الكتاب: قلوب مع محمد
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1437 هـ
عدد الصفحات: 565
ISBN: 978-620-2-34460-9
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
في هذا الكتاب مجموعة كبيرة من شهادات المحبة والإعجاب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة العظيمة التي جاء بها.. وهي من جميع أصناف الناس من عامتهم وخاصتهم.. وأدبائهم وفنانيهم.. وعلمائهم وأوليائهم.. وأحبارهم ومفكريهم.. بل حتى أولئك المستشرقين من غير أتباعه الذين أتيحت لهم الفرصة للبحث عنه والتعرف عليه، والذين لم يملكوا إلا أن يشهدوا الشهادات الصادقة إعجابا به وتعظيما له.. بل حتى أعداءه لم يملكوا في بعض لحظات الصدق التي عاشوها إلا أن يقروا بفضله وكماله.
وبطل هذه الرواية رجل الدين المسيحي راح يبحث عن القلوب التي حنت إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحبته وتأثرت به.. فجمع لذلك الكثير من الشهادات التي سقناها في هذه الرواية، كنماذج وأمثلة فقط، لأن الاستيعاب في هذا مستحيل.
وقد جعلنا هذه الرواية مقدمة لروايات تالية تتعلق بالتعريف بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي [النبي المعصوم]، و[النبي الإنسان]، و[النبي الهادي] لتكمل الهدف الذي ترمي إليه هذه الرواية.. وهو أن هذا الذي أحبته تلك القلوب الكثيرة، وأعجبت به تلك العقول العظيمة ليس إنسانا بسيطان.. بل هو إنسان حاز كل ألوان الكمال، وظفر بكل معاني الجمال التي جعلته محبوبا لكل صاحب فطرة سليمة.
قلوب مع محمد (12)
يتناول هذا الكتاب برهانا من البراهين التي يمكن للصادقين أن ينطلقوا منها في البحث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة التي جاء بها.. مثله مثل [أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم]، و[ثمار من شجرة النبوة]
ويمكن صياغة هذا البرهان بطرق مختلفة منها أن الله سبحانه وتعالى ـ لعنايته التامة بخلقة، والمتجلية في كل شيء (1) ـ يستحيل أن يترك خلقه هملا من دون أن يرسل إليهم من يدلهم على حقيقتهم وحقيقة الكون الذي يعيشون فيه، والمصير الذي يصيرون إليه، والتكاليف التي كلفوا بها..
وهذا الذي يرسله يحتاج – ليؤدي وظيفته التبليغية عن الله - أن يكون معلوما للخلق معروفا لخاصتهم وعامتهم.. لأنه لا يمكن أن يؤدي وظيفته التبليغية من دون أن يعرف.
ثم إن للمعرفة آثارا كثيرة قد تكون حجابا بين الخلق، وبين هذا الرسول الذي أرسله الله عناية بخلقه.. ففرعون معروف لكثير من الخلق، ولكنه معروف باستبداد وظلمه..
ولهذا كانت المعرفة الأكمل والأجمل والأكثر تأثيرا هي المعرفة التي ينشأ عنها الحب والإعجاب والتأثر..
ولمعرفة هذا نحتاج إلى القيام بمسح شامل للبشرية لنرى أكثر أسماء مدعي الرسالة ترديدا، وأكثرها تأثيرا.. وهذا لن يقودنا إلا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يوجد في تاريخ البشرية من ولهت القلوب بمحبته، أو الإعجاب به على الأقل مثلما حصل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن لا نقول بأن هذا الإعجاب أو تلك المحبة دليل قائم بذاته يمكن الاكتفاء به.. ولكنا نقول بأن هذا مقدمة للبحث والنظر والتأمل في حال هذا الشخص الذي هفت
__________
(1) ذكرنا أدلة ذلك بتفصيل في [الباحثون عن الله]
قلوب مع محمد (13)
قلوب ملايير البشر على مدار التاريخ محبة له وشوقا إليه مع كونه كان يعيش في بيئة بدوية أمية بعيدة عن كل آثار الحضارة..
والأعجب من ذلك كله أن تلك المحبة وذلك الإعجاب لم يكن يخص بصنف من الناس دون صنف كما تعودنا في مثل هذه الأمور.. فالفيلسوف يحب الفلاسفة.. والسياسي يحب السياسيين.. والأديب يحب الأدباء وهكذا.
بل نجد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد نال محبة وإعجاب جميع أصناف الناس من عامتهم وخاصتهم.. وأدبائهم وفنانيهم.. وعلمائهم وأوليائهم.. وأحبارهم ومفكريهم.. بل حتى أولئك المستشرقين من غير أتباعه الذين أتيحت لهم الفرصة للبحث عنه والتعرف عليه، لم يملكوا إلا أن يشهدوا الشهادات الصادقة إعجابا به وتعظيما له.. بل حتى أعداءه لم يملكوا في بعض لحظات الصدق التي عاشوها إلا أن يقروا بفضله وكماله.
بناء على هذا كانت هذه الرواية التي انطلق فيها بطلها ـ رجل الدين المسيحي ـ من البحث عن القلوب التي حنت إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحبته وتأثرت به.. فجمع لذلك الكثير من الشهادات التي سقناها في هذه الرواية، كنماذج وأمثلة فقط، لأن الاستيعاب في هذا مستحيل.
وقد جعلنا هذه الرواية مقدمة لروايات تالية تتعلق بالتعريف بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي [النبي المعصوم]، و[النبي الإنسان]، و[النبي الهادي] لتكمل الهدف الذي ترمي إليه هذه الرواية.. وهو أن هذا الذي أحبته تلك القلوب الكثيرة، وأعجبت به تلك العقول العظيمة ليس إنسانا بسيطان.. بل هو إنسان حاز كل ألوان الكمال، وظفر بكل معاني الجمال التي جعلته محبوبا لكل صاحب فطرة سليمة.
قلوب مع محمد (14)
في تلك الليلة، أصابني أرق شديد حال بيني وبين النوم، فخرجت خارج غرفتي ـ كعادتي في مثل هذه المواقف ـ لأنشغل بعد النجوم والنظر في أشكال تجمعاتها.. فلم يكن يجلب النوم لعيني مثل النجوم.
بينما أنا كذلك، إذا بي أسمع صوتا عذبا يصدر من غرفة الرجل الغريب الذي زارني.. وكأنه لحن من ألحان السماء.. فاقتربت أسترق السمع، فإذا بي أسمعه، وهو ينشد بصوت خاشع، ممتلئ بحشرجة الدموع، قول الشاعر الصالح، وهو يبث أشواقه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
كيف لا تسكب الدموعَ عيوني... وهي من قبل أن تراك سجام...
كيف لا تذهل العقول وتفنى... أنفسُ العاشقين وهي كرامُ...
يا رسول الإله إني محبّ... لك والله شائق مستهامُ...
يا رسول الإله في كل حينٍ... لك مني تحية وسلام...
يا رسول الإله شوقي عظيم... زائد والغرام فيك غرام...
يا رسول الإله إني نزيل... ونزيل الكرام ليس يُضام
سقطت دموع حارة من عيني.. وأنا أكاد أرى ذلك الشاعر الصالح، وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بما امتلأ قلبه به من محبته والشوق إليه.
في تلك اللحظات خطر على قلبي أجيال من المؤمنين من الذين ملأ حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كيانهم، فلم يرضوا لعروش قلوبهم المقدسة شمسا غير شمسه:
منهم ذلك الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممتلئا حزنا، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا فلان مالي أراك محزوناً؟) فقال: (يا نبي اللّه شيء فكرت فيه)، فقال: (ما هو؟) قال: (نحن نغدوا ونروح
قلوب مع محمد (15)
ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك) (1)
ومنهم ذلك الرجل العظيم الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول اللّه! إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتّ الجنة رفعتَ مع النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك) (2)
ومنهم ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان ـ كما يذكر الرواة ـ شديد الحب له صلى الله عليه وآله وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له: (يا ثوبان ما غير لونك؟) فقال: (يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا)
وقد رسم الشاعر هذه المشاعر الصادقة، فقال:
شهود طلعة طه نعمة عظمت... قدراً وشاناً وكانت أفضل النعم...
وكان ثوبان ذا وجه له شغف... بحبه دمعه يجري بمنسجم...
قال الرسول له: مالي أراك كذا... فقال: شوقا لوجه منك مبتسم...
إني ذكرتك في سري وفي علني... ففاض دمعي وحبي غير مكتتم...
فهل أراك بجنات الخلود أجب... نعم يكون بفضل الله ذي الكرم
وعلى هؤلاء جميعا، وعلى جميع أجيال الأمة التي أحزنها ما أحزنهم نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
__________
(1) تفسير ابن كثير:2/ 354.
(2) رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه (صفة الجنة)
قلوب مع محمد (16)
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69).. فلم يفرح الصحابة ولا الأجيال الكثيرة من الأمة بشيء فرحهم بهذه البشرى (1).
ساد صمت لذيذ على ذلك الجو الذي عبقت فيه أنفاس محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعت خلاله الغريب، وهو ينشد بنغم خاشع قول الشاعر:
يحن الجذع من شوق إليك... ويذرف دمعه حزناً عليك...
و يجهش بالبكاءوبالنحيب... لفقد حديثكموكذا يديك...
فمالي لا يحن إليك قلبي... وحلمي أن أقبل مقلتيك...
و أن ألقاك في يوم المعاد... وينعم ناظري من وجنتيك...
فداك قرابتيوجميع مالي... وأبذل مهجتي دوماً فداك...
تدوم سعادتيونعيم روحي... إذا بذلت حياتي في رضاك...
حبيب القلب عذر لا تلمني... فحبي لا يحق في سماك...
ذنوبي أقعدتني عن علو... وأطمح أن أُقرب من علاك...
لعل محبتي تسمو بروحي... فتجبر ما تصدع من هواك
فتذكرت الجذع كيف حن شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرددت بيني وبين نفسي قول بعضهم يذكر ذلك: (يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه)
قاطعتني ألحان الغريب العذبة، وهي تردد قول الشاعر:
جاءت إليك حمامة مشتاقة... تشكو إليك بقلب صب واجف...
من أخبر الورقاء أن مقامكم... حرموأنك منزل للخائف
__________
(1) روى ذلك البخاري ومسلم.
قلوب مع محمد (17)
فتذكرت تلك الحمامة العاقلة العاشقة التي حدث حديثها عبد الله بن مسعود، فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، قال فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تصيح فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من فجع هذه بفرخيها؟) قال: فقلنا: نحن قال: (فردوهما) (1)
قاطعتني ألحان الغريب مرددة:
لا تلوموا أُحداً لاضطراب... إذ علاه فالوجد داءُ...
أُحد لا يلام فهو محبٌ... ولكم أطرب المحب لقاءُ
فتذكرت تلك المحبة المتبادلة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبل أحد، والتي عبر عنها صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه) (2)
ردد الغريب بشوق قصيدة أحمد شوقي المشهورة التي استهلها بفرح الأكوان بمحمد:
ولد الهدى فالكائنات ضياء... وفم الزمان تبسم وثناء...
الروح والملأ الملائك حوله... للدين والدنيا به بشراء...
يوم يتيه على الزمان صباحه... ومساءه بمحمد وضاء...
بك بشر الله السماء فزينت... وتضوعت مسكاً بك الغبراء...
يا من له الأخلاق ما تهو العلا... منهاوما يتعشق الكبراء...
زانتك في الخلق العظيم شمائل... يغرى بهنويولع الكرماء
فشعرت بذلك الفرح العظيم الذي سرى في قلوب الأمة عندما جاءها الحبيب، فراحت تحتضنه بكل مشاعرها حتى نسيت في حبه النفس والأهل والمال.
__________
(1) رواه أبو داود والحاكموقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) رواه البخاري.
قلوب مع محمد (18)
في ذلك الحين تذكرت زيد بن الدثنة.. وما أدراك ما زيد بن الدثنة!؟
لقد أخرجه أعداؤه من أهل مكة من الحرم ليقتلوه، فقال له أبو سفيان: (أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟) فقال زيد: (والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإنّي جالس في أهلي)، فقال أبو سفيان: (ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمدا) (1)
وذكرت تلك الأنصارية التي قتل أبوها وأخوها وزوجها، فأخبروها بذلك، فقالت: (ما فعل الله برسول الله؟) قالوا: (بحمد الله كما تحبين)، قالت: (أرونيه حتى أنظره)، فلما رأته قالت: (كل مصيبة بعدك جلل) (2)
وذكرت ذلك الرجل الصالح الذي ادخر لآخرته أعظم زاد يمكن أن يدخره مؤمن.. فعن أنس قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أعددت لها؟) قال: (ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله)، قال: (فأنت مع من أحببت) (3)
وذكرت تلك الأمنية العزيزة التي كانت تتردد في نفس ربيعة بن كعب الأسلمي.. فلما واتته الفرصة راحة يطلبها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. قال يحدث عن نفسه: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: (سل) فقلت: (يا رسول اللّه أسألك مرافقتك في الجنة)، فقال: (أو غير ذلك؟) قلت: (هو ذاك)، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) (4)
وذكرت قول أنس، وهو يبين الأثر العظيم الذي أحدثه غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه
__________
(1) رواه ابن اسحاق وابن سعد.
(2) رواه ابن اسحاق.
(3) رواه الطبراني في الكبير.
(4) رواه أبو داود والترمذي.
قلوب مع محمد (19)
أظلم منها كل شيء ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا) (1)
-\--\-
لم يخطر على بالي أولئك المحبين في تلك اللحظات اللذيذة فقط.. فقد كانوا بعضا من آلاف.. بل من عشرات الآلاف.. بل من ملايين المسلمين عبر أجيال المسلمين الطويلة..
كلهم كانوا على قلب رجل واحد يمتلئون محبة وتعظيما لرسول الله.. يجتمعون به وبحبه وبالشوق إليه، ويفترقون على ذلك.
وكانت المعاني النبيلة التي أشرقت عليهم من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم تملؤهم بالسعادة والسكينة.. وتحول قلوبهم إلى قلب رجل واحد، فهم إخوة في الله، لهم شمس واحدة يستنيرون بنورها، ويستدفئون بدفئها.
لكن مرارة الحسرة عادت، فكدرت ذلك الشوق اللذيذ..
لقد اختلط ذلك الشوق اللذيذ لتلك الأجيال السامية بحسرة وألم على أجيالنا التي امتلأت قلوبها بالأهواء، فراحت تبحث في القمامات والمزابل والمستنقعات عن حب تملأ به قلوبها، فلم تجد في المزابل إلا الجرذان والخنافس.
-\--\-
التفت الغريب، فرآني، فقام من مجلسه، ودعاني أن أدخل عليه.
دخلت، وحييته معتذرا عن تنصتي عليه، فقال: لا بأس عليك.. ربما لا يصلح لحديثنا إلا هذا المجلس.. وفي هذا الوقت من الليل الذي يفترش فيه المحبون أقدامهم ليتنعموا بحرارة الأشواق الرفيعة.
قلت: لقد سمعتك تنشد أبياتا ممتلئة حبا ساميا، وأشواقا طاهرة.
قال: تلك بعض نفثات قلوب المحبين التي امتلأت بحرارة الإيمان والمحبة والشوق.
__________
(1) رواه الترمذي.
قلوب مع محمد (20)
قلت: أيام جميلة هي تلك الأيام التي عاصرها أولئك الشعراء.
قال: وتلك الأيام لن تنقضي.. إن القلوب التي عبرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن محبتها وأشواقها لا تزال حية تنبض بالحياة.
قلت: أين ذلك.. وقد ملأ الإعلام المنحرف قلوب الناس بالأشواق المدنسة، والهمم المنحطة.. لقد صار الحب بين الناس ـ في ظل هذه الحضارة المتعفنة ـ مرادفا للانحراف والفساد والرذيلة.. وصارت أشواق المحبين الرفيعة سلعة رخيصة تباع في سوق النخاسة.. وصار الأبطال في هذا الزمان هم كل راقص ومطبل ومزمر وناعق.
قال: ذلك سراب سرعان ما يفطن له الناس.. وذلك ضباب سرعان ما تشرق عليه الشمس لينقشع عن الحقيقة.
قلت: إلى متى!؟
قال: ذلك ليس بعيدا.. بل كل شيء يقرب إليه.
نظر من كوة النافذة إلى السماء المزينة بزينة النجوم، ثم قال: لقد عرفت في حياتي الطويلة كثيرا من الناس لاحظت في عيونهم ووجوههم وقلوبهم حرارة الشوق العظيم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد تشرفت بلقائهم والحديث إليهم..
قاطعته قائلا: فهل ستحدثني عنهم؟
قال: أجل.. سأحدثك اليوم عن القلوب التي امتلأت بحب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. أو شعرت في لحظة من لحظات الصدق بتعظيمها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما جاء به.
قلت: في أي بقعة من بقع العالم ظفرت بهذه القلوب؟
قال: في كل بقاع العالم التي زرتها.. ليس هناك محل في الأرض إلا وفيه من يلهج لسانه بذكر محمد، ويلهج قلبه بالشوق إلى محمد.
قال ذلك، ثم قام إلى محفظته، وأخرج دفترا هو أشبه بالسفر، وقد كتب عليه هذا العنوان
قلوب مع محمد (21)
(قلوب مع محمد)، ثم سلمنيه، قلت: ما هذا؟
قال: في هذا الدفتر الذي صحبني طيلة فترات حياتي لم أسجل إلا نفحات الصدق التي فاهت بها الألسن في لحظات تقدسها.
فتحت الدفتر، فرأيت فيه أسماء كثيرة.. فسألت: ما هذه الأسماء؟
قال: هذه أسماء من قدر الله لي أن ألقاهم، وأتنعم بالحديث معهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان كل فرد منهم شعاعا من الأشعة التي اهتديت بها إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
رحت أقلب الكتاب فهالتني كثرة الأسماء.. فرحت أسأل: أكل هؤلاء التقيتهم؟
قال: أجل.. كلهم قيض الله أن يكونوا سببا من أسباب هدايتي.
قلت: فهلا أذنت لي، فوضعت فهرسا ييسر عليك الاطلاع عليهم؟
قال: لقد فعلت.. لقد صنفت من رأيتهم إلى عشرة أصناف، يشملون أكثر أنواع الناس.. ففيهم: العامة والخاصة.. وفيهم الأدباء والفنانون.. وفيهم العلماء والأولياء.. وفيهم الأحبار والمفكرون.. وفيهم الأصدقاء والأعداء.
قلت:.. والأعداء!؟
قال: أجل.. حتى الأعداء لم يملكوا ـ في لحظة من لحظات الصدق، أو لحظة من لحظات عودة الوعي ـ إلا أن يعبروا عن تقديرهم الشديد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فستقص علي قصة كل اسم من هذه الأسماء.
قال: لا يفي العمر جميعا ببعض ذلك.. فلي مع كل اسم قصة من القصص.
قلت: فستحدثني عن بعضها..
قال: سأحدثك عن أفراد من كل صنف.. وأنت تستدل بمن ذكرت على من لم أذكر..
قلت: ألم تلق معلمي (معلم السلام) في بداية هذا النوع من الأشعة!؟
قال: بلى.. لقد لقيته.. وقد كان سببا في أن أتخذ هذا الدفتر..
قلوب مع محمد (22)
قلت: فحدثني عنه، فما أعظم شوقي إليه.
قال: كان يوما من أيام الشتاء الباردة.. وكان الثلج يتساقط.. ونحن في مقبرة نشيع جثمان بطل من أبطال ألمانيا..
قلت: من هو؟
قال: أعفني من هذا السؤال.. فلو عرف أهل عصرنا هذا من هو لاتهموني أو اتهموا أخي بما لا طاقة لنا به.
قلت: فكيف التقيت معلم السلام في ذلك الموقف.. هل كان أحد المشيعين؟
قال: لست أدري.. فجأة استدرت، فرأيته خلفي، وهو ينظر باستغراق لأفواه المتحدثين، وهم يرسلون مراثيهم تصحبها دموعهم.
كنت أحسبه متأثرا كالجمع الحاضر.. ولكن وجهه الواجم لم يبد لي أي أثر أو أي تأثر.
بعد انتهاء حفل التأبين، اقتربت منه، وقلت: لا شك أنك حزين لفقد هذا البطل العظيم الذي امتلأت قلوب الدنيا حزنا عليه.
قال: ويوشك أن تمتلئ بغضا له.
قلت: أخفض من صوتك.. ما الذي تقول؟
قال: أقول الحقيقة.. لقد كنت أطالع وجوه المتحدثين.. فلم أر فيها أي نسمة من نسمات الصدق.. وكنت أحلل تلك الدموع، فلم أرها غير دموع التماسيح.. وكنت أحلل تلك الكلمات، فلم أرها غير أكاذيب المنافقين..
قلت: فكيف عرفت بارتداد القلوب عنه؟
قال: لأن القلوب لا يمكن أن تظل على النفاق.. والأعين لا يمكن أن تظل ترسل دموع التماسيح.
قلت: كل الناس يحصل لهم هذا.. يمدحون، ثم يهجون.. ويشكرون ثم يكفرون.
قلوب مع محمد (23)
قاطعني، وقال: إلا الصادقون.. فالقلوب لا تزداد لهم إلا محبة.. والأعين لا تزداد لهم إلا شوقا.. والأفواه لا تزداد لهم إلا مدحا.
قلت: فمن هؤلاء!؟
قال: أنا أبحث عنهم.. لقد اتخذت دفترا أسجل فيه منحنيات الحب والبغض..
قلت: هذه أول مرة أسمع بهذا النوع من المنحنيات.
قال: لأن البشر انشغلوا بمنحنيات العمران عن منحنيات الإنسان.
قلت: عرفت قيمة منحنيات العمران.. فما قيمة منحنيات الإنسان؟
قال: لقد جعل الله في قلوب البشر جواذب نحو الحقيقة.. قد يشردون عنها، ولكنهم سرعان ما يعودون إليها.. هي كإبرة البوصلة.. تحركها ذات اليمين، وذات الشمال، ولكنها تأبى إلا أن تعود إلى المحل الذي تنجذب إليه.
قلت: عرفت قيمة إبرة البوصلة.. فبها نميز الشمال من الجنوب.. وبها نهتدي في طريق البر والبحر.
قال: وببوصلة القلوب نعرف الصادقين من الكاذبين.. ونهتدي إلى أهل الحقائق، وأهل الدجل.
قلت: لقد ذكرتني بما قالت لي العذراء في ذلك الحلم الجميل.. لقد قالت في وصف تلك الشمس المقدسة: (وامتلأت القلوب حبا لها، وشوقا إليها) (1)
قال: لقد ذكرت لك العذراء مقياسا من مقاييس الحقيقة.. فابحث عنه.. فكل من بحث وصل.
قلت: أين!؟
قال: سر في أرض الله.. واتخذ لنفسك دفترا.. وابحث عن نبرات الصدق الحقيقي التي
__________
(1) انظر [أنبياء يبشرون بمحمد] من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (24)
تنطلق من القلوب.. ففي تلك النبرات ما يدلك على تلك الشمس المقدسة.
قلت: لكل شخص وجهة هو موليها.
قال: ولكن الناس يفترقون في كل شيء إلا عند الشمس، فإنهم يجتمعون.. يجتمع الجميع.
قلت: لم أفهم.
قال: لقد كنا نشيع ذلك البطل الهمام في نظرنا.. وفي نظر أهل بلدنا!؟
قلت: أجل..
قال: ولكن قلوب الآلاف.. بل عشرات الآلاف.. بل الملايين.. تلعن هذا النعش الذي كنا نسمع تأبينه.
قلت: أجل.. وهم أحرار فيما يحبون، وفيما يبغضون.
قال: بل هم مجبرون على ذلك.. فلولا ما فعل بهم ما أبغضوه.
قلت: ولكن هؤلاء الذين أحبوه فعل لهم.. فلذلك أحبوه.
قال: وهذا مقياس آخر.
قلت: لم أفهم.
قال: هذا البطل الهمام أرضى هؤلاء على حساب أولئك.. فلذلك أبغضوه.. وسيبغضه هؤلاء أيضا.. لأن القلوب لا بد أن تعود إلى لحظات الصدق لترى الإجرام إجراما والعدل عدلا.
قلت: فأين الذي تجتمع عليه كل القلوب؟
قال: ذاك ما أبحث عنه.. فمن ظفر به ظفر بالإكسير الذي يجعله إنسانا.
قلت: فسلمني دفتر قلوبك لأنطلق مما وصلت إليه في بحثي.
قال: لا تسلم لك الحقائق إلا بالمعاناة.. فسر، وسل القلوب، وابحث.. فما وصل إلا من سار.
قال ذلك، ثم انصرف.
قلوب مع محمد (25)
في ذلك المساء اشتريت دفترا.. وصرت أبحث عن كل نفحة صدق تفوح بها الألسن في لحظة تقدسها.
وهذا هو الدفتر.. وهذه قصته.
قلوب مع محمد (26)
فتحت دفتر الغريب على فصله الأول، فوجدت عنوانه (العامة)، فقلت: من تقصد بالعامة؟
قال: أقصد بهم أولئك البسطاء الذين لم تسجل أسماؤهم في دفاتير المؤرخين مع أنهم هم الذين صنعوا التاريخ.
قلت: لقد كان هذا الصنف من الناس أكثر من اتبع الرسل.
قال: لأنه لم يكن لديهم من السلطان ما يخافون عليه، فلذلك لم ينحجبوا بما انحجب به غيرهم.
كان أول اسم سجله الغريب في هذا الفصل اسم (الراعي)، فسألته عنه، فقال: هذا (الراعي).. وهو أول من رأيت حرارة الصدق في كلماتهم.. فلذلك كان أول من سجلت اسمه في هذا الدفتر.. والذي كان في ذلك الحين خاليا من أي عنوان.
قلت: فحدثني حديثه.
قال: في ذلك اليوم من أيام الربيع.. وفي بلدي الذي ولدت فيه.. وبعد لقياي لمعلم السلام وإقناعه لي بتخصيص دفتر للكلمات الصادقة الصادرة عن القلوب المخلصة، خرجت إلى الحقول المجاورة لأتنسم عطر الهواء الذي لم يدنس بالمداخن، ولألتقي بالبشر الذين لم تخرجهم الحضارة عن فطرتهم.
وفي ذلك الحقل، التقيت ذلك الراعي الصادق الذي كان يمتلئ شوقا لمحمد.
لقد وجدته جالسا بجنب نعجاته من غير أن يراه أحد، أو يسمعه أحد، وهو ينشدها بصوت عذب قول الشاعر:
يا حبيباً علم الوجد هواه... ياتراني بعد صبر هل أراه؟...
يا جميلا ليس خلق في البرايا... قط مثل أو قريب من بهاهُ
بان في الأفلاك بدر أو هلال... يسلب الألباب بعض من سناه...
ليس حسن في البرايا أو جمال... أو بديع من جمال ما عداه...
يا حبيبا لست أدري كيف أوفي... قدره العالي وفيضا من عطاه...
ذاك قلبي هام وجداً يا حبيبي... والهوى في وجدكم حقا سباه...
يا دموعا ذارفات في الليالي... هل لقاءُ في تعيم منتهاه...
يا لسعدي ساعة اللقيا بحبي... يا حبيبا حق سعدي في حماه!...
كيف أسلو يا حبيبا في فؤادي... جاوز الأحباب عشقا فاكتواه...
كيف أسلو والحنايا لم تزل... ترقب الوصل ووصلي لا أراه ُ!...
يا ليال ذبت فيها من هواكم... والتياعي يا حبيبي من شِفاه؟...
طال بعدي بت ليلي من هواكم... ضج قلبي هائما دمعي ذراه...
مال قلبي نحو حب ليس فيه... غضة للقلب رقراق نقاهُ!...
كلما همت وزاد الحب فيكم... زاد سعدي بالغاً بي منتهاهُ...
كيف لا والوعد منكم يا حبيبي... أن ينال محبكم حقا مناه
اقتربت منه، وقد هزني إنشاده، فقلت: أنت عربي.. لاشك في ذلك.
قال: لا.. بل أنا ألماني.. نبتت شجرتي في هذه البلاد.
قلت: ولكن أشجار هذه البلاد لا تتقن العربية.
قال: لقد شوقني في العربية حبيبي الذي همت به.. فضبطت لساني على موجات لسانه، كما ضبطت قلبي على ترددات محبته.
قلت: عهدي بالمحبين في بلادنا يتلاقون بمحبوبيهم كما يشتهون.. ولا يقتنعون بما تقتنع به من ترديد الأشعار.
قلوب مع محمد (27)
قال: ومن قال لك بأن حبي قد غاب عني.. إنه معي.
قلت: ولكني لا أراه.
قال: فأنت إذن لا تبصر.
قلت: بل أبصر.. وأنا لا أرى أمامك إلا نعجاتك.
قال: لو نظرت إلى إنسان عيني لرأيته، ولو حدقت في سويداء قلبي لوجدته مستويا على عرشه.
قلت: لا طاقة لي بفك ألغازك، فحدثني عن حقيقة أمرك.. أخبرني عن حبيبك الذي ملكته قلبك وعقلك وروحك.
قال: محمد هو حبيبي الذي ملك علي عقلي وقلبي وروحي وجميع كياني.
قلت متعجبا: محمد!؟
قال: أجل.. محمد..
ثم راح ينشد بصوت عذب قصيدة البوصيري:
محمد أشرف الأعراب والعجم... محمد خير من يمشي على قدم...
محمد باسط المعروف جامعه... محمد صاحب الإحسان والكرم...
محمد تاج رسل الله قاطبة... محمد صادق الأقوال والكلم...
محمد ثابت الميثاق حافظه... محمد طيب الأخلاق والشيم...
محمد رويت بالنور طينته... محمد لم يزل نورا من القدم...
محمد حاكم بالعدل ذو شرف... محمد معدن الإنعام والحكم...
محمد خير خلق الله من مضر... محمد خير رسل الله كلهم...
محمد دينه حق ندين به... محمد مجملا حقا على علم...
محمد ذكره روح لأنفسنا... محمد شكره فرض على الأمم
محمد زينة الدنيا وبهجتها... محمد كاشف الغمات والظلم...
محمد سيد طابت مناقبه... محمد صاغه الرحمن بالنعم...
محمد صفوة الباري وخيرته... محمد طاهر من سائر التهم...
محمد ضاحك للضيف مكرمه... محمد جاره والله لم يضم...
محمد طابت الدنيا ببعثته... محمد جاء بالآيات والحكم...
محمد يوم بعث الناس شافعنا... محمد نوره الهادي من الظلم...
محمد قائم لله ذوهمم... محمد خاتم للرسل كلهم
قلت: فكيف اهتديت إلى محمد، وأنت من هذه البلاد التي لا تعرف محمدا.
غضب، وقال: كل البلاد تعرف محمدا.. بل كل الأشجار والحجارة والتربة تعرف محمدا.
قلت: أحدثك عن البشر.. لا عن الأشجار والحجارة.. فأخبرني خبرك.
قال: قصتي طويلة..
قلت: فقصها علي.
قال: سأقص عليك منها ما تحتاجه.. وأرغب بك عما لا تحتاجه.
قلت: كلي آذان صاغية لك.
قال: لقد وقعت في عز شبابي ضحية لشباك الحب المدنس..
قلت: ما الحب المدنس؟
قال: ذلك الحب الذي يتغنى به قومنا.. فيملؤون عروش قلوبهم بالمستنقعات الأسنة.
قلت: فكيف نجوت منه.. عهدي بمن يقع فيه يلم به ما ألم بالمجنون من الجنون، أو ما ألم بعروة ةإخوانه من الموت.
قال: تلك قصتي مع حبيبي محمد.
قلت: لم أفهم.
قلوب مع محمد (28)
قال: لقد أذاقتني محبوبتي التي أسلمتها روحي من ألوان الهوان ما امتلأت به مرارة، فبعت لأجلها كل ما أملك، وأرضيتها بكل ما أطقت أن أرضيها به، فلما نفذ ما عندي من مال ومتاع هجرتني.. بل باعتني لمن يملك ما لا أملك، ويقدر على ما لا أقدر.
قلت: فكيف نجوت من خنادق الهوى الوعرة؟
قال: بمحمد.
قلت: كيف ذلك؟
قال: في تلك الأيام ظهر لي أن أسافر إلى اليمن.. ولست أدري كيف لاح لي ذلك الخاطر.. وقد كانت تلك الأيام تزدهي بميلاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فكانت الأفراح في كل جانب، وكانت القصائد العذبة تمتلئ بها الحناجر والأسماع.. وكنت أرى الفرحة تمتلئ بها القلوب غير شاعرة بتلك الفاقة التي تصيح بها الأجساد.
لقد أثرت في تلك المشاهد مع كوني لم أكن أعرف من العربية إلا ما أحتاجه في معاملاتي الضرورية.
قلت: فكيف فهمت ما يقولون؟
قال: حرارة الصدق والإخلاص جعلتني أستوعب كل ما يذكرونه، بل أعيه وعيا تاما.
قلت: أكان ذلك وحده هو الذي أنقذك من شباك الحب المدنس؟
قال: كان ذلك هو الباب.. وكانت تلك هي البداية.. لقد كان الإخلاص والصدق هو الذي جعلني أنضم إلى تلك المجالس، وأجلس معها، وأحاول أن أستشعر المشاعر المقدسة التي تستشعرها..
لقد كان كل كل هدفي أن أنسى من جرعتني السموم.. ولم أكن أعلم أن الله الرحيم الرحمن يدخر لي كل ذلك الفضل.
قلت: لم أفهم.
قلوب مع محمد (29)
قال: في مجلس من تلك المجالس لاحت أنوار عظيمة غسلت جميع أدران قلبي، ومحت جميع ظلماته.. لقد كانت أنوارا لذيذة وجميلة لا يمكن وصفها.
قلت: أنوار من تلك؟
قال: أنوار الشمس التي لا تغيب..
قلت: لم أفهم..
قال: لم يكن دليلي إلى محمد إلا محمد.
قلت: لا زلت لا أفهم.
قال: أنا لست فيلسوفا، ولا لي قدرة على الجدل، ولا على البحث المضني.. ولكن مع ذلك لي قدرة على تلمس الصدق والإخلاص.. وقد رأيت في محمد منهما كل ما يملأ القلب بالمحبة السامية.
قلت: والمسيح!؟.. ألم تكن مسيحيا؟
قال: بلى.. ولا أرى أن حبي للمسيح يغني عن حبي لمحمد.. ذلك أني لم أصل للمسيح إلا بعد أن وصلت لمحمد.
قلت: كيف تقول ذلك، ومحمد جاء بعد المسيح.
قال: لقد عرض للمسيح قطاع طرق كثيرون شوهوه.. ولم يعد للمسيح جماله ولا كماله غير محمد.
قلت: فكيف تعلمت العربية.. وعلى من تعلمتها؟
قال: علمتني المحبة.. لقد جعلتني تلك العيون الصادقة أتعلم من غير معلم.
قلت: لقد رأيتك تردد أشعارا بليغة.
قال: تلك الأشعار من تلك المجالس.. لقد كنت جالسا في أحد تلك المجالس الآن.
قلت: أنت هنا الآن.
قلوب مع محمد (30)
قال: أنا لم أخرج من هناك.. ويستحيل على قلبي أن يفارق مواطن الأحبة.
قلت: ونعجاتك؟
قال: هي لا تشغلني.. بل لو اجتمع الخلق جميعا على أن يشغلوني فلن يشغلوني.
قال ذلك، ثم انصرف إلى نعحاته، وهو يشدو بقول الشاعر:
دارُ الحبيبِ أحقُّ أن تهواها... وتَحِنُّ من طربٍ إلى ذِكراها...
وعلى الجفونِ إذا هممتَ بزورَةٍ... يا ابن الكرامِ عليك أن تغشاها...
فلأنتَ أنتَ إذا حللت بطيبةٍ... وظللتَ ترتعُ في ظِلال رُباها...
مغنى الجمال من الخواطرِ والتي... سلبت ْ قلوبَ العاشقين حلاها...
لا تحسبِ المِسكَ الذَكيّ كتُربها... هيهاتَ أين المسكُ من رياها...
طابت فان تبغي لطيبٍ يا فتى... فأدم على الساعات لثم ثراهها...
وابشر ففي الخبر الصحيح تقررا... إن الإله بطيبة سماها...
وبهذه ظهرت مزيةٌُ طيبةٍ... فغدت وكل الفضل في معناها...
حتى لقد خُصت بهجرة حِبِّهِ... الله شرفها بِهِ وحَباها...
ما بين قبرٍ للنبي ومنبرٍ... حيا الإلهُ رسولَه وسقاها...
هذي محاسِنها فهلل من عاشقٍ... كَلِفٍ شَجِيٍّ ناحلٍ بنواها...
إني لأرهبُ من توقع بينها... فيظل قلبي مُجعاً أواها...
بجوارِ أوفى العالمين بذمةٍ... وأعز من بالقرب منه يُباهى...
من جاء بالآيات والنورِ الذي... داوى القلوب من العَمى فَشفاها...
أولى الأنامِ بخطة الشرفِ التي... تدعى الوسيلة خير من يُعطاها...
إنسانُ عين الكونِ شرفِ التي... تدعى الوسيلة خير من يُعطاها
حسبي فلستُ أفي ببعضِ صِفاته... لو أن لي عدد الورى أفواها...
كثرت محاسنه فأعجز حصرها... فغدت وما تلقى لها أشباها
سالت دموع حارة من عيني الغريب، وهو يحدثني عن قصة هذا الراعي، فقلت: أرى أن هذا الراعي قد أثر فيك أيما تأثير؟
قال: أجل.. في ذلك المساء سطرت في هذا الكراس أول اسم من أسماء الصدق.. وفي ذلك اليوم عنونت هذا الدفتر بهذا العنوان، وقد كنت أحسب أني سأضع دفاتر أخرى لشخصيات أخرى.. ولكني كلما هممت بذلك انصرفت إلى محمد.
قلت: أراك وضعت في هذا الفصل أسماء كثيرة؟
قال: كل هؤلاء من العامة البسطاء الذين أتيح لي أن ألتقي بهم، وأحادثهم عن سر إقبالهم على محمد ودين محمد.
قلت: كيف أتيح لك ذلك؟
قال: لقد لاحظت مراكز الدراسات المختلفة ـ والتي تزود الفاتيكان بما يحتاجه من معلومات ـ الإقبال الشديد على الإسلام رغم التشويهات الكثيرة التي تناله من وسائل الإعلام، وقد دفع ذلك الكنيسة إلى تكليفي بالبحث عن هؤلاء المسلمين الجدد والتحاور معهم لنعرف سر الإقبال الشديد على الإسلام.
قلت: لقد أتيحت لك فرصة عظيمة إذن؟
قال: أجل.. لقد كانت هذه فرصة لا تعوض.. فقد أتيح لي أن ألتقي بأكبر عدد من المسلمين الجدد، والذين فتحوا لي قلوبهم، وحدثوني بكل إخلاص عن رحلتهم إلى الإسلام (1).
قلت: في أي بلد تمكنت من لقائهم؟
__________
(1) من أهم مراجعي في أخبار المسلمين الجدد كتاب: رحلة إيمانية مع رجال ونساء أسلموا، إعداد: عبدالرحمن محمود، وموقع: http://www.newmuslims.tk/
قلوب مع محمد (31)
قال: في بلاد كثيرة.. فأنت تعلم سخاء الكنيسة.
قلت: فقد استغللت سخاء الكنيسة إذن؟
قال: لا.. لقد كنت صادقا معها.. ولكن صدقي مع الحق كان أعظم من صدقي معها، فلذلك انشغلت بالبحث عن أسرار الصدق عن البحث الذي طلبته مني الكنيسة، وأحسبني قد عملت بإخلاص، ولم أتقاض على ذلك إلا ما هو حق لي.
قلت: لم أفهم.
قال: لقد أريد من تلك الأموال التي صرفت على رحلاتي أن أسمع الحقائق من أهلها، وأنقلها بكل صدق وموضوعية، وأحسبني لم أفعل إلا ذلك.
قلبت دفتر الغريب في هذا الفصل، فرأيت اسم (الفتى عماد) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: قصة هذا الفتى مع الإسلام طويلة، ولا يمكنني في هذا المجلس أن أحدثك عنها جميعا، ولهذا سأكتفي باختصارها لك أو ذكر ما تمس إليه الحاجة فقط منها.
قلت: فمن حدثك بها؟
قال: الشاب عماد نفسه.. لقد أتيحت لي فرصة قدمت له فيها ـ بفضل الله ـ بعض الخدمات، وقد ارتاح إلي، وأخبرني عن قصته بتفاصيلها.
قلت: فحدثتني بما وعدتني منها.
قال: لقد بدأ هذا الشاب الطيب الذي أنار الإسلام عقله وقلبه حديثه بحمد الله على نعمة الإسلام، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله واسطة لتلك النعمة، ثم أخذ يحدثني عن أسرته قبل الإسلام وبعد الإسلام، فقال: كانت أسرتي تتكون مني وأختي وأمي وأبي.. أربعة أفراد فقط
__________
(1) نقلا عن كتاب: قصة الفتى النصراني الذي اهتدى.. (بتصرف)
قلوب مع محمد (32)
وكانت أسرة نصرانية متدينة تواظب على دروس الكنيسة وتؤدي العبادات النصرانية بانتظام، وكنت أختلف إلى دروس الكنيسة مع أسرتي وكنت أواظب على أداء الصلوات.. وقد كان أول ما هداني الله به إلى الإسلام أمي.
قلت: أكانت أمه مسلمة؟
قال: لا.. ولكنها كانت سبب دخوله الإسلام.. لقد ذكر لي هذا الشاب الفاضل أنه شعر بتوجه أمه نحو الإسلام وميلها إليه، وقد اكتشف ذلك من خلال تعلقها بدرس التفسير الأسبوعي للشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - فيقول: (لاحظت أن لحديث الشيخ الشعراوي الأسبوعي أثرًا أشبه بالرعد في آذان المتعصبين من النصارى، وساعة الحديث الأسبوعي ساعة نحس عندهم، وتمثل عبئًا نفسيًا ومعاناة لهم، بيد أن الأمر كان مختلفًا مع أمي كل الاختلاف حيث كنت أراها تفتح التلفاز وتشاهد درس الشيخ الشعراوي الأسبوعي يوم الجمعة فأسألها دهشا: ماذا تصنعين؟! فتجيب قائلة: أتابع هذا الشيخ لأنظر ماذا يقول؟ وأسمعه ربما يخرف!.. ولم أكن أدري أن ردها عليّ وقتها كان من باب التمويه حتى لا أخبر أبي (1)!
وهناك برنامج آخر كانت تتابعه أمي، وهو برنامج (ندوة للرأي) أراها تشاهده، فلما أنكر عليها ذلك مستفسرًا ترد قائلة: أشاهد وأسمع لأرى ما يقوله هؤلاء العلماء عن النصرانية والنصارى! فأسمع جوابها دون تعليق.. وأواصل مراقبتها، وكانت أمي سمحة المعاملة لطيفة المعشر، وكادت في معاملتها تبدو أقرب للإسلام والمسلمين، حتى أن أحد القساوسة سبّها ذات مرة، لأنها قالت أمامه: (والنبي) على طريقة العامة من المسلمين في مصر، فسبّها القس ونهرها قائلاً لها: أي نبي ذلك الذي تقصدين؟! وعنفها حتى سالت الدموع من عينها.
__________
(1) ورد في النصوص ما يدل على جواز اللجوء إلى الكذب في مثل هذه الأحوال من باب الضرورة، فقد جاء في حديث الغلام والراهب والساحر قول الراهب: (إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر) الحديث رواه مسلم.
قلوب مع محمد (33)
ولما فكرت أمي في الإسلام، استدعتني ذات مرة وقالت لي: تعال يا عماد أنت ابني الوحيد ولن أجد أحدًا يسترني غيرك! فقلت لها خيرًا يا أمي، فقالت: أنت ابني الكبير وأنا مهما كانت الأمور وفي كل الأحوال أمك.. ومن المستحيل أن تتخلى عني أو ترميني في التهلكة، فقلت لها: نعم يا أمي. فقالت: ماذا تفعل لو أن أهلك قالوا عني كلامًا سيئًا ورموني بتهم باطلة؟! فقلت لها: ولم يفعلون ذلك وهم جميعا يحبونك. قالت: ماذا تفعل لو حاولوا قتلي والتخلص مني؟ فقلت لها: كيف ذلك؟ ولم يحاولون قتلك وهم يحبونك؟! قالت: ماذا تفعل لو صرت مسلمة؟ هل ستحاربني مثلما الحال مع أبيك وأعمامك وأخوالك وأقاربك؟! فكانت إجابتي لها: الأم هي الأم، وأنت أمي في كل الأحوال.
قلت ذلك.. ولكن نفسي كانت ممتلئة بالمخاوف عليها، وقوّى ذلك لدي كثرة مشاجرتها مع أبي في شأن رغبتها في اعتناق الإسلام.. وكان أبي يغضب من تهديدها بترك النصرانية ويتحداها أن تعتنق الإسلام.
وذات يوم عدت إلى المنزل قادمًا من المدرسة، فلم أجد أمي، فأخذت أسأل عنها في كل مكان يمكن أن تذهب إليه... وكانت الصدمة أني وجدت أنها أعلنت إسلامها أمام الجهات المسؤولة، وأنها لن تعود إلى البيت أبدًا..
لقد جن جنون العائلة كلها وفقدت توازنها وصارت تقول في الإسلام والمسلمين كل ما يمكن أن يقال من ألفاظ السباب واللعن والتهديد والوعيد وصار الجميع من أخوال وأعمام فضلاً عن الأب في حالة عصبية انفعالية في الكلام والسلوك فهم غاضبون من كل شئ ومن أي شئ...
وكنت أستمع إلى الشتائم توجه إلى أمي من الأقارب والأخوال والأعمام، فمن قائل: إنها كانت تشبه المسلمين في كذا وكذا، وهذا الخال يوجه كلامه إلي قائلاً: (انظر كيف تركتكم، وتخلت عنك وعن أختك؟! انظروا من سوف يرعاكم ويقوم على تربيتكم؟!).. أما العم فقد كان يقول
قلوب مع محمد (34)
كلامًا مشابهاً ويقول موجهاً كلامه لي ولأختي: (ترى لو ذهبت أنت وأختك إليها وتوسلتما إليها وبكيتما بين يديها.. هل ترجع إليكم؟!)
وكان العم يذهب إليها في الجهات المختصة ليوقع الإقرار تلو الإقرار بعدم التعرض لها.. وأحيانًا كان يلقاها ويستعطفها كي تعود إلى ولديها لشدة حاجتهما إليها، ولكن أمي رفضت بشدة بعدما ذاقت حلاوة الإسلام والإيمان وأسلمت لله رب العالمين وتركتنا وديعة عند من لا تضيع عنده الودائع سبحانه هو خير حافظٍ وهو أرحم الراحمين، وأيقنت أن الله سوف يحرسنا بعينه ويرعانا برعايته (1).
قال الغريب: ثم أخبرني هذا الفتى عن بعض البلاء الذي تعرض له بسبب إسلام أمه، ثم كيف بدأ يتلقى أنوار الإسلام، فقال: أخذت العنوان وقفلت راجعًا إلى منزلنا أفكر في الأمر، وبعد يومين أو ثلاثة عزمتُ على زيارة أمي على عنوانها الجديد في موعد يسبق يوم الثلاثاء اللاحق لموقف القس السابق في درس الكنيسة، وبلغت مسكن الوالدة وشاء الله أن يكون ذلك مع أذان المغرب.. وأستمع إلى أذان المغرب وكأني أسمعه لأول مرة برغم سماعي له آلاف المرات ولكن الأذان هذه المرة وقع مغاير تمامًا لما ألفته من قبل.
وتستقبلني أمي أثناء الأذان مرحبةً بي، وأراها وأسمعها تردد الأذان وهي لا تكاد تنتبه لحديثي إليها، وبعد الأذان ذهبت فتطهرت وتوضأت ثم دخلت في صلاتها وجعلت تتلو القرآن في الصلاة بصوت مسموع فكنت لأول مرة أسمع القرآن من أمي، إنها تتلو سورة الإخلاص، وكان لذلك وقع لا يوصف في قلبي وأثر ساحر في نفسي.
إن مشاعري في تلك اللحظة لا أقوى على وصفها، فقد شملني نورٌ ربانيٌ وتملكني شعور غريب تمنيت معه في تلك اللحظة لو جثوت على ركبي وقبلت قدم أمي وهي تصلي، شعرت
__________
(1) هذا الموقف مع ما فيه من الصدق والإخلاص إلا أن الداخل للإسلام لا ينبغي أن يفرط في أي شيء يرتبط بحياته وبمسؤولياته، بل إن اعتناقه للإسلام لا ينبغي أن يزيده إلا حرصا على هذه المسؤوليات.
قلوب مع محمد (35)
بشيء ما يغسل قلبي، وداخلني صفاءٌ ونقاءٌ لم أشعر بهما من قبل، أجل إن شعوري في ذلك اليوم لا يمكن وصفه أو التعبير عنه.. إنه روح جديدة تسري في جسدي وعروقي، أحسست بمدى الظلم الذي وقع على أمي من ذلك القس (1) في درس الثلاثاء الماضي، تمنيت لو خنقته لافترائه على أمي دون وجه حق، لماذا يشوه سيرتها؟! أهذا عدل؟ وهل المسيح أمر بذلك؟!
ثم حدثني الفتى عن لجوئه إلى الإنجيل ليبحث فيه عن السكينة والهداية والهدوء فيكتشف أنه محرف، وأن القرآن الكريم هو كتاب الله حقًا، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال: فالإنجيل عندما طالعته وجدته كتابًا كأي كتاب يؤلف في سيرة شخص أو عظيم حيث تطالعك أخبار عن المسيح الذي يأكل والمسيح الذي يشرب والمسيح الذي يموت والمسيح الذي يقوم من الذي يتحدث بهذه الأخبار؟ هل هو الله؟ أم هو المسيح؟!
إن الإنجيل كتاب كأي كتاب يحكي قصة شخص أكل وشرب ونام، وفعل كذا من المعجزات أو له كذا من المعجزات والخوارق، من المتحدث في كل هذا؟ أو من الذي كتب هذه الأخبار بعد وفاة المسيح؟ ولماذا تتعدد الروايات وتختلف وتتناقض أحياناً بتعدد الأناجيل واختلافها، حتى والمسيح على الصليب - كما يزعمون - ينادي: (إيلي إيلي لماذا؟ شبقتني!)
أي: إلهي إلهي لماذا تركتني وخذلتني؟! لماذا؟ ينادي مَنْ؟ وهو من؟ وكيف يتخلى الأب عن ابنه وهو يستصرخه ويستنصره ويستنجد به؟! أهذا منطق؟! أسئلة كثيرة رَسمتْ أمامي علامات استفهام كبيرة.
وقد أصاب الفتى الملل من قراءة الإنجيل ـ كما يحكي ـ لأن قراءته الإنجيل ضاعفت من حيرته ولم تجب عن أسئلته، ويمضي الفتى قائلاً: ولكن حرصي على الوصول للحقيقة دفعني لمزيد من المراجعة ومعاودة قراءة الإنجيل مرة أخرى حتى انتهيتُ من قراءته لأصل إلى الاطمئنان النفسي والعقلي والروحي فما وجدت إلا المزيد من الإبهام والغموض، فاشتدت حيرتي حتى
__________
(1) ذكر هذا الشاب في كلام حذفناه أن قسا من القسس اتهم أمه في عرضها، وأنها سجنت من طرف شرطة الآداب.
قلوب مع محمد (36)
طالعت في الإنجيل قول السيد المسيح: (الحق الحق أقول لكم: إن من يتبع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية)
الله أكبر. الله أكبر إذاً جاءت صريحة وعلى لسان المسيح عبارته تلك التي تؤكد أنه رسول من عند الله، فقوله: (الحق. الحق) قسم وقوله: (إن من يتبع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني) تأكيد على أنه رسول من عند الله وقوله: (فله حياة أبدية) أي له الجنة والحياة الخالدة في الجنة.
قلت للبابا: فقد أسلم الفتى بعد هذا إذن؟
قال: أجل.. لقد أسلم.. وأسلمت بعد ذلك عائلته بعد عناء شديد تعرض له، ولكن الله أنقذه بفضله وكرمه كما ينقذ كل صادق ومخلص.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (إيفا ماريا)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذه سيدة ألمانية، وقد التقيت بها في بلدي ألمانيا، وقد حدثتني عن قصة دخولها الإسلام، فقالت: لقد وجدت بادئ الأمر أن صورة المعبود عند النصارى قريبة جداً منا معشر البشر، وقد أضيفت عليها صفات الإنسان لدرجة لا تجعلها تنطبق على خالق كل شئ، كما أن صورة السيد المسيح عليه السلام التى يجمع فيها بين الإنسان وصفة الخالق، هذه الصورة لا يمكن تصديقها أبداً.
إلى جانب ذلك، فقد ورد بخاطرى أن المسيحية ليست إلا علاقة بين الإنسان وربه، ولاشأن لها بأى حال من الأحوال بشئون الناس الاعتيادية كالشئون المالية مثلا أو العمالة أو أى نوع من أنواع التقنين لحياة الناس، أضف إلى ذلك التوجيهات العامة، التى وجدت أنها عسيرة التطبيق، ومن ذلك مبدأ المحبة، محبة الإنسان لأخيه الإنسان، هذا المبدأ لا يمكن أن تطبقه جماهير الناس فى ظل العقيدة النصرانية.
هذه الأفكار التى كانت بخاطرى وقعت إبان الفترة التى تسمى فترة تمرد الطلاب على
قلوب مع محمد (37)
الرأسمالية، فعندما بحثت هذه القضايا مع زميل مسلم ـ أصبح فيما بعد زوجاً لى ـ وجدت أن الإسلام قد وضع فى اعتباره كل هذه المشكلات، واهتم بها أعظم الاهتمام كمشكلة الاستغلال أو القوانين العامة الديقراطية وغير الديمقراطية ومشكلة المال والإقتصاد وغيرها.. فقد أوجد الإسلام الحلول المناسبة لكافة هذه المشكلات الدنيوية.
وكم كان تأثرى عظيماً حينما علمت أن الإسلام يعترف بالإنسان باعتباره مخلوقاً له روح وجسد فى آن واحد، كما أحببت مبدأ الاتصال المباشر بين الإنسان وخالقه دون أية وساطة من أى نوع بينهما، فقد شعرت أن من اللائق جداً للإنسان أن يخضع لخالقه فقط لا لأى أحد من خلقه.
