوع: أيتها المرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك ما تطلبين! فشفيت ابنتها من تلك الساعة)

ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: هل رأيتم إنسانية أعظم من هذه الإنسانية؟.. وهل رأيتم تفتحا أعظم من هذا التفتح؟

ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن شخصا لم يلب طلبك البسيط بالنسبة له إلا بعد أن يهين كرامتك، ويحتقرك، بل يسميك كلبا، ثم لا يلبه إلا بعد إلحاح شديد، بل بعد سجودك له.. أتعتبر مثل هذا إنسانا محترما لا يحمل أي عنصرية؟

سكت نيقتاس، فقال الحكيم: إن العنصرية والانطواء العرقي تفوح من جميع الكتاب المقدس، لا من هذا النص وحده.. ولو قلت لك بأنه لا يوجد كتاب في الدنيا يفوق ما فيه من عنصرية ما في الكتاب المقدس منها، فلن أكون كاذبا.

التفت إلى نيقتاس، وقال: لن أكلفك أن تقرأ لي نصوصا من الكتاب المقدس.. بل سأقرؤها بنفسي.. وأدع لك مهمة التصحيح.. أنا مثلك أحفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب..

أخذا يقرأ من إنجيل يوحنا: (ورأى يسوع نثنائيل قادما نحوه فقال عنه: هذا إسرائيلي أصيل لا شك فيه!) (يوحنا: ا/47)

النبي المعصوم (347)

التتف الحكيم إلى نيقتاس، وقال: هذا نص مملوء بالعنصرية المقيتة.. إن الإنسان في تصورنا نحن المسلمين يكرم لتقواه ولدينه لا لأصله ونسبه.

لن أكتفي بهذا النص.. هناك نصوص أخرى كثيرة سأقرؤها من دون أي تعليق:

لقد جاء في (صموئيل: 1/ 43): (فقال الفلسطيني لداود: (ألعلي كلب حتى تأتي لمحاربتي بعصي؟)

وجاء في (مزامير: 60/ 8): (موآب مرحضتي، وعلى أدوم ألقي حذائي)

وجاء في (تثنية 20/ 10 ـ 15): (وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولا. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرب إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا)

وجاء في (صموئيل 1/ 15: 3): (فاذهب الآن وهاجم عماليق.. لا تعف عن أحد منهم بل اقتلهم جميعا رجالا ونساء، وأطفالا ورضعا)

وجاء في (إشعياء 61/ 5 ـ 6): (ويقوم الغرباء على رعاية قطعانكم، وأبناء الأجانب يكونون لكم حراثا وكرامين. أما أنتم فتدعون كهنة الرب.. فتأكلون ثروة الأمم وتتعظمون بغناهم)

سكت قليلا، ثم قال: لقد انتقد القرآن الكريم كثيرا تلك العنصرية المقيتة التي يمتلئ بها الكتاب المقدس، والتي أوحت لكل قارئ له بأن إسرائيل هم شعب الله المختار، وأن غيرهم مجرد قطعان لا يختلفون عن قطعان الماشية.

قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ

النبي المعصوم (348)

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)

وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:80)، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:24)

وقد رد عليهم وعلى كل من يتصور أن لعرقه من الخصائص ما يرفع العقوبة عنه، فقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)

التفت الحكيم إلى نيقتاس، وقال: أأزيدك أم تكتفي بهذا؟

سكت نيقتاس، فقال الحكيم: دعنا من عنصرية الكتاب المقدس، ولننتقل إلى عنصرية الحضارة التي تفخرون بها على الإسلام.. حضارة الرجل الأبيض.

لا شك أنك تعلم أن من أهم الأفكار التى شاعت في الحضارة الغربية (1) منذ بدايتها ما يمكن تسميته (الفكر العنصري) أو العرْقي، وهو فكر ينطلق من أن البشر جميعاً مادة، ولذا فالاختلافات بينهم مادية، كامنة في خصائصهم العرْقية والتشريحية، وأن البشر مادة بشرية يمكن أن تُوظَّف فتكون نافعة ويمكن أن لا يكون لها نفع.

ومن هنا تَبرُز ـ في تصورهم ـ أهمية الاختلافات العرْقية (لون الجلد ـ حجم الرأس.. وغيرها) كمعيار للتفرقة بين البشر، والخصائص الحضارية ورقي شعب ما وتَخلُّفه هو نتيجة صفاته العرْقية والتشريحية، ومن ثم فتقدُّم أو تَخلُّف شعب مسألة عرْقية متوارثة.

وانطلاقا من هذا التصور العنصري طبَّق منظروا العرْقية هذه النظريات على شعوب أوربا وأقلياتها، فاتجه الألمان إلى وضع الآريين، وخصوصاً التيوتون، على رأس الهرم، كما نجد الإنجليز

__________

(1) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

النبي المعصوم (349)

يضعون العنصر الأنجلو ساكسوني (الإنجليزي الأمريكي) عند هذه القمة، ومن السلاف من فعل ذلك.. وعلى أية حال، فإن الشعوب البيضاء (الشقراء) في الشمال تجيء على القمة، أما الشعوب الداكنة في الجنوب (الإيطاليون واليونانيون) فكانت توضع في منتصف الهرم، وفي قاعدة الهرم كان يوضع الغجر واليهود.

هذا داخل أوروبا.. أما خارجها، فالشعوب الملونة خارج أوربا هي شعوب متخلفة حضارياً وعرْقياً، على حين أن الرجل الأبيض متقدم متحضر، الأمر الذي يضع على الإنسان الأبيض عبئاً ثقيلاً ويفرض عليه أن يغزو بقية العالم ويهزم شعوبها ويبيد أعداداً منهم حتى يتم إدخال الحضارة عليهم.

التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: هذه هي الرؤى الفلسفية التي تملأ البيوت البيضاء والسوداء التي تحكم العالم.. وعلى أساس هذه الفلسفة سالت الدماء الكثيرة التي لم يكن هناك من مبرر لسيلانها سوى هذه العنصرية المقيتة..

سكت قليلا، ثم قال: لن أحدثك عن فكر هتلر، ولا عن سلوكه العنصري.. فالكل يعلم ذلك.. ولكني سأحدثك عن الأمة التي تتصور أنها شعب الله المختار في العصر الحديث، وأنه يحق لها لأجل ذلك أن تفرض ما تشاء على من تشاء، وتصنف من تشاء كما تشاء.

سأحدثك عن أمريكا، وعن بيتها الأبيض المبني على جثث الهنود الحمر (1)..

إن المراقب للتاريخ الأمريكي منذ بدأ التاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تعامل بها الأمريكيون مع شعوب العالم الأخرى؛ إذ سرعان ما يكتشف المرء أنه لا يوجد فرق كبير بين نظرة اليهود إلى (الجوييم) (2) أو الأمميين العوام المستباحي الأرواح والدماء والأعراض، وبين

__________

(1) انظر هذه التفاصيل وغيرها في: أمريكا واسرائيل وعقدة الدم، د. عبد العزيز بن مصطفى كامل، وقد كنا أشرنا إلى بعضها في رسالة (ثمار من شجرة النبوة)

(2) يقصد بها الأغيار في المفهوم الصهيوني.

النبي المعصوم (350)

نظرة الأنجلوساكسون إليهم، فكلا النظرتين تنطلقان من مقولة أن هناك جنساً متفوقاً لا بد أن تخضع له الشعوب وتركع تحت رجليه الأمم بحيث لا تكون لحياتها قيمة إلا بقدر ما تخدم (الشعب المختار)، ولا تكون لأرضها أهمية إلا بقدر ما تمد ذلك الشعب بالخيرات، أما إذا تعارضت حياة أولئك (الأغيار) مع المصالح العليا للشعب المختار، فلا ضرورة لهذه الحياة أصلاً، وأما إذا ما تجرأ أحد منهم على تهديد حياة أحد من أبناء الشعب المختار، فإن قيامته لا بد أن تُعجَّل بإحراق أو إغراق أو استرقاق أو أي وسيلة من وسائل الإزهاق.

التفت الحكيم إلى الجماعة المحيطة به، وقال بنبرة حزينة: إن عقدة الدم الأنجلوساكسوني الأمريكي لا تختلف عن عقدة الدم اليهودي.. فكلاهما شديد الاستهانة بدماء (الأغيار)، وكلاهما شديد الحرص على دماء (الشعب المختار)

في عام 1664، صدر كتاب بعنوان: (العملاق) كتبه (يوردجاك) تضمن نصائح للقيادات الأنجلو ساكسونية المتزعمة للمهاجرين البروتستانت إلى القارة الأمريكية الجديدة، جاء فيه: (إن إبادة الهنود الحمر والخلاص منهم أرخص بكثير من أي محاولة لتنصيرهم أو تمدينهم؛ فهم همج، برابرة، عراة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً)

وجاء فيه: (إن النصر عليهم سهل، أما محاولة تمدينهم فسوف تأخذ وقتاً طويلاً، وأما الإبادة فإنها تختصر هذا الوقت، ووسائل تحقيق الانتصار عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة: المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم؛ لأنها تنهش أجسادهم العارية)

وفي عام 1730 م، أصدرت الجمعية التشريعية (البرلمان) لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً يقنن عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جينهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه! ثم وضع

النبي المعصوم (351)

البرلمان البروتستانتي (تسعيرة) جديدة بعد عشرين عاماً من صدور القرارات الأولى: فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق: 100 جنيه، أسير من الرجال: 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل: 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل: 50 جنيهاً.

وفي عام 1763 م أمر القائد الأمريكي (جفري آهرست) برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري في أماكن تجمعات الهنود الحمر، لنقل مرض الجدري إليهم بهدف نشر المرض بينهم؛ مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت عشرات الألوف منهم.

وبعد عقود قليلة انتهى أمر السكان الأصليين في القارة الأمريكية إلى ما يشبه الفناء، بعد الإبادة المنظمة لهم على أيدي المبشرين بالمحبة، والسلام للبشرية جمعاء!

التفت الحكيم إلى الجمع المحيط به، وقال بحزن، وكأنه يقص عليهم قصة من قصص البدائيين: بعد فراغ القارة الأمريكية من العبيد (الحمر) قرر الأمريكيون استيراد عدة ملايين من العبيد (السمر) لخدمة (الشعب المختار) فتحول رعاة البقر إلى بحارة يجوبون السواحل الإفريقية لاصطياد (العبيد)، وحشرهم في سفن الشحن، في عمليات إجرام أخرى يعالجون بها آثار الجريمة الأولى في حق الهنود الحمر، حيث لم يبق لديهم ما يكفي من الأيدي العاملة لبناء صرح الحضارة الجديدة.

وقد جلب الأوربيون والأمريكيون في أول الأمر ما لا يقل عن 12 مليوناً من الأفارقة المسترقين، جاءوا بأفواجهم في الأصفاد، وكانت البرتغال أكثر الدول الأوروبية توسعاً في جلب هؤلاء إلى أراضي العالم الجديد في أمريكا، دون توفير أدنى الضمانات لتلك (المخلوقات) الإفريقية التي لم يَرْق التعامل معهم إلى مستوى التعامل مع فئران المعامل؛ فقد صدر عن منظمة اليونسكو عام 1978 تقرير يحكي فضاعة ما حصل للأفارقة وهول الكارثة الإنسانية التي حلت بهم لهم من أجل تعمير أمريكا؛ فقد جاء فيه: (إن إفريقيا فقدت من أبنائها في تجارة الرقيق نحو 210 ملايين نسمة، وذكرت التقارير أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين مليوناً من الأفارقة الذين تم

النبي المعصوم (352)

شحنهم من أنحاء القارة في أفواج من (جزيرة جور) الواقعة في مواجهة العاصمة السنغالية (داكار)؛ قد هلك أكثرهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد مما لقوا في رحلات العذاب داخل سفن شحن المواشي)

التفت إلى نيقتاس، وقال: لا شك أنك تعلم أن أمريكا هي التي أحبطت في مؤتمر (دوربان) عام 2000 م مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار، ومع كل هذا لا يزال كثير من المغفلين أو المغرضين يرفعون عقيرتهم قائلين: إن أمريكا محررة العبيد!

لقد بقي الأمريكيون مشغولين عن التدخل في شؤون العالم ثلاثة قرون، تاركين ذلك للجزء الأصلي من الشعب الساكسوني المختار (بريطانيا) ثم قرروا بعد نشوب الحرب العالمية الثانية أن ينفتحوا على العالم، وكانت بداية ذلك الانفتاح دموية قاتلة.

بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية أفقدت العالم ما لا يقل عن خمسين مليوناً من البشر فإن خسارة الأمريكيين لخمسة آلاف جندي، بعد الهجمات اليابانية بطائرات (الكاميكازا) على (ميناء هاربر) الأمريكي عام 1945 م أفقدت الأمريكيين عقلهم؛ فلأول مرة يخسر الشعب الأمريكي (المختار) هذا الكم الهائل من الدماء في معركة واحدة، فكان لا بد أن يكون الرد حقداً يصب على رؤوس اليابانيين المدنيين منهم قبل العسكريين، وهذا ما حدث؛ فمقابل دماء الخمسة آلاف جندي أمريكي، أقبل الأمريكيون الأنجلو ساكسون على الانتقام المجنون، فأمر الجنرال (جورج مارشال) رئيس الأركان الأمريكي في ذلك الوقت بتنفيذ عمليات قصف تدميري واسع النطاق للمدن اليابانية الكثيفة السكان، فتم إطلاق 334 طائرة أمريكية لإلقاء القنابل الحارقة لتدمر ما مساحته 16 ميلاً مربعاً، ولتقتل في ساعات نحو 100 ألف شخص، وتشرد نحو مليون آخرين، في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و64 مدينة يابانية أخرى، ثم ختم ذلك المشهد الدموي، بمشهد آخر أكثر دموية لم يكن للبشرية به عهد قبل مجيء العهد الأمريكي؛ فقد أقدم

النبي المعصوم (353)

الأمريكيون وهم القوة المتظاهرة اليوم بالدعوة إلى التعقل في استعمال أسلحة الدمار الشامل إلى استعمال هذا السلاح، وكانوا أسبق البشر إلى استعماله عندما أسقطوا قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل.

سقطت دموع حارة من عيون الجمع، فقال الحكيم: اعذروني.. لم أكن أقصد أن أسيء إليكم.. ولست أقصد بما ذكرت أي أمة من الأمم، ففي كل أمة يختلط الطيبون بالخبيثين.. وفي أمريكا بالذات طيبون كثيرون يستحقون من كل مسلم كل الاحترام.. وفي الإسلام لا يؤاخذ الابن بما فعل أباه، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (فاطر:18)

ولذلك لم أقصد أن أهين أي أحد من الناس.. لا اليهود ولا الأمريكيين.. ولا أي أحد.. أنا أذكر الحقائق التي برهن عليها التاريخ لنقيم من خلالها مقارناتنا بين هؤلاء الذين يتيهون على الإسلام وعلى نبي الإسلام في نفس الوقت الذي يفخرون به بآبائهم وأجدادهم وأنفسهم متناسين كل جرائمهم..

أقول لهم ذلك لأذكرهم بما قال المسيح - عليه السلام - لأحبار اليهود الملطخين بالخطايا: (من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجارة)

قال رجل من الجمع: حدثنا عن انغلاقنا فحدثنا عن انفتاح الإسلام، وانفتاح نبي الإسلام.

قال الحكيم: إن القرآن الكريم الذي هو ميثاق المسلمين ودستورهم.. والذي هو مؤدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأول.. ينص على أن البشر جميعا إخوة.. وأنهم كلهم لآدم، وأن الله نوع أعراقهم وألوانهم وألسنتهم كما نوع كل شيء لتكتمل الحياة بذلك التنوع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا

النبي المعصوم (354)

خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)

وقد خطب رسول الله في أكبر تجمع عرفه في حياته.. وفي خطبة تسمى خطبة الوداع.. بسبب كونها وصيته الخاتمة لأمته جميعا.. لقد في تلك الخطبة: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فليبلغ الشاهد الغائب) (1)

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مصير الأعراق التي يتفانى البشر في اعتبارها، فقال: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟) (2)

ولهذا، فإنك لن تجد في القرآن.. في كل القرآن خطابا لقبيلة من القبائل.. لا العرب ولا غيرهم.. فالله تعالى يخاطب الناس باعتبارهم بشرا.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21).. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:168).. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1).. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء:174).. وغيرها من الآيات الكثيرة التي يتوجه الخطاب فيها للبشر جميعا باعتبارهم أناسي لا باعتبارهم أعراقا.

وهو يخاطب المتبعين للإسلام باعتبارهم مؤمنين.. لا باعتبارهم من أي عرق من

__________

(1) رواه الطبراني في الكبير.

(2) رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال: المحفوظ الموقوف.

النبي المعصوم (355)

الأعراق.. وهو حين يصنفهم يصنفهم بحسب مراتبهم من الإيمان.. لا بحسب أسباطهم أو أعراقهم أو سلالاتهم.. فالمؤمنون ليسوا بني لاوي أو بني يهوذا، وإنما هم المقربون أو أهل اليمين أو المخبتون أو عباد الرحمن.. أو هؤلاء الذين ذكرهم الله فقال: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران:17).. أو هؤلاء الذين ذكرهم، فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35)

وكل ذلك يجعل المؤمن يسعى ليبحث عن وصف كسبي يناله بجهد يقربه من الله، ومن جميع خلق الله.. لا وصفا ماديا عرقيا لا علاقة له بكسب ولا بجهد.

لقد كانت البيئة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ككل بيئات البشر منغلقة على نفسها، بل كل قبيلة منغلقة انغلاقا كليا على نفسها، لقد كان شاعرهم يقول:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد

لقد كان لكل قبيلة من القبائل العربية شخصيتها السياسية، وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى.. وبهذه الشخصية كانت تشن الحرب عليها.

في هذا الجو الذي يفوح بروائح العنصرية المقيتة ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلم يفخر بما فخروا، ولا زها بما زهوا به، ولا دعا لما دعوا إليه.. بل اعتبر ذلك كله من الجاهلية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر

النبي المعصوم (356)

شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) (1)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تفخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية) (2)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا) (3)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (4)

وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أكرم؟ فقال أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله بن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا (5).

لقد شاعت بين المسلمين هذه المفاهيم.. فراحت تعارض ما قاله شاعر الجاهلية بمثل هذه الأبيات التي تحمل معاني الانفتاح السامية، قال الشاعر:

لعمرك ما الإِنسان إلا بدينه... فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب...

لقد رفع الإسلام سلمان فارس... وقد وضع الشرك الشقي أبا لهب...

فما الحسب الموروث إن در دره... لمحتسب إلا بآخر مكتسب...

إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة... من المثمرات اعتده الناس في الخطب

وقال الآخر:

العلم زين وتشريف لصاحبه... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا...

لا خير فيمن له أصل بلا أدب... حتى يكون على ما زانه حدبا...

كم من كريم أخي عيٍّ وطمطمة... فدم لدى الصوم معروفٍ إذا نسبا...

في بيت مكرمة آباؤه نجب... كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا

سكت الحكيم قليلا، وقال: لقد كان لهذه المفاهيم الحضارية تأثيرها الكبير في حضارة المسلمين.. فهي الحضارة الوحيدة التي ساهمت فيها جميع الأعراق والألوان واللغات.. وهي الحضارة الوحيدة التي وجهت كل إبداع مهما اختلف العرق الذي انطلق منه وجهة إنسانية رفيعة لا مكان فيها للعرقية ولا للعنصرية ولا للانطواء على الذات..

وقد بدأ ذلك من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان متفتحا على كل شعوب الأرض في خطابه لها، أو في استفادته منها، أو في تعامله معها.

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (فرانكلين جراهام) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) رواه أحمد والبيهقي.

(2) رواه أبو داود الطيالسي والبيهقي.

(3) رواه أحمد والبيهقي.

(4) رواه مسلم.

(5) رواه البخاري.

النبي المعصوم (357)

ثامنا ـ تطرف

في مساء اليوم الثامن.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (بات روبرتسون) (1).. وهو في أصله قسيس إنجيلي يمتلئ بغضا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من أخمص قدمه إلى مفرق رأسه، وكأن بغض كل من يبغض محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد عجن عجنا محكما، ثم شكل منه قالبه.. ولكنه جاء في ذلك المساء بوجه غير الذي ذهب به.

لقد كنت أعرف هذا الرجل من قبل.. وهو مع كونه قسيسا إلا أنه كان متفتحا إلى درجة التطرف في تفتحه.. فهو يريد ألا ينضبط بأي ضابط، أو يلتزم بأي قانون، ولكنه يقع تحت ضغط قوانين كثيرة تفرض عليه فرضا.. ثم يحاول أن ينقلب عليها، ولكنه يقع في انقلاب على نفسه وعلى من يحيط به، فلهذا كان مشوشا غاية التشويش.. ولهذا كان يبدو كمن يسبح عكس التيار، فتتقلب به الأمواج كما يحلو لها.

في بدء حياته لم تكن له علاقة بالدين ولا بالكنيسة.. بل كان يبغض كل ما يرتبط بالدين من وصايا وتشريعات معتبرا أنها من قوانين الكبت التي أراد بها الإنسان أن يضيق بها على حياته.

ولكنه.. وبسبب دراسة كلف بها في حياته الجامعية عن (بولس وأثره في المسيحية) تأثر ببولس تأثرا شديدا.. وانخرط في الكنيسة بسبب ذلك التأثر.

__________

(1) أشير هنا إلى قسيس إنجيلي يُدعى (بات روبرتسون)، وهو معروف باهتماماته السياسية، وتأييده المطلق لإسرائيل، وهو يمتلك عددا من المؤسسات الإعلامية، من بينها (نادي الـ 700) وهو برنامج تلفزيوني يصل إلى عشرات الملايين في الولايات المتحدة، إضافة إلى محطة (البث النصراني) الفضائية التي تصل إلى 90 دولة في العالم بأكثر من 50 لغة، ومنها إذاعة الشرق الأوسط المتخصصة في التنصير في منطقة العالم العربي، وقد سعى إلى الترشيح لمنصب الرئيس الأمريكي عام 1988 م، ويقف خلف إنشاء أقوى تحالف سياسي ديني في الحزب الجمهوري وهو التحالف النصراني، وهو يملك جامعة أصولية هي جامعة (بجينت pegent) وقد ألقى كلاما قبيحا في برنامج (هانتي وكولمز hannity النبي المعصوم ( colmes) والذي بثته قناة (FOX NEWS) حيث قال: (كان ـ أي محمد ـ مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون).. وقوله هذا هو الذي جعلنا نختاره لهذا الفصل.

النبي المعصوم (358)

ولكن اهتمامه بالمسيح لا يعدل اهتمامه ببولس.. ولعل حبه لبولس يفوق حبه للمسيح.. فهو يعتبره المصحح الأول للمسيحية.. بل يكاد يعتبره المؤسس لها.. وهو يتصور أن أكبر ما جعل للمسيحية كل ذلك التأثير هو ما وصمه بها بولس من تفتح.. ويتصور في نفس الوقت أن أكبر ما حال بين سائر الأديان وبين الوصول للدرجات التي وصلت لها المسيحية هو عدم وجود (بولس) فيها.

بمجرد دخوله ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بغضب شديد، وقال: لا يمكن لأولئك الصعاليك أن يفهموني، أو يفهموا المنطق الذي أفكر به.. ولهذا من المستحيل أن تكون هناك نتائج إيجابية مع أمثال هؤلاء..

ثم توجه إلى الجماعة قائلا: إنكم في تعاملكم معهم كمن يريد أن يبني قصورا على رمال شاطئ عظيم الأمواج.

ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا أرى أن تضيعوا وقتكم بسماع شريط الأحداث، فلن يرضيكم ما وقع من أحداث.

قال رجل من الجماعة: لا يهمنا أن نرضى أو لا نرضى، المهم هو أن نعرف الأسلوب الذي يفكر به هؤلاء.. فلا يمكن أن نواجه خصما لا نعرفه.

قال بات روبرتسون: ولكنكم قد تحترقون.. أو قد يجرفكم تيارهم.. فالسباحة في وجههم خطيرة..

ثم قال بينه وبين نفسه: سلوني أنا.. أنا الذي رفضت الكل، ولم يستطع أحد أن يستوعبني كاد هؤلاء الصعاليك أن يجرفوني إلى مستنقعاتهم.

لم تلتفت الجماعة إلى قوله.. بل ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

النبي المعصوم (359)

رأينا بات روبرتسون يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال رجل من الجمع: إن كان لديك حديث عنه، فحدثنا به.. فما أحلى الحديث عن محمد.

قال بات روبرتسون: نعم.. صدقت.. فكلكم تحبون التطرف.. فلذلك تحبون الحديث عن أعظم متطرف في الدنيا.

قال رجل من الجماعة: أمحمد متطرف؟

قال بات روبرتسون: إن لم يكن محمد متطرفا، فليس هناك متطرف في الدنيا.

ثم أضاف يقول: (لم يكن محمد إلا مجرد متطرف.. ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون) (1)

هنا ظهر الحكيم كما يظهر شعاع الشمس مخترقا الظلمات، وصاح: ما الذي تقصد بالتطرف، فلعل لك تصورا للتطرف قد نوافقك عليه، وقد نتفق معك بسببه في كون محمد صلى الله عليه وآله وسلم متطرفا؟.. وحينذاك سيكون التطرف معنى جميلا.. لأنا لا نعرف خلقا تخلق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان خلقا جميلا.

قال بات روبرتسون: التطرف هو التطرف.. وليس للتطرف معنى غير التطرف.

قال الحكيم: أراك تفسر الماء بالماء.. فهلا عدلت إلى كلام واضح مفهوم؟

قال بات روبرتسون: كلامي واضح مفهوم، وأحسب الجميع يفهمه.

قال الحكيم: ما دام الأمر كذلك، فوضح لنا سر تطرف محمد، أو بين لنا دلائل تطرف محمد.. فلا يمكن أن نلقي الدعاوى من غير بينات تدل عليها.

قال بات روبرتسون: أكبر دليل على تطرف محمد هو هؤلاء المتطرفون من أتباع محمد..

__________

(1) الكلام بين قوسين للقسيس (بات روبرتسون)، وقد ذكره في برنامج (هانتي وكولمز hannity النبي المعصوم ( colmes) والذي بثته قناة (FOX NEWS)

النبي المعصوم (360)

والذين يملؤون الدنيا.. أم أنك لا تراهم؟

قال الحكيم: فإذا كان الاستدلال بهذا الشكل، فلا شك أن المسيح - عليه السلام - والذي نقدره غاية التقدير، ونحترمه غاية الاحترام، ونستغفر الله من كل إساء تمسه كان قاتلا وإرهابيا وظالما وفاحشا ومتفحشا.

غضب بات روبرتسون، وصاح: كيف ترمي قمة النبل والسلام والعفة والطهارة بهذا.. أم أنك لم تقرأ الإنجيل؟

قال الحكيم: لقد اتبعت منهجك في الاستدلال.. فأنت استدللت على تطرف محمد بوجود المتطرفين من أتباعه، فرحت أطبق هذا المنهج على المسيح وأتباع المسيح.. ولن تجد في العالم.. ولن تجد في جميع دفاتر المؤرخين قوما أساءوا إلى نبيهم كما أساء أتباع المسيح إلى المسيح.. فهم الإرهاببون الذين استعمروا العالم.. وهم اللصوص الذين استولوا على خيراته.. وهم الذين نشروا الرذيلة بكل معانيها، وبكل أصنافها.. فهل تستدل بهؤلاء على المسيح؟

قال بات روبرتسون: المسيح نعرفه من خلال الإنجيل.. لا من خلال من يردد اسم المسيح.. والمسيح منه بريء.

قال الحكيم: ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نعرفه من خلال سيرته وسنته والكتاب الذي جاء به..

سكت بات روبرتسون، فقال الحكيم: أرى أنك صاحب شبهة تريد أن تبحث عن الحقيقة المرتبطة بها.

قال بات روبرتسون: وما الشبهة التي تراها علقت بعقلي؟

قال الحكيم: لقد رأيت سلوك المسلمين، فرحت تتصور أن هذا السلوك لم يستفده هؤلاء إلا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال بات روبرتسون: نعم.. كما نتعرف على الأستاذ من خلال تلاميذه، نتعرف على محمد من خلال أتباعه.. من خلال من يذكرون أنهم في حياتهم جميعا يمارسون سنته، ويتبعون هديه.

النبي المعصوم (361)

قال الحكيم: ولكن التلاميذ قد ينحرفون عن منهج أستاذهم، أو قد يفهمون أستاذهم خطأ.. فلذلك نحتاج إلى الرجوع إلى الأستاذ نفسه.

قال بات روبرتسون: وكيف نرجع إلى محمد، وقد طواه الثرى (1

قال الحكيم: لقد كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ورثة أوفياء لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من حياته إلا سجلوها.. فلذلك ـ نحن المسلمين ـ لا نرى محمدا إلا كما يرى بعضنا بعضا، فهو حي بيننا نعيش معه، ونسمع كلامه، ونتنعم بهديه.

قال بات روبرتسون: ولذلك حكمت على نبيكم من خلالكم.

قال الحكيم: ذلك خطأ، فنحن مع حبنا لنبينا وتعظيمنا له لا نرقى لأن نمثله.. محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يمثله إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: دعنا من هذا الجدل.. ولنعتبر ما ذكرته صحيحا.. ولا نريد منك إلا أن تثبته.

قال بات روبرتسون: لن يكلفني عنتا إثباتي لما ادعيته، فكل شيء يدل عليه.. يكفيك فقط أن تقارن بين المسيحية وبين الإسلام لترى التطرف في الإسلام وفي محمد في أرقى درجاته.

ففي الفكر والعقيدة ترى المسيحية دين المحبة.. تبشر بإله محب أرسل ابنه الوحيد ليفدي البشرية من الخطيئة.. بينما محمد يبشر بإله منتقم جبار يكوي كل من خالفه بكل نيران الألم.

وفي السلوك نرى المسيحية دينا بسيطا لا يكلفك إلا بالإيمان، بينما نرى الإسلام دين تكاليف شديدة تبدأ من استيقاظك المبكر مع غسق الفجر.. وتنتهي بليل طويل من القيام، ونهار طويل من الصيام.. وحياة منضبطة بقوانين كثيرة تخنقها حنقا.

__________

(1) ذكرنا هذا مراعاة للجانب الفني، أما الحقيقة، فهي أن أجساد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لا يأكلها التراب، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله (: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ يعنى بليت ـ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي.. وغيرهم.

النبي المعصوم (362)

وفي المواقف نرى المسيحية تدع ما لقيصر لقيصر وما لله.. بينما نرى الإسلام ينازع الساسة والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس.. وكل شيء، ليطبعه بطابعه الخاص.

وفي الحياة، نرى المسيحية مع الحياة، فلا تحرم أي متعة من متع الحياة.. بينما نرى الإسلام يملأ حياة الناس بالضيق، فلا يتمنون إلا الموت.

التفت إلى الجمع، وقال: ألا يكفي كل هذا ليجعل الإسلام دين التطرف الأكبر في العالم، ويجعل محمدا الذي جاء بهذا الدين أكبر متطرف في العالم.. بل على مدار التاريخ.

قال الحكيم: هل انتهيت من حديثك.. أم لك مزيد أدلة؟

قال بات روبرتسون: ألا يكفي كل ما ذكرته!؟

قال الحكيم: فدعني أجيبك إذن.

قال بات روبرتسون: لا يمكنك أن تجيبني.. فما ذكرته حقائق لا تقبل الجدل.

قال الحكيم: فأنت متطرف إذن من حيث لا تشعر.. إن التطرف هو أن تشعر بأنك وحدك على الحق، وأن الحق وحده معك.. فإن كنت تشعر بهذا، فلا يمكنني أن أناقشك.

قال بات روبرتسون: لا.. بل أنا متفتح غاية التفتح.

قالت الجماعة: ما دمت كذلك، فدعه يدافع عن نبيه وعن دينه.

قال بات روبرتسون: قل ما شئت.. وأنا أعلم أنك في كل ما تذكره لن تستيطيع أن تفند هذه الحقائق.. فالحقائق لا يمكن أن تفند.

قال الحكيم: لقد ذكرت أربعة نواح.. وأحسنت في ذكرها.. فهي الأسواق التي تعرض فيها بضاعة التطرف.. وقد ذكرت لي بضاعة المسيحية، وما أسأت فهمه من بضاعة الإسلام.. ولهذا سأصحح لك الحقائق التي يعرضها الإسلام في تلك الأسواق.

العقيدة

النبي المعصوم (363)

التفت الحكيم إلى الأشجار الجميلة التي كانت تزين ساحة الحرية، ثم قال: أرأيت لو طلبت من رسام مبدع أن يرسم هذه الأشجار، أو من أديب بليغ أن يصفها، فقام كلاهما بكل ما أوتيا من قوة إبداعية، فرسم الأول، ووصف الثاني.. هل يمكن أحد من الناس أن ينتقدهما، فيقول لهما: أنتما متطرفان بدائيان.. لأنكما رسمتما أشجارا، ولم ترسما ناطحات سحاب، أو سيارات أو طائرات؟

قال بات روبرتسون: لن يقول ذلك أحد إلا إذا كان مسلما متطرفا، فيمكن أن يقوله.

قال الحكيم: ولكنك تقول ذلك الآن.

قال بات روبرتسون: أنا لست مسلما، فكيف عرفت أني أقوله؟

قال الحكيم: لقد زعمت بأن العقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقيدة متطرفة.. واعتبرت أن سبب تطرفها هو كونها لا تتحدث عن الله الذي أرسل ابنه الوحيد ليصلب من أجل خطايا البشرية.

قال بات روبرتسون: فما الغرابة في هذا؟

قال الحكيم: لأن العقيدة التي جاء بها الإسلام عقيدة منطقية تصف الكون وحقائق الكون، والأشجار التي يحويها الكون كما هي.. ولكن عقيدتكم التي تفخر بها علينا لا تحوي أي منطق، ولا يدل عليها أي دليل، فأنتم تفرضونها على الكون فرضا.

قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟

قال الحكيم: أرأيت النار.. والأشواك.. والزلازل.. والبراكين.. والآلام.. والأمراض.. والموت..

قال بات روبرتسون: ومن لم ير كل ذلك.. إلا إذا كان مسلما متطرفا؟

قال الحكيم: فمن خلق كل ذلك؟

قال بات روبرتسون: الله.. الله هو الذي خلق كل ذلك.

النبي المعصوم (364)

قال الحكيم: فالله إذن خلق الأزهار الجميلة، والطيور المغردة.. وخلق بجانبها البراكين والزلازل.. لنعرفه معرفة شاملة كاملة.. فنرجو خيره، ونخاف الآلام التي قد تصيبنا من عقوبته.. فرحتم أنتم تختصرون الله فيما تحبون، أو فيما تملي عليكم شهواتكم.

وأنتم تشبهون في ذلك مجرما أخذ صورة مشوهة عن القاضي.. فقيل له: إنه قاض رحيم محب ودود.. لا يلقي المجرمين إلا بابتسامته العريضة وجنانه الفسيحة.. فراح ذلك المجرم يتطرف في جرائمه لا يقف في وجهه شيء..

قال بات روبرتسون: فهل فعلنا نحن ذلك؟

قال الحكيم: بل لم تفعلوا إلا ذلك.. أنتم تشجعون على الرذيلة والانحراف، وتسمون كل ذلك محبة..

بينما الإسلام يتعامل مع الحقائق كما هي.. ويصف الله بما وصف به نفسه، فهو رحيم ودود.. وهو كذلك شديد العقاب، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} (الحجر)

قال بات روبرتسون: فأنت تقر بأن ربكم يعذب.

قال الحكيم: لست أنا الذي يقر بذلك.. بل كل شيء يقر بذلك.. ولكنه عذاب رحيم لا عذاب منتقم..

امتلأ بات روبرتسون ضحكا، ثم قال: وهل رأيت رحيما يعذب؟

قال الحكيم: أرأيت لو أن أحدهم أراد أن يضرب ما تعارف عليه الناس من قوانين الأكل والشرب عرض الحائط.. فراح يأكل المعادن والزجاج.. وراح يشرب أنواع السوائل التي لا تنسجم مع جسم الإنسان.

قال بات روبرتسون: فمصير هذا الموت المؤكد.

قال الحكيم: فإن ظفر بطبيب حكيم أجرى له عملية جراحية تطهر بطنه من الأوزار التي

النبي المعصوم (365)

سببها له فمه.. هل تعتبر ذلك الطبيب قاسيا بإجرائه لتلك العملية؟

قال بات روبرتسون: كلا.. بل هو طبيب رحيم أنقذه من الموت المؤكد؟

قال الحكيم: فهذا هو تصورنا نحن المسلمين لإلهنا، فهو إن عاقب لا يعاقب طلبا للعقوبة.. وإنما يعاقب من منطلق الرحمة (1).. إن قرآننا يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (لأعراف:156)

ولهذا يربط القرآن الكريم بين ملك الله الذي يعني تدبير الله للأشياء وبين رحمته تعالى، كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} (الفرقان:26)

ولذلك ورد في القرآن الكريم الإخبار عن سعة الرحمة الإلهية وشمولها باعتبار الكون مؤسسا عليها إنشاء وتدبيرا، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: من: 156)، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:147)

فالآيتان الكريمتان صريحتان في سعة الرحمة الإلهية وشمولها لكل شيء، ولم يرد في القرآن الكريم اقتران السعة بشيء من صفات الله إلا في صفتي الرحمة والعلم.

__________

(1) ولهذا يرد في القرآن الكريم ارتباط العذاب باسم الرحمن.. كما قال تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام -: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} (مريم:45)

فقد ذكر إبراهيم - عليه السلام - الرحمن، ولم يقل الجبار ولا القهار، للدلالة على أن العذاب لا يتنافى مع الرحمة الإلهية، كما لا يتنافى الكي أو الحقنة أو الدواء المر إذا وضعت في مواضعها التي تقتضيها حكمة الجسم مع رحمة الطبيب.

ولذلك قال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (يّس:23)، فقد نسب إرادة الضر إلى الرحمن ليدل على أن هذا الضرر في حقيقته رحمة، اقتضاه التدبير الإلهي.

ومثل ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} (مريم:69)، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} (مريم:75)

انظر التفاصيل الدالة على هذا في رسالة (أسرار الأقدار)

النبي المعصوم (366)

قال بات روبرتسون: ولكنا نسمع بأن لإلهكم نارا عظيمة يعذب بها.. فهل ترى تلك النار أتون رحمة؟

قال الحكيم: أتسمح لسلاطينك ووزرائك أن يتخذوا سجونا، ثم لا ترى من حق الله أن يتخذ سجنا..

ثم أضاف: أرأيت إلى تعابيرك عن الله.. إنك تتصور بأن معارفنا هي التي تنتج الحقائق.. لا الحقائق الموجودة على أرض الواقع هي التي تنتج المعرفة.

قال بات روبرتسون: لم أفهم..

قال الحكيم: العقيدة علم بما في الكون من حقائق واقعية.. ولذلك لا ينبغي أن نحتال على تشويهها بأي صورة من صور التشويه، حتى بما نتصوره تشويها يحسنها.. فهو في حقيقته تشويه يسيء إليها.

السلوك

التفت الحكيم إلى الطريق، وأشار إلى علامة مرور، مكتوب عليها (قف)، وقال: هل ترى هذه العلامة؟

قال بات روبرتسون: وكيف لا أراها.. إلا إذا كنت متطرفا مسلما؟

قال الحكيم: فقد كتب عليها (قف).. فما تعني هذه الكلمة؟

قال بات روبرتسون: هي تأمر السيارات المارة بأن تقف في هذا المحل.

قال الحكيم: ألا ترى بأنها تحد بذلك من حرية المارة؟

قال بات روبرتسون: لا.. بل هي تنظم سير المارة.. ولولا هذه اللافتة التي أبدعتها حضارتنا المستلهمة من تعاليم المسيح لاختلطت الطريق بأهلها.

قال الحكيم: ما دمتم لم تعتبروا أنفسكم متطرفين، وأنتم تحدون من حرية المارة بمثل هذه

النبي المعصوم (367)

اللافتات، فلم تعتبرون اللافتات الربانية التي تنظم السير إلى الله من التطرف؟.. أم أنكم تريدون أن تختلط الطريق إلى الله بالمشعوذين والخرافيين والدجالين والمهووسين.

قال بات روبرتسون: ما علاقة ما تقوله بما نحن فيه؟

قال الحكيم: لقد فخرت على محمد بالمسيح.. وزعمت أن محمدا ضيق حياة الناس بما وضع من قوانين السلوك.. بينما لم يفعل المسيح شيئا من ذلك.

قال بات روبرتسون: ذلك صحيح.. ففي المسيحية يكفيك الإيمان.

قال الحكيم: لقد ولد ذلك وجود طوائف كثيرة ممتلئة بالتطرف.. لاشك أنك تعرف الرهبان الذين وضعوا من قوانين السلوك ما صارعوا به الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

لقد روى المؤرخون من ذلك العجائب (1)..

لقد حدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد.

وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح...

ورووا أن الراهب يوحنا عبد ثلاث سنين قائما على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.

وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد

__________

(1) انظر: قصة الحضارة 14: 365.

النبي المعصوم (368)

الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس، وقد حدث الراهب اتهينس أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبرا هام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: وأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات.

أما القديس كولمبان فقد (كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن)

وفوق هذا كله.. فقد كان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهبونهم إلى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمها، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب (أمبروز) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.

فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حنانا ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة، لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكي (ليكي) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب.

التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: هل حدث ذلك في التاريخ فعلا؟

سكت بات روبرتسون، فأجاب الحكيم نفسه: نعم.. ولا يمكنك إلا أن تقول: (نعم).. فلندع هؤلاء الذين طواهم التاريخ.. ولنذهب إلى المسلمين في جميع مراحل التاريخ.. ولننظر أثر علامة (قف).. و(سر) التي تركها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (369)

لقد ولدت تلك العلامات التي سماها العلماء أحكاما شرعية حياة منضبطة منظمة صالحة صحية لا يمكنك أن تقارنها بأي حياة لأي متدين في أي دين.

أخرج سواكا من جيبه، ثم قال: في الوقت الذي كان الرهبان فيه يتبارون في الهرب من كل ما تتطلبه النظافة من متطلبات أمرنا نبينا بهذه الآلة العجيبة التي تجمع بين كونها فرشاة أسنان، كأنعم ما تكون الفرشاة.. وبين أحسن معجون للأسنان لم ير العالم مثله بعد في عالم الصناعة (1).

فهل ترى متطرفا ذلك الذي يحض أتباعه على النظافة والطهارة والجمال؟

قال بات روبرتسون: ولكن تعاليم الإسلام تعاليم شديدة حتى ما تعتبره طهارة منها فيه شدة وتكلف وتطرف.

قال الحكيم: إن جميع تعاليم الإسلام محكومة بضابطين كلاهما يحرسانها من التطرف، وسأحدثك عنهما باختصار، وإلا فإن التفاصيل التي ترتبط بهما لا يمكن استيعابها في هذا المجلس.

قال رجل من القوم: فما هما؟

قال الحكيم: اليسر والمقاصدية، وقد أشار إليهما مجتمعين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)

ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله رفع الحرج عن عباده، وهو يدل على التيسير، ثم علل السر في تلك التكاليف التي قدر يراها البعض تكاليف شاقة، بأنها تكاليف ذات مقاصد شريفة تصب

__________

(1) فالسواك من السنن التي وردت بها النصوص الكثيرة، بل ربطه (بالعبادات، فقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) (البخاري ومسلم)، وفي رواية: (عند كل وضوء)

النبي المعصوم (370)

في مصلحة الإنسان، وهو ما يرفع المشقة في فعلها، لأن أي إنسان يسترخص أي جهد يبذله إذا ما كان فيه مصلحة له.

وقد جمع كلتا الناحيتين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تعليل النهي عن الصلاة وقت النعاس: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه) (1)

اليسر

قال رجل من القوم: فحدثنا عن الضابط الأول؟

قال الحكيم: جميع الشرائع التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تتصف باليسر.. بل إنه إذا وقع العسر في أمر من الأوامر، أو نهي من النواهي رفع التكليف به.. وفي ذلك قال العلماء (إذا ضاق الأمر اتسع)، و(المشقة تجلب التيسير)

ضحك بات روبرتسون، وقال: المشقة تجلب التيسير!؟.. ما هذا؟

قال الحكيم: هذه القاعدة الأصولية تنص على أن الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله، فإن الشرع قد أجاز له عدم القيام بها.

قال بات روبرتسون: فهي من وضع الفقهاء إذن لا من إرشاد نبيكم وتعليمه!؟

قال الحكيم: ما كان لفقهائنا أن يتجرأوا، فيضيفوا إلى الدين حرفا من غير أن يجدوا له دليلا من النصوص..

نعم.. هم ليسوا معصومين في استنباطاتهم، ولكنهم مع هذه القاعدة على الخصوص، ومع القواعد التي تشبهها معصومون في هذا الاستنباط، لأنهم يستندون فيه إلى الدلائل القطعية التي لا يرقى إليها شك..

لقد قال الله تعالى يقرر هذه القاعدة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (371)

(البقرة:185)، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة:6)، وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)

ومثل ذلك ما ورد في الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) (1)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) (2)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا) (3)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره) (4)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر) (5)

وقد مارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي تنسبه إلى التطرف ـ هذا السلوك في أوسع مجالاته، وفي كل مجالاته، ففي الحديث: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما) (6)

التفت إلى الجمع، وقال: سأسرد لكم بعض الأحداث التي وقعت في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تدل على مدى تيسيره صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، ومدى حرصه على رفع الحرج عنها.

لقد حدث بعض أصحابه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في المسجد، وأصحابه معه، إذ جاء أعرابي، فبال في المسجد، فقال أصحابه: مه، مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، ثم دعاه، فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء ـ أو كما قال رسول الله

__________

(1) رواه أحمد والديلمي.

(2) رواه الطبراني في الأوسط.

(3) رواه الطبراني.

(4) رواه أحمد.

(5) رواه ابن مردويه.

(6) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (372)

صلى الله عليه وآله وسلم ـ إنما هي لقراءة القرآن، وذكر الله، والصلاة)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من القوم: (قم فائتنا بدلو من ماء)، فشنه عليه، فأتاه بدلو من ماء، فشنه عليه (1).

التفت إلى الجمع، وقال: هل رأيتم مثل هذه البساطة والتيسير والرفق.. رجل يبول في مسجده المقدس الذي هو من أشرف مساجد الدنيا، فلا يزيد على أن يعلمه ويوجهه من غير أن يعنفه أو يوبخه.

وحدث صحابي آخر قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصداً (2) وخطبته قصداً (3).

وحدث آخر قال: قدمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فأذن لنا، فدخلنا، فقلنا: يا رسول الله أتيناك لتدعو لنا بخير، فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا، وأمر لنا بشئ من تمر والشان إذ ذاك دون، فلبثنا بها أياما شهدنا بها الجمعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام متوكئا على قوس أو عصا، فحمد الله، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: (أيها الناس إنكم لن تطيقوا، ولن تفعلوا، كل ما أمرتم ولكن سددوا وأبشروا) (4)

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتشدد مع المتشددين، بل يخبر بهلاكهم في تشددهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (هلك المتنطعون (5)، قالها ثلاثاً (6).

وشبه صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء المتنطعين المتشددين بالمنبت (7)، فقال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه

__________

(1) رواه مسلم.

(2) أي بين الطول والقصر.

(3) رواه مسلم.

(4) رواه أبو نعيم وأبو يعلى وابن عساكر.

(5) المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.

(6) رواه مسلم.

(7) يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته: قد انبت، من البت: القطع، وهو مطاوع بت يقال: بته وأبته. (النهاية: 1/ 92)

النبي المعصوم (373)

برفق، فان المنبت لا أرضا قطع ولاظهرا أبقى) (1)

وبما أن الحماسة كانت تتقد في قلوب بعض أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، فتدفعهم إلى المبالغة في الأعمال والتشدد فيها حرصا على مرضاة الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصحح لهم ذلك، ويأمرهم بالتوسط والاعتدال، ويخبرهم بأن الله يحب أن تؤتى رخصه بقدر ما يحب أن تؤتى عزائمه (2).

ومما يروى في ذلك أن معاذا أم قومه ليلة في صلاة العشاء بعد ما صلاها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فافتتح سورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه وصلى وحده، فقال له: نافقت، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الرجل: يا رسول الله إنك أخرت العشاء، وإن معاذا صلى معك ثم أمنا، وافتتح سورة البقرة، وإنما نحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا، فلما رأيت ذلك تأخرت وصليت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أفتان أنت يا معاذ؟ اقرأ سورة كذا، اقرأ سورة كذا) (3)

ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيته، فوجد امرأة، فقال: من هذه؟ قالوا: هذه فلانة وذكروا من صلاتها، قال: (مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله (4) حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه) (5)

وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟، قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا

__________

(1) رواه البزار، وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال (: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فان المنبت لا بلغ بعدا، ولا أبقى ظهرا، واعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت إلا هرما، واحذر حذر امرئ يحسب أنه يموت غدا) رواها ابن عساكر.

(2) وفي ذلك يقول رسول الله (: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، إن الله بعثني بالحنيفية السمحة دين ابراهيم، ثم قرأ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78)) رواه الحاكم.

(3) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: (اقرأ والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى)

(4) ومعنى لا يمل الله أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم، ويعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم.

(5) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (374)

فتر فليرقد) (1)

وحدث بعض أصحابه قال: خرجت ذات يوم لحاجة، وإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشي بين يدي، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعاً، فإذا نحن برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتراه يرائي؟)، فقلت: الله ورسوله أعلم، فترك يده من يدي، ثم جمع يديه، فجعل يصوبهما ويرفعهما ويقول: (عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه) (2)

وحدث آخر قال: ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مولى لبني عبد المطلب يصلي ولا ينام، ويصوم ولا يفطر، فقال: (أنا أصلى، وأنام، وأصوم وأفطر، ولكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى السنة فقد اهتدى، ومن تكن إلى غير ذلك فقد ضل)

وروي أن ثلاثة رهطٍ جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال: أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فقال: (انتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (3)

وروي أنه: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) (4)

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه أحمد ورجاله موثقون.

(3) رواه البخاري ومسلم.

(4) رواه البخاري.

النبي المعصوم (375)

وحدث بعض أصحابه عن نفسه قال: أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيامٍ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أعدل الصيام ـ وفي رواية: هو أفضل الصيام ـ فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أفضل من ذلك، قال عبد الله: ولأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلي من أهلي ومالي (1).

المقاصدية

قال رجل من القوم: حدثتنا عن الضابط الأول.. فحدثنا عن الثاني.

قال الحكيم: جميع الشرائع التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تتصف بالمقاصدية.

أرسل بات روبرتسون ضحكة عالية، ثم قال: المقاصدية!؟.. ما المقاصدية؟

قال الحكيم: إن الله الحكيم الذي لم يخلق العبث لم يشرع العبث.. ولذلك فإن من مزايا الشريعة أن كل شيء فيها مفهوم الغاية واضح المقصد، يفهمه كل ذي عقل ببساطة ويسر، فيستحيل أن يقول العقل شيئا، ويقول الشرع خلافه.

قال بات روبرتسون: أتتيه علي بشريعتكم.. كل دين يقول أهله هذا.

قال الحكيم: فأنبئني عن الحكمة من الشرائع التي وردت في العهد القديم، والتي تختص بالمرأة الحائض.. لاشك أنك تعرفها، ولا شك أنك تعرف كثرتها.

سكت بات روبرتسون، فقال الحكيم: سأقرأ عليك بعض النصوص التي تدل عليها.. لقد جاء في (سفر اللاويين:15: 19 - 27) هذ النص.. واسمح لي أن أقرأه لك بطوله.. (وإذا

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (376)

حاضت المرأة فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من يلمسها يكون نجسا إلى المساء. كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا، وكل من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه، يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل من يلمس شيئا كان موجودا على الفراش أو على المتاع الذي تجلس عليه يكون نجسا إلى المساء. وإن عاشرها رجل وأصابه شيء من طمثها، يكون نجسا سبعة أيام. وكل فراش ينام عليه يصبح نجسا. إذا نزف دم امرأة فترة طويلة في غير أوان طمثها، أو استمر الحيض بعد موعده، تكون كل أيام نزفها نجسة كما في أثناء طمثها. كل ما تنام عليه في أثناء نزفها يكون نجسا كفراش طمثها، وكل ما تجلس عليه من متاع يكون نجسا كنجاسة طمثها. وأي شخص يلمسهن يكون نجسا، فيغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء)

التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: أرأيت هذه التفاصيل المشددة التي تجعل المرأة الحائض كالكلب العقور يخشى الكل من الاقتراب منه.. تخيل المرأة يأتيها الطمث لمدة سبعة أيام تكون فيها نجسة ومنبوذة من الآخرين، ثم تستمر بعد فترة نجاستها أسبوعا آخر، أى نصف شهر، وهذا يعنى نصف سنة.. أي أنها ستظل نصف عمرها نجسة منبوذة.

ليس هذا فقط هو كل شريعة التوراة المرتبطة بالحائض.. هناك تكاليف أخطر.. اسمع..: (وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين أو فرخي حمام وتأتي بهما الى الكاهن الى باب خيمة الاجتماع. فيعمل الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفر عنها الكاهن أمام الرب من سيل نجاستها) (اللاويين (15: 29 - 30)

هل ترى هذا حكما معقولا.. إن المرأة في العادة تستحي من علم أي أحد بحيضها، فكيف تفعل هذا أمام الناس، وأمام الكاهن.. ثم ما جريمتها حتى تصبح نجسة.. ولماذا ترتبط أكثر أحكام التوراة بالحمام والكباش والشواء!؟

ومثل ذلك أحكام النفاس في الكتاب المقدس.. اسمع: (إذا حملت امرأة وولدت ذكرا،

النبي المعصوم (377)

تظل الأم في حالة نجاسة سبعة أيام، كما في أيام فترة الحيض... وعلى المرأة أن تبقى ثلاثة وثلاثين يوما أخرى إلى أن تطهر من نزيفها، فلا تمس أي شيء مقدس، ولا تحضر إلى المقدس، إلى أن تتم أيام تطهيرها. وإن ولدت أنثى فإنها تظل في حالة نجاسة مدة أسبوعين كما في فترة الحيض، وتبقى ستة وستين يوما حتى تتطهر من نزيفها) (اللاويين: 12: 1 - 5)

ألا ترى الجور الذي تحمله هذه النصوص على الإناث؟.. ألا ترى كيف تجعل مدة طهارة المرأة في حال كون المولود أنثى ضعف طهارة كون المولود ذكرا!؟

التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: إن هذه التعاليم جميعا تخلو منها شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسبب بسيط، وهو أن هذه الشريعة شريعة مقاصدية تلاحظ علل الأحكام وأغراضها، ولهذا ذكر تعالى حكم الحائض وعلته بقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222)

انظر.. الآية الكريمة تكتفي بتحريم إتيان الحائض، وتعلل ذلك بعلة معقولة لم تزدها الأيام إلا قوة.. لقد اعتبرت الأذى مقصورا على محله، ولم تتعداه إلى غيره.

لقد ورد في الحديث أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى الآية السابقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه (1).

التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: هذا مجرد نموذج عن المفارقة الكبرى بين تشريعات الإسلام، وتشريعات اليهودية والمسيحية.. ومثلها سائر الديانات..

الإسلام ينطلق في كل تشريع من المقاصد التي تجتمع جميعا بتفاصيلها وفروعها لتخدم الإنسان فردا ومجتمعا وفق نظام دقيق وتشريعات محكمة..

__________

(1) رواه مسلم.

النبي المعصوم (378)

حتى ما يظهر أنه جوانب تعبدية محضة فإن الشريعة تربطها بالمقاصد التي تخدم الإنسان، وتخدم الإنسانية، لقد قال الله تعالى في الصلاة مبينا دورها التربوي النفسي: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)، وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)

وأما خدمتها للإنسانية، فقد شرع الله للمسلمين أن يصلوا جماعة في المسجد ليؤلف ذلك بين قلوبهم ويزيد المودة بينهم، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (النور)

وهكذا الأمر بالنسبة للصيام، فقد قال تعالى معللا الحكمة منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)

وهكذا الأمر بالنسبة للتشريعات المرتبطة بالطهارة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)

أما في جوانب المعاملات المختلفة، فإن الشريعة تنطلق فيها من رعاية المصالح التي تحفظ الحقوق، وترعى الحرمات، وتسد كل منافذ الخلل التي قد يتسرب منها الجور، أو تنتشر منها القسوة.. فالشريعة رحمة كلها عدالة كلها.

المواقف

النبي المعصوم (379)

التفت الحكيم إلى الطريق، وأشار إلى شرطي كان يقف في الطريق، وقال: أرأيت إلى هذا الشرطي الهادئ الوديع المسالم؟

قال بات روبرتسون: وكيف لا أراه.. إلا إذا كنت متطرفا مسلما؟

قال الحكيم: فهل ستراه يظل على هدوئه ووداعته ومسالمته إن رأى من يخالف القانون أو يعتدي على المارة؟

قال بات روبرتسون: لا.. بل سينقلب حينها وحشا كاسرا.

قال الحكيم: تقصد أنه عند ملاقاته للصوص والمجرمين ينقلب من الاعتدال إلى التطرف.

قال بات روبرتسون: لا.. بل يظل معتدلا.. بل إنه لو بقي في مكانه لم يحرك ساكنا إن رأى المجرمين كان شريكا لهم في جرائمهم.

قال الحكيم: فإن اضظره ذلك السلوك العنيف إلى استعمال السلاح.

قال بات روبرتسون: لا حرج عليه في استعماله ما دام أعداء السلام يستعملونه.

قال الحكيم: فقد أقررت إذن بجميع القوانين التي تحكم على المواقف بكونها معتدلة أو متطرفة.

قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟

قال الحكيم: لقد فخرت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمقولة المسيح: (دع ما لقيصر لقيصر)..

قال بات روبرتسون: أجل فعلت ذلك.. ولا أزال مصرا عليه.

قال الحكيم: فإذا قال هذا الشرطي (دع ما للص للص).. و(دع ما للمجرم للمجرم) هل تقبل منه ذلك؟

قال بات روبرتسون: المسيح ذكر قيصرا ولم يذكر المجرمين.

قال الحكيم: فإذا تحول المجرمون إلى قياصرة.. أو تحول القياصرة إلى مجرمين..

قال بات روبرتسون: فأنت تزعم بأن محمدا وأتباعه شرطة.. أو يمارسون وظائف

النبي المعصوم (380)

الشرطة.

قال الحكيم: إن كانت وظيفة الشرطة هي حفظ الأمن والسلام والحريات من أن تنتهك أو تخترق، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وجميع أمته كلفوا بأن يكونوا شرطة يحفظون السلام في العالم لحفظ المستضعفين من بطش المستكبرين.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، وسماه شهادة، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143)

فمن معاني الشهادة هذه الوظيفة الخطيرة التي انتدب لها كل مؤمن، بل كل حر في العالم.. فلا يمكن للحر أن يرى اللصوص ثم يسكت عليهم، أو يرى المجرمين، ثم يغض الطرف عنهم.

قال بات روبرتسون: فهذا هو الذي جعل الإسلام دين سيف إذن؟

قال الحكيم: الأصل في استعمال السيف في الإسلام الحرمة.. فالمسلم لا يسل سيفه إلا للضرورة القصوى التي استدعت ذلك.

قال بات روبرتسون: فلماذا سل الإسلام سيفه إذن على الأمم؟

قال الحكيم: الإسلام لم يسل سيفه على أي أمة من الأمم.

قال بات روبرتسون: فأنت لا تقرأ التاريخ إذن.

قال الحكيم: الإسلام يمثله كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهدي الورثة الذين حافظوا على صفاء الشريعة ونقائها.. وأما من عدا ذلك، فلا يمثل إلا نفسه.. فكما لا يمثل ملوك أوروبا المسيح.. فكذلك لا يمثل حكام المسلمين محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.

سكت قليلا، ثم قال: ما دمت قد قارنت بين المسيحية والإسلام.. فسأضرب لك مثلين عن شعبين، وكيف تعامل معهم قومك، وكيف تعامل معهم قومي.

أما أولهما، فمصر.. لقد قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يوصينا بمصر، وبأهل مصر: (إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا) (1)، وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ستفتحون

__________

(1) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

النبي المعصوم (381)

أرضًا يذكر فيها القيراط (1)، فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا) (2)

ومنذ أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الوصية، وأهل مصر ينعمون بسماحة الإسلام ورحمة الإسلام، فلم تمتد إليهم يد تؤذيهم، ولا لسان يجرحهم، بل تحول المصريون إلى حماة للإسلام، ومدافعين عنه، بل أصبحت مصر بعد فترة وجيزة عاصمة الإسلام.

قارن هذا بما فعله أهل دينك بالمصريين الذين لم يفرحوا بشيء كفرحهم بالفتح الإسلامي.

قال رجل من القوم: هذا هو النموذج الأول.. ونحسب كل الأدلة معك فيه، فلا يزال الأقباط المصريون أكبر شاهد على مدى تسامح الإسلام مع المصريين في جميع فترات تاريخه، فحدثنا عن النموذج الثاني.

قال الحكيم: النموذج الثاني هم اليهود..

هنا انتفض بات روبرتسون انتفاضة شديدة، فقد كان يحن لليهود أكبر من حنينه للمسيح نفسه، وقال: أتذكر اليهود.. وتنسى ما فعل نبيكم باليهود (3).

قال الحكيم: لن أتحدث عن موقف قومك من اليهود، فأنت أدرى الناس به.. ولكني سأحدثك عن موقف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم..

ولو تأملت المعاهدات التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجدتها عين التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة، ومما ورد فيها من الحديث عن اليهود: (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).. و(وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه (4) وأهل بيته).. و(إن

__________

(1) القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به (شرح مسلم 16/ 97)

(2) رواه مسلم.

(3) سنرى التفاصيل المرتبطة باليهود وعلاقة النبي (بهم في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

(4) لا يهلك غيرها.

النبي المعصوم (382)

على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم) (1).. و(إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين).. و(إن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره).. و(إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

وقد حافظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما اقتضته هذه المعاهدة إلى أن خانوها بأنفسهم، فلقوا إثم خيانتها (3)..

لقد كانت أفواه اليهود في ذلك الوقت تلقي بسمومها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.. ومع ذلك لم يكن المسلمون ولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقابلونهم إلا بالجدال بالتي هي أحسن، أو غض الطرف عما يقولون.

فعند ما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر رضي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله، فعن بشير بن يسار قال: (زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها فوجدوا قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا وما علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، قال: الكُبرَ الكبرَ، فقال لهم: تأتون البينة على

__________

(1) هذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، ولهذا كان (يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.

(2) هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 292 - 295 والأموال لابن زنجويه 2/ 466 - 470 وسيرة ابن هشام 2/ 92 والروض الأنف 4/ 293 ومجموعة الوثائق السياسية من ص 41 - 50.

(3) انظر تفاصيل الخيانة وآثارها في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

النبي المعصوم (383)

من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُطَّلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (1).

التفت إلى بات روبرتسون، وقال: هل رأيت نبلا كهذا النبل، أو كرما كهذا الكرم (2).. لقد فعل ذلك مع كونه في موضع قوة، يستطيع أن يفرض بها ما يشاء على من يشاء.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: وهذه المواقف المملوءة بالتسامح والرحمة واللطف كانت هي القاسم المشترك في جميع معاملات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جميع أصناف الخلق.

حدث بعض الصحابة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، فأخذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: (اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة)، فأمسك بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولًا، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: (اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله)، قال فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا)، فقالوا: لا، فخلى

__________

(1) رواه البخاري.

(2) قال القرطبي في المفهم: فعل (ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به.

قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي (انظر: شرح مسلم 11/ 147)

النبي المعصوم (384)

سبيلهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح:24) (1)

التفت إلى بات روبرتسون، وقال: لقد كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأسرهم أو أن يقتلهم، ولكن سماحته أبت عليه ذلك.

وعندما أظفر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه الذين استعملوا كل الأساليب القذرة لحربه ماذا قال لهم؟

سكت الجمع، فقال: لقد قال لهم: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟)، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء)

قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام الذي تزعم أنه أبدى تسامحا عجيبا في معاملة غير المسلمين كان شديد القسوة على المسلمين العصاة.. قارن ما وضع الإسلام من حدود شديدة بما حصل من المسيح مع تلك المرأة الخاطئة (2).

قال الحكيم: إن الحدود في الإسلام ليست إلا نوعا من الروادع التي تحفظ المجتمع من السقوط في حمأة الرذيلة، أوحمأة اللاأمن.. وهي مجرد إجراء من الإجراء لا أنها كل الشريعة كما يتوهم المتوهمون..

إن جميع العقوبات التي وضعها الإسلام للردع عن الجريمة لا تعدو سبع عقوبات، وكلها تمس طهارة المجتمع الذي جاءت تشريعات الإسلام لتحافظ على طهارته، وهي الحرابة (قطع الطريق)، والردة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر.

وكل هذه الحدود لا تنفذ إلا بعد شروط شديدة، ومن السهل رفعها بأي شبهة من

__________

(1) رواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

(2) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في سائر الرسائل، وخاصة (رحمة للعالمين)

النبي المعصوم (385)

الشبهات.

سأضرب لك مثالا على ذلك بحد الزنا.. هذا الحد الذي شرعه الله لتطهير المجتمع من الانحراف.

فهذا الحد في الشريعة لم يأمر به الإسلام إلا بعد أن امتلأ المجتمع نظافة وطهارة، ثم لم يأمر بتنفيذه إلا في ظل ضوابط شديدة تكاد تحيل وقوعه إلا بالنسبة لجريء على قيم المجتمع غير مبال بتخريبها.

لقد قال تعالى يذكر البينة التي على أساسها يقوم الحد: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:4)

إن البينة التي ذكرتها هذه الآية الكريمة لا يمكن تحققها إلا في إنسان وقح لا يراعي لنفسه، ولا للمجتمع أي حرمة.

ولهذا يندر أن يقع مثل هذا.. بل لم يثبت مثل هذا، فلم نسمع في تاريخ المسلمين أن أُقيم حد الزنا بتوافر أربعة شهود.

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم فيه بأن امرأة وقعت في الزنا، وهي محصنة، ومع ذلك لم يقم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحد، ولم يعمل علمه في إقامة الحد عليها، روي أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشريك بن سمحاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة أو حدِّ في ظهرك)، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (البيّنة وإلا حد في ظهرك)، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ

النبي المعصوم (386)

أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} (النور)، فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟)، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكّأت، ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء)، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) (1)

سكت قليلا، ثم قال: وفوق ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث على الستر، وعلى عدم تتبع عورات المسلمين، ويخبر عن الجزاء العظيم المعد لذلك، وذلك ما يمنع من استيفاء الأركان التي يقام بها الحد.. فالحد لا يقام إلا بالشهود، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة) (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها) (3)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته) (4)

قال بات روبرتسون: فأنت بهذه النصوص التي تنقلها تكاد تلغي أهم ما يطلبه أولئك المتطرفون الذين يريدون تطبيق الشريعة.

قال الحكيم: إن كان تطبيق الشريعة في تصورهم هو مجرد تطبيق الحدود، فقد أساءوا فهم الشريعة.. فالحدود في الشريعة زواجر لا انتقام.. وهي في ذلك كأسلحة الردع التي تخزنها الدول في مخازنها، لا لتنتقم بها، وإنما لتحافظ بها على سلطتها ومهابتها.

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه أحمد.

(3) رواه البخاري في الأدب، وأبو داود والحاكم.

(4) رواه ابن ماجة.

النبي المعصوم (387)

ولهذا ورد في الحديث (تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) (1)

وقد ذكر ابن مسعود هيئة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند إقامة بعض الحدود، فقال: (إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بسارق، فأمر بقطعه، وكأنما أسف (2) وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ قال: (وما يمنعني؟ لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم! إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:22)

بل كان الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعترف بأنه أتى ما يوجب الحد، فلا يسأله عن هذا الحد: ما هو؟ وكيف اقترفه؟ بل يعتبر اعترافه هذا ـ الذي قد يعرضه للعقوبة ـ توبة من ذنبه، وندماً على ما فرط منه، فهو كفارة له، فقد روى أبو داود في باب (في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) عن أبي أمامة: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي. قال: (توضأت حين أقبلت)؟ قال: نعم. قال: (هل صليت معنا حين صلينا)؟ قال: نعم. قال: (اذهب، فإن الله تعالى قد عفا عنك) (3)

الحياة

التفت الحكيم إلى الحاضرين، وقال لبات روبرتسون: أترى هؤلاء الحاضرين؟

قال الحكيم: أعمى أنا.. أو متطرف أنا.. إن لم أكن أراهم.

قال الحكيم: أنت ترى بأن لكل واحد من هؤلاء حياته الخاصة، وأسلوب تفكيره، وما يحب، وما يبغض.. وكل هؤلاء لا يحب لأحد من الناس أن يتدخل في خصوصياته.

قال بات روبرتسون: نعم.. ما علاقة هذا بما نحن فيه؟

__________

(1) رواه أبو داود والحاكم والنسائي.

(2) أي بدا عليه الأسى.

(3) رواه أبو داود.

النبي المعصوم (388)

قال الحكيم: ألست ترى بأن أخطر تطرف هو أن نفرض على الناس أسلوبا معينا في الحياة؟

قال بات روبرتسون: أجل.. وذلك ما فعله الإسلام.

قال الحكيم: بل ذلك ما يريد قومك أن يفرضوه بكل الطرق، ثم يعتبرون من يقع أسيرا للأنماط التي يريدون فرضها للحياة وللأحياء حرا.. ويعتبرون المتحرر منها متطرفا.

قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟

قال الحكيم: لقد سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العصر الذي نحن فيه عصر استبداد، فقال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عضوضا فتكون ما شاء الله، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم ملكا جبرية ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) (1)

أتدري ما الفرق بين الملك العضوض، والملك الجبرية؟

قال بات روبرتسون: لا.. هذه المصلطحات لم تدخل دوائر معارفنا بعد.

قال الحكيم: هذه المصظلحات هي التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لينبه العامة والخاصة في كل الأحقاب إلى البحث عن الحياة الحرة التي لا يتسلط عليها أهل الملك العضوض، ولا أهل الملك الجبري.

قال بات روبرتسون: فمن هما؟

قال الحكيم: أهل الملك العضوض هم الذين ابتليت بهم البشرية في أكثر عهودها، وهو ملك يقوم على الجباية.. ودور الحاكم فيه أن يسلب أموال رعيته، فإن لم يكن لها أموال عضها ليمص بعض دمائها.

وأما أهل الملك الجبري، فهم الذين لا يكتفون بسلب الرعية أموالها، وإنما يسلبون منها

__________

(1) رواه أحمد.

النبي المعصوم (389)

حريتها، فيفرضون عليها كيف تفكر، وكيف تعيش، وما تأكل، وما تلبس.

قال بات روبرتسون: فأي بشر هم الذين ابتلوا بهذا النوع من الحكم؟

قال الحكيم: قومي وقومك.. قومي ببعدهم عن الإسلام، وقومك بانحرافهم عن الفهم الصحيح لحقيقة الإنسان، وما تتطلبه حياة الإنسان.

طأطأ بات روبرتسون، وقال: في هذه الناحية أنت محق.. أنا أشعر بأن ساسة قومي متطرفون في سلوكهم مع الرعية.. ولكن هل تسمي ذلك استبدادا؟.. أنا لا أفهم الاستبداد إلا بقوانين الطوارئ التي تفرض عليكم كل حين.

قال الحكيم: أخطر استبداد أن لا يترك لك المستبد إلا خيارا واحدا هو الخيار الذي يختاره لك.. وقومك يمارسون هذا.. ولعلك أنت أيضا تمارسه من حيث تشعر، ومن حيث لا تشعر.

قال بات روبرتسون: لم أفهم..

قال الحكيم: ربما تكون لك.. أو كانت لك قناة إعلامية.. فرحت تملؤها بالإشهارات عن أصناف المأكولات والمشمومات والملبوسات.. وأنت لا يهمك ما يحويه ذلك من مضار ومنافع.. ولكن يهمك الكسب الذي ينال قناتك لتظل تؤدي رسالتها.

سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا فقط.. بل لعلك كنت تشهر لأصناف السجائر..

قاطعه بات روبرتسون، وقال: فلنفرض حصول ذلك.. ألسنا نضع أسفل الإشهار عبارة (مضر بالصحة)

ابتسم الحكيم، وقال: وما تجدي تلك العبارة..

قال بات روبرتسون: يراها ناس فينفرون من السجائر.. فيحقق الإشهار عكس هدفه.

قال الحكيم: فضعوا نفس الإعلان في كل ما تشهرونه.. فأنت تشهرون كل شيء حتى الخنا والفجور تدعون إليه صباح مساء.. لتجعلوا حياة الناس موضوعة في قالب حديدي ختم عليه الشيطان لا يستطيعون منه فكاكا.

النبي المعصوم (390)

قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام حين يقيد الناس بتلك التوجيهات يملؤها بالضيق.

قال الحكيم: لقد ذكرت لك أن الإسلام يتيح لكل إنسان حياته الحرة النظيفة.. فهو لا يتدخل في كل ما يستجم به الناس من أصناف اللهو واللعب بشرط واحد، وهو أن لا تكون مضرة بهم أو بمجتمعهم أو بحقيقتهم الإنسانية ووظيفتهم التي أرسلوا للأرض من أجلها.

سكت قليلا، ثم قال: لعل السبب في حكمك على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتطرف هو ما تراه من بعض المسلمين من عبوس وتجهم، ويعتبرون ذلك دينا.

قال بات روبرتسون: ذلك صحيح.. ألا تعتبر ذلك كافيا في الحكم بالتطرف؟

قال الحكيم: لقد ذكرت لك أنه لا يحكم على أحد إلا من خلال تصرفاته.. ولذلك، فلنرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تنص عليه كتب السنة والسيرة لنرى مدى صدق ارتباط ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد حدث زيد بن ثابت وقد طُلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال: (فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) (1)

فقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بحسب هذا الحديث ـ لا يختلف عن حياة سائر الناس، فلا تكلف فيها ولا تطرف.

وقالت عائشة تذكر موقفا من المواقف التي عاشتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة، وهي دقيق يطبخ بلبن أو دسم، وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً منه فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس بيني وبينها،

__________

(1) البيهقي.

النبي المعصوم (391)

فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركبتيه لتستقيد مني، فتناولت من الصفحة شيئاً فمسحت به وجهي! وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك (1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه، ويتطلف معهم في مزاحه، ومما روي في ذلك أن عجوزا قصدته، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أم فلان، إنّ الجنة لا يدخلها عجوز!)، فبكت المرأة، لأنها أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها صلى الله عليه وآله وسلم أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزاً، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرباً أتراباً} (الواقعة: 35 ـ 37) (2)

وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أحملك إلا على ولد الناقة!) فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! ـ انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير ـ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وهل تلد الإبل إلا النوق؟) (3)

ويروى أن أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن هو؟.. أهوالذي بعينه بياض (4)؟)، قالت: والله ما بعينه بياض! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بلى إنّ بعينه بياضاً)، فقالت: لا، والله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أحد إلا بعينه بياض) (5)

قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام مع ذلك يحرم الغناء.. مع أن النفس الشريفة ترغب فيه.

قال بات روبرتسون: النفس الشريفة والنفس الخبيثة ترغب فيه.. فلذلك أباح الإسلام ما تطلبه النفس الطيبة، ونهى عما تطلبه النفس الخبيثة.

__________

(1) أبو يعلى.

(2) الترمذي.

(3) الترمذي.

(4) أراد به البياض المحيط بالحدقة.

(5) ابن أبي الدنيا.

النبي المعصوم (392)

لقد تعامل الإسلام مع الغناء كما تعامل مع الطعام والشراب وكل شيء.. فأباح الطيبات وحرم الخبائث.. وهو لم يحرمها لأجل ما فيها من متعة، وإنما حرمها لأجل ما فيها من ضرر.. فالإسلام لا يضاد الرغبات التي لا تعقب ألما..

لقد نص الله تعالى على قاعدة هذا، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)

قال بات روبرتسون: ولكن الفقهاء يخالفونك في كل ذلك؟

قال الحكيم: ديننا نأخذه من نبينا قبل أن نأخذه من أقوال الفقهاء.. بل إن أقوال الفقهاء نحاكمها إلى أحاديث نبينا، فإن وافقته قبلناها، وإلا رفضناها.

-\--\-

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيقتاس البيزنطي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (393)

تاسعا ـ حروب

في مساء اليوم التاسع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل دوج مارلت (1).. الرسام.. بوجه لم يصعب علي أن أتبين ما فيه من تغير.

ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

لم يجبهم بشيء.. بل ألقى بين أيديهم القرص الذي سجل فيه حواره التجريبي، ثم قال: هو ذا التسجيل بين أيديكم.. وهو سيجيبكم أفضل مني.. فأنا إلى الآن لا أكاد أعرف شيئا.

ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا دوج يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال أحدهم: ومن لا يعرف محمدا، وهو الشمس التي نستقي من دفئها، ونتنور من نورها.. ولولاها ما كانت للكون ألوانه التي نراها (2).. ولا كان لنا السكينة التي نحياها.

__________

(1) أشير به إلى رسام أمريكي معروف بهذا الاسم، توزع رسوماته على مئات الجرائد في أمريكا والعالم، وقد سبق له النشر في عدد من أكبر الجرائد الأمريكية مثل (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز)، وقد نشر في 23/ 12 / 2002 م رسما يسخر من الرسول (، حيث صور رجلا يرتدي ثيابا عربية اسمه محمد، يقود شاحنة محملة صواريخ نووية، من نوع الشاحنة التي استخدمها توماس ما كفاي مفجر مبنى التجارة الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي عام 1995 م وكتب تحت الرسمة عنوان (ماذا يقول محمد..؟)

كما رسم في إحدى الصحف الفرنسية رسما يمثل النبي (وزوجاته الطاهرات بطريقة حقيرة وقببيحة، وقد كتب أعلى الرسم (بار محمد) وفي أسفل الرسم (انتخاب ملكة جمال البطاطس عند محمد)

كما يرسم في مجلة موجهة للأطفال وعامة الناس، تصدر في مدينة لا فيجاس الأمريكة بعنوان (المحمدية صدقها وإلا...) يوجد بداخلها سخرية بشخص الرسول (ونبوته، واستهزاء بالأحاديث والتعاليم النبوية بطريقة وحقيرة، تغرس في أذهان الأطفال وعامة الناس التنفير من الإسلام ونبيه (، وتصور المسلم في صورة العربي البدائي الإرهابي.

(2) يسيء البعض فهم مثل هذه التعابير، فيرمي قائلها بالشرك، لأنه لا يتصور في العبارة إلا وجها واحدا، وهو أن محمدا (هو خالق ألوان الكون، أو الكون، ولكن مرادنا من أمثال هذه التعبيرات هو أن الحقائق التي جاء بها محمد (هي التي طبعت الكون في أذهان المؤمنين بها بالصورة الجميلة التي يروها بها، قال الإمام بديع الزمان: (ان حياة محمد (- المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.

فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة)

النبي المعصوم (394)

قال آخر: ومن لا يعرف محمدا.. وهو النبيل المتسامح الرحيم اللطيف الودود..

وقال غيرهما أوصافا مثل هذه..

لم يجبهم دوج بشيء.. بل نزع ـ في ثقة عجيبة ـ الغلاف عن لوحة كبيرة كان يحملها، وهي تحمل صورة رجل يحمل سيوفا كثيرة يقتل بها كل شيء يجده أمامه، ثم قال: هذا هو محمد.. إن هذه الصورة تمثل الإرهاب الذي كان يمارسه محمد.. ألا ترون كثرة السيوف التي تمتلئ بها هذه اللوحة.. إن كل سيف منها يمثل معركة من المعارك الكبرى التي خاضها محمد إما بنفسه.. أو بالمرتزقة الذين أغراهم بالجنة ليقوموا بأشنع المعارك في تاريخ الإنسانية.

قال ذلك، ثم أشار إلى سيف من السيوف، وقال: هذا السيف ـ مثلا ـ يمثل غزوة سيف البحر.. لاشك أنكم لم تسمعوا بها.. إنها من المعارك الكبرى التي خاضها محمد مع المرتزقة الذين صاحبوه.

أشار إلى سيف آخر، ثم قال: وهذه غزوة رابغ.. وهذه بواط العشيرة.. وهذه سفوان وتسمى غزوة بدر الأولى.. وهذه غزوة بدر الكبرى.. وهي من الحروب الكبرى التي خاضها محمد.. وهذه غزوة بني قينقاع.. وهذه غزوة أحد.. وهذه غزوة حمراء الأسد.. وهذه غزوة بني النضير.. وهذه غزوة بني المصطلق.. وهذه غزوة الخندق.. وهذه غزوة بني قريظة.. وهذه غزوة الحديبية.. وهذه غزوة خيبر.. وهذه غزوة عمرة القضاء.. وهذه غزوة فتح مكة.. وهذه غزوة حنين.. وهذه الطائف.. وهذه غزوة تبوك.

لقد بلغت غزوات محمد التي غزا فيها بنفسه تسعاً وعشرين غزوة.. أما سراياه.. أي

النبي المعصوم (395)

الغزوات التي لم يقُدها بنفسه، بل أرسل إليها بعض أصحابه، فعددها تسع وأربعون. وقيل إنها تزيد على سبعين (1)..

هل يمكن لنبي أن يفعل هذا.. هل يمكن لنبي أن يخوض كل هذه الحروب..!؟

تأملوا حياة المسيح المتسامح.. وقارنوها بحياة هذا النبي المقاتل.. بل الذي لا يهدأ عن الحرب.

عودوا إلى الكتاب المقدس ذلك الكتاب المملوء بالسلام.. وأحرقوا تلك المصاحف التي كتبها لكم محمد، ليأمركم من خلالها أن تقاتلوا الناس كافة.

قام بعض الجمع غاضبا، وهو لا يكاد يسمع صوت الحكيم الذي أمرهم بالهدوء، فقام دوج يحتمي بالحكيم، ويقول: إن ما تفعلونه هو الإرهاب.. فمحمد الذي تتبعونه.. وتركتم له عقولكم هو الذي جعلكم إرهابيين تريدون أن تقمعو الفن النبيل بالسلاح الذي لم يعلمكم محمد غيره.. لأنه لم يكن لديه إلا السلاح.. ولم يكن يمارس في حياته غير الإرهاب.

قال الحكيم: مهلا ـ يا أخي ـ لا ينبغي أن تصب الزيت في النار، فتحرقهم، وتحرق نفسك.

قال دوج: بل ينبغي أن أصبها حتى أحرق ذلك الذوبان في محمد.. والذي جعلهم يمارسون الإرهاب بكل أصنافه.

قال الحكيم: ألا ترى أن ما تمارسه الآن نوع أخطر من الإرهاب نفسه؟

قال دوج: لا.. أنا فنان مبدع.. وقد استطعت بريشتي أن أصور الحقيقة التي عجزت جميع أسفار الدنيا أن تصورها.

قال الحكيم: إنك تصور ما توهمته حقيقة.. ونحن لا نعتب عليك وهمك.. ولكن نعتب

__________

(1) عدد غزوات رسول الله (التي غزاها بنفسه بناء على ما ذكره ابن إسحاق 27 غزوة وبعوثه وسراياه 38، قال الطبري: وكانت غزواته بنفسه ستاً وعشرين غزوة.. والكلام المثبت في الأصل بناء على المزاعم التي يزعمها المسيحيون في كتبهم ومواقعهم.

النبي المعصوم (396)

عليك إصرارك عليه.

نحن وإياك نشبه مدعيا ومتهمين.. فأنت المدعي ونحن المتهمون.. فهل ترى من العقل والأدب أن تتهم شخصا، ثم لا تسمح له أن يغضب لأنك تتهمه من دون بينة.. ثم لا تعطي له بعد ذلك الفرصة لأن يدافع عن نفسه، ويدفع التهم التي تكلها له؟

سكت دوج، فقال الحكيم: هذا نوع من الإرهاب.. إنك ـ يا أخي ـ تقيم بتصرفك هذا محاكمة عسكرية، ليس فيها شهود ولا محامون..

قال: ولكن محمدا مات.. ولا حرج علي أن أرسمه بأي صورة أشاء.

قال الحكيم: أرأيت لو أن رساما لا يقل عنك إبداعا انتظر حتى تموت أمك، ثم رسمها بصورة مومس بغي.. هل تقبل ذلك؟.. أم هل تعتبر ذلك من الحرية؟

قال دوج: لا شك أني لا أقبل.. ولكن هي أمي..

قال الحكيم: وهذا محمد.. وهو بالنسبة لكل مسلم أعظم حرمة من أبيه وأمه وأخيه وزوجه وولده.. إنه بالنسبة للمسلمين أحب إليهم من أنفسهم.. إنه بالنسبة لهم العين التي بها يبصرون.. والأذن التي بها يسمعون.. والروح التي بها يحيون..

وأنا أقول لك بكل صراحة.. لو أنك رسمت هذه الصورة.. وقلت للناس: هذه صورة فلان من الناس من المسلمين.. ربما لو قلت ذلك لن يهتم أحد.. ولن يبالي أحد حتى من رسمته لا يبالي.. أما محمد.. فهو القداسة بعينها.. ولا ينبغي للقداسة ان تلطخ.

قال دوج: ولكني ذكرت لكم أدلتي.. ألم تر كل تلك السيوف.. إن كل سيف منها دليل قائم بذاته.. إن كل سيف منها لم يضعه محمد حتى ملأه دماء.

انتفضت الجماعة غاضبة، فقال الحكيم: مهلا ـ يا جماعة ـ إن هذا الرجل ـ على ما يبدو ـ طالب حق.. وقد ذكر لنا من خلال صورته هذه الشبه التي تحيك في نفسه، وتحول بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والأدب الذي أدبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا لأن نحل له الإشكالات التي وقع فيها، ونجيبه

النبي المعصوم (397)

عن الشبه التي جعلته يعتقد في نبينا هذا.

قال دوج: لا.. أنا لست واقعا في أي شبهة.. بل أنا متأكد من كل ما فعلته مصر عليه غاية الإصرار.

قال الحكيم: لا بأس.. ولكن المنطق العلمي يدعوك لأن تسمع لنا، ثم تجيبنا بعد ذلك بما تشاء أن تجيبنا به.

قال دوج: وهل لأمثالكم منطق علمي حتى يمكن أن نسمع له؟

قال الحكيم: لا بأس.. سنعرض عليك ما عندنا.. ولك الحرية بعد ذلك أن تقبله أو أن ترده.

قال دوج: أنا فنان مبدع.. وليس للفنان المبدع أن يضيع وقته مع أمثالكم.

قال الحكيم: لا بأس.. اعتبرنا مادة لفنك.. اسمع لنا.. ثم صور ما تشاء مما نقوله بما تشاء من ألوانك.

سكت دوج، فقال الحكيم: إن ما ذكرته من شبه يستدعي البحث العلمي في ثلاثة أمور:

أما أولها.. فهو في شرعية الحرب من خلال مصادركم ومن خلال مصادرنا، باعتبار المصادر هي الأساس الذي نتلقى منه أفكارنا وسلوكنا وحياتنا.

وأما الثاني.. فهو النظر في أسباب الحروب التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونقارنها بالحروب التي مارسها رجال الكتاب المقدس وغيرهم على امتداد تاريخ البشرية.

وأما الثالث.. فهو النظر في الأخلاق التي صاحبت حروب محمد.. والتي صاحبت حروبكم.

نظر إلى الجماعة، وقال: أظن أن هذه الأمور الثلاثة التي نقارن فيها بيننا وبين الآخر تكفي للدلالة على حقيقة الحروب التي مارسها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال دوج: لا بأس.. سأستمع لك.. ولكن ذلك لا يعني أنني أوافقك.

النبي المعصوم (398)

قال الحكيم: أنا لا يهمني أن توافقني أو تخالفني.. بل يهمني شيء واحد هو أن أذكر لك ما عندي من الحقائق، وترد عليك بما لديك منها لنصل إلى الحقيقة.. فليس لنا من هدف في هذه الحياة إلا الوصول إلى الحقيقة.

شرعية الحرب

قال رجل من الجمع: فلنبدأ من الأول.. من شرعية الحرب من خلال مصادرهم، ومن خلال مصادرنا.

قال الحكيم: أما مصادرهم، فكثيرة، منها ما يرجع إلى فلسفاتهم ومذاهبهم وتصوراتهم للحياة.. وهذه لا يمكن أن نجد فيها إلا استباحة سفك الدماء لأي سبب من الأسباب.. ولذلك سنستبعد هذه المصادر.

وسنكتفي بأنظف مصادرهم وأقدسها.. وهي المصادر التي فخر علينا بها هذا الفنان الآن.. وهي أسفار الكتاب المقدس.

الكتاب المقدس

أخرج من محفظته نسخة من الكتاب المقدس، ثم قال: لدي نسخة من الكتاب المقدس.. أنا لا أكف عن مطالعتها.. وسأذكر لكم منها موقف هذا الكتاب من الحروب.. ثم نقارن هذا الموقف بما تقوله مصادرنا.. لنرى من خلال هذه المقارنة مدى شرعية الحرب بين مصاردهم ومصادرنا.

سنكتفي من الكتاب المقدس بهذه الأسفار: التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال.

أما فى سفر العدد، فنرى موسى بعد خروجه بقومه من مصر يرسل رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها.. ففيه: (فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى

النبي المعصوم (399)

إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها، وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك} (العدد: 13/ 26 - 29)

وجاء فى سفر صموئيل الأول: (فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة} (صموئيل الأول: 25/ 10 - 14)

وفى سفر الملوك الثانى: (وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب؟) (الملوك الثانى: 3/ 4 - 8)

وفى سفر حزقيال: (وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً) (حزقيال:21/ 1 - 5)

وفى سفر يوشع: (وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد

النبي المعصوم (400)

قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم) (يوشع: 23/ 3 - 5)

وفى سفر القضاة: (وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل) (القضاة: 18/ 27 - 30)

وفيه: (فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش)

وفى سفر صموئيل الأول: (وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل) (صموئيل الأول: 4/ 1 - 4)

وفى سفر التكوين: (فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت) (التكوين: 34/ 25 - 29)

وفى سفر التكوين: (فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من

النبي المعصوم (401)

شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب) (التكوين: 14/ 1416)

وفى سفر العدد: (فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه) (العدد: 21/ 34 - 35)

وفى سفر العدد: (ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها) (العدد: 25/ 16)

وفيه نرى نرى أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله.. ففيه: (وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم) (العدد: 33/ 50 - 53)

ومثل ذلك ما ورد فى سفر صموئيل: (فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم.. فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل) (صموئيل:45 - 47)

وفى سفر صموئيل الأول: (فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة) (صموئيل الأول: 23/ 6)

وفى سفر المزامير: (يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم) (المزامير: 18/ 35 - 41)

هذه بعض النصوص التي تدل على مشروعية الحرب والقتال، فالحرب ـ حسب هذه

النبي المعصوم (402)

النصوص ليست شيئا مكروها.. بل هي دائما تتم بمباركة الرب ومعونته، وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع، كما في سفر (حزقيال:21/ 5)

قال دوج: أنت ترجع للعهد القديم.. ولكن العهد الجديد يقول: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر)

قال الحكيم: وهو يقول كذلك: (لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسى سلاماً، بل سيفاً، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) (إنجيل متى: 10/ 34 - 36)

القرآن الكريم

قال رجل من القوم: فحدثنا عن موقف القرآن من الحرب.

قال الحكيم: لنعرف موقف القرآن الكريم من الحرب لا بد أن نقرأ القرآن الكريم جميعا لنرى فيه مدى حرمة الإنسان.. حرمة الإنسان بكل ما يرتبط به من نفس ومال وعرض وحرية.. وغيرها.

لقد ذكر القرآن من الأمور المنكرة التي ذكرتها الملائكة متعجبة منها (سفك الدماء)، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)

وذكر القرآن الكريم قصة ابني آدم، وأثنى كل الثناء على الابن الذي تعفف عن قتل أخيه، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ

النبي المعصوم (403)

أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} (المائدة)

وذكر الله تعالى قصة قتل موسى للقبطي، وكيف ندم على ذلك، مع كونه لم يقتله متعمدا، فقال: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} (القصص)

أرأيتم ندم موسى ـ عليه السلام ـ على قتله، مع كونه كان ظالما.. بل اعتبر ذلك من عمل الشيطان.. ثم استغفر الله.. واعتبر نفسه ظالما بفعله ذلك!؟

قارنوا هذا بما ورد في التوراة من نفس الحادث.. حيث لا يبدي فيه موسى أي ندم على فعله.. لتروا مدى ما يحمله الكتاب المقدس من مشروعية لسفك الدماء.

قال دوج: أنت تنتقي من القرآن ما يحلو لك.. لماذا لا تقرأ الآيات القرآنية الكثيرة التي تحتوي على كلمة (قتال)..

لقد قرأت كتب العالم المقدسة.. فلم أجد لفظا مستعملا بهذه الكثرة التي استعمل بها القرآن كلمة (القتال) وما في معناها.. إنها تزاحم كلمة الصلاة.. بل تكاد تفوق عليها.

قال الحكيم: صدقت.. لقد وردت كلمة القتال في القرآن كثيرا.. ولكن العبرة ليس بكثرتها، وإنما بنوع الأوامر المرتبطة بها.

قال دوج، وهو يضحك بصوت عال: القتل هو القتل.. ولا يفوح من هذه المادة إلا روائح الدماء.

قال الحكيم: دعنا من هذا الأسلوب.. ولنتحدث حديث العقلاء.. إن المنطق العلمي يستدعي النظر في كل جملة أو آية وردت فيها كلمة القتال في القرآن لنحلل المراد منها.. ثم نرى بعد ذلك ما نوع القتال الذي يطلب القرآن من المسلمين القيام به.. هل هو قتال إرهابيين ظلمة..

النبي المعصوم (404)

أم هو قتال أهل الحق دفاعا عن حقهم.

التفتت الجماعة إلى دوج، وقالت: صدق الرجل.. وقد ألزمك الحجة.. ولا مناص لك من أن تذكر له هذه المواضع التي ورد فيها لفظ القتال لنرى المراد منها.

قال دوج: أول ما يصادفك في القرآن هذه الآية التي نسخت جميع ما ورد في القرآن من الأمر بالسلام: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} (التوبة:36) (1)

قال الحكيم: أنت تقص الآية، وتقطعها عن سياقها.. فالآية لا تأمر إلا بقتال المقاتلين.. لقد جاء فيها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة:36)

ثم إن الله تعالى لم يأمر المؤمنين بالقتال كافة إلا بعد أن أمرهم بالدخول في السلم كافة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)

وليس في القرآن ناسخ ومنسوخ.. كل ما في القرآن محكم.. فكلام الله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)

ثم لماذا تعتبر الآية منسوخة، ولا تعتبرها ناسخة؟

قال دوج: هذا ما ذكره المفسرون.

قال الحكيم: أنت تنتقي من المفسرين من تشاء، كما تنتقي من القرآن ما تشاء.. وهو منهج لا علاقة له بالعلم ولا بالمنطق.

قال دوج: فإذا عزلنا المفسرين، فمن يعبر عن القرآن؟

قال الحكيم: القرآن.. القرآن هو الوحيد الذي له الحق في التعبير عن نفسه.. ألا ترى أني حينما أذكر لك الكتاب المقدس لا أذكر لك قول أي شارح ولا أي مفسر؟

__________

(1) هذا ما يفعله المسيحيون في كتبهم ومواقعهم من وجوه التلاعب بالقرآن.. بل إنهم أحيانا يمزجون بين آيات مختلفة ليستدلوا بها على ما يريدون.

النبي المعصوم (405)

قالت الجماعة: نعم.. لاحظنا ذلك.. فالمسلمون في حوارهم لا يستخدمون إلا النصوص المقدسة.

قال الحكيم: لأنه لا يحق لأحد أن يملي على الله ما يقصد.. ثم إن الله الذي علم كل شيء كيف ينطق وكيف يفهم غيره لا يعجز عن أن يفهمنا مراده من غير حاجة إلى من يعقب عليه (1).

قال دوج: لا بأس.. لن أذكر لك كلام أحد من المفسرين.. سأقتصر على القرآن.. إن معي مصحفا.. وسأقرأ عليكم منه ما يفند ما يدعيه هذا الرجل.

قال الحكيم: كل القرآن حديث عن السلام.. حتى الآيات التي توهمتها تدعوا للحرب هي في أصلها تنطلق من حب السلام.. ومن البحث عن السلام..

اقرأ علي ما شئت منها لتعرف من خلالها أن القرآن لم يأذن بالقتال إلا للضرورة القصوى التي استدعت ذلك وفي حدود ضيقة جدا.. ولولا ذلك لظلت الحرب، وظل معها سفك الدماء جريمة من الجرائم الكبرى التي تتنافى مع وظيفة الخلافة التي أنيطت بالإنسان في الأرض.

فتح دوج المصحف، وقد وضع فيه علامات محددة على المواضع التي يريد قراءتها، ثم قال: لقد ورد في القرآن.. في (البقرة:190): {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

قال الحكيم: واصل قراءة الآية، فهي تجيبك.

واصل دوج: {.. الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)

قال الحكيم: أرأيت.. لقد حددت الآية الصنف الذي تجب مقاتلته، وهو من يقاتلهم دون من عداهم.. ومع ذلك لم تكتف بذلك.. بل نهت عن الاعتداء بأبلغ الصيغ.. وهي الإخبار بأن الله لا يحب المعتدين.. وهذه الكلمة تمثل عند المؤمنين الصادقين قمة أنواع الزجر.. لأن كل مؤمن

__________

(1) ذكرنا في مواضع كثيرة أنه ليس من المنهج العلمي اعتبار التفاسير القرآنية أو شروح الحديث أو كلام أي كان من العلماء حجة يحتج بها على الإسلام.. فالإسلام لا يمثله إلا مصادره الأصلية المقدسة التي ثبتت عن طريق القطع.. وما عدا ذلك يمكن قبوله ورفضه، ولذلك لا يستطيع أي كان أن يناظر بمثل تلك النقول.

النبي المعصوم (406)

صادق لا يهتم في حياته بشيء كاهتمامه بحب الله له، ورضاه عنه.. فإذا علم أن الله لا يحب من تصرف تصرفا أو سلك سلوكا معينا كان أبعد الناس عنه.

نظر إلى دوج، ثم قال: هل ترى سلاما أعظم من السلام الذي دعت له هذه الآية؟

قال دوج: ولكنها أمرت بالقتال!؟

قال الحكيم: وهل ترى من الحكمة والعقل والسلام أن يسلم أهل الحق رقابهم لأعدائهم ليستأصلوها كما يشاءون!؟.. هل هذا هو السلام!؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لو كان هذا هو السلام لما بقي على وجه الأرض إلا المجرمون.

فتح دوج المصحف على موضع آخر، وراح يقرآ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة:191)

قال الحكيم: واصل قراءة الآية.. ما بالك تقطعها.

واصل دوج: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ} (البقرة:191)

قال الحكيم: ألا ترى أن الآية الكريم تدعو إلى معاملة المعتدين بالمثل.. ثم تعلل ذلك للنفوس المؤمنة الكارهة لسفك الدماء بأن الفتنة التي يوقعها هؤلاء المجرمون أعظم من القتل.

فتح دوج المصحف، وراح يقرأ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة:193).. ألا ترون أن هذه الآية تأمر بالقتال لأجل نشر الدين؟

قال الحكيم: لا.. إنها لا تأمر بالقتال لنشر الدين.. وإنما تأمر به لحفظ الدين.

قال دوج: كلاهما سواء.

قال الحكيم: لا.. بل هما مختلفان.. فالقتال لنشر الدين إكراه.. وقد حرم الإكراه، وقد قال

النبي المعصوم (407)

تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256).. أما القتال لحفظ الدين، فهو قتال ضد الذين توجهوا برماحهم وسيوفهم للدين ليستأصلوه.

لقد ذكر القرآن ذلك، فقال تعالى مبينا علة الإذن بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (الحج)

ومع ذلك.. فقد جعل القرآن لذلك القتال المضطر إليه غاية ينتهي إليها، وهي انتهاء المعتدين عن عدوانهم، فقال تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} وقد وضعت الآية بذلك شعار المؤمنين في قتالهم.. وهو أنهم لا يقاتلهم إلا الظالمين.. أما من عداهم، فلا يجوز بحال من الأحوال سفك دمائهم.

قرأ دوج قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)، ثم قال: ألا ترون هذه الآية كيف تحض على القتال؟

قال الحكيم: في قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} دليل على أن الإسلام لم يحضهم على القتال إلا للضرورة.. ومع ذلك، فإن المسلم لا يقاتل من يقاتله حبا في سفك الدماء، وإنما لأنه لا يمكن أن يدافع عن نفسه وعن دينه إلا بذلك.

قرأ دوج قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة:194)

قال الحكيم: أنت ترى الآية تأمر بالمعاقبة بالمثل.. وعدم تجاوز المثل.

قال دوج: وهذه نقطة الاختلاف الكبرى بين المسيحية والإسلام.. فالمسيح أمرنا بالتسامح وبمحبة أعدائنا لا بمجازاتهم بالمثل.

النبي المعصوم (408)

قال الحكيم: لكل شيء ميزانه المحدد.. فقد يصلح التسامح في أحوال معينة، ومع بعض الناس.. ولكنه لا يصلح في كل الأحوال، ولا مع كل الناس.

ولهذا، فإن القرآن بالنسبة للأفراد، وفي الأحول الخاصة التي لا ترتبط بها المصالح العامة يحض على العفو والحلم ومقابلة الإساءة بالإحسان، كما قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)

ولكن مع ذلك، فإن المعاملة بالمثل حق من الحقوق لا يلام فاعله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

هذا كله في المصالح الخاصة.. أما المصالح العامة فإن التشدد في الحفاظ عليها شريعة عادلة لا يختلف العقلاء في اعتبارها.

قال دوج: التسامح لا يتجزأ.

قال الحكيم: ولكنك إن تسامحت مع المجرم أخذت حق البريء.. وإن تسامحت مع القاتل ظلمت المقتول.. وإن تسامحت مع المتكبر اعتديت على المستضعف.

قال دوج: كيف ذلك؟

قال الحكيم: أرأيت لو أن قانون العقوبات نص في بلد من البلدان على تكريم اللصوص، وعدم عقوبتهم.. ماذا سيحصل؟

لم يجب دوج، فنطق أحد الحاضرين، وقال: حينها ستصبح كل البلدة لصوصا.

قال الحكيم: فهذا ما يطلبه هذا الفنان المبدع من الإسلام.. إنه يطلب أن يستسلم أهل الحق لأهل الباطل، ويدعوا لهم البلاد والعباد، ليتصرف المستكبرون بما تهواه نفوسهم، وكل ذلك

النبي المعصوم (409)

من أجل شيء واحد، وهو أن لا يصفهم المستكبرون بالإرهاب..

إنه يطلب من جهة المستضعفين أن تلقي أسلحتها، بينما لا يتجاسر أن يقول كلمة واحدة لأولئك المستكبرين الذين ملأوا الأرض أسلحة ودمارا.

لم يجب دوج بشيء، بل فتح المصحف، وراح يقرأ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:217)

ثم قال: ألا ترون القرآن كيف يحض على القتال في الأشهر الحرم.. وهي الأشهر التي اتفق العرب على ألا قتال فيها؟

قال الحكيم: إن القرآن يكره النفاق، ويكره أساليب المنافقين.

قال دوج: وما علاقة هذا بالنفاق؟

قال الحكيم: إن هؤلاء المشركين يشبهون أولئك المستعمرين الجشعين الذين يقتلون العباد، وينهبون البلاد، ثم يسنوا بعد ذلك من القوانين ما شاءوا، فإن خالفها بعضهم رموه بما شاءت لهم أهواؤهم أن يرموه به.

إن هؤلاء المشركين الذين بدا لهم أن يعظموا الأشهر الحرم نسوا أن يعظموا الحرم نفسه.. الحرم الذي عذبوا فيه المؤمنين.. بل الحرم الذي أرادوا أن يقتلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولهذا، فإن القرآن يذكر المبررات التي تبيح استعمال السلاح في هذه المواقف، وهي مبررات لا يمكن لعقل سليم أن يرفضها.

قرأ دوج قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)

النبي المعصوم (410)

ثم قال: ألا ترون القرآن كيف يعتبر القتال سنة من سنن الأنبياء والصالحين؟

قال الحكيم: لولا الأسلحة التي ووجه بها الصالحون ما اضطروا للقتال.. وفي الآية دليل على شدة العناء الذي لاقاه هؤلاء من أعدائهم.

قرأ دوج قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} (آل عمران).. وفي القرآن: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:111)

ثم قال: ألا ترون هذا الإغراء الذي يغري به القرآن من قاتل في سبيل الله؟

قال الحكيم: إن تقييد القرآن للقتل بهذه الكلمة العظيمة: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} دليل على شرف هذا القتال وشرف القضية التي يحملها.. فهؤلاء لم يقاتلوا من أجل مصالحهم المحدودة، بل قاتلوا من أجل الحق الذي وهبوا أنفسهم له.

قال دوج: وهو نشر الإسلام.

قال الحكيم: لقد ذكرت لك أن الإسلام لا يمكن أن ينشر بالسيف.. لأن الإسلام هو تسليم النفس لله.. وتسليم النفس لله لا يكون إلا عن طواعية مطلقة.

قال دوج: فلم يقاتلون إذن؟

قال الحكيم: لنصرة المستضعفين وإزالة الحواجز التي تقف بينهم وبين حريتهم.. وسترى في الآيات التي ستقرؤها هذا المقصد القرآني الشريف الذي يميز الجهاد في الإسلام عن كل قتال في الدنيا.

قرأ دوج قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى

النبي المعصوم (411)

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران:195)

قال الحكيم: أنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف ذكر الله تعالى عذر هؤلاء المقاتلين الذي دفعهم للقتال.. فقد أخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله.

ولو أن أعداءهم لم يفعلوا هذا بهم ما قاتلوهم ولا قتلوهم ولا عرضوا أنفسهم للقتل بسبب ذلك.

قرأ دوج قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:74)

ثم قال: ألا ترون في هذه الآية كيف يأمر القرآن بقتل من يهتمون بالحياة الدنيا ويعمرونها؟

قال الحكيم: أخطأت في فهمك لكلام الله.. فهؤلاء الذين يشرون الحياة الدنيا الذين أمر المؤمنون بقتالهم إنما يشرونها بالظلم والاستبداد والاستعمار.. ولو أنهم اشتروها بالطرق المشروعة لما عرض لهم أحد.

قرأ دوج قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)

قال الحكيم: هذه الآية هي سيدة آي الباب.. وهي الحكم الذي يرجع إليه في فهم كل ما يرتبط بالقرآن الكريم من آيات القتال والجهاد.

قال دوج: ولكن مثل هذا الأمر بالقتال لا نجده في المسيحية.

قال الحكيم: لأن المسيحية لم تكن في يوم من الأيام.. هي ولا سائر الأديان.. دين الخلاص..

النبي المعصوم (412)

غضب دوج، وقال: كيف تقول ذلك.. والمسيحية هي دين الخلاص؟

قال الحكيم: الخلاص بمفهومه الشامل الذي يعني الحياة بجميع أركانها لم يكتمل إلا في الإسلام.. فإن كان المسيحي ومثله كل متدين بأي دين من الأديان، يسعى لخلاص نفسه.. فإن المسلم مطالب بأن يخلص كل المستضعفين.. ولهذا فإن الجهاد في الإسلام لا ينسخ أبدا ما دام هناك من يكتوي بنيران الظلم والعبودية والقهر.

فإن وجد من يريد أن ينسخ الجهاد فعليه أن يخلص الأرض من المستكبرين المستبدين الظالمين.. وحينذاك، فلن يرفع مسلم سلاحا في وجه أحد.. فإن رفعه قتل به.

قرأ دوج قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء:90)

قال الحكيم: هذه الآية كذلك مرجع من المراجع الكبرى التي يفهم بها معنى الجهاد.. فالقتال لا يوجه إلا للمقاتلين.. فإن اعتزل الظالمون أو طلبوا السلام وجب على المسلمين أن يجيبوهم له.

وقد صرحت بذلك آية أخرى يقول فيها الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (لأنفال:61)

انتفض دوج، وقال: أين تجد هذا في واقع المسلمين.. وأعداؤهم يطلبون منهم السلام، وهم يأبون إلا الحرب؟

ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن رجلا غصب أرضك، واستولى على أملاكك، فإن غضبت وثرت، أرسل لك بكبرياء من يطالبك بالسلام، فإن شرطت عليه أن يرجع لك حقوقك أولا رفض، وقال: ليس عندي إلا السلام.

فهل تراك تقبل؟

النبي المعصوم (413)

سكت دوج، فقال الحكيم: هذا ما حصل مع المسلمين في كل معاركهم مع أعدائهم.. استعمروا أرضهم، ونهبوا ثرواتهم.. فإذا ما قام أحد منهم يطالب بحقه اعتبر إرهابيا، واعتبر المعتدي مسالما.

قرأ دوج قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأنفال:17)

ثم قال: ألا ترون كيف يحرض إله المسلمين المسلمين على القتال؟

قال الحكيم: القتال من أجل الحق شرف.. لأن السكوت عن الظلم والهوان والذلة مهانة وذلة وضعف.. والله لا يعين أمثال هؤلاء.

قرأ دوج قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (لأنفال:39)

قال الحكيم: لقد علل الأمر بالقتال في هذه الآية بسد ذرائع الفتنة، والفتنة هي الصد عن سبيل الله وقهر المستضعفين والاستيلاء على حقوقهم.

قرأ دوج قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} (الأنفال)

قال الحكيم: هذه الآية تبين جنس الذين يقوم المؤمنون بقتالهم.. فهم قوم مستكبرون طاغون ظالمون.. لا يحترمون الإنسان ولا يبالون بسفك الدماء.. وهم فوق ذلك حلفاء للشياطين.

قرأ دوج قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة:5)

النبي المعصوم (414)

قال الحكيم: واصل قراءة الآية والآيات التي بعدها.. فلا يمكن أن تفهم أي كلام بتقطيعه كما تشتهي.

نظر دوج إلى الحكيم، ثم راح يقول: سأقرأ ما تشتهي إلى أن توقفني.. ولكنك لن تشم في هذه الآيات إلا روائح الدماء.

أخذ يقرأ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} (التوبة)

أوقفه الحكيم، وقال: هل هناك كتاب في الدنيا يتكلم عن أعدائه ـ الذين استعملوا كل الأساليب الخسيسة لاستئصاله ـ بهذا الأسلوب!؟

إنه يتحدث عن حقوق أعدائه الكثيرة.. ويطلب من المسلمين الذين أصابهم ما أصابهم من أعدائهم أن يوفوهم بها في لحظات نصرهم.

إنه يطلب من المسلمين أن يجيروا المشركين الذين لم يكن لهم إلا شعار واحد هو استئصال المؤمنين.

وهو عندما يأمر بالقتال يقصره على أئمة الإجرام دون غيرهم من العامة والبسطاء.

النبي المعصوم (415)

ثم هو يأمر المرة بعد المرة بالتسامح مع هؤلاء وقبولهم إخوانا في الله إن تابوا عن سلوكهم الذي كانوا يسلكونه.

هنا انتفض دوج، وقال: هذا هو الإكراه بعينه.

قال الحكيم: لا.. ليس هذا إكراها.. لقد جاء الإسلام في بيئة جاهلية وثنية تمتلئ بالكهانة والسحر ووأد البنات وظلم المرأة والعبيد.. فلذلك لم يرض من هؤلاء إلا الإسلام، بعد أن أتاح لهم فرصة التفكير فيه.. أما غيرهم من أهل الكتاب، فلم يتعرض لهم عربا كانوا أو غير عرب.

قال دوج: أليس هذا إكراها؟

قال الحكيم: وهل فرض الدولة للقيم الحضارية على الشعب إكراه.. هل إذا أمرته بالنظاقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين ظلم وإكراه.

قال دوج: ولكن الإسلام ليس هذا فقط؟

قال الحكيم: بل هذا هو الإسلام.. الإسلام هو القيم النبيلة التي لو بحثت في جميع أسفار العالم المقدسة وغير المقدسة.. فلن تجد أنبل منها ولا أكرم منها ولا أشرف منها.

قال دوج: هكذا أنتم ـ معشر المسلمين ـ لا تعرفون غير الفخر.

قال الحكيم: المسلمون لا يفخرون بأنفسهم.. بل يعترفون بقصورهم عن تمثيل الإسلام في صورته المثلى.. ولكنهم يعتقدون أن الله الذي خلق هذا الكون ووفر له جميع أسباب الهداية لم يضيع البشر.. بل أرسل لهم من أنوار الهداية ما يرفع عنهم كل ظلمة، ويملؤهم بكل حقيقة.

قال دوج: دعنا من هذا.. وأجبني: ألم يحو القرآن كلمة الإرهاب؟

ابتسم الحكيم، وقال: أجل.. لقد وردت مادة (رهب) ومشتقاتها في القرآن الكريم في اثني عشر موضعا..

انتفض فرحا، وهو يقول: أرأيتم.. لقد ذكرت لكم بأن القرآن هو كتاب الإرهاب.. إنه يذكر الإرهاب اثني عشر مرة.

النبي المعصوم (416)

التفت الجمع إلى الحكيم، وفي عيونهم تساؤلات كثيرة، فقال: سأقرؤها عليكم واحدة واحده:

أما الأولى.. فهي قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40) (1)، والرهبة هنا تعني الخوف من الله.. فالخوف هو السوط الذي يكسر نوازع الشر في الإنسان.

وأما الثانية، فقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة:82) (2)، فالرهبان الصادقون هم الذين حملهم الخوف من الله إلى اعتزال كل ما يبعدهم عنه أو ما يغضبه عليهم.

وأما الثالثة، فقوله تعالى حكاية عن السحرة: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (لأعراف:116) (3)، فالسحرة استعملوا سلاح سحرهم للتاثير في بث الرعب في الحاضرين.

__________

(1) ومثل هذا قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51)، وقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الانبياء:90)

(2) ومثل هذا قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31) ’، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة:34)، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:27)

(3) وقريب من هذا قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام ـ: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (القصص:32)، فهو من الخوف العادي الذي يعتري أي إنسان.

النبي المعصوم (417)

وأما الرابعة، فقوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (لأعراف:154)، وهي تتحدث عن تأثير مخافة الله في السلوك الصالح.

وأما الخامسة، فقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (لأنفال:60)

انتفض دوج قائلا: هذه هي الآية التي أريدها.. إنها الآية التي تشرع الإرهاب، وتأمر المؤمنين به.

ابتسم الحكيم، وقال: بل هذه آية السلام.. فهي تشرع للسلام.. وتأمر المؤمنين بالإعداد له.

قال دوج: كيف ذلك، وهي تنص صراحة على إرهاب الأعداء؟

قال الحكيم: ألم تفهم من الآيات السابقة أن الخوف جند من جند الله التي يقمع بها الله نوازع الشر في الإنسان؟

قام رجل من الجمع، وقال: هذا صحيح.. وأنا عالم نفس.. وأعلم أن الخوف الذي يستعمل استعمالا صحيحا له تأثير كبير في حياة صاحبه..