كذلك شرح لى زميلى المسلم بأنه لا يوجد فى الإسلام أى فصل بين الدين والدولة، فاقتنعت بذلك تماماً، حيث وجدت من الضرورى أن لا يقتصر الإيمان والاعتقاد الدينى على الشئون الشخصية فحسب، بل لابد أن يشمل كافة جوانب الحياة الإنسانية.. وهذه صفة مميزة وخاصية فريدة للدين الإسلامى الحنيف، فهو لا يرفع شعار (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، بل على العكس من ذلك تماماً إذ أن العبادة فى الإسلام لا تقتصر على المساجد، بل تمتد لتشمل الحياة البشرية بأسرها.
سكتت قليلا تسترجع ذكرياتها، ثم قالت: عندما كنت أمر فى هذه المرحلة من تجميع المعلومات والقيام بدراسات دينية صادفت بعض المصاعب والعقبات، وكان عسيراً على نفسى أن أتقبل القيود التى يفرضها الإسلام على المرأة، والتى ظننت خطأ حينذاك أنها تحد من حريتها الشخصية، وهذه على كل حال هى نفس الحرية والتسيب الذى أعتدت أن انتقده فى ديانتى السابقة، وهى حرية يساء فهمها واستخدامها فقد اكتشفت أن الفهم النظرى شئ والتطبيق العلمى شئ آخر تماماً، وأذكر هنا اللباس الإسلامى للمرأة، فقد كان فى البداية مشكلة كبرى بالنسبة لى، وأظن أن هذا ينطبق على معظم السيدات الألمانيات المسلمات، فإلى جانب الإحساس
قلوب مع محمد (38)
بعدم الارتياح والشعور بالحر الشديد والمرأة فى لباس كامل فى الصيف، فقد كان من العسير على أن أصمد أمام اسئلة التهكم والاحتقار التى كانت توجه لى، وقد استمر ذلك حتى وفقنى الله إلى الرد بإجابات كريمة وردت لى اعتبارى أمام نفسى وأمام الناس، دون أن أحس بأننى قد أوذيت أو أخدش حيائى.
ثم تعرفت على مجموعة من الشابات المسلمات، فكم كان تأثرى عظيماً لما لمسته بين أفرادها من حب وجو أخوى يسود بين الجميع، وهو جو يختلف تماماً عما هو سائد بين أى جماعة عرفتها من قبل، فقد منحنى الانضمام إلى هذه الجماعة الإسلامية إحساساً بالسعادة واليقظة، وهكذا اقتنعت أننى اتخذت القرار الصحيح حين أصبحت مسلمة، وقد كان ذلك الإحساس بمثابة تعويض مناسب لكل ما لقيته من عقبات نتيجة لهذا القرار، ولدينا الآن اجتماع أسبوعى للمرأة المسلمة مع أطفالنا حيث نتعلم المزيد عن ديننا الإسلامى الجديد.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (إيريس صفوت) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لسيدة ألمانية أسلمت، وقد التقيت بها وحدثتني عن قصة إسلامها، ومما ذكرته لي قولها: نشأت في أسرة مسيحية علمانية ابتعدت عن الكنيسة، وعندما كنت في سن العاشرة شعرت بأن شيئا ينقصني في حياتي، وفطرتي دائما تشتد نحو الدين وأخذت أبحث لي عن دين، وكنت في ذلك الوقت أقرأ في الكتب عن الإسلام.. ووقتها شعرت بشيء يشدني بقوة إلى الإسلام كدين سماوي يرفع من كيان الانسان ويحمل جميع الفضائل والاخلاق الفاضلة وأخذت اهتم بهذا الدين وتحدثت الى زميلاتي في المدرسة وعن الإسلام وأنني أحب هذا الدين، وحينئذ كنت بلغت الثانية عشرة من عمري، وبالفعل أسلمت وكتمت إسلامي لأن زميلاتي وصفنني بالجنون.
__________
(1) انظر: صحيفة الشرق الأوسط 4 - 10 - 2002.
قلوب مع محمد (39)
قلت: أسلمت في ذلك السن.. فما كان موقف أسرتك؟
قالت: في البداية اعتبرت أسرتي أنني أمر بمرحلة اضطراب وتقلب في المزاج.. لكن عندنا في الغرب حرية، واذا بلغ الابناء سن الثالثة عشرة فمن حقهم أن يتصرفوا كيفما شاءوا، ومن حقهم أيضا أن يتركوا أهلهم، ولهذا تركوا لي حرية الديانة.
وعندما وصلت للثانوية العامة، وكان عمري حيئذ ثلاثة عشرة سنة، وذلك عام 1967 وكنت في رحلة الى لندن، ذهبت الى المركز الإسلامي هناك والتقيت بالشيخ محمد الجيوشي (عميد كلية الدعوة الاسبق بجامعة الازهر) وكان اماما للمركز، وقلت له: إنني اريد ان اعلن إسلامي، وأذهب إلى الازهر وأدرس الدين الإسلامي واللغة العربية، كما التقيت بالشيح أحمد حسن الباقوري (وزير الاوقاف المصري الاسبق) في ذلك الحين، ووعدني بالدراسة في الازهر، واعلنت اسلامي أمام الشيخين ونطقت بكلمة التوحيد، وفي عام 1969 سافرت الى مصر، وتعلمت اللغة العربية، ثم عدت الى المانيا لدراسة الماجستير في جامعة كيسين، وفي اثناء دراستي للماجستير تعرفت على شاب مصري كان يدرس في مرحلة الدكتوراه، وتزوجنا وسافرنا عام 1975 إلى مصر وواصلت دراستي للغة العربية، وزادت معرفتي بالإسلام.
قلت لها: لقد مر أكثر من ثلاثين عاما منذ اعتناقك الإسلام.. فهل استطعت إيصال الإسلام إلى أهلك؟
قالت: منذ اللحظة الاولى لاسلامي، وأنا انتمي لهذا الدين وادعو اليه والحمد لله استطعت ان اقنع اثنين من اقاربي بأن يسلما هم جدتي ورجل آخر من أقاربي، والذين لم يسلموا كنت أعطي لهم فكرة عن الإسلام، وهم عندما يسمعونني كانوا يحترمون الإسلام.
قلت: فعلاقتك بأسرتك جيدة إذن؟
قالت: علاقتي بأسرتي في ألمانيا جيدة منذ أعلنت إسلامي، لأن في المانيا تسامح واحترام لحرية العقيدة، ويعتبرون الدين مسألة شخصية.
قلوب مع محمد (40)
سألتها عن أكبر ما جذبها للاسلام، فقالت: قبل ان أعلن اسلامي كنت اقرأ عن شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته فأحببت هذه الشخصية كثيرا لما تتميز به من خصال لا توجد في بشر على وجه الارض.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عبدالرحمن محمود داود) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا رجل ينحدر من أسرة هندية برهمية، تنصرت على أيدي المبشرين الذين قاموا مع طلائع الاستعمار، وكان كثير القراءة للكتب الدينية، ولما أتيح له أن يطلع على القرآن الكريم كان جوابه هو انتماؤه للإسلام، وقد ذكر ذلك في بعض تصريحاته لمن سألوه، فقال: (تناولت نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، لأنني عرفت أن هذا هو الكتاب المقدس عند المسلمين، فشرعت في قراءته وتدبّر معانيه، لقد استقطب جل اهتمامي، وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدت الإجابة المقنعة عن سؤالي المحيّر: (الهدف من الخلق) في الصفحات الأولى من القرآن الكريم.. لقد قرآت الآيات (30 ـ 39) من سورة البقرة.. وهي آيات توضح الحقيقة بجلاء لكل دارس منصف، إن هذه الآيات تخبرنا بكل وضوح وجلاء وبطريقة مقنعة عن قصة الخلق)
وقال: (إن دراستي للقرآن الكريم وضحت أمام ناظري العديد من الإشكالات الفكرية وصححت الكثير من التناقضات التي طالعتها في الكتب السماوية السابقة)
وقال: (بفضل دراستي الحرّة البعيدة عن كل تعصّب مقيت أصبح إيماني بهذا الدين [الإسلام] قويًا راسخًا، لقد آمنت برسالة القرآن، وأحسست أن الإسلام هو دين الفطرة والكمال، أنزله الله على قلب آخر الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد اكتشفت أن الإسلام يخاطب الناس مباشرة ودون أية واسطة من أي نوع. من أجل ذلك كان هذا الدين متمشيًا مع الفطرة
__________
(1) رجال ونساء أسلموا، 7/ 116 – 118.
قلوب مع محمد (41)
البشرية)
وقال: (إن الإسلام يخاطب الإنسان الكامل. وهكذا أيقنت أن هذا الدين هو خير الأديان جميعًا. لقد شرعت في التحدث عن معتقداتي الجديدة، حول الإسلام والنصرانية وصارحت بها العديد من العلماء المرموقين والقسس المعروفين، وكنت صريحًا وصادقًا في مناقشاتي معهم. لقد سألت القسس لماذا يخدعون الناس بإخفاء الحقيقة ولا يخبرونهم بوضوح وصدق أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله؟ ولما سمعوا مني ذلك غضبوا ولكنهم لم يستطيعوا أن يحيروا جوابًا)
قلوب مع محمد (42)
فتحت دفتر الغريب على فصله الثاني، فوجدت عنوانه (الخاصة)، فقلت: من تقصد بالخاصة؟
قال: أولئك الذين تعلقوا من الدنيا بحبلها المتين، فراحت الأبصار تحنو عليهم، وراحت القلوب تحن إلى كراسيهم.
قلت: ما أصعب أن يبصر هؤلاء الحق.
قال: أجل.. لقد خالطت بعض هؤلاء، فوجدتهم صنفين، بعضهم ائتم بالنجاشي، والآخر ائتم بهرقل.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: أما النجاشي، فقد عرف الحق وآمن به، ولم يمنعه منصبه الرفيع من ذلك الإيمان.. وأما هرقل، فقد عرف الحق، ولكنه حجب عنه، وكان منصبه هو الحجاب الأكبر بينه وبينه.
قلت: فحدثني حديثهما قبل أن تحدثني عن أصحابك.
قال: أما النجاشي، فقد حدثتنا بحديثه أم سلمة، فقد قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة.
وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدما كثيرة، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية. ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم. ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم.
قلوب مع محمد (43)
قالت: فخرجا فقدما على النجاشي فنحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم. فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم قال: فغضب النجاشي ثم قال: لاها الله أيم الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني نزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهم ورددتهم إلى قومهم إن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاهم، فجاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه قال: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم. قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا
قلوب مع محمد (44)
على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فعدد عليه أمور الإسلام.
ثم قال: وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا واتبعناه على ما جاء به من الله تعالى: فعبدنا الله تعالى وحده ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا إلا نظلم عندك إيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به من شئ، فقال له جعفر: نعم؟
فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والله، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد. قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدا عيبهم عندهم، ثم أستاصل به خضراءهم.
قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا، لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه؟ قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنا في
قلوب مع محمد (45)
ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم، ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون - من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وإني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة الجبل - ردوا عليهم هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودا عليهما ما جاء ا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
وفي رواية: أن النجاشي قال للمسلمين: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم.
فأمر مناديا ينادي: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم.
ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا.
قال: فأضعفوها.
وعند موسى بن عقبة: من نظر إلى هؤلاء نظرة تؤذيهم فقد غرم.
ثم قال: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فخرجا من عنده مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به.
ثم إن الحبشة اجتمعت فقالت للنجاشي: إنك فارقت ديننا ـ وخرجوا عليه ـ فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا حيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى
قلوب مع محمد (46)
عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفوا له صفين فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى.
قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة؟ قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد، هو ابن الله.
فقال النجاشي ـ ووضع يده على صدره على قبائه ـ: هو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا عنه وانصرفوا (1).
قلت: هذا النجاشي، وهو إمام المهتدين من الخاصة، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليه الجنازة لما مات.. فحدثني خبر هرقل.
قال: أما هرقل، فقد حجب المسكين بملكه عن الإسلام، وقد حدث بخبره أبو سفيان ـ الذي كان زعيم أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فذكر أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشأم، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
__________
(1) روى القصة ابن إسحق وابن سعد وغيرهما.
قلوب مع محمد (47)
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه (1).
قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله.. وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه.. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.. وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.. وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.. وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة
__________
(1) وقد كذب في هذه أيضا، فقد انتصر رسول الله (في كل الحروب التي خاضها مع المشركين أو غيرهم حتى غزوة أحد.. هي نصر عظيم للمسلمين لا يقل عن أي نصر آخر.. لأن قصد المشركين كان القضاء على الإسلام وعلى الأعمدة التي يقوم عليها الإسلام، ولم يتحقق لهم ذلك.
قلوب مع محمد (48)
الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناطور، صاحب إيلياء وهرقل، أسقفا على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء، أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟
قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك، فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما استخبره هرقل قال: أذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم
قلوب مع محمد (49)
حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل (1).
قلت: لقد عرفت خبر هؤلاء.. فهل ستحدثني عن أصحاب هرقل أم عن أصحاب النجاشي؟
قال: بل سأكتفي بالحديث عن أصحاب النجاشي.
قلت: وأصحاب هرقل.. ألم تلتق بهم؟
قال: بلى.. وما أكثرهم.. ولكني لو كتبت أخبارهم، فسيملؤون الدنيا ضجيجا، ويصادرون كل ما تكتبه حرصا على مصالحهم.
من أول الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (اللورد جلال الدين برانتون)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا رجل أشهر من نار على علم.. وقد كان باروناً إنجليزيًّا، ورجلاً ذا شعبيَّةٍ كبيرةٍ وسمعةٍ عريضة.. وقد أتمَّ دراسته في جامعة أكسفورد.. وقد حدثني حديثه الأستاذ محمد كامل عبدالصمد (2)، فقال: ولد ونشأ بين أبوين مسيحيين.. وولع بدراسة اللاهوت وهو في سن مبكرة، وارتبط بالكنيسة الإنجليزية، وأعطى أعمال التبشير كل اهتمامه.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) انظر: كتاب (الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء) لمحمد كامل عبد الصمد.
قلوب مع محمد (50)
وحدث ذات يوم أن زاره صديق هندي مسلم تحدث معه في موضوع العقائد المسيحية ومقارنتها بالعقيدة الإسلامية، وانتهت الزيارة، إلا أنها لم تنته في نفسه، فقد أثارت انفعالاً شديداً في ضميره وعقله، وصار يتدبر كل ما قيل فيها من جدال، مما دفعه إلى إعادة النظر في العقائد المسيحية.
وقد عبر عن ذلك، فقال: عندئذ قررت أن أبحث بنفسي، متجاهلاً عقائد الناس، بعد أن أيقنت بضرورة البحث عن الحقيقة مهما طال المدى في هذا السبيل، ومهما كان الجهد، حتى أصل لمزيد من المعرفة بعد أن قيل إن الإنجيل وتعاليم المسيح قد أصابها التحريف..
فعدت ثانياً إلى الإنجيل أوليه دراسة دقيقة، فشعرت أن هناك نقصاً لم أستطع تحديده.. عندئذ ملك عليّ نفسي رغبة أن أُفرغ كل وقتي لدراسة الإسلام.. وبالفعل كرست كل وقتي وجهدي له، ومن ذلك دراسة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم أكن أعلم إلا القليل النادر عنه، برغم أن المسيحيين أجمعوا على إنكار هذا النبي العظيم الذي ظهر في الجزيرة العربية.
ولم يمض بي وقت طويل حتى أدركت أنه من المستحيل أن يتطرق الشك إلى جدية وصدق دعوته إلى الحق وإلى الله.
ثم أخذ يكرر هذا المعنى، وهو يقول: (نعم شعرت أنه لا خطيئة أكبر من إنكار هذا الرجل الرباني بعد أن درست ما قدمه للإنسانية، وجعل من المسلمين أقوى مجتمع رفيع يعاف الدنايا.. إني غير مستطيع أن أحصي ما قدمه هذا الرسول من جليل الأعمال)
بعدها تساءل في ألم ووجوم قائلاً: (أمام كل هذا الفضل وهذا الصفاء.. أليس من المحزن الأليم حقاً أن يقدح في شأنه المسيحيون وغيرهم!؟)
وقد حانت لي فرصة للاستماع إليه في جمع كان قد دعي إليه، وكان من أقواله في ذلك الجمع: أشعر بعميق الامتنان على إتاحة هذه الفرصة لي لأُعبِّر فيها ببعض الكلمات عمَّا دفعني لإعلان إسلامي، لقد تربَّيْت تحت تأثير أبويْن مسيحيَّيْن. وأصبحت في سنوات عمري المبكِّرة مهتمًّا بعلم
قلوب مع محمد (51)
اللاهوت. فشاركت بنفسي في الكنيسة الإنجليزيَّة، واهتممت بالعمل التبشيريِّ دون أن يكون لي فيه مشاركةً فعليَّة.
وقبل بضع سنواتٍ مضت انصبَّ اهتمامي على عقيدة (العذاب الأبدي) (1) لكلِّ البشريَّة عدا بعض المختارين، وأصبح الأمر بالنِّسبة لي مقيتاً جداًّ بحيث صار يغلب عَلَيَّ الشكُّ، فقد فكَّرت منطقيّاً بأنَّ ذاك الإله الَّذي يمكن أن يستخدم قدرته لخلق الكائنات البشريَّة الَّتي يجب أن تكون ـ في سابق علمه وتقديره ـ مُعذَّبةً للأبد، لابدَّ أنَّه ليس حكيماً، أو مُحِبّاً ـ سبحانه وتعالى عمَّا يصفون علوّاً كبيراً ـ فمستواه لابدَّ وأن يكون أقلَّ من الكثير من البَشَر، ومع ذلك واصلت الاعتقاد بوجود الله تعالى، ولكنِّي لم أكن راغباً بقبول الفهم السائد للتعاليم الَّتي تقول بالوحي الإلهيِّ للرِّجال، فحوَّلت اهتمامي للتَّحقيق في الأديان الأخرى، ممَّا أشعرني بالحيرة فقط.
وكَبُرَت في داخلي رغبةٌ جديَّةٌ للخضوع للإله الحق وعبادته، ومع أنَّ المذاهب المسيحيَّة تدَّعي أنَّها أُسِّسْت على الإنجيل إلَّا أنَّني وجدتها متناقضة، فهل من الممكن أنَّ الإنجيل وتعليم السيِّد المسيح ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ كانا مُحرَّفيْن؟!
لذلك صببت اهتمامي ـ وللمرَّة الثانية ـ على الإنجيل، وصمَّمت أن تكون الدِّراسة عميقة، وشعرت بأنَّه كان هناك شيء ناقص وصمَّمت على فعل ذلك لنفسي، بغضِّ النظر عن مذاهب البشر، فبدأت أتعلَّم بأنَّ النَّاس يمتلكون الرُّوح، وقوَّةً ما غير مرئيَّةٍ، وهي خالدة، وأنَّ الآثام سيُعاقَب عليها في هذا العالم وفي العالم الآخر، وأنَّ الله تعالى برحمته وإحسانه يمكنه دوماً أن يغفر ذنوبنا إذا ما تبنا إليه حقّاً.
ولإدراكي أهميَّة البحث العميق والعيش على مستوى الحق، ولكي أجد الجوهرة الثمينة، كرَّست وقتي مرَّهً أخرى لدراسة الإسلام. كان هناك شيئٌ في الإسلام شدَّني في ذلك الوقت.
__________
(1) في رسالة (أسرار الأقدار) للمؤلف توضيحات كثيرة حول هذه الناحية، وهي كافيه ـ بفضل الله ـ في رد جميع الشبهات المثارة حول هذا الموضوع.
قلوب مع محمد (52)
وفي زاويةٍ مغمورةٍ -بالكاد معروفة- من قرية (إتشرا) كنت مكرِّساً وقتي وعبادتي لله العظيم بين أدنى طبقات المجتمع مع رغبةٍ صادقةٍ لرفعهم إلى مستوى معرفة الإله الحقِّ والواحد، ولغرس الشعور بالأخوَّة والطَّهارة.
ليس في نيَّتي أن أحدِّثكم كيف عملت بين هؤلاء الناس، ولا ما هي التضحيات الَّتي قدَّمتها، ولا المصاعب الجمَّة الَّتي مررت بها، فقد واصلت العمل ببساطةٍ من أجل هدفٍ واحدٍ، وهو أن أخدم هذه الطبقات ماديّاً ومعنويّاً.
وأخيراً بدأت بدراسة حياة النبيِّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم كنت أعرف القليل عمَّا فعله، ولكنِّي كنت أعرف وأشعر بأنَّ المسيحيِّين ـ وبصوتٍ واحدٍ ـ أدانوا مجد النبيِّ العربيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأردت حينها أن أنظر في المسألة دون تعصُّبٍ وحقد، وبعد القليل من الوقت وجدت أنَّه من غير الممكن وجود شكٍّ في جديَّة بحثه صلى الله عليه وآله وسلم عن الحقِّ وعن الله تعالى.
فأدركت بأنَّه من الخطأ ـ في نهاية الأمر ـ إدانة هذا الرجل المقدَّس بعد قراءتي عن الإنجازات الَّتي حقَّقها للبشريَّة.
فالنَّاس الَّذين كانوا في الجاهليَّة يعبدون الأصنام، ويعيشون على الجريمة، وفي القذارة والعُري، علَّمهم صلى الله عليه وآله وسلم كيف يلبسون، واستُبدلت القذارة بالطهارة، واكتسبوا كرامةً شخصيّةً واحتراماً ذاتيّاً، وأصبح كرم الضِّيافة واجباً دينيّاً، وحُطِّمت أصنامهم، وبدأوا يعبدون الله تعالى الإله الحق، وأصبحت الأمَّة الإسلاميَّة هي المجتمع الشَّامل القويُّ والأكثر منعةً في العالم. وأُنجزت الكثير من الأعمال الخيِّرة والَّتي هي من الكثرة بحيث لا يمكننا ذكرها هنا (1)، فكم من المحزن -أمام كلِّ هذا، وأمام صفاء عقله صلى الله عليه وآله وسلم حين نفكِّر كيف استطاع المسيحيُّون أن يحطُّوا من شخصه الكريم، واستحوذني تفكيرٌ عميق.
وخلال لحظات تأمُّلاتي زارني سيِّدٌ هنديٌّ اسمه (معن أمير الدِّين)، وكان من الغريب حقّاً
__________
(1) انظر (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (53)
أنَّه هو الَّذي أعطى النار الَّتي في حياتي الهواء لتزداد اشتعالاً، فتأمَّلت في المسألة بشكلٍ عميق؛ وقدَّمت الحجَّة تلو الأخرى مُتحاملاً على الدِّين المسيحيِّ المعاصر، ومستنتجاً كلَّ شيءٍ لصالح الإسلام، وشاعراً بالاقتناع أنَّه دين الحقِّ، واليُسْرِ، والتَّسامحِ، والإخلاص، والأُخوَّة.
وقد ختم كلماته العذبة الصادقة بقوله: (لم يعد لي الآن سوى القليل من الزَّمن لأعيش على هذه الأرض، وأريد أن أكرِّس كلَّ ما بقي لي في خدمة الإسلام)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الدكتور روبرت كرين)، فسألت الغريب عنه، فقال: هو أحد كبار الخبراء السياسيين في أمريكا، وهو المؤسس والمنشئ لمركز الحضارة والتجديد في أمريكا، وبعد حصوله على شهادة الماجستير في الأنظمة القانونيّة المقارنة من جامعة هارفارد، وبعد تأسيسه لصحيفة (هارفارد) للقانون الدوليّ وتسلّمه منصب الرئيس الأوّل لجمعيّة هارفارد للقانون الدوليّ عمل لمدّة عقد من الزمن فيما يسمّى بـ (المراكز الاستشاريّة لصنّاع السياسة في واشنطن)
وفي عام 1962 م شارك في تأسيس مركز الدراسات الاستراتيجيّة الدوليّة، وفي عام 1963 م وحتّى عام 1968 م كان أكبر مستشاري الرئيس السابق ريتشارد نيكسون في السياسة الخارجيّة.. وفي عام 1969 م عيّنه نيكسون نائباً لمدير مجلس الأمن القوميّ في البيت الأبيض.. وفي عام 1981 م عيّنه رونالد ريغان سفيراً للولايات المتّحدة في الامارات العربيّة.
وقد اعتنق الإسلام عام 1980 م، وصار اسمه بعد إسلامه (فاروق عبد الحق)، وبعد إسلامه، عمل كمدير للقسم القانوني للمجلس الإسلامي الأمريكي، وهو الرئيس المؤسس لرابطة المحامين الأمريكيين المسلمين، وهو حاصل على دكتوراه في القانون عام 1959 م.
وقد نشر عشرة كتب وخمسين مقالة اختصاصيّة حول الأنظمة القانونيّة المقارنة
قلوب مع محمد (54)
والاستراتيجيّة العالميّة وإدارة المعلومات.
وقد تشرفت بالالتقاء به، فسألته عن سر إسلامه، فكان مما أجابني قوله: في عام 1980 م، وعلى أثر انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ازداد اهتمام الناس في الغرب بالإسلام، ولم يكن اهتمامهم اعجاباً به، وانّما اعتبروه تهديداً لهم، لذلك نادى العديد من صنّاع الفكر الى عقد الندوات والمؤتمرات، حول هذا الموضوع.
وقد حضرت إحدى المؤتمرات كي أرى ماهيّة هذه الدراسات والاطروحات المقدّمة، (في خريف 1980 م)، وكان مشاركاً في المؤتمر الكثير من قادة الفكر الإسلاميّ، ومنهم الدكتور حسن الترابيّ الذي تكلّم عدّة مرّات، وشرح الإسلام تماماً، كما كنتُ أبحث عنه، فادركتُ أنّه متقدّم في أفكاره، ثمّ رأيته وهو يصلّي ويسجد، وكنتُ ضدّ مسألة السجود، لأنّ الانسان في نظري لا يجب أن يسجد لأحد، ففي هذا إهانة له ولانسانيّته.
ولكنني أدركتُ أنّ الشيخ حسن الترابي ينحني لله ويسجد له، فالأولى أن أنحني وأسجد أيضاً، وهكذا فعلتُ ودخلتُ الإسلام، من يومها، على يد الدكتور حسن الترابيّ.
وقد حدثني عن الهواجس التي كانت تملأ عليه نفسه، ولم يجد إجابة لها إلا في الإسلام، فقال: كان والدي يعمل استاذاً في جامعة هارفارد، وقد علّمني أن أهتم وادافع عمّا هو صواب، وأن احاول تجنّب الخطأ، وقد قضيتُ معظم وقتي في التحرّي عن العدل والعدالة قبل أن أصبح مسلماً.
وفي الندوة التي جمعتني مع البروفسور (روجيه غارودي) في دمشق سمعته يتحدث ويهاجم الرأسمالية منذ كان شيوعياً، وكلانا كان لديه نفس الهدف، وهو أن يدعم العدالة، وكلانا كان ضدّ التركيز على الثروة، لأنّ الاهتمام بجمع الثروة ليس بعدل.
لقد اتّبع غارودي المبدأ الماركسي الذي يسعى لتحطيم الملكيّة (1)، في حين أنّي كنتُ أعتبر
__________
(1) وقد أسلم بعد ذلك، وسنتحدث عنه في فصل (مفكرون)
قلوب مع محمد (55)
الملكيّة مفتاحاً للحريّة، لكن كلانا كان يرى أن الملكيّة تؤدّي في النهاية الى الظلم وعدم انتشار العدل، وكلانا كان يدعو الى نظام يدعو الى إنتاج واعطاء العدالة للجميع.. لذلك وجدنا أنّ الإسلام هو الحلّ الوحيد، فهو الذي يحمل العدالة في مقاصد الشريعة وفي الكليّات والجزئيّات والضروريّات، وأنا كمحام كنتُ أسعى الى مبادئ ليست من وضع البشر.
انطلاقا من هذه القناعات بدأتُ أسعى واُفتش عن العدالة، والمفارقة أنّني عندما ذهبتُ إلى جامعة هارفارد وحصلتُ على شهادتي في القانون، مكثتُ هناك ثلاث سنوات لم أسمع خلالها كلمة العدل ولا مرّة واحدة.
قلت: كيف اختاروك لذلك المنصب الخطير؟
قال: تقصد (مستشاراً للشؤون الخارجيّة الأميركيّة)
قلت: أجل.. وغيرها من المناصب الخطيرة.
قال: لقد كان ذلك في عام 1963 م، وذلك بعد أن كتبتُ مقالة طويلة عن الصّراع بين روسيا وأميركا، وقد قرأ الرئيس نيكسون هذه المقالة وهو في الطائرة.
واستدعاني بعدها، وكلّفني بوضع كتاب حول السياسة الخارجيّة الأمريكية، وحول الشيوعيّة، ثمّ عملت مستشاراً للشؤون الخارجيّة منذ عام 1968 م.
وكنتيجة لهذا الكتاب عُينتُ نائباً للرئيس نيكسون للأمن القوميّ في البيت الأبيض، وكان هناك أربعة نوّاب للرئيس كنتُ أحدهم.
وفي عام 1969 م عندما استلم هنري كيسنجر وزارة الخارجية أنهى عملي بسبب 25 ورقة كانت في كتابي تضمّنت موضوع فلسطين، وقد اقترحتُ يومها تشكيل دولتين: يهوديّة وفلسطينية، وقد بُحِثَ هذا الموضوع لسنوات عديدة على أعلى المستويات في دوائر الولايات المتحدة وفي البيت الأبيض. ولكنّ كيسنجر كان ضدّ كل إنسان يبحث في هذا الموضوع.
ووقف كيسنجر ضدّي في كلّ مجال دخلتُ أو عملتُ فيه، ثمّ عينني نيكسون نائباً لإدارة
قلوب مع محمد (56)
شؤون احدى الولايات في البيت الأبيض، كما عملتُ في مسألة (ووترغيت).
بعد فضيحة (ووتر غيت) وجدتُ أنّني لا أستطيع أن أؤثّر على سياسة الولايات المتحدة بشكل فعّال من داخل الدولة، ورأيتُ أنّ الحلّ الوحيد لإزالة الظلم هو إنشاء حركة فكريّة تعود للمثاليّات في أمريكا، وتنادي باستعادة التراث الأمريكي الذي كاد أن يضيع.
وهذا التراث الذي ضاع، وتلك المثل العُليا لم تعد موجودة في أمريكا، لكنّي وجدتها في الإسلام، لذلك أرى أنّ الطريق إلى إنعاش التراث الأمريكي سيكون عن طريق الإسلام، وهذا ما أقوم بالعمل عليه منذ إسلامي عام 1980 م.
وقد أخبرني بأنّ الحاجة قائمة الى صناع فكر إسلامي لكي يشرحوا للأمريكيين كيف يجب على أمريكا أن تدير سياستها الخارجيّة، وأن يبيّنوا أنّ العدل هو الطريق الطويل الذي يجب أن تسلكه أمريكا.
وفي الوقت الذي لا يبدي فيه د. فاروق قلقاً على بقاء الإسلام في أمريكا، غير أنّه يحب التركيز على بناء فكر عال للمفهوم الإسلامي بين الشباب بشكل خاص، وقد قال في ذلك: (يجب أن يفهموا العالم الحديث، ويجدوا ردوداً اسلاميّة لكل المشاكل المطروحة في المجتمع، ومن جانب آخر يجب أن ننمّي ونطوّر قيادة فكريّة بين المسلمين وفي كلّ حقول المعرفة، ويكون الهدف من كلا الأمرين هو تدعيم العدل والعدالة في العالم.. وهذا يجعل الإسلام قوّة إيجابيّة من أجل الخير في العالم، وهذه الأولويّات تنطبق على الغرب كما تنطبق على العالم الإسلاميّ)
وقد قرأت عليه بعد ذلك آراء وتصوّرات عميقة في أمّهات القضايا والتحدّيات التي تواجه المسلمين في عالم اليوم، وهو حين يوجّه النقد الى الغرب لنظرته المنحازة والقاصرة تجاه الإسلام، فانّه لا ينسى توجيه اللّوم الى بعض المسلمين في الشّرق أو الغرب ممّن لا يفهمون التعاليم الإسلامية، ومن الصّعب ـ كما يقول ـ أن تفهم الغربيين حقيقة الإسلام لأنّ الكثير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب لا يمارسون ولا يعيشون حسب تعاليم الإسلام.
قلوب مع محمد (57)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (ديفد كيربا)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا الرجل تبوأ أعظم منصب يمكن أن يتبوأه امرؤ في بلده.. هذا الرجل كان رئيسا لجمهورية جامبيا.
قلت متعجبا: رئيس جمهورية!؟
قال: أجل.. ولا تكمن الغرابة في كونه رئيساً لجمهورية، وإنما لأن هذا الرئيس ولد مسلماً ثم أبحر للغرب، وتشرب من فكره وقيمه وعقيدته، ودخل عالم السياسة، فدانت له، واستهوته شهوة المناصب التي وصل إلى أقصاها، ولكن حين اقترب من القصر السياسي أكتشف أنه قد نسي شيئاً مهماً.. نسي فطرته، فعاد إليها مسرعاً، وقد عبر عن ذلك بقوله: (كنت أشعر دائماً أن لي قلبين في جوفي.. قلب لي وقلب علي.. أما القلب الذي لي، فكان يدفعني إلى الدراسة والسياسة وخوض معركة الحياة.. وأما القلب الذي علي، فكان ما يفتأ يلقي على عقلي وقلبي سؤالاً لم يبرحه قط، هو: من أنت؟... وما بين القلبين مضت بي الرحلة الطويلة استطعت معها ومن خلالها أن أحقق كل ما أصبو إليه، تحرير وطن أفريقي أسود، ووضعه على خريطة الدنيا كدولة ذات سيادة)
واستطرد قائلاً: (وكان هذا نصراً منتزعاً من فم الأسد، يكفي لأن يدير الرؤوس، ويصيب الشبان الحالمين من أمثالنا في هذا الوقت بدوار السلطة.. كانت تلك معركة كبرى سلخت من أعمارنا نصف قرن من الزمان مع الحرب والنضال، والمفاوضات وتكوين الأحزاب، وخسارة المعارك والفوز بها أيضاً، وما كان أسعدنا حينئذ ونحن ننشل وطننا من وهده الاحتلال والتخلف والضياع الفكري والاقتصادي.. ولم يكن هذا الفوز سوى لإرضاء النفس وغرورها، أما فطرة النفس فأخذت تحضني على خوض المعركة الكبرى.. لقد كسبت معركتك مع الحياة فاكسب معركتك مع نفسك، عد إلى ذاتك، اكتشف المعدن الثمين الذي بداخلك.. أزح ما عليه من هذا الركام من التغريب والعلمانية والدراسة في مدارس اللاهوت.
قلوب مع محمد (58)
كان الصوت يخرج من داخلي يقول لي: عد إلى الطفل البريء الذي كان يجلس بين أيدي شيوخه ومعلميه يتلو القرآن ويسعى للصلاة.. وهنا أحسست أن قلبي يصدقني وأن لا شيء في الدنيا يعادل أن يخسر الإنسان نفسه، أن أعود لإسلامي الذي ضاع مني وأنا في خضم في الحياة ومشاغلها ومباهجها، أستشعر الآن أني قد كسبت نفسي وتعلمت درساً لا يتعلمه إلا من كان في قلبه حس نابض، وعقل واع)
لقد عاد هذا الرئيس إلى فطرته الصحيحة وأعاد اسمه إلى (داود جاوارا) بعد أن كان اسمه (ديفد كيربا)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (مستر وليم)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا الرجل كان مدير دريم بارك الأمريكي في مصر، وقد التقيت به في بعض رحلاتي إلى مصر، وقد سألته عن علاقته بالإسلام، فقال: عندما جئت إلى مصر لم أكن متعودًا كما هو الحال في الغرب أن أرى الناس عندما يسمعون الآذان يتجمعون ويصلون، فكان هذا غريبًا عليّ في بداية الأمر، كما أن هناك مهندسين وزملاء آخرين مصريين بدأوا يكلمونني عن الإسلام، وبدأت أحس أن بداخلهم طمأنينة وراحة نفسية معينة لم أحسها من قبل هي سبب تمسكهم بهذا الدين، مما جعلني أبدأ في التفكير في الإسلام وأقرأ عنه وأقارنه بالمسيحية، ومن خلال قراءاتي والخبرة الواقعية حولي عن طريق زملائي المسلمين اعتنقت هذا الدين، ومن أهم الكتب التي قرأتها عن الإسلام [تفسير معاني القرآن الكريم] باللغة الإنجليزية.. وكتاب دين الحق، الزواج في القانون الإسلامي وكتب أخرى كثيرة تشرح ما يحويه الإسلام، كما أنني أحمل مصحفًا معي دائمًا، وأحاول تعلم اللغة العربية حتى أستطيع قراءة القرآن الكريم.
قلت: ما هي المعاني الإسلامية التي جذبتك إلى الإسلام؟
قال: لا يمكنني أن أحصر لك تلك المعاني في هذا المجلس، ولكني أقول لك بأني في البداية
قلوب مع محمد (59)
سمعت عن الإسلام قبل أن أعتنقه لكن ليس بالقدر الكافي، وبدأت بالفعل في القراءة عنه، وأخبرني زملائي المسلمون أن أهم شيء في معرفة الإسلام معناه البسيط بداية، وليس شرطًا أن أعرف قواعده وقوانينه في بداية الأمر، فقد تكون صعبة ومعقدة بعض الشيء بالنسبة إلى وسأستطيع معرفتها بعد ذلك، وقد أشهرت إسلامي، ولم أغير اسمي، ولكن أضفت إليه اسم [يوسف] فأنا معجب بشخصية سيدنا يوسف عليه السلام فقد قرأت عنه قبل وبعد اعتناق الإسلام فاحترمته وأحببت اسمه، ولكن في نفس الوقت لم أغير اسمي لأنه لقب والدي وعمومًا فأنا أعتز بالإسمين معًا.
قلت: ألم تعترض أسرتك على إسلامك؟
قال: والدي ووالدتي متمسكان بدينهما وملتزمان بتعاليم المسيحية، وكانا يحبانني، ولذلك عندما أخبرتهما أنني سأعتنق الإسلام سألا عن هذا الدين وذهبا إلى القسيس في الكنيسة وطرحا عليه عددًا من الأسئلة حول الإسلام فهما لم يكونا يعرفان عنه شيئًا، وقالا لي طالما ستظل كما أنت أبيض القلب وطيب النفس، وأن هذا الدين لن يغير فيك ذلك، فليس هناك مانع.
أما أصحابي فربما لم يفهموا موقفي، ولكنهم يعرفونني جيدًا، وهم متأكدون أنني لن أتحول عن ديني إلى دين آخر إلا إذا كان هذا الدين سيحسن من نفسي وسيزيد إيماني وسيجعلني أحس بشعور أفضل، ولذلك تقبلوا الموقف ولكن لم يفهموه بالضبط.
قلت: هل واجهتك ضغوط للحيلولة دون اعتناقك للإسلام؟
قال: لم تواجهني أي ضغوط عندما قررت اعتناق الإسلام، بل إن من حولي تقبلوا الأمر، ولكن لم يكونوا قد تفهموه بعد، خاصة أن الغرب لا يرانا مثلاً ونحن نصلي بل يرون جانب التعصب في المسلمين، فوسائل الإعلام تنقل إليهم صورة غير حقيقية، ولا تنقل إليهم صورة الإسلام الحقيقية، فالتعصب ليس من الإسلام في شيء، ولكن الغرب للأسف لا يرى سوى ذلك، وبالنسبة إلي لم أجد مشاكل في أمريكا بسبب إسلامي ولكن أقابل أناسًا لا يفهمون موقفي.
قلوب مع محمد (60)
قلت: فكيف تعلمت إقامة شعائر الدين الجديد مع أنك لا تتقن العربية (1)؟
قال: للأسف لم أتعلم اللغة العربية بعد، ولكن قالوا لي ليس هناك مشكلة الآن طالما أنك تصلي وتقف أمام الله بقلب سليم وتعرف كيف تصح صلاتك وعندما أقول (الله أكبر) أحس أنني قريب من الله وصلاتي ستقبل كما أخبرني بذلك علماء من الأزهر، وأن الأمر يأتي خطوة خطوة، وزملائي المسلمون يصلون بي دائمًا، والفرصة المتاحة لي هي أن أتعلم العربية ممن حولي، فليس عندي وقت كثير فأنا أعمل من 12 إلى 16 ساعة يوميًا، وبالنسبة لصيام شهر رمضان فلم تكن عندي مشكلة في الامتناع عن الطعام فأنا متعود على ذلك في العمل، ولكن عانيت بعض الشيء أولاً، ثم اعتدت ـ بحمد لله ـ على ذلك، وأنا أنوي الحج إلى بيت الله برفقة زوجتي [منى] التي ارتبطت بها بعد اعتناقي الإسلام.
قلت: هل ترى أي فروق بين الإسلام والمسيحية؟
قال: الإسلام منحني الأمان والسلام، وهو دين لم يتغير ولم يتبدل ولم يطرأ عليه أي تغيير، أما المسيحية، فقد حدث فيها تغيير وتحريف من قبل القساوسة والكهنة، فمنهم من يؤمن بأن عيسى عليه السلام هو الله، وهذا خطأ فعيسى هو عبد الله ورسوله، ونحن ـ المسلمين ـ نؤمن بجميع الرسالات، وأن المسيح هو رسول من رسل الله، ونؤمن بالدين الذي جاء به، وهنا يقف المسيحيون عند الإيمان بالمسيحية فقط، فلم يؤمنوا بأي شيء بعدها أما نحن فقد آمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ودينه، وهذا هو الفرق.
قلت: ما الجديد في حياتكم إثر تحولكم إلى الإسلام؟
قال: منحني الإسلام شيئًا جديدًا وقوة وجعلني لا أخشى أحدًا إلا الله، بل أنا لا أهتم بأي مشكلة مهما كانت طالما أنها مشكلة دنيوية، ولا تتعلق بالآخرة، ولا تمس حياتنا بعد الموت، وهذا ما لاحظته في تعاملي مع بعض الزملاء، فمثلاً توفيت أختي الصغيرة بعد إسلامي بفترة، فتقبلت
__________
(1) قد ذكرنا عدم اشتراط تعلم العربية لمن يريد الإسلام، بل يمكنه أداء شعائر الإسلام جميعا بلغته الأصلية.
قلوب مع محمد (61)
الأمر لأنه من الله، وعليّ أن أؤمن بالقضاء والقدر، ولو حدث ذلك قبل إسلامي لكان من الممكن أن أعترض وأتساءل لماذا يحدث ذلك.
قلت: هل طرأ تغير على تعامل المحيطين بك بعد اعتناقك الإسلام؟
قال: إن زملائي المسلمين سعدوا جدًا بإسلامي لدرجة الانبهار، وقالوا لي: (مبارك)، وهم يعاملونني جيدًا حتى قبل أن أسلم أو أخبرهم أنني أفكر في الإسلام، ومعاملتهم لي لم تجعلني أشهر إسلامي، ولكن جعلتني أفكر بإيجابية في اعتناق هذا الدين، وأعتقد أنه لو كانت سيئة ربما لم أعتنق الإسلام، لأنه طالما أن هؤلاء المسلمين معاملتهم سيئة وتصرفاتهم خاطئة، فلماذا أكون على دينهم؟
قلت: هل حاولت أن تدعو أحدًا من الشعب الأمريكي إلى الإسلام؟
قال: لقد تحدثت مع أصدقائي عن الإسلام والجديد فيه، ولكني أعتقد أن المهم هو تصرفاتي وأفعالي، فهي أفضل دعوة صريحة للتأثير في الآخرين، وحثهم على تقليدي واعتناقهم الإسلام.
وللأسف هناك كثير من الناس، لا يعرفون أي شيء عن الإسلام ومعلوماتهم بشأنه تكاد تكن منعدمة حتى أن أصدقائي لم يستطيعوا أن يسألوني سؤالاً محددًا، فكانت استفساراتهم ما هو الإسلام؟ فهم لا يعرفون أن الإسلام دين يدعو للتسامح مع كل الأديان وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، والمشكلة تكمن في أن الغرب لا يعرف الكثير عن الإسلام، فالصلة التي تربطه بالشرق تتركز في النواحي السياسية.
قلت: من وجهة نظرك ما هي رؤية الأمريكيين للإسلام؟
قال: الناس في الولايات المتحدة يتقبلون الأديان، ولذلك تجد مزيجًا من الأديان في دول الغرب، وليس هناك مشكلة أن تكون مسلمًا، ولكن للأسف هناك من يسيئون لصورة الإسلام.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (مراد هوفمان)، فسألت الغريب
قلوب مع محمد (62)
عنه، فقال: هذا رجل أشهر من نار على علم، وقد كان سفير ألمانيا في المغرب وفي مصر، وقد نال شهادة دكتوراه في القانون من جامعة هارفرد.
وبعد إسلامه ابتدأ د. هوفمان مسيرة التأليف، ومن مؤلفاته: كتاب (يوميات مسلم ألماني)، و(الإسلام عام ألفين) و(الطريق إلى مكة) وكتاب (الإسلام كبديل) الذي أحدث ضجة كبيرة في ألمانيا.
ولما أشهر إسلامه حاربته الصحافة الألمانية محاربة ضارية، وحتى أمه لما أرسل إليها رسالة أشاحت عنها، وقالت: (ليبق عند العرب)
ولكن هوفمان لم يكترث بكل هذا، بل قال: (عندما تعرضت لحملة طعن وتجريح شرسة في وسائل الإعلام بسبب إسلامي، لم يستطع بعض أصدقائي أن يفهموا عدم اكتراثي بهذه الحملة، وكان يمكن لهم العثور على التفسير في هذه الآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)
وقد التقيته مرات عديدة حدثني خلالها عن سر إسلامه.. وسأعرض لك بعض ما دار بيننا لتعلم سر انجذاب مثله إلى الإسلام (1).
لقد ذكر لي في أول لقاء لي به أن الله تعالى بكرمه وفضله من عليه بأن يعيش ثلاثة أحداث كبرى كان لها تأثيرها الكبير في توجيهه للإسلام، وهي ذات طبيعة انسانية، وجمالية فنية، وفلسفية.
أما الحدث الأول فيرتبط بالجزائر، قال: في أثناء عملي بالجزائر في عامي 61/ 1962، عايشت فترة من حرب استمرت ثماني سنوات بين قوات الاحتلال الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وانضم اثناء فترة وجودي هناك طرف ثالث هو (منظمة الجيش السري)، وهي منظمة إرهابية فرنسية، تضم مستوطنين وجنودا متمردين، ولم يكن يوم يمر دون أن يسقط عدد غير قليل من القتلى في شوارع الجزائر.
وغالبا ما كانوا يقتلون رميا بالرصاص على مؤخرة الرأس من مسافة قريبة، ولم يكن لذلك
__________
(1) انظر كتابه (الطريق الى مكة)
قلوب مع محمد (63)
من سبب، إلا كونهم عربا، أو لأنهم مع استقلال الجزائر (1)، وكنت عند سماعي صوت سلاح آلي، أتصل تليفونيا بزوجتي الاميركية لتسرع إلى شراء ما تحتاج اليه، لان الهجوم التالي في المنطقة نفسها لا يتوقع حدوثه قبل عشرين دقيقة.
وكانت أنبل مهماتي هي إعادة أفراد الفرقة الأجنبية من الالمان الفارين الى الوطن بمعاونة من السلطات الفرنسية، وكان عدد هؤلاء الرومانسيين المساكين غير قليل، منذ فر قائد قوات المظلات في العام السابق. وكم كان الموت يجذبهم! وكانت منظمة الجيش السري قد جندت عددا منهم ضمن قوات خاصة (كوماندوز). ومن ثم وجدوا انفسهم بين نارين. كما أن فرص نجاتهم من الموت كانت ضئيلة جدا. وكنت، بصفتي ممثلا للقنصلية العامة الالمانية، أضع الزهور على قبور الكثير منهم.
كنت، وأنا أبحث عن ألمان بين الجرحى في المستشفيات، أحمل سلاحي معدا للاستخدام. وكنت أدقق النظر في وجه من يقابلني، بل وفي يديه. وعندما كانت القامات تتقابل، كان كل شخص يبتعد عن الآخر عائدا الى الخلف، طلبا للامان، وفي بعض الأحيان كانت زوجتي المذعورة تصر على حماية ظهري، فكانت تسير خلفي على مسافة عدة خطوات حاملة في كم ثوبها سكينا حادة.
سكت قليلا، يسترجع ذكرياته، ثم قال: ما تزال بعض ذكريات تلك الايام تثير كآبة في نفسي حتى الآن، فعندما كنت في طريقي إلى مقر إذاعة فرنسا 5، حيث كان من المقرر أن ألقي، تنفيذا لتكليف من القنصل العام، محاضرة عن (وضع الرقص المسرحي) في ألمانيا، تعطلت مضخة البنزين في سيارتي في شارع ايزلي الضيق، كثير المنحنيات، وسرعان ما اصطفت السيارات خلف سيارتي، مطلقة اصوات النفير، وفي تلك الاثناء، كان امامي رجل يعبر الشارع، واطلق عليه
__________
(1) اهتممنا بسياق هذا الكلام هنا بحروفه لنبين من هو الأسبق للإرهاب، أو من علم الإرهابين ما يمارسونه من أساليب الإرهاب التي يبرأ منها الإسلام.
قلوب مع محمد (64)
شخص الرصاص من الرصيف المقابل، فسقط جريحا أمام رفرف سيارتي الايسر، واذا بالمهاجم يشير لي بسلاحه آمرا ان اواصل سيري، كي اخلي ساحة اطلاق الرصاص.
ولم اكن ارغب في ذلك، بل ولم اكن استطيعه ايضا، وأخيرا، تقدم الشخص الذي يحمل السلاح من الرجل المصاب وأطلق عليه رصاصة اخرى أردته قتيلا، ثم اختفى في زحام البشر في تؤدة وعلى مهل، ولقد استأت كثيرا ايضا، عندما رأيت مضطرا اعضاء منظمة الجيش السري، وهم يشعلون النار في سيارات شحنوها سلفا ببراميل من الوقود، ويدفعونها من فوق منحدر الى حي يسكنه العرب، ولا بد للمرء من ان يتوقع ان يكون على قائمة القتلى، اذا ما اصبح شاهدا غير مرغوب فيه.
وكان حلاقي في الابيار يدرك ذلك جيدا، فحين هاجمت قوات (منظمة الجيش السري) مكتب التلغراف المقابل لمحله في شارع جاليني، ادار مقعده حتى لا يكون شاهدا على ما يجري. ولم يكن تصرفه اقل غرابة من تصرف احد افراد الشرطة الذي عرض عليّ في مايو (ايار) عام 1962 ان يحرس سيارتي، بينما كانت النيران مشتعلة خلف ظهره في مكتبه بالابيار.
عندما توصل الرئيس الفرنسي شارل ديجول، في ايفيان في مارس (اذار) عام 1962، الى اتفاق مع الحكومة المؤقتة لجبهة التحرير الوطني الجزائري على وقف اطلاق النار في يوليو (تموز) التالي، صعدت منظمة الجيش السري من اعمالها الارهابية، بهدف استفزاز الجزائريين لخرق الاتفاق، فبدأ أفرادها في تصفية النشء الاكاديمي الجزائري، وراحوا يقتلون، رميا بالرصاص، النساء اللاتي يرتدين الحجاب.
وقبل تحقيق الاستقلال بأيام قلائل، اطلقوا الرصاص على آخر بائع جزائري جائل في الابيار، فأردوه قتيلا أمام مكتبي مباشرة، وكان هذا البائع قد عاش ينادي على أسماكه منذ عقود طويلة، دون أن يلحق أذى بأي إنسان كائنا من كان، وفي الشارع الذي كنت اقطنه، كان جيراني من الفرنسيين يلقون من النوافذ على المنتصرين بكل ما لا يبخلون به.
قلوب مع محمد (65)
قلت: فقد عرفت المسلمين إذن انطلاقا من هذه المشاهد المأساوية؟
قال: أجل.. لقد شكلت هذه الوقائع الحزينة خلفية أول احتكاك لي عن قرب بالاسلام المعيش، وقد لاحظت مدى تحمل الجزائريين لآلامهم، والتزامهم الشديد في رمضان، ويقينهم بأنهم سينتصرون، وسلوكهم الانساني، وسط ما يعانون من آلام. وكنت ادرك ان لدينهم دورا في كل هذا.
ولقد أدركت إنسانيتهم في أصدق صورها، حينما تعرضت زوجتي للاجهاض تحت تأثير الاحداث الجارية آنذاك، فقد بدأت تنزف عند منتصف الليل، ولم يكن باستطاعة سيارة الاسعاف أن تحضر إلينا قبل الساعة السادسة صباحا، بسبب فرض حظر التجول، وبسبب شعار (القتل دون سابق انذار) المرفوع آنذاك. وحينما حانت الساعة السادسة، ادركت وانا اطل من نافذة مسكني في الطابق الرابع، ان سيارة الاسعاف لا تستطيع العثور علينا، لان منظمة الجيش السري كانت قد غيرت في تلك الليلة اسماء كل شوارع الحي الذي اقطنه، بحيث أصبحت كلها تحمل أسماء مثل شارع (سالان) وشارع (يهود) وشارع (منظمة الجيش السري)
بعد تأخير طال كثيرا، كنا في طريقنا متجهين الى عيادة الدكتور شمعون (قبل ان تنسفها منظمة الجيش السري بوقت قصير)، حيث صادفنا حاجزا أقامته الجمعية الجمهورية للامن، وعلى الرغم من صفير البوق الذي كان السائق يطلقه، فانه لم يكن باستطاعته ان يشق طريقه الا ببطء شديد، وكانت زوجتي تعتقد، في تلك الاثناء، انها ستفقد وعيها. ولذا، وتحسبا للطوارئ، راحت تخبرني ان فصيلة دمها هي O سالب. وكان السائق الجزائري يسمع حديثها، فعرض أن يتبرع لها ببعض من دمه الذي هو من نفس فصيلة دمها. ها هو ذا العربي المسلم يتبرع بدمه، في أتون الحرب، لينقذ أجنبية على غير دينه.
ولكي أعرف كيف يفكر ويتصرف هؤلاء السكان الاصليون المثيرون للدهشة، بدأت أقرأ كتابهم (القرآن) في ترجمته الفرنسية لـ Pesle/Tidjani. ولم أتوقف عن قراءته منذ ذلك الحين،
قلوب مع محمد (66)
حتى الآن، وحتى تلك اللحظة، لم أكن قد تعرفت على القرآن الا من خلال النوافذ المفتوحة لكتاتيب تحفيظ القرآن في ميزاب جنوب الجزائر، حيث يحفظه اطفال البربر، ويتلونه في لغة غريبة عنهم، وهو ما دهشت له كثيرا. وفيما بعد ادركت ان حفظ وتلاوة القرآن، باعتباره رسالة الله المباشرة، فرض تحت الظروف كافة.
وقد أزعجني رد الفعل الغاضب من جانب أحد الجزائريين، عندما حدثته في بار فندق ترانس ميدترانيان في غرداية، عن قراءتي للقرآن، اذ استنكر في صراحة لا ينقصها الوضوح، وجود ترجمات له، واعتبر محاولة ترجمة كلام الله الى لغة اخرى بمثابة تجديف.
ولم استغرق وقتا طويلا قبل ان استوعب رد فعله. فاللغة العربية تشتمل على مفردات لا تدل على وقت محدد بعينه. فالمفردات التي تشير الى مستقبل مؤكد يمكن أن تدل على امر حدث في الماضي ايضا. ناهيك عن ان اللغة العربية تتضمن بعض ما يمكن للعربي ان يفهمه تلميحا. وبغض النظر عن ذلك، فهناك المشكلة المعتادة التي تكمن في أن الكلمات التي تعبر عن ذات المعنى في لغتين لا تتطابق في ما يختص بتداعي الخواطر الا نادرا. ومن ثم، فان كل ترجمة للقرآن ان هي الا تفسير يفقر المعنى ويجرده من مضمونه. وهكذا كان الرجل في البار على حق.
لم تشأ هذه الجزائر، التي أدين لها بالكثير، أن تتركني لحالي، وانما تبعتني كالقدر، فعندما أصبحت سويسرا ترعى مصالحنا في الجزائر، في عام 1966، كان عليّ أن أعمل من السفارة الالمانية في برن على استمرار الاتصال مع من تبقى من بعثتنا الدبلوماسية في الجزائر، من خلال القسم السياسي في السفارة السويسرية. وكان البريد المرسل من بون الى الجزائر، يمر من خلالي اسبوعيا.
وبعد 25 عاما من عملي بالجزائر لأول مرة، عدت اليها سفيرا في عام 1987، ومنذ اعتمدت سفيرا في المغرب، المجاور للجزائر، في عام 1990، يندر أن تفارق مخيلتي صورة الجزائر التي ما تزال تعاني آلاما مأساوية، فهل يمكن ان يكون ذلك كله محض مصادفة؟!
قلوب مع محمد (67)
قلت: فحدثني عن الجانب الثاني الذي تعرفت من خلاله على الإسلام، وهو الجانب الجمالي الفني.
قال: لذلك قصة.. وهي تتلخص في أنني كنت منذ صباي معجبا بالجانب الشكلي للجمال، وأرغب في الغوص في أعماقه حتى عندما كانت حماتي الاميركية تقول ـ استنادا الى المنهج البيوريتاني ـ إن الجمال مجرد أمر سطحي، وانه ليس الا خداعا على السطح.
وعندما تلقيت في عام 1951 الدفعة الاولى من منحة التفوق، التي تمنحها وزارة الثقافة في بافاريا للموهبين جدا، دفعتها بأكملها ثمنا لشراء نسخة مطبوعة على قطعة من الجوت من لوحة بول جوجان (الفتاة وثمار المانجو)، وبما أنني لم اكن ممن يقطنون حي Maximilianeum الواقع على اليمين من نهر ايزار، وانما كنت اقيم في المستوطنات السكنية للثوريين الديمقراطيين، عند ميدان ماسمان، حيث يتقاسم العمال والطلبة غرفها، فقد نقلت لوحة جوجان التي اشتريتها الى مسكني هناك، ورحت أحللها، ولم ألبث أن اقتنعت بأن الفن الساكن ـ الرسم والنحت والعمارة والخط والاعمال الفنية الصغيرة ـ مدين بالفضل في تأثيره الجمالي للحركة المجمدة، ومن ثم، فانه مشتق من الرقص. ولذلك، يزداد احساسنا بجمال الفن التشكيلي كلما ازدادت قدرته على الايحاء بالحركة. وهذا ما يفسر انبهاري الشديد بالرقص الذي دفعني الى مشاهدة عروض الباليه كافة في مسرح برينزرجنتن في ميونخ، ومنذ ذلك الحين ازداد اهتمامي بالرقص، واتسع ليشمل كل ما يتصل به. وكنت اقضي كل ساعة فراغ بين مواعيد المحكمة في صالات عروض الباليه، بالقرب من قصر العدل، وحصلت على تمارين للباليه، لكي أتعلم ـ ولو على نحو متخلف ـ رقص الباليه الكلاسيكي، حتى أعرف ماهية ما أكتب عنه.
وكعاشق للباليه، ذلك الفن المجرد الذي يجسد الموسيقى، كنت في الواقع أبحث عن الأسباب التي ترغمنا على الإحساس بجمال أشياء أو حركات بعينها. ولهذا السبب، كنت أقبع لأسابيع طويلة في احدى الغابات البافارية باحثا في أسس علم جمال الحركة.
قلوب مع محمد (68)
وهناك تبين لي أننا كبشر لا نملك إلا أن نحس جمال الجسد البشري الصحيح وما يتطابق مع مقاييسه. وهو ما ينطبق ايضا علينا كمحللين بصريين لما تفرزه الطبيعة من صور وأنواع.
يضاف إلى ذلك أننا نقرأ الصور في ذات الاتجاه الذي نكتب فيه، وتبين لي أخيرا أن الحركات تستحوذ على انتباهنا بسبب ما يمكن أن تنطوي عليه من مخاطر. وتبين لي آخرا أننا نعجب بحركات الطرد المركزي، لاننا نستطيع ان نتخيلها ممتدة في ما لا نهاية.
عبر هذا الطريق، صار الفن الاسلامي بالنسبة لي تجربة مهمة ذات قيمة عالية ومثيرة، ألا يماثل في سكونه تماما ما أسعدني في حركات الباليه، التجريدية: القدرة الانسانية، والحركة الداخلية، والامتداد في ما لا نهاية؟ وذلك كله في اطار الروحانية التي يتسم بها الاسلام.
وألهمتني أعمال معمارية، مثل الحمراء في غرناطة والمسجد الكبير في قرطبة، اليقين بأنها افراز حضارة راقية رفيعة. واستوعبت جيدا ما كتبه راينر ماريا ريلكا بعد زيارته لكاتدرائية قرطبة، اذ كتب: (تملكني منذ زيارة قرطبة عداء وحشي للمسيحية، إنني اقرأ القرآن وهو يتجسد لي صوتا يستوعبني بقوة طاغية، واندفع بداخله كما تندفع الريح في الارغن)
وصار الفن الاسلامي لي وطنا جماليا، مثلما كان الباليه الكلاسيكي من قبل، وأصبحت ارى الاعمال الفنية للعصور: الاغريقي والروماني والقوطي، ولعصر النهضة والروكوكو مثيرة، وعريقة، واصيلة، بل وعبقرية، ولكنها لا تنفذ الى داخلي، ولا تحرك عواطفي ولا مشاعري.
سكت قليلا، ثم قال: إنني أدرك قوة جاذبية فن هذا الدين الآن افضل من ذي قبل، حيث انني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن ثم بفن اسلامي فقط. وأدركها أيضا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزا عن مجرد تعريف الفن الاسلامي. ويبدو أن سره يكمن في حضور الاسلام في حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والارابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن. إنني أفكر كثيرا في أسرار إضاءة المساجد وفي بنائها الديمقراطي، وفي بناء القصور الاسلامية، الذي يوحي بحركة متجهة الى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة
قلوب مع محمد (69)
بظلالها الوارفة وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل الاجتماعي ـ الوظيفي المبهر للمدن الاسلامية القديمة (المدينة) الذي يهتم بالمعيشة المتجاورة تماما كما يهتم بابراز موقع السوق وبالمواءمة او التكيف لدرجات الحرارة وللرياح، وبدمج المسجد والتكية والمدرسة والسبيل في منطقة السوق ومنطقة السكن. وان من يعرف واحدا من هذه الاسواق ـ وليكن في دمشق، او اسطنبول او القاهرة او تونس او فاس ـ يعرف الجميع، فهي جميعا، كبرت ام صغرت، منظمات اسلامية من ذات الطراز الوظيفي. فما اكثر ما تجولت في سوق مدينة سالي المؤاخية للرباط لكي استعيد حيويتي، إنه ذروة مجتمعية حيوية يجد فيها كل انسان مكانا له، شيخا كان ام شابا، صحيحا كان ام مريضاً، فقيرا ام غنيا، ابيض ام اسود، ولا يوجد به عجلة، ولا أزمة ضيق وقت، ولا مبالغة في تقييم الذات، ولا خمور ولا وسائل نقل ثقيل، ولا سياج ولا ابتزاز، وحيث الجميع سواسية، وكل عملية شراء ترتبط بـ (دردشة)، وحيث تغلق الحوانيت ابوابها وقت الصلاة.
كان ما احسست منذ البداية أنه إسلامي وباعث على السعادة هو في واقع الأمر التأثير الناضج للتناغم الإسلامي، وللإحساس بالحياة والمكان الاسلاميين على العقل والروح. وهذا ما احسست به في متحف جولبينكيان الاسلامي في لشبونة، مثلما أحسست به في المسجد الاموي بدمشق، وفي مسجد ابن طولون بالقاهرة، وفي مسجد القيروان القديم أو المسجد السليمي في درنة.
وقبل أن يقودني الدرب الفلسفي إلى الاسلام، الذي قادني بدوره الى تجربة اساسية ثالثة في حياتي، كنت قد حصلت، وانا بعد في سن المراهقة في مدينة اشفنبرج، على قسط وافر من التعليم الجيزويتي، من خلال عضويتي لجمعية Congregatio Mariana وهي المقابل لحركة (المانيا الجديدة) المتمركزة في الشمال.
ويعود ارتباطنا، بل تعلقنا الرومانسي، بهذه المنظمة إلى فترة حكم النازي، وذلك لان الجستابو لم يتمكن من الكشف عنها عندما كانت تقاوم هذا الحكم سرا. ولم يكن حتى ابي المشتت
قلوب مع محمد (70)
الفكر يعلم بعضويتي لهذه المنظمة. وكنا نجتمع أسبوعيا مع أحد القساوسة الجيزويت في احدى المقابر، في ظل اجراءات أمنية مشددة. فكان كل فرد منا لا يعرف سوى أفراد مجموعته فحسب. ولكننا تمكنا بمرور الوقت من استقطاب أفضل عناصر تلاميذ المدارس الثانوية. وقطعنا بذلك الطريق على منظمة (شبيبة هتلر)، أي أننا منعنا هذه العناصر الجيدة من أن تنضم إلى منظمات الشباب التابعة للحكم النازي، ولقد أدهشنا أن عدد أفراد المنظمة بلغ عند انتهاء الحرب 80 فردا، بعد أن انقضت الحرب، عدنا الى الاستمتاع بحياة واساليب منظمات الشباب التي كانت سائدة في عشرينات هذا القرن.
ونظرا لما سبق ذكره، فقد كنت على دراية تامة بالديانة الكاثوليكية، وبأدق شؤونها من الداخل، ولكنني في الوقت ذاته، كنت قد بدأت اضع هذه الديانة محل تساؤلات وشكوك. كنت أنا وCarl Jacob Burckherdt نتساءل دوما عما اذا كان من الصواب أن يكون عالم اللاهوت ودارس الاديان مسيحيي الديانة.
وبالرغم من اعجابي بفلسفة Ludwig Wittgenstein فإني كنت على يقين تام من عدم وجود دليل ينفي وجود الله، وكنت شديد التمسك بالرأي القائل بأن عدم وجود الله غير مؤكد بشكل قاطع، وأن الاعتقاد بوجود الله أو نفي وجوده يظل مسألة تحسمها العقيدة ويقين الفرد، وقد حسمت هذا باعتقادي في وجود الله.
وبعد ذلك، ثار سؤال عن ماهية الاتصال بين الله الانسان، وقد كنت شديد الاقتناع بامكانية، بل قل بضرورة، تدخل الله وتسييره لمجريات الامور.
ويرتكز اقتناعي هذا على دراستي ودرايتي بتاريخ الانسانية والعلوم والحق، التي استنتجت من خلالها أن مجرد مراقبة الطبيعة وتتبعها فقط لن يقودنا إلى إدراك حقيقة علاقتنا ببيئتنا وبالله. ألا يشهد تاريخ العلوم على حقيقة مفادها ان الحقائق العلمية يغير بعضها بعضا بسرعة شديدة؟! كنت بهذه الخطوة قد حسمت يقيني بامكانية، بل بضرورة، الوحي والدين، ولكن اي دين؟ واي
قلوب مع محمد (71)
عقيدة؟ هل هي اليهودية، او المسيحية او الاسلام!؟
وهنا تداركني الله بلطفه، فجاءتني الإجابة من خلال تجربتي الثالثة التي تتلخص في قراءتي المتكررة للآية 38 من سورة النجم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (لنجم:38)، ولا بد من أن تصيب هذه الآية بصدمة شديدة كل من يأخذ مبدأ حب الآخر الوارد في المسيحية مأخذ الجد، لانه يدعو في ظاهر الامر إلى النقيض. ولكن هذه الآية لا تعبر عن مبدأ اخلاقي، وانما تتضمن مقولتين دينيتين تمثلان أساسا وجوهرا لفكر ديني، هما:
1 ـ انها تنفي وتنكر وراثة الخطيئة.
2 ـ انها تستبعد، بل وتلغي تماما، إمكانية تدخل فرد بين الانسان وربه، وتحمل الوزر عنه.
وهذه المقولة الثانية تهدد، بل وتنسف مكانة القساوسة وتحرمهم من نفوذهم وسلطانهم الذي يرتكز على وساطتهم بين الانسان وربه وتطهيرهم الناس من ذنوبهم. والمسلم بذلك هو المؤمن المتحرر من جميع قيود وأشكال السلطة الدينية.
أما نفي وراثة الخطيئة وذنوب البشر، فقد شكل لي أهمية قصوى، لانه يفرغ التعاليم المسيحية من عدة عناصر جوهرية، مثل: ضرورة الخلاص، التجسيد، الثالوث، والموت على سبيل التضحية. وبدا لي ان تصور فشل الله في خلقه، وعدم قدرته على تغيير ذلك الا بانجاب ابن والتضحية به ـ أي أن الله يتعذب من أجل الإنسانية ـ أمر فظيع ومروع، بل وتجديف وإهانة بالغة.
وبدت لي المسيحية وكأنها تعود لترتكز في أصولها على أساطير متنوعة ومتعددة، وتبين لي جليا الدور الخطير والشرير الذي لعبه بولس الرسول.. لقد قام بولس، والذي لم يعرف المسيح ابدا ولم يصاحبه في حياته، بتغيير بل وبتزوير التعاليم اليهودية ـ المسيحية والتي ترى في المسيح أحد رسل الله وأنبيائه. وتيقنت ان المجلس الملي، الذي انعقد في نيقيا (عام 325)، قد ضل طريقه تماما، وحاد عن الصواب وتعليمات المسيحية الاصلية، عندما اعلن ان المسيح هو الله، واليوم، اي بعد مرور ما يزيد على ستة عشر قرنا، يحاول تصحيح هذا الخطأ بعض علماء اللاهوت الذين يتمتعون
قلوب مع محمد (72)
بجرأة شديدة.
ومجمل القول انني بدأت انظر الى الاسلام كما هو، بوصفه العقيدة الاساسية الحقة التي لم تتعرض لأي تشويه او تزوير.. عقيدة تؤمن بالله الواحد الاحد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (الاخلاص)
رأيت في الإسلام عقيدة التوحيد الاولى، التي لم تتعرض لما في اليهودية والمسيحية من انحراف، بل ومن اختلاف عن هذه العقيدة الاولى، عقيدة لا ترى أن معتنقيها هم شعب الله المختار، كما أنها لا تؤله أحد انبياء اليهود.
لقد وجدت في الاسلام أصفى وأبسط تصور لله، تصور تقدمي، ولقد بدت لي مقولات القرآن الجوهرية ومبادئه ودعوته الاخلاقية منطقية جدا حتى أنه لم تعد تساورني أدنى شكوك في نبوة محمد.
ولقد سمعت مرارا قبل اعتناقي الاسلام مقولة أن التحول من دين الى دين آخر ليس له أي أهمية، حيث أن الاديان كلها تؤمن في آخر الامر بإله واحد، وتدعو الى الاخلاقيات والقيم ذاتها، وأن السلوكيات والاخلاق الحميدة، بالاضافة الى الايمان بالله في قلب الانسان، وان يتوجه الانسان الى الله سرا، لأهم من الصلاة خمسا، ومن صوم رمضان وأداء فريضة الحج، كم من مرة اضطررت الى الاستماع الى هذه المقولات من مسلمين أتراك تخلوا عن عقيدتهم دون أن يدركوا ذلك.
إن إلها خاصا سريا ليس بإله، وكل هذه الحجج والمقولات تبدو واهية، اذا ما تيقنت ان الله يتحدث الينا في قرآنه. ومن يدرك هذه الحقيقة لا يجد مفرا من ان يكون مسلما بأعمق معاني هذه الكلمة.
سكت قليلا يسترجع أفكاره التي ربطته بالإسلام.. ثم قال: لقد كنت قريبا من الاسلام بأفكاري قبل أن اشهر إسلامي في عام 1980، بنطق الشهادتين متطهرا كما ينبغي، وإن لم اكن
قلوب مع محمد (73)
مهتما حتى ذلك الحين بواجباته ونواهيه فيما يختص بالحياة العملية.
لقد كنت مسلما من الناحية الفكرية او الذهنية، ولكني لم اكن كذلك بعد من الناحية العملية، وهذا على وجه اليقين ما يتحتم ان يتغير الآن جذريا. فلا ينبغي ان اكون مسلما في تفكيري فقط، وانما لا بد أن اصير مسلما أيضا في سلوكياتي.
اذا كان الدين يعني رباطا يربط الانسان بربه، واذا كان الاسلام يعني أن يهب المسلم نفسه لله، فقد كانت أهم واجباتي، كمسلم حديث عهد بالاسلام، في الخمسينات من العمر، أن أتعلم صلاة الاسلام. وليس من الضروري ان يكون المرء خبيرا في الحاسب الآلي ليدرك أن الامر هنا يتعلق بمسألة اتصال.. ما أصلح فنون الاتصال للاتصال به؟
ومن المؤكد، على اي حال، انه لا شيء يعرض إسلام المرء للخطر اكثر من انقطاع صلته بربه، من ثم يصبح التسبيح بحمد الله هو العنصر المحوري في حياة كل من يعي ويدرك معنى ما يقوله، عندما يقول انه يؤمن بالله.
وبناء على ذلك، فإن من لا يصلي ليس بمؤمن من وجهة نظري (1)، فمن يؤكد لامرأة غائبة حبه لها، دون ان تكون لديه رغبة في التحدث اليها تليفونيا أو في الكتابة اليها، ودون ان يلقي نظرة واحدة على صورتها طوال اليوم، ليس محبا لها في حقيقة الامر.
وهذا ما ينطبق تماما على الصلاة، فمن يعي ويدرك حقا المعنى الحقيقي لوجود الله، ستكون لديه بالضرورة رغبة في التأمل وفي التوجه الى الله كثيرا. وبذلك فقط، يصير ما يردده المسلم كثيرا وهو يقرأ سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) حقيقة واقعة.
وكنت حتى تلك اللحظات أجهل ما يجب فعله واتباعه في الصلاة. ناهيك عن قدرتي على الحفظ والتلاوة باللغة العربية، ومن ثم كانت أولى أولوياتي آنذاك هي التغلب على هذا النقص.
__________
(1) بل هو كذلك من حيث الأدلة الشرعية، فالكثير منها يعتبر الصلاة مظهرا لا يستغنى عنه لإثبات الإيمان، وقد ورد في الحديث الصحيح (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر)
قلوب مع محمد (74)
وقبل أن امعن في دراسة مقدمة مصورة باللغة الالمانية للصلاة الاسلامية، تحظى بأكبر قدر من الثقة، طلبت من صديق تركي أن يعلمني الوضوء وكيفية الوقوف في الصلاة، والركوع والسجود، والجلوس على الأرض مستندا على القدم اليسرى، ورفع الذراعين، واتجاه النظر، ومتى يقرأ المرء جهرا، ومتى يقرأ سرا مع تحريك الشفتين في القراءة، وكيف يقف المرء موقفا صحيحا خلف الامام، وكيف يتصرف المرء عندما يأتي متأخرا الى المسجد، وكيف يتحرك داخل المسجد، إنه علم كامل! وفي الحقيقة، فإنه من الخطر أن يتصرف المسلم كمسلم دون أن يكون كذلك.
وتبدأ الصلاة الاسلامية، وإن بدا ذلك امرا غريبا، في الحمام أو عند مصدر المياه في الفناء الامامي للمسجد بالوضوء، وينبغي تعلم ذلك بحسب تتابعه وتسلسله، وكيف يغسل المرء اليدين، وكيف يمسح الرأس، وكيف يتأكد من غسل الكعبين، كل شيء وضع وحدد على نحو دقيق تماما. وحينما ينوي المرء الصلاة ويرفع اليدين الى الرأس مكبرا مفتتحا الصلاة، فانه ينفصل تماما عن مشاغل حياته اليومية، مما يؤكد قدسية الصلاة بالنسبة له.
وينبغي أن يتعلم المرء ايضا عدد الركعات في كل من الصلوات الخمس: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وان يعرف مواقيتها، وما ينبغي على المسافر ان يراعيه من احكام الصلاة.
وتعلمت أخيرا كيفية الوقوف في صلاة الجماعة، حيث ينبغي ان يصطف المسلمون في صف مستقيم تتلاصق فيه الاقدام وتسد الفرج، وهذا التلاصق يرمز بالنسبة لي اكثر من مجرد ضم صفوف. انه يرمز الى التضامن على نحو يؤثر فيّ مجددا كل مرة. ويتجدد هذا التضامن في نهاية كل صلاة مع تحية (السلام عليكم) التي ينطقها المصلي وهو يلتفت يمينا ثم يسارا، وبعد ذلك يمسح وجهه بكلتا يديه اعلانا عن انتهاء الصلاة، وبعدها يمد يديه الى جاره في الصلاة مصافحا ومتمنيا أن يتقبل الله صلاته (تقبل الله صلاتك)
قلوب مع محمد (75)
وروى لي عبد الوهاب عبادة، السكرتير العام لوزارة الخارجية الجزائرية أنه غير هذه التحية مرة عندما كان طفلا، فقد بدا له انه من الاقرب الى المنطق ان يقول (السلام عليك)، وكانت نتيجة ذلك انه تلقى تأنيبا من والده الذي علمه أن المسلم يقول دائما: (السلام عليكم)، لأن تحيته تشمل جميع المخلوقات المرئية وغير المرئية، تشمل الملائكة وتشمل الصراصير.
قلت: لقد كنت أسمع بحبك للخمر، وهو شيء طبيعي بين قومنا وأهل بلدنا، فكيف استطعت أن تتخلص منها، أو كيف لم تقف الخمر حجابا بينك وبين الإسلام؟
قال: لقد ظننت في بادئ الأمر انني لن استطيع النوم جيدا دون جرعة من الخمر في دمي، ولكن ما حدث بالفعل كان عكس ما ظننت تماما، فنظرا لأن جسمي لم يعد بحاجة الى التخلص من الكحول، أصبح نبضي أثناء نومي اهدأ من ذي قبل.
سكت قليلا، يسترجع ذكرياته، ثم قال: كنت في جاهليتي الشخصية قبل اعتناقي الاسلام خبيرا بالخمور حتى إنني كنت أحدد أنواع الأنبذة الحمراء المدهشة بمجرد تذوقها بطرف لساني.
لقد وجدت مع ذلك ان التحريم القرآني للخمر والمخدرات ليس ضرورة اجتماعية فحسب، وانما هو ايضا منفعة شخصية للفرد، اذ يمكنه ان يكون متيقظا صافي الذهن دائما، ومن ثم، انهيت هذه المرحلة من حياتي مرة واحدة، وإلى الابد، فان الانسان، بفضل قدرته على التفكير وإعمال عقله، يفاخر بأنه اعظم المخلوقات. فنحن البشر نستطيع ان نمعن التفكير في العالم من حولنا وفي احوالنا، وان نتصرف بحكمة، وهذه الصفات التي ترقى بنا، هي ذات الصفات التي ندمرها على نحو منتظم بتعاطي الخمور والمخدرات، ونحن بذلك نمتهن انفسنا ونحط من قدرتنا داخل المنظومة الكونية، وننحدر بالتالي الى مكانة ادنى من مكانة الحيوانات، التي لا يغيب عنها وعيها ابدا. فادمان تعاطي الخمور والمخدرات نوع من التشويه الذهني الذاتي. وكانت مديرة منزلي الصربية في بلغراد مثالا منذرا لي، اذ كانت تعود دائما الى ادمان الخمر، حتى بعد علاج لفترات طويلة.
قلوب مع محمد (76)
إن مشهد مدمني تعاطي الخمر مشهد مهين، يبعث على الاكتئاب، ويثير الشفقة، وكثيرا ما يقدم هؤلاء على الانتحار، وهم يعلمون حقيقة حالهم، ولكنهم لا يستطيعون الرجوع عما هم فيه، لان الخمر سلبتهم العزيمة والارادة والقدرة على اتخاذ القرار. من النادر ان تجد عدد مدمني الخمر في المجتمع الاحدث في المدن التركية الكبيرة أقل من عددهم في المانيا. فهم يمسكون ـ من وقت الظهيرة ـ بكأس الراكيا في يد، وبالسيجارة في اليد الاخرى، مبرهنين بذلك على انهم لم يعودوا سادة انفسهم، وهم من الناحية الدينية، يمارسون بذلك نوعا من الشرك بالله، لأن الخمر ونيكوتين الدخان اهم عندهم من كل ما عداهما في العالم بمن في ذلك ربهم الذي خلقهم. فهم يستطيعون ـ في ظنهم ـ ان يعيشوا بدونه، ولكن ليس بدون الراكيا.
يهدف القرآن من وراء التحريم المطلق للخمر الى منع البدء في تعاطيها، حيث لا يبدو ضارا في حالة احتساء كأس واحدة. فالكأس الواحدة لا تبدو خطيرة في الظاهر يمكن في يوم ما ان تصبح كؤوسا عديدة، ومن المعتاد الا يرى المدمن انه معرض للخطر، وان يقدم ما لا حصر له من الاعذار والحجج لتبرير اعتياده التدخين او احتساء الخمر، في هذا الوقت بصفة خاصة، ومن ذلك كون المدمنين سعداء او تعساء، يعانون من ضغط العمل او في اجازة منه، جماعة او فرادى، مرضى او اصحاء، جوعى او شبعى.
لقد واجهت كرئيس مسؤول هذه المشكلة، فكنت، عندما انبه احد العاملين معي حتى قبل احتسائه الخمر بيوم واحد، كنت اعد معتديا على حقه في ان يعبر عن شخصيته بحرية (واواجه بذلك مشكلة مع مستشار شؤون العاملين). ومع ذلك، كان مستشار شؤون العاملين نفسه يستطيع ان يتأكد في اليوم التالي ان الموظف المعني صار في واقع الامر مدمنا للخمر. ومن ثم، فانه يعد رسميا من هذه اللحظة مريضا بادمان الخمر.
قلت: ألا ترى تحريم الخمر سببا حائلا بين قومنا، وبين الإسلام؟
قال: هذا صحيح.. فالألماني قد ينادي بحق المرء في تعدد الزوجات إذا أراد، ولكنه من
قلوب مع محمد (77)
الصعب أن يتنازل عن الخمر.
قلت: ألا ترى الإسلام قاسيا بهذا النوع من التشريع؟.. أو أنه لم يلاحظ في هذا التشريع خصوصيات المناطق المختلفة التي قد تستدعي القول بإباحة الخمر؟
قال: إن ما تطرحه خطير جدا.. فالخمر هي الخمر.. فما يزال النساء والاطفال يتعرضون اليوم للضرب تحت تأثير الخمر.. بل تسقط الطائرات اليوم تحت تأثيره، وقد تسبب قائد احدى الناقلات البحرية تحت تأثير الخمر في وقوع اسوأ كارثة بيئية حتى الآن.
وعلى الرغم من توفر احصاءات عن حوادث الطرق وحوادث المصانع، فانه لا يمكن تقدير الخسائر البشرية والمادية التي تصيب المجتمع الغربي بسبب ادمان الخمر والمخدرات. وفي بعض المستشفيات التركية، تتجاور أقسام علاج الادمان واقسام علاج الامراض العقلية، لما ينطوي عليه ذلك من انذار، ان عاجلا او آجلا، هذا اذا ما دمر العقل قبل ان يتوقف الكبد عن أداء وظائفه.
لقد كنت واحدا من ضحايا حوادث المرور التي تقع تحت تأثير الخمر، ففي نهاية عام دراسي في كلية الاتحاد بشينيكتادي بولاية نيويورك، قمت بجولة في الولايات المتحدة الاميركية بطريقة الاوتوستوب (اي ايقاف السيارات والانتقال بها مجانا من موقع الى آخر). وفي اثناء هذه الجولة، تعرضت يوم 28 من يوليو (تموز) عام 1951 لحادث سيئ بالقرب من هول سبرنجز بولاية مسيسيبي، فبينما كنا في طريقنا على الطريق السريع من اتلانتا بولاية جورجيا الى ممفيس في ولاية مسيسيبي، ظهر امامنا ونحن على مقربة من غايتنا شبح، ولا اتذكر شيئا عما حدث بعد ذلك. ولكني علمت في ما بعد ان هذا الشبح لم يكن سوى سيارة اصطدمت بنا، كان سائقها ومرافقه قد احتسيا كميات كبيرة من الخمر في تنيسي، التي تسمح باحتسائه اثناء القيادة، قبل ان يتوجها الى مسيسيبي التي تمنع احتساءه اثناءها.
وقد تبين لي بوضوح أن ذراعي المصابة الآن، والتي كنت اضعها على وسادة المقعد الخلفية،
قلوب مع محمد (78)
قد وقتني مما هو أكثر، ومع ذلك، كانت خسارتي في هذا الحادث تسع عشرة من أسناني. وبعد انتهاء الجراح من خياطة ذقني وشفتي السفلى، سألني قائلا: إنه من الممكن إصلاح وجهي بعد سنوات عن طريق إجراء عملية تجميل، وأضاف قائلا: (إن مثل هذا الحادث لا ينجو منه في الواقع أحد، وإن الله يدخر لك يا عزيزي شيئا خاصا جدا)
وقد كنت أفكر في هذا الامر، وانا اتجول في هول سبرنجز بذراع مربوطة وضمادة تحيط بالذقن وفم مخيط، وكنت أفكر في ما أرفه به عن نفسي في يوم عيد ميلادي العشرين، ولكن كل شيء كان يؤلمني.. تناول الطعام او الشراب، او التنزه، او الاجابة عن الاسئلة، وأخيرا ذهبت لأقص شعري، فهذا على الاقل لا يؤلم، ولم أدرك المغزى الحقيقي لنجاتي وبقائي على قيد الحياة الا بعد ثلاثين سنة، عندما اشهرت اعتناقي للاسلام.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (مالكولم إكس)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد كان هذا الرجل زعيم الملوّنين الأمريكيين، وكان يُلقَّب قبل إسلامه بالشيطان و(أحمر دويترويت) إذ كان زعيما عنصريا متطرفا في عداوته للبيض، ولكنه عدل عن هذا النهج بعد إسلامه.
قلت: فهل التقيته؟
قال: لا.. لم أتشرف بلقائه، ولكني ـ عندما كنت في أمريكا ـ قرأت رسالة له كانت أهم عندي وأعظم أثرا من أي لقاء.
قلت: فما كتب في تلك الرسالة؟
قال: بعد رحلته للحج أرسل إلى أتباعه من مكة رسالة يقول فيها: (ما رأيت قط كرماً أصيلاً، ولا روحاً غامرة من الأخوة كهذه التي تسود هنا بين الناس من كل لون وجنس، في هذه الأرض المقدسة، وطن إبراهيم ومحمد... فها هنا عشرات الألوف من الحجاج قدموا من كل أنحاء العالم،
قلوب مع محمد (79)
ليؤدّوا المناسك نفسها بروح من الوحدة والأخوة، ما كنت أظن – بحكم خبراتي في أمريكا – أنها يمكن أن تنشأ بين البيض والسود...
وإن أمريكا في حاجة إلى أن تفهم الإسلام، لأنه هو الدين الوحيد الذي يمكن أن يمحو المشكلة العنصرية في مجتمعها... لقد تقابلت مع مسلمين بيض وتحدثت معهم، بل تناولت الطعام معهم! ولكن النزعة العنصرية محاها من أذهانهم دين الإسلام..
إننا هنا نصلي لإله واحد، مع أخوة مسلمين لهم أعين زرقاء كأصفى ما تكون الزرقة، ولهم بشرة بيضاء كأنصع ما يكون البياض)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (اللورد هدلي)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا الرجل سليل الأسرة المالكة في بريطانيا، وهو من أغنى البريطانيين، ومن أرفعهم حسبا، درس الهندسة في كامبردج، وقد أسلم وأصدر مجلة (The Islamic renew)، وأصدر كتاب (إيقاظ العرب للإسلام) وكتاب (رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام)، وقد تسمى بعد إسلامه باسم (رحمة الله فاروق)
قلت: فحدثني عنه.
قال: سأحدثك بما حدثني به بعض من لقيه وعرفه خير معرفة، فقد ذكر لي أنه رغم مولده في بيت مسيحي عريق، لم يشعر يوماً في قرارة نفسه بإيمان صادق نحو المسيحية، بل طالما راودته الشكوك في صحة التعاليم التي تروج لها الكنيسة، والطقوس التي يمارسها آباء الكنيسة في صلواتهم وأقداسهم، وطالما توقف بفكره عن أسرار الكنيسة السبعة.
إذ لم يستطع ـ وهو المثقف الواعي ـ أن يهضم فكرة أكل جسد المسيح أو شرب دمه، ولم يقتنع بفكرة الفداء التي هي من أسس عقيدة الكنيسة...
وشاء قَدَرُ الله أن يسافر إلى منطقة كشمير التي يدين أهلها بالإسلام، وذلك من أجل
قلوب مع محمد (80)
مشروعات هندسية، حيث كان يعمل ضابطاً في الجيش البريطاني ومهندساً...
وهناك أهدى إليه صديق ضابط بالجيش نسخة من المصحف الشريف حين لمس انبهاره بسلوكيات المسلمين، وكان هذا الإهداء بداية تعرفه الحقيقي على الإسلام، إذْ وجد في كتاب الله ما يوافق طبيعة نفسه ويلائم روحه...
لقد وجد أن مفهوم الألوهية ـ كما جاء في القرآن الكريم ـ يتوافق مع المنطق والفطرة، ويتميز ببساطة شديدة، كما لمس في الدين الإسلامي سمة التسامح، وهي السمة التي لم ير لها وجوداً بين أهله من النصارى الذين عُرِفُوا بتعصبهم ضد الديانات الأخرى، بل ضد بعضهم بعضاً، فالكاثوليك يتعصبون ضد البروتستانت، وهؤلاء بدورهم يتعصبون ضد الأرثوذكس، الذين لا يقلون عن الطائفتين السابقتين تعصباً ضدهما، فكل فريق يزعم أن مذهبه هو الحق وما عداه باطل، ويسوق في سبيل ذلك من الحجج أسفاراً يناقض بعضُها بعضاً.
ولم يكن بوسع اللورد هدلي إلا أن يميل للإسلام بعد اطلاعه على ترجمة معاني القرآن الكريم، وما قرأه عن العقيدة الإسلامية، وأبطال الإسلام الأوائل الذين استطاعوا أن يصيروا أعظم قواد العالم، وبقوة عقيدتهم أسسوا حضارة عظيمة ازدهرت لقرون طويلة، في وقت كانت أوربُا ترزح تحت وطأة الجهل وطُغيان البابوات والكرادلة.
كما وجد اللورد هدلي في الشريعة الإسلامية وسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته ومن تلاهم من التابعين القدوة الحسنة التي تروّى روحه العطشى للحق.
وبرغم اقتناع اللورد هدلي بالإسلام فقد ظل قرابة عشرين عاماً يكتم إسلامه لأسباب عائلية، حتى كتب له الله أن يعلنه على الملأ في حفل للجمعية الإسلامية في لندن..
ففي ذلك المحل صاح بصوت مرتفع قائلا: إنني بإعلاني إسلامي الآن لم أَحِدْ مطلقاً عمَّا اعتقدته منذ عشرين سنة، ولمّا دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سُرِرْتُ جداً، لأتمكن من الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم، وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار نبذي
قلوب مع محمد (81)
لعلاقتي بالكنيسة الإنجليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن.
سكت قليلا، ثم قال: إن عدم تسامح المتمسكين بالمسيحية كان أكبر سبب في خروجي عن جامعتهم، فإنك لا تسمع أحداً من المسلمين يذم أحداً من أتباع الأديان الأخرى، كما نسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض.
نظر إلى الجمع الملتف به، والمشدوه لذلك الإعلان الخطير، ثم قال: إن طهارة الإسلام وسهولته وبُعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح حجته ـ كانت كل هذه الأمور أكبر من أثَّرَ في نفسي، وقد رأيت في المسلمين من الاهتمام بدينهم والإخلاص له ما لم أَرَ مثله بين النصارى، فإن المسيحي يحترم دينه ـ عادة ـ يوم الأحد، حتى إذا ما مضى يوم الأحد نسي دينه طول الأسبوع... وأما المسلم فبعكس ذلك، يحب دينه دائماً، سواء عنده أكان هو الجمعة أو غيره، ولا يفتر لحظة عن التفكير في كل عمل يكون فيه عبادة الله.
قلت: إن رجلا بهذا المحل من أهل بلده لا بد أن يكون لإسلامه تأثيرا كبيرا.
قال: أجل.. لقد كان لإسلامه أكبر الأثر في تقوية نشاط المسلمين في بريطانيا، إذْ لم تكد تمر أشهر قليلة على إعلان إسلامه حتى اقتفى أثره أكثر من أربعمائة بريطاني وبريطانية، بعد ما استرعى انتباههم ما تَحَدَّثَ به عن محاسن الإسلام، فأقبلوا على قراءة الكتب الإسلامية، ودخلوا في دين الله أفواجاً.
قلت: ألم يصبه ما يصيب المسلمين الجدد من الأذى؟
قال: بلى.. لقد كان لإشهار إسلامه صَدىً واسعا في بريطانيا للَّقَبِ الكبير الذي يحمله، ولكونه سياسياً بارزاً، وعضواً قيادياً في مجَلسٍ اللوردات، فقد انتقدته الصحف البريطانية، واتهمته في صدق دينه مُحاوِلةً تفسير موضوع إشهار إسلامه بأنه لتحقيق مكسب رخيص، وهو أن يصبح ممثل المسلمين في مجالس اللوردات وزعيماً لهم.
قلوب مع محمد (82)
وقد دفعته هذه التهمة إلى الرد عليها بمقال عنوانه (لماذا أسلمت؟) قال فيه: نحن ـ البريطانيين ـ تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم أعظم من أن نحكم ـ كما يفعل أكثرنا ـ بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده، بل قبل أن نفهم معنى كلمة إسلام!؟
وقال فيه: (من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثروا فيَّ، ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيتُ فيه عدة سنين... ولا حاجة بي إلى القول بأني مُلِئْتُ سروراً حينما وجدتُ نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي)
ومن ردوده على هؤلاء ما نشرته مجلة (إسلاميك رفيو) حيث قال: (إن كل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المُنَصَّرُونَ لتحقير شريعة النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، بالبذاءة وبالسفاسف لا تمسه بأذىً، ولا تغيّر عقيدة تابعيه قَيْدَ أنملة)
ورد على المبشرين قائلاً: (لا عَجَبَ أن يكذب المنصرون وقد افتروا على الله كذباً، فكم تظاهر اللص بالأمانة والداعر بالاستقامة والزنديق بالتدين، ولكن لا عجَبَ، فقد غاض من وجههم ماء الحياء، وقد قال نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم: (إذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصنع ما شِئْتَ).. فلو كانوا يستحيون من أنفسهم ـ أو على الأقل من الناس ـ لما أقدموا على هذا الادعاء الباطل، والافتراء الواضح)
سكت الغريب قليلا، ثم قال: لقد حفظت من كلامه جواهر من الحكم سأعرضها عليك لتكتشف من خلالها سر اعتناقه للإسلام، وإخلاصه له:
لقد قال معبرا عن ساعة اعتناقه الإسلام: (لا ريب إن أسعد أيام حياتي هو اليوم الذي جاهرت فيه على رؤوس الأشهاد بأنني اتخذت الإسلام ديناً.. فإذا كنت قد ولدت مسيحياً، فهذا لا يحتم عليّ أن أبقى كذلك طوال حياتي، فقد كنت لا أعرف كيف أستطيع أن أؤمن بالمبدأ القائل: إذا لم تأكل جسد المسيح، وتشرب دمه، فلن تنجو من عذاب جهنم الأبدي!
ويقول: (إنني بإسلامي أعتبر نفسي أقرب إلى المسيحية الحقة مما كنت من قبل، ومن يعادي
قلوب مع محمد (83)
المسيحية الحقة فلا أمل فيه...)
ويقول: (لم أولد في الخطيئة، ولست مولود سخط وغضب، ولا أحب أن أكون مع الخاطئين)
ويقول: (لقد تملك الإسلام لبي حقا، وأقنعني نقاؤه، فأصبح حقيقة راسخة في عقلي وفؤادي، اذ التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتهما قط من قبل)
ويقول: (بما أننا نحتاج إلى نموذج كامل ليفي بحاجاتنا في خطوات الحياة، فحياة النبي تسد تلك الحاجة، فهي كمرآة نقية تعكس علينا الأخلاق التي تكون الإنسانية، ونرى ذلك فيها بألوان وضاءة..
خذ أي وجه من وجوه الآداب، تتأكد بأنك تجده موضحاً في إحدى حوادث حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)
ويقول: (الإسلام هو الدين الذي يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة مدى الحياة! لا في أيام الآحاد فقط... أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تنيره شمس النهار، وأخذ يستنشق هواء البحر النقي الخالص)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (اللادي ايفلين كوبولد)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم نبيلة إنكليزية، اعتنقت الإسلام، وزارت الحجاز، وحجت إلى بيت الله، وقد كتبت مذكراتها عن رحلتها تلك في كتاب لها بعنوان: (الحج إلى مكة)، والذي ترجم إلى العربية بعنوان (البحث عن الله)
قلت: فهل التقيت بها لتسألها عن سر إسلامها؟
قال: لا.. لم أتشرف بذلك.. ولكني قرأت كتابها الذي ذكرت فيه رحلتها إلى الله، وتعرفها على الإسلام، وفيه يتجلى سر إسلامها.
قلوب مع محمد (84)
قلت: فما الذي جذبها إلى الإسلام؟
قال: أول ما جذبها إليه القرآن الكريم.. فقد قالت في بيان تأثيره في الحضارة الإسلامية: (إن أثر القرآن في كل هذا التقدم الحضاري الإسلامي لا ينكر، فالقرآن هو الذي دفع العرب إلى فتح العالم، ومكّنهم من إنشاء إمبراطورية فاقت إمبراطورية الإسكندر الكبير، والإمبراطورية الرومانية سعة وقوة وعمرانًا وحضارة) (1)
وذكرت موقف القرآن من العلم، وما في القرآن من سبق علمي، فقالت: (وذكرتُ أيضًا ما جاء في القرآن عن خلق العالم وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد خلق من كل نوع زوجين، وكيف أن العلم الحديث قد ذهب يؤيد هذه النظرية بعد بحوث مستطيلة ودراسات امتدت أجيالاً عديدة) (2)
وذكرت تأثرها بأسلوب القرآن في مواضع عديدة، فقالت: (الواقع أن جمل القرآن، وبديع أسلوبه أمر لا يستطيع له القلم وصفًا ولا تعريفًا، ومن المقرر أن تذهب الترجمة بجماله وروعته وما ينعم به من موسيقى لفظية لست تجدها في غيره من الكتب. ولعل ما كتبه المستشرق جوهونسن بهذا الشأن يعبر كل التعبير عن رأي مثقفي الفرنجة وكبار مفكريهم قال: (إذا لم يكن شعرًا، وهو أمر مشكوك به، ومن الصعب أن يقول المرء بأنه من الشعر أو غيره، فإنه في الواقع أعظم من الشعر، وهو إلى ذلك ليس تاريخًا ولا وصفًا، ثم هو ليس موعظة كموعظة الجبل ولا هو يشابه كتاب البوذيين في شيء قليل أو كثير، ولا خطبًا فلسفية كمحاورات أفلاطون، ولكنه صوت النبوة يخرج من القلوب السامية، وإن كان عالميًا في جملته، بعيد المعنى في مختلف سوره وآياته، حتى إنه يردد في كل الأصقاع، ويرتل في كل بلد تشرق عليه الشمس) (3)
__________
(1) البحث عن الله، ص 51.
(2) البحث عن الله، ص 45.
(3) البحث عن الله، ص 111.
قلوب مع محمد (85)
وقالت: (أشار الدكتور مارديل المستشرق الفرنسي الذي كلفته الحكومة الفرنسية بترجمة بعض سور القرآن، إلى ما للقرآن الكريم من مزايا ليست توجد في كتاب غيره وسواه فقال: (أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق عز وجل وعلا، ذلك أن الأسلوب الذي ينطوي عليه كنه الكائن الذي يصدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًا. والحق والواقع أن أكثر الكتاب ارتيابًا وشكًا قد خضعوا لتأثير سلطانه وسحره، وأن سلطانه على ملايين المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ الحدّ الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن. ذلك أن هذا الأسلوب.. الذي يفيض جزالة في اتساق منسق متجانس. كان له الأثر العميق في نفس كل سامع يفقه اللغة العربية، لذلك كان من الجهد الضائع الذي لا يثمر أن يحاول المرء نقل تأثير هذا النثر البديع الذي لم يسمع بمثله بلغة أخرى) (1)
وقالت: (الواقع أن للقرآن أسلوبًا عجيبًا يخالف ما كانت تنهجه العرب من نظم ونثر، فَحُسنُ تأليفه، والتئام كلماته، ووجوه إيجازه، وجودة مقاطعه، وحسن تدليله، وانسجام قصصه، وبديع أمثاله، كل هذا وغيره جعله في أعلى درجات البلاغة، وجعل لأسلوبه من القوة ما يملأ القلب روعة، لا يمل قارئه ولا يخلق بترديده.. قد امتاز بسهولة ألفاظه حتى قلّ أن تجد فيها غريبًا، وهي مع سهولتها جزلة عذبة، وألفاظه بعضها مع بعض متشاكلة منسجمة لا تُحِسُّ فيها لفظًا نابيًا عن أخيه، فإذا أضفت إلى ذلك سموّ معانيه أدركت بلاغته وإعجازه) (2)
بالإضافة إلى هذا، فقد ذكرت الثمرات العظيمة التي أنجزها محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تبرهن على صدق الإسلام، وكونه من عند الله، فقالت: (كان العرب قبل محمد أمة لا شأن لها ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلما جاء محمد بعث هذه الأمة بعثًا جديدًا يصح أن يكون أقرب إلى
__________
(1) البحث عن الله، ص 112.
(2) البحث عن الله، ص 113.
قلوب مع محمد (86)
المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً) (1)
وقالت: (هذه هي مدينة الرسول.. تعيد إلى نفسي ذكرى جهوده في سبيل لا إله إلا الله، وتلقي في روعي صبره على المكاره واحتماله للأذى في سبيل الوحدانية الإلهية) (2)
وقالت: (لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر الرسول روعة ما يستطيع لها تفسيرًا، وهي روعة تملأ النفس اضطرابًا وذهولاً ورجاء وخوفًا وأملاً، ذلك أنه أمام نبي مرسل وعبقري عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة والعبقرية يهزان القلوب ويثيران الأفئدة فما بالك بالعظمة إذا انتظمت مع النبوة، وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية) (3)
وقالت: (لقد استطاع النبي القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام وقبول الوحدانية الإلهية.. لقد وفّق إلى خلق العرب خلقًا جديدًا ونقلهم من الظلمات إلى النور) (4)
وقالت: (مع أن محمدًا كان سيد الجزيرة العربية.. فإنه لم يفكر في الألقاب، ولا راح يعمل لاستثمارها، بل ظل على حاله مكتفيًا بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه ويصلح حذاءه بيده، كريمًا بارًا كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحايين قليلاً لا يكاد يكفيه) (5)
بالإضافة إلى هذا ذكرت إعجابها الشديد بالمنهج الإسلامي في العقيدة والشريعة والسلوك، واعتبرته من الأسباب الأولى لإسلامها، فقالت: (سألني كثيرون كيف ومتى أسلمت؟ وجوابي
__________
(1) البحث عن الله، ص 51.
(2) البحث عن الله، ص 39.
(3) البحث عن الله، ص 52.
(4) البحث عن الله، ص 66.
(5) البحث عن الله، ص 67.
قلوب مع محمد (87)
على ذلك أنه يصعب عليّ تعيين الوقت الذي سطعت فيه حقيقة الإسلام أمامي فارتضيت الإسلام دينًا. ويغلب على ظني أنني مسلمة منذ نشأتي الأولى. وليس هذا غريبًا إذا ما راح المرء يفكر بأن الإسلام هو الدين الطبيعي الذي يتقبله المرء فيما لو ترك لنفسه ولم يفرض عليه أبواه الدين الذي يعتنقانه فرضًا. ألم يصف أحد مشاهير النقاد في أوروبا: (بأنه دين العقل والإنسانية) (1)
وقالت: (الإسلام كلمة تعني التسليم لله، وهي تعني السلام أيضًا، ويعرف المسلم بأنه الرجل الذي يسير في حياته وفاقًا لمشيئة خالقه وأوامره والذي يعيش بسلام مع الله وعباده. ولعل أجمل ما في الإسلام ما يضطرب فيه من وحدانية إلهية، وأخوة إنسانية، وخلوه عن التقاليد والبدع والتصاقه اللصوق كله بما في الحياة من أمور عملية.. والإيمان في القرآن إنما يقوم على العمل الصالح وليس هناك في الإسلام إيمان دون ما عمل صالح أبدًا) (2)
وقالت: (من فوائد الحج أنه يوطد الوحدة الإسلامية ويغذي الأخوة التي أنشأها محمد وهو يدعو المسلمين في كل عام مرة واحدة إلى التعارف والتقارب والتحدث فيما بينهم.. فالحج والحالة هذه ليس فرضًا دينيًا فحسب، وإنما هو إلى ذلك كله، جمعية أمم عظمى. ولقد أشار إلى هذه الظاهرة الخطيرة الأستاذ سنوك هيروغرنجه المستشرق الهولندي فقال: (لقد سبق الإسلام الحكومات الأوروبية في التوحيد بين الأمم والتقارب بين الشعوب بما أقره من وجوب الحج على كل مسلم يستطيع إلى الحج سبيلاً، ولعمري إن هذه الديمقراطية والأخوة التي أقرها الإسلام وجعلها عامة بين أتباعه لما يخجل الجماعات الأخرى التي لم تفطن لها ولا دعت إليها) (3)
وقالت: (إذا لم يكن في الإسلام إلا هذه الأخوة التي قتلت التفرقة وجعلت من الإنسانية
__________
(1) البحث عن الله، ص 9.
(2) البحث عن الله، ص 12.
(3) البحث عن الله، ص 13.
قلوب مع محمد (88)
شخصًا واحدًا لا يعلو واحدها على رفيقه إلا بالتقوى والعمل الصالح، لكفى ولكان الإسلام خير الأديان وأقربها إلى الله وأرفعها درجات. ولقد أشار المستر بيكتول الكاتب الإنكليزي، إلى هذه الظاهرة الغريبة الفذة في تاريخ الإنسانية، وراح يضرب الأمثال بهذا الاختلاف العظيم يعمّ الغرب من أقصاه إلى أقصاه ويفصل بين المرء وولده وشقيقه ونسيبه وجاره، وكيف أن الإسلام يقف وحيدًا في هذه الظاهرة حيث تقوم الأخوة الإسلامية فيه مقام العصبية والجوار وغيرها من الصلات) (1)
وقالت: (إن الإسلام دين حي، حي في قلوب أتباعه ومريديه، وهو دين كلما تقدمت به الأيام زادت حيويته وقوي أمره وتبسط سلطانه وفشت دعوته ولولا ذلك لما أمكنه أن يعيش وأن يظل محتفظًا بقوته وتأثيره وحب أتباعه له) (2)
وقالت: (إن روحانية الإسلام قوية شديدة، فهي أبدًا تدفع المسلمين بعضهم إلى بعض وتجعل منهم قوة إنسانية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مما لا يوجد مثله في العالم الحاضر) (3)
وقالت: (الحق أقول: إن الحب عندنا وكما يفهمه الغربيون ما يزال قريبًا من الغريزة الجنسية، مقصورة دائرته أو تكاد، على ما تلهمه هذه الغريزة.. فأما المناطق العليا التي يرتفع الحب المهذب إليها، أما الحب بمعناه الإنساني السامي.. الحب على أنه عاطفة إنسانية سامية أساسها إنكار الذات والرقي النفسي إلى عالم الخير والجمال والحق فهذا ما لا يفكر به أحد أو يتصور وجوده إنسان، وهو إلى ذلك كله موجود في الإسلام، منطوٍ في هذه الأخوة الإسلامية التي تجعل من الفرد عبدًا يعمل لخير المجموع وفردًا قصارى همه أن يعمل للإحسان والإحسان أبدًا) (4)
وذكرت إعجابها بالتسامح الإسلامي، فقالت: (إن الإسلام لا يعرض لمعتنقي الأديان
__________
(1) البحث عن الله، ص 13.
(2) البحث عن الله، ص 13.
(3) البحث عن الله، ص 13.
(4) البحث عن الله، ص 28.