ولهذا، فإن المتهور ـ الذي نزع الخوف من نفسه ـ قد يقع في المهالك التي لا يقع فيها من تسلح بسلاح الخوف.

قال الحكيم: تصور لو أن دولة من الدول رفعت كل ما يملؤها بالهيبة في نفوس أعدائها.. فلم يكن لها جيش ولا شرطة ولا أمن يحفظ شوارعها وحدودها.. هل يمكن لهذه الدولة في عالم يمتلئ بالذئاب أن يبقى لها وجود؟

قالت الجماعة: لا.. بل ستصبح هذه الدولة ورعيتها مطمعا لكل طامع.

النبي المعصوم (418)

قال الحكيم: فلذا كان في تسلحها بأنواع القوة ردعا لأعدائها، فلا يفكر أحد ـ مجرد تفكير ـ في المساس بها.

قالت الجماعة: ذلك صحيح.

قال الحكيم: وبذلك يكون الإرهاب هو السلام.. فالقوة لا تداويها إلا القوة، ولهذا فإن الله تعالى قال في بيان الحكمة من تشريع القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).. فبالقصاص تتحقق الحياة.

قال دوج: ولكن لم اعتبر القرآن إعداد العدة هو وسيلة السلام؟

قال الحكيم: لأن من البشر من لا يخاف إلا السلاح.. فهو لا يخاف الله.. ولذلك يحتاج إلى سلاح يردعه.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (الحشر:13)

أسباب الحرب

أغلق دوج المصحف، وقال: لا طاقة لي بجدالك في هذا.. فالقرآن قد وضع لكم المخارج التي تجادلون بها عنه.. ولهذا سأنزل بك إلى الواقع.. وسأقتصر منه على واقع محمد.. ذلك الواقع الذي لم يكن فيه إلا القتال.

لقد قرأت سير المصلحين والأنبياء.. فلم أجد واحدا منهم حمل من السيوف ما حمل محمد..

أشار إلى اللوحة، وقال: لقد سجلت في هذه اللوحة تلك المعارك الكثيرة التي خاضها محمد، والتي لازال المسلمون يتباهون بها إلى اليوم.

قال الحكيم: وحق لهم أن يتباهوا.. فليس هناك حرب في الدنيا أنظف من الحرب التي خاضها المسلمون..

النبي المعصوم (419)

لقد كانوا ثلة قليلة مستضعفة سامها أعداؤها الخسف.. ولكن الله من عليها، وأعطاها من القوة بحيث استطاعت أن تنتصر على جميع أعدائها وفي مرحلة وجيزة هي أقرب إلى الإعجاز منها إلى الواقع.

ألم يزل الأوروبيون ـ ومثلهم كل البشر ـ يرددون بافتخار ما حصل في تاريخهم من انتصاراتهم؟

سكت دوج، فقال: فأنتم تفخرون بانتصارات وهمية كان أكثرها لمصالح محدودة، ثم تريدون من المسلمين أن يستحوا من المعارك التي انتصر فيها الحق على الباطل، والقيم النبيلة على الجاهلية..

قال دوج: فأنت تقر بأن دعوة محمد كانت دعوة قتال لا دعوة سلام؟

قال الحكيم: السلام الشامل يستدعي أن تقهر المعتدين وتردهم إلى صوابهم.. إنه مثل العملية الجراحية التي تستأصل بها الأدواء.. فلا يمكن للجسم أن يظل سليما مسالما، وتلك الأدواء تنهشه، وتقتله.

توجه دوج إلى الجمع، وقال: ولكن ألا ترون من العجب أن يخوض نبي من الأنبياء في فترة وجيزة كل تلك الحروب!؟

انظروا هذه السيوف الكثيرة التي تمتلئ بها هذه اللوحة.

ابتسم الحكيم، وقال: إنك تكاد تحول من لوحتك وثيقة تاريخية..

ثم توجه إلى الجمع، وقال: فلنسكت عن الكلام المجرد.. ولنبحث في حقائق التاريخ عن هذه الغزوات لنرى حقيقتها وأسبابها ودوافعها وما نتج عنها لنحكم بعد ذلك.

قال دوج: إن التاريح ينقضي دون الانتهاء من ذكر هذه التفاصيل التي تريد أن نذكرها.

قال الحكيم: لا مناص لطالب الحق أن يعرف التفاصيل.. وقد كان من علامات صدق المسلمين أن سجلوا تاريخهم حرفا حرفا وكلمة كلمة.. وبسطوا حياة نبيهم بجميع تفاصيلها

النبي المعصوم (420)

ليرى الكل مدى الصفاء والطهر والقداسة التي كان يسلكها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.

قال دوج: كيف تقول ذلك.. وقد قام بكل تلك الحروب؟

قال الحكيم: قبل أن أحدثك عن بعض تفاصيل تلك الحروب أريد أن أضع بين يديك عدد القتلى الذين سقطوا في تلك الحروب جميعا.. ثم قارنها بعد ذلك بما شئت من حروب الدنيا.

لقد ذكر المؤرخون أن عدد القتلى الذين سقطوا في جميع الحروب التي مارسها المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ سواء كانت غزوات أو سرايا أو مناوشات ـ والتى ابتدأت فى السنة الثانية للهجرة ودامت حتى السنة التاسعة ـ أى ما يقرب من ثمان سنوات ـ لم يزد عدد المقتولين من الفريقين ـ المسلم وغير المسلم ـ على ألف وثمانية عشر نفساً (1018).. المسلمون منهم 259 شهيداً.. وغير المسلمين 759 قتيلاً.

قارن هذا العدد بما سقط في الحرب العالمية الأولى من قتلى.. فبين سنة 19141918 م بلغ عدد القتلى سبعة ملايين، والمصابون واحد وعشرون مليون نفس.

أما الحرب في العالمية الثانية، سنة 1939 م، فعدد المصابين لا يقل عددهم عن خمسين مليون نفساً.

لاشك أنكم نيستم هذه الحروب العالمية التي خضتموها.. ونسيتك تلك القنابل التي دككتم بها البيوت على أهليها.. ولم تذكروا إلا دفاع محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه، وعن القيم النبيلة التي أرسله الله ليقيمها.

بالإضافة إلى هذا.. فإن حروب محمد حروب صاحب رسالة ومبدأ.. أما الحروب العالمية التي خضتموها، فلم تكن تحمل إلا نفسا جشعة بشعة حريصة سفاكة للدماء..

التفت للجمع، وقال: سننظر في هذه المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولننظر

النبي المعصوم (421)

حقيقتها وأسبابها.. لنكتشف الحقيقة من الواقع بعد أن عرفناها من خلالها مصدرها المقدس (1).

سرية سيف البحر

التفت إلى دوج، وقال: أرني أول سيف من السيوف التي سلها محمد على أعدائه.

أشار دوج إلى سيف من السيوف، وقال: هذا.. إنه يرمز إلى سرية (سيف البحر)

قال الحكيم: لقد وقعت هذه السرية في رمضان من سنة الأولى للهجرة، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فلبغوا سيف البحر، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلاء وهؤلاء حتى جحز بينهم فلم يقتتلوا.

التفت إلى دوج، وقال: ما تنقم على هذه السرية.. وأنت ترى أنه لم يسفك فيه دم؟

قال دوج: أنقم على إرسالها.. فكيف يرسل نبي سرية لتعترض قافلة؟.. إن هذا سلوك قاطع طريق لا سلوك نبي.

قال الحكيم: لا ينبغي للعاقل ان يستعجل في إرسال أحكامه.. فلنسأل التاريخ عن دوافع هذه السرية.. ولك أن تقارن بعد ذلك موقف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأي موقف تصفه بالنبل أو الحضارة.

أولا.. أنت تعلم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة المكرمة مكرها بعد أن كاد له أعداؤه كل المكايد لقتله..

ومثل ذلك خرج أصحابه من غير أن يأخذوا معهم دينارا ولا درهما..

__________

(1) سنركز هنا – خلافا لما ذكرناه في الطبعة الأولى – على أهم السرايا والغزوات، والتي تثار الشبه حولها، ويقاس عليها غيرها مما لم نذكره، وقد اضطررنا لذكر بعض التفاصيل هنا من باب الرد العلمي على ما يذكر في كتب المبشرين من أنواع الشبهات الكثيرة المثارة حول هذه الغزوات، والتي قد يشكل الجهل بها درعا لمرورها.

بالإضافة إلى أن من مقاصدنا من هذه السلسلة التعريف بالنبي (وعرض سيرته وشمائله وما يرتبط به (مما تمس الحاجة إليه.. وقد رجعنا في هذا إلى مصادر السيرة المعتمدة قديما وحديثا.. وهي من الكثرة والاتفاق بحيث لا نحتاج أن نوثق كل مرة لها.

النبي المعصوم (422)

ومع ذلك، فإن المسلمين لم يحركوا ساكنا في مواجهة أعدائهم إلا بعد أن جاءهم الإذن الإلهي بحقهم في استرداد حقوقهم.. قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) (الحج)

التفت للجمع، وقال: هل ترون نبلا أعظم من هذا النبل الذي تحمله هذه الآيات..

وهل يمكن لقاطع طريق أن يكون دافعه ما تدعو إليه هذه الآيات!؟

التفت إلى دوج، وقال: ومع ذلك.. لم يكن هذا هو الدافع الوحيد..

اقرأ التاريخ.. وستجد فيه تلك المكايد التي ظل المشركون يدبرونها للمسلمين غير مكتفين بما سلبوهم من أموال، وما مارسوه قبل ذلك بهم من أنواع الأذى.

لقد ذكر المؤرخون بأسانيد كثيرة لا تقل عن الأسانيد التي نقلت بها أحداث المعارك التي ترمون بها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلك المؤامرات الدنيئة التي كانت تدبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن ذلك أنهم كتبوا إلى عبد الله بن أبي سلول، بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة، يقولون له: (إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم)

وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر المشركين من أهل مكة، وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يراه أنه استبله ملكه.

يقول عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيهم، فقال: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقالوا أبناءكم

النبي المعصوم (423)

وإخوانكم)، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفرقوا (1).

لقد امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك، لما رأى خوراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك.

ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد بلغته كل هذه الأنباء ـ لم يدبر أي مؤامرة لقتل هؤلاء مع أنهم كانوا معه في المدينة، وكان من السهل استئصالهم.

ليس هذا فقط.. بل إن قريشاً كانت تعتزم على شر أشد من هذا، وتفكر في القيام بنفسها للقضاء على المسلمين.

التفت إلى الجمع، وقال: لم يمارس المشركون هذه المكايد فقط.. بل راحوا يحرمون سكان المدينة التي آوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حقهم في زيارة الكعبة التي كانت مباحة للعرب جمعيا..

فقد روي أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليكم منه: طريقك على أهل المدينة.

التفت إلى دوج، وقال: قارن هذا بما يحدث في العالم من أنواع المظالم بسبب الحفاظ على الأمن القومي..

قارن هذا بما فعله الأمريكان الذين تعتبرونهم مثلكم الأعلى بالمستضعفين في العالم بسبب شيء بسيط حصل لهم.

__________

(1) سنن أبي داود (3/ 213)

النبي المعصوم (424)

قال دوج: كيف تسميه بسيطا.. وقد قتل فيه الآلاف؟

قال الحكيم: ولكن المجرمين انتقموا لهم بمئات الآلاف.. لقد دمرت لهم بناية واحده.. لسنا ندري من دمرها إلى الآن.. فراح المجرمون ـ بما امتلأوا به من إجرام ـ يدمرون بلادا كاملة.. بلادا آوت الحضارة لآلاف السنين..

راح المجرمون الذين يلبسون لباس الحضارة يمحونها بجرة قلم، ثم يسبون محمدا والقيم النبيلة التي جاء بها محمد.

سرية رابغ

طأطأ الجمع رأسه أسفا، لكن دوج حاول أن يبدل الموضوع، فأشار إلى سيف من السيوف، وقال: هذا سيف يشير إلى سرية رابغ.

قال الحكيم: لقد وقعت هذه السرية في شوال سنة 1 من الهجرة (1)، وقد بعث لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستين رجلاً من المهاجرين، فلقوا أبا سفيان - وهو في مائتين - على بطن رابغ، وقد ترامي الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال.

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: أنت ترى أن هذا السيف الثاني الذي عددته من جملة السيوف لم يقتل أحدا.. وفي عصرنا لا يعتبر مثل هذا حربا.. ولا تعتبر مثل هذه المعركة معركة.. إنها لا تختلف عن أي دورية بسيطة يقوم بها بعض الجنود لحماية الثغور.. ولكنكم لا تريدون إلا أن تهولوا، فتعتبروا كل حركة يقوم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمن الجو لدعوته، ولمجتمع دعوته معارك لا تقل عن المعارك التي تمارسونها بما جبلتم عليه من حب للصراع.

غزة الأبواء

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزة الأبواء.. وقد وقعت في صفر سنة

__________

(1) هكذا ذكر غير واحد من أهل السير، وذكر أبو الاسود في مغازيه، ووصله ابن عائذ عن ابن عباس أن النبي (لما وصل إلى الابواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا، فذكر القصة، فتكون في السنة الثانية، وصرح به بعض أهل السير.

النبي المعصوم (425)

2 هـ،. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها بنفسه في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش، حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً.

وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع بنى ضمرة، وهذا نص المعاهدة: (هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمره، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بل بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه).

وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.

قال دوج: ألا تعجبون من نبي يغزو؟

قال الحكيم: إن هذا من دلائل كمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه.. فهو لم يكن يجلس في برج عاج يرمي الأوامر لأصحابه، وهو بمعزل عنها، بل كان يخوض معهم المعارك، ويتعرض معهم لجميع الأخطار التي يتعرضون لها.

غزوة سفوان

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزوة سفوان.. وقد وقعت في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ، وسببها أن قوات خفيفة من المشركين أغارت على مراعي المدينة، ونهبت بعض المواشي فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين رجلاً لمطاردتهم، حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدركهم.

التفت إلى دوج، وقال: ألا ترى الأذى الذي كان يتعرض له المسلمون، مع أن أعينهم لم تكن تنام، فكيف لو تركوا سيوفهم!؟

إنهم ـ حينها ـ يصبحون لقمة سائغة لأعدائهم الذين كانوا يتحينون أي فرصة للانقضاض عليهم.

لقد ذكر القرآن الكريم ذلك الجو المخيف الذي كان يعيش فيه المؤمنون، فقال: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} (النساء:102)..

النبي المعصوم (426)

أفتريدون من المسلمين أصحاب الرسالة المقدسة المخلصة أن يختبئوا كما اختبأ الحواريون، أو تريد منهم أن يسلموا محمدا للصلب كما سلم المسيح (1) حتى تعتبروه صاحب سلام!؟

سرية نخلة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير إلى سرية نخلة، وقد وقعت في رجب سنة 2 هـ، وقد بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه،. فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم)

فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر، وقد نهى أن استكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها، فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم، فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون.

حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة، فإذا هي في اليوم الأول من رجب ـ وقد دخلت الأشهر الحرم ـ التي تعظمها العرب، وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها.

هنا انتفض دوج، وكأنه قد ظفر بضالته التي ظل يبحث عنها، وقال: أرأيتم كيف يحطم

__________

(1) بحسب زعم المسيحيين.

النبي المعصوم (427)

المسلمون شعائر السلام.. فيقاتلون في الأشهر الحرام (1

ابتسم الحكيم، وقال: ما شاء الله.. إنك تردد كلمات أبي سفيان وأبي جهل وعبد الله بن أبي.. أولئك الذين لا يعرفون الحرمات إلا عندما ترتبط بمصالحهم.

إنك الآن تكرر نفس موقف المشركين.. فإن قريشا قالت حينها: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.

وقد استغلت اليهود هذه الفرصة، فراحت تقول: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.. عمرو عمرت الحرب.. والحضرمي: حضرت الحرب.. وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب.

أتدري.. لقد كانت هذه الغزوة لمن تأمل فيها دليلا على السلام العظيم الذي كان يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحمله معه أصحابه الطاهرون.

لقد روى المؤرخون أنه لما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.

وهو نفس موقف سائر المسلمين..

هل ترى هذا موقف مسالمين، أم مواقف محاربين!؟

قال دوج: ولكنهم قبلوا الغنيمة بعد ذلك.

قال الحكيم: لقد كان من سماحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أطلق سراح الأسيرين.. ولم يكتف بذلك، بل أدى دية المقتول إلى أوليائه.

قال دوج: ولكن القرآن برر ما فعله المؤمنون.. وفي ذلك خطر عظيم.

قال الحكيم: بل في ذلك صدق عظيم.. وتربية عظيمة.. فالسلام لا يعني البلاهة والخمود والرضوخ.. بل يعني المقاومة والحياة والبقاء..

__________

(1) نرى في كتب المسيحيين ومواقعهم حملة شديدة على هذه السرية، وهو أمر لا يستغرب من نفوس حاقدة تستغل كل ما يقوله أعداء الإسلام مهما كان نوعهم.

النبي المعصوم (428)

ولهذا فإن القرآن الكريم اعتبر ما يفعله المشركون من حرب الحق وأهل الحق أعظم من القتل الذي استنكروه على المسلمين.

لقد نزل في ذلك الموقف الحرج قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:217)

وقد فند هذه الآية كل قول، وفصلت في الموقف بالحق، فقد صرحت بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله.

ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟

ثم إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان.. بل إن المشركين هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام.. لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله:

لقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، وقد كفروا بالمسجد الحرام، وانتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.

وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل.. وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام.

النبي المعصوم (429)

ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة!

لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء (1).

قال دوج: ولكن.. ألم تكن هناك حلول أخرى؟

قال الحكيم: بلى.. لقد كانت هناك حلول كثيرة.

قال دوج: فلماذا لم يستعملها محمد.. واستعمل السيف بدلها.

قال الحكيم: لقد استعمل محمد طيلة ثلاثة عشر سنة كل الحلول مع قومه.. لكنهم أبوا.. فتركهم وطلب منهم أن يتركوه، فأبوا.. وظلوا لا يكتفون بالإباء، بل يأبون وينهون.. ولا يكتفون بالنهي، بل يشرعون جميع أسلحتهم ضده.

فهل من الحكمة أن يستسلم لهم أم يواجههم؟

فإذا استسلم لهم يموت دينه وتموت دعوته.. أو يقوم بين أصحابه من يمثل دور بولس ليصبح الخلاص الذي جاء به محمد خلاصا كهنوتيا أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع.

أم يواجههم.. وهذا الذي اختاره محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي

__________

(1) انظر: في ظلال القرآن، بتصرف.

النبي المعصوم (430)

يجب أن تصان!

وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه.

وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني إلا من ظلم.. فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه!

ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة، ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع المسلمين إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.

وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة، كما أرادها الله (1).

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان من رحمة الله أن آتت تلك السرايا التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكلها..

فقد علمت قريش، ومعها كل من كان يتربص بالمسلمين الدوائر أن للمسلمين من اليقظة ما يجعل أعداءهم أبعد الناس عن الطمع فيهم.

وبعد سرية عبد الله بن جحش ـ على الخصوص ـ تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر

__________

(1) انظر: في ظلال القرآن، بتصرف.

النبي المعصوم (431)

هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة ـ كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ـ ازدادوا حقداً وعيظاً، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل من إبادة المسلمين في عقر دارهم.

وفي تلك الأيام الشديدة التي قرر فيها الأعداء هذه القرارات الخطيرة خرج حكم الجهاد من الإذن الذي يدل على الإباحة إلى الوجوب الذي يجعله لا يختلف عن الصلاة وغيرها من شعائر الدين..

هنا انتفض دوج، وقال: أرأيتم.. ها هو محمد يحول الإرهاب إلى ركن من أركان الدين كالصلاة.

قال الحكيم: وهل يمكن لشخص من الناس أن يقيم الصلاة، وهو لا يأمن على نفسه وأهله ودينه.. إن المسلم عندما يحمل سيفه ليجاهد به يحمله لأشرف غرض يمكن أن يحمل من أجله سيف.

إنه يحمله من أجل حماية التوجه لله بالعبودية.. حتى لا تتسلط الشياطين على هذه الأرض، ليحولوها ماخورا من مواخير الرذيلة.

التفت إلى دوج، وقال: أخبرني عن جنود الحضارة.. ماذا فعلوا بسيوفهم وبنادقهم ومدافعهم وأسلحتهم التي تنشر الدمار في كل مكان!؟

إن كنت لا تعرف الإجابة، فاذهب إلى كل مكان وطئه الاستعمار لترى الإرهاب الحقيقي..

أمن المنطق أن تعتبر الذي يحمل السلاح ليدافع به عن نفسه وعن حريته وعن دينه وعن المستضعفين إرهابيا، ولا تعتبر المعتدي الظالم إرهابيا.. إن هذا المنطق لا يمكن أن يحمله إنسان يحترم عقله وإنسانيته.

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد أنزل الله تعالى في ذلك الظرف الخطير قوله: {وَقَاتِلُوا فِي

النبي المعصوم (432)

سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 190: 193)

لقد نزلت هذه الآيات بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان سنة 2 هـ..

قاطعه دوج، وقال: أرأيتم.. ها هو الإسلام يتبدل كما تتبدل الحرباء.. ففي مكة حاول أن يظهر بمظهر المسالم اللطيف.. وحاول محمد حينها أن يتقمص شخص المسيح.. ولكنه ما إن وجد العصابة التي تلتف حوله حتى راح يتخلى عن جميع مبادئه، ليظهر بصورته الحقيقية (1).

ابتسم الحكيم، وتوجه له قائلا: هل ترى من العقل أن تلبس معطفك الشتوي الذي يلبسه أهل القطب الشمالي في الصيف.. وفي صحراء إفريقيا.

ضحكت الجماعة، فقال الحكيم: لو فعلت ذلك أو فعله أحد من الناس لا شك أنه يرمى بالجنون..

قال دوج: ما الذي تقصد بهذا؟

قال الحكيم: لا شك أن كل عقل يلبس لكل حالة لبوسها.. فما يصح لبسه في الصيف لا يصح لبسه في الشتاء.. وما يصح في ألاسكا لا يصح في الكاميرون.

قال دوج: فهمت.. أنت تريد أن تذكر بأن المدينة ليست مثل مكة.

قال الحكيم: المدينة ومكة كلها بلاد الله.. ولكن الظروف المختلفة.. والعقول المختلفة هي التي تملي على العاقل التصرفات المناسبة..

__________

(1) من المؤسف أن نجد مثل هذه الشبهة مما يملأ الكتب والمواقع التبشيرية، بل يقوله ناس لهم حظ كبير من القداسة في مجتمعاتهم.. ولسنا ندري بأي عقل يفكر هؤلاء.

النبي المعصوم (433)

هل ترى من الحكمة أن يزج محمد بكل من يتبعه بصدق في الهاوية!؟

وهل ترى من العقل أن يقبل محمد أن يوضع أتباعه في مثل تلك الأخاديد التي وضع فيها المسيحيون الذي صدقوا في اتباعهم للمسيح!؟

إن الإسلام لو قبل ذلك لكان دين موت لا دين حياة.. فلذلك أمر أتباعه بأن يحملوا السلاح.. ولكن يحملوه بحقه.. وحقه أن لا يعتدوا به على الناس.. بل يكتفوا بتوجيهه لمن يريد أن يقضي عليهم أو يقضي على دينهم أو يقضي على حقوق المستضعفين الذين وكل المسلمون بحمايتهم.

غزوة بدر

سكت دوج، فقالت الجماعة: حدثنا عن سيف آخر.. من السيوف التي استعملها محمد ضد أعدائه.

أشار الحكيم ـ ساخرا ـ إلى سيف من السيوف، وقال: لست أدري.. ربما كان أخونا.. هذا الفنان المبدع.. يريد بهذا السيف غزوة بدر.. فإن كان يريدها.. فسأحدثكم عنها.. فإن في أحاديثها ما ينسخ تلك الوساوس التي تملأ بها الشياطين عقول من ألغوا عقولهم.

أما سبب هذه الغزوة، فهو أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، فلما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه ليقوموا باكتشاف خبرها، فلما رأوها أسرعوا إلى المدينة وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر.

التفت دوج إلى الجمع ضاحكا، وقال: هذا عقل محارب.. وتفكير محارب.. لا تفكير نبي!؟

قال الحكيم: صدقت في الأولى.. ولم تصدق في الثانية.. لقد كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من العبقرية في القيادة ما يدل على أنه ليس بشرا عاديا.. ولكن ذلك ـ عند العقلاء ـ لا يلغي دعوى النبوة، بل يؤيدها ويقويها..

النبي المعصوم (434)

إن السبب الذي جعلكم لا تقبلون هذا النوع من التفكير هو تصوركم الحقير للدين ولرب الدين وللمتدين.. فأنتم لا ترونه إلا بصورة المتماوت الميت الذي لا يفعل في حياته إلا أن يدير خده الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن..

أما المفهوم الذي جاءنا به الإسلام، فهو يختلف عن ذلك تماما..

الإسلام جاءنا بالقوة بجميع معانيها.. قوة النفس، وقوة الروح، وقوة الاتصال بالله، وقوة الحفاظ على حقوق عباد الله.. وغيرها من القوى الكثيرة التي تجعل المؤمن إنسانا إيجابيا لا سلبيا.. فاعلا لا مفعولا.. صانعا للظروف لا خاضعا لها.

سكت دوج، فقالت الجماعة: عد بنا إلى بدر.. فإنك قد شوقتنا إليها.

قال الحكيم: لقد كانت تلك العير التي أراد المسلمون أن يلاقوها تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها.. فهي تحمل ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي.. ولم يكن معها من رجال الحرب إلا نحو أربعين رجلا.

لقد كانت هذه فرصة ذهبية للمسلمين، ليستردوا بعض حقوقهم التي سلبهم إياها أهل مكة.. وهي كذلك فرصة ذهبية للمسلمين ليفرضوا بها وجودهم في تلك الغابة التي تمتلئ بالذئاب.

في ذلك الحين نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه قائلا: (هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها)

وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم مطلق الحرية في الخروج.. فلم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، وذلك لأنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة ـ بدل العير ـ ذلك الاصطدام العنيف في بدر.

واستعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان، وكان معهم

النبي المعصوم (435)

سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد (1).

في طريقهم إلى بدر.. وبعد أن علم المسلمون ما ينتظرهم من بأس قريش.. التحق أحد المشركين راغبًا بالقتال مع قومه، فرده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (ارجع فلن أستعين بمشرك)، وكرر الرجل المحاولة، فرفض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع حاجته الشديدة، حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين.

قال دوج: أليست هذه عنصرية؟

قال الحكيم: لا.. هذا من حرص رسول الله على صفاء الدين.. فلم يكن يهمه الانتصار بقدر ما يهمه نوع الانتصار.

قال دوج: وهل للانتصار أنواع؟

قال الحكيم: لقد علمنا ديننا أن كل انتصار لا يكون شريفا هزيمة.. ولذلك، فإن هذا المشرك قد يشوه صورة انتصار المسلمين حين يتخلق في الحرب بأخلاق المشركين لا بأخلاق المسلمين.

قال دوج: وما علاقة الأخلاق بالحرب؟

قال الحكيم: كل شيء في ديننا له علاقة بالخلق، بل إن الخلق هو روحه التي يستمد منها حقيقته والجزاء المعد له.

__________

(1) استخلف رسول الله (على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.

ودفع رسول الله (لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.

وقسم جيشه إلى كتيبتين:

أما الكتيبة الأولى فكتيبة المهاجرين، وأعطى رايتها علي بن أبي طالب، ويقال لها: العقاب.

وأما الكتيبة الثانية، فكتبية الأنصار، وأعطى رايتها سعد بن معاذ.

وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده (كقائد أعلى للجيش.

النبي المعصوم (436)

قالت الجماعة: عد بنا إلى ما كنا فيه.

قال الحكيم: لقد مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الغزوة مثال القائد الصادق المتواضع ليكون عبرة لكل قائد مسلم يسير على طريقه.. ومن ذلك ما رواه ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وكانت عقبة رسول الله، قال: فقالا: نحن نمشي عنك. فقال: (ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)

ومن أخلاق القائد العظيمة التي تجلت في هذه الغزوة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثرة استشارته لأصحابه (1)..

ومن ذلك أنه لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار أصحابه في الأمر، فأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم للمواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، ولذلك حاولوا إقناع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم، موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة في ذلك الحين، فقال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} (الأنفال)

هنا انتفض دوج، وقال: أرأيتم.. كيف يزعم هذا الرجل أن محمدا محب للسلام، وها هو يختار القتال.. بل إن قرآنه يأتي ليأمر بالقتال؟

ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن هذا الموقف وقفه أي زعيم من زعماء العالم الغيورين على أقوامهم.. ماذا ستراه يفعل؟

سكت دوج، فالتفت الحكيم إلى الجمع، وقال: فلنفرض أن عدوا من الأعداء داهم بلادنا

__________

(1) انظر فصل (استبداد) من هذا الجزء.

النبي المعصوم (437)

هذه.. وفي نيته أن يستأصلنا من جذورنا.. ماذا سترى لزعيمنا المخلص أن يفعل.. هل يسلم بلاده ورقاب رعيته، أم أنه يحضهم على المقاومة؟

قال الجمع: خائن هو إن لم يدعهم إلى المقاومة.. وجبناء هم إن انتظروا حتى يأمرهم.

قال الحكيم: وهذا ما حصل مع المسلمين.. فالصادقون من المسلمين وأهل السبق منهم خصوصا لم يرتابوا في ضرورة مواجهة العدو..

وقد كان للمقداد بن الأسود في ذلك الموقف موقف لا ينساه له التاريخ.. لقد قال عبد الله بن مسعود عنه: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عُدلَ به.. أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك. فرأيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أشرق وجهه وسرَّه (1).

لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بقوله ذلك.. بل راح يقول: (أشيروا عليَّ أيها الناس).. وقد كان يقصد الأنصار بذلك؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خارج المدينة.

وقد أدرك سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك فنهض قائلاً: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟.. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أجل)، فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله) (2)

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه مسلم.

النبي المعصوم (438)

فلما قال سعد ذلك سُرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)

بعد أن رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدى استعداد جنده للمقاومة والجهاد نظمهم كما ينظم كل قائد جنوده، وعقد اللواء الأبيض وسلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين إلى سعد بن معاذ، وعلي بن أبي طالب، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة.

وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل المعركة شيخا من العرب، فسأله عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أخبرتنا أخبرناك)، فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به جيش المسلمين، وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً، ثم قال الشيخ: لقد أخبرتكما عما أردتما، فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن من ماء)، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟

ضحكت الجماعة، فاغتاظ دوج، وقال: ألا تعجبون من نبي يخادع؟

التفت له الحكيم، وقال: وهل تريد من محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينشر إعلانا للمشركين عن جيشه وخطته ليضربوه كما يحلو لهم!؟.. إن أي حرب في الدنيا تستدعي أمرين كلاهما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل غزواته:

تستدعي أولا التكتم الشديد حرصا على حياة الجيش وتحقيق الانتصار، وقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا، فقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء:83)، وقد تحلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الكتمان في عامة غزواته،

النبي المعصوم (439)

فعن كعب بن مالك قال: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها..) (1)

وتستدعي ثانيا التعرف على قدرات الخصم.. ليخطط للمعركة بحسبها، فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده؛ لأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه.

لا أرى أن أحدا من العقلاء ينكر مثل هذا السلوك.. فإن أنكره فإن عقله ليس عقل محارب.. ولا ينبغي لمثل هذا أن يقود أمة تكتنفها أعداؤها.. فغن قادها لم يقدها إلا إلى حتفها.

التفت إلى الجمع، وقال: ومع ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الذي يجوز فيه الكذب حرصا على مصلحة الجيش.. ولا أحد يجادل في جواز هذا النوع من الكذب.. ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى بالتعريض عن الكذب.. فالنبي يستحيل أن يكذب.

قالت الجماعة: عد بنا إلى ما كنا فيه.

قال الحكيم: بعد أن جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما احتاج إليه من معلومات عن قوات قريش سار مسرعًا، ومعه أصحابه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، ليَحُولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء من مياه بدر مكتفيا بذلك.

لكن بعض الصحابة.. هو الحباب بن المنذر.. رأى أن هناك مكانا آخر أهم من ذلك المكان، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.

فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم

__________

(1) البخاري (2/ 2947)

النبي المعصوم (440)

صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.

انتفض دوج، وقال: أليست هذه دناءة.. كيف يمنع المقاتلون من الماء؟

ابتسم الحكيم، وقال: حتى يصير الماء سببا لحياتهم.. وحياة المسلمين.. وسببا لتحقيق السلام الذي جاءوا لتهديمه.

قال دوج: كيف ذلك؟

قال الحكيم: أليسوا هم الذين قدموا للقتال عازمين على استئصال المسلمين؟

قال دوج: بلى..

قال الحكيم: ففي إمكانهم أن يرجعوا إذن.. وفي عطشهم ما قد يجعلهم يرجعون، فيحفظوا حياتهم وحياة المسلمين.

قال دوج: ولكنهم لم يرجعوا.. أفيحرمون من الماء؟

قال الحكيم: أفتريد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضر لهم الطعام إذا جاعوا.. ثم يضمد جراحهم إذا جرحوا..

ضحك الجمع، فقال الحكيم: هذه حرب.. ومع أن الأخلاق هي التي تحكم حروب المسلمين.. فإن العاقل لا يرى في هذا أي مساس بالخلق النبيل العالي.. فهؤلاء الذين استفزهم الشيطان بما استفزهم به ينبغي أن يصرفوا بأي وسيلة.. ولو بتعريضهم للعطش.

نظر الحكيم إلى دوج، وقال: أتدري كيف كان هؤلاء الذين تدافع عنهم.. لقد وصف القرآن الكريم كيفية خروجهم، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (لأنفال:47)

ووصف المؤرخون بعض ذلك، فذكروا أن أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير، خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خُفاف الكناني، وكان صديقا لأبي جهل، بهدايا إليه مع ابن عم له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي

النبي المعصوم (441)

مع ما خف من قومي، فقال أبو جهل: إنا كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا؛ فتهابنا آخر الأبد (1).

وقد وصف القرآن الإصرار العظيم الذي قدم به المشركون لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعصبين لما هم فيه من الباطل، فقال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (لأنفال:19)

ذكر عبد الله بن ثعلبة ـ في تفسير هذه الآية ـ أن أبا جهل قال حين التقى القوم في بدر: (اللهم أقطعُنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه ـ أي أهلكه ـ الغداة، فكان المستفتح) (2)

وفي ذلك الجمع المستكبر كان هناك بعض العقلاء.. ولكنهم غلبوا على أمرهم، فاستسلموا للطائشين من قومهم.. والذين أوردوهم المهالك.

لقد حالت كبرياء الجاهلية بينهم وبين اتخاذ القرار السليم مع أن كل واحد منهم كان يشعر في قرارة نفسه بمدى القدرة التي يحملها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه.

قالت الجماعة: لقد شوقتنا.. فحدثتنا عن المعركة.. كيف بدأت، وإلام انتهت؟

قال الحكيم: بعد نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين ـ كما أشار الحباب ـ اقترح بعض الصحابة، وهو سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم،

__________

(1) انظر: تفسير القرطبي (8/ 25)

(2) رواه أحمد.

النبي المعصوم (442)

ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك) فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تل مشرف على ساحة القتال.

قال دوج: ألا ترون إلى هذا الرجل كيف يتناقض فيما بينه وبين نفسه.. لقد زعم الساعة بأن محمدا لم يتميز في شيء عن أصحابه.. ولكنا نراه هنا يتميز بذلك العريش الذي خص به من دونهم.. فهم يخوضون المعركة بينما هو في عريشه.

قال الحكيم: لا ينبغي أن يتكلم في مثل هذه المسائل إلا من لهم علاقة بالقيادة والمعارك..

قال دوج: وهل لك علاقة بذلك؟

قال الحكيم: لا أزعم لنفسي ذلك.. ولكني أعلم أني إذا ما رأيت رأسي معرضا للأذى حميته بيدي.. فتجرح دونه.

قال دوج: كلنا نفعل ذلك.. فما فيه مما نحن فيه؟

قال الحكيم: إن القائد في المعركة هو رأس الجيش المفكر والمدبر والمنظم والآمر والناهي.. بالحفاظ عليه يحفظ الجيش، وبالتفريط فيه يتضرر جميع الجيش.. ولهذا قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعريش.. وهو لم يقترحه ابتداء.. ولكنه رأى المصلحة فيه.

وهي مصلحة لا ترتبط بشخصه.. بل لا ترتبط بذلك الجيش فقط.. بل ترتبط بالدعوة الإسلامية جميعا.. ولذلك عمد المشركون في غزوة أحد إلى بث إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليؤثروا في أصحابة.

سكت قليلا، ثم قال: سأقص عليك من واقع هذه الغزوة ما قد يدلك على العاطفة العظيمة التي كانت تربط هذا القائد العظيم بجنده:

كان صلى الله عليه وآله وسلم في بدر يعدل الصفوف، ويقوم بتسويتها، وكان بيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً، وقد خرج من الصف، فطعنه صلى الله عليه وآله وسلم في بطنه، وقال له: (استوِ يا سواد) فقال:

النبي المعصوم (443)

يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه وقال: (استقد) فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد) قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخير.

قالت الجماعة: لا نشك فيما ذكرت.. وليس هناك قائد عاقل يرمي نفسه في أتون المعركة.. لأنه لا مصلحة له ولا لجيشه في ذلك.

قال الحكيم: ومع ذلك.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشارك في المعارك بكل ما أوتي من قوة.

قالت الجماعة: فحدثنا كيف بدأت المعركة.. وإلام انتهت (1

قال الحكيم: لقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا مهما في مقاتلة المعتدين يسمى بـ (نظام الصفوف) (2)

وهو تطبيق لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4)

وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة، وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم.. فتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء.

وقد كان لهذا الأسلوب ثماره العظيمة.. فقد أثر في إرهاب الأعداء الذين هالهم ذلك النظام العجيب الذي لم يتعودوه.

بالإضافة إلى هذا، فقد جعل في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوة احتياطية عالج بها المواقف المفاجئة في صد هجوم معاكس، أو ضرب كمينٍ غير متوقع، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان.

__________

(1) ذكرنا في رسالة (معجزات حسية) ما يرتبط بهذه الغزوة وغيرها من الغزوات من الإمداد الإلهي، فصل (انتصارات)

(2) القيادة العسكرية، د. محمد الرشيد ص 401.