قلوب مع محمد (89)
الأخرى بسوء وهو لا يحملهم على قبول دينه والنزول تحت شرعته.. كما أنه لم يحارب الذين لم يعتنقوا دينه، ولا عمل على قتلهم وحرقهم وتعذيبهم كما فعل غيره وسواه، وآية القرآن الكريم ظاهرة بينة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) (1)
قلت: ألم يصرفها عن الإسلام تلك الشبهات الكثيرة التي تثار حول موقف الإسلام من المرأة؟
قال: لقد كانت هذه المرأة الفاضلة صادقة في بحثها عن الله، فلذلك هداها الله إلى التعرف عن كثب على حقيقة موقف الإسلام والمسلمين من المرأة، ومما ذكرته في هذا قولها: (لم تكن النساء المسلمات متأخرات عن الرجال في ميدان العلوم والمعارف فقد نشأ منهن عالمات في الفلسفة والتاريخ والأدب والشعر وكل ألوان الحياة) (2)
وقالت: (لما جاء الإسلام ردّ للمرأة حرّياتها، فإذا هي قسيمة الرجل لها من الحق ما له وعليها ما عليه ولا فضل له عليها إلا بما يقوم به من قوة الجلد وبسطة اليد، واتساع الحيلة، فيلي رياستها فهو لذلك وليها يحوطها بقوّته ويذود عنها بدمه وينفق عليها من كسب يده، فأما فيما سوى ذلك فهما في السّرّاء والبأساء على السواء. ذلك ما أجمله الله بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، وهذه الدرجة هي الرعاية والحياطة لا يتجاوزها إلى قهر النفس وجحود الحق، وكما قرن الله سبحانه بينهما في شؤون الحياة، قرن بينهما في حسن التوبة وادخار الأجر وارتقاء الدرجات العليا في الدنيا والآخرة. وإذا احتمل الرجل مشقات الحياة، ومتاعب العمل وتناثرت أوصاله، وتهدّم جسمه في سبيل معاشه ومعاش زوجه فليس ذلك بزائد مثقال حبة عن المرأة إذا وفت لبيتها وأخلصت لزوجها وأحسنت القيام في شأن دارها) (3)
__________
(1) البحث عن الله، ص 93.
(2) البحث عن الله، ص 51.
(3) البحث عن الله، ص 81.
قلوب مع محمد (90)
وقالت: (كتبت اللادى ماري مونتكاد، زوجة السفير الإنكليزي في تركيا إلى شقيقتها تقول: (يزعمون أن المرأة المسلمة في استعباد وحجر معيب، وهو ما أودّ تكذيبه فإن مؤلفي الروايات في أوروبا لا يحاولون الحقيقة ولا يسعون للبحث عنها، ولولا أنني في تركيا، وأنني اجتمعت إلى النساء المسلمات ما كان إلى ذلك سبيل، وإني أستمع إلى أخبارهم وحوادثهم وطرق معيشتهم من سبل شتى، لذهبت أصدق ما يكتب هؤلاء الكتاب، ولكن ما رأيته يكذب كل التكذيب أخبارهم، ولا أبالغ إذا قررت لك أن المرأة المسلمة وكما رأيتها في الأستانة أكثر حرية من زميلاتها في أوروبا ولعلها المرأة الوحيدة التي لا تعنى بغير حياتها البيتية، ثم إنهن يعشن في مقصورات جميلات ويستقبلن من يرد من الناس) (1)
وقالت: (إن جهل النساء في الإسلام أمرٌ لا يتفق وأوامر الرسول الكريم، فقد أمر رسول الله النساء بطلب العلم وحظر الإسلام الجهل على المؤمنين به وشدّد في ذلك بما لا يدعو مجالاً للشبهة والتأويل) (2)
__________
(1) البحث عن الله، ص 85.
(2) البحث عن الله، ص 86.
قلوب مع محمد (91)
فتحت دفتر الغريب على فصله الثالث، فوجدت عنوانه (الأدباء)، فقلت: من تقصد بالأدباء؟
قال: أولئك الذين فتحت لهم خزائن الكلام، ونبعت لهم من منابع المشاعر عيون عبروا بها عما لم يطق غيرهم التعبير عنه.
قلت: فما الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم؟
قال: هؤلاء هم لسان البشر الذي يعبر عنهم.
قلت: ولكنهم قد يتيهون في أودية الأماني، كما قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (الشعراء:224 - 225)، وقد روي في الحديث عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعَرْج، إذ عَرَض شاعر يُنشد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خذوا الشيطان -أو امسكوا الشيطان -لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا) (1)
__________
(1) رواه أحمد.. فهم البعض هذه النصوص فهما خاطئا، فراحوا يذمون الشعر ذما مطلقا، حتى حكي عن بعض الزهاد أنه كان لا يتمثل ببيت شعر، ولما سئل عن ذلك قال: لا أحب أن أرى في صحيفتي يوم القيامة بيت شعر!
وهم يستدلون لهذا بأحاديث مكذوبة على رسول الله (منها (مَنْ قرض بيت شعر بعد العشاء لم تُقْبَلْ له صلاة تلك الليلة)، وقد قال ابن كثير في تخريجه: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يَرْوِهِ أحد من أصحاب الكتب الستة.
أما الحديث الذي جاء عن النبي (في ذم الشعر: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا) رواه البخاري في باب الأدب، ومسلم في باب الشعر.. فقد حمل على الشعر المشتمل على الفحش، أو على الوعيد على ما إذا غَلَبَ عليه الشعر، وملك نفسه؛ حتى اشتغل به عن القرآن والفقه في الدين ونحوهما؛ ولذلك ذكر الامتلاء.
ويدل لهذا ما ذكره من لفظ (الامتلاء) الذي يعني أن يشغل المالئ بشيء جميع أجزائه؛ حتى لا يكون فيها فضل لغيره.
وأورد مصطفى صادق الرافعي في كتابه (إعجاز القرآن) قولا نسبه للرسول (وهو: لما نشأت.. بُغِّضَتْ إِلَيَّ الأوثان، وبُغِّضَ إِلَيَّ الشعر.. وهو قول لا أصل له، ولا سند بدليل ماورد من سماع النبي (للشعر ومحبته له في مواضع كثيرة، فقد أخرج البخاري في (الأدب المفرد) عن عمر بن الشريد عن أبيه أنه قال: استنشدني رسول الله (من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدته؛ حتى أنشدته مائة قافية.
وقد ذكر الشيخ عبد القاهر الجرجاني ثلاثة وجوه لذم الشعر؛ وهي:
الأول: أن يُذَمَّ الشعر من حيث المضمون. أي: من حيث ما يتضمنه من فُحش ونُبوٍّ عما تقتضيه الأخلاق.
الثاني: أن يُذَمَّ من حيث الوزن والقافية. وهذه ناحية صناعية.
الثالث: أن يُذَمَّ لاعتبارات تتصل بالشاعر.
ونحن في هذا الفصل كما في سائر الرسائل لا نعتبر إلا الأول، باعتبار الثاني يرجع إلى الصناعة، والثاني يرجع إلى شخصية الشاعر، لا إلى ما قاله، والمؤمن يستفيد الحكمة ولا يهمه من أي وعاء خرجت.
قلوب مع محمد (92)
قال: وقد يصدقون، فيمتلئ غيرهم صدقا، وقد استثنى الله تعالى المؤمنين، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء:227)، وقد ورد في الحديث أنه لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، جاء حسان بن ثابت، وعبد الله بن رَوَاحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ثم قال: (أنتم) {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قال: (أنتم)، {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال: (أنتم) (1)
وقد روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله، عز وجل، قد أنزل في الشعّر ما أنزل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل) (2)
قلت: أما إن قلت هذا، فقد كان في الإسلام شعراء كثيرون يمتلئون صدقا، وقد قدموا للإسلام أعظم ما يقدمه مسلم ناصح.
قال: ولذلك تراني قد بدأت بهم في هذا الدفتر.
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، من رواية ابن إسحاق، وقد شكك في صحة هذه الرواية باعتبار السورة مكية، وهؤلاء كانوا في المدينة، ومنهم من تأخر إسلامه، ولكن هذا ومثله لا يحمل على سبب النزول وإنما يحمل على التفسير، فهؤلاء الصحابة الشعراء طبقوا على أنفسهم المعنى السلبي للآيات، فصحح لهم رسول الله (ذلك.
(2) رواه أحمد.
قلوب مع محمد (93)
قلت: قد رأيت ذلك، وتعجبت منه، فكيف التقيت بابن رواحة، أو بحسان.
قال: لقد التقيت بشعرهم، وأعجبت به، ولاحظت فيه من الصدق ما لم ألحظه في جميع أشعار الدنيا، فليس هناك من هو أحق بالمدح من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فلنبدأ بعبد الله بن رواحة، فإني أراه يستهل قائمة الشعراء في دفترك هذا.
قال: أجل.. فلي محبة خاصة لهذا الشاعر المحب الصادق.
قلت: وكيف لا تحبه، وهو من المنتجبين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق.. وأكرمه الله بالشهادة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وفوق ذلك كان أحد شعراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء، وكان يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ... نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيله
فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول هذا الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ النبل) (1)
وقد أنشد ذات يوم من شعره بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْرَ أَعْرِفُهُ... وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَرُ...
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْرَمْ شَفَاعَتُهُ... يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِهِ القَدَرُ...
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ... تَثَبِيتَ مَوسى وَنصْرًا كَالذي نصَروا
__________
(1) رواه أبو يعلي.
قلوب مع محمد (94)
فدعا له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (وإياك فثبَّتَكَ الله) (1)
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
ففي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الروم قد حشدوا جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشًا إلى حدود الشام عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رَواحة)
فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس، فقالوا: نكتب إلى النبي ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي أمر آخر، فقال لهم ابن رواحة: (يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة)
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع، وراح يقاتل في شجاعة ويقول:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّه... طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّه...
فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّة... مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّةْ...
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتي... وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيت...
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيتِ... وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيتِ
__________
(1) رواه ابن سعد.
قلوب مع محمد (95)
ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.
وقد كان فوق هذا مثال المسلم الصادق، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم.
كان الاسم الثاني في دفتر الغريب في هذا الفصل هو اسم الشاعر المشهور (حسان بن ثابت) فطلبت من الغريب أن يحدثني عنه، فقال:
لقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائماً يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
ومن قصائده التي رثى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2):
بطيبة رسم للرسول ومعهد... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد...
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة... بها منبر الهادي الذي كان يصعد...
وواضح آثار وباقي معالم... وربع له فيه مصلى ومسجد...
بها حجرات كان ينزل وسطها... من الله نور يستضاء ويوقد...
معارف لم تطمس على العهدآيها... أتاها البلى فالآي منها تجدد...
عرفت بها رسم الرسول وعهده... وقبرا بها واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت... عيون ومثلاها من الجفن تسعد...
يذكرن آلاء الرسول وما أرى... لها محصيا نفسي فنفسي تبلد...
مفجعة قد شفها فقد أحمد... فظلت لآلاء الرسول تعدد...
وما بلغت من كل أمر عشيره... ولكن لنفسي بعد ما قد توجد...
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها... على طلل القبر الذي فيه أحمد...
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد...
وبورك لحد منك ضمن طيبا... عليه بناء من صفيح منضد...
تهيل عليه الترب أيد وأعين... عليه وقد غارت بذلك أسعد...
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة... عشية علوه الثرى لا يوسد...
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد...
يبكون من تبكي السموات يومه... ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد...
وهل عدلت يوما رزية هالك... رزية يوم مات فيه محمد؟...
تقطع فيه منزل الوحي عنهم... وقد كان ذا نور يغور وينجد...
يدل على الرحمن من يقتدي به... وينقذ من هول الخزايا ويرشد...
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا... معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا...
عفو عن الزلات يقبل عذرهم... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود...
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله... فمن عنده تيسير ما يتشدد...
فبينا هم في نعمة الله بينهم... دليل به نهج الطريقة يقصد...
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا...
عطوف عليهم لا يثنى جناحه... إلى كنف يحنو عليهم ويمهد
فبينا هم في ذلك النور إذ غدا... إلى نورهم سهم من الموت مقصد...
فأصبح محمودا إلى الله راجعا... يبكيه حق المرسلات ويحمد...
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد...
قفارا سوى معمورة اللحد ضافها... فقيد يبكينه بلاط وغرقد...
ومسجده فالموحشات لفقده... خلاء له فيه مقام ومقعد...
وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت... ديار وعرصات وربع ومولد...
فبكي رسول الله يا عين عبرة... ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد...
وما لك لا تبكين ذا النعمة التي... على الناس منها سابغ يتغمد...
فجودي عليه بالدموع وأعولي... لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد...
وما فقد الماضون مثل محمد... ولا مثله حتى القيامة يفقد...
أعف وأوفى ذمة بعد ذمة... وأقرب منه نائلا لا ينكد...
وأبذل منه للطريف وتالد... إذا ضن معطاء بما كان يتلد...
وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى... وأكرم جدا أبطحيا يسود...
وأمنع ذروات وأثبت في العلا... دعائم عز شاهقات تشيد...
وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا... وعودا غذاه المزن فالعود أغيد...
رباه وليدا فاستتم تمامه... على أكرم الخيرات رب ممجد...
تناهت وصاة المسلمين بكفه... فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند...
أقول ولا يلقى لقولي عائب... من الناس إلا عازب العقل مبعد...
وليس هواي نازعا عن ثنائه... لعلي به في جنة الخلد أخلد...
مع المصطفى أرجو بذاك جواره... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) هذه القصيدة والقصائد التالية من روابة ابن إسحق في سيرة ابن هشام.
قلوب مع محمد (96)
ومن مرثياته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ما بال عينك لا تنام كأنما... كحلت مآقيها بكحل الأرمد...
جزعا على المهدي أصبح ثاويا... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد...
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني... غيبت قبلك في بقيع الغرقد...
بأبي وأمي من شهدت وفاته... في يوم الاثنين النبي المهتدي...
فظللت بعد وفاته متبلدا... متلددا يا ليتني لم أولد...
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم... يا ليتني صبحت سم الأسود...
أو حل أمر الله فينا عاجلا... في روحة من يومنا أو من غد...
يا بكر آمنة المبارك بكرها... ولدته محصنة بسعد الأسعد...
نورا أضاء على البرية كلها... من يهد للنور المبارك يهتدي...
يا رب فاجمعنا معا ونبينا... في جنة تثنى عيون الحسد...
في جنة الفردوس فاكتبها لنا... يا ذا الجلال وذا العلا والسودد...
والله أسمع ما بقيت بهالك... إلا بكيت على النبي محمد...
يا ويح أنصار النبي ورهطه... بعد المغيب في سواء الملحد...
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا... سودا وجوههم كلون الإثمد...
ولقد ولدناه وفينا قبره... وفضول نعمته بنا لم نجحد...
والله أكرمنا به وهدى به... أنصاره في كل ساعة مشهد...
صلى الإله ومن يحف بعرشه... والطيبون على المبارك أحمد
ومن مرثياته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
نب المساكين أن الخير فارقهم... مع النبي تولى عنهم سحرا
من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي... ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا...
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه... إذا اللسان عتا في القول أو عثرا...
كان الضياء وكان النور نتبعه... بعد الإله وكان السمع والبصرا...
فليتنا يوم واروه بملحده... وغيبوه وألقوا فوقه المدرا...
لم يترك الله منا بعده أحدا... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا...
ذلت رقاب بني النجار كلهم... وكان أمرا من امر الله قد قدرا...
واقتسم الفيء دون الناس كلهم... وبددوه جهارا بينهم هدرا
ومن مرثياته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
آليت ما في جميع الناس مجتهدا... مني ألية بر غير إفناد...
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت... مثل الرسول نبي الأمة الهادي...
ولا برا الله خلقا من بريته... أوفى بذمة جار أو بميعاد...
من الذي كان فينا يستضاء به... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد...
أمسى نساؤك عطلن البيوت فما... يضربن فوق قفا ستر بأوتاد...
مثل الرواهب يلبسن المباذل قد... أيقن بالبؤس بعد النعمة البادي...
يا أفضل الناس إني كنت في نهر... أصبحت منه كمثل المفرد الصادي
ومن شعره القصصي الذي أرخ به لبعض أحداث السيرة النبوية قوله مؤرخا لما حصل في غدير خم (1):
يناديهم يوم الغدير نبيهم... بخم وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟... فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا:
إلهك مولانا وأنت نبينا... ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي؟ فإنني... رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه... فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه... وكن للذي عادا عليا معاديا
من أسماء الشعراء التي رأيتها في دفتر الغريب اسم (كعب بن زهير)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا كعب بن زهير، كان شاعرا فحلاً مجيداً، وهو صاحب البردة المعروفة، والتي يقول فيها:
بانَتْ سُعَادُ فقَلْبي اليومَ مَتْبُولُ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لم يُجَزَ مَكْبُولُ...
وما سُعادَ غَداةَ البَيْن إِذ عَرَضَتْ... إلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكْحُولُ...
وما تَدُومُ على العَهْدِ الذِي زَعَمَتْ... كما تَلَوَّنُ في أَثْوَابِها الغُولُ...
ولا تَمَسَّكُ بالوُدِّ الذي زَعَمَتْ... إِلاَّ كما تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ...
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لها مَثَلاً... وما مَوَاعِيدُه إِلاَّ الأَباطيلُ...
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعدَني... والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَبْذُولُ...
مَهْلاً هَدَاكَ الذي أَعْطَاكَ نافلَةَ الْ... قُرْآنَ فيها مَوَاعِيظٌ وتَفْصِيلُ...
لا تأْخُذَنِّي بأَقْوَالِ الوُشاةِ ولم... أُذْنِبْ ولَوْ كَثُرَتٍ فِيَّ الأَقاويلُ
فلما بلغ قوله:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ به... وصارمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
في عُصْبَة مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا...
زَالُوا فما زالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُفُ... يَوْمَ الِلَّقَاءِ ولا سُودٌ مَعَازِيلُ
نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى من عنده من قريشٍ، كأنه يومي إليهم أن يسمعوا، حتى قال:
يَمْشُونَ مَشْىَ الجمال البُهْمِ يَعْصِمُهُمْ... ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
يعرض بالأنصار، لغلظتهم عليه، فأنكرت قريشٌ عليه وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم، فقال:
مَنْ سَرَّهُ شَرَفُ الحَيَاةِ فلا يَزَلْ... في مِقْنَب من صالِحِي الأَنْصَار...
اَلباذِلينَ نُفُوسَهم لِنَبِيِهِّمْ... يَوْمَ الهيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّار...
يَتَطَهَّرُونَ كأَنَّهُ نُسُكٌ لهم... بدِماءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
فكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردةً..
قلت: لقد ذكرتني بالبردة..
قال: بردة البوصيري!؟
قلت: أجل.. فالصبيان عندنا لا يزالون يحفظونها ويرددونها.
قال: بوركت تلك البردة، وبورك قائلها.. لقد فتحت في سماء الشعر المحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتوحا عظيمة.
قلت: ما تقصد؟
قال: لقد سن البوصيري في الشعر سنة حميدة لا زلنا نحيا آثارها إلى اليوم، فقد وجه الشعر الذي تاه فيه الكثير في أودية الأماني نحو قبلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: صدقت.. فلا زال للبردة ومن نهج نهجها آثار طيبة إلى اليوم.
__________
(1) من رواته الحافظ أبو نعيم الاصبهاني المتوفى 430 أخرجه في كتابه - ما نزل من القرآن في علي ج 1 ص 232 وفيه: فقال حسان: إئذن لي يا رسول الله؟ أن أقول في علي أبياتا تسمعهن. فقال: قل على بركة الله. فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش؟ أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية.. وقد كتب العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني في ذلك كتابا بعنوان: حسّان بن ثابت وشعره في الغدير.
قلوب مع محمد (97)
قال: فلذلك تراني وضعت البوصيري في قمة المادحين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: لقد كان شاعرا فحلا.
قال: لم يكن شاعرا فقط، بل كان أمير شعراء المديح النبوي بلا منازع.. فقد وقف شعره على مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1)، وكان من ثمار مدائحه النبوية (بائياته الثلاث)، التي بدأ إحداها بلمحات تفيض عذوبة ورقة استهلها بقوله:
وافاكَ بالذنب العظيم المذنبُ... خجلا يُعنفُ نفسَه ويُؤنِّبُ
ويستهل الثانية بقوله:
بمدح المصطفى تحيا القلوبُ... وتُغتفرُ الخطايا والذنوبُ
أما الثالثة، وهي أجودها جميعًا، فيبدؤها بقوله:
أزمعوا البين وشدوا الركابا... فاطلب الصبر وخلِّ العتابا
وله عدد آخر من المدائح النبوية الجيدة، من أروعها قصيدته (الحائية)، التي يقول فيها مناجيا الله عز وجل:
يا من خزائن ملكه مملوءة... كرمًا وبابُ عطائه مفتوح...
ندعوك عن فقر إليك وحاجة... ومجال فضلك للعباد فسيح...
فاصفحْ عن العبد المسيء تكرُّمًا... إن الكريم عن المسيء صفوح
وقصيدته الدالية التي يبدؤها بقوله:
إلهي على كل الأمور لك الحمد... فليس لما أوليتَ من نعمٍ حدُّ
لك الأمر من قبل الزمان وبعده... وما لك قبل كالزمان ولا بعدُ...
وحكمُك ماضٍ في الخلائق نافذ... إذا شئتَ أمرًا ليس من كونه بُدُّ
وله قصيدة أخرى على وزن (بانت سعاد)، ومطلعها:
إلى متى أنت باللذات مشغولُ... وأنت عن كل ما قدمتَ مسئولُ؟!
قلت: ولكن تظل قصيدته التي يقول فيها:
أَمِنْ تذكّر جيرانٍ بذي سلم... مزجتَ دمعًا جرى من مقلة بدمْ؟...
أم هبت الريحُ من تلقاء كاظمةٍ... وأومضَ البرقُ في الظلماء من إِضَمْ؟...
فما لعينيك إن قلت اكففا همتا؟... وما لقلبك إن قلت استفق يهمْ؟
والتي سماها (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والمعروفة باسم (البردة) تظل من عيون شعره، بل من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية.
وقد زاد في جمالها أنها قصيدة طويلة تقع في 160 بيتًا، كل بيت منها يمتلئ محبة وشوقا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدل على الصدق العظيم الذي كانت تمتلئ به نفس صاحبها.
قال: ومن دلائل هذا الصدق أنه لم تلق قصيدة في الدنيا ذلك الاهتمام الذي لقيته البردة حيث ولدت شعرا كثيرا في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال مادة هامة للفن الإسلامي الرفيع.. فقد شطرت وخمست وسدست وسبعت:
فممن شطرها الإمام أحمد بن شرقاوى، كما في قوله:
(أكرم بخلق نبى زانه خلق)... مولاه عظمه في أفصح الكلم...
و خصنا بنبى طاب محتده... (بالحسن مشتمل بالبشر متسم)
وممن خمسها الإمام شمس الدين الفيومى، كما في قوله:
كأنه البدر باد وسط هالته... كأنه الغيث يرجى حسن حالته
كأنه الليث يخشى من بسالته... (كأنهوهو فرد من جلالته)
(في عسكر حين تلقاه وفى حشم)
وممن سدسها الأستاذ عباس الديب، كما في قوله:
يا رب بالمصطفى عشنا نصائحه... كيما يطهرذو شوق جوارحه...
مذ جئت للساح صبا كى أصالحه... أصبحت في الحبوالأحباب صادحه...
(ومنذ ألزمت أفكارى مدائحه... وجدته لخلاصى خير ملتزم)
وممن سبعها الإمام القاضى البيضاوى صاحب التفسير، كما في قوله:
الله منه إلينا الخير مستبق... على لسان نبى وجهه طلق...
فالشمس من نوره والبدر والفلق... والمسك من ريحه فى الأفق يعتبق...
والجود من كفه فى الخلق مندفق... (أكرم بخلق نبى زانه خلق)...
(بالحسن مشتمل بالبشر متسم)
قلت: أفلا نتبرك بروايتها والاستماع إليها؟
قال: لا ينبغي أن نقصر في ذلك.. وقد وفقني الله فحفظتها عن ظهر قلب.
قلت: لقد بدأها بذكر حبه..
قال: أجل.. فقد قال في بدايتها:
أمِنْ تَذَكِّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ... مَزَجْتَ دَمعا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ...
أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقاءِ كاظِمَةٍ... وأومَضَ البرقُ في الظَّلماءِ مِن اِضَمِ...
فما لِعَينيك اِن قُلتَ اكْفُفَا هَمَتَا... وما لقلبِكَ اِن قلتَ استَفِقْ يَهِمِ...
أيحَسب الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِمٌ... ما بينَ منسَجِمٍ منه ومُضْطَرِمِ...
لولا الهوى لم تُرِقْ دمعا على طَلِلِ... ولا أَرِقْتَ لِذِكْرِ البانِ والعَلَمِ
فكيفَ تُنْكِرُ حبا بعدما شَهِدَت... به عليك عُدولُ الدمعِ والسَّقَمِ...
وأثبَتَ الوَجْدُ خَطَّي عَبْرَةٍ وضَنَى... مثلَ البَهَارِ على خَدَّيك والعَنَمِ...
نَعَم سرى طيفُ مَن أهوى فأَرَّقَنِي... والحُبُّ يعتَرِضُ اللذاتِ بالأَلَمِ...
يا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعذرَةً... مِنِّي اليك ولَو أنْصَفْتَ لَم تَلُمِ...
عَدَتْكَ حالي لا سِرِّي بمُسْتَتِرٍ... عن الوُشاةِ ولا دائي بمُنحَسِمِ...
مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَستُ أسمَعُهُ... اِنَّ المُحِبَّ عَنِ العُذَّالِ في صَمَمِ
قلت: لطالما سمعت هذه الأبيات وتعجبت منها.
قال: تتعجب من حديثه عن الحب في بداية قصيدة يريد منها مدح نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: أجل.. وقد فعل مثل ذلك كعب بن زهير.. وقد قرأت تبريرات لذلك لم أستسغها.
قال: أما أنا.. فقد فتح الله علي من الفهم في ذلك ما عرفت به سر ذلك.
قلت: فبشرني به.
قال: لقد رأيت ـ من خلال صحبتي الطويلة للمسلمين ـ أنهم صنفان:
أما أولهما.. فيمتلئون رقة وعذوبة.. وتمتلئ قلوبهم من المشاعر والمواجيد ما لا طاقة لهم بحبسه.
وأما ثانيهما.. فقد يمتلئون عقلا وحكمة.. ولكن عيونهم جامدة، وقلوبهم لا يكاد يحركها شيء.
قلت: لا أرى هذا خاصا بالمسلمين وحدهم.. فجميع البشر يدخلون ضمن هذين الصنفين.
قال: ولذلك ترى هؤلاء الشعراء يبدأون بذكر المحبة ليغلقوا الأبواب أمام الجامدين، وكأنهم يقولون لهم: هذه الكلمات لا يمكنكم أن تفهموها.. لأنكم لم تذوقوا ما ذقنا..
__________
(1) ترك البوصيري عددًا كبيرًا من القصائد والأشعار ضمّها ديوانه الشعري الذي حققه محمد سيد كيلاني، وطُبع بالقاهرة سنة (1374 هـ= 1955 م)، وقصيدته الشهيرة البردة (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والقصيدة (المضرية في مدح خير البرية)، والقصيدة (الخمرية)، وقصيدة (ذخر المعاد)، ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان: (المخرج والمردود على النصارى واليهود)، وقد نشرها الشيخ أحمد فهمي محمد بالقاهرة سنة (1372 هـ= 1953 م)، وله أيضا (تهذيب الألفاظ العامية)، وقد طبع كذلك بالقاهرة.. وقد تُوفِّي البوصيري بالإسكندرية سنة (695 هـ= 1295 م) عن عمر بلغ 87 عامًا.
قلوب مع محمد (98)
فدعونا وشأننا.
ابتسمت، وقلت: لقد تنبأ البوصيري بما لاقت بردته من الإنكار إذن؟
قال: ألا تعلم أن الشاعر لم يسم شاعرا إلا بعد أن نال من الحس المرهف ما جعله يرى ما لا يرى غيره؟
قلت: صدقت في هذا.. ولكني لم أزل حائرا في هذا المحبوب الذي بدأ البوصيري يتغنى به.
قال: وهل هناك إلا محمد.. البوصيري لا يتحدث إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
قلت: البعض اعتبرها غزلا لا يختلف عن غزل المجنون.
قال: ولكن البوصيري عاقل وليس مجنونا.. وما كان للعاقل أن يقع في شباك الحب المدنس.
قلت: إن هؤلاء يدافعون على أنها من الغزل المرتبط بالنساء..
قال: فلفهموا ما يشاءون.. ولكن أخبرني أيهما أقوم قيلا: من سمع هذه الأبيات فحركت قلبه شوقا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. أو من سمع لهذه الأبيات، فراح يتصور الشاعر يناجي معشوقته ويشكو آلامه لها.
قلت: لاشك أن الفريق الأول أعقل بكثير من الفريق الثاني.
قال: فلا ترغب عن العقلاء إلى غيرهم.
قلت: بعد ذكر البوصيري لمواجيده راح يتحدث عن النفس..
قاطعني الغريب، وقال: لأن النفس هي الحجاب الأعظم بين الأنا ومحمد.. اسمع ما يقول في هذا:
اِنِّي اتَّهَمْتُ نصيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَلِي... والشَّيْبُ أبعَدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ...
فانَّ أمَّارَتِي بالسوءِ ما اتَّعَظَت... مِن جهلِهَا بنذير الشَّيْبِ والهَرَمِ
ولا أعَدَّتْ مِنَ الفِعلِ الجميلِ قِرَى... ضَيفٍ أَلَمَّ برأسي غيرَ مُحتشِمِ...
لو كنتُ أعلمُ أنِّي ما أُوَقِّرُهُ... كتمتُ سِرَّا بَدَا لي منه بالكَتَمِ...
مَن لي بِرَدِّ جِمَاح مِن غَوَايتِهَا... كما يُرَدُّ جِمَاَحُ الخيلِ بالُّلُجُمِ...
فلا تَرُمْ بالمعاصي كَسْرَ شهوَتهَا... اِنَّ الطعامَ يُقوِّي شهوةَ النَّهِمِ...
والنَّفسُ كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى... حُبِّ الرّضَاع وَإِِِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِمِ...
فاصْرِف هواها وحاذِر أَن تُوَلِّيَهُ... اِنَّ الهوى ما تَوَلَّى يُصْمِ أو يَصِمِ...
وراعِهَا وهْيَ في الأعمال سائِمَةٌ... واِنْ هِيَ استَحْلَتِ المَرعى فلا تُسِمِ...
كَم حسَّنَتْ لَذَّةً للمرءِ قاتِلَةً... مِن حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ...
واخْشَ الدَّسَائِسَ مِن جوعٍ ومِن شِبَعٍ... فَرُبَّ مخمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ...
واستَفرِغِ الدمعَ مِن عينٍ قَدِ امْتَلأتْ... مِن المَحَارِمِ والْزَمْ حِميَةَ َالنَّدَمِ...
وخالِفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِمَا... واِنْ هما مَحَّضَاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ...
ولا تُطِعْ منهما خصمَا ولا حكَمَا... فأنت تعرفُ كيدَ الخَصمِ والحَكَمِ
قلت: إن هذه الابيات تمتلئ توجيهات تربوية راقية؟
قال: أجل.. فالنفس التي تحب محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن يكون لها من الطهارة ما تنال به شرف هذه الصحبة.
قلت: لست أدري لم عقب الشاعر ذكره لمحبوبه بذكر النفس..
قال: لأن الحب هو أعظم الدوافع السلوكية.
قلت: لم أفهم..
قال: من امتلأ قلبه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيمتلئ قلبه بحب الطهارة.. فإذا أحب الطهار اندفع للسلوك إليها.
قلوب مع محمد (99)
قلت: الحب يفعل هذا.
قال: يفعل أكثر من هذا.. فالمحب لا يكل عن طاعة محبوبه.
قلت: بعد ذلك دخل الشاعر حضرة الحبيب..
قال: أجل.. بعد أن طهر أرض القلب بالحب.. وطهر أرض النفس بالدموع دخل على الحبيب..
قلت: لم كل هذا؟
قال: لأنه لا يمكن أن تدخل حضرة الحبيب.. وفي قلبك الأهواء المدنسة، وفي نفسك المستنقعات والمزابل.
قلت: وعيت هذا.. ووعيت من خلال الواقع خطره.
قال: وما خطره؟
قلت: رأيت أقواما من الناس.. عقولهم جامدة.. وقلوبهم خامدة.. ونفوسهم تمتلئ بالأوباء.. ثم يدخلون إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يرون منها إلا ما يشوه جمال من استنوا بسنته.
قال: فأرشد هؤلاء إلى البوصيري وأحفاد البوصيري.
قلت: كيف أرشدهم إليه.. وهم يحملون سيوفهم عليه.
قال: فأنبئهم أن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبدأ من الداخل.. فمن لم يزين باطنه بسنة الرحمة واللطف والمودة لم يظهر على ظاهره إلا الخراب.
قلت: صدقت.. وقد بلينا بالخراب الذي تتحدث عنه.. عد بنا إلى البردة.. وعد بنا إلى أجمل أبياتها.
قال: أجمل أبياتها هي الأبيات التي مدح فيها الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال في ذلك:
ظَلمتُ سُنَّةَ مَن أحيا الظلامَ الى... أنِ اشتَكَتْ قدمَاهُ الضُّرَّ مِن وَرَمِ
وشَدَّ مِن سَغَبٍ أحشاءَهُ وطَوَى... تحتَ الحجارةِ كَشْحَاَ ًمُتْرَفَ الأَدَمِ...
وراوَدَتْهُ الجبالُ الشُّمُّ مِن ذَهَبٍ... عن نفسِه فأراها أيَّمَا شَمَمِ...
وأكَّدَت زُهدَهُ فيها ضرورَتُهُ... اِنَّ الضرورةَ لا تعدُو على العِصَمِ...
محمدٌّ سيدُ الكونينِ والثقَلَيْنِ... والفريقين مِن عُربٍ ومِن عَجَمِ...
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فلا أَحَدٌ... أبَرُّ في قَولِ لا منه ولا نَعَمِ...
هُو الحبيبُ الذي تُرجَى شفاعَتُهُ... لكُلِّ هَوْلٍ مِن الأهوالِ مُقتَحَمِ...
دَعَا الى اللهِ فالمُستَمسِكُون بِهِ... مُستَمسِكُونَ بِحبلٍ غيرِ مُنفَصِمِ...
فاقَ النَّبيينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ... ولم يُدَانُوهُ في عِلمٍ ولا كَرَمِ...
وكُلُّهُم مِن رسولِ اللهِ مُلتَمِسٌ... غَرْفَا مِنَ البحرِ أو رَشفَاً مِنَ الدِّيَمِ...
وواقِفُونَ لَدَيهِ عندَ حَدِّهِمِ... مِن نُقطَةِ العلمِ أو مِن شَكْلَةِ الحِكَمِ...
فَهْوَ الذي تَمَّ معناهُ وصورَتُهُ... ثم اصطفاهُ حبيباً بارِيءُ النَّسَم...
مُنَزَّهٌ عن شريكٍ في محاسِنِهِ... فجوهر الحُسنِ فيه غيرُ منقَسِمِ...
دَع ما ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِمِ... واحكُم بما شئتَ مَدحَاً فيه واحتَكِمِ...
وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شئتَ من شرف... وانسُب الى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَم...
فَاِنَّ فَضلَ رسولِ اللهِ ليس له... حَدٌّ فَيُعرِبَ عنهُ ناطِقٌ بِفَمِ...
لو ناسَبَتْ قَدْرَهُ آياتُهُ عِظَمَاً... أحيا اسمُهُ حين يُدعَى دارِسَ الرِّمَمِ...
لم يمتَحِنَّا بما تَعيَا العقولُ به... حِرصَاً علينا فلم نرتَبْ ولم نَهِمِ...
أعيا الورى فَهْمُ معناهُ فليسَ يُرَى... في القُرْبِ والبُعدِ فيه غيرُ مُنفَحِمِ...
كالشمسِ تظهَرُ للعينَيْنِ مِن بُعُدٍ... صغيرةً وتُكِلُّ الطَّرْفَ مِن أَمَمِ...
وكيفَ يُدرِكُ في الدنيا حقيقَتَهُ... قَوْمٌ نِيَامٌ تَسَلَّوا عنه بالحُلُمِ
فمَبْلَغُ العِلمِ فيه أنه بَشَرٌ... وأَنَّهُ خيرُ خلْقِ الله كُلِّهِمِ...
وكُلُّ آيٍ أتَى الرُّسْلُ الكِرَامُ بِهَا... فانما اتصَلَتْ مِن نورِهِ بِهِمِ...
فاِنَّهُ شمسُ فَضْلٍ هُم كواكِبُهَا... يُظهِرْنَ أنوارَهَا للناسِ في الظُّلَمِ...
أكرِمْ بخَلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ... بالحُسنِ مشتَمِلٌ بالبِشْرِ مُتَّسِمِ...
كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبدرِ في شَرَفٍ... والبحرِ في كَرَمٍ والدهرِ في هِمَمِ...
كأنَّهُ وهْوَ فَرْدٌ مِن جلالَتِهِ... في عسكَرٍ حينَ تلقاهُ وفي حَشَمِ...
كأنَّمَا اللؤلُؤُ المَكنُونُ في صَدَفٍ... مِن مَعْدِنَيْ مَنْطِقٍ منه ومبتَسَمِ...
لا طيبَ يَعدِلُ تُرْبَا ضَمَّ أعظُمَهُ... طوبى لمُنتَشِقٍ منه وملتَثِمِ
قلت: إن هذه الأبيات تختزن محبة عظيمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -..
قال: لقد رأى صاحبها الناس يتهافتون على حفظ المتون التي تملؤهم فقها ونحوا وبلاغة.. فوضع لهم متنا يملؤهم محبة وتقديرا وأشواقا.
قلت: ولكن هناك من يجادل في كثير مما ذكرت.. فيعتبر هذا الثناء العطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شركا..
قال: أين الشرك؟
قلت: إن البوصيري يقول ـ مثلا ـ:
وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شئتَ من شرف... وانسُب الى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَم...
فَاِنَّ فَضلَ رسولِ اللهِ ليس له... حَدٌّ فَيُعرِبَ عنهُ ناطِقٌ بِفَمِ...
لو ناسَبَتْ قَدْرَهُ آياتُهُ عِظَمَاً... أحيا اسمُهُ حين يُدعَى دارِسَ الرِّمَمِ
قال: هذه أبيات رقيقة، تمتلئ تقديرا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: لقد ذكروا أن الله تعالى هو المحيي المميت.. واعتبار اسم محمد محييا ـ ولو من
قلوب مع محمد (100)
باب الافتراض ـ شرك.
قال: ألم يقرأ هؤلاء ما قاله تعالى في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فقد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (لأنفال:24)
قلت: لكأني أسمع هذه الآية أول مرة.. لقد اعتبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محييا.. كيف غربت عنهم هذه الآية.
قال: لأنهم مهووسون بالشرك.. هم يتصورون الله كما يتصور ملوكهم رعيتهم.. فالملك يقبح صورة كل من مدحه الناس، أو توجهت له القلوب، خشية على كرسيه أن يسلب منه.
قلت: صدقت.. بل إنهم يرسمون لله صورة لا تختلف عن صورة الملوك والأمراء.
قال: لا تذكر لي أحاديث هؤلاء.. ودعنا في حضرة محمد - صلى الله عليه وسلم -.. فلا ينبغي لمن أنعم الله عليه بالدخول إلى حضرته أن يزيغ بصره أو أن يطغى.
قلت: فأكمل لي ذكر ما بقي من أبيات البردة.
قال: في باقي أبيات البردة جلس الشاعر أمام الحبيب، وراح يشكو إليه همومه وآلامه.. وحينها راحت تتنازعه حاجات شتى عبر عنها بقوله:
خَدَمْتُهُ بمديحٍ أستَقِيلِ بِهِ... ذُنوبَ عُمْر مَضَى في الشِّعرِ والخِدَمِ...
اِذ قَلَّدَانِيَ ما تُخشَى عواقِبُهُ... كأنني بِهِمَا هَدْيٌ مِنَ النَّعَمِ...
أَطَعتُ غَيَّ الصِّبَا في الحالَتَيْنِ وما... حَصَلتُ الا على الآثامِ والنَّدَمِ...
فيا خَسَارَةَ نَفْسٍ في تِجَارَتِهَا... لَم تَشتَرِ الدِّينَ بالدنيا ولم تَسُمِ...
ومَن يَبِعْ آجِلا منه بعاجِلِهِ... بِينَ له الغَبْنُ في بَيْعٍ وفي سَلَمِ...
اِنْ آتِ ذَنْبَاً فما عَهدِي بمُنتَقِضٍ... مِنَ النَّبِيِّ ولا حَبلِي بمُنصَرِمِ...
فاِنَّ لي ذِمَّةً منه بتَسمِيَتِي... مُحمَّدَاً وهُوَ أوفَى الخلقِ بالذِّمَمِ
اِنْ لم يكُن في مَعَادِي آخِذَاً بِيَدِي... فَضْلا والا فَقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ...
حاشاهُ أنْ يَحْرِمَ الرَّاجِي مَكَارِمَهُ... أو يَرجِعَ الجارُ منه غيرَ مُحتَرَمِ...
ومُنذُ أَلزَمْتُ أفكَارِي مَدَائِحَهُ... وجَدْتُهُ لخَلاصِي خيرَ مُلتَزِمِ...
ولَن يَفُوتَ الغِنَى منه يَدَاً تَرِبَتْ... اِنَّ الحَيَا يُنْبِتُ الأزهارَ في الأَكَمِ...
ولَم أُرِدْ زَهرَةَ الدنيا التي اقتَطَفَتْ... يَدَا زُهَيْرٍ بما أثنَى على هَرِمِ...
يا أكرَمَ الخلقِ ما لي مَن ألوذُ به... سِوَاكَ عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ...
ولَن يَضِيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي... اذا الكريمُ تَجَلَّى باسمِ مُنتَقِمِ
قلت: هذه أبيات تنم عن حب عظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقدير عظيم له.
قال: ذلك لا يستغرب من الصالحين.. فلن يصير الصالح صالحا حتى يملأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شغاف قلبه.
قلت: ولكن المجادلين يجادلون في أبيات كثيرة مما ذكرت.. فهم ـ مثلا ـ يجادلون في قوله:
اِنْ لم يكُن في مَعَادِي آخِذَاً بِيَدِي... فَضْلا والا فَقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ
ابتسم، وقال: ويعتبرون ذلك شركا!؟
قلت: أجل.. أليس ذلك شركا؟
قال: ما يقول هؤلاء في منكر الشفاعة؟
قلت: هم يبدعونه.. بل قد يكفرونه.
قال: ففي الشفاعة لا يأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد الشاعر فقط.. بل يأخذ بيد البشر جميعا (1)، فيسأل الله تعالى في الموقف الذي يقف فيه الكل.. وهو يأخذ بعد ذلك بيد كل
__________
(1) هذا في الشفاعة العظمى.
قلوب مع محمد (101)
محب لينال من بركات محبته ما لم يكن يحلم به (1).
سكت الغريب قليلا، فقلت: لقد تحدثنا عن صاحب البردة الشريفة.. فلنتحدث عمن نهج نهجها.
قال: كثيرون هم..
قلت: سمعت أن من بينهم ابن جابر الأندلسي المتوفى سنة 780 هـ.
قال: أجل.. فله قصيدة رائعة يقول فيها:
بِطَيبَةَ انزِل وَيَمِّم سَيِّدَ الأُمَمِ... وَانشُر لَهُ المَدحَ وَاِنثُر أَطيَبَ الكَلِمِ...
وَابذُل دُموعَكَ واعذُل كُلَّ مُصطَبِرٍ... وَالحَق بِمَن سارَ وَالحَظ ما عَلى العَلَمِ...
سَنا نَبيٍّ أَبى أَن يُضَيِّعَنا... سَليلِ مَجدٍ سَليمِ العِرضِ مُحتَرَمِ...
جَميلِ خَلقٍ عَلى حَقٍّ جَزيلِ نَدىً... هَدى وَفاضَ نَدى كَفَّيهِ كالدِّيَمِ...
كَفَّ العُداةَ وَكَدَّ الحادِثاتِ كَفى... فَكَم جَرى مِن جَدا كَفَّيهِ مِن نِعَمِ...
وَكَم حَبا وَعَلى المُستَضعَفينَ حَنا... وَكَم صَفا وَضَفا جوداً لِجَبرِهِمِ...
ما فاهَ في فَضحِهِ مَن فاءَ لَيسَ سِوى... عَذلٍ بِعَدلٍ وَنُصحٍ غَيرِ مُتَّهَمِ...
حانٍ عَلى كُلِّ جانٍ حابٍ إن قَصَدوا... حامٍ شَفى مِن شَقا جَهلٍ وَمِن عَدَمِ...
لَيثُ الشَّرى إِذ سَرى مَولاهُ صارَ لَهُ... جاراً فَجازَ وَنَيلاً مِنهُ لَم يَرُمِ...
كافي الأَرامِلِ وَالأَيتامِ كافِلُهُم... وافي النَدى لِمُوافي ذَلِكَ الحَرَمِ...
أَجارَ مِن كُلِّ مَن قَد جارَ حِينَ أَتى... حَتّى أَتاحَ لَنا عِزّاً فَلَم نُضَمِ
وفيها يقول:
فَلُذ بِبَرٍّ رَحيمٍ بالبَريَّةِ إِن... عَقَّتكَ شِدَّةُ دَهرٍ عاقَ واِعتَصِمِ...
يُروى حَديثُ النَّدى وَالبِشر عَن يَدِهِ... وَوَجهُهُ بَينَ مُنهَلٍّ وَمُبتَسِمِ...
تَبكي ظُباهُ دَماً وَالسَّيفُ مُبتَسِمٌ... يَخُطُّ كالنونِ بَينَ اللامِ وَاللِّمَمِ...
دَمعٌ بِلا مُقَلٍ ضِحكٌ بِغَيرِ فَمٍ... كَتبٌ بِغَيرِ يَدٍ خَطٌّ بِلا قَلَمِ...
جاوِرهُ يَمنَع وَلُذ يَشفَع وَسَلهُ يَهَب... وَعُد يَعُد واِستَزِد يَفعَل وَدُم يَدُمِ...
لَم يَخشَ قِرناً وَيَخشى القِرنُ صَولَتَهُ... فَهوَ المَنيعُ المُبيحُ الأُسدَ لِلرَّخَمِ...
وَالشَّمسُ رُدَّت وَبَدرُ الأُفقِ شُقَّ لَهُ... والنَّجمُ أَينَعَ مِنهُ كُلُّ مُنحَطِمِ...
سَقاهُمُ الغَيثُ ماءً إِذ سَقى ذَهَباً... فَغَيرُ كَفَّيهِ إِن أَمحَلتَ لا تَشِمِ...
قَد أَفصَحَ الضَّبُّ تَصديقاً لِبعثَتِهِ... إِفصاحَ قُسٍّ وَسَمعُ القَومِ لَم يَهِمِ...
الهاشِمُ الأُسدَ هَشمَ الزّادِ تَبذُلُهُ... بَنانُ هاشِمٍ الوَهّاب لِلطُّعمِ...
كَأَنَّما الشَّمسُ تَحتَ الغَيمِ غُرَّتُهُ... في النَّقعِ حَيثُ وجوهُ الأُسدِ كالحُمَمِ...
إِذا تَبَسَّمَ في حَربٍ وَصاحَ بِهِم... يُبكي الأُسودَ وَيَرمي اللُّسنَ بِالبَكَمِ
قلت: وسمعت أن من بين هؤلاء رجل يقال (صفي الدين الحلي)
قال: أجل.. هذا الرجل من أكبر الشعراء المهتمين بالبديع.. حتى أنه لقب بأبي البديع، حيث كان علم البديع مهجورا قبله..
قلت: لا يستغرب حب بديع اللغة ممن أحب بديع البشر.
قال: وميزة هذا الشاعر أنه جمع في هذه القصيدة بين علم البديع ومدح الحبيب.
قلت: تقصد أن القصيدة متن في البديع؟
__________
(1) ذكرنا أسرار الشفاعة، وعلاقتها بالتوحيد والعدالة والحكمة في رسالة (أسرار الأقدار) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (102)
قال: أجل.. وهي من أشهر المتون العلمية، حيث جمعت بين مديح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبين ذكر جميع شواهد علم البلاغة، وهي (الكافية البديعية)
قلت: لقد شوقتني إليها.. فاروها لي.
قال: هي أطول من أن أرويها لك هنا، ولكني سأكتفي منها ببعض ما قاله فيها مما يمدح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
محمد المصطفى الهادي النبي أجل... المرسلين بن عبدالله ذي الكرم...
الطاهر الشيم بن الطاهر الشيم بن... الطاهر الشيم بن الطاهر الشيم...
خير النبيين والبرهان متضح... في الحجر نقلا وعقلا واضح اللقم...
كم بين من أقسم الله العلي به... وبين من جاء بسم الله في القسم...
أمي خط أبان الله معجزه... بطاعة الماضيين السيف والقلم...
مؤيد العزم والأبطال في قلق... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم...
نفس مؤيدة بالحق تعضدها... عناية صدرت عن بارئ النسم...
أبدى العجائب فالأعمى بنفثته... غدا بصيرا وفي الحرب البصير عمي...
له السلام من الله السلام وفي... دار السلام تراه شافع الأمم...
كم قد جلت جنح نقع الليل طلعته... والشهب أحلك ألونا من الدهم...
في معرك لا تثير الخيل عثيره... مما تروي المواضي تربه بدمي...
عزيز جار لو الليل استجار به... من الصباح لعاش الناس في الظلم...
سهل الخلائق سمح الكف باسطها... منزه لفظه عن لا ولن ولم...
أغر لا يمنع الراجين ما طلبوا... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم...
شخص هو العالم الكلي في شرف... ونفسه الجوهر القدسي في عظم
ومن له حاور الجزع اليبيس ومن... بكفه أورقت عجراء من سلم...
والعاقب الحبر في نجران لاح له... يوم اجتباه لعقبى زلة القدم...
والذئب سلم والجني أسلم والث... عبان كلم والأموات في الرجم...
ومن أتى ساجدا لله ساعته... ولم يكن ساجدا في العمر للصنم...
ومن غدا اسم أمه نعتا لأمته... فتلك آمنة من سائر النقم...
من مثله وذراع الشاة حدثه... عن سمه بلسان صادق الرنم...
هل من ينم بحب من ينم له... بما رموه كمن لم يدري كيف رمي...
هو النبي الذي آياته ظهرت... من قبل مظهره للناس في القدم...
محمد المصطفى المختار من ختمت... بمجده مرسلوا الرحمن للأمم...
فذكره قد أتى في هل أتى وسبا... وفضله ظاهر في نون والقلم...
إذا رآه الأعادي قال حازمهم... حتام نحن نسار النجم في الظلم
سكت الغريب، فقلت: عد بنا إلى عصرنا.. فقد سمعت أن شعراء كثيرين عارضوا البردة.
قال: أجل.. فحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو منه عصر من العصور.. ولا مكان من الأماكن.. ألا تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمان لأمته.
قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (لأنفال:33).. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غادرنا، فلم يبق لنا إلا الاستغفار.
قال: الاستغفار لا ينفع وحده ما لم يمتلئ القلب بمحبة سيد المستغفرين.. فلذلك إن
قلوب مع محمد (103)
ذهب جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فإن روحه لا زالت تعمر القلوب والأرواح.
قلت: لقد سمعت بأن الوزير محمود سامى البارودى عارضها في قصيدة عصماء من 450 بيتا.
قال: أجل.. وقد سماها (كشف الغمة في مدح سيد الأمة)
قلت: فاروها لي.
قال: سأقتصر لك منه ما يتعلق بالحبيب (1).. اسمع:
مُحَمَّدٌ خاتَمُ الرُسلِ الَّذي خَضَعَت... لَهُ البَرِيَّةُ مِن عُربٍ وَمِن عَجَمِ...
سَميرُ وَحيٍ وَمَجنى حِكمَةٍ وَنَدى... سَماحَةٍ وَقِرى عافٍ وَرِيُّ ظَمِ...
قَد أَبلَغَ الوَحيُ عَنهُ قَبلَ بِعثَتِهِ... مَسامِعَ الرُسلِ قَولاً غَيرَ مُنكَتِمِ...
فَذاكَ دَعوَةُ إِبراهيمَ خالِقَهُ... وَسِرُّ ما قالَهُ عِيسى مِنَ القِدَمِ...
أَكرِم بِهِ وَبِآباءٍ مُحَجَّلَةٍ... جاءَت بِهِ غُرَّةً في الأَعصُرِ الدُّهُمِ...
قَد كانَ في مَلَكوتِ اللَهِ مُدَّخراً... لِدَعوَةٍ كانَ فيها صاحِبَ العَلَمِ...
نُورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ ساطِعُهُ... تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى رَحِمِ...
حَتّى اِستَقَرَّ بِعَبدِ اللَهِ فَاِنبَلَجَت... أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في البُهُمِ...
وَاِختارَ آمِنَةَ العَذراءَ صاحِبَةً... لِفَضلِها بَينَ أَهلِ الحِلِّ وَالحَرَمِ...
كِلاهُما فِي العُلا كُفءٌ لِصاحِبِهِ... وَالكُفءُ في المَجدِ لا يُستامُ بِالقِيَمِ...
فَأَصبَحَت عِندَهُ في بَيتِ مَكرُمَةٍ... شِيدَت دَعائِمُهُ في مَنصِبٍ سِنمِ...
وَحِينما حَمَلَت بِالمُصطَفى وَضَعَت... يَدُ المَشيئَةِ عَنها كُلفَةَ الوَجَمِ...
وَلاحَ مِن جِسمِها نُورٌ أَضاءَ لَها... قُصُورَ بُصرى بِأَرضِ الشَّأمِ مِن أمَمِ
وَمُذ أَنى الوَضعُ وَهوَ الرَّفعُ مَنزِلَةً... جاءَت بِرُوحٍ بِنُورِ اللَهِ مُتَّسِمِ...
ضاءَت بِهِ غُرَّةُ الإِثنَينِ وَاِبتَسَمَت... عَن حُسنِهِ في رَبيعٍ رَوضَةُ الحَرَمِ...
وَأَرضَعَتهُ وَلَم تَيأَس حَليمَةُ مِن... قَولِ المَراضِعِ إِنَّ البُؤسَ في اليَتَمِ...
فَفاضَ بِالدرِّ ثَدياها وَقَد غَنِيَت... لَيالياً وَهيَ لَم تطعَم وَلَم تَنَمِ...
وَاِنهَلَّ بَعدَ اِنقِطاعٍ رِسلُ شارِفِها... حَتّى غَدَت مِن رَفِيهِ العَيشِ في طُعَمِ...
فَيَمَّمَت أَهلَها مَملُؤَةً فَرَحاً... بِما أُتيحَ لَها مِن أَوفَرِ النِّعَمِ...
وَقَلَّصَ الجَدبُ عَنها فَهيَ طاعِمَةٌ... مِن خَيرِ ما رَفَدَتها ثَلَّةُ الغَنَمِ...
وَكَيفَ تَمحَلُ أَرضٌ حَلَّ ساحَتَها... مُحَمَّدٌ وَهوَ غَيثُ الجُودِ وَالكَرَمِ...
فَلَم يَزَل عِندَها يَنمُو وَتَكلَؤُهُ... رِعايَةُ اللَهِ مِن سُوءٍ وَمِن وَصَمِ...
حَتّى إِذا تَمَّ مِيقاتُ الرَّضاعِ لَهُ... حَولَينِ أَصبَحَ ذا أَيدٍ عَلَى الفُطُمِ...
وَجاءَ كَالغُصنِ مَجدُولاً تَرِفُّ عَلى... جَبِينِهِ لَمحاتُ المَجدِ وَالفَهَمِ...
قَد تَمَّ عَقلاً وَما تَمَّت رَضاعَتُهُ... وَفاضَ حِلماً وَلَم يَبلُغ مَدى الحُلُمِ...
فَبَينَما هُوَ يَرعى البَهمَ طافَ بِهِ... شَخصانِ مِن مَلَكوتِ اللَهِ ذي العِظَمِ...
فَأَضجَعاهُ وَشَقّا صَدرَهُ بِيَدٍ... رَفِيقَةٍ لَم يَبِت مِنها عَلى أَلَمِ...
وَبَعدَ ما قَضَيا مِن قَلبِهِ وَطَراً... تَوَلَّيا غَسلَهُ بِالسَّلسَلِ الشَّبِمِ...
ما عالَجا قَلبَهُ إِلّا لِيَخلُصَ مِن... شَوبِ الهَوى وَيَعِي قُدسِيَّةَ الحِكَمِ...
فَيا لَها نِعمَةً لِلّهِ خَصَّ بِها... حَبيبَهُ وَهوَ طِفلٌ غَيرُ مُحتَلِمِ...
وَقالَ عَنهُ بُحَيرا حِينَ أَبصَرَهُ... بَأَرضِ بُصرى مَقالاً غَيرَ مُتَّهَمِ...
إِذ ظَلَّلَتهُ الغَمامُ الغُرُّ وَانهَصَرَت... عَطفاً عَلَيهِ فُروعُ الضَّالِ وَالسَّلَمِ...
بِأَنَّهُ خاتَمُ الرُّسلِ الكِرامِ وَمَن... بِهِ تَزُولُ صُرُوفُ البُؤسِ وَالنِّقَمِ
هَذا وَكَم آيَةٍ سارَت لَهُ فَمَحَت... بِنُورِها ظُلمَةَ الأَهوالِ وَالقُحَمِ...
ما مَرَّ يَومٌ لَهُ إِلّا وَقَلَّدَهُ... صَنائِعاً لَم تَزَل فِي الدَّهرِ كَالعَلَمِ...
حَتّى اِستَتَمَّ وَلا نُقصانَ يَلحَقُهُ... خَمساً وَعِشرِينَ سِنُّ البارِعِ الفَهِمِ...
وَلَقَّبَتهُ قُرَيشٌ بِالأَمينِ عَلى... صِدقِ الأَمانَةِ وَالإِيفاءِ بِالذِّمَمِ...
وَحِينَ أَدرَكَ سِنَّ الأَربَعينَ وَما... مِن قَبلِهِ مَبلَغٌ لِلعِلمِ وَالحِكَمِ...
حَباهُ ذُو العَرشِ بُرهاناً أَراهُ بِهِ... آيات حِكمَتِهِ في عالَمِ الحُلُمِ...
فَكانَ يَمضي لِيَرعى أُنسَ وَحشَتِهِ... في شاسِعٍ ما بِهِ لِلخَلقِ مِن أَرَمِ...
فَما يمُرُّ عَلى صَخرٍ وَلا شَجَرٍ... إِلّا وَحَيّاهُ بِالتَّسليمِ مِن أَمَمِ...
حَتّى إِذا حانَ أَمرُ الغَيبِ وَاِنحَسَرَت... أَستارُهُ عَن ضَميرِ اللَوحِ وَالقَلَمِ...
نادى بِدَعوَتِهِ جَهراً فَأَسمَعَها... في كُلِّ ناحِيةٍ مَن كانَ ذا صَمَمِ...
فَكانَ أَوَّلُ مَن في الدِّين تابَعَهُ... خَدِيجَةٌ وَعَلِيٌّ ثابِتُ القَدَمِ...
ثُمَّ اِستَجابَت رِجالٌ دُونَ أُسرَتِهِ... وَفي الأَباعِدِ ما يُغني عَنِ الرَّحِمِ...
وَمَن أَرادَ بِهِ الرَّحمنُ مَكرُمَةً... هَداهُ لِلرُّشدِ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ...
ثُمَّ اِستَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ مُعتَزِماً... يَدعُو إلى رَبِّهِ في كُلِّ مُلتَأَمِ...
وَالنّاسُ مِنهُم رَشيدٌ يَستَجِيبُ لَهُ... طَوعاً وَمِنهُم غَوِيٌّ غَيرُ مُحتَشِمِ...
حَتّى اِستَرابَت قُرَيشٌ وَاِستَبَدَّ بِها... جَهلٌ تَرَدَّت بِهِ في مارِجٍ ضَرِمِ...
وَعَذَّبوا أَهلَ دِينِ اللَّهِ وَاِنتَهَكوا... مَحارِماً أَعقَبَتهُم لَهفَةَ النَّدَمِ
قلت: بورك في هذا الشاعر الفاضل.. لقد تألم المسكين كثيرا في حياته.
قال: من قال مثل هذه الأبيات لا يتألم.. فالحب إكسير أحمر يحول الألم لذة.. والتعب راحة.. والحزن سرورا.
__________
(1) ننقل بعض القصيدة هنا بتصرف.
قلوب مع محمد (104)
قلت: صدقت.. ومذ هجر الناس هذا الحب الشريف وقعوا ضحية للمخدرات والخمور والليالي الماجنة..
قال: وفوق ذلك صرتم تسمعون بالانتحار الذي لم يسمع به أسلافكم.
قلت: فهل ترى نشر مثل هذا الحب الشريف يقي الأمة مثل هذه الأوباء؟
قال: لا يقيها فقط.. بل يرفعها لتعتلي عرش الحضارة الذي نزلت منه بعد هجرها لحبيبها.
قلت: لاشك أن من أكبر المعارضين للبردة أحمد شوقي.
قال: أجل.. فله في ذلك قصيدته العصماء (نهج البردة) والتى صاغها على نسق البردة للإمام البوصيرى.
قلت: لقد كان شوقى ذا ذوق رفيع وأدب عال جعله يعترف بأفضلية الإمام البوصيرى، وسبقه عليه، فقال:
يا أحمد الخير، لى جاه بتسميتى... وكيف لا يتسامى بالنبى سمى؟...
المادحونوأرباب الهوى تبع... لصاحب البردة الفيحاء ذى القدم...
مديحه فيك حب خالص وهى... وصادق الحب يملى صادق الكلم...
الله يشهد أنى لا أعارضه... من ذا يعارض صوب العارض العمم...
و إنما أنا بعض الغابطينومن... يغبط وليك لا يذممولا يُلم
قال: أجل.. ومما ورد فيها من مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لزِمتُ بابَ أَمير الأَنبياءِ، ومَنْ... يُمْسِكْ بمِفتاح باب الله يغتنِمِ...
فكلُّ فضلٍ، وإِحسانٍ، وعارفةٍ... ما بين مستلمٍ منه ومُلتزمِ
علقتُ من مدحهِ حبلاً أعزُّ به... في يوم لا عِزَّ بالأَنسابِ واللُّحَمِ...
يُزرِي قَرِيضِي زُهَيْرًا حين أَمدحُه... ولا يقاسُ إِلى جودي لدَى هَرِمِ...
محمدٌ صفوةُ الباري، ورحمتُه... وبغيَةُ الله من خَلْقٍ ومن نَسَمِ...
وصاحبُ الحوض يومَ الرُّسْلُ سائلةٌ... متى الورودُ؟ وجبريلُ الأَمين ظَمي...
سناؤه وسناهُ الشمسُ طالعةً... فالجِرمُ في فلكٍ، والضوءُ في عَلَمِ...
قد أَخطأَ النجمَ ما نالت أُبوَّتُه... من سؤددٍ باذخ في مظهَرٍ سَنِم...
نُمُوا إِليه، فزادوا في الورَى شرَفًا... ورُبَّ أَصلٍ لفرع في الفخارِ نُمي...
حَوَاه في سُبُحاتِ الطُّهرِ قبلهم... نوران قاما مقام الصُّلبِ والرَّحِم...
لما رآه بَحيرا قال: نعرِفُه... بما حفظنا من الأَسماءِ والسِّيمِ...
سائلْ حِراءَ، وروحَ القدس: هل عَلما... مَصونَ سِرٍّ عن الإِدراكِ مُنْكَتِمِ؟...
كم جيئةٍ وذهابٍ شُرِّفتْ بهما... بَطحاءُ مكة في الإِصباح والغَسَمِ...
ووحشةٍ لابنِ عبد الله بينهما... أَشهى من الأُنس بالأَحباب والحشَمِ...
يُسامِر الوحيَ فيها قبل مهبِطه... ومَن يبشِّرْ بسِيمَى الخير يَتَّسِمِ...
لما دعا الصَّحْبُ يستسقونَ من ظمإٍ... فاضتْ يداه من التسنيم بالسَّنِمِ...
وظلَّلَته، فصارت تستظلُّ به... غمامةٌ جذَبَتْها خِيرةُ الديَمِ...
محبةٌ لرسولِ اللهِ أُشرِبَها... قعائدُ الدَّيْرِ، والرُّهبانُ في القِممِ...
إِنّ الشمائلَ إِن رَقَّتْ يكاد بها... يُغْرَى الجَمادُ، ويُغْرَى كلُّ ذي نَسَمِ...
ونودِيَ: اقرأْ. تعالى اللهُ قائلُها... لم تتصلْ قبل مَن قيلتْ له بفمِ...
هناك أَذَّنَ للرحمنِ، فامتلأَت... أَسماعُ مكَّةَ مِن قُدسيّة النَّغمِ...
فلا تسلْ عن قريش كيف حَيْرتُها؟... وكيف نُفْرتُها في السهل والعَلمِ؟
تساءَلوا عن عظيمٍ قد أَلمَّ بهم... رمَى المشايخَ والولدانَ باللَّممِ...
يا جاهلين على الهادي ودعوتِه... هل تجهلون مكانَ الصادِقِ العَلمِ؟...
لقَّبتموهُ أَمينَ القومِ في صِغرٍ... وما الأَمينُ على قوْلٍ بمتّهَمِ...
فاق البدورَ، وفاق الأَنبياءَ، فكمْ... بالخُلْق والخَلق مِن حسْنٍ ومِن عِظمِ...
جاءَ النبيون بالآياتِ، فانصرمت... وجئتنا بحكيمٍ غيرِ مُنصَرمِ...
آياتُه كلّما طالَ المدَى جُدُدٌ... يَزِينُهنّ جلالُ العِتق والقِدمِ...
يكاد في لفظةٍ منه مشرَّفةٍ... يوصِيك بالحق، والتقوى، وبالرحمِ...
يا أَفصحَ الناطقين الضادَ قاطبةً... حديثُك الشّهدُ عند الذائقِ الفهِمِ...
حَلَّيتَ من عَطَلٍ جِيدَ البيانِ به... في كلِّ مُنتَثِر في حسن مُنتظِمِ...
بكلِّ قولٍ كريمٍ أَنت قائلُه... تُحْيي القلوبَ، وتُحْيي ميِّتَ الهِممِ...
سَرَتْ بشائِرُ بالهادي ومولِده... في الشرق والغرب مَسْرى النور في الظلمِ...
تخطَّفتْ مُهَجَ الطاغين من عربٍ... وطيَّرت أَنفُسَ الباغين من عجمِ...
رِيعت لها شُرَفُ الإِيوان، فانصدعت... من صدمة الحق، لا من صدمة القُدمِ...
أَتيتَ والناسُ فَوْضَى لا تمرُّ بهم... إِلاّ على صَنم، قد هام في صنمِ...
والأَرض مملوءَةٌ جورًا، مُسَخَّرَةٌ... لكلّ طاغيةٍ في الخَلْق مُحتكِمِ...
مُسَيْطِرُ الفرْسِ يبغى في رعيّتهِ... وقيصرُ الروم من كِبْرٍ أَصمُّ عَمِ...
يُعذِّبان عبادَ اللهِ في شُبهٍ... ويذبَحان كما ضحَّيتَ بالغَنَمِ...
والخلقُ يَفْتِك أَقواهم بأَضعفِهم... كاللَّيث بالبَهْم، أَو كالحوتِ بالبَلَمِ
ومما ورد فيها من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد الشبهات المثارة حول رسالته:
البدرُ دونكَ في حُسنٍ وفي شَرفٍ... والبحرُ دونك في خيرٍ وفي كرمِ
شُمُّ الجبالِ إِذا طاولتَها انخفضت... والأَنجُمُ الزُّهرُ ما واسمتَها تسِمِ...
والليثُ دونك بأْسًا عند وثبتِه... إِذا مشيتَ إِلى شاكي السلاح كَمِي...
تهفو إِليكَ - وإِن أَدميتَ حبَّتَها... في الحربِ - أَفئدةُ الأَبطالِ والبُهَمِ...
محبةُ اللهِ أَلقاها، وهيبتُه... على ابن آمنةٍ في كلِّ مُصطَدَمِ...
كأَن وجهَك تحت النَّقْع بدرُ دُجًى... يضيءُ مُلْتَثِمًا، أَو غيرَ مُلتثِمِ...
بدرٌ تطلَّعَ في بدرٍ، فغُرَّتُه... كغُرَّةِ النصر، تجلو داجيَ الظلَمِ...
ذُكِرْت باليُتْم في القرآن تكرمةً... وقيمةُ اللؤلؤ المكنونِ في اليُتمِ...
اللهُ قسّمَ بين الناسِ رزقَهُمُ... وأَنت خُيِّرْتَ في الأَرزاق والقِسمِ...
إِن قلتَ في الأَمرِ: (لا"، أَو قلتَ فيه: (نعم).. فخيرَةُ اللهِ في "لا" منك أَو "نعمِ)..
أَخوك عيسى دَعَا ميْتًا، فقام لهُ... وأَنت أَحييتَ أَجيالاً مِن الرِّممِ...
والجهْل موتٌ، فإِن أُوتيتَ مُعْجِزةً... فابعثْ منالجهل، أَو فابعثْ من الرَّجَمِ...
قالوا: غَزَوْتَ، ورسْلُ اللهِ ما بُعثوا... لقتْل نفس، ولا جاءُوا لسفكِ دمِ...
جهلٌ، وتضليلُ أَحلامٍ، وسفسطةٌ... فتحتَ بالسيفِ بعد الفتح بالقلمِ...
لما أَتى لكَ عفوًا كلُّ ذي حَسَبٍ... تكفَّلَ السيفُ بالجهالِ والعَمَمِ...
والشرُّ إِن تَلْقَهُ بالخيرِ ضِقتَ به... ذَرْعًا، وإِن تَلْقَهُ بالشرِّ يَنحسِمِ...
سَل المسيحيّةَ الغراءَ: كم شرِبت... بالصّاب من شَهوات الظالم الغَلِمِ...
طريدةُ الشركِ، يؤذيها، ويوسعُها... في كلِّ حينٍ قتالاً ساطعَ الحَدَمِ...
لولا حُماةٌ لها هبُّوا لنصرَتِها... بالسيف; ما انتفعتْ بالرفق والرُّحَمِ...
لولا مكانٌ لعيسى عند مُرسِلهِ... وحُرمَةٌ وجبتْ للروح في القِدَمِ...
لَسُمِّرَ البدَنُ الطُّهرُ الشريفُ على... لَوْحَيْن، لم يخشَ مؤذيه، ولم يَجمِِ
جلَّ المسيحُ، وذاقَ الصَّلبَ شانِئهُ... إِن العقابَ بقدرِ الذنبِ والجُرُمِ...
أَخُو النبي، وروحُ اللهِ في نُزُل... فُوقَ السماءِ ودون العرشِ مُحترَمِ...
علَّمْتَهم كلَّ شيءٍ يجهلون به... حتى القتالَ وما فيه من الذِّمَمِ
قلت: ومن الصالحين الذين سمعت أنهم ساروا على أقدام البردة الشريفة السيد عبدالله بن أحمد الهدار الحضرمي.
قال: أجل.. ذلك الشاعر الصالح المحب..
قلت: فارو لي من قصيدته ما يذكرنا بالحبيب..
قال: لا بأس.. يقول في قصيدته العصماء في مدح حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم:
أبيت أرعى نجوم الليل في الظلم... لم تغمض العين من وجدي ولم تنم...
أبيت ليلي أناجي الشهب مرتقباً... ضوء الصباح كملسوع من الصمم...
والقلب ما زال خفّاقاً ومضطرباً... مما احتوى من عظيم الشوق والألم...
والعين تذرف بالدمع الغزير أسى... من لوعة الوجد يحكي فائض الديم...
يا قلب مالك طول الدهر مضطرباً... لم تستفق وإذا قيل استفق تهم...
رميتني عامداً قصداً بلا سبب... هل ينبغي الرمي للأحباب بالحمم...
رفقاً على دنف رفقاً على كلف... من الصبابة والأشواق في سقم...
سقم الصبابة في قلبي له ضرم... أواه من لوعة الأشواق والضرم...
ليت الحرارة من قلبي قد انطفأت... ياليتها أصبحت كالمورد الشبم...
أبيت ليلي من الأشواق في قلق... والقلب يخفق من شجواه كالعلم
ثم يقول:
بسيد الخلق شمس الحق معتصمي... محمد خير معصوم ومعتصم...
له فررت حبيب الله حجته... ومصدر الفضل والعرفان والكرم...
أصل الوجود وروح الكون بهجته... زين الشمائل والآداب والشيم...
مطهر الأرض من رجس ومن درن... من عابدي وثن من عابدي صنم...
لله من منقذ الإنسان من سقر... خير البرية من عرب ومن عجم...
لولاه ما سارت الركبان عن طرب... إلى مدينته الغراء والحرم...
أسمى الورى فطرة أعلاهم نسباً... أرقى الخليقة في قدس وفي العظم...
أصوله طهر المولى عقائدهم... طهراً جرى سابقاً من سالف القدم...
كرامة وامتيازاً للحبيب... عليه الله صلى عظيم الشان والهمم...
من أسعد الكون إسعاداً وطهره... وسن أعظم ماقد سن من نظم...
أتى لنا بكتاب الله معجزة... يهدي إلى الرشد كم يحلو بكل فم...
وجاء يقرؤه باسم الرشاد... على الوجود من كان ذا سمع وذا صمم...
سبت عقول بني الإنسان لهجته... لا يستطيع لعمري وصفها قلمي...
تفجرت منه أنهار الفصاحة... والبيان والعلم والآداب والحكم...
كلامه معجز الله ميزه... وهديه خير هدي للناس كلهم...
قد خصه الله بالتقدير قدره... في سابق العلم قد والاه بالنعم...
فكل فضل فمن فضل النبي وقل... ماشئت في فضل رب التاج والشمم...
تعاظمت أشرقت أرجاء ساحته... بنوره في نواحي الأرض كالنجم...
لله ماناله المختار من شرف... مقامه الفذ لم يدرك ولم يرم...
أثنى الإله على أخلاقه وأتى... في سورة النون في الفرقان والقلم
يكفي القرآن ثناء في شمائله... لله ما جاء في القرآن من قسم...
لله من قسم ماناله أحد... لا فخر أرفع من هذا لدى الأمم...
وقد دعا أمم الدنيا بأجمعها... وكان ذلك بعد الرعي للغنم...
أخلاقه قط لم يظفر بها بشر... رتل شمائله الحسناء بالنغم...
أزكى البرية أخلاقاً وأنبلهم... قصداً وأوفاهم بالعهد والذمم...
يسدي النوال بلا من يكدره... يحنو على الناس من صحب ومن حشم...
وأزهد الخلق في الدنيا وزهرتها... حول الملذات والزينات لم يحم...
لم يمتليء جوفه والله من شبع... وساده حشوه ليف من الأدم...
والمال وافاه لكن كان ينفقه... على المقلين من ذي الجوع والعدم...
قد ارتضى بحياة الكد عن رغب... من يحذ حذو حياة الطهر يتسم
بعد أن أنشد لي الغريب القصيدة بصوته العذب قال: لم يقتصر مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين وحدهم.. حتى المسيحيون لهم نصيب من هذا.
قلت: المسيحيون!؟
قال: أجل.. ألم تعلم أن مسيحيي العرب أقرب إلى الإسلام من قربهم للمسيحية نفسها، حتى أني سمعت بعضهم يدافع على انتمائه للحضارة الإسلامية، ويفخر بذلك.. ويعتبر الحضارة الغربية حضارة شذوذ (1).
قلت: فسم لي بعض هؤلاء الشعراء الأفاضل.
__________
(1) انظر رسالة (ثمار من شجرة النبوة) فصل (حضارة)
قلوب مع محمد (105)
قال: منهم وصفي قرنفلي (1911 - 1978)، الذي كان في طليعة رابطة الكتاب السوريين، وصدر له ديوان وحيد بعنوان (وراء السراب)
وقد خاف قرنفلي أن يوصف بمجاملة المسلمين أو مداهنتهم لحاجات في نفسه، فبدأ بالدفاع عن نفسه، وتبرير مدحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلن أن طائف الحب طاف به، فأترع كؤوس الهوى، والإعجاب بالنبي اليعربي فقال:
قد يقولون: شاعرٌ نصراني... يرسل الحب في كِذابِ البيانِ...
يتغنى هوى الرسولِ.. ويهذي... بانبثاق الهدى من القرآنِ...
ينتحي الجبهة القويةَ يحدوها... رياءً والشعر (لا وجداني)...
كذبوا – والرسولِ – لم يجرِ يومًا... بخلاف الذي أكن لساني...
ما تراءيتُ بالهوى بل سقاني... طائفٌ من الحب والهوى ما سقاني...
أوَعارٌ على فتىً يعربي... أن تغنى بالسيد العدناني؟!...
أوليس الرسول منقذَ هذا الشرق... من ظلمة الهوى والهوانِ؟...
أفكُنا لولا الرسول سوى العبدان... بئست معيشة العبدان؟!...
أو ليس الوفاء أن تخلِص المنقذ... حبًّا إن كنت ذا وجدان؟!...
فالتحيات والسلام أبا القاسم... تُهدى إليك في كل آن!
ومنهم جورج صيدح الكاتب المهجري الذي كتب قصيدة رائعة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم (حراء يثرب) يستنهض فيه الأمة، مذكرًا إياها بما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحمية والهمة والأنفة، مشيرًا إلى تدنيس القدس الشريف؛ حتى إنه ليقتبس آية من القرآن ـ من سورة
قلوب مع محمد (106)
الرحمن ـ يضمنها القصيدة، فيقول:
يا من سريتَ على البراق... وجُزت أشواط العَنان...
آن الأوان لأن تجدّد... ليلة المعراج.. آن...
عرّج على القدس الشريف... ففيه أقداسٌ تهان...
ماذا دهاهم؟ هل عصوْك... فأصبح الغازي جبان؟...
أنت الذي علمتهم... دفع المهانة بالسنان...
ونذرت للشهداء جنات... وخيرات حسان...
يا صاحبيّ: بأي آلاء... النبي تكذبان؟!
ومنهم الشاعر المهجري جورج سلستي الذي كتب قصيدة بعنوان (نجوى الرسول الأعظم) وهي قصيدة مليئة بالعاطفة الصادقة، وكأنما كتبها مسلم:
أقبلتَ كالحق وضّاحَ الأسارير... يفيض وجهُك بالنعماء والنور...
على جبينك فجرُ الحق منبلجٌ... وفي يديك جرت مقاليدُ الأمورِ...
فرحتَ فينا، وليل الكفر معتكر... تفري بهديك أسداف الدياجير...
وتمطر البيد آلاءً وتُمرِعها يمنًا... يدوم إلى دهر الدهاريرِ...
أبيتَ إلا سموّ الحق حين أبى... سواك إلا سموَّ البُطل والزورِ!
وقال يصف الصحراء العربية التي أطلعت شمس المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
ما أنتِ بالمصطفى يا بيدُ مجدبةً... كلا ولا أنتِ يا صحراءُ بالبورِ...
أطلعتِ من تاهت الدنيا بطلعته... ونافستْ فيه حتى موئلَ الحورِ...
بوركتِ أرضًا تبث الطهرَ تربتُها... كالطيبِ.. بثته أفواه القواريرِ
الدين ما زال يزكو في مرابعها... والنبل ما انفك فيها جدَّ موفورِ...
والفضل والحلم والأخلاق ما فتئت... تحظى هناك بإجلال وتوقيرِ
ويعتذر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تقصير شعره في الوفاء بحقه، فيقول:
يا سيدي يا رسول الله معذرةً... إذا كبا فيك تبياني وتعبيري...
ماذا أوفيك من حق وتكرمةٍ... وأنت تعلو على ظني وتقديري؟!...
وأنت ربُّ الأداء الفذ في لغةٍ... تشأو اللُّغى حسنَ تنميقٍ وتصويرِ...
على لسانك ما جن البيان به... فذلك الشعر يرنو شبهَ مسحور!...
آي من الله.. ما ينفك مُعجزُها... يعيي على الدهرِ أعلام التحاريرِ...
تلوتَها فسرت كالنور مؤتلقًا... يطوي الدنا بين مأهولٍ ومهجورِ!
ومنهم محبوب الخوري الشرتوني، وهو من شعراء المهجر الشمالي، الذين كتبوا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رافعًا إياه إلى مستوى النموذج البشري الأتم، أو مثال البطولة الأوحد، وقد كتب قصيدة بعنوان (قالوا تحب العرب؟) يقول فيها:
قالوا تحب العُرْب؟ قلت: أحبهم... يقضي الجوارُ عليّ والأرحامُ...
قالوا: لقد بخلوا عليك، أجبتهم... أهلي وإن بخلوا عليّ كرام...
قالوا الديانة؟ قلت: جيل زائل... وتزول معْه حزازةٌ وخصامُ...
ومحمد.. بطل البرية كلها... هو للأعارب أجمعين إمام
ومن أشهر شعراء المهجر الجنوبي رشيد سليم الخوري الذي اشتهر بالشاعر القروي،
قلوب مع محمد (107)
وقد كتب قصيدة بعنوان (عيد البرية) يستحث فيها المسلمين لاستعادة مجدهم القديم منها، ويقرئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاماته وحبه، داعيًا إلى التحاب والتآخي بين المسلمين والنصارى، فيقول:
يا فاتح الأرض ميداناً لدولته... صارت بلادُك ميداناً لكل قوي...
يا قومُ هذا مسيحيٌّ يذكّركم... لا يُنهِض الشرقَ إلا حبُّنا الأخوي...
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة... فبلّغوه سلام الشاعر القروي
ومنهم خليل مطران الذي كتب قصيدة تسمى (رأس السنة الهجرية) يقول فيها:
عانى محمد ما عانى بهجرته... لمأرب في سبيل الله محمود...
وكم غَزاةٍ وكم حربٍ تجشمها... حتى يعود بتمكين وتأييد...
صعبان راضهما: توحيدُ معشرهم... وأخذُهم بعد إشراك بتوحيد...
وبدؤه الحكم بالشورى يتم به... ما شاءه الله من عدل ومن جود
وله قصيدة احتفالية أخرى شارك فيها المسلمين، عنوانها: (عظة العيد الهجري)، يمدح فيها ويُكبِر الهلال رمز الإسلام، أو هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فيقول:
سلام على هذا الهلال من امرئ... صريح الهوى، والحر لا يتكتم...
سلام وتكريم.. بحق كلاهما... وأشرف من أحببتَه من تكرم...
هويتك إكبارًا لمن أنت رمزه... من المأرب العلوي لو كان يفهم
ومنهم مارون عبود الشاعر اللبناني الذي كتب قصيدة مطولة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول
قلوب مع محمد (108)
فيها:
لولا كتابُك ما رأينا معجزًا... في أمةٍ مرصوصة البنيانِ...
حملت إلى الأقطار من صحرائها... قبسَ الهدى ومطارفَ العمرانِ...
هادٍ يُصوَّر لي كأن قوامه... متجسدٌ من عنصر الإيمان
ومنهم الشاعر الشهير إلياس فرحات الذي يقول في قصيدته (يا رسولَ الله):
غَمَرَ الأَرْضَ بِأَنْوَارِ النُّبُوَّةْ... كَوْكَبٌ لَمْ تُدْرِكِ الشَّمْسُ عُلُوَّهْ...
لَمْ يَكُدْ يَلْمَعُ حَتَّى أَصْبَحَتْ... تَرْقُبُ الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا دُنُوَّهْ...
بَيْنَمَا الكَوْنُ ظَلاَمٌ دَامِسٌ... فُتِحَتْ فِي مَكَّةَ لِلنُّورِ كُوَّةْ...
وَطَمَى الإِسْلاَمُ بَحْرًا زَاخِرًا... بِأَوَاذِيِّ الْمَعَالِي وَالفُتُوَّةْ...
مَنْ رَأَى الأَعْرَابَ فِي وَثْبَتِهِمْ... عَرَفَ البَحْرَ وَلَمْ يَجْهَلْ طُمُوَّهْ...
إنَّ فِي الإِسْلاَمِ لِلْعُرْبِ عُلاً... إنَّ فِي الإِسْلاَمِ لِلنَّاسِ أُخُوَّةْ...
فَادْرُسِ الإِسْلاَمَ يَا جَاهِلَهُ... تَلْقَ بَطْشَ اللهِ فِيهِ وَحُنُوَّهْ...
يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أُمَّةٌ... زَجَّهَا التَّضْلِيلُ فِي أَعْمَقِ هُوَّةْ...
ذَلِكَ الجَهْلُ الذِي حَارَبْتَهُ... لَمْ يَزَلْ يُظْهِرُ لِلشَّرْقِ عُتُوَّهْ...
قُلْ لأَتْبَاعِكَ صَلُّوا وَادْرُسُوا... إِنَّمَا الدِّينُ هُدَىً وِالْعِلْمُ قُوَّةْ
ومنهم الشاعر السوري عبد الله يوركي حلاق مؤسس مجلة الضاد في حلب، فله قصيدة بعنوان (قبس من الصحراء)، يشيد فيها بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. يقول فيها:
بعث الشريعة من غياهب رمسِها... فرعى الحقوق وفتَّح الأذهانا...
أمحمدٌ.. والمجدُ نسج يمينه... مجدَّت في تعليمك الأديانا...
ولأنه داس الجهالة وانتضى... سيف الجهاد، وحطَّم الأوثانا...
فلقد ربينا في ظلال عروبة... عرباء.. تشرق عزة وأمانا...
ما نحن إلا إخوةٌ نسعى إلى... إسعاد أمتنا.. وصونِ حمانا
ومنهم الشاعر السوري جاك صبري شماس الذي تشهد معظم دواوينه الشعرية، ومقالاته على محبته وولائه للعروبة وإشادته بالدين الإسلامي، وافتخاره بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. يقول في قصيدة له بعنوان (أوراق اعتمادي):
إني مسيحيٌّ أجلُّ محمدًا... وأجلُّ ضادًا.. مهدُه الإسلامُ...
وأجلُّ أصحاب الرسول وأهله... حيث الصحابة صفوةٌ ومقام...
كحَّلت شعري بالعروبة والهوى... ولأجل طه تفخر الأقلام...
أودعت روحي في هيام محمد... دانت له الأعراب والأعجام
ومنهم الشاعر إلياس قنصل الذي ثم يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتذرًا، مشيدًا بالقرآن ومن جاء به، فيقول:
رسولَ الله: عفوَك؛ إن عذلي... لتنبيه النفوس الغافلات...
كتابك زينة الأجيال تزهو... بمعجز آيهِ أمُّ اللغات...
ودينُك نعمةٌ في الكون ضاءت... فنوَّرَت النواحي المظلمات
تكرم يا إله العرش واجعل... بلاد العُرب للعرب الاباة
ومنهم الشاعر اللبناني شبلي الملاط، وهو أحد أبرز الشعراء العرب في النصف الأول من القرن العشرين الذي ينفي عن الإسلام والقرآن دعوى تفريق للأمة، فيقول:
لمن البلاد؟ أليس من أصحابها... أنتم ونحن؟ فما لنا لا نهتدي؟...
حتى متى لا نستفيق؟! وكلنا نحيا... وندفن تحت جو أوحد؟...
حتى متى التفريق يلعب دوره... فينا ونصغي سامعين لمفسد؟...
ويظل مَن بث المفاسد سيدًا... والصالح الأعمال مغلولَ اليد...
ويبيت من تدعو البلاد أئمة... متشاغلين ببِيعةٍ وبمسجد...
والله ما قال المسيح تباغضوا... حتى نكون ولا كتاب محمد...
لكنما أيدي الجهالة بدّلت... أبناء هذا القطر شر مبدد
ثم يطالب بإنهاء التعصب الذي يوقع الأمة في الهوان والمذلة، فيقول:
وتساهلوا عند الأمور وأعرضوا... عمن يقول بعيسوِي ومحمدي...
ودعوا التعصب إنه الداء الذي... يقضي عليكم بالهوان السرمدي...
ولتشعلوا هذي العواطف وليكن... كل من الأعياد عيد المولد
قلبت دفتر الغريب.. فرأيت أسماء غير عربية، فتعجبت من ذلك، فقلت: أرى في الدفتر أسماء أخرى غير عربية.. من أين لها أن تتعلم العربية، وتكتب بها مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم!؟
قال: أصحاب تلك الأسماء أدباء من سائر الأمم جذبتهم أشعة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى
قلوب مع محمد (109)
الإسلام، فلذلك سجلتهم في هذا الفصل.
قلت: فهل تعلم هؤلاء العربية؟
قال: الشعر موجود في كل لغات العالم.. والحب موجود في كل الكلمات نثرها وشعرها.. والمحب الصادق يعبر بكل الألسنة.
كان من تلك الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (ويليام بيكارد)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا هو المؤلف والروائي والشاعرالبريطاني ويليام بيكارد، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الفنون والآداب (كانتاب)، والدكتوراه في الأدب (لندن)، وهو مؤلِّفٌ واسع الشهرة، من أعماله: ليلى والمجنون، ومغامرات القاسم، والعالم الجديد، ومؤلَّفاتٌ أخرى.
قلت: هل التقيت به؟
قال: لا.. ولكني قرأت رساله له يتحدث فيها عن رحلته للإسلام، ومما ورد فيها: (لم أُدرك حقيقة أنِّي وُلِدت على فطرة الإسلام إلَّا بعد مضيِّ العديد من السنين. ففي المدرسة والجامعة كنت مشغولاً ـ وربما بقوَّة ـ بقضايا اللحظة الآنيَّة وشؤونها.. لم أكن أعتبر مهنتي في تلك الأيام مهنةً لامعة، ولكنَّها كانت في تطوُّر، ووسط محيطٍ مسيحيٍّ تعلَّمت عن الحياة الطيِّبة، وكان الإيمان بالله تعالى والعبادة والحق من الأمور الَّتي تسرُّني، وإن كنت أُقدِّس أيَّ شيءٍ فإنَّ ذلك كان هو النُبل والشَّجاعة)
وفيها يقول: (أنا القادم من كامبريدج، ذهبت إلى أواسط أفريقيا، حيث حصلت على تعيينٍ في إدارة الوصاية على أوغندا. كان وجودي هناك ممتعاً ومثيراً أكثر مما كنت أحلم به في بريطانيا، وكنت مجبراً ـ تبعاً للظروف المحيطة ـ أن أعيش وسط الأخوَّة السوداء من
قلوب مع محمد (110)
الإنسانيَّة، ويمكنني القول بأنِّي تعلَّقت بهم بمحبةٍ بسبب بساطة نظرتهم السعيدة للحياة. لقد شدَّني الشَّرق دائماً. ففي كامبريدج قرأت (الليالي العربيَّة)؛ ووحيداً في أفريقيا قرأت (الليالي العربيَّة)؛ ووجودي في تجوالٍ موحشٍ في أوغندا لم يقلل من عزة الشرق في نفسي.
ثم ـ وبعد تحطُّم حياتي الهادئة في الحرب العالمية الأولى ـ عدت أدراجي مسرعاً تجاه الوطن في أوروبا؛ وساءت صحَّتي. ومع استعادة صحَّتي تطوَّعت للجيش، لكنَّ طلبي رُفض على أُسسٍ صحيَّة. لذلك عملت على تقليل الخسائر وسجَّلت في (الجندرمة) ـ بعد أن عملت بطريقةٍ ما على اجتياز الفحص الطبِّي ـ وشعرت بالرَّاحة حين تسلَّمت بدلتي العسكريَّة كجنديٍّ في فرقةٍ للمشاة. خدمت حينئذٍ في الجبهة الغربيَّة في فرنسا، واشتركت في معركة السوم سنة 1917، حيث جُرحت وأُسرت. نُقلت عبر بلجيكا إلى ألمانيا حيث كنت في المشفى. وفي ألمانيا رأيت الكثير من المعاناة الإنسانيَّة، وخاصَّةً الرُّوس المصابين بالديزنطاريا. ووصلت إلى حافَّة الموت جوعاً. جُرحي ـ وهو كسرٌ في ساعدي الأيمن ـ لم يُشف بسرعة، فكنت عديم النَّفع للألمان، فأُرسلت إلى سويسرا من أجل عمليَّةٍ جراحيَّة.
أذكر جيِّداً كم كان عزيزاً عليَّ حتى في تلك الأيام حين كنت أفكِّر بالقرآن الكريم، في ألمانيا كنت قد كتبت رسالةً للأهل ليرسلوا لي نسخةً من القرآن الكريم. وعلمت في السنوات اللاحقة أنَّهم أرسلوا لي نسخةً ولكنَّها لم تصلني أبداً.
في سويسرا ـ وبعد عمليَّةٍ في ساعدي ورجلي ـ تحسَّنت صحَّتي، فكان بإمكاني الخروج بين الحين والآخر، فاشتريت نسخةً من الترجمة الفرنسيَّة لمعاني القرآن الكريم ـ وهي اليوم من أعز ممتلكاتي ـ وعندئذٍ شعرت بسعادةٍ عظيمة. كان ذلك وكأنَّ شعاعاً من الحقيقة الخالدة قد أشرق عليَّ بالبركة. كانت يدي اليمنى ما تزال غير ذات نفع، فتمرَّنت على كتابة القرآن الكريم بيدي اليسرى. وارتباطي بالقرآن الكريم يظهر بوضوح أكبر عندما أقول بأنَّ واحدةً من أشدِّ الذكريات وضوحاً وعزَّة لديّ من كتاب (الليالي العربية) كانت عن فتىً
قلوب مع محمد (111)
وُجد وحيداً في المدينة البائدة، جالساً يقرأ القرآن الكريم، غافلاً عمَّا يحيط به.
في تلك الأيام في سويسرا، أعدت تسجيل نفسي رسمياًّ كمسلم. وبعد توقيع الهدنة عدت إلى لندن، وذلك في شهر كانون الأول من سنة 1918، وبعد ذلك ـ في عام 1921 ـ سجَّلت لدراسة الأدب في جامعة لندن. وكان أحد المواضيع الَّتي اخترتها هي اللغة العربيَّة، وكنت أحضر محاضراتها في الكلية الملكيَّة. وكان في يومٍ أن ذكر أستاذي في اللغة العربيَّة ـ السيِّد بلشا من العراق رحمه الله تعالى ـ القرآن الكريم وقال: إن كنت تؤمن به أم لا، فإنَّك ستجد أنَّه أكثر الكتب إثارةً وأنَّه يستحقُّ الدِّراسة. فأجبت: أُوه، ولكنِّي أُومن به. فاجأ هذا الجواب أستاذي بشدَّة وأثار اهتمامه، وبعد حديثٍ قصيرٍ دعاني لأُرافقه إلى مسجد لندن في نوتينغ هيل جيت. وبعد ذلك كنت أحضر للصلاة باستمرار في هذا المسجد لكي أتعلَّم أكثرعن تطبيق الإسلام، إلى أن أعلنت ارتباطي بالأمَّة الإسلاميَّة في رأس السنة الجديدة لعام 1922.
كان هذا قبل ما يقارب الربع قرن، ومنذئذٍ وأنا أعيش حياةً إسلاميَّةً قولاً وعملاً بكلِّ ما في استطاعتي، فقوَّة الله تعالى وحكمته ورحمته ليس لها حدود. وحقول المعرفة تمتدُّ أمامنا إلى ما وراء الأفق. وفي حجِّنا خلال هذه الحياة أشعر بيقينٍ أقوى بأنَّ اللباس الوحيد المناسب الَّذي نستطيع لبسه هو الخضوع لله تعالى، وأن نعتمر على رؤوسنا عمامةً من الحمد، وأن نملأ قلوبنا حباًّ للخالق الواحد سبحانه وتعالى. والحمد لله ربِّ العالمين)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذ االفصل اسم (فانسان مونتييه) (1)،
__________
(1) انظر: صحيفة الاتحاد التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة، الصادرة في العاشر من نوفمبر 1989 (بتصرف)، والجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء، محمد كامل عبدالصمد.
قلوب مع محمد (112)
فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أديب فرنسي كان يشغل منصب أستاذ اللغة العربية والتاريخ الإسلامي بجامعة باريس، وشغل منصب رئيس (مؤسسة الدراسات الإسلامية في داكار)... وله عدة مؤلفات منها: كتاب (الإرهاب الصهيوني)، و(المسلمون في الاتحاد السوفيتي)، و(الإسلام في إفريقيا السوداء)، و(مفاتيح الفكر العربي)، كما قد قام بترجمة ابن خلدون إلى الفرنسية، وقد أسلم وتسمى بـ (المنصور بالله الشافعي)
وقد تشرفت بالالتقاء به والحديث معه عن سبب اختياره الإسلام، فقال: لقد اخترت الإسلام ديناً، ألقى به وجه ربي لأسباب شتى، منها الأسباب الدينية، والأسباب الأخلاقية، والاجتماعية، والثقافية والعاطفية.
ثم استطرد في تفصيل ما أجمله قائلا: لقد اخترتُ دين الفطرة، وهو الإسلام، وكنت فيما مضى كاثوليكيّاً.. وفي الكاثوليكية أمور كثيرة لم أقتنع بها، ولم أفهمها، مثل كرسي الاعتراف، والوسيط لدى الإله، فضلاً عن اعتمادها على أسرارٍ، وقربان، وغير ذلك من أمور لم أستطع الإيمان بها.. في حين أن دين الإسلام برئ من هذا كله، فيكفي المسلم أن يتوجه إلى ربه مباشرة بدون وسيط، وبدون كرسي اعتراف، فيستجيب الله دعاءه.
لقد كانوا يُعلمونني كما يُعلمون غيري أن عيسى إله ابن إله، وكانوا يزعمون أن محمداً ليس نبيّاً، وبالتالي ينكرون الإسلام.. ثم حدث أن وقع بين يدي ـ لأول مرة في حياتي ـ ترجمة لمعاني القرآن الكريم، واستوقفتني معاني كلماته، مثل: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص)
واسَتَوقَفَني قول الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30)
كما أذكر أني قرأت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شعرت تجاهه بأن الإسلام دين الفطرة بحق، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يُولَدُ على الفِطْرة، فأبواه يُهَوّدِانه أو يُنَصّرِانه، أو
قلوب مع محمد (113)
يُمَجّسَانِهِ)
ولذلك كله آمنت برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصداقيتها، مثلما آمنتُ تماماً بوحدانية الله.. إن محمداً رسول الله حقاً.. والقرآن الكريم مُوحىً به من عند الله وليس من إنشاء محمد أو صُنعه... ورسالته السماوية السمحاء ليست مقصورة على العرب.. وإنما هي للناس كافة.
لقد رأيت في الإسلام تسامحاً مدهشاً، والأخلاق الرفيعة هدف كل مسلم.. كما رأيت رفضاً للرهبنة التي تجافي طبيعة الإنسان البشرية، فالإسلام يحفظ للإنسان إنسانيته، فيمنع عليه الرهبنة، ويدفعه إلى التمتع بالحياة وطيباتها، ما لم تتعارض المتعة مع تعاليم الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:78)
سكت قليلا، وقد بدت على وجهه قسمات ألم لم يستطع كتمها، ثم قال: أعداء الإسلام يَدَّعُون أن المسلمين لا يرضون من غيرهم إلا أن يكونوا مسلمين، فإذا لم يكونوا مسلمين أشهروا عليهم سيف الجهاد.. في حين أنهم لو عقلوا ذلك جيداً لعلموا أن الجهاد الإسلامي مفروض، ولكن من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
إنهم يتهمون الإسلام بالقسوة المفرطة، مع أن الإسلام دين السلام، والتسامح، والعفو، والمغفرة... لقد تناسى هؤلاء كل العقوبات النصرانية فيما مضى، والتي أفرطت في القسوة، والتعذيب الذي وصل إلى حد الإحراق، وفصل أجزاء الجسد، فضلاً عن كثرة حالات الإعدام، وهو ما لم يشهده الإسلام في تاريخه.
كما أنهم يتهمون الإسلام بظاهرة الرَقّ التي وُجِدَتْ قبل الإسلام وليس بعده، بل حين انتشر الإسلام وطُبقت تعاليمه كان يسعى لإلغاء الرّق، بل إن كثيراً من الكفَّارات للذنوب التي يقدم عليها المرء هو تحرير الرقاب الذي عَدَّه الإسلام تقرباً وطاعة لله.
ثم يحاولون الإساءة إلى الإسلام من زاوية تعدد الزوجات، ولو عقلوا لوَجَدُوا أنه وأن سمح حقّاً بذلك، فإنه في الوقت ذاته وضع شروطاً دقيقة أساسها العدل المطلق، والمعاملة
قلوب مع محمد (114)
الطيبة، كما نظر إلى النساء التي حالت ظروفهن دون الزواج، أو لمرض الزوجة، أو لأسباب أخرى.
إن الإسلام بعظمته وعمقه، وبنقائه ورقُيه، وبتسامحه ودعوته لكرامة الإنسان في كل زمان ومكان لن يستطيع أحدٌ أن ينال منه.. لأن الإسلام في ذاته قوي.. وتعاليمه تدعو إلى القوة بعدم ارتكاب المعاصي والذنوب التي تضعف القوة، مثل الزّنَى، وشُرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، وغير ذلك مما يحرمه الدين الحنيف.
ثم انفرجت أساريره عن ابتسامة عذبة، وقال: لهذا اخترت الإسلام.. من أجل أن أشعر بالراحة في رحابه وظلاله.. نعم، اعتنقتُ الإسلام لأشعر وأدرك أنني اعتنقت ديناً لا يفصل بين البدن والروح، بين النفس والجسد.. يكفيني أن الإسلام دين نقي، يدفع إلى الأخلاق والتحلي بها، وإلى الكرامة الإنسانية والتمسك بها، من أجل ذلك شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.. وعلى ذلك ألقى ربي.
قلوب مع محمد (115)
فتحت دفتر الغريب على فصله الرابع، فوجدت عنوانه (الفنانون)، فقلت: من تقصد بالفنانين؟
قال: أولئك الذين تذوقوا الجمال وعاشوه وراحوا بما أوتوا من مواهب يحاولون تصويره وإمتاع الخلق به.
قلت: فما علاقة هؤلاء بأشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم الفنانون..
قلت: ما تقول؟
قال: إن المعاني النبيلة التي يوجهنا إليها الإسلام، والتي تتناسب مع الجمال الذي يمتلئ به الكون لا يتذوقه إلا صاحب حس مرهف، وذوق رفيع.
قلت: ولكني أرى الفنانين أعظم الناس غفلة، فهم يجرون في أودية الغواية أكثر من الشعراء.
قال: أولئك أحد أربعة: إما لا حظ لهم في الفن، وإنما هم أدعياء فيه، وإما أن الإسلام عرض لهم بصورة مشوهة جعلتهم ينفرون منه، وإما أن الإسلام لم يعرض لهم أصلا.
قلت: أرأيت لو أن الإسلام عرض لهم بصورته سيقبلونه؟
قال: لا يقبلونه فقط.. بل يقبلون عليه بكل كيانهم، ويسخرون كل طاقاتهم في سبيل خدمته.
قلت: ولكن البعض يأمرهم بتطليق الفن قبل اعتناق الإسلام.
قال: أولئك حجب بين الله وبين عباده.. الإسلام يطلق الطاقات ولا يعطلها.. والفنان المسلم هو الذي يعبد الله في محراب فنه.. فيجعل فنه مرقى من مراقي الهداية ومعراجا من معارج الروح.
قلت: أراك وضعت أسماء كثيرة في هذا الفصل.. فهل التقيت بهم جميعا؟
قلوب مع محمد (116)
قال: هناك من التقيت به.. وهناك من حدثني بحديثه الثقاة.. وهناك من قرأت له، أو قرأت عنه.
كان من أول الأسماء التي وضعت في هذا الفصل اسم (الفونس إيتان دينيه) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذ الرجل من كبار الفنانين والرسامين العالميين، وقد دُوّنت أعماله في معجم (لاروس)، ولا تزال جدران المعارض الفنية في فرنسا تزين بلوحاته الثمينة، وفيها لوحته الشهيرة (غادة رمضان)
وقد أسلم، وألّف بعد إسلامه العديد من الكتب القيمة، منها كتابه الفذ (أشعة خاصة بنور الإسلام)، و(ربيع القلوب)، و(الشرق كما يراه الغرب)، و(محمد رسول الله)، و(الحج إلى بيت الله الحرام).. وغيرها.
وقد ذكر في هذه الكتب أسرار انجذابه الإسلامه، ومن أقواله في ذلك:
(لقد أكد الإسلام من الساعة الأولى لظهوره أنه دينٌ صالحٌ لكل زمان ومكان، إذ هو دين الفطرة، والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر، وهو لهذا صالح لكل درجة من درجة الحضارة) (2)
(لقد حقق القرآن معجزة لا تستطيع أعظم المجامع العلمية أن تقوم بها، ذلك أنه مكن للغة العربية في الأرض بحيث لو عاد أحد أصحاب رسول الله إلينا اليوم لكان ميسورًا له أن يتفاهم تمام التفاهم مع المتعلمين من أهل اللغة العربية، بل لما وجد صعوبة تذكر للتخاطب مع الشعوب الناطقة بالضاد. وذلك عكس ما يجده مثلاً أحد معاصري (رابيليه) من أهل القرن الخامس عشر الذي هو أقرب إلينا من عصر القرآن، من الصعوبة في مخاطبة العدد الأكبر من فرنسيي اليوم) (3)
__________
(1) ايتين دينيه (1861 – 1929) Et. Dinet تعلم في فرنسا، وقصد الجزائر، فكان يقضي في بلدة بوسعادة نصف السنة من كل عام، وأشهر إسلامه وتسمى بناصر الدين (1927)، وحج إلى بيت الله الحرام (1928).
(2) محمد رسول الله، ناصر الدين دينيه، ص (345)
(3) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 35.
قلوب مع محمد (117)
(أحسّ المشركون، في دخيلة نفوسهم، أن قد غزا قلوبهم ذلك الكلام العجيب الصادر من أعماق قلب الرسول الملهم وكلهم كثيرًا ما كانوا على وشك الخضوع لتلك الألفاظ الأخاذة التي ألهمها إيمان سماوي، ولم يمنعهم عن الإسلام إلا قوة حبهم لأعراض الدنيا) (1)
(إن معجزة الأنبياء الذين سبقوا محمدًا كانت في الواقع معجزات وقتية وبالتالي معرضة للنسيان السريع. بينما نستطيع أن نسمي معجزة الآيات القرآنية: (المعجزة الخالدة) وذلك أن تأثيرها دائم ومفعولها مستمر، ومن اليسير على المؤمن في كل زمان وفي كل مكان أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة في كتاب الله، وفي هذه المعجزة نجد التعليل الشافي للانتشار الهائل الذي أحرزه الإسلام، ذلك الانتشار الذي لا يدرك سببه الأوروبيون لأنهم يجهلون القرآن، أو لأنهم لا يعرفونه إلا من خلال ترجمات لا تنبض بالحياة فضلاً عن أنها غير دقيقة) (2)
(إن كان سحر أسلوب القرآن وجمال معانيه، يحدث مثل هذا التّأثير في [نفوس علماء] لا يمتون إلى العرب ولا إلى المسلمين بصلة، فماذا ترى أن يكون من قوة الحماسة التي تستهوي عرب الحجاز وهم الذين نزلت الآيات بلغتهم الجميلة؟.. لقد كانوا لا يسمعون القرآن إلا وتتملك نفوسهم انفعالات هائلة مباغتة، فيظلون في مكانهم وكأنهم قد سمِّروا فيه. أهذه الآيات الخارقة تأتي من محمد ذلك الأمي الذي لم ينل حظًا من المعرفة؟.. كلا إن هذا القرآن لمستحيل أن يصدر عن محمد، وأنه لا مناص من الاعتراف بأن الله العلي القدير هو الذي أملى تلك الآيات البينات) (3)
(لا عجب أن نرى النبي الأمي يتحدى الشعراء، ويعترف لهم بحق نعتهم له بالكذب، أن ائتوا بعشر سور من مثله، فقد آمن بعجزهم عن ذلك) (4)
__________
(1) محمد رسول الله، ص 106.
(2) محمد رسول الله، ص 118.
(3) محمد رسول الله، ص 119.
(4) محمد رسول الله، ص 121.