النبي المعصوم (444)

ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقًا عسكريًا تميزت به المدرسة العسكرية الإسلامية على غيرها (1).

وليس عنصر المفاجأة خاصا ببدر.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يباغت خصومه كل مرة بأسلوب قتالي جديد.. ليحقق الانتصار بأقل عدد من الخسائر.

قال رجل من القوم: أنا رجل لي علاقة بهذا الموضوع.. وما ذكرته صحيح.. بل إن ما ذكرته يجعلني ممتلئا بالإعجاب بشخص نبيكم..

أنا مسيحي.. نعم.. ولا أنكر ذلك.. ولكني في هذا المجال أسلم لمحمد أكثر من تسليمي للمسيح.. فلا ينبغي للقائد إلا أن يكون جندي ميدانه.. فيعرف كيف يحمي جنده والمبادئ التي يحملها جنده.. وإلا كان خائنا لهم.

قال الحكيم: بورك فيك.. وقد ذكر المؤرخون من أساليب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قيادة المعركة ما يدل على براعته العسكرية:

ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتبع أسلوب الدفاع، ولم يهاجم قوة قريش.. بل كانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سببًا في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف في كل موقف حسب ما تدعو إليه المصلحة؛ وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح.

ومن ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، فقال: (إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل).. وسر ذلك هو أن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة.

ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تسلوا

__________

(1) الرسول القائد، خطاب، ص 111، 116، 117.

النبي المعصوم (445)

السيوف حتى يغشوكم)

ومن ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة بالاقتصاد في الرمي، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (واسْتَبْقُوا نَبْلَكم) (1)

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يضييع أي فرصة يمكنه الاستفادة منها في كسب المعركة.. فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل حتى فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو، ومن ذلك ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدء القتال يوم بدر، حيث أصبح ببدر قبل أن تنزل قريش، فطلعت الشمس وهو يصفهم فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبلوا الشمس.

وهذا يدل على حسن تدبيره صلى الله عليه وآله وسلم واستفادته حتى من الظروف الطبيعية لما يحقق المصلحة لجيشه، وإنما فعل ذلك لأن الشمس إذا كانت في وجه المقاتل تسبب له عَشا البصر، فتقل مقاومته ومجابهته لعدوه.

قال دوج: لقد تخلى محمد إذن عن ربانيته ونبوته في هذه الغزوة ليلبس لباس القائد العسكري.

قال الحكيم: إن كل لباس يلبسه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو لباس ناتج عن نبوته.. فالنبوة لا تعني ما تتصوره من السلبية أو الأسطورة أو الارتباط المجرد بعالم الغيب.. النبوة أكمل من ذلك بكثير..

فالنبي هو الإنسان الذي أهله الله لأن يصير نموذجا للإنسان الكامل الذي يريده الله (2).

وبما أن من البشر قادة وجنودا.. فالله تعالى بحكمته يعرض النبي لهذه المواقف جميعا حتى يكون نموذجا تطبيقيا للكمال في هذه الجوانب.

سأذكر لك ما يدل على ربانية النبي وصدقه في ذلك الموقف العظيم..

لما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يقوم به كل قائد من تنظيم الجيش، وإعطاء الأوامر، والتحريض على القتال، رجع إلى العريش يدعو ربه، ويناشده النصر الذي وعده، ويقول في دعائه: (اللهم

__________

(1) رواه البخاري.

(2) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (446)

أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبد في الأرض أبدًا)

وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، حتى أنزل الله تعالى في ذلك الموقف قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (لأنفال:9)

وبعد أن دعا صلى الله عليه وآله وسلم ربه في العريش، واستغاث به خرج من العريش، فأخذ قبضة من التراب، وحصَبَ بها وجوه المشركين وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تعالى تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبقَ أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله.

لقد سجل القرآن الكريم تلك الرمية المباركة، فقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (لأنفال:17)

قال الجمع: لقد ملأت نفوسنا شوقا إلى أحاديث هذه الغزوة.. فأخبرنا كيف بدأت.. عسى لصاحبنا من الشبهات ما يريد إثارته عنها؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد بدأت المعركة.. كما كانت تبدأ المعارك في ذلك الحين.. وقد كان البادئ في بدايتها هم المشركون.. ليخرس ذلك كل لسان يزعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان هو المعتدي..

لقد ذكر المؤرخون بأسانيدهم التي لا ترد أن أفرادا من جيش المشركين هم عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد قاموا في وجه المسلمين يطلبون منهم المبارزة.

التفت إلى دوج، وقال: ما رأيك في هذا الموقف الذي بدأت هذه الغزوة التي تتخذونها سخريا.. هل ترون من الحكمة أو من العقل أو من السلام أن يجبن المسلمون، ويستسلموا لعدوهم ليملوا عليهم بعد ذلك من شروط.. أو ترون من الحكمة أن يخرجوا لهم؟

سكت دوج، فقالت الجماعة: إن هذا لا يجادل فيه عاقل.. فحدثنا ماذا فعل المسلمون؟

قال الحكيم: حين قال المشركون ذلك يتحدون المسلمين خرج إليهم ثلاثة من الأنصار..

النبي المعصوم (447)

لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، ليكون أول المضحين عن هذه الدعوة قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته.. لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض أهله، فقال: (قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي)

فبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكر حمزة وعليَّ على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ما لبث أن استُشهد متأثرا من جراحته وقد قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (أشهد أنك شهيد)

وبذلك يكون أول شهيد في هذه المعركة من أهل رسول الله وقرابته حتى يخرس كل لسان..

لقد نزل في هؤلاء الستة قرآن جاء فيه: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} (الحج)

هذه بداية المعركة.. وأنتم ترون أنها انطلقت من جيش المشركين..

وهكذا استمرت.. فعندما شاهد المشركون قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة استشاطوا غضبًا وهجموا على المسلمين هجومًا عامًا، صمد له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، يكتفون برميهم بالنبل كما أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان شعار المسلمين: أَحَد أَحَد.

ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم المضاد محرضًا لهم على القتال وقائلا لهم: (شدوا) وواعدًا من يقتل صابرًا محتسبًا بأن له الجنة.

قال الجمع: هذه بداية المعركة.. فكيف كانت نهايتها؟

قال الحكيم: لقد أنجز الله وعده، فغلبت الفئة القليلة المستضعفة الفئة الكثيرة المستكبرة.. وكان قتلى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم،

النبي المعصوم (448)

واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.

ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحة وزيدا بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين.

وكان من حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المعركة كحكمته في سائر المعارك أنه بقي في موقع المعركة ثلاثة أيام، فعن أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال.

وفي ذلك الموقف قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدفن قتلى المشركين، ثم وقف يخاطبهم، ويقول: (بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس)

ثم خاطبهم يسميهم قائلا: (يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا)، فقال عمر: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب) (1)

غزوة بني سليم

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذا هو سيف بدر الذي ملأتم الدنيا بسببه ضجيجا.. هل يملك أحد في تاريخه معركة أشرف من هذه المعركة؟.. وهل يملك أحد من الأسباب أشرف من تلك الأسباب التي خاض بها المسلمون هذه المعركة؟

سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: سننتقل إلى سيف آخر.. وهو سيف يسميه المؤرخون (غزوة بني سُلَيم)

قال دوج: ألم يكتف محمد بانتصاره.. وبالهيبة التي كان يبحث عنها.. حتى يعود إلى إشهار سيفه من جديد؟

__________

(1) رواه البخاري.

النبي المعصوم (449)

قال الحكيم: ما كان لنبي أن يدع سيفه قبل أن يأمره الله بذلك.. إن النبي صاحب رسالة.. وصاحب مبدأ.. ولا راحة له إلا بتأدية ما كلف به.

ولذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو رسول الله المعصوم.. لم يغتر بالنصر الذي نصره الله به.. فلذلك بقي يرسل استخباراته لتخبره ما يكيد له الأعداء..

وكان أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فلذلك استفاد صلى الله عليه وآله وسلم من عنصر المفاجأة، فباغتهم في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع، يقال له: الكُدْر. ففر بنو سليم.. وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلمفي ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة.. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام.

قال دوج: إن هؤلاء بدو.. وليسوا من أعدائه من قريش.. فما الذي جعله يلتفت لهم!؟

قال الحكيم: التفاتهم له هو الذي جعله يلتفت لهم.. ومكايدهم له هي التي جعلته يكيد لهم..

لقد كانت معركة بدر أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة.. ولكنها كانت في نفس الوقت مثار سخط من كثيرين:

أولهم المشركون الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة.. ويليهم اليهود الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي.. ويليهم المنافقون الذين اشتد خوفهم من انتصار هذا الدين الذي يمتلئون له بغضا.

وكان رابع هؤلاء البدو الضاربون حول المدينة، والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة:101).. وهؤلاء كانوا أصحاب سلب

النبي المعصوم (450)

ونهب، فاستبد بهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين.

أنت ترى أن الانتصار في بدر كما كان سبباً لشوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم كان سبباً لحقد جهات متعددة، وكان للحكيم العاقل أن يلبس لكل حالة لبوسها.

غزوة السويق

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير إلى غزوة السويق.. ويسرني أن أحدثكم.. فليس في حياة نبينا ما يستحيا من ذكره.

كان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان قدم بمائتي فرس من مكة، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير، وهم من اليهود ليلا، واستقبلهم سلام بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وسقاهم، وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين.

ولم يكن ذلك وحده ما فعله أبو سفيان.. بل قام بمهاجمة ناحية العُريض، وهو وادٍ بالمدينة في طرف حرة واقم، فقتل رجلين وأحرق نخلاً وفر عائدًا إلى مكة.

وأنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بمسؤوليته على الرعية التي وكلت إليه حمايتها، فلذلك تعقبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار.

لكنه لم يتمكن من إدراكهم؛ لأن أبا سفيان ورجاله قد جدوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم، ويلقون السويق (1) التي كان يحملونها لغذائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حربا (2).

__________

(1) السويق: هو أن تحمص الحنطة والشعير ثم يطحن باللبن والعسل والسمن.

(2) انظر: السيرة لابن هشام (3/ 51)

النبي المعصوم (451)

قهقه دوج بصوت عال، وقال: ألم يكفهم ما غنموه من السويق؟

قال الحكيم: ومع ذلك لا يستحي قومك.. فيضعون هذه الغزوة التي سد فيها المسلمون بعض جوعهم في نفس الخانة التي يضعون فيها حروبهم الطاحنة التي تقتل العباد، وتحرق البلاد.

غزوة ذي أمر

سكت دوج، فنظر الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير به فناننا المبدع إلى غزوة ذي أمر.. وما أدراك ما غزوة ذي أمر (1

قالوا: فحدثنا عنها..

قال الحكيم: لقد جاءت الأخبار من قِبَل الرجال الذين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيونا تحفظ المدينة.. بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر بقيادة دُعثور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإغارة على المدينة، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلا كان يحمل أخبارًا عن قومه أسرَّ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دخل في الإسلام.

أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب، فما لبثوا أن فروا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد وعاد بعدها إلى المدينة.

وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أصاب المسلمين في هذه الغزوة مطرٌ كثيرٌ فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دُعثور أن ينفرد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيفه، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: (الله)، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من يمنعك مني) قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول

__________

(1) وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله (قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ.

النبي المعصوم (452)

الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه، فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، ما لك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام (1).

وقد نزل في شأن هذه الغزوة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المائدة:11)

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: ألا ترى كيف كان للرعب تأثيره النفسي في حفظ هذه القبيلة التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلولا انتصارات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السابقة لغامر هؤلاء بأنفسهم.. ولكن القوة التي تمتع بها المسلمون هي التي حفظتهم.

ثم ألا ترى في موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الذي يريد قتله ما يدلك على نبوته.

تغيرت لهجة الحكيم فجأة، وقال محاطبا دوج بقوة: هل ترى أن هذا الرجل الذي حصل منه كل هذا بشرا عاديا!؟

هل ترى من هذا الرجل العظيم الذي يهب عند كل حاجة ليحمي المسلمين بنفسه رجلا ظالما قاتلا مستبدا إرهابيا؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لو بحثت في جميع قادة الدنيا.. فلن تجد قائدا له هذه الروح.. وهذه الأخلاق.. وهذا الإيمان.

غزوة بحران

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا السيف يشير به فناننا المبدع إلى غزوة بحران.. وقد وقعت هذه الغزوة في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم، فوجدهم قد تفرقوا،

__________

(1) انظر هذه القصة وغيرها مما يشبهها من حماية الله لنبيه (في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (453)

فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليالٍ.

قال دوج: أنا لا أرى سببا لهذه الغزوة، ولهذا فهي نوع من الإرهاب.

قال الحكيم: إذا أردت بالإرهاب بث الرعب في الظالم حتى لا يظلم، وفي السارق حتى لا يسرق، وفي المعتدي حتى لا تحترق نفسه، ويحرق غيره بنيران العداوة، فذلك صحيح.. فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان بين قوم ممتلئين بقيم الاعتداء.. ولم يكن يردعهم إلا قوة تردهم إلى رشدهم.

سرية القُردة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل فناننا المبدع يشير بهذا السيف إلى سرية القردة..

وسبب هذه الغزوة أن قريشا لما تيقنت أن طريق الشام من جهة المدينة قد أُغلق في وجه تجارتها، ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم، أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق، وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، فجاءت أخبارهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل لهم زيدبن حارثة في مائة راكب يترقبونهم، وكان ذلك في جمادى الآخرة، فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد، فأخذت العِير وما فيها، وهرب الرجال، وقد خمَّس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه الغنائم ـ التي بلغت قيمتها مائة ألف درهم ـ حينما وصلت له.

التفت إلى الحكيم، وقال: أنت ترى أن أكثر هذه الغزوات يمر بدون أي ضحايا، فكيف تشير إليها بالسيوف.

قال دوج: ولكنها نهبت أموالا.

قال الحكيم: لقد كانت تلك الأموال بعض حقوق المسلمين التي أكلها المشركون، ولذلك استردها المسلمون عبر هذه السرايا.

ثم أضيف لك شيئا مهما قد تكون غفلت عنه.. كما غفل عنه الكثير، وهو أن المشركين كان في إمكانهم أن يوقفوا هذه السرايا، وأن يأمنوا على نفوسهم وقوافلهم لو أرادوا.. ولكنهم لم

النبي المعصوم (454)

يريدوا.

قال دوج: تقصد إسلامهم!؟

قال الحكيم: بل أقصد إقامتهم لهدنة أو صلح بينهم وبين المسلمين.. لقد كان في إمكانهم ذلك.. وسيجدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ذلك.. ولكنهم لم يفعلوا.. فكانوا بذلك هم المعتدين.

قال دوج: ومن أخبرك بأن محمدا سيقبل لو عرضوا عليه ذلك؟

قال الحكيم: لقد عرضوا عليه ذلك.. وبشروط مجحفة.. وفي وقت كان فيه أقوى من هذه الفترة.. ومع ذلك قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرصا على السلام.

غزوة بني قينقاع

التفت الحكيم إلى دوج مشيرا إلى سيف من السيوف، وقال: ألست تقصد بهذا السيف غزوة بني قينقاع..!؟

لم ينتظر أن يجيبه، بل قال: نعم.. لا أظنك إلا تقصدها.. فإن كنت تقصدها، فهي أول غزوة ترتبط باليهود.. قتلة الأنبياء.. الذين امتلأتم لهم حبا واحتضانا مع اعتقادكم بأنهم قتلوا المسيح.. وليس ذلك إلا لسبب وحيد هو أنهم من أشد الناس لنا بغضا.. وكم يقرب البغض من أباعد.

قال الجمع: حدثنا عن هذه الغزوة.

قال الحكيم: ربما سمعتم ببنود المعاهدة (1) التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود في أول مقدمه للمدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً فيها كل الحرص على تنفيذ ما جاء فيها.

ولم يأت من المسلمين ما يخالف هذه المعاهدة في حرف من حروفها.. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين.

__________

(1) عرضنا تفاصيلها في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (455)

ومن الأمثلة على ذلك أن شاس بن قيس ـ وكان شيخاً يهودياً شديد الضغن على المسلمين، مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون، فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة: الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها، وكادت تنشب الحرب.

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم)

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.

ومن ذلك أنهم كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء.

وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت، فليس لك علينا من سبيل.

النبي المعصوم (456)

كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.

لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الناس تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي.

وكان أعظمهم حقداً كعب بن الأشرف.. كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.

فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم.

وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكن ذلك لم يزدهم إلا شرا.

وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى أن حصل منهم ما لا يمكن أن يصبر مؤمن عليه:

لقد حدث المؤرخون أن أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل

النبي المعصوم (457)

المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

ولما وصل الأمر إلى هذه الدرجة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، فلما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكتفوا.

وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول ـ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم نفاقه ـ فألح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال: يا محمد، أحسن في موالى ـ وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرسلني)، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال: (ويحك، أرسلني)، ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشي الدوائر.

وعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب ـ بالحسنى، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام.

وبهذه العقوبة الرادعة لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن..

قال دوج: ألا تعتبر هذا إرهابا؟

قال الحكيم: لا.. بل فعل بهم رسول الله عين العدل والحكمة والرحمة..

قال دوج: أي عدل وأي حكمة وأي رحمة هذه التي تتحدث عنها؟

قال الحكيم: أما العدل.. فإن كل مجرم لابد أن ينال عقوبته ليستتب الأمن.. وهؤلاء الذين لم يرحموا امرأة يمكن أن يصدر منهم أي شيء بعد ذلك.

قال دوج: والحكمة!؟

النبي المعصوم (458)

قال الحكيم: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعامل بحزم مع هذه الأمور وأمثالها لما استطاع أن يؤسس ذلك المجتمع الفاضل الذي أسسه.. ولا استطاع أن ينشر تلك القيم الرفيعة التي نشرها.. فالحكمة تقتضي تقديم المصالح العليا على كل شيء.

قال دوج: والرحمة!؟

قال الحكيم: لقد رحمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاكتفى بإخراجهم.. وكان يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك.

غزوة أحد

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل فناننا المبدع يشير بهذا السيف إلى (غزوة أحد)

انتفض دوج فرحا، وقال: أجل.. تلك هي الغزوة التي انتقم الله فيها من محمد وأصحاب محمد.

ابتسم الحكيم، وقال: بل هي تلك الغزوة التي نصر الله فيها محمدا وأصحاب محمد..

قال دوج: كيف تقول ذلك.. والكل يتفق على أن محمدا مني فيها بهزيمة أسقطت هيبته، وجعلته عرضة لكل طامع!؟

قال الحكيم: وذلك بعض النصر الذي تحقق بهذه الغزوة.

قال دوج: إنك تحيرني.. أو أنك تتناقض مع نفسك.. كيف يتحول طمع الأعداء فيك إلى نصر؟

قال الحكيم: عندما تتوفر لأعدائك الفرص لأن يظهروا طمعهم فيك.. ثم ينصرك الله عليهم يكون سبب نصرك الأول عليهم هو طمعهم فيك.. فلولا طمعهم ما تحقق نصرك.

قال دوج: لم أفهم ما الذي تقصد بالضبط.

قال الحكيم: بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحول ما يتصوره الناس هزيمة إلى نصر.. فالحكيم العاقل لا تتصرف فيه الظروف، بل هو الذي يتصرف فيها، وهو الذي يحولها بعد ذلك كما

النبي المعصوم (459)

شاء (1).

قال دوج: لا أزال أنتظر دليلا على ذلك.

قال الحكيم: لا يمكنني أن أذكر لك ذلك إلا بعد أن يعرف الجمع أحداث هذه الغزوة وما تلاها ليستنتجوا بعد ذلك ما ذكرته لك من تحول الهزيمة إلى نصر.

قال الجمع: نعم.. ذلك صحيح.. فنحن نسمع بهذه الغزوة.. ولكنا لم نتشرف بعد بمعرفة تفاصيلها.

قال الحكيم: لقد كانت هذه الغزوة إفرازا من إفرازات الأحقاد التي كانت تمتلئ بها قلوب المشركين من قريش منذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعوته فيهم، فقد قابلوا الإسلام منذ ابتدأ بالمواجهة.. لقد كانوا ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الإسلامية، ومنع الناس في الدخول في الإسلام، ثم بعد ذلك سعوا إلى القضاء على الإسلام والمسلمين ودولتهم الناشئة.

قال تعالى يصور جهودهم المتواصلة لاستئصال الإسلام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (لأنفال:36)

وقد ازدادت هذه الأحقاد بعد هزيمتهم في غزوة بدر، ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمجرد عودتهم من بدر.

وبعد أن استكملت قريش قواها في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، عبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعها من تبعها من القبائل العربية المجاورة، خرجت لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصطحبين معهم النساء والعبيد.

__________

(1) سنرى التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.. ونحن نحاول في إثبات نوع النصر في أحد الرد على الشبه الكثيرة المرتبطة بهذا والتي تمتلئ بها مواقع المبشرين.. والتي تستدل بالهزيمة على عدم صحة دعوى النبوة.

النبي المعصوم (460)

وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تفعله قريش من استعدادها لحرب المسلمين.. فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ضمنها جميع تفاصيل الجيش،، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير، حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسجد قباء.

لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمه العباس، قال ابن عبد البر: (وكان العباس يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن مقامك في مكة خير) (1)

وقد كانت المعلومات التي قدمها العباس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غاية الدقة، فقد جاء في رسالته: (أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك، فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح)

وبعد أن تأكد صلى الله عليه وآله وسلم من المعلومات التي وصلته عن استعداد قريش وخروجها لحربه حرص صلى الله عليه وآله وسلم على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي، خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره صلى الله عليه وآله وسلم بكتمان الأمر، وعاد مسرعًا إلى المدينة.

وبعد أن جمع صلى الله عليه وآله وسلم المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في المدينة، وقال: (إنا في جنة حصينة)، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر، قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا.

__________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 812)

النبي المعصوم (461)

قال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته، فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)

قال دوج: كيف يفعل محمد هذا.. ألم يكن له من الحكمة ما يجعله يعمل رأيه ما دام قد أرى بأنه الصواب؟

قال الحكيم: لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا أمرين:

الأول: أن يعلمنا أن المستشير ينبغي أن يحترم رأي من يستشيره، فيعمله إذا اقتضى المقام ذلك.

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، ثم عادوا فاعتذروا إليه، أراد أن يعلمهم درسًا آخر ـ هو من أهم صفات القيادة الناجحة ـ وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، لأن من آثار ذلك أنه ييزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع.

سكت الحكيم، فقالت الجماعة: ثم ماذا؟

قال الحكيم: لقد اشتد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأيام في التجهير للقتال وحراسة المدينة.. فصار كل واحد من الصحابة يصحب سلاحه ولا يفارقه، حتى عند نومه، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم.

وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخروجه الوقت المناسب، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئًا، والحركة قليلة، وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء، غالبا، في نوم عميق لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.

ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة، وذكر صفة

النبي المعصوم (462)

ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهي السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟)، فأبدى أبو خيثمة استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثو في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه.

قال رجل من الجمع: إن جسارة رجل في هذا الموقف الشديد على سب محمد.. وترك محمد له من غير عقوبة.. لا يدل إلا على حلم عظيم، وسعة لا يمكن أن تكون في صدر إرهابي أو مستبد.

قال الحكيم: لم يكتف المنافقون بذلك فقط.. بل إنهم ـ كموقفهم في جميع الغزوات ـ لم يكن لهم دور إلا التثبيط، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمس أحدا منهم بسوء.

في ذلك اليوم الشديد.. وعندما وصل جيش المسلمين الشواط ـ وهو اسم بستان بين المدينة وأحد ـ انسحب ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين، وهم ثلث الجيش، بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضًا على قرار القتال خارج المدينة قائلا: (أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا)

لقد كان هدف المنافقين من هذا بث الهزيمة النفسية في قلوب المؤمنين وتحطيم معنوياتهم.. ولكن الله علمهم أن من رحمة الله بهم أن لا يدخل هؤلاء ساحة المعركة.

لقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب، حتى لا يختلط

النبي المعصوم (463)

المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} (آل عمران)

في ذلك الموقف الشديد تميز المخلصون من المنافقين.. في ذلك الموقف حاول عبد الله بن حرام إقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه.

وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)} (آل عمران)

قال رجل من الجمع: إن ما تذكره من عدم حصول نزاع داخلي بين المسلمين مع توفر جميع دواعيه يدل على أن كل النزاعات التي تحصل الآن بين المسلمين ليس لها أصل في الإسلام.

قال الحكيم: أجل.. فإن المسلمين في ذلك الحين كانوا يسمعون المنافقين بل كانوا يرون منهم ما لو حصل بين بعض هذه الجماعات الآن لاعتبروه من مبررات سفك الدماء.. ولكن المسلمين الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة الدماء كانوا أوسع صدرا من أن يقعوا في هذا.

قال دوج: ولكن أمر الرجوع لم يخص ابن أبي ابن سلول وحده.. بل إني أعلم أن بني سلمة، وبني حارثة قررتا أن ترجعا.. وفي ذلك دليل على تضعضع المسلمين.

قال الحكيم: لقد حصل بعض ما ذكرت.. لا كل ما ذكرت.. فقد ثبت الله هاتين القبيلتين وعصمهما، ونزل في ذلك قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ

النبي المعصوم (464)

فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} (آل عمران)

وهذا لا يفهم منه ما استنتجت.. وإنما يفهم منه شيء واحد هو ما تسمونه أنتم الآن بالديمقراطية..

لقد وفر صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ورعيته من الحرية ما لم يوفرها زعيم من زعماء الدنيا.. فهل ترى زعيما من الزعماء يترك طائفة من جيشه، وهو أحوج ما يكون إليها؟

ألا تعتبرون ذلك في عرفكم خيانة عظمى ليس لها من عقوبة إلا القتل؟.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل أحدا بهذا السبب وكان في إمكانه أن يفعل؟

قالت الجماعة: حدثنا عن المعركة.. كيف بدأت؟.. وإلام انتهت؟.. وكيف زعمت انتصار المسلمين فيها؟

قال الحكيم: لما تجمع المسلمون للخروج، رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون أن يخرجوا مع عبد الله بن أبي بن سلول ـ قبل انسحابه بجيشه ـ للخروج مع المسلمين، فقال الرسول: (أو قد أسلموا؟) قالوا: لا يا رسول الله، قال: (مروهم فليرجعوا؛ فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين)

قال دوج: فهي حرب دينية إذن.

ابتسم الحكيم، وقال: إن أردت بالدينية أنها تحكم القيم الدينية، فذلك صحيح، فقيم الحرب الدينية في الإسلام تختلف عنها في اليهودية... أما إن أردت بالدينية الحرب التي تسعى لنشر الدين، فأنت تعلم، وكل الناس يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الغزوة لم يخرج إلا مكرها للدفاع عن المجتمع الذي أسسه.

سكت قليلا، ثم التفت إلى الجمع، وراح يواصل حديثه عن أحداث غزوة أحد، قال: في منتصف الطريق انخذل عن المسلمين عبد الله بن أبي بن سلول ومعه ثلاثمائة من المنافقين ـ كما ذكرت لكم ذلك من قبل ـ فبقي عدد المسلمين سبعمائة رجل فحسب، ثم مضى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى

النبي المعصوم (465)

وصل إلى ساحة أحد، فجعل ظهره للجبل ووجهه للمشركين، وصف الجيش، وجعل على كل فرقة منه قائدا، واختار خمسين من الرماة، ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، وقال لهم: (احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لا نزال غالبين ماثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم)

ثم ابتدأ القتال، وكان النصر الكامل حليف المسلمين في البداية.. لكن بعض المسلمين اغتروا بذلك، فراحوا ينغمسون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة، والذين كلفوا بحماية ظهر المسلمين، فقالوا: ماذا نفعل وقد نصر الله رسوله؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم، فذكرهم رئيسهم بوصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابوا بأن الحرب قد انتهت، ولا حاجة للبقاء حيث هم.

قال دوج مقاطعا الحكيم: أرأيتم المسلمين، وشوقهم للغنائم؟

قال الحكيم: المسلمون بشر.. وفيهم من شهوات البشر وحرصهم ما فيه، ودور الدين هو أن يضبطهم ويربيهم لا أن يقمعهم أو يقمع ما جبلوا عليه من فطرة.

وقد كان هذا الحدث على الخصوص من تقدير الله الذي يرتبط بتربية المسلمين في كل الأجيال عبر تربيته لذلك الجيل.

لقد رأى خالد، وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة، فكرَّ عليهم من خلفهم، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك، فاضطرب حبلهم، واختلفوا فرقا بحسب ما لكل منهم من نضج في الإيمان والسلوك، فقد كانت هذه الغزوة ـ بتقدير الله محكا لذلك ـ:

فمنهم طائفة لم تهمها إلا نفسها، حيث أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها، وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل.

النبي المعصوم (466)

ومنهم طائفة اختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض.. وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛ لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.

قال دوج، والفرح باد على وجهه: هكذا تكون الهزيمة، وإلا فلا.

قال الحكيم: بل هكذا يكون النصر، وإلا فلا.

قال دوج: ماذا تقصد؟

قال الحكيم: عندما انتصر المسلمون في بدر ظهر كثير من المغرضين.. لاشك أنك تعرفهم.. فإن لم تكن تعرفهم فإن أصحاب المبادئ من رؤساء الأحزاب يعرفونهم.

فقد يبدأ رئيس الحزب حزبه بطائفة من المبادئ الفاضلة، فلا يستجيب له إلا نفر قليل، فإذا ما أرى المغرضون نجاحه في بعض الانتخابات انضموا إليه بما نفوسهم من أغراض خسيسة قد تسيء إلى المبادئ التي انطلق منها ذلك الزعيم.

وفي ذلك الحين يكون الفشل في الانتخابات انتصارا للمبادئ في وجه المغرضين.

قال دوج: ربما أفهم هذا.. ولكن ما علاقته بالنصر؟

قال الحكيم: لقد كان المسلمون في تلك المرحلة مقبلون على انتصارات كثيرة، وعلى تأسيس جميع مؤسسات المجتمع الإسلامي، وكان لابد أن يمحص الناس حتى يظهر الصادقون المضحون الثابتون من غيرهم.. وكانت هذه الغزوة سببا لذلك.

قالت الجماعة: ثم ماذا حصل؟

قال الحكيم: لقد أشيع أن الرسول قد قتل، ففر بعضهم عائدا إلى المدينة، واستطاع

النبي المعصوم (467)

المشركون أن يصلوا إلى الرسول، فأصابته حجارتهم حتى وقع (1) وأغمي عليه، ودخلت حلقتان من المغفر في وجنته صلى الله عليه وآله وسلم وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة.

قال دوج: ألا تعجبون من رجل يدعي أن الملائكة تتنزل بنصره، وقد حصل له من الهوان في هذا المحل ما حصل؟

قال الحكيم: والعجب منكم أكثر، فأنتم تزعمون أن المسيح.. وهو ابن الله في تصوركم.. لم يكتف أعداؤه بجرحه.. بل صلبوه وأهانوه إهانة عظيمة.

قال دوج: ذلك ليفدي البشر من الخطيئة.

قال الحكيم: وهذا ليعلم كل قائد كيف يكون القائد الحقيقي.. فالقائد في المفهوم الإسلامي هو الذي يصيبه ما يصيب جنوده من أنواع الأذى.. لا الذي يقبع في قصره يلقي الأوامر، وينتظر النياشين.

قال دوج: لقد زعمت بأن المسلمين انتصروا.. وها نحن نرى محمدا نفسه يكاد يقتل.

قال الحكيم: إن عدم قتله مع توفر الدواعي لذلك أكبر انتصار..

قالت الجماعة: فهل ثبت محمد في ذلك الموقف الشديد؟

قال الحكيم: أجل.. ومن يثبت إن لم يثبت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأبي هو وأمي.. لقد ثبت وثبت معه رجال لا تزال الأمة تسبح بالثناء عليهم.. فهم قدوة كل جيل في التضحية والفداء والإيثار..

منهم أبو دجانة، الذي تترس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليحميه من نبال المشركين، فكان النبل يقع على ظهره.

ومنهم نسيبة أم عمارة الأنصارية، التي تركت سقاء الجرحى، وأخذت تقاتل بالسيف،

__________

(1) وكان سبب وقوع رسول الله (أن ابن قمئة علاه بالسيف فلم يؤثر السيف فيه إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه فشكا (منه شهراً وقُذف رسول الله بالحجارة حتى وقع لشقه.

النبي المعصوم (468)

وترمي بالنبل، دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصابها في عنقها، فجرحت جرحا عميقا، وكان معها زوجها وابناها، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (بارك الله عليكم أهل بيت) فقالت له نسيبة: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) فقالت بعد ذلك: (ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا) وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في حقها: (ما التفت يمينا وشمالا يوم أحد، إلا ورأيتها تقاتل دوني) وقد جرحت يومئذ اثني عشر جرحا، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: إن بروز مثل هذه النماذج.. والتي لو لم يحصل ذلك الموقف ما ظهرت.. دليل على أن النصر الذي تحقق في أحد نصر لا يمكن تصور حدوده.. لقد ظلت هذه المواقف وغيرها درسا يستفيد كل من يقدم روحه في سبيل الله لنصرة الحق والدفاع عن المستضعفين.

قالت الجماعة: فماذا فعل محمد؟

في ذلك الموقف الشديد، أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللواء لعلى بن أبي طالب بعد مقتل حامله مصعب بن عمير.. ثم استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه الذي طوقه المشركون من كل جانب، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصمت حتى لا يعرف موضعه المشركون.. لكن ذلك الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فأسرعوا إليه حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة.

وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم لعرقلة الانسحاب إلا أن بسالة المسلمين لم تمكنهم من ذلك.

في ذلك الموقف الحرج تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وهو أحد فرسان المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت

النبي المعصوم (469)

في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وعطف عبد الله بن جابر، وهو فارس من فرسان مكة على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.

وهكذا.. إلى أن بلغت هذه الكتيبة إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل.

في ذلك الموقف جاء أبي بن خلف مسرعا نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوتُ إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوه)، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً.

فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: (أنا أقتلك، فوالله لو بصق على لقتلني)، فمات بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة.

نظر دوج إلى الجماعة وقال متهكما: ألا تعجبون من نبي يفعل هذا؟

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: وكيف لا يفعله؟.. وهل ترى من الحكمة في ذلك الموقف أن يسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه للقتل أم يدافع عن نفسه؟

سكت دوج، فقال الحكيم: فأخبر قومك أن هذا الرجل من المشركين هو الوحيد الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع حياته.. ولا تنس أن تخبرهم عن سبب قتله..

قال رجل مسلم من الجماعة: فهل ظل المسلمون في تماسكهم في ذلك الموقف الشديد؟..

النبي المعصوم (470)

ألم يحاول المشركون اختراقهم؟

قال الحكيم: بلى.. لقد كان هدف المشركين هو القضاء على الإسلام.. ولم يكن هدفهم ذلك النصر المحدود.. لذلك استمروا في تتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وقاموا بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا)

ثم كلف أصحابه بأن يقفوا في وجه هذا الهجوم..

ولما يئس المشركون من مواصلة المعركة وتحقيق الهزيمة الكاسحة بالمسلمين لجأوا إلى الشهداء يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف ويبقرون البطون..

ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقره من الشِّعب خرج على بن أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس (1) فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: (اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه)

وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووِي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من أصحابه: (قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد).

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بن أبي طالب، فقال: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل، وامْتَطُوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم)، قال على: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا

__________

(1) قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً. وقيل: اسم ماء بأحد.

النبي المعصوم (471)

الإبل، ووَجَّهُوا إلى مكة.

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: أنت تبحث عن سر نصر أحد.. فهذا سر من أسراره..

لقد جاء المشركون ليقضوا على الإسلام، وليدخلوا المدينة وينهبوها.. ولكنه لم يحصل شيء من ذلك..

كل ما حصل هو أن عدد شهداء المسلمين كان أكبر من عدد شهداء المشركين (1).. وليس ذلك هو مقياس النصر أو الهزيمة.. فمقياس النصر والهزيمة هو تحقيق أحد الطرفين للغاية التي دخل بها المعركة.

وقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعركة بنية الحفاظ على كلمة الله أن تظل عليا.. ودخل المشركون بنية القضاء على الإسلام.. ولم يتحقق شيء مما قصده المشركون.. وتحقق كل شيء قصده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

لقد قال المستشرق جيورجيو ـ مناقشاً آراء المؤرخين الإسلاميين كباحث عسكري، انطلاقاً من مفهوم النصر والخسارة في الحرب ـ: (يذكر المؤرخون الإسلاميون أن المسلمين خسروا في معركة أحد، وهذا الرأي يحتاج إلى مناقشة. ولو أننا تحدثنا مع متخصص حربي في مسألة خسارة المعركة، وسألناه: ما هي علامة الخسارة الحربية؟، لأجاب إن كان جيش الخصم المنتصر احتل البلاد، وأزال جيش العدو، عد عندئذ منتصراً، أما أن احتل دولة ما ولم يتمكن من أبادة جيشها فلا تعتبر الدولة خاسرة. فألمانيا في الحرب العالمية احتلت روسيا كلها، ووصلت

__________

(1) اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار؛ فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج، وأربعة وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط.

وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون، والله أعلم. انظر: الرحيق المختوم.

النبي المعصوم (472)

جيوشها حتى شواطيء نهر الفولغا، ولأنها لم تستطع دحر جيش روسيا دحراً كاملاً فإن ألمانيا لم تعتبر منتصرة تماماً. فالدولة تعتبر ظافرة بشرطين: أولهما احتلال الدولة المغلوبة، وثانيهما إخماد حركة الجيش.

والمشركون في معركة أحد لم يستطيعوا احتلال المدينة، كما لم يوفقوا إلى إفناء جيش محمد، فمع أنهم شتتوا جيش المسلمين، فإن فلوله عادت فتجمعت في اليوم الثاني، فعندما عاد محمد إلى مدينه (كما سنذكر) كان تحت سيادته جيش منظم. فعن وجهة نظر محارب متخصص - برأيي- لم يخسر المسلمون في معركة أحد، إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب، لأن جيش مكة لم يفن جيش المسلمين، كما لم يحتل المدينة) (1)

وفوق ذلك.. فإن الشهداء الذين تصور المشركون أنهم بقتلهم انتصروا لم تكن دماؤهم إلا رايات لنصر عظيم ظل يتشرف به المسلمون كل حين..