قلوب مع محمد (118)
وتحدث عن تأثير دراسته لشخصية محمد صلى الله عليه وآله وسلم في انجذابه للإسلام، ومن أقواله في هذا قوله: (إن الشخصية التي حملها محمد بين برديه كانت خارقة للعادة وكانت ذات أثر عظيم جدًا حتى إنها طبعت شريعته بطابع قوي جعل لها روح الإبداع وأعطاها صفة الشيء الجديد) (1)
وقوله: (إن نبي الإسلام هو الوحيد من بين أصحاب الديانات الذي لم يعتمد في إتمام رسالته على المعجزات وليست عمدته الكبرى إلا بلاغة التنزيل الحكيم) (2)
(إن سنة الرسول الغرّاء باقية إلى يومنا هذا، يجلوها أعظم إخلاص ديني تفيض به نفوس [مئات الملايين] من أتباع سنته منتشرين على سطح الكرة) (3)
(كان النبي يعنى بنفسه عناية تامة، إلى حد أن عرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال، وكان ينظر نفسه في المرآة.. ليتمشط أو ليسوي طيات عمامته.. وهو في كل ذلك يريد من حسن منظره البشري أن يروق الخالق سبحانه وتعالى) (4)
(لقد (دعا) عيسى إلى المساواة والأخوة، أما محمد فوفق إلى (تحقيق) المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته) (5)
وتحدث عن تأثير المناهج الإسلامية في انجذابه للإسلام، فقال: (إن الأمم الإسلامية على اختلاف جنسياتها وبلدانها قد طبعها الإسلام بطابعه الواضح المحسوس. بل إن آثاره لا تزال باقية في أهل أسبانيا وإن كانوا قد ارتدوا عنه منذ خمسة قرون) (6)
(إن الإسلام [هو] عقيدة التوحيد الإلهية العليا، وله تلك المبادئ السامية التي تقوم عليها
__________
(1) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 15.
(2) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 16.
(3) محمد رسول الله، ص 51.
(4) محمد رسول الله، ص 312.
(5) محمد رسول الله، ص 323.
(6) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 15.
قلوب مع محمد (119)
تلك العقيدة.. [ونحن نطلب] من خصومنا أن يدلونا عليها في الإنجيل أو في كتاب مقدس آخر إن كانوا صادقين) (1)
(إن الإسلام منذ البداية في أيامه الأولى قد أخذ في محاربة الخرافات والبدع، وهو نفس العمل الذي يقوم به العلم إلى يومنا هذا) (2)
(كما أن الإسلام قد صلح منذ نشأته لجميع الشعوب والأجناس فهو صالح كذلك لكل أنواع العقليات وجميع درجات المدنيات.. وبينما تجد الإسلام يهيج من نفسه الرجل العملي في أسواق لندن حيث مبدأ القوم (الوقت من ذهب) إذ هو يأخذ بلب ذلك الفيلسوف الروحاني، وكما يتقبله عن رضا ذلك الشرقي ذو التأملات.. إذ يهواه ذلك الغربي الذي أفناه الفن وتملكه الشعر) (3)
(عندما رفع الله إليه مؤسس الإسلام كان هذا الدين القويم قد تمّ تنظيمه نهائيًا، وبكل دقة، حتى في أقل تفاصيله شأنًا) (4)
وتحدث عن إعجابه الشديد بسماحة الإسلام والمسلمين، فقال: (من الحقائق التاريخية أن النبي أعطى أهل (نجران) المسيحيين نصف مسجده ليقيموا فيه شعائرهم الدينية. وها نحن أولاً نرى المسلمين إذا بشروا بدينهم فإنهم لا يفعلون مثل ما يفعل المسيحيين في الدعوى إلى دينهم، ولا يتبعون تلك الطرق المستغربة التي لا تتحملها النفس والتي يحبها الذوق السليم. وقد أنصف القس ميثون الحقيقة في كتابه (سياحة دينية في الشرق) حيث يقول: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة
__________
(1) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 15.
(2) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 18.
(3) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 38.
(4) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 315.
قلوب مع محمد (120)
والإحسان عند الشعوب والأمم) (1)
(ليس من فخار المسيحية أن تضم في تعدادها أولئك الذين يباعون لها من ولدان العبيد ولا أولئك اليتامى الذين ينشأون في مهادها نشأة دينية مسيحية. أما الذين يعتنقون الإسلام في وقتنا هذا من المسيحيين وغيرهم فإنما هم الخاصة سواء كانوا من الهيئات الاجتماعية الأوروبية أو الأمريكية، كما أن إخلاصهم في ذلك لا شك فيه لأنهم أبعد ما يكونون عن الأغراض المادية) (2)
(إن الإسلام بلغ من تماسك بنائه، ومن حرارة إيمان أهله، ما جعله يبهر العالم بوثبته الهائلة التي لا نظن أن لها في سجلات التاريخ مثيلاً، ففي أقل من مائة عام، ورغم قلة عددهم، استطاع العرب الأمجاد وقد اندفعوا لأول مرة في تاريخهم، خارج حدود جزيرتهم.. أن يستولوا على أغلب بقاع العالم المتحضر القديم: من الهند إلى الأندلس) (3)
(المسلمون، على عكس ما يعتقده الكثيرون، لم يستخدموا القوة أبدًا خارج حدود الحجاز.. لإكراه غيرهم على الإسلام. وإن وجود المسيحيين في أسبانيا لدليل واضح على ذلك، فقد ظلوا آمنين على دينهم طوال القرون الثمانية التي ملك فيها المسلمون بلادهم وكان لبعضهم مناصب رفيعة في بلاط قرطبة. ثم إذا بهؤلاء المسيحيين أنفسهم يصبحون أصحاب السلطان في هذه البلاد فكان أول هم لهم أن يقضوا قضاء تامًا على المسلمين) (4)
(إن القدوة الحسنة التي لا تقترن بمحاولة التبشير المتعصبة، لهي أقوى أثرًا في النفوس التقية من مضايقات القسس المبشرين. ولقد اضطر العالم (دوزي) – رغم تعصبه ضد الإسلام – إلى الاعتراف بأن الكثير من المسيحيين الذين كانوا في إسبانيا (اعتنقوا الإسلام عن عقيدة) (5)
__________
(1) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 18.
(2) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 39.
(3) محمد رسول الله، ص 315.
(4) محمد رسول الله، ص 332.
(5) محمد رسول الله، ص 333.
قلوب مع محمد (121)
(وكيف لا يكون المسلم متسامحًا وهو يجل الأنبياء الذين يجلّهم اليهود والنصارى فموسى بالنسبة إليه (كليم الله) وعيسى (روح الله) يجب تبجيله كما يبجل محمد (حبيب الله): {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) (1)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (كات ستيفنس) (2)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا هو الاسم القديم للمغني الإنجليزي (يوسف إسلام)
قلت: أعرفه.. ويعلم الله شدة محبتي له.. فهل التقيته؟
قال: أجل.. لقد تشرفت بذلك، وقد جمعني معه ـ ومعنا بعض الناس ـ مجلس من المجالس، وقد سأله بعضهم عن قصة إيمانه، فقال: أود أن أبدأ قصتي بما تعرفونه جميعًاً، وهو أن الله قد أستخلفنا في الأرض وأرسل لنا الرسل وآخرهم رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليهدينا إلى الطريق القويم، وعلى الإنسان أن يلاحظ واجبه نحو هذا الإستخلاف وأن يسعى لتحضير نفسه للحياة الخالدة القادمة فمن تفوته الفرصة الآن لن تأتيه أخرى فلن نعود ثانية حيث يقول القران الكريم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (السجدة: 12 - 14)، وقال: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر:
__________
(1) محمد رسول الله، ص 333.
(2) ولد يوسف إسلام تحت اسم ستيفن ديمتري جورجيو في شهر يوليو/ تموز 1947 لأم سويدية وأب من القبارصة اليونانيين. وتربى ستيفن في حي ويست إند بلندن في شقة تقع فوق المطعم المملوك لوالديه.
ونظراً لأن والده كان من القبارصة اليونانيين، فإنه كان يعتنق مذهب الأورثوذكس اليونان لكنه تلقى تعليمه في مدرسة كاثوليكية. وحصل ستيفنز على 8 ألبومات ذهبية متتالية، وحازت أغانيه على شهرة واسعة في بريطانيا والولايات المتحدة.
قلوب مع محمد (122)
37)
وقد نشأت في بيئة مرفهة تملؤها أضواء العمل الفني الإستعراضي المبهرة.. وكانت أسرتي تدين بالمسيحية، وكانت تلك الديانة التي تعلمتها، وقد تعلمت من خلالها أن الله موجود، ولكن لا يمكننا الإتصال المباشر به، فلا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق عيسى فهو الباب للوصول إلى الله، وبالرغم من اقتناعي الجزئي بهذه الفكرة إلا أن عقلي لم يتقبلها بالكلية.
وكنت أنظر إلى تماثيل النبي عيسى فأراها حجارة لا تعرف الحياة، وكانت فكرة التثليث أو ثلاثية الإله تقلقني وتحيرني، ولكني لم أكن أناقش أو أجادل احتراما لمعتقدات والدي الدينية.
ثم بدأت أنصرف عن الدين شيئا فشيئا.. لأنشغل بالموسيقى والغناء، فقد كنت أرغب في أن أكون مغنيا مشهورا.
وقد أخذتني تلك الحياة البراقة بمباهجها ومفاتنها فأصبحت هي إلهي، وأصبح الثراء المطلق هو هدفي تأسياً بأحد أخوالي الذي كان واسع الثراء، وبالطبع كان للمجتمع من حولي تأثير بالغ في ترسيخ هذه الفكرة داخلي حيث أن الدنيا كانت تعني لهم كل شيء وكانت هي إلههم.
ومن ثم اخترت طريقي وعزمت أن يكون المال هو هدفي الأوحد، وأن تكون هذه الحياة هي مبلغ المنى ونهاية المطاف بالنسبة لي، وكان قدوتي في هذه المرحلة كبار مطربي البوب العالميين، وانغمست في هذه الحياة الدنيوية بكل طاقتي، وقدمت الكثير من الأغاني ولكن داخلي وفي أعماق نفسي كان هناك نداء إنساني ورغبة في مساعدة الفقراء عند تحقيقي للثراء المنشود.
ولكن النفس البشرية ـ كما يخبرنا القرآن الكريم ـ لا تفي بكل ما تعد به، بل تزداد طمعاً كلما منحت المزيد، وقد حققت نجاحاً واسعاً، وأنا لم أتعد سنواتي التسعة عشرة بعد، واجتاحت صوري وأخباري وسائل الإعلام المختلفة، فجعلوا مني أسطورة أكبر من الزمن وأكبر من الحياة نفسها، وكانت وسيلتي لتعدي حدود الزمن والوصول إلى القدرات الفائقة هي الانغماس في عالم الخمور والمخدرات.
قلوب مع محمد (123)
بعد مضي عام تقريباً من النجاح المادي والحياة الراقية وتحقيق الشهرة أصبت بالسل ودخلت المستشفى، وأثناء وجودي بالمستشفى أخذت أفكر في حالي وفي حياتي: هل أنا جسد فقط، وكل ما عليَ فعله هو أن أسعد هذا الجسد؟ ومن ثم فقد كانت هذه الأزمة نعمة من الله حتى أفكر في حالي، وكانت فرصة من الله حتى أفتح عيني على الحقيقة وأعود إلى صوابي.. لماذا أنا هنا راقداً في هذا الفراش؟
وأسئلة أخرى كثيرة بدأت أبحث لها عن إجابة، وكان اعتناق عقائد شرق أسيا سائداً في ذلك الوقت، فبدأت أقرأ في هذه المعتقدات، وبدأت لأول مرة أفكر في الموت وأدركت أن الأرواح ستنتقل لحياة أخرى، ولن تقتصر على هذه الحياة، وشعرت آنذاك أني على بداية طريق الهداية، فبدأت أكتسب عادات روحانية مثل التفكر والتأمل وأصبحت نباتياً كي تسمو نفسي وأساعدها على الصفاء الروحي، وأصبحت أؤمن بقوة السلام النفسي وأتأمل الزهور.. ولكن أهم ما توصلت إليه في هذه المرحلة هو إدراكي أني لست جسدا فقط.
وفي أحد الأيام بينما كنت ماشياً إذا بالمطر يهطل، وأجدني أجري لأحتمي من المطر، فتذكرت مقولة كنت قد سمعتها قبل ذلك، وهي أن الجسد مثل الحمار الذي يجب تدريبه حتى يأخذ صاحبه أينما يريد، وإلا فإن الحمار سيأخذ صاحبه إلى المكان الذي يريده هو.
إذاً فأنا إنسان ذو إرادة، ولست مجرد جسد كما بدأت أفهم من خلال قراءتي للمعتقدات الشرقية، ولكني سئمت المسيحية بالكلية، وبعد شفائي عدت لعالم الغناء والموسيقى ثانية، ولكن موسيقاي بدأت تعكس أفكاري الجديدة، وأتذكر إحدى أغنياتي التي قلت فيها:
ليتني أعلم
ليتني أعلم من خلق الجنة والنار
ترى هل سأعرف هذه الحقيقة وأنا في فراشي
أم في حجرة متربة
قلوب مع محمد (124)
بينما يكون الآخرين في حجرات الفنادق الفاخرة.
وعندها عرفت أني على الطريق السليم.
وفي ذلك الوقت كتبت أيضاً أغنية أخرى (الطريق إلى معرفة الله)
وقد ازدادت شهرتي في عالم الموسيقى، وعانيت من أوقات عصيبة لأن شهرتي وغناي كانتا تزدادان بينما كنت من داخلي أبحث عن الحقيقة.
وفي تلك المرحلة أصبحت مقتنعاً أن البوذية قد تكون عقيدة نبيلة وراقية ولكني لم أكن مستعداً لترك العالم والتفرغ للعبادة، فقد كنت ملتصقاً بالدنيا ومتعلقاً بها، ولم أكن مستعداً لأن أكون راهباً في محراب البوذية وأعزل نفسي عن العالم.
وبعدها حاولت أن أجد ضالتي التي أبحث عنها في علم الأبراج أو الأرقام ومعتقدات أخرى لكني لم أكن مقتنعاً بأي منها.
ولم أكن أعرف أي شيء عن الإسلام في ذلك الوقت وتعرفت عليه بطريقة أعتبرها من المعجزات، فقد سافر أخي إلى القدس وعاد مبهوراً بالمسجد الأقصى وبالحركة والحيوية التي تعج بين جنباته على خلاف الكنائس والمعابد اليهودية التي دائماً ما تكون خاوية.
وقد أحضر لي أخي من القدس نسخة مترجمة من القرآن، وعلى الرغم من عدم إعتناقه الإسلام إلا أنه أحس بشيئ غريب تجاه هذا الكتاب وتوقع أن يعجبني وأن أجد فيه ضالتي.
وعندما قرأت الكتاب وجدت فيه الهداية، فقد أخبرني عن حقيقة وجودي والهدف من الحياة وحقيقة خلقي ومن أين أتيت، وعندها أيقنت أن هذا هو الدين الحق، وأن حقيقة هذا الدين تختلف عن فكرة الغرب عنه وأنها ديانة عملية وليست معتقدات تستعملها عندما يكبر سنك وتقل رغبتك في الحياة مثل المعتقدات الأخرى.
ويصم المجتمع الغربي كل من يرغب في تطبيق الدين على حياته والإلتزام به بالتطرف، ولكني لم أكن متطرفاً فقد كنت حائراً في العلاقة بين الروح والجسد فعرفت أنهما لا ينفصلان وأنه
قلوب مع محمد (125)
بالإمكان أن تكون متديناً دون أن تهجر الحياة وتسكن الجبال، وعرفت أيضاً أن علينا أن نخضع لإرادة الله وأن ذلك هو سبيلنا الوحيد للسمو والرقي الذي قد يرفعنا إلى مرتبة الملائكة، وعندها قويت رغبتي في اعتناق الإسلام.
وبدأت أدرك أن كل شئ من خلق الله ومن صنعه وأنه لاتأخذه سنة ولا نوم، وعندها بدأت أتنازل عن تكبري لأني عرفت خالقي وعرفت أيضاً السبب الحقيقي وراء وجودي وهو الخضوع التام لتعاليم الله والانقياد له وهو ما يعرف بالإسلام.
وعندها اكتشفت أني مسلم في أعماقي، وعند قراءتي للقرآن علمت أن الله قد أرسل بكافة الرسل برسالة واحدة، إذاً فلماذا يختلف المسيحيين واليهود؟ نعم، لم يتقبل اليهود المسيح لأنهم غيروا كلامه، وحتى المسيحيون أنفسهم لم يفهموا رسالة المسيح وقالوا أنه ابن الله، كل ما قرأته في القرآن من الأسباب والمبررات بدا معقولاً ومنطقياً.
وهنا يكمن جمال القرآن فهو يدعوك أن تتأمل وأن تتفكر وأن لا تعبد الشمس أو القمر، بل تعبد الخالق الذي خلق كل شيء، فالقرآن أمر الإنسان أن يتأمل في الشمس والقمر وفي كافة مخلوقات الله. فهل لاحظت إلى أي مدى تختلف الشمس عن القمر؟ فبالرغم من إختلاف بعدهما عن الأرض إلا أن كل منهما يبدو وكأنه على نفس البعد من الأرض! وفي بعض الأحيان يبدو وكأن أحدهما يغطي الأخر! سبحان الله.
وعندما صعد رواد الفضاء إلى الفضاء الخارجي ولاحظوا صغر حجم الأرض مقارنة بالفضاء الخارجي أصبحوا مؤمنين بالله لأنهم شاهدوا آيات قدرته.
وكلما قرأت المزيد من القرآن عرفت الكثير عن الصلاة والزكاة وحسن المعاملة.. ولم أكن قد اعتنقت الإسلام بعد، ولكني أدركت أن القرآن هو ضالتي المنشودة، وأن الله قد أرسله إلىّ، ولكني أبقيت ما بداخلي سرا لم أبح به إلى أحد.
وبما أن فهمي يزداد لمعانيه عندما قرأت أنه لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا أولياء من الكفار
قلوب مع محمد (126)
تمنيت أن ألقى إخواني في الإيمان.
وفي ذلك الوقت فكرت في الذهاب إلى القدس مثلما فعل أخي، وهناك بينما أنا جالس في المسجد سألني رجل: ماذا تريد؟ فأخبرته بأني مسلم، وبعدها سألني عن اسمي فقلت له: (ستيفنس)، فتحير الرجل، وانضممت إلى صفوف المصلين، وحاولت أن أقوم بالحركات قدر المستطاع.
بعد عودتي إلى لندن قابلت أختا مسلمة اسمها نفيسة، وأخبرتها برغبتي في إعتناق الإسلام، فدلتني على مسجد نيو ريجنت، وكان ذلك في عام 1977 بعد عام ونصف تقريباً من قراءتي للقرآن، وكنت قد أيقنت عند ذلك الوقت أنه عليّ أن أتخلص من كبريائي وأتخلص من الشيطان وأتجه إلى اتجاه واحد.
وفي يوم الجمعة بعد الصلاة اقتربت من الإمام وأعلنت الشهادة بين يديه.
سكت قليلا، ثم قال: رغم تحقيقي للثراء والشهرة إلا أني لم أصل إلى الهداية إلا عن طريق القرآن، والآن أصبح بإمكاني تحقيق الاتصال المباشر مع الله بخلاف الحال في المسيحية والديانات الأخرى.
لقد أخبرتني سيدة هندوسية ذات مرة قائلة: (أنت لا تفهم الهندوسية، فنحن نؤمن بإله واحد، ولكننا نستخدم هذه التماثيل للتركيز).. ومعنى كلامها أنه يجب أن تكون هناك وسائط لتصلك بالله، ولكن الإسلام أزال كل هذه الحواجز، والشيء الوحيد الذي يفصل بين المؤمنين وغيرهم هو الصلاة، فهي السبيل إلى الطهارة الروحية.
وأخيراً أود أن أقول: إن كل أعمالي أبتغي بها وجه الله، وأدعو الله أن يكون في قصتي عبرة لمن يقرؤها.. وأود أن أقرر أني لم أقابل أي مسلم قبل اقتناعي بالإسلام، ولم أتأثر بأي شخص، فقد قرأت القرآن ولاحظت أنه لا يوجد إنسان كامل، ولكن الإسلام كامل، وإذا قمنا بتطبيق القرآن وتعاليم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فسوف ننجح في هذه الحياة.
قلوب مع محمد (127)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (ويل سميث)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا ممثل أمريكي وفقه الله، فأسلم بعد ما أثار فضوله للبحث في الإسلام تمثيله لفيلم (علي)، الذي يحكي قصة حياة لاعب الملاكمة الأمريكي المسلم (محمد علي كلاي)، فعندما قرأ قصة حياة محمد علي، بدأ يتساءل حول ماهية هذه الديانة العظيمة، وبدأ يبحث في أسرارها وكيف تزداد قوة يوما بعد يوم وكيف يزداد كذلك عدد معتنقيها يوما بعد يوم، وخاصة في الولايات المتحدة أكثر منها في أي بلد آخر.
واكتشف ويل سميث، بعد قراءة الكثير عن الإسلام، الحقيقة، التي تؤكد أن الإسلام هو الطريق الذي يجب اتباعه في هذه الحياة، وكان قد اتصل ببعض الإتحادات والمراكز الإسلامية بالولايات المتحدة، وقرر اعتناق الإسلام.
وقد ذكر هذا الممثل العالمي أنه سوف يواصل الدراسة والبحث حول الإسلام لكي يستطيع أن يطبقه كما ينبغي أن يطبق.
وقد ذكر السيد سفيان زاكوت.. وهو مدير رابطة مسلمي أمريكا الشمالية.. أن محمد علي هو مثل جيد للمسلمين، وكذلك هو متحدث جيد عن الإسلام في الولايات المتحدة في كافة المجالات، وإذا استطاع ويل سميث أن يقوم بنفس الدور فسوف يكون ذلك مفيد جدًا للمسلمين في أمريكا.
وكان ويل سميث قد ظهر في برنامج في التليفزيون الأمريكي لجمع التبرعات لحادث سبتمبر إلى جوار محمد علي، وقد دافعا عن الإسلام، وقالوا عنه: إنه دين السلام والمحبة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (جينو لو كابوتو)، فسألت
قلوب مع محمد (128)
الغريب عنه، فقال: هذا فنان إيطالي، وقد كان يرأس مهرجان البحر الأبيض المتوسط في مدينة بيشيله الإيطالية منذ عام 1996 وله اهتمامات عدة في المسرح والسينما والشعر وكذلك في ثقافة الأطفال وفنونهم بالإضافة الي كونه رائد المهرجان الدولي شعر ـ موسيقي ـ مسرح الذي يقام في مدينة كونفر سانو بجنوب إيطاليا.
وقد قدر الله أن ألتقي به بعد إعلان إسلامه في عمان، وقد سألته عن سر اعتناقه للإسلام، فأجاب: منذ أكثر من عشرين سنة، وأنا أطوف في بلدان عربية وإسلامية وأعيد مخزوني الثقافي متوغلاً في تفاصيل الإسلام حيث تعلمت أركانه والآذان والصلاة فضلاً عن اقترابه الشديد من الدين المسيحي وعرفت أن الإسلام هو إلى الأبد، مدعوماً بنصائح ودروس كنت أتلقاها من صديقي الدكتور سلطان العويضة الملحق الثقافي السعودي إذ تفرغ لي كثيراً وأعطاني الكثير من المعلومات والقصص وسير المسلمين وأهمية القرآن الكريم وأحاديث خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدرجة أني شعرت بانتصار روحي فور دخولي الدين الإسلامي، هذا وقررت تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم والمواظبة علي حفظ حدود الله بالإضافة الي دراسة تاريخ الصحابة من المسلمين الأوائل.
وأضاف: لقد وجدت أن كل الحضارات الإنسانية تستلهم قيمها من الدين الإسلامي نفسه، وأن ابن خلدون وابن رشد هما عربيان وللأسف ان الغرب ينظر الي الإسلام نظرة خاطئة.
وقال: أرى أن الإسلام يحمل المعاني السامية والنبيلة ويهذب الذات ويعطي للإنسان أملاً وحياة تنبض بالخير والعطاء والإيمان والسلام، وأدركت أن الإنسان لا يمكن أن يعيش لوحده من دون الله.
قلوب مع محمد (129)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (جيرمان جاكسون) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا مغن أمريكي.. وهو شقيق المغني المعروف (مايكل جاكسون)، وقد قدر الله أن ألتقي به لأسأله عن سر إسلامه، فكان من جوابه لي: عند زيارتي إلى عدد من دول منطقة الشرق الاوسط في عام 1989 بصحبة أختي الكبرى، حيث زرنا خلال هذه المرحلة البحرين ورحب بنا الكثيرون.
وكنت مرة أتبادل الحديث مع الاطفال في المنامة خلال تلك الرحلة، فمن جملة أسئلتهم البريئة سؤال كان عن ديني، فأجبتهم بأنني مسيحي، وسألتهم بدوري عن دينهم، فأجابوني بصوت واحد أن دينهم الإسلام، وكانوا فخورين جدا بالانتماء لهذا الدين، وانطلقوا في الحديث عنه، وسألتهم أكثر عنه، وصار كل واحد منهم يحدثني عن الإسلام بطريقة أدهشتني، فهؤلاء الاطفال الذين أحببتهم كانوا فخورين جدا بدينهم ويتحدثون عنه بسعادة غامرة.
بعد عودتي من البحرين والحديث مع أولئك الاطفال عن الإسلام تيقنت من أنني سأصبح مسلماً.. وتحدثت مع صديق لي اسمه علي قنبر عن هذا الشعور الذي بدأ ينتابني منذ فترة، وأفصحت له عن رغبتي في تعلم المزيد عن الإسلام، وسافرت معه الى المملكة العربية السعودية لأتعرف على الإسلام أكثر فأكثر، وهناك أعلنت اسلامي.
سكت قليلا، ثم قال: سافرت مع صديقي علي قنبر الى مدينة الرياض لمعرفة المزيد عن الإسلام، ومن هناك سافرت الى جدة واصطحبتني اسرة سعودية كريمة بعد اعتناقي للاسلام الى مكة المكرمة لاداء العمرة.
وقد وصف جاكسون أنه بعد إسلامه شعر بأنه ولد من جديد، يقول: كانت لدي العديد من الاسئلة الحائرة التي ابحث لها عن اجابات، خاصة الاسئلة المتعلقة بالمسيحية وعيسى عليه السلام، فوجدت إجابات جاهزة ومقنعة لكل هذه الاسئلة لحظة اعتناقي الإسلام.
__________
(1) انظر قصة إسلامه في حوار أجرته معه مجلة (المجلة) في العدد 966.
قلوب مع محمد (130)
وقد كنت في حيرة من امري كمسيحي نشأ في أسرة متدينة، اذ كان يحيرني دائما أن الانجيل مكتوب على ايدي اشخاص عاديين، وكان دائما يخطر ببالي أن هؤلاء بشر فكل واحد منهم سيراعي نفسه ومجموعته في ما يكتب، بينما القرآن كتاب الله حفظه الله على مر السنين والاجيال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)
وفي السعودية وجدت اشرطة جميلة جدا للمغني البريطاني السابق والداعية الإسلامي يوسف اسلام، وفيها مناظرة حول الإسلام والمسيحية ومنها تعلمت الشيء الكثير.
وقد حدثني في لقائي معه عن الحملة الإعلامية الجائرة التي يعترض لها الإسلام، وقد ذكر لي عجبه من أن الناس العاديين في اميركا يصدقون هذه الحملة الاعلامية الجائرة لجهلهم بحقيقة الإسلام وسماحة هذا الدين.
قال جاكسون: ان الحملة الاعلامية الجائرة في اميركا ضد الإسلام والمسلمين لم تقتصر على اجهزة الاعلام المختلفة، بل ان هوليوود عاصمة صناعة السينما الاميركية تحاول فيما تنتجه من أفلام أن تصور للناس ان المسلمين ارهابيون وقتلة واشرار. ولقد عرفت من خلال تجربتي قبل اعتناقي الإسلام وبعده ان الناس عليهم الا يصدقوا ما تنتجه هوليوود من افلام تسيء الى الإسلام والمسلمين. وان هذا التشويه يؤلم كل مسلم ويجعله يتمنى لو انه يستطيع تغيير هذه الصورة بصورة الإسلام الحقيقية اسلام الحضارة والنور، اسلام التسامح والاخاء.
وقد ذكر لي تأثير الإسلام فيه، فقال: لقد قدم لي الإسلام حلا لكل مشكلاتي، فأصبحت إنسانا بلا أي مشاكل، وكنت من داخلي أتغير بشكل رائع، حيث امتنعت عن شرب الخمر تماما وغيرها من الاشياء المحرمة امتثالا لأوامر ديني الجديد.
قلوب مع محمد (131)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (براين هوايت) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم موسيقي بريطاني هداه الله للإسلام، وقد اختار أن يسمى بعد إسلامه (إبراهيم هويت)
وقد تشرفت بالالتقاء به والحديث معه عن سر إسلامه، ولست أدري لم اختار أن يبدأ حديثه بقوله: من المحتمل أن أكون عنصريا متطرفا في عنصريتي قبل اعتناقي للدين الإسلامي، الدين الذي علمني معنى التسامح والتراحم بين الناس ونزع عني شرور التطرف والكراهية والقسوة.
ثم أضاف: اعتقد أنه من فرط عنصريتي وتطرفي أنني لم اتحدث مع شخص غير أبيض لمدة 21 عاما من حياتي، فكنت شخصا معتدا بنفسه وبلون بشرته أكثر من اللازم، وأعيش حياة نظيفة وراقية، وأجتهد في عملي كسائر أبناء الشمال البريطاني. وكنت أحسب أن العالم ينتهي عند مدينة ميدلسبره البريطانية، حيث تنشئتي وتربيتي هناك.
ثم حدثني عن كون هذا هو سر إسلامه فيما بعد.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد ذكر لي أنه ذهب إلى أحد المساجد في مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، وشاهد مصلين من مختلف الاجناس والألوان يصلون مع بعضهم بعضا، فاندهش لذلك اندهاشا كان مقدمة لإسلامه، قال لي: عندما رأيت ذلك المشهد الرهيب قلت لنفسي: ما هي حقيقة الإسلام؟ هذا الدين الذي يستطيع أن يجمع الناس في جنوب افريقيا من كل الاماكن ومن مختلف الاجناس والألوان؟ وعندما عدت الى بريطانيا حرصت على البدء في القراءة عن الدين الإسلامي.
ثم قررت اشهار اسلامي بعد دراسة عميقة للدين الإسلامي، وشعرت بارتياح وسعادة بالغتين، لان الله سبحانه وتعالى هداني الى هذا القرار الخاص باعتناقي للاسلام. وسارعت الى تعليق آلاتي الموسيقية وهجرت شرب الخمر والذهاب الى الحانات والليالي الصاخبة.
__________
(1) انظر: المسلمون الجدد -إعداد: إمام محمد إمام.
قلوب مع محمد (132)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (كريستيان باكر)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم مغنية من قناة إم تي في (MTV) الأوروبية، وقد ولدت في عائلة بروستانتية وعاشت في هامبورج، بألمانيا، وقد حدثتني عن نفسها قبل إسلامها، والألم يعتصرها، فقالت: عندما كنت في سن الواحدة والعشرين اشتركت في راديو هامبورج كمذيعة في الراديو.. وعشت في نوتينج هيل، وكنت البنت الجديدة في المدينة، لقد دعيت إلى كل مكان، وصورني المصورون وتابعتني الصحافة.. التقيت بالكثير من المشاهير، واستمتعت بوقتي.. لقد أنفقت معظم مالي في الملابس، وسافرت إلى كل أوروبا، وإلى أفضل الأماكن.
لقد كنت الفتاة الأولى في قناة إم تي في، وظهرت في شاشة التلفاز طوال الوقت، وعرفني الناس في أوروبا كلها، وفي وقت من الأوقات وقفت على المنصة أمام سبعين ألف شخص.. لسبع سنوات قدمت برامج كثيرة، وقابلت الكثيرين من نجوم الغناء.
قلت: فكيف تحولت عن هذه الحياة إلى حياة الإيمان؟
قالت: لقد كنت ـ في كل ذلك الضجيج ـ منجذبة نحو الحياة الروحية، ولكن لم أفعل أي خطوات عملية نحو تلك الحياة إلى أن التقيت في عام 1992 م بعمران خان، وهو من فريق لعبة الكريكت الباكستاني، وكانت تلك أول مرة ألتقي فيها بمسلم.
وقد كان عمران في ذلك الوقت يبحث عن حقيقة الإيمان، وقد دارت بيننا الكثير من النقاشات عن الإسلام، وقد أعطاني بعض الكتب عن الإسلام، وبدأت أقرأ عن دين الله.
وفي ذلك الحين بدأت في تحدي انحيازاتي، وبدأت أنظر بين السطور، وقرأت القرآن وبدأ كل شئ يكون له معنى.
قلت: إن قومنا يشوهون موقف الإسلام من المرأة، ألم يؤثر ذلك فيك؟
قالت: كامرأة غربية عصرية وذات درجة علمية، احتجت لأن أنظر إلى رؤية الإسلام
قلوب مع محمد (133)
للمرأة، لا يمكن أن أقبل بأن أظلم، فاكتشفت أن رسالة الإسلام مؤيدة للمرأة ومؤيدة للرجل، في الإسلام كان للمرأة حق التصويت في عام 600، الرجال يلبسون ملابس محتشمة، والنساء يلبسون ملابس محتشمة، لا أحد من الجنسين يطلق العنان لنظره... بل كلا الجنسين يغض بصره، لا أظن أنها ظاهرة صحية بأن يطلق الناس العنان لشهواتهم الجنسية.. إن ذلك يثير الشهوة الخاطئة مرة أخرى.
قلت: فبم اشتغلت بعد إسلامك؟
قالت: لقد فتح الإسلام لي نوافذ كثيرة كانت مغلقة في وجهي.. أنا الآن أصلي الصلوات الخمس، وأصوم شهر رمضان.. وكنت أشرب الخمر في باريس.. ولكن الآن لا ألمسها.. وفي عام 2001 ذهبت إلى مكة.. وكانت تجربة رائعة.. لقد عدت بالسعادة والطمأنينة.. وعندما عدت بدأت بالدراسة الجامعية في جامعة ويست مينيستر، حيث درست الطب الطبيعي، والأعشاب، والطب الصيني.. لقد فتحت أمامي أبواب أخرى لعالم عجيب، النظرة الأخرى للإنسان والطبيعة، والصحة والمرض.
هذا ما حدثتني به، وقد كان آخر ما ذكرته لي قولها، والبشر يعلو وجهها: الإسلام هو أكبر هدية حصلت عليها.
قلوب مع محمد (134)
فتحت دفتر الغريب على فصله الخامس، فوجدت عنوانه (العلماء)، فقلت: من تقصد بالعلماء.. علماء الدين، أم علماء الدنيا.. أم كلاهما؟
قال: عندما وضعت هذا العنوان كنت لا أزال على دين قومي، ولهذا كنت أعتقد المفاصلة بين الدين والعلم.. فلهذا أطلقت اسم (الأحبار) على علماء الدين، وأطلقت هذا الاسم على علماء الدنيا.
قلت: فكيف أتيح لك أن تلقى من علماء الدنيا من يبثك نفحات صدقه.. وأنا لا أراهم إلا مشغولين بمخابرهم وبحوثهم وشهاداتهم وتنافسهم في كل ذلك.
قال: ما تقوله صحيح.. ولكن من هؤلاء العلماء من كان يتيح المجال لعقله ليبحث في أسرار الكون.. وهؤلاء عادة لا يجدون دينا يملؤهم بالقناعة غير الإسلام.
لقد ذكر القرآن الكريم تأثير الإيمان في العلماء، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28)
وقد أخبر القرآن الكريم أن الذين أوتو العلم أقرب الناس إدراكا للحق، فقال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ:6)
لقد حصل الكثير مما ذكر القرآن الكريم.. بل أنا أجزم أن المسلمين لو استطاعوا أن ينشروا تلك العجائب التي امتلأ بها القرآن لتحول جميع علماء الدنيا إلى مسلمين..
لقد سمعت مرة الدكتور زغلول النجار (1)، وهو يتحدث عن تأثير نواحي الإعجاز العلمي في النصوص المقدسة.. فقال: دعيت مرة لحضور مؤتمر عقد للإعجاز في موسكو، فكرهت في بادئ الأمر أن أحضره، لأنه يعقد في بلد كانت هي عاصمة الكفر والإلحاد لأكثر من سبعين سنة،
__________
(1) من كتاب (الذين هدى الله) للدكتور زغلول النجار.
قلوب مع محمد (135)
وقلت في نفسي: ماذا يعلم هؤلاء الناس عن الله حتي ندعوهم إلي ما نادي به القرآن الكريم!؟
فقيل لي: لابد من الذهاب، فإن الدعوة قد وجهت إلينا من قبل الأكاديمية الطبية الروسية.. فذهبنا إلي موسكو، وفي أثناء استعراض بعض الآيات الكونية، وبالتحديد عند قول الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة:5) وقف أحد العلماء المسلمين وقال: إذا كانت ألف سنة تساوي قدران من الزمان غير متكافئين دل ذلك علي اختلاف السرعة. ثم بدأ يحسب هذه السرعة فقال: ألف سنة.. لابد أن تكون ألف سنة قمرية، لأن العرب لم يكونوا يعرفون السنة الشمسية، والسنة القمرية اثنا عشر شهراً قمرياً، ومدة الشهر القمري هي مدار القمر حول الأرض، وهذا المدار محسوب بدقة بالغة، وهو 2،4 بليون كم.. و2،4 بليون مضروب في 12، وهو عدد شهور السنة، ثم في ألف سنة، ثم يقسم هذا الناتج علي أربع وعشرين، وهو عدد ساعات اليوم، ثم علي ستين ـ الدقائق ـ ثم علي ستين ـ الثواني ـ فتوصل هذا الرجل إلي سرعة أعلي من سرعة الضوء.
فوقف أستاذ في الفيزياء ـ وهو عضو في الإكاديمية الروسية ـ وهو يقول: لقد كنت أظنني ـ قبل هذا المؤتمر ـ من المبرزين في علم الفيزياء، وفي علم الضوء بالذات، فإذا بعلم أكبر من علمي بكثير، ولا أستطيع أن أعتذر عن تقصيري في معرفة هذا العلم إلا أن أعلن أمامكم جميعاً أني (أشهدأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)
ثم تبعه في ذلك أربعة من المترجمين، الذين ماتحدثنا معهم علي الإطلاق، وإنما كانوا قابعين في غرفهم الزجاجية يترجمون الحديث من العربية إلي الروسية والعكس، فجاءونا يشهدون أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ليس هذا فحسب وإنما علمنا بعد ذلك أن التلفاز الروسي قد سجل هذه الحلقات وأذاعها كاملة، فبلغنا أن أكثر من 37 عالماً من أشهر العلماء الروس قد أسلموا بمجرد مشاهدتهم لهذه الحلقات.
قلوب مع محمد (136)
التفت الغريب إلي، وقال: هذه ثمرات مؤتمر أكاديمي واحد، فكيف لو اجتهد المسلمون للوصول إلى مخابر هؤلاء العلماء ومحادثتهم وجها لوجه!؟
كان أول اسم سجل في هذا الفصل اسم (موريس بوكاي)، فقلت: من هذا الرجل.. وكيف أتيح لك أن تلتقي به.. وماذا قال لك.. وما!؟
قاطعني الغريب قائلا: هذا رجل عظيم، وهو من أكثر الشخصيات التي أحترمها.. وهو يمثل العالم المنصف، والباحث الواصل.
قلت: لم؟
قال: هو ـ أولا ـ طبيب فرنسي، بل هو رئيس قسم الجراحة في جامعة باريس، وقد منحته الأكاديمية الفرنسية عام 1988 م جائزة في التاريخ.. ويُعتبر كتابه (التوراة والقرآن والعلم) من أهم الكتب التي درست الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة، وله ـ بالإضافة إليه ـ كتاب (القرآن الكريم والعلم العصري)
قلت: فكيف كانت رحلته إلى الإسلام؟
قال: لقد ذكر ذلك في كتبه.. وقد تشرفت بلقائه، فسمعت ذلك منه مشافهة، ومما ذكره لي قوله: (لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة باحثًا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعًا كثيرة من الظاهرات الطبيعية ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين، فقد وجدت مقولات لا
قلوب مع محمد (137)
يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخًا في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل.. فإننا نجد نصّ إنجيل متى يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرًا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض) (1)
قلت: فقد اهتدى إلى الإسلام بسبب مقارنته بين القرآن الكريم والكتاب المقدس في النواحي العلمية؟
قال: أجل.. لقد كان شديد الإعجاب بما في القرآن الكريم من نواحي الإعجاز العلمي، وقد قال لي ـ في لقائي معه ـ: (لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية، فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحدّ من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقته تمامًا للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصّ كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا.. في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام.. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة) (2)
لقد (تناولتُ القرآن منتبهًا بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية.. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا في النص الأصلي، أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرة والتي لم يكن ممكنًا لأي إنسان في عصر محمد أن يكون عنها أدنى فكرة) (3)
لقد كنت أقول لنفسي: (كيف يمكن لإنسان – كان في بداية أمره أمّيًا -.. أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكونها، وذلك دون أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟) (4)
__________
(1) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص 150.
(2) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص 145.
(3) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص 145.
(4) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص 150.
قلوب مع محمد (138)
ليس ذلك فقط هو الذي جعل موريس بوكاي يمتلئ قناعة بالإسلام، هناك شيء آخر له أهميته الكبرى.
قلت: تقصد موقف الإسلام من العلم؟
قال: أجل.. فهو موقف مختلف كثيرا، بل مناقض لموقف الكنيسة، لقد قال لي ـ وهو الباحث المنصف ـ (إن الإسلام قد اعتبر دائمًا أن الدين والعلم توأمان متلازمان. فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءًا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. وأن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا) (1)
وقال لي: (في الإسلام كان الموقف إزاء العلم مختلفًا [عن المسيحية] إذ ليس هناك أوضح من ذلك الحديث الشهير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد) أو ذلك الحديث الآخر الذي يقول: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) هناك أمر رئيسيّ: القرآن، إلى جانب أنه يدعو إلى المواظبة على الاشتغال بالعلم، فإنه يحتوي أيضًا على تأملات عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية وبتفاصيل توضيحية تتفق تمامًا مع معطيات العلم الحديث) (2)
وقد ذكر لي أن تلك المقارنات التي كان يجريها بين موقف المسلمين من العلم طيلة تاريخهم الطويل مقارنة بموقف الكنيسة كانت سببا من أسباب إسلامه، فهو يقول: (علينا أن نتذكر أنه في عصر عظمة الإسلام، أي بين القرن الثامن والقرن الثاني عشر من العصر المسيحي، وعلى حين كانت تفرض القيود على التطور العلمي في بلداننا المسيحية، أنجزت كمية عظيمة من الأبحاث والاكتشافات بالجامعات الإسلامية.. في ذلك العصر كان الباحث بهذه الجامعات يجد وسائل ثقافية عظيمة، ففي قرطبة كانت مكتبة الخليفة تحتوي على أربعمائة ألف مجلد.. [وكان] الكثيرون
__________
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص 14.
(2) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص 140.
قلوب مع محمد (139)
يسافرون من مختلف بلاد أوروبا للدراسة فيها، ولكن كم هي كثيرة تلك المخطوطات القديمة التي وصلت إلينا بواسطة الأدباء العرب ناقلة بذلك الثقافة إلى البلاد المفتوحة، ولكم نحن مدينون للثقافة العربية في الرياضيات (فالجبر عربي) وعلم الفلك والفيزياء (البصريات) والجيولوجيا وعلم النباتات والطب إلى غير ذلك. لقد اتخذ العلم لأول مرة صفة عالمية في جامعات العصر الوسيط الإسلامية. في ذلك العصر كان الناس أكثر تأثرًا بالروح الدينية مما هم عليه في عصرنا، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين وعلماء. كان العلم الأخ التوأم للدين. لكم كان ينبغي على العلم ألا يكف عن أن يكون كذلك) (1)
قلت: أحسبني.. بل أحسب كل من قرأ كتب موريس يعلم هذا.. ولكني أبحث عن الشعاع الأول الذي اهتدى به إلى شمس محمد.
قال: لقد ذكر لي قصة ذلك (2).. بل أخبرني عن حياته الشخصية فذكر لي أنه ولد من أبوين فرنسيين، وترعرع كما ترعرع أهله في الديانة النصرانية، ولما أنهى تعليمه الثانوي انخرط طالبا في كلية الطب في جامعة فرنسا، فكان من الأوائل حتى نال شهادة الطب، وارتقى به الحال حتى أصبح أشهر وأمهر جراح عرفته فرنسا الحديثة.
فكان من مهارته في الجراحة قصة عجيبة قلبت له حياته وغيرت له كيانه.
التفت الغريب إلي، وقال: أنت تعلم أن فرنسا من أكثر الدول اهتماما بالآثار والتراث، ولهذا عندما تسلم الرئيس الفرنسي (فرانسوا ميتران) زمام الحكم في البلاد عام 1981 طلبت فرنسا من دولة (مصر) في نهاية الثمانينات استضافة مومياء (فرعون مصر) إلى فرنسا لإجراء اختبارات وفحوصات أثرية ومعالجة..
فتم نقل جثمان فرعون من مصر.. وهناك وعلى أرض المطار اصطف الرئيس الفرنسي
__________
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص 140 – 141.
(2) انظر في هذا مقالا لد. محمد يوسف المليفي في كتاب (لماذا أسلموا)
قلوب مع محمد (140)
منحنيا هو ووزراؤه وكبار المسؤولين في البلد عند سلم الطائرة ليستقبلوا فرعون مصر استقبال الملوك وكأنه مازال حيا.
وعندما انتهت مراسم الاستقبال الملكي لفرعون مصر على أرض فرنسا حملت مومياء فرعون بموكب لا يقل حفاوة عن استقباله، وتم نقله إلى جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي، ليبدأ بعدها أكبر علماء الآثار في فرنسا وأطباء الجراحة والتشريح دراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها، وكان رئيس الجراحين والمسؤول الأول عن دراسة هذه المومياء الفرعونية هو البروفيسور موريس بوكاي.
لقد كان المعالجون ـ في ذلك الموقف ـ مهتمين بترميم المومياء، بينما كان اهتمام رئيسهم (موريس بوكاي) مختلفا عنهم غاية الاختلاف.. فقد كان يحاول أن يكتشف كيف مات هذا الملك الفرعوني.
وفي ساعة متأخرة من الليل ظهرت نتائج تحليله النهائية..
لقد كانت بقايا الملح العالق في جسده أكبر دليل على أنه مات غريقا، وأن جثته استخرجت من البحر بعد غرقه فورا، ثم أسرعوا بتحنيط جثته لينجو بدنه.
لكن ثمة أمراً غريباً مازال يحيره، وهو كيف بقيت هذه الجثة دون باقي الجثث الفرعونية المحنطة أكثر سلامة من غيرها رغم أنها استخرجت من البحر..!
كان موريس بوكاي يعد تقريراً نهائيا عما كان يعتقده اكتشافاً جديداً في انتشال جثة فرعون من البحر وتحنيطها بعد غرقه مباشرة، حتى همس أحدهم في أذنه قائلا: لا تتعجل، فإن المسلمين يتحدثون عن غرق هذه المومياء.
لكنه استنكر بشدة هذا الخبر، واستغربه، فمثل هذا الإكتشاف لايمكن معرفته إلا بتطور العلم الحديث وعبر أجهزة حاسوبية حديثة بالغة الدقة، فقال له أحدهم: إن قرآنهم الذي يؤمنون به يروي قصة عن غرقه وعن سلامة جثته بعد الغرق.
قلوب مع محمد (141)
فازداد ذهولا وأخذ يتساءل: كيف يكون هذا وهذه المومياء لم تكتشف أصلا إلا في عام 1898 ميلادية أي قبل مائتي عام تقريبا، بينما قرآنهم موجود قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام.
وكيف يستقيم في العقل هذا، والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث فراعنتهم إلا قبل عقود قليلة من الزمان فقط.
جلس (موريس بوكاي) ليلته محدقا بجثمان فرعون، يفكر بإمعان عما همس به صاحبه له من أن قرآن المسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق.. بينما الكتاب المقدس يتحدث عن غرق فرعون أثناء مطاردته لسيدنا موسى عليه السلام دون أن يتعرض لمصير جثمانه البتة.. وأخذ يقول في نفسه: هل يعقل أن يكون هذا المحنط أمامي هو فرعون مصر الذي كان يطارد موسى!؟
وهل يعقل ان يعرف محمدهم هذا قبل أكثر من ألف عام وأنا للتو أعرفه!؟
لم يستطع (موريس) أن ينام، وطلب أن يأتوا له بالتوراة، فأخذ يقرأ في (سفر الخروج) من التوراة قوله (فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر لم يبق منهم ولا واحد).. وبقي موريس بوكاي حائرا. ً
حتى الكتاب المقدس لم يتحدث عن نجاة هذه الجثة وبقائها سليمة بعد أن تمت معالجة جثمان فرعون وترميمه.
أعادت فرنسا لمصر المومياء بتابوت زجاجي فاخر يليق بمقام فرعون.. ولكن (موريس) لم يهنأ له قرار ولم يهدأ له بال منذ أن هزه الخبر الذي يتناقله المسلمون عن سلامة هذه الجثة.
فحزم أمتعته وقرر أن يسافر إلى المملكة السعودية لحضور مؤتمر طبي يتواجد فيه جمع من علماء التشريح المسلمين.
وهناك كان أول حديث تحدثه معهم عما اكشتفه من نجاة جثة فرعون بعد الغرق.. فقام أحدهم وفتح له المصحف وأخذ يقرأ له قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
قلوب مع محمد (142)
آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (يونس:92)
لقد كان وقع الآية عليه شديدا.. بل رجت له نفسه رجة جعلته يقف أمام الحضور ويصرخ بأعلى صوته: (لقد دخلت الإسلام وآمنت بهذا القرآن)
رجع (موريس بوكاي) إلى فرنسا بغير الوجه الذى ذهب به.. وهناك مكث عشر سنوات ليس لديه شغل يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمكتشفة حديثا مع القرآن الكريم، والبحث عن تناقض علمي واحد مما يتحدث به القرآن ليخرج بعدها بنتيجة نص عليها قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)
كان من ثمرة هذه السنوات التي قضاها موريس أن خرج بتأليف كتاب عن القرآن الكريم هز الدول الغربية قاطبة ورج علماءها رجا، لقد كان عنوان الكتاب (القرآن والتوراة والإنجيل والعلم.. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)
قلت: كيف كان تأثير هذا الكتاب على الأوروبيين؟
قال: لقد كان تأثيرا خطيرا.. فهو من أول طبعة له نفد من جميع المكتبات.. ثم أعيدت طباعته بمئات الآلاف بعد أن ترجم من لغته الأصلية (الفرنسية) إلى العربية والإنكليزية والأندونيسية والفارسية والصربكرواتية والتركية والأوردوية والكجوراتية والألمانية، لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب.
قلت: ألم يلق هذا الكتاب ردا من الدوائر الرسمية التي تعودت على بث الشبهات عن الإسلام؟
قال: بلى.. لقد بذلوا كل جهودهم للرد عليه.. ولكنهم لم يكتبوا غير تهريج جدلي، ومحاولات يائسة أملتها عليهم وساوس الشيطان.. وقد كان آخرهم الدكتور (وليم كامبل) في كتابه المسمى (القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم) فقد شرق وغرب ولم يستطع في النهاية أن يحرز شيئا.
قلوب مع محمد (143)
بل الأعجب من هذا أن بعض العلماء في الغرب بدأ يجهز رداً على الكتاب، فلما انغمس بقراءته أكثر وتمعن فيه زيادة.. أسلم ونطق بالشهادتين على الملأ.
رأيت اسم (كيث مور)، فسألت الغريب عنه، فقال: تعرفت على هذا الرجل في بعض الجامعات حيث تقدم ليلقي محاضرة بعنوان (مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة)، وقد قدمه مدير الجامعة (1) بقوله: محاضرنا اليوم هو الأستاذ كيث مور.. وهو أستاذ علم التشريح والأجنة في جامعة تورنتو بكندا، وقد تدرج فيها حتى وصل إلى هذه المرتبة في جامعات عديدة، منها جامعة توينابك في الغرب الكندي حيث كان هناك لمدة 11 سنة، ورأس العديد من الجمعيات الدولية، منها على سبيل المثال جمعية علماء التشريح والأجنة في كندا وأمريكا، ومجلس اتحاد العلوم الحيوية الأخرى، كما انتخب عضواً بالجمعية الطبية الملكية بكندا، والأكاديمية الدولية لعلوم الخلايا، والاتحاد الأمريكي لأطباء التشريح، وعضواً في إتحاد الأمريكتين في التشريح أيضاً، وقد ألف العديد من الكتب، بعض هذه الكتب في مجال التشريح الأكلينكي وعلم الأجنة، وله ثمانية كتب تعتبر مرجعاً لطلاب كليات الطب، وقد ترجمت إلى ست لغات: الإيطالية، والألمانية، والبرتغالية، والإسبانية، واليونانية، والصينية)
بعد هذا التقديم تقدم الدكتور مور لإلقاء محاضرته، فقال: (لقد أسعدني جداً أن أشارك في توضيح هذه الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الخلق في القرآن الكريم والحديث الشريف، ويتضح لي أن هذه الأدلة حتماً جاءت لمحمد من عند الله لأن كل هذه المعلومات لم تكتشف إلا حديثاً، وبعد قرون عدة وهذا يثبت لي أن محمداً رسول الله)
ثم قال: (إنني أشهد بإعجاز الله في خلق كل طور من أطوار القرآن الكريم، ولست أعتقد
__________
(1) المقدم هو الدكتور عبدالله نصيف مدير جامعة الملك عبدالعزيز في ذلك الحين، وقد تولى منصب أمين العام لرابطة العالم الإسلامي بعد ذلك.
قلوب مع محمد (144)
أن محمداً أو أي شخص آخر يستطيع معرفة ما يحدث في تطور الجنين، لأن هذه التطورات لم تكتشف إلا في الجزء الأخير من القرن العشرين، وأريد أن أؤكد على أن كل شيء قرأته في القرآن عن نشأة الجنين وتطوره في داخل الرحم ينطبق على كل ما أعرفه كعالم من علماء الأجنة البارزين)
لاحظت في وجوه الجمع الحاضر سرورا عظيما، واهتماما كبيرا بما يقوله هذا الدكتور الباحث المنصف، ولاحظت فوق ذلك نفحات الصدق التي ذكرها لي معلم السلام.
حاولت أن أقترب منه لأستوضح أسرار ذلك التصريح الخطير، لكني لم أتمكن، ولكني مع ذلك رأيت الدكتور زغلول النجار الذي ذكر لي أنه قال في مؤتمر موسكو للإعجاز العلمي (إن التعبيرات القرآنية عن مراحل تكون الجنين في الإنسان لتبلغ من الدقة والشمول مالم يبلغه العلم الحديث، وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل علي أن هذا القرآن لايمكن أن يكون إلا كلام الله، وأن محمداً رسول الله)
فقيل له بعد انتهاء محاضرته: هل أنت مسلم؟.. فقال: لا.. ولكني أشهد أن القرآن كلام الله.. وأن محمداً مرسل من عند الله، فقيل له: إذاً.. فأنت مسلم، قال: أنا تحت ضغوط اجتماعية تحول دون إعلان إسلامي الآن (1)، ولكن لاتتعجبوا إذا سمعتم يوماً أن كيث مور قد دخل الإسلام.
قال زغلول النجار: ولقد وصلنا في العام الماضي أنه قد أعلن إسلامه فعلاً، فلله الحمد والمنة.
حاولت أن أقترب منه في مناسبة أخرى، لكني لم أتمكن، وقد أخبرني بعضهم عن سر ذلك
__________
(1) قد ذكرنا في مناسبات مختلفة عدم اشتراط الإعلان بالطرق المعمول بها، بل قد يكون من الحكمة عدم هذا الإعلان، خاصة إذا ترتبت عليه مفاسد تتعلق بالمعلن عن إسلامه أو من يرتبطون به، وقد ذكر القرآن مؤمن آل فرعون الذي لم يعلن إيمانه إلا بعد أن رأى المناسبة الداعية لذلك، فقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر:28)
قلوب مع محمد (145)
التوجه فقال: لقد كان النور الذي أطل منه هذا العالم الفاضل على الإسلام هو مراحل خلق الإنسان السبعة التي ذكرها القرآن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون 12 ـ 14)
فقد وجد هذا العالم أن علم الأجنة بأجهزته المتطورة يثبت هذه المراحل وتطابقها مع المراحل المذكورة في القرآن.
رأيت اسم (تيجاتات تاجسن)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا البروفيسور (تيجاتات تيجاسون).. وهو رئيس قسم علم التشريح في جامعة شيانك مي، وهو من تايلند.
وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني (1)، فقد قال لي: بدأت صلتي بالبروفيسور تاجات تاجاسون عندما عرضنا عليه بعض الآيات والأحاديث النبوية المتعلقة بمجال تخصصه في مجال علم التشريح.
وعندما أجاب عليها قال لي: ونحن كذلك يوجد لدينا في كتبنا المقدسة البوذية أوصاف دقيقة لأطوار الجنين.
فقلت له: أنا بشوق لكي أعرف هذه الأوصاف، وأريد أن أطلع على ما كتب في هذه الكتب.
وعندما جاء ممتحناً خارجياً لطلاب الطب في جامعة الملك عبدالعزيز بعد عام سألته، فاعتذر لي، وقال: كنت قد أجبتك دون أن أتثبت لهذا الأمر، ولما بحثت عنه وجدت أنه لا توجد النصوص التي ذكرتها لك.
__________
(1) انظر: إنه الحق، للشيخ الزنداني، ببعض التصرف، وانظر شهادته المصورة في: http://alhakekah.com/aduio/tejasen-1 - 56 k[1].(am
قلوب مع محمد (146)
عندئذٍ قدمت له محاضرة مكتوبة للدكتور (كيث مور)، وكان عنوان المحاضرة (مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة)، وسألته عن الأستاذ كيث مور: هل تعرفه؟ فقال: إنه رجل من كبار علماء العالم المشهورين في هذا المجال.
وبعد أن اطلع على هذه المحاضرة اندهش، وسألناه عدداً من الأسئلة في مجال تخصصه كان منها ما يتعلق بالجلد، قلت له: هل هناك مرحلة ينعدم عندها الإحساس بألم الحرق؟
قال: نعم إذا كان الحرق عميقاً ودمر عضو الإحساس بالألم.
قلت: حسناً ما رأيك إذن أن القرآن الكريم الذى عند تاريخ نزوله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر من ألف وأربعمائة عام قد أشار إلى تلك الحقيقة العلمية عندما ذكر الطريقة التى سيعاقب الله به الكافرين يوم القيامة حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء:56)
فالقرآن هنا يقرر أنه عندما ينضج الجلد يخلق الله للكفار جلداً جديداً كى يتجدد إحساسهم بالألم وذلك تأكيد من جانب القرآن على أن الأطراف العصبية التى تجعل الإنسان يشعر بالألم موجودة فى الجلد.
قال: هذا أمر يدعو للدهشة والغرابة حقيقة، فتلك معرفة مبكرة جداً عن مراكز الإحساس والأعصاب فى الجلد ولا أدرى كيف ذكر قرآنكم هذا؟
قلت: ترى أيمكن أن تكون هذه المعلومات قد استقاها محمد نبى الإسلام من مصدر بشرى؟
قال: بالطبع لا.. ففى ذلك الوقت لم تكن هناك معارف بشرية حول هذا الموضوع.
قلت: من أين إذن وكيف عرف ذلك؟
قال: المؤكد عندى هو استحالة المصدر البشرى، ولكنى أسألكم أنتم من أين تلقى محمد هذه المعلومات الدقيقة؟
قلوب مع محمد (147)
قلت: من عند الله.
قال: الله!! ومن هو الله؟
قلت: إنه الخالق لهذا الوجود. إذا رأيت الحكمة، الحكمة تدل على الحكيم، وإذا رأيت العلم في هذا الوجود دلك على أنه من صنع العليم، وإذا رأيت الخبرة في تكوين هذه المخلوقات دلتك على أنها من صنع الخبير. وإذا رأيت الرحمة شهدت لك على أنها من صنع الرحيم، وهكذا إذا رأيت النظام الواحد في هذا الوجود والترابط المحكم دلك ذلك على أنه من صنع الخالق الواحد سبحانه وتعالى.
بعد أن شرحت له المفهوم الإسلامى للفظ الجلالة الأعظم راقته تلك الرؤية، وعاد إلى بلاده ليحاضر عن هذه الظاهرة القرآنية التى عايشها، وتأثر بها حتى جاء موعد المؤتمر الطبى السعودى الثامن، واستمع فى الصالة الكبرى التى خصصت للإعجاز على مدى أربعة أيام لكثير من العلماء، ولا سيما غير المسلمين يحاضرون عن ظاهرة الإعجاز العلمى.
وفى ختام جلسات المؤتمر وقف البروفيسور (تاجاتات تاجاسون) يعلن: بعد هذه الرحلة الممتعة والمثيرة، فإنى أؤمن أن كل ما ذكر فى القرآن الكريم يمكن التدليل على صحته بالوسائل العلمية، وحيث أن محمداً نبى الإسلام كان أمياً إذن لابد أنه قد تلقى معلومات عن طريق وحى من خالق عليم بكل شئ.. وإننى أعتقد أنه حان الوقت لأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
رأيت اسم (البروفيسورألفريد كرونير)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا من بلدي.. هو من ألمانيا.. وهو أحد أكبر جيولوجيي العالم المشاهير، وهو أستاذ علم طبقات الأرض، ورئيس قسم علم طبقات الأرض في معهد جوسيينسيس، وجامعة يوهانز جوتينبيرج، مينز، بألمانيا.
وقد حدثني حديثه عبد المجيد الزنداني، فقال: التقيت به مع نفر من أصحابي، وعرضنا عليه
قلوب مع محمد (148)
عدداً من الآيات وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرتبطة بمجال تخصصه، فأجاب عليها، وناقشناه فيها فقال: إن التفكير في كثير من مسائل الجيولوجيا، ونشأة الأجرام يحتاج إلى علم كثيرة وأجهزة حديثة، فمن أين جاء بكل ذلك محمد.. فقد كان بدوياً على أية حال يجعلنا نعتقد أنه من المستحيل أن يكون قد عرفها بنفسه أو بمعارف عصره لأن العلماء اكتشفوا ذلك فقط خلال السنوات القليلة الماضية بوسائل معقدة جداً ومتقدمة جداً تكنولوجياً.
قال الشيخ عبدالمجيد الزنداني: وقد اختار مثلاً للتدليل على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون قد جاء من عند محمد النبي الأمي، وهو المتعلق بوصف القرآن للبداية الواحدة لهذا الكون والمتعلقة بقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)، فـ {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما أي أنهما كانتا ملتزقتين، ففصلتا (1).
وقد ضرب البروفيسور كرونر مثلاً بهذه الآية لبيان أن هذا لا يمكن أن يكون من عند محمد، ولا يمكن أن يكون من المعلومات البشرية في عصره، فقال: وشخص لا يعرف عن الفيزياء النووية منذ 1400 سنة ما كان له في رأيي أن يكون في وضع يكشف فيه بعقله هو مثلاً أن الأرض والسماوات كانت لهما نفس الأصول أو كثيراً من المسائل الأخرى التي ناقشناها هنا.
قال الشيخ الزنداني: لقد كان البروفيسور كرونر لا يترك لنا فرصة يمكنه أن يفر منها إلا فر، سأذكر مثالاً على ذلك.
فعندما كنا نتناقش معه كيف كانت بلاد العرب سألناه: هل كانت بلاد العرب بساتين وأنهاراً؟ فأجاب: نعم، فقلنا: متى كان هذا؟ قال: في العصر الجليدي الذي مر بالأرض.. فالجليد يتراكم في القطب المتجمد الشمالي، ثم يزحف نحو الجنوب، فإذا اقترب من جزيرة العرب قرباً نسبياً طبعاً تغير الطقس وتكون بلاد العرب من أكثر بلاد العالم بساتين وأنهاراً، قلنا له: وهل
__________
(1) انظر التفاصيل العلمية المرتبطة بهذه الآية في (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (149)
ستعود بلاد العرب بساتين وأنهاراً؟ قال: نعم، هذه حقيقة علمية، فعجبنا كيف يقول هذه حقيقة علمية وهي مسألة تتعلق بالمستقبل. فسألناه: لماذا؟
فقال: لأن العصر الجليدي قد بدأ، فهذه الثلوج تزحف من القطب المتجمد الشمالي مرة ثانية نحو الجنوب وهي في طريقها لتقترب من المناطق القريبة من بلاد العرب.
ثم قال: إن من أدلتنا على ذلك ما تسمعون عنه من العواصف الثلجية التي تضرب في كل شتاء المدن الشمالية في أوروبا وأمريكا. هذه من أدلة العلماء على ذلك، لهم أدلة كثيرة إنها حقيقة علمية.
فقلنا له: إن هذا الذي تذكره أنت لم يصل إليه العلماء إلا بعد حشد طويل من الاكتشافات، وبعد آلات دقيقة يسرت لهم مثل هذه الدراسات، لكنا قد وجدنا هذا مذكوراً على لسان محمد النبي الأمي قبل 1400 عام، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1): (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، أي بساتين وأنهاراً فقلنا له: من قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بلاد العرب كانت بساتين وأنهاراً؟ فأجاب على الفور قائلا: الرومان.
فتذكرت قدرته على التخلص من المآزق، فقلنا: إذاً نوجه له سؤالاً آخر، فقلنا له: ومن أخبره بأنها ستعود مروجاً وأنهاراً؟.. لقد كان يفر إذا أحرج وإذا وجد فرصة، ولكنه إذا وجد الحقيقة يكون شجاعاً، ويعلن رأيه بصراحة، فقال: إن هذا لا يمكن أن يكون إلا بوحي من أعلى.
وبعد مناقشتنا معه علق على هذه المناقشة بكلمته هذه: (أعتقد أنك لو جمعت كل هذه الأشياء، وجمعت كل هذه القضايا التي بسطت في القرآن الكريم والتي تتعلق بالأرض وتكوين الأرض والعلم عامة، يمكنك جوهرياً أن تقول: إن القضايا المعروضة هناك صحيحة بطرق عديدة، ويمكن الآن تأكيدها بوسائل علمية، ويمكن إلى حد ما أن نقول: إن القرآن هو كتاب
__________
(1) رواه مسلم.
قلوب مع محمد (150)
العلم المبسط للرجل البسيط وإن كثيراً من القضايا المعروضة فيه في ذلك الوقت لم يكن من الممكن إثباتها. ولكنك بالوسائل العلمية الحديثة الآن في وضع تستطيع فيه أن تثبت ما قاله محمد منذ 1400 سنة)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (علي سليمان) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا دكتور في الطب.. وهو ينتمي إلى أسرة فرنسية كاثوليكية.. وقد التقيت به في فرنسا، وسألته عن سر إسلامه، فقال لي: كان لاختياري لهذه المهنة أثره في انطباعي بطباع الثقافة العلمية البحتة، وهي لا تؤهلني كثيرا للناحية الروحية.. وهذا لا يعني أنني لم أكن أعتقد في وجود اله، إلا أنني أقصد أن الطقوس الدينية النصرانية عموما والكاثوليكية بصفة خاصة، لم تكن لتبعث في نفسي الإحساس بوجوده، وعلى ذلك فقد كان شعوري الفطري بوحدانية الله يحول بيني وبين الإيمان بعقيدة التثليث، وبالتالي بعقيدة تأليه عيسى المسيح.
ولهذا كنت قبل أن أعرف الإسلام مؤمنا بالقسم الأول من الشهادتين (لا اله إلا الله).. ومؤمنا معها بهذه الآيات من القرآن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (الإخلاص)
لهذا فإنني أعتبر أن الإيمان بعالم الغيب وما وراء المادة هو الذي جعلني أدين بالإسلام، على أن هناك أسبابا أخرى حفزتني لذلك أيضا، منها مثلا، أنني لا أستسيغ دعوى الكاثوليك أن من سلطانهم مغفرة ذنوب البشر نيابة عن الله، ومنها أنني لا أصدق مطلقا ذلك الطقس الكاثوليكي عن العشاء الرباني والخبز المقدس، الذي يمثل جسد المسيح عيسى، ذلك الطقس الطوطمي الذي يماثل ما كانت تؤمن به العصور الأولى البدائية، حيث كانوا يتخذون لهم شعارا مقدسا،
__________
(1) انظر: كتاب لماذا أسلمنا؟ تأليف: عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني.
قلوب مع محمد (151)
يحرم عليهم الاقتراب منه، ثم يلتهمون جسد هذا المقدس بعد موته حتى تسري فيهم روحه.
ومما كان يباعد بيني وبين النصرانية، أنها لا تحوي في تعاليمها شيئا يتعلق بنظافة وطهارة البدن، لا سيما قبل الصلاة، فكان يخيل لي أن في ذلك انتهاكا لحرمة الرب، لأنه كما خلق لنا الروح فقد خلق لنا الجسد كذلك، وكان حقا علينا ألا نهمل أجسادنا.
ونلاحظ كذلك أن النصرانية التزمت الصمت فيما يتعلق بغرائز الإنسان الفسيولوجية، بينما نرى أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ينفرد بمراعاة الطبيعة البشرية.
أما مركز الثقل والعامل الرئيسي في اعتناقي للإسلام، فهو القرآن.. فقد بدأت قبل أن أسلم في دراسته.. وأنا مدين بالكثير للكتاب العظيم الذي ألفه مستر مالك بن نبي واسمه (الظاهرة القرآنية)، فاقتنعت بأن القرآن كتاب وحي منزل من عند الله.
إن من بين آيات هذا القرآن الذي أوحى الله به منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ما يحمل نفس النظريات التي كشفت عنها أحدث الأبحاث العلمية.
لقد كان هذا كله كافيا لإقنا عي وإيماني بالقسم الثاني من الشهادتين (محمد رسول الله)
وهكذا تقدمت يوم 20 فبراير سنة 1953 م إلى المسجد في باريس، وأعلنت إيماني بالإسلام، وسجلني مفتي مسجد باريس في سجلات المسلمين، وحملت الاسم الجديد (علي سلمان)
قال ذلك.. ثم ابتسم قائلا: إنني أشعر بالغبطة الكاملة في ظل عقيدتي الجديدة وأعلنها مرة أخرى (أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب اسم (مارشال جونسون) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا هو البروفيسور (مارشال جونسون)، وهو رئيس قسم التشريح، ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون بفلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
__________
(1) انظر: إنه الحق، للشيخ عبد المجيد الزنداني.
قلوب مع محمد (152)
وقد حدثني حديثه الشيخ (عبد المجيد الزنداني)، فقال: لقد التقيت به مع نفر من أصحابنا في المؤتمر الطبي السعودي الثامن، وقد خصصت لنا لجنة تبحث في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فالتقينا به أول ما التقينا في هذه اللجنة، وقد بدأنا بالسؤال التالي: ما هو موضوع لجنتنا هذه؟
فقلنا له: موضوعنا هو دراسة العلاقة بين ما ذكر في القرآن والسنة قبل 1400 عام وما ذكرته العلوم الحديثة.
فقال: مثل ماذا؟
قلنا: مثلاً ذكر العلم أن الإنسان يخلق في أطوار وذكر القرآن الكريم هذه الأطوار قبل 1400 عام.
كان جالساً فوقف يصيح: لا. لا. لا.
فقلنا: اجلس يا دكتور.
فقال: أجلس.. ما هذا الكلام الذي تقوله؟
قال الشيخ: لقد كنا ندرك أثر هذا عليه، وهو أحد العلماء المشهورين في أمريكا، وهو يعلم أن البشرية بعد اكتشاف الميكروسكوب في القرن السادس عشر كان الأطباء طوال القرن السابع عشر يعتقدون أن الإنسان يخلق خلقاً كاملاً في الحيوان المنوي أي في نطفة الرجل أي في السلالة التي تخرج من الرجل، واستمر هذا الاعتقاد إلى القرن الثامن عشر، وبعد اكتشاف البُييضة في القرن 18 غير العلماء جميعاً آراءهم، فقالوا: إن الإنسان يخلق خلقاً كاملاً في بُييضة المرأة لأنها أكبر، وأهمل دور الرجل بعد أن أهمل القرن السابع عشر دور المرأة، وفي منتصف القرن 19 فقط بدأ الإنسان، وبدأ العلماء يكتشفون أن الإنسان يخلق في أطوار.
لذلك لما قيل للبروفيسور (مارشال جونسون) هذا مذكور في القرآن قبل 1400 عام وقف يصرخ لا لا لا، فقمنا إليه، وقدمنا له المصحف، وقلنا له: تفضل اقرأ وقرأنا عليه قوله تعالى: {مَا
قلوب مع محمد (153)
لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح:13 - 14)، وقرأ ترجمة معناها باللغة الإنجليزية. ثم قرأنا عليه قول الله سبحانه وتعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} (الزمر:6)
فجلس، وقال: لكن هذا يمكن أن يكون له ثلاثة تفسيرات، الأول: أن يكون صدفة، فجمعنا له أكثر من خمسة وعشرين نصاً، ووضعناها بين يديه، وقلنا: كل هذه النصوص قد تكون صدفة؟ ثم إن القرآن الكريم قد أعطى لهذه الأطوار أسماء هذا نطفة والذي بعده علقة والذي بعده مضغة والذي بعده العظام والذي بعده كساء العظام باللحم. إنه سمى هذه الأطوار بأسماء أيكون هذا صدفة؟ فقال: لا.
قلنا: فماذا بقي؟
قال: يمكن أن يقال: إن محمداً عنده ميكروسكوبات ضخمة.
قلنا: أنت تعلم أن مثل هذه الأطوار والدقائق والتفاصيل وما عرفه العلم من تفاصيل هذه الأطوار وذكره القرآن كذلك هذا لا يتيسر إلا بميكروسكوبات ضخمة جداً والذي عنده هذه الميكروسكوبات الضخمة لا بد أن يكون له تقنية عالية جداً وتنعكس على طعامه وشرابه وحربه وسلمه ولا بد أن يتلقى هذا من الجيل الذي قبله، ويسلمه للجيل الذي بعده.
فضحك بعد ذلك، وقال: لقد رأيت في معرض من المعارض أول ميكروسكوب اخترع في العالم، إنه لا يكبر أكثر من عشر مرات، ولا يستطيع أن يظهر الصورة واضحة.. لا.. لم يكن عند محمد أجهزة ولا مكروسكوبات، فما بقي إلا أن نقول هو رسول من عند الله.
ثم بعد ذلك تبنى هذه الأبحاث المتعلقة بالإعجاز العلمي، وركز في بعض أبحاثه على أطوار الجنين، فبينما كان الدكتور كيث مور وغيره من الدكاترة يتكلمون عن الشكل الظاهري أخذ يقدم بحثه هو عن وصف القرآن الدقيق لشكل الجنين الخارجي ولتركيبات الجنين الداخلية.
فقد قال: القرآن في الواقع شرح المراحل الخارجية، ولكنه يؤكد أيضاً المراحل التي داخل
قلوب مع محمد (154)
الجنين أثناء خلقه وتطوره مؤكداً على أحداث رئيسية تعرف عليها العلماء المعاصرون.
فالمضغة مثلا تعطينا الشكل الخارجي للجنين الذي يكون مقوساً كما ويكون في نهاية هذا القوس آثار وكأنها طبع الأسنان ليوحي بشكل المضغة ونرى انتفاخات وأخاديد ونرى سطحاً منفرجاً يعطي انطباع المضغة.
ولو أننا وضعنا قطاعاً منها، وجئنا نشرح الأجزاء الداخلية سنجد معظم الأجهزة قد تخلقت وسنرى في هذا أن جزءاً من الخلايا قد تخلق، وجزءاً آخر لم يتخلق بعد.
فإذا أردنا أن نصف هذه المضغة ماذا نقول؟.. هل نقول هي مخلقة؟ هذا ينطبق على الجزء الذي تخلق.. أو نقول غير مخلقة؟.. وهذا سيصدق على الجزء الذي لم يخلق فقط.
قال جونسون: فلا بد لنا أن نصف المضغة في تركيبها الداخلي بالوصف الذي وصفت به في القرآن فنقول كما قال القرآن: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (الحج:5) مخلقة وغير مخلقة}
ثم جاء بملخص لبحثه هذا فقال: (إنني كعالم أستطيع فقط أن أتعامل مع أشياء أستطيع أن أراها بالتحديد أستطيع أن أفهم علم الأجنة وتطور علم الأحياء أستطيع أن أفهم الكلمات التي تترجم لي من القرآن كما ضربت لكم أمثلة من قبل.
إنني لا أرى شيئاً لا أرى سبباً لا أرى دليلاً على حقيقة تفند مفهوم هذا الفرد محمد الذي لا بد وأنه يتلقى هذه المعلومات من مكان ما، ولذلك إنني لا أرى شيئاً يتضارب مع مفهوم أن التدخل الإلهي كان مشمولاً فيما كان باستطاعته أن يبلغه.
قال الشيخ الزنداني: هذا هو البروفيسور مارشال جونسون الذي بدأ رافضاً لما قلناه من أول وهلة وانتهى به الأمر متبنياً لهذه الأبحاث في عديد من المؤتمرات.
وعندما سئل عن رأيه في تفسير هذه الظاهرة ـ ظاهرة ما كشفه العلم من تصديق لما جاء في القرآن والسنة ـ أجاب بقوله: نعم، إنه الوحي.
قلوب مع محمد (155)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور يوشيودي كوزان)، فسألت الغريب عنه، فقال: إنه البروفيسور يوشيودي كوزان مدير مرصد طوكيو، وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: التقيت به مع نفر من أصحابي، فعرضنا عليه عدداً من الآيات المتعلقة بوصف بداية الخلق وبوصف السماء وبعلاقة الأرض بالسماء، فلما قرأ معاني هذه الآيات، وسألنا عن القرآن، وعن زمن نزوله، فأخبرناه أنه نزل منذ 1400 عام، وسألناه نحن عن هذه الحقائق التي تعرضت لها هذه الآيات، فأجاب، وكان بعد كل إجابة يجيب بها نعرض عليه النص القرآني.
لقد عبر عن دهشته فقال: إن هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة في الوجود، فكل شيء أمامه مكشوف.. إن الذي قال هذا القرآن، يرى كل شيء في هذا الكون، فليس هناك شيء قد خفي عليه.
سألناه عن الفترة الزمنية التي مرت بها السماء يوم أن كانت في صورة أخرى فأجاب: لقد تظافرت الأدلة وحشدت وأصبحت الآن شيئاً مرئياً مشاهداً نرى الآن نجوماً في السماء تتكون من هذا الدخان الذي هو أصل الكون.
ثم أخرج لنا صورة، وقال: هذه الصورة حصل عليها العلماء أخيراً بعد أن أطلقوا سفن الفضاء.. إنها تصور نجماً من النجوم وهو يتكون من الدخان.. انظروا إلى الأطراف الحمراء للدخان الذي في بداية الالتهاب والتجمع وإلى الوسط الذي اشتدت به المادة وتكدست فأصبح شيئاً مضيئاً.. وهكذا النجوم المضيئة كانت قبل ذلك دخاناً وكان الكون كله دخاناً.
وعرضنا عليه الآية وهي قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11)، فقال: إن بعض العلماء يتكلمون عن هذا الدخان، فيقولون إنه ضباب.. ولكن لفظ الضباب لا يتناسب مع وصف هذا الدخان، لأن الضباب يكون بارداً، وأما هذا الدخان الكوني فإن فيه شيئاً من الحرارة. نعم، الدخان عبارة
قلوب مع محمد (156)
عن غازات تعلق فيها مواد صلبة. ويكون معتماً وهذا وصف الدخان الذي بدأ منه الكون. قبل أن تتكون النجوم كان عبارة عن غازات تعلق فيها مواد صلبة وكان معتماً.. وكذلك كان حاراً، فلا يصدق عليه وصف الضباب، بل إن أدق وصف هو أن نقول: هو دخان.
وهكذا أخذ يفصل فيما عرض عليه من آيات، وأخيراً سألناه: ما رأيك في هذه الظاهرة التي رأيتها بنفسك، العلم يكشف بتقدمه أسرار الكون، فإذا بكثير من هذه الأسرار قد ذكرت في القرآن، أو ذكرت في السنة.. هل تظن أن هذا القرآن جاء إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصدر بشري؟
قال: قبلنا كان الفلكيون المعاصرون يدرسون تلك القطع الصغيرة في السماء. لقد ركزنا مجهودنا لفهم هذه الأجزاء الصغيرة لأننا نستطيع باستخدام التلسكوب أن نرى كل الأجزاء الرئيسية في السماء، ولذلك أعتقد أنه بقراءة القرآن وبإجابة الأسئلة أنني أستطيع أن أجد طريقاً في المستقبل للبحث في الكون.
وقال: إننا نحن العلماء نركز على جزء صغير في دراستنا، أما من يقرأ القرآن فإنه يرى صورة واسعة لهذا الكون.
وقال: إنني عرفت منهجاً جديداً في دراسة الكون لا بد أن ننظر إليه نظرة شاملة لا أن ننظر إليه من هذه النقطة الضيقة الجزئية المحدودة.
وقال: إنني سأنهج هذا المنهج وقد عرفت بعد أن قرأت القرآن وهذه الآيات المتعلقة بالكون عرفت مستقبلي، أي إنني سأخطط أبحاثي على هذه النظرة الشاملة التي استفدتها من كتاب الله.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور جولي سمسون) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أستاذ أمراض النساء والولادة في جامعة نورث وستون في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني،
__________
(1) انظر: إنه الحق، للشيخ عبد المجيد الزنداني.
قلوب مع محمد (157)
فقال: قصدته مع نفر من أصحابنا، وحدثناه عن مجال اختصاصه، وما ورد عنه في القرآن الكريم.. فكان في شك أول الأمر.. فقد كان يريد أن يتأكد هل هذه نصوص القرآن؟.. هل هذه نصوص السنة؟.. فلما اطمأنت نفسه، ورأى النصوص المتعلقة بالوراثة، والتي تحدث في المراحل الأولى في الجنين عندما يكون نطفة، وعرف دقة الأوصاف، وكيف أن القرآن يقرر أن الإنسان يخلق بعد أن تجمع النطفتان، فيتقرر خلق الإنسان، وبعد ذلك يقرر البرنامج الوراثي في هذه الكروموزومات التي نشاهدها الآن.
هذه الكروموزومات فيها تفاصيل الإنسان الذي يولد لون العينين، لون الجلد، لون الشعر، كثير من تفاصيل الإنسان مقررة هنا، فالإنسان في هذه الكروموزمات مقدر، وهذه الكروموزمات في مرحلة النطفة، إذاً فهذا الإنسان يقدر وهو في مرحلة النطفة، كما قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)} (عبس)، والجنين قبل أربعين يوماً ـ خلال الأربعين يوماً الأولى ـ تجمع جميع أجهزته، فتكون جميع الأجهزة قد ظهرت، وإن كانت تظهر تباعاً، بدأت الأجهزة تتخلق وتجمع، والجنين يكون منحنياً على نفسه، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)
تعرض البروفيسور جولي سممسون لهذا الحديث والحديث الآخر: (إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها)، وأخذ يقارن بين الحديثين والحد الفاصل بينهما، وبعد أن رأى هذه الدقائق والتفاصيل وقف في أحد المؤتمرات يعلن رأيه حول هذا الموضوع، فقال: من هذين الحديثين يمكننا استخلاص جدول محدود حول التطور الرئيسي للجنين قبل أربعين يوماً.
ولم يكتف بهذه الشهادة، بل إنه قال: إن بإمكان الدين أن يقود العلم قيادة ناجحة.
وقال: وعليه أعتقد أنه لا يوجد خلاف بين المعرفة العلمية وبين الوحي بل إن الوحي ليدعم أساليب الكشف العلمية التقليدية المعروفة حينئذٍ. وجاء القرآن قبل عدة قرون مؤيداً لما تطرقنا إليه مما يدل على أن القرآن هو كلام الله.
قلوب مع محمد (158)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور هاي)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا البروفيسور من أشهر علماء البحار في أمريكا، وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: ذهبت إليه مع نفر من أصحابنا، وسألناه عن كثير من الظواهر البحرية التي تتعلق بسطح البحر، والتي تتعلق بالحد الفاصل بين البحر السطحي وبين البحر العميق، والتي قد تتعلق أيضاً بقاع البحار وجيولوجيا البحار.. سألناه عن هذا كله، وسألناه عن الحواجز المائية بين البحار المختلفة، وعن الحواجز المائية بين مياه البحار والأنهار (1).
وقد كان يجيبنا عن هذا كله، وبتفصيل، وعندما تعرضنا لشرح الحواجز بين البحار المالحة وضح لنا أن البحار المالحة ليست كما تشاهدها العين بحراً واحداً، إنها بحار مختلفة، تختلف في درجة الحرارة، والملوحة والكثافة، حيث نرى فيها خطوطاً بيضاء تمثل الحواجز بين الكتل البحرية، وكل حاجز يفصل بين كتلتين بحريتين مختلفتين فيما بينهما، في الحرارة والملوحة والكثافة، والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأوكسيجين.
وقد أخرج لنا من محفظته صورة توضح ذلك، ثم قال: هذه الصورة أول ما عرفت في عام 1942 بهذا الشكل بعد أن أقام العلماء مئات المحطات المائية في البحار لدراسة خصائص البحار.. وهي توضح حداً فاصلاً بين البحر الأبيض المتوسط وبين المحيط الأطلنطي.. في الوسط الذي في الصورة مثلث هو عتبة جبل طارق أسفل.. وهذه منطقة جبل طارق نرى فيها كيف يوجد الحد الفاصل، وهو مبين باللون بين الكتلتين المائيتين يفصل بينهما.
ثم التفت إلينا، وقال: هذا أمر لا تشاهده الأبصار، ولكنه أصبح الآن حقيقة واضحة، وبتطور الأقمار الصناعية ودراستها واستشعارها من بعد تمكنت هذه الأقمار الصناعية أن تصور هذه المناطق البحرية، الحدود البحرية بين الكتل المختلفة.. كما نرى في هذا الشكل الذي التقط
__________
(1) انظر الجوانب العلمية المرتبطة بهذا، وما ورد في القرآن مما يقررها في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (159)
بالأقمار الصناعية بالخاصية الحرارية فظهرت البحار بألوان مختلفة، كما نرى بعضها بلون أزرق فاتح وبعضها بلون أزرق قاتم وبعضها بلون أسود وبعضها بلون يميل إلى الأخضر.. هذه الألوان المختلفة السبب فيها اختلاف درجات الحرارة على سطح البحار، ولكنك لو وقفت على سطح البحر لا ترى.. لا ترى إلا ماءً أزرق في كل هذه البحار والمحيطات.. إنها حواجز لا ترى إلا بالدراسة وبالتقنية الحديثة.
عندما عرض لنا ذلك، وشرحه لنا بالتفصيل قرأنا عليه من القرآن الكريم ما يدل عليه دلالة واضحة، وذلك في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} (الرحمن:19 - 20)، ثم سألناه: ما رأيك في هذه الظاهرة؟.. نصوص نزلت قبل 1400 عام تصف دقائق لا يمكن لبشر أن يعرفها في ذلك الزمان، وجاء العلم اليوم شاهداً بها مبيناً لدقائقها فما هو رأيك؟
فقال البروفيسور هاي: إنني أجد من المثير جداً أن هذا النوع من المعلومات موجود في آيات القرآن الكريم، وليست لدي طريقة أعرف بها من أين جاءت، ولكنني أعتقد أنه من المثير للغاية أنها موجودة فيه، وأن العمل مستمر لكشف معاني بعض الفقرات.
فقلنا: إذن فقد أنكرت تماماً أنها من مصدر بشري.. فممن إذن يأتي في اعتقادك أصل أو مصدر هذه المعلومات؟
فقال: أعتقد أنه ولا بد أن يكون من الله.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور فان برسود)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا البروفيسور فان برسود، وهو رئيس قسم التشريح بكلية الطب بمينوتوبا بكندا، وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فذكر أن الدكتور (كيث مور) الذي سبق الحديث عنه ذكر له أن هناك علماء أحرارا يهمهم البحث عن الحقيقة، ومنهم البروفيسور فان برسود.. وهو مؤلف مشهور له عدد من الكتب ألفها في علم أمراض النساء،
قلوب مع محمد (160)
وهو ممن أضاف ـ بعد ذلك ـ إلى كتبه بعض ما جاء في القرآن والسنة، وأشار إلى هذه الآيات والأحاديث في كتبه، وقدم عدداً من البحوث في عدد من المؤتمرات، وكان من ضمن أبحاثه ما قدمه حول حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه مسلم وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء)
وقدم البروفيسور برسود أبحاثاً كثيرة حول علاقة القرآن والسنة بالعلوم الحديثة، وكان من ضمن أبحاثه ما قدمه في معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه ابن ماجه والحاكم وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم)
ومما قاله في بحثه هذا: من المعترف به الآن على نطاق واسع أن هذه التغيرات الخبيثة في عنق الرحم لها صلة بعمر النساء، وعدد مرات الجماع، وعدد مرات الولادة، فعديد من دراسات علم الأوبئة قد أظهرت بوضوح علاقة متبادلة هامة بين التعرض للعلاقات الجنسية المتعددة، والسرطان العرضي المحتمل الحدوث بدرجة عالية.
وقال: إن نتائج ومخاطر العلاقات الجنسية غير الشرعية، والممارسات الجنسية المنحرفة، قد ذكرت في هذا الحديث منذ 1400 سنة وأرجو أن أكون مصيباً ـ مشيراً إلى مرض الإيدز ـ: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم)، فالفاحشة هي الخيانة والشذوذ الجنسي غير المعلن والبوهيمية، وكل العلاقات الجنسية الأخرى، وليس من اتساع الخيال أن نعتبر الهربز والإيدز كأمثلة واضحة لأمراض جديدة في الوقت الحاضر ليس لدينا العلاج لها.
وقد قال الشيخ الزنداني معلقا على هذا مخاطبا الحاضرين: انظروا إلى هذا الربط بين قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع
قلوب مع محمد (161)
التي لم تكن مضت في أسلافهم)، فلما أعلنت أوروبا وأمريكا إباحة الشذوذ وإباحة الزنا والفجور بأشكاله ما إن أعلنوا هذا وأذاعوا به حتى ظهرت بعد ذلك بأعوام هذه الأمراض التي تهز كيانهم هزاً.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي أمراض جديدة، طاعون فشا، وأمراض تفشو وتسري بين الناس وهم يخافونها.
وقد ذكر الشيخ أن البروفيسور برسود عندما سئل عن رأيه في هذه الظاهرة التي اطلع بنفسه عليها وشارك بأبحاثه فيها قال: الطريقة التي شرح لي بها هو أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً عادياً جداً، ولم يكن يقرأ ولم يكن يكتب، بل كان في الواقع أمياً، ونحن نتحدث عنه أنه كان منذ 1400 سنة رجلاً أمياً يدلي بتصريحات عميقة ودقيقة بصورة مدهشة، وذات طبيعة علمية، وأنا شخصياً لا أستطيع أن أرى كيف يكون هذا مجرد مصادفة، هناك أشياء كثيرة دقيقة مثل دكتور كيث مور لا أجد صعوبة في أن أوافق في عقلي أن هذا إلهام إلهي أو وحي قاده إلى هذه البيانات.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور بالمار)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا رجل من أشهر علماء الجيولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان رئيس اللجنة التي أشرفت على الاحتفال المئوي للجمعية الجيولوجية الأمريكية.
وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: عندما التقينا معه وعرضنا عليه أوجه الإعجاز العلمي للقرآن والسنة كان يندهش، وأذكر قصة لطيفة بدأت معه عندما قلنا له: إن القرآن يذكر أخفض منطقة في الأرض وبين أنها قرب بيت المقدس، حيث دارت المعركة بين الفرس والروم، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} (الروم)، وأدنى تأتي بمعنى أقرب، وتأتي بمعنى أخفض.
قلوب مع محمد (162)
وذكرنا له أنه عندما درسنا أخفض منطقة في الأرض وجدنا أنها هي نفس المنطقة التي دارت فيها المعارك.. فلما قلنا هذا للبروفيسور بالمار، قال: لا... هناك مناطق كثيرة أخفض من هذه المنطقة.
قال ذلك، ثم أخذ يذكر لنا مناطق في أوروبا ومناطق في أمريكا، فقلنا له: يا دكتور نحن قد تأكدنا من ذلك.
كان معه مصور جغرافي مجسم فيه الارتفاعات والانخفاضات، فقال: إذاً الأمر بسيط، هذا هو المجسم يبين لنا أخفض منطقة، فأدار الكرة الأرضية بيده ـ وهي كرة مجسمة ـ ووجه نظره على المنطقة المحددة، وهي قرب بيت المقدس، فإذا به يرى سهماً قد خرج من تلك الخريطة مكتوباً عليه (أخفض منطقة على وجه الأرض)
ثم بعد ذلك تحول بسرعة، وقال: هذا كلام صحيح.
وقد رغبه هذا السبق القرآني في المزيد.. وقد ازداد اندهاشه عندما وجد القرآن يصف الماضي كيف بدأ، وخلق الأرض كيف بدأ، وخلق السماء، وكيف خرجت المياه من باطن الأرض، وكيف أُرسيت الجبال، وكيف خرجت النباتات.. وغيرها كثير.
واندهش عندما رأى القرآن يصف هذه الأحداث، ثم كيف يصف سطح الأرض اليوم ويصف الجبال ويصف ما عليها من ظواهر، ثم يصف الأحوال التي تمر بها الأرض، كما حدث بالنسبة لجزيرة العرب، بل ويصف ما سيكون عليه حال بلاد العرب، وما سيكون عليه حال الأرض. فقال: (هذا الكتاب عجيب يصف لنا الماضي، ويصف لنا الحاضر، ويصف لنا المستقبل)
وقد قدم بحثاً في القاهرة حول الإعجاز في مجال علم الجيولوجيا، ثم ختم بحثه هذا بقوله: (أنا لا أعلم المستوى الثقافي الذي كان عليه الناس في زمن محمد.. ولا أدري في أي مستوى علمي كانوا، فإذا كان الأمر كما نعرف عن أحوال الأولين والمستوى العلمي المتواضع والذي ليس فيه هذه الإمكانيات، فلا شك أن هذا العلم الذي نقرؤه الآن في القرآن هو نور من العلم الإلهي قد
قلوب مع محمد (163)
أوحي به إلى محمد)
وقد أنهى بحثه بالتصريح التالي: (لقد قمت ببحث في تاريخ الحضارة المبكر للشرق الأوسط لأعرف إذا كان في الواقع قد وردت أنباء جادة كهذه، إذا لم يكن هناك سجل كهذا فإن هذا يقوي الاعتقاد بأن الله قد أرسل من خلال محمد مقادير ضئيلة من علمه اكتشفناها فقط في الأزمنة الحديثة، إننا نتطلع إلى حوار مستمر في موضوع العلم في القرآن في سياق الجيولوجيا)
وقد علق الشيخ الزنداني على تصريحه هذا تعليقا هاما، فقال: نعم، هذا علم من أعلام الجيولوجيا في عالمنا المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية لا يتردد في أن يعترف ويقدم ويبين ولكنه بحاجة إلى من يوضح له الحقيقة، لقد عاش الغربيون وكذلك الشرقيون معركة بين الدين والعلم، وكان لا بد أن تحدث هذه المعركة، لأن كل الأديان قد حرفت وما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام إلا لتصحيح ما أفسده هؤلاء.
وأذكر أن بعض الناس سأله حينها: كيف سيقبل منا هؤلاء الناس ونحن في تخلف ونحن في بعد عن ديننا؟
فأجاب: إن العلم يفتح بصائر أهله، إنهم ينظرون إلى الحقائق ولا ينظرون إلى الصور، إن رصيد الإسلام اليوم هو هذا العلم والتقدم العلمي. فإن هذا العالم يحني رأسه إجلالاً لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إن الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تطمئن إلا مع الإيمان.. إن الناس بدون إيمان في قلق وضياع، ثم إن هذه الحرية التي يتمتع بها أهل الغرب تعين علماءهم على أن يقولوا الكلمة التي يعتقدونها، وهم لا يبالون ولا يحسبون أي حساب، وها هم كما سمعناهم في كثير من هذه الحلقات، يقرون ويعترفون بالمعجزة القرآنية الحية المتجددة إلى قيام الساعة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور سياويدا)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فذكر أنه من أشهر علماء
قلوب مع محمد (164)
جيولوجيا البحار في اليابان، بل هو من العلماء المشاهير في العالم في هذا المجال.
وقد ذكر لي أنه ممن حجبوا عن الإسلام بسبب الشبهات الكثيرة التي يسوقها أعداؤه عنه كل حين.. بل ملئ رأسه بتشويشات وشبهات عن كل الأديان.
وقد ذكر لي حواره معه الذي حاول من خلاله تخليصه من تلك الشبهات، فقال: عندما التقينا معه أول مرة ـ أنا ونفر من أصحابنا ـ قال لنا: لا يصح أن تتحدثوا أنتم أهل الدين أبداً.. يجب أن تسكتوا في الدنيا كلها.
قال الشيخ: فقلت له: لماذا يا بروفيسور؟.. لماذا؟
قال: لأنكم إن تكلمتم أشعلتم الحرب بين الناس في العالم كله.
فقلت له: وحلف وارسو.. وحلف الأطلسي.. لماذا يحشدون هذه الترسانات الهائلة من الأسلحة النووية في الفضاء وفي البحار وعلى الأرض وتحت الأرض؟.. لماذا هذا؟.. أبسبب ديني؟
فلم يجد ما يجيب به، فقلنا له: على أي حال نحن نعلم أنك تتخذ موقفاً من الدين كله، ولكن نريد منك، وطالما أنت لا تعرف ما هو الإسلام أن تسمع أولاً، وأن نرى ما عندك.
قال الشيخ: فوجهنا له عدداً من الأسئلة في مجال تخصصه، وعن الآيات والأحاديث التي تصف تلك الظواهر التي يتحدث عنها، وكان منها ما طلبنا منه أن يبينه في موضوع الجبال، فقد سألناه: ما هو شكل الجبل؟.. هل هو في شكل وتد؟
فأجاب: الجبال القارية والجبال المحيطية تتكون من مواد مناسبة، فالجبال القارية مكونة جوهرياً من مواد راسبة، بنيما الجبال المحيطية مكونة من صخور بركانية، والجبال القارية تكونت بواسطة قوى ضاغطة، بينما الجبال المحيطية تكونت بواسطة قوى تمديدية، ولكن النقاط المشتركة بين النوعين من الجبال هي: أن لها جذوراً لتدعم الجبال.
في حالة الجبال القارية فإن المادة الخفيفة القليلة الكثافة التي تكون الجبل تمتد تحت الأرض
قلوب مع محمد (165)
كجذر.. وفي حالة الجبال المحيطية هناك أيضاً مادة خفيفة تدعم الجبل كجذور ولكن في حالة الجبال المحيطية فإن مادتها الخفيفة مناسبة للتركيب الخفيف ولكنه ساخن ولذلك، فإنها ممتدة بطريقة رقيقة، ولكن من وجهة نظر الكثافة، فإنهما تؤديان نفس المهمة، وهو دعم الجبل، ولذلك فإن مهمة الجذور هي دعم الجبال وفق قانون أرشميدس عن الطفو.
قال الشيخ: ثم شرح لنا البروفيسور سياويدا شكل كل جبل سواء كان على اليابسة في القارات أو في قاع المحيطات، وذكر في كل ذلك على شكل وتد، وهو يوافق تماما ما ذكره القرآن من وصف الجبال بكونها أوتادا.
قال الشيح: وعندما سألنا البروفيسور سياويدا عن وظيفة الجبال: ألها دور في تثبيت القشرة الارضية؟ فقال: إلى الآن لم يكتشف العلم هذا.
فأخذنا نبحث، ونسأل فوجدنا كثيراً من علماء الجيولوجيا يجيبون علينا بنفس الجواب إلا القليل ـ ومن هؤلاء أصحاب كتاب (الأرض) وهو مرجع علمي في كثير من الجامعات في العالم.. ومن الذين كتبوه فرانك برس، وقد كان رئيس أكاديمية العلوم في أمريكافقد ذكر في صفحة 435 عن وظيفة الجبال يقول: إن للجبال دوراً كبيراً في تثبيت قشرة الأرض.
فذكرنا ذلك لهذا البروفيسور وعرضنا عليه تقريرات القرآن المرتبطة بهذا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) (النازعات:32)، وقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) (النبأ:7)، وقوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (النحل:15)
وقلنا له: يا أستاذ.. ما رأيك في هذا الذي رأيته من ظاهرة حديث القرآن والسنة عما في هذا الكون من أسرار، الأمر الذي لم يكتشفه العلم إلا في هذا الزمان.
فأجاب على سؤالنا بقوله: أعتقد أنه يبدو لي غامضاً جداً جداً غير معقول تقريباً، إنني أعتقد حقيقة إن كان ما قلته صحيحاً، فإن هذا الكتاب جدير جداً بالملاحظة، إنني أوافقك.
قال الشيخ: ماذا يستطيع العلماء أن يقولوا، لا يمكنهم أن ينسبوا هذا العلم الذي أنزله الله
قلوب مع محمد (166)
على محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الكتاب، لا يمكنهم أن ينسبوا هذا العلم في هذا الكتاب إلى مصدر بشري، أو إلى جهة علمية في ذلك العصر، فإن جميع العلماء ما كانوا يعلمون شيئاً عن هذه الأسرار.. إن البشرية كلها لم تعلم شيئاً عن ذلك، إنهم لا يملكون أن يجدوا تفسيراً إلا أن يقولوا هذا من جهة أخرى هي وراء هذا الكون.. نعم، إنه وحي من الله سبحانه وتعالى، أوحى به إلى عبده النبي الأمي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله معجزة باقية دائمة تستمر مع البشرية إلى قيام الساعة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور آرمسترونج)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا البروفيسور آرمسترونج، وهو أحد مشاهير علماء الفلك في أمريكا، ويعمل في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، وهو من مشاهير علمائها.
وقد حدثني بخبره الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: قصدته مع نفر من أصحابنا لنسأله عن عدد من الآيات الكونية المتعلقة بمجال تخصصه في الفلك.
وكان من جوابه لنا قوله: سأحدثكم كيف تكونت كل العناصر على الأرض، لقد اكتشفناها.. بل لقد أقمت عدداً من التجارب لإثبات ما أقول لكم.
إن العناصر المختلفة تجتمع فيها الجسيمات المختلفة من الكترونات وبروتونات وغيرها لكي تتحد هذه الجسيمات في ذرة كل عنصر يحتاج إلى طاقة.
وعند حسابنا للطاقة اللازمة لتكوين ذرة الحديد وجدنا أن الطاقة اللازمة يجب أن تكون كطاقة المجموعة الشمسية أربع مرات، ليست طاقة الأرض ولا الشمس ولا القمر ولا عطادر ولا زحل ولا المشتري كل هذه المجموعة الشمسية بأكملها لا تكفي طاقتها لتكوين ذرة حديد، بل تحتاج إلى طاقة مثل طاقة المجموعة الشمسية أربع مرات.
ثم قال هو من نفسه بدون سؤال منا: ولذلك يعتقد العلماء أن الحديد عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها.
قلوب مع محمد (167)
وهنا ذكرنا قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد:25)، ثم سألناه: هل في هذه السماء فروج وشقوق؟
فقال: لا، إنكم تتكلمون عن فرع من فروع علم الفضاء اسمه الكون التام، وهذا الكون التام ما عرفه العلماء إلا أخيراً، لو أخذت نقطة في الفضاء وتحركت مسافة معينة إلى اتجاه وتحركت بنفس المسافة في اتجاه آخر لوجدت أن وزن الكتلة في كل الاتجاهات متساو لأن هذه النقطة متزنة فيجب أن تكون الضغوط عليها من كل جانب متساوية. والكتلة يجب أن تكون كذلك. ولو لم يكن هذا الاتزان لتحرك الكون وحدث فيه تصدع وشقوق.
قال الشيخ: فذكرت قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (قّ:6)
ثم تحدثنا معه عن جهود العلماء في محاولاتهم الوصول إلى حافة الكون، وقلنا له: هل وصل العلم إلى معرفة حافة الكون؟
فقال: نحن في معركة للوصول إلى حافة الكون.. إننا نكبر أجهزة، ثم ننظر من خلالها، فنكتشف نجوماً ونكتشف أننا ما زلنا بداخل هذه النجوم ما وصلنا إلى الحافة؟
قال الشيخ: وأنا أعلم من قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} (الملك:5) أن كل هذه النجوم هي زينة للسماء الدنيا.
قال البروفيسور: ولذلك نحن نفكر في إقامة التلسكوبات في الفضاء حتى لا يكون هذا الغبار والأشياء من الظواهر الجوية الموجودة على الأرض من العوائق التي تحول بيننا وبين هذه الرؤيا.. إن التلسكوبات البصرية التي تستعمل الضوء أو البصر عجزت ولم تستطع أن تتجاوز بنا مسافات كبيرة، فعوضنا عن هذه التلسكوبات البصرية بتلسكوبات لا سلكية فوجدنا مسافات جديدة، ولكن لا زلنا داخل الحدود.
قال الشيخ: فذكرت قول الله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
قلوب مع محمد (168)
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} (الملك)
قال الشيخ: وهكذا بقي يذكر الحقائق العلمية، ونحن نذكر له الآيات المرتبطة بها، وهو يوافق على ذلك، ثم قلنا له: ها أنت ذا قد رأيت بنفسك حقائق علم الفلك الحديث بعد أن استخدم الإنسان هذه الأجهزة والصواريخ وسفن الفضاء واكتشفت هذه المعلومات، ها أنت ذا قد رأيتها ثم رأيت كيف جاءت في نصوص القرآن الكريم قبل 1400 عام فما رأيك في هذا؟
فأجاب: هذا سؤال صعب.. ظللت أفكر فيه منذ أن تناقشنا هنا.. وإنني متأثر جداً كيف أن بعض الكتابات القديمة تبدو متطابقة مع علم الفلك الحديث بصورة ملفتة للأنظار، لست عالماً وافياً في تاريخ البشرية، وفي صورة يعتمد عليها بحيث ألقي بنفسي تماماً في ظروف قديمة كانت سائدة منذ 1400 سنة، ولكني بالتأكيد أود ألا أزيد على أن ما رأيناه جدير بالملاحظة، ومع ذلك قد لا يترك مجالاً للتفسير العلمي، قد يكون هناك شيء فيما وراء فهمنا كخبرة بشرية عادية ليشرح الكتابات التي رأيناها، ولكن ليس في نيتي أو وضعي عند هذه النقطة أن أقدم إجابة على ذلك، لقد قلت كلمات كثيرة على ما أظن دون أن أعبر بالضبط عما أردتني أن أعبر عنه.
إنه من واجبي كعالم أن أظل مستقلاً عن مسائل معينة، وأعتقد أن هذا عندما توقفت على أفضل وجه عند نقطة أقل قليلاً من إعطائك الإجابة التي قد ترغب فيها؟
قلت: ألا ترى في إجابة هذا البروفيسور نوعا من الهروب؟
قال: نعم.. فهؤلاء العلماء ـ مع ما رزقوا من ذكاء حاد في جميع علوم الدنيا ـ إلا أن لهم بلاهة عجيبة فيما يتعلق بحقائق الأزل.
سكت قليلا، ثم قال: ولكن مع ذلك.. هذه البداية.. والعقل سيبقى محاصرا لهؤلاء.. والحقائق تظل محاصرة لهم إلى أن يعرفوا الحق، ويشهدوا له.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور ج. س. جورنجر)،
قلوب مع محمد (169)
فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أستاذ في كلية الطب قسم التشريح في جامعة جورج تاون في واشنطن، وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: التقيت بهذا الأستاذ مع نفر من أصحابنا، وسألناه: هل ذكر في تاريخ علم الأجنة أن الجنين يخلق في أطوار؟ وهل هناك من الكتب المتعلقة بعلم الأجنة ما قد أشار إلى هذه الأطوار في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده بقرون، أم أن هذا التقسيم إلى أطوار لم يعرف إلا في منتصف القرن التاسع عشر؟
فأجابنا بقوله: لقد كانت هناك عناية من اليونانيين بدراسة الجنين، وقد حاول عدد منهم أن يصف ما يدور للجنين وما يحدث فيه.
فقلنا له: نعم، نعلم هذا، إن هناك نظريات لبعض العلماء منهم أرسطو وغيره، ولكن هل هناك من ذكر أن هناك أطواراً؟ لأننا نعلم أن الأطوار لم تعرف إلا في منتصف القرن التاسع عشر، ولم تثبت إلا في أوائل القرن العشرين.
وبعد نقاش طويل، قال: لا.