اسمعوا ـ أيها الجمع ـ إلى هذا الانتصار الذي رسمه سعد بن الربيع بدمائه الزكية، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. فقال لي: (إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجدك؟) قال: فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيته وهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام، قل له، يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.

أرأيتم النصر العظيم الذي رسمه هذا الرجل العظيم بشهادته..

التفت إلى دوج، وقال: لا شك أنك توافقني في أن هذه الميتة الشريفة نصر عظيم.. إنها لا تقل عن ذلك الموقف الثابت الذي نسبتموه للمسيح وهو على خشبة الصليب.

__________

(1) ك. جيورجيو: نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ص 267.

النبي المعصوم (473)

سكت قليلا، ثم قال: لم يكن ذلك هو الموقف الوحيد.. كان ذلك اليوم كله مواقف لا يزال يتزين بها التاريخ.. ولا زالت تملأ قلوب الأحرار..

عندما كان المسلمون يتفقدون الجرحي وجدوا الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (هو من أهل الجنة)

وكان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق،. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم.. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالى لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مُخَيرِيق خير يهود)

بعد هذه المواقف النبيلة من الجرحى والشهداء أشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الشهداء فقال: (أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يَدْمَي جُرْحُه، اللون لون الدم، والريح ريح المِسْك)

سكت قليلا، ثم قال: بعد كل هذه المواقف النبيلة انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً إلى المدينة، وفي الطريق مر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلَلٌ.

وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله، أمي، فقال: (مرحباً بها)، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ، فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد، وقال: (يا أم سعد، أبشري

النبي المعصوم (474)

وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً). قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: (اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا)

وعندما عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مساء ذلك اليوم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: (اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني اليوم)، وناولها على بن أبي طالب سيفه، فقال: وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف (1) وأبو دُجَانة)

في تلك الليلة بات المسلمون في المدينة يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ولكن المشركين اكتفوا بما حققوه، ولم يطمعوا في المزيد.

سرية أبي سلمة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، ثم قال: لعل صديقنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية أبي سلمة..

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان من آثار النصر الخفي الذي وهبه الله للمؤمنين في أحد أن أبرز الحاقدون للإسلام عن أنيابهم.. وكان منهم بنو أسد بن خزيمة.. وكان لذلك إرسال هذه السرية.

لقد نقلت استخبارات المدينة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن طلحة وسلمة ابني خويلد يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فسارع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار،

__________

(1) هو من كبار الصحابة المغمورين، وقد أجمعت الأمة على جلالته وصحبته، وممّا كتبه الإمام الرضا للمأمون في محض الإسلام، وشرائع الدين: والذين مضوا على منهاج نبيّهم (، ولم يغيّروا ولم يبدلوا، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف.. (عيون أخبار الرضا، باب 35، ج 2، ص 134)

النبي المعصوم (475)

وأمر عليهم أبا سلمة، وعقد له لواء، فباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً.

قال دوج: فقد عاد المسلمون إلى النهب.

قال الحكيم: هذا ليس نهبا.. بل هو من الغنائم المشروعة في الحروب.. وليس الغرض منها إلا ردع الوساوس التي قد لا يردعها إلا حرصها على الحياة والمال.

بعث الرَّجِيع

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى بعث الرجيع.. لا أظن إلا أنه يشير إليه.. إن هذا البعث دليل على الخيار الصعب الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

لقد كان بين قوم لا يرعون حرمة، ولا يوفون بعهد.. بل يستعملون كل الوسائل لتحقيق المآرب التي يصبون إليها.

في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم من عَضَل وقَارَة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم نفرا من أصحابه (1)، وأمر عليهم مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوِي أو عاصم بن ثابت، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع (2) غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلاً ليعينوهم على قتلهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش، ويأخذوا في مقابلتهم أجراً لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن

__________

(1) ستة نفر في قول ابن إسحاق، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة.

(2) وهو ماء لهُذَيلِ بناحية الحجاز بين رَابِغ وجُدَّة.

النبي المعصوم (476)

يأتوا بأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم يمثلون به ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.

فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً، وقاتلوا حتى قُتلوا.

وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق، ثم أخذ واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وأما خبيب بن عدي وزيد بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما.

وكان شراؤهما في ذي القعدة، فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرام، فقتلوا زيداً، وأما خبيب فقد مكث أسيراً حتى خرجت الأشهر الحرام ثم أجمعوا على قتله.. ولما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال: ذروني أصلِّ ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزعَ لزدت، وما أبالي على أي شِقَّي كان لله مصرعي ثم قال:

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم أخذ يدعو عليهم قائلا: (اللهم أحصهم عدداً وخذهم بدداً)، ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث فضربه فقتله

بئر مَعُونة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى ما حصل في بئر معونة.. فإن كان يقصده، فهو من أكبر الأدلة على نجاعة الأسلوب الذي اختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعامل به مع أولئك الأجلاف الغلاظ.

في ذلك الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرَّجِيع وقعت مأساة بئر مَعُونة.. وهي مأساة أشد وأفظع من الأولى.

النبي المعصوم (477)

وقد بدأت هذه المأساة عندما قدم أبا براء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، فقال: يا رسول الله، لو بعثت أصحابك إلى أهل نَجْد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم، فقال: (إني أخاف عليهم أهل نجد)، فقال أبو براء: أنا جَارٌ لهم، فبعث معه نفرا كثيرا من أصحابه (1)، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن مِلْحَان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عامر بن الطُّفَيْل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم، قال حرام: الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة.

ثم استنفر هذا الرجل الماكر لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا.

وقد تألم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هذا الغدر ألما شديدا حتى دعا على هذه القبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، فعن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَية، ويقول: (عُصَية عَصَتْ الله ورسوله)

غزوة بني النضير

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بني النضير.. فإن كان يشير إليه، فسأحدثكم عنها.

هذه مواجهة أخرى بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود..

لاشك أنكم تعلمون مقدار الحقد الذي كان يحمله اليهود للمسلمين.. ولكنهم لضعفهم

__________

(1) كانوا أربعين رجلاً في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين.

النبي المعصوم (478)

لم يكن لهم وسيلة يحققون بها أحقادهم سوى المؤامرات والدسائس..

وشاء الله أن يكون ما حصل في أحد سببا من أسباب طمعهم في المسلمين.. وشاء الله كذلك أن لا يبقى في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الخادعون.

بدأت قصة هذه الغزوة عندما خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه، طالبا منهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ـ وكان ذلك واجبا عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك.

فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه طائفة من أصحابه.

وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه.. ولكنهم أبوا إلا أن ينفذوا ما عزموا عليه.

وفي ذلك الوقت أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما هموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود.

وما لبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم: (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه)

ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونك، م وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان..

وقد نص القرآن الكريم على مقولته، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ

النبي المعصوم (479)

لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الحشر:11)

وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.

لقد كان الموقف شديد الحرج للمسلمين بعد أن تبنى أعداؤهم هذا الأسلوب الخطير أسلوب الاغتيال والخداع..

ولذلك لم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدا من الخروج إليهم.. فلذلك ما إن وصله جواب حيي بن أخطب حتى كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وسار إليهم، وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهي إليهم فرض عليهم الحصار.

والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر:5)

وبعد خمسة عشر يوما، وبعد أن اعتزلتهم قريظة فلم تُعنهم، وخذلهم ابن أُبي وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم، قالوا: نخرج عن بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ثم قال لهم: أخرجوا منها، ولكن دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة، فرضوا بذلك ونزلوا عليه.

فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.

ولما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل.

غزوة ذات الرّقاع

النبي المعصوم (480)

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة ذات الرِّقَاع.. فإن كان يشير إليها، فهي من الغزوات التي توجه بها صلى الله عليه وآله وسلم إلى أولئك الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري.

ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب ولهذا قام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى.

ومن ذلك هذه الغزوة التي قصد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فض اجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة، وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقضوا على المدينة بعد خروجه لبدر الثانية.

وقد حدث جابر عن بعض ما حصل في هذه الغزوة، فقال:: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين: فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: (لا)، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: (الله). قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا. فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس)، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

غزوة بدر الثانية

أشار الحكيم إلى سيف آخر، ثم قال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بدر الثانية (1)، وهذه الغزوة دليل آخر من أدلة ما نصر الله به نبيه من النصر الخفي يوم أحد.

__________

(1) وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وبدر الصغرى.

النبي المعصوم (481)

لا شك أنكم تذكرون ذلك الموعد الذي ضربه أبو سفيان للمسلمين بالالتقاء في بدر بعد سنة من غزوة أحد.

قال الجمع: أجل.. نذكر ذلك.. فما الذي حصل؟

قال الحكيم: أما المسلمون.. وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حضروا أنفسهم لذلك الموعد خير تحضير، فبعد أن خضدوا شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة قريش عدوهم الأكبر.

ففي شعبان سنة 4 هـ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وانتهي إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين.

وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهي إلى مَرِّ الظَّهْرَان على بعد مرحلة من مكة فنزل بمَجَنَّة، وهو ماء في تلك الناحية.

وقد كان في خروجه متثاقلاً خائفا من عقبي القتال مع المسلمين، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.

وقد تبعه جيشه الذي لم يكن له أي طاقة معنوية بقتال المسلمين.

وكان أبو سفيان قد بعث ـ قبل ذلك ـ إلى المدينة شخصاً اسمه نُعَيْم ليرجف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة العدو ليحملهم على عدم الخروج، وذلك ليكون له عذر في الرجوع إلى مكة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبال بما سمع من كثرة عدد الجيش وتثبيط همة الناس، فقال: (والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي)

وأقام صلى الله عليه وآله وسلم ببدر ثمانية أيام ينتظر العدو، وباع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس،

النبي المعصوم (482)

وزالت كل آثار ما حصل يوم أحد.

غزوة دُوَمة الجندل

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة دُوَمة الجندل.. فإن كان يريد ذلك، فهذه الغزوة من الغزوات التأديبية التي أراد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يملأ المنطقة التي تحيط به أمنا، فلا حياة مع الخوف.

لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل (1) تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5 هـ، وأخذ رجلاً من بني عُذْرَة دليلاً للطريق يقال له: مذكور.

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسير بالليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ما شيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب.

أما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة.

وبهذه الغزوة استطاع المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقفوا في وجه كل من تحدثه نفسه بزرع الرعب في نفوس الآمنين.

غزوة الأحزاب

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة الأحزاب.. فإن كان يريدها.. فهي من الغزوات التي تبرر الخيار الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) دُومَة الجنْدَل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة وبقرب تبوك.

النبي المعصوم (483)

بالمواجهة الشديدة مع هؤلاء الذي لا يقنعهم سوى المنطق الذي تفرضه السيوف.

وقد كان الهدف المعلن من هذه الغزوة ـ التي خطط لها جميع أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين واليهود والمنافقين ـ هو القضاء على الإسلام قضاء كليا.

وقد بدأت المؤامرة بخروج عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير (1) إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها.

ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.

وقد حدث أنه لما دعت اليهود قريشاً لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا لهم: سنكون معكم حتى نستأصله، ارتابوا في أمرهم، لأن دين اليهود قريب من الإسلام وبعيد عن عبادة الأصنام كل البعد وقريش عباد أصنام، ولذلك قالوا لهم: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا واستعدوا للحرب.

وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء:50)

وقد كان هذا القول من علماء اليهود داعية لألم الأستاذ ولفنسون الذي قال: (والذي يؤلم

__________

(1) منهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق.

النبي المعصوم (484)

كل مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين قريش الوثنيين حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية) (1)

ولكن الأحقاد التي كانت تملأ قلوب اليهود هي التي كانت تحكم ذلك الوقت لا العلم ولا المنطق.

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحزبهم وخروجهم لمحاربته أمر بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم.

وقد أشار عليه صلى الله عليه وآله وسلم بحفره سلمان الفارسي اقتداء بما كان الفرس يفعلونه للدفاع في الحرب، قال سلمان: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا.

وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندق بنفسه ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل، فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون بدون إذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجال من المنافقين وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

وفي هذا الموقف الحرج الذي اجتمعت فيه كل هذه الجموع على حرب المسلمين نقضت قريضة عهدها.. وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وانتهز المنافقون هذه الفرصة لتثبيط العزائم..

لقد صور الله تعالى تلك المخاوف التي كانت تملأ قلوب المسلمين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ

__________

(1) تاريخ اليهود: 142.

النبي المعصوم (485)

الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)} (الأحزاب)

وقد ذكر موقف المؤمنين بجنب هذه الشدائد، فقال: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22)

في ذلك الموقف الشديد خرجت فوارس من قريش على خيلهم بعد أن تهيأوا للقتال حتى وقفوا خارج الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم يمموا مكاناً من الخندق ضيقاً، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم السبخة بين الخندق وسلع وخرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموها، وخرج عمرو بن عبد ود، وطلب المبارزة، فبارزه عليّ بن أبي طالب فقتله.

وفي ذلك الموقف الشديد الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هو لكم.. ولا نأكل ثمن الموتى)

وقد خرجت خيله منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه عليّ فقتله، ومن الذين كانوا يناوشون المسلمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

ورُمِي سعد بن معاذ يومئذ بسهم فقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرّق الله

النبي المعصوم (486)

وجهك في النار، فأصاب الأكحل منه فقطعه، فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، ونقل سعد وهو مجروح إلى خيمة رُفيدة، وقد كانت امرأة تداوي الجرحى في المسجد.

وكما استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق وسيلة لحماية المدينة.. فقد استعمل أسلوبا آخر لعله لا يرضي صاحبنا الفنان.. إنه أسلوب الخدعة الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرب خدعة)

انتفض دوج قائلا: ألا تعجبون من نبي يقول هذا.. ألا تعجبون من نبي يخادع، ويدعو إلى الخدعة؟

قال الحكيم: إذا كانت الخدعة وسيلة لحقن الدماء وإحلال السلام كانت أسلوبا مشروعا.. بل كانت أسلوبا واجبا.. وليس هناك من أمة في الدنيا إلا وتلجأ إليها إذا لم تجد غيرها.

قال الجمع: فكيف حصل ذلك؟

قال الحكيم: لقد جاء جاء نُعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة)

فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره فليسوا كهيئتكم إن رأوا نُهْزَة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح.

النبي المعصوم (487)

ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيت حقاً عليّ أن أبلغكموه نصحاً، فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل ذلك، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتسمون منكم رهناً من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان ما صنع الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفرٍ من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كانوا

النبي المعصوم (488)

غير ذلك تشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم وخَذل الله بينهم، وبذلك نجحت الخدعة.

وبعد توفير المؤمنين كل أسباب النصرة الممكنة أرسل الله الريح في ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، وأصيبوا بالبرد، وماتت مواشيهم، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حذيفة: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، كما قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب: 9).

وقد وصف حذيفة ذلك الموقف الشديد، فذكر أن أبا سفيان بن حرب قام فقال: (يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه)، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: (يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل)، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.

هذه خطبة أبي سفيان في الجيش، وكان قائدهم ولا بقاء للجند بعد رجوع القائد ونصيحته لهم بالعودة، ولا شك أنهم سئموا الإقامة ولم يروا فائدة من الانتظار أكثر مما انتظروا، وقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يؤملون دخول المدينة، فكان الخندق عقبة في سبيلهم بالرغم من كثرة عددهم.

ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش تشمروا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من

النبي المعصوم (489)

متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً، وانصرف صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة الخندق، وقد قال بعد انصراف الأحزاب: (لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا)، وقد كان كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريش ومن حالفهم للقضاء على الإسلام.

ومع عظم الجيش المعد لهذه الغزوة ـ التي كان يمكن أن تقضي على الإسلام في مهده لولا حنكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلا أن خسائر الطرفين فيها لم تكن كبيرة، فقد ذكر ابن إسحاق أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير: ثلاثة من الأوس وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهيل، وثلاثة من الخزرج وهم: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد.

أما عدد قتلى المشركين فثلاثة: منبه بن عبد العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد وُدّ.

غزوة بني قريظة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لا شك أن صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة بني قريظة.

قال دوج: أجل.. إن هذه الغزوة أكبر وصمة عار في تاريخ المسلمين.. ولن تستطيع مهما حاولت أن تغسل هذه الوصمة.

قال الحكيم: اصبر علي.. فما كان لك أن تستعجل الحكم قبل أن تسمع القضية ومواطن الاحتمال فيها.. لنرى ما يقول العقل والمنطق والحكمة.

لقد وقعت هذه الغزوة مباشرة بعد غزوة أحد (1) وكانت متوجهة لبني قريظة (2)، لا شك

__________

(1) وقعت في ذي القعدة سنة خمس - إبريل سنة 627 م.

(2) بنو قُرَيْظَة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ.

النبي المعصوم (490)

أنكم تعلمون جريمتهم الكبرى التي فعلوها في غزوة الأحزاب.. لقد كان مصير الإسلام والمسلمين بين أيديهم، ولولا ما قدره الله من الفتنة بينهم ما بقيت للمسلمين باقية.. لقد كانوا بمثابة الباب الذي فتح على حصن المسلمين..

ولذلك ما إن انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الخندق ودخل المدينة هو وأصحابه ووضعوا السلاح.. وجاء وقت الظهيرة حتى أتى جبريل - عليه السلام - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتجراً بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: (نعم)، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.

فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذناً، فأذن في الناس من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس، وكان عدد من خرج إلى القتال ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين فرساً.

دنا عليّ من الحصن، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وغرز اللواء عند أصل الحصن، فسمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لِمَ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى، قال: نعم يا رسول الله، لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حصونهم قال: (يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟)، قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً.

ومرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفرٍ من أصحابه بالصوْرَين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال: (هل مرّ بكم أحد؟)، قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذلك جبريل بُعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم)

النبي المعصوم (491)

وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب..

فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له، فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟)، قالوا: بلى، قال: (فذاك إلى سعد بن معاذ)، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يُقال لها رُفَيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقومه حين أصابه السهم بالخندق: (اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب)

وقد كان حكم سعد في بني قريظة معروفاً، لأنه لما أصيب في غزوة الخندق قال: (اللهم لا تمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة)، وقد بقي مجروحاً إلى أن استدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحكم في بني قريظة، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار، وأقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما ولاك ذلك لتُحسن فيهم، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.

فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احكم فيهم)، قال: (فإني أحكم فيهم أن تقتل مُقاتِلتُهم، وأن تُسبى ذراريُّهم، وأن تُقسم أموالهم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون النساء والذرية في دار ابنة الحارث امرأة من بني النجار، وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم أمر بقتل كل المقاتلين، فبعث إليهم فجاءوا إليه أرسالاً تضرب أعناقهم، ويلقون في

النبي المعصوم (492)

تلك الخنادق، وكان فيهم عدو الله الأكبر حُييّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم.

ولم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة، هي بنانة امرأة الحكم القُرَظي، وقد كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد، فقتلته.

قال دوج: أترى أن هذا التصرف يمكن أن يقوم به نبي؟

قال الحكيم: نعم.. فالنبي هو الحكيم العدل الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.. إنه يمثل عدالة الله وحكمته، كما يمثل رحمته وفضله.. وحكمة الله وعدله تقتضي المعاقبة على الجرائم..

قال دوج: وقد تقتضي العفو عنها.

قال الحكيم: للعفو مواضعه، وللعقوبة مواضعها.. لقد رأينا عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بني النضير واكتفائه بإجلائهم عن المدينة.. فماذا فعلوا؟

قال رجل من الجماعة: لقد كانوا سببا في تأليب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحكيم: فالحكمة تقتضي ـ إذن ـ أن يظهر القائد من الحزم ما يحمي به من يقوده.

سكت قليلا، ثم التفت إلى دوج، وقال: أرأيت لو دخلت الأحزاب على المسلمين من جهة بني قريظة ماذا يمكن أن يحصل؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان أهل المدينة جميعا ـ وهم آلاف مؤلفة ـ عرضة للذبح والقتل والأسر.. فكيف تستنكر عقوبة من عرض هؤلاء لهذا؟

ثم لماذا تستنكرون هذا، والقنبلة الواحدة من قنابلكم تلقونها على المدن والقرى.. فتحصد من البشر بل من المدنيين أضعاف هذه الأعداد.. مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل إلا المحاربين.

سكت قليلا، ثم قال: ومع ذلك فقد كان بين يدي القرظيين سبل كثيرة للنجاة، ولكنهم ـ لكبرهم وعنادهم ـ أبوا أن يسلكوها، وآثروا القتل عليها، بل تكبروا حتى على الاعتذار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجريمة الكبيرة التي اقترفوها.

النبي المعصوم (493)

لقد روي أنه لما أتى بحييّ بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخذل الله يُخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره وملحمة قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه وضربت عنق كعب بن أسد سيد بني قريظة.

فأنت ترى إصرار هذا الرجل على عناده وكبره إلى آخر لحظة.

ومثله ما روي أن ثابت بن قيس استوهب الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك، فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود.

وعلى خلاف هؤلاء رفاعة بن سموأل القرظي الذي استوهبته أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم.

وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.

وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب.

سكت قليلا، ثم توجه لدوج قائلا: ألا ترى من العدل أن يحكم الغالب المغلوبين بما ارتضوه من قوانين؟

قال دوج: ذلك صحيح..

قال الحكيم: فقد حكم سعد بإقرار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بني قريظة بما نصت عليه قوانينهم، بل بما نص عليه كتابهم المقدس.

قال دوج: كيف ذلك؟

النبي المعصوم (494)

قال الحكيم: لقد جاء في سفر التثنية: (حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً) (التثنية: 20/ 1)

لقد علق مولانا محمد علي، على هذا النص بقوله: (وهكذا حكم سعد وفقا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف ـ في وضوح بالغ ـ أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس) (1)

غزوة بني لحيان

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بني لحيان..

لقد وقعت هذه الغزوة في أول شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة (يونيه - يوليه سنة 627 م)

أما سببها، فلعلكم تذكرون مأساة الرجيع.. تلك المأساة التي ذهب ضحيتها عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غدرا وعدوانا.. لقد كان بنو لحيان هم الذين غدروا بهؤلاء العشرة وتسببوا

__________

(1) حياة محمد ورسالته، ص 175.

النبي المعصوم (495)

في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى ـ من الحكمة ـ أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن ليطبق حكم العدالة على هؤلاء الغادرين ليكونوا عبرة لغيرهم.

فخرج إليهم في مائتين من أصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في قمم الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.

غزوة ذي قرد

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة ذي قرد.. فإن كان يشير إليها، فإن سببها يدل على الجو الذي كان يحيط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي كان يفرض عليه أن يظهر بمظهر القائد الحازم لتنعم الرعية بالأمن الذي كانت تفتقده.

لقد وقعت هذه الغزوة في ذي قرَد، وهو ماءٌ على نحو بريد من المدينة، مما يلي بلاد غطفان، وقد حصلت في ربيع الأول سنة ست (يوليه سنة 627 م) (1)

أما سببها، فهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينةُ بن حصن بن بدر في خيل لغطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغابة، وكانت عشرين لقحة، وفيها رجل من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.

والرجل الذي قتلوه هو ابن أبي ذر واسمه ذر، وكان يرعى الإبل، وامرأته التي أسروها اسمها ليلى، وقد نجت لأنهم أوثقوها وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانطلقت وركبت

__________

(1) وفي البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام وبعد الحديبية بعشرين يوماً.

النبي المعصوم (496)

ناقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً على حين غفلتهم، فانطلقت ولما علموا بها طلبوها فأعجزتهم.

ولما أغاروا على اللقاح في يومهم ذلك جاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، ونودي يا خيل الله اركبي.. فركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خمسمائة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم كعادته، وخلف سعد بن عبادة في 300 رجل يحرسون المدينة، وعقد لواء للمقداد في رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على إثرك.

وكانت نتيجة هذه الغزوة أنهم أدركوا العدو فهزموه وقتلوا رؤساءه واستنقذوا اللقاح، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ ذا قرد في اتجاه خيبر فالتجأ العدو إلى بني غطفان.

سرية كُرز بن جابر الفهري

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية كرز بن جابر الفهري التي وقعت في جمادى الأولى سنة ست.

فليعلم أن سببها هو أن أناساً من عكل وعُرَينة يبلغ عددهم نحو ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبايعوه على الإسلام وتلفظوا بكلمة التوحيد وكانوا حين قدموا المدينة سقاماً مصفرة ألوانهم عظيمة بطونهم، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع (أي ماشية وإبل) ولم نكن أهل ريف وكرهنا الإقامة بالمدينة، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فأمر لهم بذود من الإبل ومعها راع، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة وصحت أجسامهم باتباعهم إشارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عبداً له، اسمه يسار، وحين قتلوه مثلوا به فقطعوا يدهُ ورجله وجعلوا الشوك في عينيه واستاقوا الذود وحُمل يسار ميتاً إلى قباء فدفن هناك.

وقد كان جزاء هؤلاء المجرمين أن بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آثارهم خَيلاً من المسلمين قريباً من العشرين وأمّر عليهم كرز بن جابر الفهري فلقحهم فجاء بهم فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمّر أعينهم ولم يفلت منهم أحد وتركوا في ناحية الحرة في الشمس حتى ماتوا.

النبي المعصوم (497)

وقد أنزل الله في هؤلاء قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)

غزوة خيبر

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة خيبر..

قال دوج: أجل.. لقد توجهت هذه الغزوة لأولئك اليهود البسطاء لتزرع فيهم الرعب.. وتنشر بينهم القتل.

قال الحكيم: أنت تعلم أن أولئك اليهود البسطاء هم الرأس المدبر للكثير من المؤامرات والدسائس التي أرادت أن تجهز على الإسلام.. وأنت تعلم أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين وبغطفان وأعراب البادية، وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين.

قال رجل مسلم من الجمع: لقد سمعنا كثيرا في خلال حديثك عن هؤلاء.. فحدثنا كيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الحكيم: لقد وقعت هذه الغزوة سنة سبع من الهجرة، وكان معه 1600 من المسلحين، منهم 200 فارس.. وقد استنفر صلى الله عليه وآله وسلم من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: (لا تخرجوا معي إلا راغبين في

النبي المعصوم (498)

الجهاد، فأما الغنيمة فلا).. لأن الله قد وعد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عند انصرافه من الحديبية في سورة الفتح بمغانم كثيرة بقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} (الفتح:20)

وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه: (قفوا)، ثم قال: (اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله)

فلما أصبح خرجت اليهود إلى زروعهم بمساحيهم ومكاتلهم، ودفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، ودفع راية لسعد بن عبادة، ونزل بواد يقال له الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم، وكانوا حلفاءهم ومُظاهرين لهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر، فسمعوا حساً خلفهم فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر، وكان أهل خيبر 10.000 مقاتل.

ومكث صلى الله عليه وآله وسلم سبعة أيام يقاتل أهل حصن النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع إلى ذلك المحل ومن جرح من المسلمين يحمل إليه ليداوي جرحه، وكان اليهود كعادتهم يحاربون أمام الحصون لأنهم يخشون الحرب في الميدان، فإذا انهزموا عادوا إلى حصونهم وأغلقوها دونهم.

ولما كانت الليلة السادسة أتى رجل من يهود خيبر في جوف الليل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره أنه خرج من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة ويذهبون إلى حصن يجعلون به ذراريهم ويتهيأون للقتال وأخبره أن في حصن الصعب من حصون النطاة، في بيت فيه تحت الأرض منجنيقاً ودبابات ودروعاً وسيوفاً فإذا دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوقفه على أسراره.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأخذه الشقيقة في بعض تلك الأيام فيبعث أناساً من أصحابه فلم يكن فتح ومنهم أبو بكر وعمر.

النبي المعصوم (499)

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة: (لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يولي الدبر يفتح الله عز وجل على يديه فيمكنه من قاتل أخيك)

وفي الغد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ، وكان أرمد شديد الرمد، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عصب عينيه فعقد له لواءه الأبيض وتفل في عينيه ودلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع، وقال عليّ: فما رمدت بعد يومئذ، ثم دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ بقوله: (اللهم اكفه الحر والبرد)، قال عليّ: فما وجدت بعد ذلك لا حراً ولا برداً، فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين ويلبس في البرد الشديد الثوب الخفيف فلا يبالي البرد (1).

فلما أخذ عليّ الراية قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن لم يطيعوا لك بذلك فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)

فخرج عليّ حتى ركز الراية تحت الحصن، ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج إليه منهم الحارث أخو مرحب وكان مشهوراً بالشجاعة فقتله عليّ وانهزم اليهود إلى الحصن (وهو حصن ناعم) ثم خرج إليه مرحب لابساً درعين ومتقلداً سيفين ومعتماً بعمامتين، ولبس فوقهما مغفراً وحجراً قد ثقبه قدر البيضة، ومعه رمح فبرز له عليّ ثم حمل مرحب على عَلِيّ وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ باباً كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن، ثم إن علياً ضرب مرحباً فتترس فوقع السيف على الترس فقده وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف بالأضراس.

وكان أول حصن فتحه المسلمون وهو حصن الناعم من حصون النطاة على يد عليّ، ثم القموص، ولم يزل القتال ناشباً بين المسلمين واليهود، والمسلمون يفتحون حصونهم حصناً بعد حصن حتى أتموا فتحها جميعاً.

__________

(1) ذكرنا النصوص الكثيرة الدالة على هذا ومثله في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (500)

وقد قُتل من اليهود في جميع هذه المعارك 93 واستشهد من المسلمين 15 رجلاً.

وقد فتحت الحصون كلها عنوة إلا حصن الوطيح وحصن سُلالم فقد مكث المسلمون على حصارها أربعة عشر يوماً فلم يخرج أحد منهم فهمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمل عليهم وأن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية والخروج من خيبر وأرضها بذراريهم وألا يصحب أحد منهم إلا ثوباً واحداً، فصالحهم على ذلك وعلى أن ذمة الله تعالى ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئاً، فتركوا ما لهم من أرض ومال، ووجد المسلمون في الحصنين المذكورين 100 درع و400 سيف و1000 رمح و500 قوس عربية بجعابها ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدفعها إليهم.

وقد أشاد الأستاذ ولفنسون بهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ممَّا جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ويذكرون بإزاء ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب. م، إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم وما فعله المتعصبون من النصارى في اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضاً صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام) (1)

سرية مؤتة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية (2) مؤتة (3) التي أرسلها صلى الله عليه وآله وسلم لحرب الروم في جمادى الأولى سنة 8 هـ (سبتمبر سنة 629 م)

__________

(1) تاريخ اليهود ببلاد العرب، ص 170.

(2) سمى البخاري هذه السرية غزوة، وإن لم يخرج فيها النبي (لكثرة جيش المسلمين فيها.

(3) من عمل البلقاء وهي مدينة معروفة بالشام على مرحلتين من بيت المقدس جنوب شرق البحر الميت.

النبي المعصوم (501)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو من أمراء قيصر على الشام فقال: أين تريد لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأوثقه وضرب عنقه (1).

وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.

بالإضافة إلى ذلك، فقد أراد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه السرية الكبيرة تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية، والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم.

وقد أمّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مولاه زيد بن حارثة على هذه السيرة وندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس وقال: (إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلاً من بينهم يجعلونه عليهم أميراً)

وقد قال رسول الله يوصي الجيش قبل خروجه: (أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً)

ولما فصل الجيش من المدينة سمع العدو بمسيرهم، وقام شرحبيل بن عمرو الغساني، فجمع أكثر من مئة ألف من الروم، وضم إليهم القبائل القريبة الموالية، فلما نزل المسلمون معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، فأقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنخبره بعدد عدونا؛ فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن

__________

(1) هذا هو السبب الذي ذكره أغلب المؤرخين إلا أن ابن إسحاق لم يذكر سبباً لهذه السرية.

النبي المعصوم (502)

يأمرنا بأمره فنمضي له، فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة على المضي فقال: (إن التي تكرهون للتى خرجتم لها، إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة وليست بشر المنزلتين)، فقال الناس: لقد صدق ابن رواحة.

فمضوا إلى مؤتة، ووافاهم المشركون تحت إمرة إثيودور أخي هرقل فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العدد الكثير الزائد على مئة ألف والسلاح والخيل وآلات الحرب مع من انضم إليهم من قبائل العرب المتنصّرة من بني بكر ولخم وجذام مئة ألف، فقاتل الأمراء الثلاثة يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل المسلمون معه بشجاعة على صفوفهم حتى قتل طعناً بالرماح، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فقاتل قتالاً شديداً فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت يساره فاحتضنه وقاتل حتى قتل ووجد فيه بضع وسبعون جرحاً ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وتقدم به وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل عن فرسه وقاتل حتى قتل.

ثم أخذ اللواء ثابت بن أقرم العجلاني البلوي حليف الأنصاري وكان من أهل بدر فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل فاصطلحوا على خالد بن الوليد.

ثم نظر إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد الذي قاد المسلمين إلى الانسحاب من المعركة بعد أن علم استحالة الاستمرار فيها.

قال دوج: ولكن ما سعى المسلمون لتحقيقه في هذه الغزوة لم يتحقق.. لقد رضوا من الغنيمة بالإياب؟

قال الحكيم: لا.. لقد كانت هذه الغزوة من أكبر الانتصارات التي من الله بها على

النبي المعصوم (503)

المؤمنين.. ذلك أن مجرد التفكير في مواجهة الروم في ذلك الوقت لا يخطر على بال أحد.. فلذلك كان لمجرد التصدي لهم تأثيره العميق في كل المحيطين بالمسلمين.. ولذلك كانت هذه الغزوة مقدمة لفتح مكة، وما تلاها من فتوح الإسلام.

قال دوج: ولكنهم لم يزيدوا على أن انهزموا وأثبتوا فشلهم.

قال الحكيم: ليس بهذا المنطق يحكم الخبراء على الانتصار والهزيمة.. تصور الحادثة لتعرف مقدار النصر الذي حازه المؤمنون.. لقد كانت الروم في ذلك الوقت أعظم قوة في الأرض.. وتصدي المسلمين لها، ومواجهتها له تأثيره الكبير في تلك القبائل التي أكلتها الحرب.. وفي قريش.. التي لانت بعدها لينا لا مثله لين.

ولهذا لما عاد جيش المسلمين إلى المدينة تصور الناس أنهم انهزموا، فصاروا يقولون لهم: (أنتم الفرارون) لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صحح لهم ذلك، وقال: (بل هم الكرارون)

فتح مكة

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى فتح مكة..

قال دوج: أجل.. فكيف تجرأ على أن يدخل بجنوده إلى تلك المدينة المقدسة مع أنه كان قد صالح أهلها؟

قال الحكيم: أولا.. لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل مكة.. وكثير من الذين دخلوا مكة في هذا الفتح من أهلها الذين أخرجوا منها بغير حق.

وثانيا.. لقد كانت مكة محلا لانحرافات كثيرة.. وكان الدين الذي يشرع للاستبداد والظلم ينطلق من مكة.. أفترى في تطهير هذه البلاد من تلك الانحرافات إرهابا!؟

وثالثا.. لقد حاربت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أرسله الله.. أفترى في نصر الله له عليهم إرهابا!؟

ومع ذلك فقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير قتال.. وبعد أن دخلها، وكانت قريش قد

النبي المعصوم (504)

ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع بهم.. فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد.

يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)

ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟)

قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم.

قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء)

غزوة حنين

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة حنين (1)، تلك الغزوة التي قادها صلى الله عليه وآله وسلم في 10 شوال سنة ثمان من الهجرة.. فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أنه لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وخضعت له قريش، خافت هوازن وثقيف، وقالوا: قد فرغ محمد لقتالنا، فلنغزه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا.. بل قيل: إنهم كانوا يستعدون للقتال قبل فتح مكة، وذلك حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم.

وكان جملة من اجتمع من بني سعد وثقيف 4000 وانضم إليهم من سائر العرب جموع كثيرة وكان مجموعهم كلهم نحو 30.000 مقاتل، وقيل: 20.000 وكانت هوازن رماة.

__________

(1) حُنينٍ وادٍ في طريق الطائف إلى جنب ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال وتسمى غزوة أوطاس اسم لموضع كانت به الموقعة وهو واد في ديار هوازن، وتسمى الغزوة أيضاً غزوة هوازن، وهوازن اسم قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون.

النبي المعصوم (505)

وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم 12.000 مقاتل، منهم 10.000 الذين جاءوا معه من المدينة لفتح مكة و2000 من الذين أسلموا في فتح مكة.

وفي هذه الغزوة لما انشغل المسلمون بالغنائم استقبلهم العدو بالسهام، فعادوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد، وانكشفت خيل بني سليم مولِّية وكانت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فتبعهم أهل مكة والناس فانهزموا، وكانت هوازن رماة.

وقد ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الموقف الشديد كما ثبت في غزوة أُحُد وكان ثباته سبباً في كسب الموقعة، فإنه انحاز ذات اليمين ومعه نفر قليل قيل: إنهم لم يبلغوا مئة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركض وهو على بغلته نحو هوازن وهو يقول: (أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)

وأخذ كفاً من تراب فرماه في وجوه العدو قائلاً: (شاهت الوجوه)، فانهزموا، وهذا الرمي وقع مثله في غزوة بدر وهو من معجزاته الحسية (1).

ولما ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبق معه إلا بعض أصحابه، قال لعمه العباس: اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرَة، وكان العباس عظيم الصوت، وفي رواية: قال له: ناد يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَت على أولادها فأمرهم أن يصدقوا الحملة على العدو، فاقتتلوا قتالاً شديداً فنظر إلى قتالهم فقال: (الآن حمي الوطيس)، فولى المشركون الأدبار والمسلمون يقتلون ويأسرون فيهم ويتبعون آثارهم وقتل بعض المسلمين ذرية العدو، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الذرية وقال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)

ثم قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو برقان عم رسول الله من الرضاعة وهو من بني سعد، وقد جاءوا مسلمين فسألوه أن يمن عليهم بالسبي، فرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي المسلمون بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم.

__________

(1) انظر: رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

النبي المعصوم (506)

وقد أنزل الله تعالى في هذه الموقعة قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَآء الْكَفِرِينَ} (التوبة: 25، 26)

غزوة الطائف

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة الطائف، تلك الغزوة التي قادها صلى الله عليه وآله وسلم في شوال سنة ثمان من الهجرة.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن مالك بن عوف وجمعاً من أشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم في حنين، وقد كانت ثقيف رَمّوا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيأوا للقتال.

وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل قريباً من حصن الطائف وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلاً.

فارتفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى موضع مسجد الطائف الذي أنشئ بعد ذلك، ودام حصار الطائف ثمانية عشر يوماً، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج لنا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برفع الحصار، وكانت حكمته صلى الله عليه وآله وسلم في رفع الحصار واضحة؛ فالمنطقة المحيطة بها لم تعد تابعة لها، بل صارت ضمن سيادة المسلمين، ولم تعد تستمد قوتها إلا من امتناع حصونها، فحصارها ورفعه سواء أمام القائد المحنك، وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حوله في عملية الحصار، فقال نوفل بن معاوية الديلي: ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاغدوا على القتال)، فغدوا، فأصبت المسلمين جراحات، فقال

النبي المعصوم (507)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا قافلون غدا إن شاء الله)، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك، فلما ارتحلوا واستقلوا، قال: (قولوا: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)، وقيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال: (اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم)

غزوة تبوك

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة تبوك.. أو غزوة العُسرة.. أو الغزوة الفاضحة (1).. والتي كانت في رجب سنة تسع من الهجرة (سبتمبر - أكتوبر سنة 630 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن الأنباء وصلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة بأن الروم جمعت جموعا كثيرة، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب، وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسبقهم قبل أن يغزوه.

وقد وصلت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبار عن تلك الحملة، وأن عدداً من القبائل المسيحية انضمت إلى الروم لقتال المسلمين، ولذا سارع إلى إعداد جيش لملاقاة العدو عند الحدود الفاصلة بين الجزيرة العربية وسورية، تم تجهيزه على جناح السرعة وقوامه 30 ألف مقاتل بينهم عشرة آلاف فارس، كما انضم إليه الكثير من القبائل العربية أثناء مسيرته، مما دفع الروم إلى العدول عن حرب المسلمين، كما فر رؤساء القبائل المسيحية حين يئسوا من وصول الحملة البيزنطية، وبعدها صالحوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أدركوا أن قوة الإسلام جعلت دولة الروم العظمى تخشى مواجهتها.

أخلاق الحرب

__________

(1) ذكره الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية)، وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين، وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، ونفوسهم الخبيثة، وجرائمهم البشعة بحق رسول الله (والمسلمين.

النبي المعصوم (508)

أشاح الحكيم بوجهه عن اللوحة، وقال: دعنا من هذه اللوحة الآن.. فنحسب أنا شرحناها بما يكفي.. ولنبحث في الركن الثالث من الأركان التي أسسنا عليها حديثنا.. لعلكم تذكرونه.

قال رجل من الجمع: أجل.. لقد ذكرت أنه النظر في الأخلاق التي صاحبت حروب محمد.. والتي صاحبت حروب غيره.

قال الحكيم: أجل.. فالأخلاق عند أصحاب الفطر السليمة هي الأساس الذي يحكم من خلاله على الأشياء..

ويسرني قبل أن أبدا في ذكر الأخلاق التي انصبغت بها حروب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ بعض النصوص من الكتاب المقدس.. ذلك الكتاب الذي يحاكمنا به هؤلاء القضاة.

لقد جاء فيه: (فحرمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون محرمين كل مدينة: الرجال والنساء والأطفال. لكن كل البهائم وغنيمة المدن نهبناها لأنفسنا) (تثنية 3: 6 - 7)

وفيه: (فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد) (تثنية 13: 15 - 17)

وفيه: (حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما..) (تثنية 20: 10 - 18)

النبي المعصوم (509)

وفيه: (فهتف الشعب وضربوا بالأبواق. وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافا عظيما، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ - حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب) (يشوع 6: 20 - 24)

سكت قليلا، ثم قال: لعلك تقول بأن هذه النصوص من العهد القديم.. ومسيحية العهد الجديد تختلف كثيرا.. بل تختلف اختلافا جذريا.

إن قلت ذلك.. فإن جميع المسيحيين يقولون بأن الكتاب المقدس لم ينسخ ولا يمكن أن ينسخ... ويستشهدون بقول المسيح: (السموات والأرض تزولان وكلمتى لا تزول)

ومع ذلك، فلا نفتقر في العهد الجديد لمثل هذه النصوص، ففي رسالة بولس إلى العبرانيين يقول: (بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام. بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الجاسوسين بسلام. وماذا أقول أيضا؟ لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون، وباراق، وشمشون، ويفتاح، وداود، وصموئيل، والأنبياء، الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا برا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء، أخذت نساء أمواتهن بقيامة. وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضا وحبس. رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلا بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين مكروبين مذلين) (عبرانيين 11: 3036)

التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: ألا ترون بولس يقر كل ما ورد في العهد القديم.. ألا ترونه يثني على كل ما فعله أولئك المجرمون من سفك دماء وجرائم حرب.. بل يعتبر كل ذلك تقوى وإيمان وخير...!؟

النبي المعصوم (510)

ليس ذلك فقط.. ففى العهد الجديد: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها) (متى 10: 34 - 40)

وفيه: (جئت لألقي نارا على الأرض... أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا أقول لكم! بل انقساما. لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين: ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة. ينقسم الأب على الابن والابن على الأب والأم على البنت والبنت على الأم والحماة على كنتها والكنة على حماتها) (لوقا 12: 49 - 53)

وفيه: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19: 27)

وفيه: (فقال لهم: (لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا. لأني أقول لكم إنه ينبغي أن يتم في أيضا هذا المكتوب: وأحصي مع أثمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء، فقالوا: يا رب هوذا هنا سيفان، فقال لهم: يكفي!) (لوقا 22: 36 - 37)

وفيه: (لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟) (كورنثوس الثانية 6: 14 - 16)

هذا عن المسيحية.. أما عن الجرائم التي حدثت طيلة عهود التاريخ البشري، فلا يمكن حصرها..

فى مصر قتل جستنيان الأول عام 560 م مائتي ألف فى الإسكندرية وحدها من أجل رفضهم اعتناق المسيحية.

وفى النرويج ذبح الملك (أولاف) كل من رفض اعتناق المسيحية.

وفى روسيا فرض فلاديمير عام 988 م المسيحية على كل الروس بالقوة.

النبي المعصوم (511)

وفى الجبل الاسود قاد الأسقف الحاكم دانيال بيتروفيتش عملية ذبح غير المسيحيين ليلة عيد الميلاد عام 1703 م.

ليس هذا سلوك برابرة تلك العصور فقط.. بل ما زال هذا هو سلوك أهل الحضارة إلى اليوم..

طأطأ دوج رأسه، ولم يجد ما يجيب، فقال رجل من الجمع متهكما: هلا تفضلت ـ حضرة الفنان البارع ـ فرسمت لنا صورة بالجرائم التي وقعت فيها هذه الأمم المتحضرة؟

ضحك آخر، وقال: ومن يملك ثمن اللوح الذي يرسم فيه صورة ذلك..؟

قال آخر: وبأي آلة يمكن أن يحملها..؟

قال آخر: وأي مداد هذا الذي يكفي لتصويرها؟

قال الحكيم: لقد نسي هؤلاء قول المسيح: (من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر).. فراحوا ـ وهم الملطخون بجميع الجرائم ـ يرمون الطهر والنبل والكرم والسماحة بكل ما امتلأت به نفوسهم من أحقاد.

قال رجل من الجمع: حدثتنا عن أخلاقهم، فحدثنا عن أخلاق محمد في حروبه.

قال الحكيم: حتى نختصر حديثنا، فسنتحدث عن ناحيتين ترتبطان بكل حروب الدنيا، لنرى أنواع الأخلاق التي صاحبتهما في حروب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حروب غيره.

وهما: الدوافع التي دفعت للحرب، والوسائل التي استعملت فيها.

دوافع

قال رجل من الجمع: لقد حدثتنا بتفصيل عن الأسباب التي دفعت محمدا إلى حروبه.

قال الحكيم: يجمع كل ما ذكرناه من تفتصيل سببان:

أما السبب الأول، فهو الدفاع عن النفس، وقبلها عن المبادئ.. ولذلك كان المؤمنون يقدمون أنفسهم قرابين للمبادئ النبيلة التي يحملونها.

النبي المعصوم (512)

لقد ذكر القرآن الكريم هذا السبب، واعتبره مبررا لحمل السيوف، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39)

التفت إلى دوج، وقال: اذهب.. وابحث ـ بعقل وحكمة ـ في أكثر الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجد هذا السبب هو الدافع الأساسي لخوض تلك الغزوات..

وعندما تفرض الحرب على إنسان، فهو بين أمرين:

إما الاستسلام.. وبالاستسلام تموت المبادئ، وينتصر الظلم والاستبداد.. ولو فعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لرحت ترسم لوحة بجبن المسلمين وخوفهم وتزلزل أقدامهم أمام أعدائهم.

وإما قبول الحرب المفروضة.. وهذا ما فعله المسلمون.. وقد كتب الله لهم النصر، لأنهم لم يكن لهم هدفهم في حروبهم إلا الدفاع ونصرة الحق الذي يحملونه، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء:76)

أما السبب الثاني، فهو الخلاص.. لقد كان الدافع الذي دفع المسلمون في حروبهم جميعا ـ حتى الدفاعية منها ـ هو تخليص المستضعفين من قيود المستكبرين.. لقد ذكر الله هذا الدافع، فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)} (النساء: 75)

لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تلك الغزوات والسرايا كسر شوكة السلطات الطاغية والمتجبرة التي كانت تحكم تلك البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى هدي الإسلام.

لقد كانت تلك السلطات ترى أن لها الحرية في هذا الجانب، فلذلك لا تريد إلا أن يبقى الناس على دينها ومذهبها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له كسرى أو قيصر، أو الملك أو الأمير.

النبي المعصوم (513)

لقد عبر القرآن على لسان فرعون قديما حينما أسلم سحرته، وآمنوا برب موسى وهارون، فقال لهم: {آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} (الأعراف)

التفت إلى دوج، وقال: لقد رأيت ـ عند سردنا للغزوات والسرايا ـ كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤمر على كل قرية يفتحها أميرا منهم.. وكيف أنه لم يكن يطلب منهم أي جباية تخصه، بل كل ما كان يطلبه منهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم لترد على فقرائهم.. ويكتفي منهم بذلك.

قارن ذلك بجشع المستعمرين من هذه الحضارة الطاغية الذين أسسوا حضارتهم على تخريب البلاد، وهلاك العباد.. ولم يكتفوا بنهب خيرات الشعوب التي استعمروها، ولا باستذلالها وتسخيرها في مصالحها.. بل راحوا ـ فوق ذلك ـ وبعد خروجهم منها ينشرون الفتن بين أهلها، ليكملوا ما بدأه المستعمر من خراب.

وسائل

قال رجل من الجمع: عرفنا الدوافع، ولا يشك أحد من الناس في شرفها، فقد ظل محمد في جميع حياته كما هو إنسانا بسيطا أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى.. وقد كان في إمكانه أن تبني له القصور، وينعم بما نعم به المترفون، ولكنه أبى كل ذلك.. وليس ذلك من خلق المستبد أو المستعمر أو الذي يغلب مصالحه على مصالح غيره.

قال آخر: اقتنعنا بهذا، فحدثنا عن الآخلاق التي صاحبت تنفيذ محمد لما تتطلبه هذه الدوافع الشريفة.. فقد تكون الدوافع شريفة، ولكن الطريق إليها خاطئ.

قال الحكيم: لقد عرفتم من خلال ما سردنا من آيات القرآن، ومن خلال ما سردنا من حوادث السيرة أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم اضطر إلى استعمال السلاح اضطرارا.. ومع ذلك، ومع أنه أبيح له هذا الاستعمال إلا أنه أبيح مقيدا بقيود كثيرة ترفعه إلى مستويات عالية لا نجد لها في تاريخ المبادئ

النبي المعصوم (514)

مثيلا.

قال دوج: من السهل ادعاء مثل هذا.

قال الحكيم: ومن السهل إثبات مثل هذا.

قال رجل من القوم: فأثبت لنا وله ذلك.

قال الحكيم: سأذكر لكم أربع تشريعات مرتبطة بهذا.. وسأترك لكم كل الفرصة لتبحثوا في جميع حروب الدنيا لتجدوا نظيرا لها..

قال الحكيم: أما التشريع الأول، فهو حرص الإسلام على المعاهدات التي تحفظ السلام.. وهو ما يؤكد حرص الإسلام على السلام.

لقد رأيتم في عرضنا لغزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وهبه الله من القوة بعد غزوة الأحزاب.. بل كان يمكنه بعد فترة وجيزة من صلح الحديبية أن يفتح مكة.. ولكنه لم يفعل حرصا على المعاهدة التي أقامها معها.

ونفس الشيء حصل مع جميع اليهود.. فلم يبدأهم صلى الله عليه وآله وسلم بالحرب حتى بدأوه.. ولم ينفذ فيهم بعد خيانتهم له إلا ما استوجبته قوانين العدالة التي يرتضونها، بل التي أسس عليها كتابهم المقدس.

ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)

وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.

والمؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك يتأدبون بما ورد في القرآن الكريم من الأمر بالوفاء بالعهود.. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل:91)، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ

النبي المعصوم (515)

كَانَ مَسْؤُولاً} (الاسراء:34)

وقد وصف الله تعالى الذين ينقضون العهد بالخسران، فقال: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة:27).. بل وصفهم بما هو أخطر من ذلك، فقال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد:25)

ولذلك، فإن القرآن الكريم يصف أعداء الإسلام بالخيانة، وذلك ليقرر في المؤمنين أن الخيانة ليست من أخلاقهم، ولا من دينهم، قال تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} (لأنفال:56)

وفي مقابل هذا أمر المؤمنون بإتمام مدة العهد، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4)

وعلى هذا الميثاق القرآني كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يربي أصحابه، وسراياه التي كان يرسلها، وجيوشه التي كان يغزو بها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا دين لمن لا عهد له) (1)

وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقض العهد بالنفاق، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) (2)

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر خائن العهد خصما له، فقال: (من ظلم معاهدا أو انتقصه أوكلفه فوق

__________

(1) رواه أحمد.

(2) رواه البخاري.

النبي المعصوم (516)

طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) (1)

وأخبر عن بعض الجزاء الذي يعانيه الغادر، فقال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به) (2)

وانطلاقا من هذه النصوص، فقد ورد الأمر بالتعامل مع كل من تربط بينهم وبين المسلمين أي علاقة أو أي ميثاق بمقتضى ما تمليه تلك المعاهدات، ولا يجوز خيانتها بحال من الأحوال إلا إذا ظهرت من العدو بوادر الخيانة، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (لأنفال:58)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد ذلك ويوضحه: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدا ولا يشدنه حتى يمضى أمده أو ينبذ إليهم على سواء) (3)

قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الخلق الأول، أو التشريع الأول، فحدثنا عن التشريع الثاني، أو الخلق الثاني.

قال الحكيم: الخلق الثاني هو النبل.

قال الجمع: فما النبل؟

قال الحكيم: لا يعتبر في شريعتنا الجهاد جهادا إلا من النبلاء.. أولئك الذين يحملون نفوسا طيبة، وهمما رفيعة، وأرواحا يقدمونها هدايا لكل هدف نبيل.

لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (4)

التفت إلى دوج، وقال: أتدري ما معنى القتال حمية؟

__________

(1) رواه أبو داود.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(3) رواه أبو داود والترمذى وقال: حديت حسن صحيح.

(4) رواه البخاري ومسلم.

النبي المعصوم (517)

قال نيورن: لا.. فما هو؟

قال الحكيم: هو ما تسمونه القتال من أجل القومية والوطنية.. وغيرها.

قال دوج: أفترى الإسلام محاربا لهذه القيم السامية؟

قال الحكيم: الإسلام يحترم القيم الإنسانية الرفيعة التي تضع البشر جميعا في محل واحد، فلا تفرق بين إنسان وإنسان، ولا بين شعب وشعب.. ولذلك يعتبر كل الحروب التي تقوم في سبيل رفعة وطن على حساب وطن، أو تسلب خيرات وطن لأجل وطن آخر قتال حمية يتنافى مع النبل الذي دعا له الإسلام.

إن فهمت هذا فهمت نبل المجاهد المسلم.

فهو ينطلق لأجل إعلاء كلمة الله.. وكلمة الله تعني القيم النبيلة من العدالة والرحمة ونصرة المستضعفين..

وهو في ممارسته للجهاد لا يمارسه إلا بذلك النبل الذي انطلق منه.. فجند الله رهبان بالليل فرسان بالنهار.. أصحاب عبادة وخلق.

قارن هؤلاء بجيوش العالم جميعا.. أولئك الجيوش الذين جعلوا من ثكناتهم مواخير للرذيلة والانحراف حتى أصبحت الجندية مرادفة للرذيلة والانحراف.

قال دوج: كيف تقول هذا.. وكيف تصف هؤلاء بهذا النبل، وقد ورد القرآن يصفهم بالشدة والغلظة.

قال الحكيم: صدقت.. لقد قال الله تعالى آمرا المجاهدين في سبيله بالغلظة مع من يقاتلهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:123)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة:73)

ولكن هذه الغلظة تمتلئ بالرحمة..

النبي المعصوم (518)

ضحك دوج ساخرا، وقال: كيف ذلك.. كيف تجتمع الغلظة مع الرحمة؟

قال الحكيم: لقد قال تعالى مبينا ذلك: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (لأنفال:57).. لقد قال المفسرون في معنى هذه الآية: (معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة)

قال دوج: فالآية تحث المؤمنين على استعمال أسلوب التخويف.

قال الحكيم: إذا كان التخويف هو وسيلة السلام الوحيدة فلا حرج من استعماله.. وليس هناك في الدنيا أمة من الأمم إلا وتستعمله.

تصور لو أن المجرمين لم تمتلئ قلوبهم من الإرهاب المعد لهم في السجون والمقاصل.. إنهم لو أتيح لهم قوانين رحمة كما يريدون لأصبحت الأرض جميعا ملكا لهم، يقتلون من يشاءون، ويحيون من يشاءون.

قال رجل من الجماعة: فما الخلق الثالث؟

قال الحكيم: الإنسانية..

ضحك دوج، وقال: إن الحرب قتل للإنسان، فكيف تكون إنسانية؟

قال الحكيم: عندما يكون هدف المحارب هو قضيته فقط.. ولا يكون له أي غرض سواها.. وعندما تكون نفسه مشحونة بالإيمان الذي يطهرها من كل الأحقاد تكون الحرب إنسانية.

قال رجل من الجماعة: فما مظاهرها في جهاد المسلمين؟

قال الحكيم: مظاهرها كثيرة.. منها مثلا: رحمة القتيل بالإجهاز عليه، وعدم تركه لآلامه، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) (1)، فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث

__________

(1) رواه مسلم.

النبي المعصوم (519)

بالإحسان في القتل، واعتبر إحداد الشفرة من إراحة الذبيحة.

وقد نص على هذا المظهر الإنساني قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) (محمد:4)، فقد أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين بضرب الرقاب، وهي أقرب المناطق التي تيسر الموت الرحيم.

وبما أن المقاتل بين أن يقتل من يقاتله أو يأسره، فقد خص الله تعالى موضعين فقط للمقاتل، أما أولهما فضرب الرقاب، وأما الثاني فضرب البنان الذي هو رؤوس الأصابع، وذلك لمن يريد أسره حتى لا يبقي فيه عاهة مستديمة قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (لأنفال:12)

التفت دوج، وقال للجمع: هل سمعتم مثل هذا.. إن القرآن يأمر بضرب الرقاب، إنه يقول بكل قسوة: {: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد:4)

ابتسم الحكيم، وقال: وما تريد منه أن يقول في هذا الموضع؟.. هل تريد أن يقول: فإذا لقيتم الذين كفروا فسلموهم رقابهم.. أو تراه يقول لهم: (فانثروا الورود والرياحين في وجوههم)

إن المقام مقام شدة، ولا يردع الشدة مثل الشدة.

لقد أدرك الشاعر الحكيم ذلك، فقال:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

وقال آخر:

والشر إن تلقه بالخير ضقت به... ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم

وقال آخر:

والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

ومع ذلك، فالقرآن لم يأمر بالقتل فقط، بل أمر معه بالأسر..

النبي المعصوم (520)

انتفض دوج بشدة قائلا: ماذا تقول!؟.. ألا تتحرج من الحديث عن الأسر في الإسلام!؟.. إن الإسلام يأمر بقتل الأسرى، ولا يتعامل معهم بأي رحمة؟

ولن نستطيع أن تجادلني في هذا، فقد قال القرآن كلمته فيها، ففيه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:67).. والآية واضحة، فهي تنهى عن الإبقاء على الأسرى، وتأمر بالقضاء عليهم.

ابتسم الحكيم، وقال: أنت تفهم من القرآن ما يحلو لك.. بل أنت تحمل من القرآن من المعاني ما لا يطيق.

سأزيل عنك هذا الوهم..

إن الآية التي ذكرتها لا تفهم إلا في ضوء قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد:4)

قال دوج: ألا يحتمل أن تكون هذه الآية منسوخة بتلك الآية؟

قال الحكيم: القرآن كله محكم {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)

قال دوج: ولكن التعارض بينهما واضح.

قال الحكيم: التعارض واضح في الأذهان التي لم ترتق لتفهم أسرار التعابير القرآنية.

فهاتان الآيتان تبينان أسلوبا من أساليب الحرب الدفاعية.

أما الآية التي ذكرتها، فتأمر بأن يبدأ المقاتلون بتحطيم قوة عدوهم وكسر شوكتهم، فإذا أثخنوا في قتل أعداءهم حتى يكون عندهم خوف ورعب.. وحينذاك ـ حين تنهار قوة العدو ـ يبدأ استعمال الأسلوب الثاني، وهو أسلوب الأسر، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) (محمد:4)، فالأسر يكون بعد الإثخان وليس معه أو قبله، فليس ثمت نهي عن الأسر،

النبي المعصوم (521)

وإنما أمر أن يكون الإثخان هو الأول، وبعده يأتي الأسر.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض مظاهر إنسانية التعامل مع الأسير في الإسلام، ثم قارنها بما شئت.

فمن حقوق الأسير عدم إكراهه على ترك دينه، فلا يُكره على الدخول في الإسلام، وإنما يُدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (لأنفال:70)، ففي الآية استمالة للأسرى، وتجديد الدعوة لهم، وفتح باب التوبة أمامهم، وترغيبهم بما يعوضهم عما دفعوا من الفداء، ويعدهم إن هم دخلوا في الإسلام طائعين مختارين بالرزق الوفير في الدنيا والآخرة والمغفرة لما سلف من ذنوبهم قبل الإيمان، وفي هذا دليل واضح على أنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام.

ولم يقع قط أن أكره أسير على أن يدخل في الإسلام..

سأضرب لك مثالا عن كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أسراه، روى ابن إسحاق عن أبي هريرة أن خيلاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذت أسيرا، ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي)، فربطوه بسارية من سواري المسجد بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لينظر حسن صلاة المسلمين، واجتماعهم عليها فيرق قلبه، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي خير يا محمد إن تَقْتل تَقْتُل ذا دم، وإن تُنْعِم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة؟)، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي ما قلت لك، فقال: (أطلقوا ثمامة)

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ثم قال: والله يا محمد ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من

النبي المعصوم (522)

وجهك، وقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخير الدنيا والآخرة وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة يلبي وينفي الشريك عن الله قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت لله رب العالمين مع محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا والله تأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال دوج: كيف تزعم أن نبيكم يحسن معاملة الأسرى، وقد ذكرت أنه ربطه بسارية من سواري المسجد.

ابتسم الحكيم، وقال: إن هذا الحديث يفهم على ضوء قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة)

إن من معاني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تغلوا) هو وضع الأغلال في أيدي الأسارى، فقد نهت الشريعة الإسلامية عن وضع الأغلال بأيدي الأسرت، وأمرت بتركهم أحرارا من دون تقييد أو تحديد لحركتهم.

قال دوج: ولكن ما أمر به محمد من تقييده يتنافى مع هذا.

قال الحكيم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقيد يديه بالأغلال ليعذبه بذلك، وإنما وضعه في موضع يستطيع معه أن يرى المسلمين ورحمة المسلمين وإنسانية المسلمين، ولو أنه رأى غير ذلك لما عاد بعد أن أطلق سراحه ليسلم، بل ويحسن إسلامه، ويثبت في الوقت الذي ارتد فيه الناس على أعقابهم.

قال رجل من الجمع: واصل حديثك عن حقوق الأسير في الإسلام.

قال الحكيم: من حقوق الأسير التي نص عليها القرآن الكريم إعطاؤه ما يكفيه من الطعام والشراب، كما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ

النبي المعصوم (523)

اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الانسان:8 - 9)، ففي هاتين الآيتين دليل على أن إطعام الأسير قربة يتقرب بها المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، وفيهما أن المؤمن يؤثر الأسير حتى على نفسه، وفي قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} دليل على أنه لم يطعمه مما فضل من قوته، وإنما يطعمه من طيب طعامه مع حاجته إليه ومحبته له.

ولذلك نص العلماء على أن منع الطعام عن الأسير من الكبائر، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عُذبتْ إمرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) (1)

فلما كان الحبسُ مانعاً للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه وجب على حابسه أن يقوم بحقه، ولو كان ذلك في حق الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى.

سكت قليلا، ثم قال: ومن حقوق الأسير حقه في الكسوة والثياب المناسبة التي تليق به وتجدر بمثله، وقد روي في الحديث عن جابر قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبيّ يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه) (2)

ومن حقوقه حقه في المأوى والسكن المناسب أياً كان، فقد يُسكن في المسجد أو يُسكن في سجن خاص ويكون ملائماً أو حتى في بيوت بعض المؤمنين، وفي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هناك دار خاصة للأسرى ولا للسجن، ولهذا ربما سجن الأسير في المسجد، وربما وزع الأسرى على المسلمين في بيوتهم إلى أن يُنظر في شأنهم.

ومما يدل لذلك ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ناساً من الأسرى الذين كانوا يتقنون القراءة

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري.

النبي المعصوم (524)

والكتابة يُعلمون أولاد الأنصار القراءة والكتابة، وجعل ذلك فداءهم وفكاكهم (1)، ومن المعلوم أن الأسير كي يُعلم ويكتب لابد أن يكون طليقاً غير مقيد ولا مربوط، وقادراً على الذهاب والإياب، والوثاق إنما جُعل لمنعه من الهرب فإذا أمكن منعه بلا وثاق فلا حاجة إليه.

ومن حقوق الأسير في الإسلام عدم تعريضه للتعذيب بغير حق، ولم ينقل في الشرع أنه أُمر بتعذيبهم..

قال دوج: نبيكم لم يعذب الأسرى، ولكنه قتلهم.

قال الحكيم: نعم.. لقد قتل النبي بعض الأسرى، وذلك لأن لهم سوابق وجرائم استوجبت قتلهم، ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل من الأسرى خلال حروبه الطويلة إلا عددًا قليلاً كانوا من أكابر عتاة المشركين وقادة الحرب الضروس الفاجرة ضد الإسلام وأهله، ويمكن أن نطلق عليهم حسب التعبير المعروف اليوم (مجرمي حرب)

التفت إلى دوج، وقال: هذه بعض حقوق الأسرى في الإسلام، فقارنها بما شئت من اتفاقات دولية.. ولا تنسى مقارنتها بالواقع كذلك، فأكثر اتفاقات البشر مأسور لم يمن عليه بالخروج من الورق، ومن قيود الحبر.

قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الخلق الرابع.

قال الحكيم: الرحمة..

ابتسم دوج، وقال: الحرب قتال.. فكيف تصاحبها الرحمة؟

قال الحكيم: عندما يمارس المجاهد النبيل ما تتطلبه الحرب من قتال لا يمارسه بقسوة، وإنما يفعل ذلك من باب الضرورة.. يفعله، وهو يود في كل لحظة أن يتوقف خصمه عن قتاله ليكيف عن قتاله.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ

__________

(1) رواه أحمد وغيره.

النبي المعصوم (525)

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (لأنفال:61)

وقد روي في الحديث أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهبوا يتطرقون، فلقوا أناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم، فأوجره السنان فقتله، وأخذ متيعه فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقاتل: أقتلته بعد أن قال إني مسلم؟! قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، قال: أفلا شققت عن قلبه؟ قال: لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب! قال: وكنت عالم ذلك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما كان يعبر عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه.

قال الحسن ـ راوي الحديث ـ: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره.

قال الحسن: فلا أدري كم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كم دفناه مرتين أو ثلاثة كل ذلك لا تقبله الأرض، فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجليه فألقيناه في بعض تلك الشعاب، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:94)

قال الحسن: (أما والله ما ذاك أن تكون الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ الله القوم أن لا يعودوا) (1)

سكت قليلا، ثم قال: لقد كان في إمكان كل تلك الدماء التي سفكت أن لا تسفك لو أن أصحابها تخلوا عن غرورهم وكبرهم.. لقد رأيتم كيف سيق بنو قريظة بعد خيانتهم إلى المقصلة برؤوس مرفوعة تكبرت عن مجرد الاعتذار عما بدر منها من خيانة.

وقد رأيتم كيف عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل من ارتكب جرائم كبرى استحق لأجلها أن

__________

(1) رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.

النبي المعصوم (526)

يهدر دمه، ولكنه بمجرد اعتذاره عفي عنه، ومحيت كل ذنوبه، وصار واحدا من أمته صلى الله عليه وآله وسلم..

نظر إلى دوج، وقال: هذا هو الوجه الأول من وجوه الرحمة..

أما الوجه الثاني، فتوجهت به تشريعات الإسلام لكل من لا ناقه له في الحرب ولا جمل.. كالنساء والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته وغيرهم.. فهؤلاء وردت النصوص الشديدة بتحريم المساس بهم.

ففي الحديث: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان (1).

وفي حديث آخر: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال: (انظر علام اجتمع هؤلاء)، فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: (ما كانت هذه لتقاتل). قال: وعلى المقدمة خالد، فبعث رجلاً، فقال: (قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا) (2)

التفت إلى الجمع، وقال: انظر رحمة الجهاد في الإسلام.. حتى العسيف الذي هو الأجير، فالعمال الأجراء حتى لو حضروا المعركة لايجوز قصدهم بالقتال إذا كانت خدماتهم لا تتصل بالقتال، فغيرهم ممن لم يحضروا إلى ساحة المعارك هم أولى بأن تشملهم تلك الحصانة من أن توجه إليهم الأسلحة، ولو كانوا في بلاد الأعداء.

لقد كانت هذه التعاليم المضمخة بعطر الرحمة توجه لكل جيش أو لكل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث جيشاً قال له: (انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولاتغلوا) (3)

-\--\-

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه أبو داود.

(3) رواه أبو داود.

النبي المعصوم (527)

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (دوج مارلت) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

النبي المعصوم (528)

عاشرا ـ زوجات

في مساء اليوم العاشر دخل (سلمان رشدي) (1) دار الندوة الجديدة، بوجه غير الوجه الذي

__________

(1) أشير به إلى (أحمد سلمان رشدي) صاحب رواية (آيات شيطانية)، ولد في بومباي (الهند) 19 يونيو عام 1947.. التحق بمدرسة تبشيرية إنجليزية، وحين بلغ 13 من عمره أرسله أبوه لبريطانيا لمتابعة دراسته، بعدها ألحقه والده بجامعة كيمبريدج لدراسة التاريخ في الأعوام من 1965 وحتى 1968.

توجه بعد ذلك لباكستان حيث قطنت عائلته وحصل على وظيفة في التلفزيون الباكستاني، وسرعان ما تركها عائدا لبريطانيا للعمل في مجالات مختلفة، انتهت باحترافه الكتابة كما حصل على الجنسية البريطانية.

تزوج في البداية من إنجليزية تدعى كلاريسا لوارد عام 1976 ولكنهما انفصلا، ثم تزوج الأمريكية ماريان ويغنز عام 1986 وهي كاتبة روائية صدرت لها رواية تتناول المعتقدات المسيحية بالنقد والسخرية.

أصدر العديد من الروايات من بينها (غريموس) 1975، (أطفال منتصف الليل) 1981 وهي تجابه الثقافة الهندية بكل عاداتها وتقاليدها ودياناتها ومدينة أيضا لنضال الهنود ضد المستعمر البريطاني، حتى أن أنديرا اغندي أقامت ضده دعوى قضائية بسبب هذه الرواية وربحتها، ومنعت روايته من دخول الهند، بيد أنها ترجمت لثلاثين لغة من العربية والفارسية والأردو، وهذه الرواية هي التي أكسبته شهرة واسعة في عالم الأدب فقد فازت بجائزة بوكر عام 1981.

أصدر أيضا (العار) 1983 تناول فيها الحياة في باكستان وأدان الثقافة الباكستانية وحكومتها وتكررت الأحداث حيث منعت الرواية من دخول باكستان ولكنها ترجمت للغات عدة، أصدر بعدها (ابتسامة الجاكوار)، وهي رواية انتقدت تجربة الثورة في نيكاراجوا.

وقد كان الحدث الأهم في حياته هو صدور روايته (الآيات الشيطانية) 1988 وهي عبارة عن رواية تبدأ بتخيل طائرة تنفجر بفعل إرهابي فوق الجزر البريطانية، فيموت ركابها وينجو اثنان أحدهما جبريل رمز للخير والآخر الشيطان رمز للشر، وخلال الرواية يهزأ الكاتب بالرسول (وبزوجاته، وبالمقدسات الإسلامية والأنبياء والملائكة بصورة فجة، ويجري على ألسنتهم الشريفة الألفاظ النابية، حتى أنه لم يكتب بالرموز وإنما تعمد أن يكتب كل شخصية باسمها الصريح، فهو مثلا ينعت النبي (بـ (ماهوند) ـ وهي كلمة تعني النبي المزيف ـ ووصف مكة المكرمة بمدينة الجاهلية.. وهذا ما دعا غير المسلمين أنفسهم لاعتبار روايته رواية بذيئة.

وقد ختم رشدي روايته بتسجيل سعادته البالغة بأنه صار إنجليزيا، وأنه نجا من الإسلام ومن تخلف شعوب الشرق الإسلامي إجمالا، وتنتهي الرواية بإنتحار بطلها الذي يحمل انفصاما في الشخصية، فتارة هو جبريل رمز الخير وتارة هو الشيطان رمز الشر.

وقد صدرت العديد من الإصدارات حول هذه الرواية منها (شيطانية الآيات الشيطانية) لأحمد ديدات، و(الآيات الشيطانية الظاهرة والتفسير) د. محمد محيي،.. (همزات شيطانية وسلمان رشدي) د. نبيل السمان،.. (آيات سماوية في الرد على آيات شيطانية) د. شمس الدين الفاسي، و(آيات شيطانية.. جدلية الصراع بين الإسلام والغرب) د. رفعت سيد أحمد، و(الرد على كتاب الآيات الشيطانية) هادي المدرسي.

وفي مقابل ذلك لقي رشدي كل التكريم من أكثر الدوائر الغربية، فقد أعلن الاتحاد السوفيتي ترشيح رشدي عضوا في اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، كما طلب رؤساء الدول الغربية بحماية رشدي من إرهاب المسلمين، وتطوع العديد من الناشرين الأوربيين لطبع الرواية وبيعها بسعر التكلفة.

ونتيجة لذلك، فقد أصبح سلمان رشدي من الشخصيات الشهيرة حول العالم وتتسابق الصحف على نشر أخباره وصوره، حتى أن بريطانيا خصصت له حماية مشددة، وطلبت إسرائيل أن يهاجر سلمان إليها ليعيش في أمان وتنفق عليه ببذخ وتطبع وتوزع كتبه بالمجان.

النبي المعصوم (529)

ذهب به.

صحت في الغريب: أسلمان رشدي كان بينكم؟

قال: أجل.. ولكن المسكين لم يكن إلا عبدا مأمورا بسيطا لا يمكنه أن يتحرك حركة واحدة من دون أن نملي عليه ما يفعل، أو نأمره بما نريد.

قلت: لم ذلك.. ألم يكن رجلا سويا؟

قالت: إن كانت الرجولة تعني أنه كان ذكرا.. فقد كان رجلا.. ورجلا مسرفا في رجولته.. وإن كنت تعني بالرجولة اكتمال الشخصية بأبعادها جميعا.. فقد كان الرجل قزما لا حظ له من الرجولة، كما لا حظ له من الشخصية.

قلت: لم كل ذلك؟

قال: لقد قدر لي أن أتعرف عليه عن كثب.. وقد تعرفت عليه من خلال مصادر موثوقة.

وقد عرفت ـ على ضوئها جميعا ـ أن الرجل كان في بداية حياته مغرما بامرأة إنكليزية شقراء الوجه زرقاء العينين.. وقد سامته الخسف في غرامه بها..

لقد طلق من أجلها كل مبادئه التي ورثها عن آبائه وأجداده، وباع كل ما ورثه من أرض.. وسار خلفها إلى بلادها..

قلت: فقد تزوجها إذن؟

النبي المعصوم (530)

قال: لقد كانت المرأة نبيلة من نبيلات الإنجليز، ولم تكن تنظر إليه بأكثر من نظرها إلى كلبها.. ولذلك رضيت منه أن يسير خلفها يحمل حقائبها، ويمسح حذاءها، ويأتمر بأوامرها..

قلت: وهل رضي لنفسه بهذه المهنة الخسيسة؟

قال: ليته رضي بها.. إذن لكف شره عن الناس، وكف الناس شرهم عنه.

لقد كان مع تلك الدناءة التي وصفتها لك ذا لسان.. وكان قد ورث عن جدته القدرة على قص القصص وتلفيق الأحاديث.. ولذلك اتخذته النبيلة الإنجليزية مسامرها، فهي كلما امتنع عنها النوم دعته ليقص عليها من أساطيره ما يريحها من وعثاء السهر.

قلت: فهل رضي بهذا؟

قال: لقد رضي بما دونه.. لقد اتخذته وسيلة لحرب من تشاء، والسخرية بمن تشاء.. كانت إذا حسدت امرأة لجمالها كلفته أن يكتب عنها من القصص ما يشوه سمعتها، ويرغب عنها الخطاب.

قلت: فكيف بدا له أن يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويشوه الحقائق المقدسة التي جاء بها.

قال: لقد أوحت إليه تلك النبيلة بذلك.. بل أمرته بذلك..

قلت: مقابل ماذا؟

قال: مقابل أن تمنحه لقبا معروفا بينهم يسمى لقب (الفرس)

ابتسمت، وقلت: الفارس.. يا سيدي.. لا الفرس.

قال: هو كذلك إذا أطلقه الإنجليز على الإنجليز، لكنهم إن أطلقوه على غيرهم حذفوا منها الألف شفقة منهم عليها.

قلت: فقد كانت كل أحلامه في أن يصير فرسا؟

قال: لقد تحقق له حلمه بأكثر مما كان يرتضي.

قلت: أكانت له همة أدنى من هذه الهمة؟

النبي المعصوم (531)

قال: لقد كانت همته أن يصير حمارا.. لكنهم ـ بسبب ما قدم لهم ـ احترموه، فحولوه فرسا.

قلت: فحدثني حديثه.. وكيف انتهى.

قال: لعل أول مرة في حياته يصطدم بجدار صلب هي تلك التي حصلت له في ميدان الحرية، ومع ذلك الرجل الحكيم.

قلت: فأخبرني خبره.

قال: لقد دخل في ذلك المساء ميدان الحرية بوجه غير الوجه الذي ذهب به، فابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بعينين ذليلتين وكأنه خائف على شيء أن ينزع منه، ثم قال: لقد حاولت كل جهدي.. لكنكم تعرفون القوم.. لا منطق يحكمهم، ولا قوانين تضبطهم.. ولكني استفدت أشياء كثيرة سأحولها إلى رواية أعظم من رواية الشيطان التي كان الشيطان أوحاها لي.

ابتدر أخي، فأخذ القرص، ووضعه في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:

ظهر سلمان في ساحة الحرية، وهو يصيح في الجموع الكثيرة المتفرقة قائلا: هلموا.. فسأروي لكم اليوم رواية تملؤكم سرورا.. وتملؤكم في نفس الوقت وعيا.

اقتربت الجموع منه، فقال ـ وقد غير نبرته لتشبه نبرة الحكواتي ـ: (كان يا ما كان في قديم الزمان.. وسالف العصر والأوان.. رجل له تسع من النسوان.. ولم يكن له هم في الحياة إلا رضاهن.. ولم يكن له مقصد إلا العبث معهن وبهن)

قال رجل من الجمع: حسبناك ستحدثنا عن الرجال، فإذا بك تحدثنا عن زير نساء.

قال سلمان: أتعرف من هذا الذي أريد أن أحدثكم حديثه؟

ابتسم رجل من الجمع، وقال: ربما تريد أن تحكي لنا قصتك.. فإن ملامح وجهك لا تدل إلا على أنك زير نساء.

ضحك الجمع، فكتم سلمان ألما في صدره، ثم صاح بهستيرية: ربما كنت كذلك.. ولكن

النبي المعصوم (532)

الذي حدثتكم عنه الآن ليس أنا.. وإنما هو محمد.

فوجئ الجمع بتسميته لمحمد.. فقال: نعم.. لقد كنت أحدثكم عن محمد.. ولم أكن أحدثكم بالأساطير، وإنما كنت أحدثكم بالحقائق، وأتحدى أي رجل يكذب أن محمدا تزوج تسع نساء.. هذا عدا السرائر.

سكت الجمع، ولم يجدوا ما يجيبوه به، فتشجع سلمان، وراح يصيح: هل ترون رجلا مثل هذا يمكن أن يكون نبيا.. إن مثل هذا لا يصلح لأن يكلف إدارة مدرسة ابتدائية، فكيف بإدارة أمة!؟

ثم أضاف يصيح: إن هذا عدو للحضارة.. عدو للإنسانية.. عدو لكل الأعراف التي أقر بها البشر..

هنا اخترق حجاب الصمت صوت الحكيم، وهو يصيح بصوته القوي الممتلئ هدوءا، يقول: أنا مسلم.. وقلبي يمتلئ محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا أرى في العالم من هو أنزه منه وأطهر.. فإن شئت أن تسمع لأجيبك، فعلت.. وإلا فلا أرى أنه يصلح أن يجلس أحد في هذا المحل ليملي على غيره ما يريد دون أن يتيح لغيره فرصة الرد.

لم يجد سلمان إلا أن يقول وبنبرة ممتلئة احتقارا: سأسمع لك.. ومالي لا أسمع لك.. بل ما جئت هنا إلا لأسمع لك ولأمثالك.. فقل ما بدا لك.. ولكنك مهما قلت، فلن تستطيع أن تنقص امرأة واحدة من زوجات محمد.

قال الحكيم: أجبني أولا: أأنت تنكر على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصل زواجه.. فتعتبره انحرافا؟

أم تنكر عليه تعديده الزوجات.. فتعتبر تعديده للزوجات هو الانحراف لا أصل الزواج.

قال سلمان: أنا أنكر التصرف الثاني، واعتبره منافيا للإنسانية.. بل هو البهيمية بعينها، فكيف يمكن لرجل واحد أن يضم قطيعا من النساء لممتلكاته؟

قال ذلك، ثم انفجر ضاحكا..

النبي المعصوم (533)

ابتسم الحكيم، وقال: وما رأيك في القطيع الذي يستغل أبشع استغلال، فينشر باستغلاله كل أنواع الانحراف من الرذيلة والأمراض والأطفال المشردين..

سكت سلمان، فقال الحكيم: أنتم تسمون هذا حرية.. وأنتم تعلمون أن هؤلاء النسوة معذبات، وينشرن من العذاب ما لا يمكن وصفه..

فإذا ما جاء الإسلام ليعطي الحل الأمثل لهذا نظرتم إليه نظرة الاحتقار، وكأنه يريد أن يخلصكم من المتع التي وفرتها لكم هذه الحرية التي كسبتموها على حساب هؤلاء النسوة المعذبات.

نظر الحكيم إلى الجمع المحيط به، ثم قال: لكي تفهم أسرار إباحة الإسلام للتعدد لا بد أن تعرف أن الإسلام دين واقعي يتماشى مع الفطرة، ولا يجنح إلى الخيال الذي لا سند له من الواقع.

قال سلمان: والواقع.. كل الواقع يدل على عدم إنسانية التعدد.

قال الحكيم: أي واقع هذا الذي تحكم من خلاله على عدم إنسانية التعدد؟

قال: الواقع البشري.

قال الحكيم: أي واقع بشري؟

قال: الواقع البشري واحد.. وهو الواقع الذي يشكل الإنسان ركنه الوحيد.

قال الحكيم: ولكن الإنسان مختلف.. فهناك إنسان العصر الحديث.. وهناك إنسان العصور السابقة بمختلف أطوارها.. وهناك إنسان الصحراء.. وهناك إنسان التلال والسهول.. فعلى أي إنسان تحكم؟

قال: الإنسان هو الإنسان.

قال الحكيم: إن المنهج العلمي الذي يريد أن يعمم مثل هذا الحكم يتطلب مراجعة التواريخ والبيئات المختلفة للتعرف على مواقفهم من هذا.. فلا ينبغي أن نحكم انطلاقا من عينة من البشر على البشر جميعا.

النبي المعصوم (534)

قام رجل من الجمع، وقال: هذا صحيح.. وأنا عالم حضارات.. ولي اهتمام كبير بالنواحي الاجتماعية في مختلف الحضارات.. وسأذكر لكم ما وصل إليه بحثي في هذه المسألة (1).

لقد وجدت أن ظاهرة التعدد كانت منتشرة في جميع العهود البشرية، وفي أعظم بلدان العالم حضارة.

فبين الفراعنة، وأشهر الفراعنة على الإطلاق وهو رمسيس الثاني، كان له ثماني زوجات وعشرات المحظيات والجواري، وأنجب أكثر من مائة وخمسين ولدا وبنتا.. وأسماء زوجاته ومحظياته وأولاده منقوش على جدران المعابد حتى اليوم، وأشهر زوجات رمسيس الثاني هي الملكة الجميلة نفرتارى.. وتليها في المكانة والترتيب الملكة (أيسه نفر) أو (إيزيس نفر) وهى والدة ابنه الملك (مرنبتاح) الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه وإخوته الأكبر سنا.

وكان تعدد الزوجات شائعا في الشعوب ذات الأصل السلافى، وهى التي تسمى الآن بالروس والصرب والتشيك والسلوفاك.. وتضم أيضا معظم سكان ليتوانيا وأستونيا ومقدونيا ورومانيا وبلغاريا.

وكان شائعا بين الشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها معظم سكان ألمانيا والنمسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا والدانمارك والسويد والنرويج وانجلترا.

وكان التعدد ومازال منتشرا بين شعوب وقبائل أخرى لا تدين بالإسلام.. ومنها الشعوب الوثنية في أفريقيا والهند والصين واليابان ومناطق أخرى في جنوب شرق آسيا.

وكان تعدد الزوجات منتشرا في جزيرة العرب قبل الإسلام، ويروى من ذلك أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أختر منهن أربعا)، وقال عميرة الأسدى قال:

__________

(1) اقتبسنا كثيرا من المادة الأساسية للمعلومات الإحصائية والتوثيقية في هذا المحل من كتاب (زوجات لا عشيقات) للأستاذ: حمدي شفيق، بالإضافة إلى: في ظلال القرآن: 1/ 580، وفقه السنة: 2/ 189، وكتاب (المرأة بين الشريعة والقانون) لمصطفى السباعي.

النبي المعصوم (535)

أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اختر منهن أربعا)، وعن نوفل ابن معاوية الديلمى قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اختر أربعا أيتهن شئت، وفارق الأخرى) (1)

ابتسم سلمان ابتسامة سخرية، وقال: وهل ترى أن تلك الأطوار التي مرت بها البشرية أطوار معتبرة.. إن الإنسان كان يعيش في بهيمية وانحطاط، فهل تعتبر ذلك الانحطاط مقياسا صحيحا للسلوك الإنساني؟

نهض عالم الحضارات، وقال: قبل أن أجيبك على هذا الاعتراض أحب أن أذكر لك أن علماء الاجتماع والمؤرخين، ومنهم وستر مارك وهوبهوس وهيلير وجنربرج وغيرهم، يلاحظون أن التعدد لم ينتشر إلا بين الشعوب التي بلغت قدرا معينا من الحضارة، وهى الشعوب التي استقرت في وديان الأنهار ومناطق الأمطار الغزيرة، وتحولت إلى الزراعة المنظمة والرعي بدلا من الصيد وجمع ثمار الغابات والزراعة البدائية.. ففي المرحلة البدائية من عمر المجتمعات كان السائد هو نظام وحدة الأسرة، ووحدة الزوجة.

ويرى هؤلاء المؤرخون وعلماء الاجتماع أن نظام التعدد سوف يتسع نطاقه كلما تقدمت المدنية، واتسع نطاق الحضارة في العالم.

ضحك سلمان بصوت عال، وقال: كيف هذا، والعالم الآن يسعى لإلغاء هذه الظاهرة، بل يقصر التمدن والتحضر على من تخلصوا منها؟

قال عالم الحضارت: لقد كان العالم ـ والمسيحي منه بالذات ـ ينكر الطلاق، ولكنه، وبفعل الضغوط الفطرية والواقعية الكثيرة اضطر إليه، فقنن له، وفتح له في تقنينه جميع الأبواب (2).

__________

(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

(2) ويقول وستر مارك في تاريخه: (إن مسألة تعدد الزوجات لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث فيما يتعلق بمشكلات الأسرة)

ثم تساءل: (هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم، ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟)

ثم أجاب قائلاً: (إنه سؤال أجيب عنه بآراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يؤدي إلى هذه النهاية)

وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور Lepon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد، ويذهب الأستاذ إهرنفيل إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء (السلالة الآرية)

ثم يعقب وستر مارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره.

النبي المعصوم (536)

وهكذا الأمر سيحصل مع التعدد، فيوشك أن تطالب العشقات بحقوق الزوجية، كما طالبن بحقوق أبنائهن، بل قد حصل بعض ذلك بالفعل.

سكت عالم الحضارات، فقام رجل تبدو عليه ملامح السواح، وقال: أنا صحفي.. وسأحدثكم عن بعض الحياة الخاصة للزعماء الكبار الذين يدافعون عن حقوق النساء، لتروا كيف هم مع نسائهم..

لقد كان للرئيس الأمريكي القبيح ليندون جونسون ثماني سكرتيرات..

حكى لنا عالم الحضارات الكثير من الحكايات عن رؤساء الدول المتقدمة، والتي يربأ لساني عن قصها عليك، وبعد أن انتهى قال سلمان ـ وقد حاول أن يتملص من هذا الموقف ـ: لو أن محمدا اكتفى بأن يكون زعيما أو رئيسا أو قائدا لقبل منه كل ذلك.. فهؤلاء لا علاقة لهم بالأخلاق، ولا علاقة للأخلاق بهم.. والبشر يعرفونهم.. فلذلك لا يتتلمذون عليهم في هذا الجانب.. ولكن محمدا ادعى النبوة.. والنبوة تقتضي الطهارة والعفاف (1).

__________

(1) لعل القاسم المشترك بين جميع المبشرين ـ مهما اختلفت مشاربهم ـ هو استعمال مسألة التعدد وسيلة من وسائل حرب الإسلام، والدعوة إلى نبذه، وقد تحدث غوستاف لوبون في (حضارة العرب) عن موقف الأوروبيين عموما من تعدد الزوجات، فقال: (لا نذكر نظاماً اجتماعياً أنحى الأوروبيون عليه باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوروبيون في إدراكه كذلك المبدأ، فيرى أكثر مؤرخي أوروبا اتزاناً أن مبدأ تعدد الزوجات حجر الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأ عن هذه المزاعم الغربية على العموم أصوات سخط ورحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم فيراقبهن خصيان غلاظ، ويُقتلن حينما يكرههن سادتهن)

ثم أضاف مبينا رأيه في المسألة بعد إدراكه للواقع الإسلامي ومعايشته له: (ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانباً، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا ً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراها في أوروبا)

النبي المعصوم (537)

قال الحكيم: إن ما تقوله هو نفس ما قاله اليهود حين أنكروا تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: (زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا. فأنزل الله هذه الآية: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (النساء:54) (1)

وعن عطية قال: قالت اليهود للمسلمين: (تزعمون أن محمدا أوتي الدين في تواضع وعنده تسع نسوة، أي ملك أعظم من هذا؟ فأنزل الله الآية: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (النساء:54) (2)، يعني سبحانه ما آتى داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ فقد تزوج كلاهما أكثر مما تزوج نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لكل منهما من الجواري ما لم يمتلك مثله رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد كان تعدد الزوجات معروفا في عهد إبراهيم عليه السلام وأنجبت له السيدة هاجر إسماعيل عليه السلام، بينما رزقه الله من سارة سيدنا إسحاق عليه السلام.

وجمع نبي الله يعقوب عليه السلام بين أختين – ابنتي خاله لابان – هما (ليا) و(راحيل)، وجاريتين لهما، فكانت له أربع حلائل في وقت واحد.

وكانت لداود عليه السلام عدة زوجات والعديد من الجواري، وزعموا أن سليمان عليه السلام تزوج بألف امرأة، سبعمائة منهن حرات من بنات السلاطين وثلثمائة جوار، بل زعموا أنه ارتد بإغوائهن في آخر عمره وبنى المعابد للأصنام، كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك

__________

(1) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي.

(2) رواه ابن المنذر.

النبي المعصوم (538)

الأول.

يقول رحمة الله الهندي: (ولا يفهم من موضع من مواضع التوراة، حرمة التزوج بأزيد من امراة واحدة، ولو كان حراماً لصرح موسى عليه السلام بحرمته، كما صرح بسائر المحرمات وشدد في إظهار تحريمها، بل يفهم جوازه من مواضع. لأنك قد علمت أن الأبكار التي كانت من غنيمة المديانيين، كانت اثنتين وثلاثين ألفاً وقسمت على بني إسرائيل، سواء كانوا ذوي زوجات أو لم يكونوا، ولا يوجد فيه تخصيص العزب)

وفي الباب الحادي والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: (وإذا خرجت إلى القتال مع أعدائك وأسلمهم الرب إلهك في يدك وسبيتهم ورأيت في جملة المسبيين امرأة حسنة وأحببتها، وأردت أن تتخذها لك امرأة، فأدخلها إلى بيتك وهي تحلق رأسها وتقص أظفارها، وتنزع عنها الرداء الذي سبيت به وتجلس في بيتك وتبكي على أبيها وأمها مدة شهر ثم تدخل إليها وترقد معها ولتكن لك امرأة، فإن كانت بعد ذلك لا تهواها نفسك فسرحها حرة ولا تستطيع أن تبيعها بثمن ولا تقهرها أنك قد ذليتها، وإن كان لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة ويكون لهما منه بنون وكان ابن المبغوضة بكراً، وأراد أن يقسم رزقه بين أولاده فلا يستطيع يعمل ابن المحبوبة بكراً ويقدمه على ابن المبغوضة، ولكنه يعرف ابن المبغوضة أنه هو البكر ويعيطه من كل ما كان له الضعف من أجل أنه هو أول بنيه ولهذا تجب البكورية)

قال سلمان: إن ما تذكره هو أحكام العهد القديم، والعبرة في المسيحية بالعهد الجديد وبرأي الكنيسة؟

قال الحكيم: لا يوجد نص صريح في أي من الأناجيل الأربعة يحظر تعدد الزوجات، وكل ما حدث هو أن تقاليد بعض الشعوب الأوروبية الوثنية كانت تمنع تعدد الزوجات، فلما اعتنقت هذه الأقلية التي تمنع التعدد المسيحية فرضت تقاليدها السابقة على المسيحيين، وبمرور الزمن ظن الناس أن تحريم التعدد هو من صلب المسيحية، بينما هو تقليد قديم فرضه البعض على

النبي المعصوم (539)

الآخرين على مر السنين.

وأنا أتحداك بأن تأتيني بنص واحد على تحريم التعدد في أي إنجيل من الأربعة التي تمثل العهد الجديد.

أما العهد القديم ففيه نصوص صريحة على إباحة التعدد في دين الخليل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وشريعة داود وسليمان، وغيرهم من أنبياء بنى إسرائيل.

يقول مصطفى السباعي: (ولم يرد في المسيحية نصٌّ صريح يمنع التعدد، وإنما ورد فيه على سبيل الموعظة أن الله خلق لكل رجل زوجته، وهذا لا يفيد -على أبعد الاحتمالات - إلاالترغيب بأن يقتصر الرجل في الأحوال العادية على زوجة واحدة، والإسلام يقول مثل هذا القول، ونحن لا ننكره، ولكن أين الدليل على أن زواج الرجل بزوجة ثانية مع بقاء زوجته الأولى في عصمته يعتبر زنًا ويكون العقد باطلاً؟

ليس في الأناجيل نص على ذلك، بل في بعض رسائل بولس ما يفيد أن التعدد جائز، فقد قال: (يلزم أن يكون الأسقف زوجاً لزوجة واحدة) ففي إلزام الأسقف وحده بذلك دليل على جوازه لغيره.

وينقل أنه قد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحدة، وفي آباء الكنيسة الأقدمين من كان لهم كثير من الزوجات، وقد كان في أقدم عصور المسيحية إباحة تعدد الزوجات في أحوال استثنائية وأمكنة مخصوصة.

قال وستر مارك العالم الثقة في تاريخ الزواج: (إن تعدد الزوجات ـ باعتراف الكنيسة ـ بقي إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة)

ويقول أيضاً في كتابه المذكور: (إن ديار ماسدت ملك أيرلندة كان له زوجتان وسرِّيتان)

وتعددت زوجات الميروفنجيين غير مرة في القرون الوسطى، وكان لشرلمان زوجتان وكثير من السراري، كما يظهر من بعض قوانينه أن تعدد الزوجات لم يكن مجهولاً بين رجال الدين

النبي المعصوم (540)

أنفسهم.

وبعد ذلك بزمن كان فيليب أوفاهيس، وفردريك وليام الثاني البروسي يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين، وأقر مارتن لوثر نفسه تصرف الأول منهما كما أقره ملانكنون.

وكان لوثر يتكلم في شتى المناسبات على تعدد الزوجات بغير اعتراض، فإنه لم يحرم بأمر من الله، ولم يكن إبراهيم ـ وهو مثل المسيحي الصادق ـ يحجم عنه إذ كان له زوجتان.. نعم إن الله أذن بذلك لأناس من رجال العهد القديم في ظروف خاصة ولكن المسيحي الذي يريد أن يقتدي بهم يحق له أن يفعل ذلك متى تيقن أن ظروفه تشبه تلك الظروف، فإن تعدد الزوجات على كل حال أفضل من الطلاق.

وفي سنة 1650 ميلادية بعد صلح وستفاليا، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين، أصدر مجلس الفرنكيين بنورمبرج قراراً يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتين.. بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاب تعدد الزوجات، ففي سنة 1531 م نادى اللامعمدانيون في مونستر صراحة بأن المسيحي ـ حق المسيحي ـ ينبغي أن تكون له عدة زوجات، ويعتبر المورمون كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس.

ويقول العقاد: (ومن المعلوم أن اقتناء السراري كان مباحاً ـ أي في المسيحية ـ على إطلاقه كتعدد الزوجات، مع إباحة الرق جملة في البلاد الغربية، لا يحده إلا ما كان يحد تعدد الزوجات، من ظروف المعيشة البيتية، ومن صعوبة جلب الرقيقات المقبولات للتسري من بلاد أجنبية، وربما نصح بعض الأئمة ـ عند النصارى ـ بالتسري لاجتناب الطلاق في حالة عقم الزوجة الشرعية.

ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر من كتاب الزواج الأمثل للقديس أوغسطين، فإنه يفضل التجاء الزوج إلى التسري بدلاً من تطليق زوجته العقيم

وتشير موسوعة العقليين إلى ذلك، ثم تعود إلى الكلام عن تعدد الزوجات فتقول: (إن

النبي المعصوم (541)

الفقيد الكبير جروتيوس دافع عن الآباء الأقدمين فيما أخذه بعض الناقدين المتأخرين عليهم من التزوج بأكثر من واحدة، لأنهم كانوا يتحرون الواجب، ولا يطلبون المتعة من الجمع بين الزوجات)

وقال جرجي زيدان: (فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بامرأتين فأكثر، ولو شاءوا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم، ولكن رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظام العائلة واتحادها، وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية، فلم يعجزهم تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة واحدة حراماً كما هو مشهور)

بل نرى المسيحية المعاصرة تعترف بالتعدد في إفريقيا السوداء، فقد وجدت الإرسالية التبشيرية نفسها أمام واقع اجتماعي وهو تعدد الزوجات لدى الافريقيين الوثنيين، ورأوا أن الإصرار على منع التعدد يحول بينهم وبين الدخول في النصرانية، فنادوا بوجوب السماح للافريقيين المسيحيين بالتعدد إلى غير حد محدود.

وقد ذكر السيد نورجيه مؤلف كتاب (الإسلام والنصرانية في أوساط أفريقية) هذه الحقيقة ثم قال: (فقد كان هؤلاء المرسلون يقولون: إنه ليس من السياسة أن نتدخل في شؤون الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها، وليس من الكياسة أن نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ما داموا نصارى يدينون بدين المسيح، بل لا ضرر من ذلك ما دامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه أساس دينهم تبيح هذا التعدد، فضلاً عن أن المسيح قد أقر ذلك في قوله (لا تظنوا أني جئت لأهدم بل لأتمم) (1)

بل أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للأفريقيين النصارى بتعدد الزوجات إلى غير حدٍّّ.

ظهر على سلمان كثير من الارتباك لكنه فر منه بقوله: لا بأس.. قد نقبل كل ما ذكرتم.. ولكن التعدد الذي قام به محمد مختلف تماما.. لقد قهر زوجاته قهرا.

__________

(1) انظر: ص 92 - 98 من الكتاب المذكور.

النبي المعصوم (542)

ابتسم الحكيم، وقال: لاشك أنك محام؟

قال سلمان: لقد أخطأت في حدسك، أنا روائي، ولست محاميا.

قال الحكيم: فكيف عرفت أن نساءه قهرن قهرا.. عادة لا يعرف هذا إلا المحامون الذين يلجأ إليهم النساء ليخلصوهن من أزواجهن.

قال سلمان: التاريخ.. وحقائق التاريخ.. فهي أفصح من كل لسان.

قال الحكيم: ما دام التاريخ هو الحاكم.. أليس من الأجدر أن نبحث في تواريخ هؤلاء النسوة التي أثير كل هذا الشغب من أجلهن، فانبرى كل الناس يدافع عنهن.. يريد أن يخلصهن من حبيبهن.. لنرى مدى السعادة أو الشقاء الذي وجدنه صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنحكم بعد ذلك.

قال سلمان، وقد فوجئ بجواب الحكيم الهادئ: ومن أين لنا أن نعرف تواريخ هؤلاء النسوة؟

قال الحكيم: ليس هناك في الدنيا شخصية عرفت جميع أسرارها.. بل عرف جميع أسرار المحيطين بها مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

إن كثيرا من الحكام لا نعرف حتى زوجاتهم.. فكيف بعشيقاتهم الكثيرات.. فكيف بغيرهن.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعرف كل تفاصيل حياته.. بل نعرف كثيرا من تفاصيل المحيطين به.

لقد كان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كان في إمكان المقربين إليه أن يستروا تلك الحياة الخاصة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكنهم لم يفعلوا.. وكان ذلك لسبب واحد، وهو أن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحتضن إلا الكمال.

النبي المعصوم (543)

الخاتمة

بعد أن أخبرني الغريب حديث هؤلاء العشرة الذين أرادوا أن يحيوا سنة أبي جهل وأبي لهب، التفت إلي، وقال: لقد كانت تلك الأيام العشرة من أكثر الأيام بركة في حياتي.. لقد كانت كالمطر الذي يغسل الأرض من أدرانها.. أو كالدواء الشافي الذي ينقض على السموم، فيقضي عليها واحدا واحدا.

ابتسمت، وقلت: فأين تلك الدار المباركة التي حصلت ببركتها كل هذه البركات، لعل الله ييسر لنا، فنجعلها مزارا؟

قال: لم تبق تلك الدار بعد تلك الأيام العشرة.. ولم يبق لها إلا حديث طويل مر لازالت نفسي تتألم له.

قلت: هل ترى طائفا من السماء طاف عليها، فحولها كهشيم المحتضر، أو ترى الطير الأبابيل عادت من جديد، فرمتها بحجارة السجيل؟

قال: لا هذا، ولا ذاك..

قلت: فما الذي حصل لها؟

قال: لذلك قصة طويلة سأختصرها لك اختصارا.

تنفس الغريب الصعداء بألم، ثم قال: في نهاية اليوم العاشر، وبعد أن نثرت جماعتنا آخر سهم من كنانتها عاد أخي إلى دارنا بحزن شديد، وقال لي: أحضر لي جميع الأقراص التي قمنا بتسجيلها في هذه الأيام العشرة.

فقلت له متعجبا: هل انتهيت من التجريب، وتريد أن تخوض غمار التنفيذ؟

قال: ما تقصد؟

قلت: هل تريد أن تري قداسة البابا هذه الأقراص ليعاين الطريقة الجديدة التي تقترح على

النبي المعصوم (544)

الكنيسة أن تتعامل بها مع محمد، ومع الإسلام؟

قال بغضب: لا.. هذه الأقراص لا ينبغي أن يراها أحد.. لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يسمع حديثها.. إنها أشعة جديدة.. بل هي أشعة حارقة من شمس ذلك الرجل الذي أتعب الكل.. ولا زال يتعب الكل.

قلت: فما الذي تريد أن تفعل بها؟

قال: لا يصلح لتلك الأقراص إلا أن تحرق، ثم يدفن رمادها في أي كوكب من الكواكب حتى لا يأتي من يحلل ذلك الرماد ليستخرج ما حصل في هذه الأيام العشرة المشؤومة.

قلت: أراك تحمل حقدا عظيما.. والمسيح الذي نتمسح بهديه ما علمنا أن يكون في قلوبنا غير السلام.. السلام هو وحده المعراج الذي يرتقي بأرواحنا إلى الملكوت.

لست أدري كيف انتفض أخي من مكانه، وقال: السلام.. نعم.. السلام..

ثم توجه إلي، والسرور يملأ أسارير وجهه، وهو يقول: نعم.. السلام.. لطالما كنت أراك مفكرا.. بل أنت عبقري.. لقد وضعت يدك على الإكسير الأحمر.

قال ذلك، ثم انصرف من دون أن يأخذ الأقراص..

قلت: فهي معك إذن؟

قال: لا.. ولتلك الأقراص حديث آخر له علاقة بهذا الحديث.

قلت: فحدثني عنه.

قال: في الغد ذهبت صباحا مع أخي إلى دار الندوة الجديدة، حيث تعودنا أن نلتقي، لكنا فوجئنا بأعمدة الدخان تخرج منها لتصعد في أجواء السماء، وتملأ ما حولها بالتلوث.

هرعت أنا وأخي إليها، وقد امتلأنا بهول المفاجأة، وهناك وجدنا الشرطة، ومعها رجل منا..

قاطعت الغريب قائلا: من هو؟

النبي المعصوم (545)

قال: لن أذكر لك اسمه.. المهم أنه رجل منا..

قلت: هل كان ذلك الرجل هو الجاني الذي تاب من حرفته، فراح يحرق كل أثر لمعصيته؟

قال: لا.. لقد كان هو المخاتل المخادع الذي سايف خصمه، فلما غلبه ارتد عليه فطعنه في ظهره.

قلت: احك لي قصة ذلك، ولا تحدثني بالألغاز.

قال: بعد أن انصرف أخي في ذلك اليوم.. جاء في المساء بوجه ممتلئ سرورا، وقال: أرأيت.. لقد أوحت لي كلماتك بفكرة عبقرية لم تخطر ببال أحد من الناس.

قلت: ما هي؟

قال: لقد عرفت أن سر انتصار الإسلام هو السلام.. انظر حتى اسم الإسلام فيه حروف السلام.. ولذلك فإن خلع السلام من الإسلام سيحوله إلى دين ميت.. ولن يبق في اسم الإسلام أي حرف يصلح للتعبير عنه.

قلت: فكيف يمكن أن نفعل ذلك؟

قال: ليس ذلك دورنا.. هناك أجهزة خاصة يمكنها أن تؤدي هذا الدور..

قلت: فأنت لا تزال تلح على فكرة التحالف؟

قال: لا شك في ذلك.. فلم يتحقق أي انتصار في الدنيا من دون تحالف.

قاطعت الغريب قائلا: أنا إلى الآن لم أفهم سر حرق الدار، وعلاقته بالسلام، وعلاقة ذلك كله بذلك الرجل اللغز، وعلاقة القصة جميعا بأخيك.

كتم الغريب عبرات تكاد تنحدر من عينيه، ثم قال: بعد أن نفذت كل السهام التي أرادت جماعتنا أن تعيد تصويبها لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قام رجل منا هو أكثرنا حيلة وأعظمنا دهاء، وأقربنا مع ذلك إلى عروش السلاطين، فأوحى إلى بعض ضعاف العقول من المسلمين، الذي اختلطت عليهم مفاهيم الإسلام بمفاهيم الصراع التي غذتهم عليها وسائل إعلامنا، فقاموا بحرق الدار..

النبي المعصوم (546)

وبعد أن أحرقوها نسبوا التهمة للحكيم، ذلك الرجل الحكيم المضمخ بعطر السلام.

قلت: فما الأدلة التي استندوا إليها؟

قال: تلك الأقراص التي كانت محفوظة عندي.. لقد فتشوها حرفا حرفا، وكلمة كلمة.. ثم أحضروا مصممين دهاة، فحولوا من كل تلك المناظرات الطاهرة المسالمة خطبا مملوءة بالحقد والصراع.. ثم نشروا كل ذلك بين الناس يحذرونهم من الإسلام ومن صراع الإسلام.

قلت: والحكيم.. هل ظفروا به؟

قال: لا.. لقد ذكرت لك بأنه أشبه الناس بمعلم السلام، بل لعله معلم السلام عينه، فقد كان يحضر، فلا نعرف من أين جاء، ويذهب، فلا نعرف أين ذهب.

قلت: وأولئك الطيبون الذين ملأوا ميدان الحرية؟

قال: لم يغادروه.. هم لا يزالون فيه إلى اليوم.

قلت: فميدان الحرية لا يزال قائما إذن؟

قال: نعم.. هو لا يزال قائما.. ولكن اسمه فقط هو الذي تبدل..

قلت: تبدل الاسم!؟

قال: أجل لقد تحول من (ميدان الحرية) إلى (معتقل..)

قلت: هل ندموا على الحرية التي فتحوها للناس؟

قال: لقد عرفوا أن الإسلام لا ينتشر إلا في وسط ممتلئ بالحرية، ولذلك سارعوا يكفرون عن خطيئة الحرية، وما جرت عليهم من ويلات.

قلت: ولكني لا أزال أسمع بأن في بلادكم حرية.

قال: نعم.. أنت حر في أن تكفر، أو أن تسب محمدا.. بل أنت حر في أن تسب المسيح

النبي المعصوم (547)

نفسه.. ولكنك لست حرا في أشياء أخرى كثيرة (1)..

ثم التفت إلي بألم، وقال: نحن في معتقل كبير سدنته أصحاب بطون منتفخة.. أما نحن وذلك الغثاء الذي يسكن أرضنا، فمجرد مستهلكين.. نستهلك الطعام، ونستهلك الإعلام.. ويباح لنا أن نستهلك كل شيء إلا أن نستهلك الإسلام.

قلت: ألا زال البحث جاريا عن الحكيم؟

__________

(1) كتب رجل من ستوكهولم في بعض المواقع مقالا بعنوان (الغرب بين حريّة سبّ الإسلام، وحرمة الحديث عن الهولوكست) تحدث فيه عن تناقضات مفهوم الحرية في الأعراف الغربية.. ومما جاء فيه قوله: (تجيز القوانين الغربية للمواطن الغربي أن يعيش الحريّة بكل تفاصيلها وأن يتحررّ من كل القيود التي تكبلّه وبناءا عليه أصبحت الحريّة الجنسية المقرفة والحرية السياسية والحرية الاقتصادية في متناول الجميع، وهناك كمّ هائل من القوانين الرئيسية والفرعية التي تكفل مبدأ الحرية للمواطن الغربي الذي يحقّ له أن يستهين بالقيم الدينية وبالأنبياء، وعلى الرغم من ذلك فإنّ مناقشة موضوع الهولكست تعتبر محرمة ولا يجوز مطلقا الخوض فيها أو الحديث عنها أو الدعوة إلى إعادة قراءة ظاهرة الهولوكست، فإنّ ذلك يعتبر محرما ويعرّض الداعي إلى إعادة قراءة هذه الظاهرة إلى الملاحقات القانونية والإعتقالات، كما حدث مع روجي غارودي وفريسون في فرنسا، وكما حدث مع أحمد رامي في السويد الذي سجن ستة أشهر بسبب تناول إذاعته راديو الإسلام موضوع الهولوكست واستضاف شخصيات غربية تحدثت في راديو الإسلام عن خرافة الموضوع.

وقد تعرض الكثير من الكتّاب الغربيين إلى الإعتقال في ألمانيا وهولندا والنمسا بسبب حديثهم عن الهولوكست وتفنيذ مزاعم الرواية الإسرائيلية للمحرقة اليهودية.

وفي الدانمارك سمحت جريدة رسمية لنفسها بتصوير رسول الله (في رسوم كاريكاتورية، بينما تلتزم كل الصحف الدانماركية بمبدأ عدم جواز الحديث عن الهولكوست أو حتى الحركة الصهيونية.

و للإشارة فإنّ السويد، وعندما دعت الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي صاحب كتاب (آيات شيطانية) رحبّت كل وسائل الإعلام السويدية بقدومه، وأتاحت له فرصة واسعة لمخاطبة الجمهور السويدي، وفي نفس زمن وجوده في السويد دعت جمعية عربية الكاتب الفرنسي المعروف بطروحاته ضدّ الحركة الصهيونية فوريسون وقامت الدنيا ولم تقعد ضدّ فوريسون المعادي للصهيونية، وقوبل بتظاهرات مضادة، الأمر الذي جعل البعض يقول: لماذا الحرية متاحة لسلمان رشدي، والذي تهجمّ على المسلمين، وشبّه طوافهم حول الكعبة بمثابة طواف الزناة حول بيت الزانية، وغير متاحة لرجل كفوريسون أو روجي غارودي بمجرّد حديثهم عن الحركة الصهيوينة وأكاذيبها.

وفرنسا التي حظرت الحجاب، وتصف المسلمين بأخس النعوت لا تسمح مطلقا بالحديث عن الهولوكست وغرف الغاز، وأبرز من تعرض للإيذاء في هذا المجال الكاتب الفرنسي روجي غارودي.. وقد ظل غارودي محل ملاحقة منذ سنة 1998 فرض عليه عندها حصارا متعددّ الوجوه وفي كل المجالات بمجرّد أنّه تنكرّ للهولوكست.

النبي المعصوم (548)

قال: ما دام الصراع هو المسيطر على هذه البشرية فإن البحث عن الحكيم وعن معلم السلام لن يتوقف أبدا.

شعرت بما يشعر به الغريب من ألم، فأردت أن أخفف عنه، فقلت: عم ستحدثنا غدا إن شاء الله؟

قال: سنرحل إلى (النبي الإنسان) (1).. لنجد الحكيم.. أو معلم السلام.. لنتعلم منه كيف كان النبي الإنسان.

__________

(1) عنوان الرسالة التالية، وهي تتحدث عن الشمائل المحمدية، وعلاقتها بالكمال الإنساني.

النبي المعصوم (549)

هذا الكتاب

حاولت هذه الرواية أن تستعيد (دار الندوة) القرشية برمزيتها التاريخية التي تعني المواجهة والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تبين أن هذه الدار لم تهدم بعد.. وأنه كان لها وجود على مدار التاريخ.. ثم إن ثلة من الحاقدين أحيوا هذه الدار بمعونة الشيخ النجدي (الشيطان)، وجمعوا فيها ما ورثوه من أسلافهم من شبهات، وأضافوا إليها ما أفرزه حقدهم وبغضهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

ثم راحوا ينثرون هذه الشبهات في ساحة الحرية، في بلد من البلاد الأوروبية.. لكنهم ووجهوا برجل حكيم عاقل يعرف كيف يجيب على الشبهات بعلمه وأدبه وأخلاقه العالية، فلا يملك أحد الرد عليه أو مواجهته.. وهكذا يرجع كل مثير لأي شبهة من الشبهات خائبا كسيرا إلى أصحابه في دار الندوة.

وعندما يعجزون عن المواجهة العلمية يلجؤون إلى المواجهة بالخداع والمكر والحيلة..

هذه باختصار أحداث هذه الرواية الحوارية.. والتي تجيب على الشبهات الكثيرة التي أثيرت حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من منطلقات مختلفة، ابتداء بالمنطلقات التي يسلم بها الخصم، ويؤمن بها.