قلنا: هل هناك مصطلحات أطلقت على هذه الأطوار، كالمصطلحات التي وردت في القرآن الكريم؟
قال: لا.
قلنا: فما رأيك في هذه المصطلحات التي تغطي أطوار الجنين؟
وبعد مناقشة طويلة معه قدم بحثاً، وألقاه في المؤتمر الطبي السعودي الثامن عن هذه الأطوار التي وردت في القرآن الكريم، وعن جهل البشرية بها، وعن شمول ودقة هذه المصطلحات التي أطلقها القرآن الكريم على هذه الأطوار لأحوال الجنين بعبارات موجزة وألفاظ مختصرة شملت حقائق واسعة.
وقد قال مصرحا بعد بحثه ذلك: إنه وصف للتطور البشري منذ تكوين الأمشاج إلى أن أصبحت كتلاً عضوية، عن هذا الوصف والإيضاحات الجلية والشاملة لكل مرحلة من مراحل
قلوب مع محمد (170)
تطور الجنين في معظم الحالات إن لم يكن في جميعها يعود هذا الوصف في قدمه إلى قرون عديدة قبل تسجيل المراحل المختلفة للتطور الجنيني البشري التي وردت في العلوم التقليدية العلمية.
قال الشيخ: وتطرق البحث مع البروفيسور جورنجر حول الظاهرة التي كشفت علمياً، وكشفت حديثاً لتزيل الإشكال الذي كان يثيره النصارى الذين يقولون: ها هو ذا عيسى عليه السلام قد خلق من أم فمن هو أبوه؟.. يثيرون هذا الإشكال لا يتصورون أن يكون هناك خلق بدون أب.
ولكن العلم يكشف أن كثيراً من الحيوانات الدنيا وكثيراً من الكائنات الآن تتوالد وتنجب بدون تلقيح الذكور، فهذا النحل: جميع ذكوره عبارة عن بيض لم يلقح بماء الذكور والبيضة التي تلقح بماء الذكور تكون شغالة أنثى، أما الذكور فهي مخلوقة من بيض الملكة بدون ماء الذكور.. وغير ذلك من الحيوانات.
بل لقد حدث في التقدم العلمي أن تمكن الإنسان أن ينبه بعض البيض لبعض الكائنات فتنمو هذه البيضة بدون حاجة إلى تلقيح الذكر.
وقد حدثنا البروفيسور جورنجر عن هذا الأمر، فقال: في نوع آخر لتناول الموضوع فإن البيض غير المخصب لكثير من الحيوانات اللافقارية والبرمائية والثديية السفلي يمكن تنشيطه بوسائل ميكانيكية، كالوخز بالإبرة، أو بوسائل مادية كالصدمة الحرارية، أو بوسائل كيميائية بأي عدد من المواد الكيمائية المختلفة، ويستمر البيض إلى مراحل تطور متقدمة، في بعض الأجناس يعتبر هذا النوع من التطور الجيني طبيعياً.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور درجا برساد راو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أستاذ في علم جيولوجيا البحار، وقد حدثني حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: التقيت به مع نفر من أصحابنا، وعرضنا عليه عدداً من الآيات المتعلقة
قلوب مع محمد (171)
بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فاندهش لما سمع ولما رأى وهو يقرأ معاني آيات القرآن في بعض الكتب المخصصة لذلك.
وكان مما تعرض لشرحه قول الله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور:40)
وقد قال في تفسيرها: نعم، هذه الظلمات عرفها العلماء الآن بعد أن استعملوا الغواصات، وتمكنوا من الغوص في أعماق البحار، لا يستطيع الإنسان أن يغوص بدون آلة أكثر من عشرين إلى ثلاثين متراً، فالذين يغوصون من أجل اللؤلؤ في مناطق الخليج يغوصون في مناطق قريبة لا تزيد على هذا العمق، فإذا غاص الإنسان إلى أعماق شديدة حيث يوجد الظلام على عمق 200 متر لا يمكن أبداً أن يبقى حياً.
وهذه الآية تتحدث عن ظاهرة توجد في البحار العميقة، ولذلك قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}.. ليس في أي بحر وصفت هذه الظلمات بأنها متراكمة بعضها فوق بعض، والظلمات المتراكمة والتي تتراكم في البحار العميقة تنشأ بسببين، وكلا السببين يكونان نتيجة اختفاء الألوان في طبقة بعد طبقة.
فالشعاع الضوئي مكون من سبعة ألوان، فإذا نزل الشعاع الضوئي إلى الماء توزع إلى الألوان السبعة.
أخرج لنا صورة طبقات مقسمة من مقطع عرضي لقاع البحر، وقال: نرى في هذا الشكل الذي أمامنا الشعاع في الماء، فالجزء الأعلى قد امتص اللون الأحمر في العشرة الأمتار السطحية العليا، فلو أن غواصاً يغوص على عمق ثلاثين متراً وجرح جسمه وخرج الدم وأراد أن يراه فلا يرى اللون الأحمر لأن الأشعة الحمراء غير موجودة، وبعده يمتص اللون البرتقالي، وكما نرى في هذا الشكل الشعاع الضوئي وهو ينزل في أعماق الماء على مسافة 50 متراً يبدأ امتصاص اللون
قلوب مع محمد (172)
الأصفر، وعلى عمق 100 متر يكون امتصاص اللون الأخضر وهكذا.
ونرى تحت مائتي متر يكون الامتصاص للون الأزرق، فإذاً ظلمة اللون الأخضر عند عمق 100 متر وظلمة الأصفر تكون على عمق 50 متراً، وقبلها ظلمة اللون البرتقالي وظلمة اللون الأحمر، فهي ظلمات بعضها فوق بعض.
وأما السبب الثاني فيكون بسبب الحواجز التي تحجب الضوء، فالشعاع الضوئي الذي نراه هنا ينزل من الشمس فتمتص السحب بعضه وتشتت بعضه فتنشأ ظلمة تحت السحب، وهذه الظلمة الأولى، فإذا نزل الشعاع الضوئي إلى سطح البحر المتموج انعكس على سطح الموج فأعطى لمعاناً، ولذلك نرى أنه إذا حدث موج في البحر كان اللمعان شديداً على حسب ميل سطح الموج.
فالموج إذاً يسبب عكساً للأشعة أي يسبب ظلمة ثم ينزل الشعاع الضوئي إلى أسفل، ونجد البحر هنا ينقسم قسمين، قسم سطحي وقسم عميق، أما السطحي فهو الذي يوجد فيه الظلام والبرودة.
ويختلف البحران في خصائصهما وصفاتهما ولكن يوجد موج فاصل بين البحر السطحي والبحر العميق، وهذا الموج الداخلي لم يكتشف إلا عام 1900 م تحت الموج العميق الذي يفصل بين البحرين يوجد البحر العميق، ويبدأ الظلام حتى إن الأسماك في هذه المناطق لا ترى بأعينها بل لها مصدر للضوء يصدر من جسمها في هذه الظلمات التي تراكمت بعضها فوق بعض، وقد جاء ذكر هذا في قوله تعالى: {: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} وإذا نظرنا أسفل الشكل نرى الظلام ونرى فوق الموج الأول الذي يفصل بين البحر السطحي والبحر العميق {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق هذا الموج موج آخر، هو الذي يكون على سطح البحر: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} فوقهم: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ظلمات هذه الحواجز وظلمات الألوان في طبقات بعضها فوق بعض {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} في هذه المناطق ظلام شديد، والغواصات تنزل إلى هذه المسافات فلا ترى شيئاً، وتستخدم مصادر للضوء والإضاءة حتى ترى
قلوب مع محمد (173)
طريقها. فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآيات؟
قال الشيخ: فكان هذا مما حدثنا عنه البروفيسور راو، ثم استعرضنا معه كثيراً من الآيات المتعلقة بالبحار وفي مجال تخصصه، ثم قلنا له: ما هو تفسيرك يا أستاذ راو لهذه الظاهرة؟.. ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، أو بعبارة أخرى كيف أخبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الحقائق منذ 1400 عام؟
فقال: من الصعب أن نفترض أن هذا النوع من المعرفة كان موجوداً في ذلك الوقت منذ 1400 سنة هجرية، ولكن بعض الأشياء تتناول فكرة عامة، ولكن وصف هذه الأشياء بتفصيل كبير أمر صعب جداً، ولذلك فمن المؤكد أن هذا ليس علماً بشرياً بسيطاً، لا يستطيع الإنسان العادي أن يشرح هذه الظواهر بذلك القدر من التفصيل، ولذلك فقد فكرت في قوة خارقة الطبيعة خارج الإنسان، لقد جاءت المعلومات من مصدر خارق للطبيعة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفيسور شرويدر)، فسألت الغريب عنه، فقال:: هو من علماء البحار في ألمانيا الغربية، وقد حدثنا حديثه الشيخ عبد المجيد الزنداني، فقال: التقيت به مع نفر من أصحابنا في ندوة لعلماء البحار نظمتها جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وقد طلب مني حينها أن ألقي محاضرة عن الظواهر البحرية بين الكشوف العلمية والآيات القرآنية، وبعد أن ألقيت المحاضرة وقف البروفيسور شرويدر في اليوم الثاني يعقب على هذه المحاضرة فكان مما قاله: أود أن أعلق على المحاضرة التي ألقاها علينا الشيخ الزنداني بالأمس، وأود أن أقول: إنني أقدر هذه المحاضرة، في إطار اجتماع علمي كهذا لا يحتاج المرء أن يكون مسلماً، حتى بالنسبة لي كمسيحي من المهم أن أرى العلم ليس فقط كما هو عليه، ولكن أيضاً أن أراه بصورة أوسع وأقابله بالدين أي أن أراه في إطار الدين.
قال الشيخ: ثم أخذ البروفيسور شرويدر يبين العلاقة بين الأديان والعلم، إنه يتحدث عن
قلوب مع محمد (174)
تلك الفجوة الهائلة بين الأديان كلها وبين العلم، فهناك تنافر واضح بين قادة العلوم الدينية وقادة العلوم الكونية، ولكنه اندهش عندما سمع آيات القرآن الكريم وسمع الحقائق التي ذكرها هذا الكتاب الكريم قبل 1400 عام، فعلق على ذلك وقال: في أديان كثيرة نجد أن القادة يظنون أن العلم يستطيع أن يأخذ شيئاً من الدين، إذا كان العلم يتقدم فإن على الدين أن يتقهقر، هنا لدينا تناول مختلف تماماً، لقد أراني الشيخ الزنداني أن العلم في الحقيقة يؤكد ما يقوله القرآن، وما ورد بالفعل منذ عديد من السنين في القرآن هو حقيقة ما يكتشفه العلماء اليوم، أعتقد أنه من المهم بالنسبة لندوة كهذه أن تبلغ إلى العلماء من جميع الأمم، وإنني واثق أننا جميعاً سنعود إلى أوطاننا ونحن نفكر أكثر في العلاقة بين الدين وعلوم البحار، ليس هناك علم في جانب ودين في جانب آخر.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (آرثر أليسون)، فسألت الغريب عنه، فقال: هو رئيس قسم الهندسة الكهربائية والإلكترونية بجامعة لندن، ورئيس جمعية الدراسات النفسية والروحية البريطانية.. وقد سمعت حديثه عن بعض الثقاة، فقد ذكر لي بأن هذا الاستاذ الفاضل زار القاهرة عام 1985 ليشارك في أعمال المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، كان يحمل معه بحثه الذي ألقاه، وتناول فيه أساليب العلاج النفسي والروحاني في ضوء القرآن الكريم، بالإضافة الى بحث آخر حول النوم والموت والعلاقة بينهما في ضوء الآية القرآنية الكريمة: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر:42)
ولم يكن حينها قد اعتنق الإسلام، وإنما كانت مشاعره تجاهه لا تتعدى الإعجاب به كدين من الأديان.
قلوب مع محمد (175)
ولكنه ما إن جلس يشارك في أعمال المؤتمر، ويستمع إلى باقي البحوث التي تناولت الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، حتى تملكه الانبهار، وازداد يقينه بأن هذا هو الدين الحق.. فكل ما يسمعه عن الإسلام يدلل بأنه دين العلم ودين العقل.
لقد رأى ذلك الحشد الهائل من الحقائق القرآنية والنبوية، والتي تتكلم عن المخلوقات والكائنات، والتي جاء العلم، فأيدها، فأدرك أن هذا لا يمكن أن يكون من عند بشر.. وما جاء به محمد من أربعة عشر قرناً يؤكد أنه رسول الله حَقّاً.
وأخذ أليسون يستفسر من كل مَن جلس معه عن كل ما يهمه أن يعرفه عن الإسلام كعقيدة ومنهج للحياة في الدنيا..
وفي الليلة الختامية للمؤتمر، وأمام مراسلي وكالات الأنباء العالمية، وعلى شاشات التليفزيون، وقف البروفيسور (آرثر أليسون) ليعلن أمام الجميع أن الإسلام هو دين الحق، ودين الفطرة التي فطر الناس عليها، ثم نطق بالشهادتين أمام الجميع بصوت قوي مؤمن.
وفي تلك اللحظات كانت تكبيرات المسلمين من حوله ترتفع، ودموع البعض قد انهمرت خشوعاً ورهبة أمام هذا الموقف الجليل.
ثم أعلن البروفيسور البريطاني عن اسمه الجديد (عبد الله أليسون)، وأخذ يحدث الحضور عن قصته مع الإسلام فقال: (إنه من خلال اهتماماتي بعلم النفس، وعلم ما وراء النفس، حيث كنت رئيساً لجمعية الدراسات النفسية والروحية البريطانية لسنوات طويلة، أردت أن أتعرف على الأديان، فدرستها كعقائد، ومن تلك العقائد عقيدة الإسلام، الذي وجدته أكثر العقائد تمشياً مع الفطرة التي ينشأ عليها الإنسان، وأكثر العقائد تمشياً مع العقل، من أن هناك إلهاً واحداً مهيمناً ومسيطراً على هذا الوجود، ثم إن الحقائق العلمية التي جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية من قبل أربعة عشر قرناً قد أثبتها العلم الحديث الآن، وبالتالي نؤكد أن ذلك لم يكن من عند بشر على الإطلاق، وأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله)
قلوب مع محمد (176)
ثم تناول (عبد الله أليسون) جزئية من بحثه الذي شارك به في أعمال المؤتمر، والتي دارت حول حالة النوم والموت من خلال الآية السابقة، فأثبت (أليسون) أن الآية الكريمة تذكر أن الوفاة تعني الموت، وتعني النوم، وأن الموت وفاة غير راجعة في حين أن النوم وفاة راجعة.. وقد ثبت ذلك من خلال الدراسات الباراسيكولوجية والفحوص الإكلنيكية من خلال رسم المخ، ورسم القلب، فضلاً عن توقف التنفس الذي يجعل الطبيب يعلن عن موت هذا الشخص، أم عدم موته في حالة غيبوبته أو نومه.
وبذلك أثبت العلم أن النوم والموت عملية متشابهة، تخرج فيها النّفسُ وتعود في حالة النوم، ولا تعود في حالة الموت.
ثم قرر هذا العالم المسلم البروفيسور (عبد الله أليسون) أن الحقائق العلمية في الإسلام هي أمثل وأفضل أسلوب للدعوة الإسلامية، ولا سيما للذين يحتجون بالعلم والعقل.
وقد أعلن البروفيسور أنه سيقوم بإنشاء معهد للدراسات النفسية الإسلامية في لندن على ضوء القرآن المجيد والسنة النبوية.
وأعلن أنه سيظل مهتما بدراسات الإعجاز الطبي في الإسلام، وذلك لكي يوصل تلك الحقائق إلى العالم الغربي الذي لا يعرف شيئاً عن الإسلام.
كما وعد بإنشاء مكتبة إسلامية ضخمة باللغتين العربية والإنجليزية للمساعدة في إجراء البحوث العلمية على ضوء الإسلام.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (البروفسور جفري لانج)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أستاذ الرياضيات في الجامعات الأميركية، وهو مؤلف كتاب بعنوان (حتى الملائكة تسأل)، وقد سطر في هذا الكتاب قصة إسلامه.
وقد تشرفت باللقاء معه، والاستماع لتلك القصة منه مشافهة، ومما ذكره لي من ذلك قوله:
قلوب مع محمد (177)
(لقد كانت غرفة صغيرة، ليس فيها أثاث ما عدا سجادة حمراء، ولم يكن ثمة زينة على جدرانها الرمادية، وكانت هناك نافذة صغيرة يتسلّل منها النور... كنا جميعاً في صفوف، وأنا في الصف الثالث، لم أكن أعرف أحداً منهم، كنا ننحني على نحو منتظم فتلامس جباهنا الأرض، وكان الجو هادئاً، وخيم السكون على المكان، نظرت إلى الأمام فإذا شخص يؤمّنا واقفاً تحت النافذة، كان يرتدي عباءة بيضاء... استيقظت من نومي! رأيت هذا الحلم عدة مرات خلال الأعوام العشرة الماضية، وكنت أصحو على أثره مرتاحاً.
في جامعة (سان فرانسيسكو) تعرفت على طالب عربي كنت أُدرِّسُهُ، فتوثقت علاقتي به، وأهداني نسخة من القرآن، فلما قرأته لأول مرة شعرت كأن القرآن هو الذي (يقرأني)
وفي يوم عزمت على زيارة هذا الطالب في مسجد الجامعة، هبطت الدرج ووقفت أمام الباب متهيباً الدخول، فصعدت وأخذت نفساً طويلاً، وهبطت ثانية لم تكن رجلاي قادرتين على حملي! مددت يدي إلى قبضة الباب فبدأت ترتجف، ثم هرعت إلى أعلى الدرج ثانية... شعرت بالهزيمة، وفكرت بالعودة إلى مكتبي.. مرت عدة ثوانٍ كانت هائلة ومليئة بالأسرار اضطرتني أن أنظر خلالها إلى السماء، لقد مرت عليّ عشر سنوات وأنا أقاوم الدعاء والنظر إلى السماء! أما الآن فقد انهارت المقاومة وارتفع الدعاء: (اللهم إن كنت تريد لي دخول المسجد فامنحني القوة)، نزلت الدرج، دفعت الباب، كان في الداخل شابان يتحادثان. ردا التحية، وسألني أحدهما: هل تريد أن تعرف شيئاً عن الإسلام؟ أجبت: نعم، نعم.. وبعد حوار طويل أبديت رغبتي باعتناق الإسلام فقال لي الإمام: قل أشهد، قلت: أشهد، قال: أن لا إله، قلت: أن لا إله ـ لقد كنت أؤمن بهذه العبارة طوال حياتي قبل اللحظة ـ قال: إلا الله، رددتها، قال: وأشهد أن محمداً رسول الله، نطقتها خلفه.
لقد كانت هذه الكلمات كقطرات الماء الصافي تنحدر في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من الظمأ... لن أنسى أبداً اللحظة التي نطقت بها بالشهادة لأول مرة، لقد كانت بالنسبة إليّ
قلوب مع محمد (178)
اللحظة الأصعب في حياتي، ولكنها الأكثر قوة وتحرراً.
بعد يومين تعلمت أول صلاة جمعة، كنا في الركعة الثانية، والإمام يتلو القرآن، ونحن خلفه مصطفون، الكتف على الكتف، كنا نتحرك وكأننا جسد واحد، كنت أنا في الصف الثالث، وجباهنا ملامسة للسجادة الحمراء، وكان الجو هادئاً والسكون مخيماً على المكان!! والإمام تحت النافذة التي يتسلل منها النور يرتدي عباءة بيضاء! صرخت في نفسي: إنه الحلم! إنه الحلم ذاته... تساءلت: هل أنا الآن في حلم حقاً فاضت عيناي بالدموع، السلام عليكم ورحمة الله، انفتلتُ من الصلاة، ورحت أتأمل الجدران الرمادية! تملكني الخوف والرهبة عندما شعرت لأول مرة بالحب، الذي لا يُنال إلا بأن نعود إلى الله) (1)
وقد انهالت الأسئلة على الدكتور جيفري لانغ باحثة عن سر إسلامه فكان يجيب: (في لحظة من اللحظات الخاصة في حياتي، منّ الله بواسع علمه ورحمته عليّ، بعد أن وجد فيّ ما أكابد من العذاب والألم، وبعد أن وجد لدي الاستعداد الكبير إلى مَلء الخواء الروحي في نفسي، فأصبحت مسلماً... قبل الإسلام لم أكن أعرف في حياتي معنى للحب، ولكنني عندما قرأت القرآن شعرت بفيض واسع من الرحمة والعطف يغمرني، وبدأت أشعر بديمومة الحب في قلبي، فالذي قادني إلى الإسلام هو محبة الله التي لا تقاوَم) (2)
وكان من إجاباته قوله: (الإسلام هو الخضوع لإرادة الله، وطريق يقود إلى ارتقاء لا حدود له، وإلى درجات لا حدود لها من السلام والطمأنينة.. إنه المحرك للقدرات الإنسانية جميعها، إنه التزام طوعي للجسد والعقل والقلب والروح) (3)
وكان يجيب بقوله: (القرآن هذا الكتاب الكريم قد أسرني بقوة، وتملّك قلبي، وجعلني
__________
(1) باختصار عن كتابيه (الصراع من أجل الإيمان) و(حتى الملائكة تسأل)
(2) حتى الملائكة تسأل، د. جيفري لانغ: 211.
(3) حتى الملائكة تسأل، د. جيفري لانغ:75.
قلوب مع محمد (179)
أستسلم لله، والقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى، حيث يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه، وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فهو يحمل عليك، وكأن له حقوقاً عليك! وهو يجادلك، وينتقدك ويُخجلك ويتحداك... لقد كنت على الطرف الآخر، وبدا واضحاً أن مُنزل القرآن كان يعرفني أكثر مما أعرف نفسي... لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري، وكان يخاطب تساؤلاتي... وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت أكتشف الإجابة في اليوم التالي... لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القرآن..) (1)
وكان يقول: (بعد أن أسلمت كنت أُجهد نفسي في حضور الصلوات كي أسمع صوت القراءة، على الرغم من أني كنت أجهل العربية، ولما سُئلت عن ذلك أجبت: لماذا يسكن الطفل الرضيع ويرتاح لصوت أمه؟ أتمنى أن أعيش تحت حماية ذلك الصوت إلى الأبد) (2)
وكان يقول: (الصلاة هي المقياس الرئيس اليومي لدرجة خضوع المؤمن لربه، ويا لها من مشاعر رائعة الجمال، فعندما تسجد بثبات على الأرض تشعر فجأة كأنك رُفعت إلى الجنة، تتنفس من هوائها، وتشتمُّ تربتها، وتتنشق شذا عبيرها، وتشعر وكأنك توشك أن ترفع عن الأرض، وتوضع بين ذراعي الحب الأسمى والأعظم) (3)
وكان يقول: (وإن صلاة الفجر هي من أكثر العبادات إثارة، فثمة دافع ما في النهوض فجراً – بينما الجميع نائمون – لتسمع موسيقا القرآن تملأ سكون الليل، فتشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجّد الله عند الفجر) (4)
قلت: أراه شديد التعظيم للصلاة مدركا لقيمتها.
قال: أجل.. وقد حدثني عن أول صلاة صلاها، والصراع الذي حصل بينه وبين نوازع
__________
(1) حتى الملائكة تسأل،:209.
(2) الصراع من أجل الإيمان:34.
(3) حتى الملائكة تسأل:366.
(4) الصراع من أجل الإيمان:111.
قلوب مع محمد (180)
نفسه، فقال: في اليوم الذي اعتنقت فيه الإسلام، قدم لي إمام المسجد كتيباً يشرح كيفية أداء الصلاة، غير أني فوجئت بما رأيته من قلق الطلاب المسلمين، فقد ألحوا عليَّ بعبارات مثل: (خذ راحتك) (لا تضغط على نفسك كثيراً) (من الأفضل أن تأخذ وقتك) (ببطء.. شيئاً، فشيئاً)
وتساءلت في نفسي (هل الصلاة صعبة إلى هذا الحد؟). لكني تجاهلت نصائح الطلاب، فقررت أن أبدأ فوراً بأداء الصلوات الخمس في أوقاتها.
وفي تلك الليلة، أمضيت وقتاً طويلاً جالساً على الأريكة في غرفتي الصغيرة بإضاءتها الخافتة، حيث كنت أدرس حركات الصلاة وأكررها، وكذلك الآيات القرآنية التي سأتلوها، والأدعية الواجب قراءتها في الصلاة.
وبما أن معظم ما كنت سأتلوه كان باللغة العربية (1)، فقد لزمني حفظ النصوص بلفظها العربي، وبمعانيها باللغة الإنجليزية، وتفحصت الكتيب ساعات عدة، قبل أن أجد في نفسي الثقة الكافية لتجربة الصلاة الأولى، وكان الوقت قد قارب منتصف الليل، لذلك قررت أن أصلي صلاة العشاء.
ودخلت الحمام ووضعت الكتيب على طرف المغسلة مفتوحاً على الصفحة التي تشرح الوضوء، وتتبعت التعليمات الواردة فيه خطوة خطوة، بتأن ودقة، مثل طاهٍ يجرب وصفة لأول مرة في المطبخ.
وعندما انتهيت من الوضوء، أغلقت الصنبور وعدت إلى الغرفة والماء يقطر من أطرافي، ووقفت في منتصف الغرفة، متوجهاً إلى ما كنت أحسبه اتجاه القبلة.
نظرت إلى الخلف لأتأكد من أنني أغلقت باب شقتي، ثم توجهت إلى الأمام، واعتدلت في
__________
(1) ذكرنا في المسائل الفقهية المرتبطة بهذا الجانب أنه لا ينبغي التشدد في هذا الباب، فيمكن للمصلي أن يصلي باللغة التي يعرفها، وفي الفقه الإسلامي الأدلة الكثيرة المببينة لجواز هذا، ولعل أقواها قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه: من الآية 14)، فالغرض من الصلاة هو ذكر الله، وهو يتحقق بأي لغة من اللغات.
قلوب مع محمد (181)
وقفتي، وأخذت نفساً عميقاً، ثم رفعت يدي، وبراحتين مفتوحتين ملامساً شحمتي الأذنين بإبهامي، ثم بعد ذلك، قلت بصوت خافت (الله أكبر).
كنت آمل ألا يسمعني أحد. فقد كنت أشعر بشيء من الانفعال. إذ لم أستطع التخلص من قلقي من كون أحد يتجسس علي.
وفجأة أدركت أنني تركت الستائر مفتوحة، وتساءلت: ماذا لو رآني أحد الجيران؟ تركت ما كنت فيه، وتوجهت إلى النافذة، ثم جلت بنظري في الخارج لأتأكد من عدم وجود أحد.
وعندما رأيت الباحة الخلفية خالية، أحسست بالارتياح. فأغلقت الستائر، وعدت إلى منتصف الغرفة.
ومرة أخرى، توجهت إلى القبلة، واعتدلت في وقفتي، ورفعت يدي إلى أن لامس الإبهامان شحمتي أذني، ثم همست (الله أكبر)... وبصوت خافت لا يكاد يسمع، قرأت فاتحة الكتاب ببطء وتلعثم، ثم أتبعتها بسورة قصيرة باللغة العربية، وإن كنت أظن أن أي عربي لم يكن ليفهم شيئاً لو سمع تلاوتي تلك الليلة.
ثم بعد ذلك تلفظت بالتكبير مرة أخرى بصوت خافت وانحنيت راكعاً حتى صار ظهري متعامداً مع ساقي واضعاً كفي على ركبتي وشعرت بالإحراج، إذ لم أنحن لأحد في حياتي، ولذلك فقد سررت لأنني وحدي في الغرفة.
وبينما كنت ما أزال راكعاً، كررت عبارة (سبحان ربي العظيم) عدة مرات، ثم اعتدلت واقفاً وأنا أقرأ (سمع الله لمن حمده) ثم (ربنا ولك الحمد).... أحسست بقلبي يخفق بشدة، وتزايد انفعالي عندما كبرت مرة أخرى بخضوع فقد حان وقت السجود.. وتجمدت في مكاني، بينما كنت أحدق في البقعة التي أمامي، حيث كان علي أن أهوي إليها على أطرافي الأربعة وأضع وجهي على الأرض.
لم أستطع أن أفعل ذلك، لم أستطع أن أنزل بنفسي إلى الأرض، لم أستطع أن أذل نفسي بوضع
قلوب مع محمد (182)
أنفي على الأرض، شأن العبد الذي يتذلل أمام سيده.. لقد خيل لي أن ساقي مقيدتان لا تقدران على الانثناء... لقد أحسست بكثير من العار والخزي، وتخيلت ضحكات أصدقائي ومعارفي وقهقهاتهم، وهم يراقبونني وأنا أجعل من نفسي مغفلاً أمامهم، وتخيلت كم سأكون مثيراً للشفقة والسخرية بينهم، وكدت أسمعهم يقولون: (مسكين جفري فقد أصابه العرب بمس في سان فرانسيسكو)
وأخذت أدعو: (أرجوك، أرجوك، أعني على هذا). أخذت نفساً عميقاً، وأرغمت نفسي على النزول.. الآن صرت على أربعتي، ثم ترددت لحظات قليلة، وبعد ذلك ضغط وجهي على السجادة.. أفرغت ذهني من كل الأفكار، وتلفظت ثلاث مرات بعبارة (سبحان ربي الأعلى)، (الله أكبر) قلتها ورفعت من السجود جالساً على عقبي وأبقيت ذهني فارغاً رافضاً السماح لأي شيء أن يصرف انتباهي. (الله أكبر) ووضعت وجهي على الأرض مرة أخرى. وبينما كان أنفي يلامس الأرض، رحت أكرر عبارة (سبحان ربي الأعلى) بصورة آلية. فقد كنت مصمماً على إنهاء هذا الأمر مهما كلفني ذلك. (الله أكبر) وانتصبت واقفاً، فيما قلت لنفسي: لا تزال هناك ثلاث جولات أمامي. وصارعت عواطفي وكبريائي في ما تبقى لي من الصلاة.
لكن الأمر صار أهون في كل شوط، حتى إنني كنت في سكينة شبه كاملة في آخر سجدة، ثم قرأت التشهد في الجلوس الأخير، وأخيراً سلمت عن يميني وشمالي...
وبينما بلغ بي الإعياء مبلغه، بقيت جالسا على الأرض، وأخذت أراجع المعركة التي مررت بها، لقد أحسست بالإحراج لأنني عاركت نفسي كل ذلك العراك في سبيل أداء الصلاة إلى آخرها، ودعوت برأس منخفض خجلاً: (اغفر لي تكبري وغبائي، فقد أتيت من مكان بعيد ولا يزال أمامي سبيل طويل لأقطعه)
وفي تلك اللحظة، شعرت بشيء لم أجربه من قبل، ولذلك يصعب عليّ وصفه بالكلمات، فقد اجتاحتني موجة لا أستطيع أن أصفها إلا بأنها كالبرودة، وبدا لي أنها تشع من نقطة ما في
قلوب مع محمد (183)
صدري، وكانت موجة عارمة فوجئت بها في البداية حتى إنني أذكر أنني كنت أرتعش، غير أنها كانت أكثر من مجرد شعور جسدي، فقد أثرت في عواطفي بطريقة غريبة أيضا.
لقد بدا كأن الرحمة قد تجسدت في صورة محسوسة، وأخذت تغلفني وتتغلغل فيّ.. ثم بدأت بالبكاء من غير أن أعرف السبب، فقد أخذت الدموع تنهمر على وجهي، ووجدت نفسي أنتحب بشدة... وكلما ازداد بكائي، ازداد إحساسي بأن قوة خارقة من اللطف والرحمة تحتضنني. ولم أكن أبكي بدافع من الشعور بالذنب، رغم أنه يجدر بي ذلك، ولا بدافع من الخزي أو السرور.. لقد بدا كأن سداً قد انفتح مطلقاً عنان مخزون عظيم من الخوف والغضب بداخلي.
ظللت لبعض الوقت جالساً على ركبتي، منحنياً إلى الأرض، منتحباً ورأسي بين كفي. وعندما توقفت عن البكاء أخيراً، كنت قد بلغت الغاية في الإرهاق، فقد كانت تلك التجربة جارفة وغير مألوفة إلى حد لم يسمح لي حينئذ أن أبحث عن تفسيرات عقلانية لها.. وقد رأيت حينها أن هذه التجربة أغرب من أن أستطيع إخبار أحد بها.
أما أهم ما أدركته في ذلك الوقت فهو أنني في حاجة ماسة إلى الله وإلى الصلاة، وقبل أن أقوم من مكاني، دعوت بهذا الدعاء الأخير: (اللهم، إذا تجرأت على الكفر بك مرة أخرى، فاقتلني قبل ذلك، خلصني من هذه الحياة.. ومن الصعب جداً أن أحيا بكل ما عندي من النواقص والعيوب لكنني لا أستطيع أن أعيش يوماً واحداً آخر وأنا أنكر وجودك) (1)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (محمد أكويا)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية، وقد ذكر لي قصة إسلامه، فقال: قبل أربع سنوات، ثارت عندنا بالجامعة زوبعة كبيرة، حيث التحقت للدراسة طالبة أميركية مسلمة، وكانت محجبة، وقد كان من بين مدرسيها رجل متعصب يبغض الإسلام ويتصدى لكل
__________
(1) حتى الملائكة تسأل:234.
قلوب مع محمد (184)
لا يهاجمه، فكيف بمن يعتنقهويظهر شعائره للعيان؟
وقد كان هذا الأستاذ يحاول استثارتها كلما وجد فرصة سانحة للنيل من الإسلام، وشن حربا شعواء عليها، ولما قابلت هي الموضوع بهدوء ازداد غيظه منها، فبدأ يحاربها عبر طريق آخر، حيث الترصد لها بالدرجات، وإلقاء المهام الصعبة في الأبحاث، والتشديد عليها بالنتائج، ولما عجزت المسكينة أن تجد لها مخرجا تقدمت بشكوى لمدير الجامعة مطالبة فيها النظر إلى موضوعها.
وكان قرار الإدارة أن يتم عقد لقاء بين الطرفين المذكورين الدكتور والطالبة لسماع وجهتي نظرهما والبت في الشكوى.
ولما جاء الموعد المحدد، حضر أغلب أعضاء هيئة التدريس، وكنا متحمسين جدا لحضور هذه الجولة التي تعتبر الأولى من نوعها عندنا بالجامعة.
بدأت الجلسة التي ذكرت فيها الطالبة أن المدرس يبغض ديانتها، ولأجل هذا يهضم حقوقها العلمية، وذكرت أمثلة عديدة لهذا، وطلبت الاستماع لرأي بعض الطلبة الذين يدرسون معها، وكان من بينهم من تعاطف معها وشهد لها، ولم يمنعهم اختلاف الديانة أن يدلوا بشهادة طيبة بحقها.
حاول الدكتور على إثر هذا أن يدافع عن نفسه، واستمر بالحديث، فخاض بسب دينها، فقامت تدافع عن الإسلام، وأدلت بمعلومات كثيرة عنه، وكان لحديثها قدرة على جذبنا، حتى أننا كنا نقاطعها، فنسألها عما يعترضنا من استفسارات، فتجيب، فلما رآنا الدكتور المعني مشغولين بالاستماع والنقاش خرج من القاعة، فقد تضايق من اهتمامنا وتفاعلنا.
فذهب هو ومن لا يرون أهمية للموضوع، وبقينا نحن مجموعة من المهتمين نتجاذب أطراف الحديث، وفي نهايته قامت الطالبة بتوزيع ورقتين علينا كتب فيها تحت عنوان (ماذا يعني لي الإسلام؟)، وفيها ذكرت الدوافع التي دعتها لاعتناق هذا الدين العظيم، ثم بينت ما للحجاب من أهميةوأثر، وشرحت مشاعرها الفياضة صوب هذا الجلباب وغطاء الرأس الذي ترتديه،
قلوب مع محمد (185)
والذي تسبب بكل هذه الزوبعة.
لقد كان موقفها عظيما.. ولأن الجلسة لم تنته بقرار لأي طرف، فقد قالت إنها تدافع عن حقها، وتناضل من أجله، ووعدت أنها إن لم تظفر بنتيجة لصالحها أن تبذل المزيد حتى لو اضطرت لمتابعة القضيةوتأخير الدراسة نوعا ما، لقد كان موقفا قويا، ولم نكن أعضاء هيئة التدريس نتوقع أن تكون الطالبة بهذا المستوى من الثبات، ومن أجل المحافظة على مبدئها.
وكم أذهلنا صمودها أمام هذا العدد من المدرسين والطلبة، وبقيت هذه القضية يدور حولها النقاش داخل أروقة الجامعة، أما أنا فقد بدأ الصراع يدور في نفسي من أحل تغيير الديانة، فما عرفته عن الإسلام حببني فيه كثيرا، ورغبني في اعتناقه، وبعد عدة أشهر أعلنت إسلامي، وتبعني دكتور ثانوثالث في نفس العام، كما أن هناك أربعة طلاب أسلموا.
وهكذا في غضون فترة بسيطة أصبحنا مجموعة لنا جهود دعوية في التعريف بالإسلام والدعوة إليه، وهناك الآن عدد من الأشخاص في طور التفكير الجاد، وعما قريب إن شاء الله ينشر خبر إسلامهم داخل أروقة الجامعة. والحمد لله وحده.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (آلا أولينيكوفا)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذه أستاذة بالجامعية الروسية، وقد درست الطب في ثلاث جامعات، قد أخبرتني عن قصة اعتناقها للإسلام، فقالت: أنا روسية، ولدت في مدينة (لينين غراد).. وهي مدينة تنتسب إلى لينين ذلك الشيوعي الذي قتل آلاف المسلمين في الجمهوريات المسلمة في الاتحاد السوفييتي السابق.
وقد تعلمت وواصلت الدراسة في أسرة فقيرة لم يكن لها من زاد سوى صيد الأسماك التي عمل بها والدي من قديم.
وقد درست الطب في موسكو وتخرجت، ثم حصلت على الماجستير فالدكتوراه، ودرست
قلوب مع محمد (186)
بعدها في جامعات موسكو وكييف ولينين غراد.
حياتي في ظل الشيوعية كانت سيئة جدا، لا تتفق وفطرة الإنسان في العيش بحرية وأمان ورفاه.
كنت في داخلي ثائرة على الوضع، لكنني لم أكن أستطيع الكلام، مثل سائر الناس، وإلا كان المصير هو القتل، أو النفي لسيبيريا، أو السجن أو التعذيب.
كانت حياتنا جحيما مستعرا، ظلما واستعبادا وقهرا، وإجبارا على حياة لا توافق فطرة البشر، ومنعا من العبادة، وإجبارا على الكفر والإلحاد.
نحن نعلم عن الإسلام أكثر مما يعرفه الغربيون لأسباب أهمها قربنا من المجتمعات المسلمة، ولأن الاتحاد السوفييتي كان يضم قرابة 60 مليون مسلم، وهؤلاء يعملون معنا في مختلف مراكز الدولة.
عرفت الإسلام من بعض المسلمين العاملين معنا، ولاحظته في تصرفات الطلبة الوافدين من الدول الإسلامية مثل: سورية والكويت وليبيا واليمن والعراق.
وتعرفت على الإسلام أكثر من خلال طالب سوري من حمص كان يدرس الطب في جامعة كييف، إذ لم يكن يشرب الخمر، ولا يأكل لحم الخنزير، ولا يقيم علاقات مع النساء، وكانت أخلاقه عالية جدا، فقد كان أمينا وصادقا، وكان يسكن منزلا متواضعا يقول عنه: هذا منزلي ومسجدي.
شدني هذا الطالب المسلم بأخلاقه، وتعامله المهذب، ليؤكد أن هذه هي أخلاق الإسلام، ولقد أهداني كتبا عن الإسلام قرأتها جيدا فزادت معرفتي به.
وفي عام 1992 م تركت العمل مؤقتا، وسافرت إلى سورية حيث التحقت بكلية الدعوة، ودرست الإسلام فيها، وتخرجت عام 1995 لأعلن إسلامي.
وقد ذكرت لي فضائل الإسلام ومزاياه.. وهي التي جعلته تقتنع به وتعتنقه، فقالت:
قلوب مع محمد (187)
الإسلام دين عظيم، وهو في بلادنا من قبل ألف عام، بينما لم تعش الشيوعية أكثر من سبعين عاما.. لاحظت الأخوة والمحبة بين المسلمين وتبادل النصح.. يزداد تجلي الإسلام في رمضان حيث النظام والصبر والمودة التي تفتقدها المجتمعات غير المسلمة على إطلاقها.. الإسلام يراعي الدنيا والآخرة، وهذا يلائم الطبيعة البشرية.. بعد ارتدائي الحجاب أحاول عدم الاختلاط بالرجال قدر المستطاع.
ولو عرف مجتمعنا الإسلام جيدا وطبقه لأنقذه من الجريمة والفساد والمافيا والمخدرات والدعارة والبطالة.. لأن الإسلام يحرم ويحارب كل ما يضر بالنفس وبالآخرين.
الإسلام هو الخلاص للبشرية، والشافي لها من أمراض العصر، وفيه الحل لمشكلات المجتمعات المختلفة.
لقد سقطت الشيوعية في مزبلة التاريخ على الرغم من كل ما أحاطوها به من دعايات.
بقي الإسلام الذي حاول الشيوعيون طمسه، بل تعاظم دوره واتسعت رقعته اليوم في روسيا وغير روسيا، وفي هذا درس وعبرة لمن أراد أن يعتبر.
وقد قالت لي في آخر حديثي معها: أنا الآن بصدد وضع كتاب عن الإسلام بالروسية، وسوف أحاول تعريف الجميع بهذا الدين العظيم، الذي رأيت من خلاله النور.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (صوفي بوافير) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذه عالمة كندية تحمل درجة الماجستير في تعليم الفرنسية والرياضيات، وقد حدثتني حديث إسلامها، فقالت: ولدت في مونتريال بكندا عام 1971 في عائلة كاثوليكية متدينة، فلذلك اعتدت الذهاب إلى الكنيسة، إلى أن بلغت الرابعة عشرة من عمري، حيث بدأت تراودني تساؤلات كثيرة حول الخالق وحول الأديان، وكانت هذه التساؤلات منطقية، ولكنها
__________
(1) انظر: كتاب (ربحت محمدا ولم أخسر المسيح)، د. عبد المعطي الدالاتي.
قلوب مع محمد (188)
سهلة، ولكني تعجبت من صعوبتها على الذين كنت أسألهم.
ومن هذه الأسئلة: إذا كان الله هو الذي يضر وينفع، وهو الذي يعطي ويمنع، فلماذا لا نسأله مباشرة!؟.. ولماذا يتحتم علينا الذهاب إلى الكاهن كي يتوسط بيننا وبين من خلقنا!؟.. أليس القادر على كل شيء هو الأولى بالسؤال!؟
أسئلة كثيرة كهذه كانت تُلحُّ علي، فلمّا لم أتلق الأجوبة المقنعة عنها توقفت عن الذهاب إلى الكنيسة، ولم أعد للاستماع لقصص الرهبان غير المقنعة، والتي لا طائل منها.
لقد كنت أؤمن بالله وبعظمته وبقدرته، لذلك رحت أدرس أدياناً أخرى، دون أن أجد فيها أجوبة تشفي تساؤلاتي في الحياة، وبقيت أعيش الحيرة الفكرية حتى بدأت دراستي الجامعية، فتعرفت على شاب مسلم تعرفت من خلاله على الإسلام، فأدهشني ما وجدت فيه من أجوبة مقنعة عن تساؤلاتي الكبرى.
وبقيت سنة كاملة وأنا غارقة في دراسة هذا الدين الفذ، حتى استولى حبه على قلبي، والمنظر الأجمل الذي جذبني إلى الإسلام هو منظر خشوع المسلم بين يدي الله في الصلاة، كانت تبهرني تلك الحركات المعبرة عن السكينة والأدب وكمال العبودية لله تعالى، فبدأت أرتاد المسجد، فوجدت بعض الأخوات الكنديات اللواتي سبقنني إلى الإسلام، وهو ما شجعني على المضي في الطريق إلى الإسلام، فارتديت الحجاب أولاً لأختبر إرادتي، وبقيت أسبوعين حتى كانت لحظة الانعطاف الكبير في حياتي، حين شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
إن الإسلام الذي جمعني مع هذا الصديق المسلم، هو نفسه الذي جمعنا من بعد لنكون زوجين مسلمين، لقد شاء الله أن يكون رفيقي في رحلة الإيمان هو رفيقي في رحلة الحياة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (اسبر إبراهيم شاهين) (1)،
__________
(1) أجري معه الحوار في مجلة (الشرق الاوسط)، أجرى الحوار في الرياض: بدر الخريف.
قلوب مع محمد (189)
فسألت الغريب عنه، فقال: هو الدكتور اسبر ابراهيم شاهين.. وهو اسم معروف في الولايات المتحدة الاميركية التي يحمل جنسيتها وتربطه علاقة صداقة حميمة مع رؤسائها، بل يعتبر أحد الشخصيات ذوي الانجازات في دول الغرب.
وقد عرف بمؤلفاته ومقالاته التي حققت رواجاً بين أوساط القراء، بل إن بعضها ادرج ضمن الكتب الاكثر رواجاً وخصوصاً تلك التي لها علاقة بالتكنولوجيا.
وهو بالإضافة إلى هذا خطيب بارع، ومتحدث لبق يجيد فن الحديث، وقد نال جائزة قيمة في مجال تطوير المهارات المتخصصة، وهو مصنف ضمن رجال العلم الأميركان، وضمن أحد الشخصيات ذوي الإنجازات في دول الغرب. كما أنه مواطن فخري لمدينة تكساس، وأحد الأساتذة البارزين في أميركا. وقد نال جائزة رواد الخطابة العالمية للباقته في الحديث، كما حصل على شهادة تقدير وسجل أسمه في سجل الشرف التذكاري الرئاسي.
وقد التقيت به في أمريكا، وحدثني عن قصة إسلامه، فقال: ولدت في لبنان عام 1937، وأنا ـ في أصلي ـ مسيحي أرثوذكسي، درست في لبنان واكملت دراسة الثانوية فيها، ومن خلال حبي لروح المغامرة كشاب في مقتبل العمر وطموحي وتعطشي للمعرفة هاجرت الى الولايات المتحدة الاميركية عام 1957 طلباً للعمل والبحث عن فرص وظيفية، وكنت اعمل اثناء الدراسة لأنفق على نفسي، وقد درست بجامعة تكساس في أوستن لمدة سنتين، وحصلت على درجة البكالوريوس في العلوم من قسم الهندسة الكيميائية من جامعة ولاية اوكلاهوما ثم درست بعد ذلك بجامعة اريزونا في توسون، وحصلت على درجة الماجستير في العلوم، كما حصلت على شهادة الدكتوراة من جامعة تينيسي في نوكسفيل.
وأثناء دراستي هناك كنت ناشطاً في شرح القضايا العربية والدفاع عنها، ففي جامعة اوكلاهوما انتخبت رئيساً لمنظمة الطلبة العرب.
قلوب مع محمد (190)
قلت: فكيف أقبلت على الإسلام، واقتنعت به، واعتنقته؟
قال: أصارحك القول.. أنا منذ صغري أشعر بميل شديد إلى الإسلام.. وفي مراحل التعليم المختلفة، ومن خلال ما اطلعت عليه في صغري عن الحضارة العربية والإسلامية والتاريخ العربي اتضح لي أن الإسلام دين عظيم، وقد انبعث من الجزيرة العربية لينتشر في جميع أنحاء المعمورة، ومن خلال صداقاتي مع كثير من المسلمين التي امتدت إلى عدة عقود لمست فيهم سلوكيات في غاية الكمال وممارسات تجبرك على احترامهم، فمثلاً أنا مسيحي لم أجد من أصدقائي المسلمين أي شيء يشعرني بالبعد عنهم، بل إن الاحترام هو ديدن هذه الصداقة.
إن المعاملة والوعي لب روح الإسلام تجبرك على احترام هذا الدين، كما أن صداقاتي للدكتور ناصر بن ابراهيم الرشيد التي امتدت لأكثر من 33 عاماً كان لها تأثير إيجابي على حياتي، فالإسلام دين واقعي ودين يدعو للعدالة والرحمة وتقدير الإنسان وتكريمه.
قلت: هذا السبب العام، فما السبب الخاص الذي أجبرك على إعلان إسلامك؟
قال: لقد قلت لنفسي (العمر يمشي ونحن نمشي، ولم يبق من الزمن مثل ما مضى).. وإضافة الى ما كانت ذاكرتي تختزنه من حب للاسلام، فقد مررت بظروف صعبة جداً منذ سنتين ونصف حيث خضعت لعملية استئصال ورم سرطاني حول البنكرياس، وذلك في احدى المستشفيات الاميركية، واتضح لي أن العملية ونتائجها خطرة وأن نسبة نجاحها تعد من النوادر.
وفي ليلة العملية تلقيت اتصالات من اصدقاء ومحبين كلهم يدعون لي بنجاح العملية، بل إن البعض منهم أشار إلى أنهم دعوا لي في الحرم بخروجي سالماً معافى من هذا الظرف، ولأنني مولع بالقرآن الكريم بصوت المقرئ الراحل عبد الباسط عبد الصمد الذي كنت أتلذذ بالاستماع اليه، وينتابني عند سماعه شعور غريب أشعر بعده بالطمأنينة، فقد استمعت ليلة إجراء العملية إلى آيات من القرآن الكريم، وبعد العملية شعرت بطمأنينة عميقة وروح هادئة، وحينها قررت أن أعلن إسلامي، وبالفعل حصل ذلك بحمد الله.
قلوب مع محمد (191)
كانت الظروف السياسية التي أعلن فيها إسلامه صعبة جدا، فقلت: ألا ترى أن تزامن إسلامك مع هذه الظروف الصعبة وأنت ضمن الشخصيات الأميركية البارزة وتربطك علاقة بصناع القرار السياسي في أميركا، إضافة إلى أنك استشاري دولي ورئيس لمعهد تكنولوجي دولي، هل ترى ان توقيت إسلامك فيه نوع من التحدي؟
قال: نعم، اعلان اسلامي في ظل هذه الظروف هو نوع من التحدي، ولكنني لا أخشى أحداً، فقد اتخذت قرار الدخول في الدين الإسلامي عن قناعة تامة.
قلت: ألا تخاف أن توجه لك انتقادات بسبب إسلامك؟
قال: بالتأكيد سأواجه انتقادات.. ولكن كما قلت لا أعبأ بذلك.
قلت: فهل ستعرض الإسلام على أسرتك؟
قال: نعم، ولكن بأسلوب الإقناع، ودخول أفراد أسرتي للإسلام وخصوصاً زوجتي الاميركية يعتمد على القناعة، وأنا أرى أنني قدوة لأسرتي سابقاً، والآن سأكون أفضل بعد إسلامي.
قلت: أنت ترى ما يفعل قومي وقومك من التشهير بالإسلام والمسلمين والعرب في الغرب؟
قال: ليس هناك ما يبرر مثل هذا الهجوم، وقد تابعت ذلك ووجدت أن ما طرح لا يعدو أن يكون حقداً وكراهية ولا يصور الواقع، واقع الدين الإسلامي المشهور بالعدل والحق وواقع المسلمين والعرب، والغريب أن هذه الحملة تأتي من اشخاص في مراكز قوى تؤثر على الملايين من المواطنين.
والاعلام الاميركي وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر أصبح طوفانا من الدعاية السيئة، ومن المستحيل أن يقف أمامه من يسعون إلى إيضاح الحقيقة بسبب سيطرة الصهاينة عليه، وهذا يتطلب آلية من العرب والمسلمين لايضاح الصورة وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن دينهم وعن
قلوب مع محمد (192)
واقعهم.
قلت: من خلال دراستك للإسلام ومخالطتك للمسلمين، هل لمست أن صراعاً ظهر بين الإسلام والمسيحية؟
قال: المسيحية ـ في أصلها وحقيقتها ـ لا تعادي الإسلام، والعكس كذلك، لكن ظهرت مؤخراً أصوات من مبشرين تتناول إعلان الحرب على الإسلام مثل ما ذهب اليه فرانك جراهام ـ وهو نجل المبشر الكبير بل جراهام ـ حيث قال: يجب أن يعلن الحرب على الإسلام، فإله الإسلام ليس بإلهنا، والإسلام هو دين عنف وكراهية لأقصى درجات.
تصور، هل مثل هذا الكلام يطرح، وتتناقله بعض وسائل الاعلام، وهل مثل هذا الشخص يمكن أن يقال إنه يدين بالمسيحية، لا اعتقد ذلك، فالمسيحية تقول: (من ضربك على خدك الايمن فأدر له خدك الايسر).. إنه بذلك يحرض العالم على الحرب وهذا شيء مؤلم، فكيف تنتقد ديناً أو تبدي رأياً فيه دون أن تعرف حقيقته أو ان تقرأ عنه.
المشكلة أن البعض في الغرب يقارن الإسلام النبيل بالمتطرفين من المسلمين، ومن قبل متطرفين مسيحيين، رغم أن الإسلام والمسيحية براء من هذه النماذج.
قلت: ما هي الآلية التي تراها مناسبة لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام؟
قال: من خلال إيضاح حقيقة الإسلام، من خلال الحوار مع الآخر، من خلال المراكز الاعلامية بأساليب نبيلة ومحترمة توضح الحقيقه وتراعي شعور الآخرين.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (موري ديفيد كيل)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا باحث كندي شاب، وقد التقيت به في بعض رحلاتي إلى كندا، وقد سألته أن يحدثني عن سر اختياره الإسلام دينا دون سائر الأديان، فقال: كنت أنتمي الي عائلة مسيحية، وأتردد علي الكنيسة حتي الثانية عشر من عمري، وكنت أغني مزامير وتراتيل الكنيسة، ولكن
قلوب مع محمد (193)
ترددي علي الكنيسة بدأ يقل كثيرا أو شعرت بأن وجودي هناك لا يعالج حالة الفراغ الروحي التي أشعر بها، وكانت مشكلة الدين تثير إهتمامي بشكل كبير في ذلك الوقت.
ورغم أني كنت أعرف شيئا قليلا عن الإسلام من خلال ما تذكره وسائل الإعلام، إلا أني لم أكن أعلم أن الإسلام دين توحيدي، بل لم أكن أعلم أن الإسلام تربطه أي علاقة بدين ابراهيم أو غيره من الاديان.. لكني بدأت ألتفت إلى الإسلام بقوة عندما علمت أن أحد علماء الإسلام في سويسرا وصف الإسلام بانه نقطه تلاقي بين الله كما هو وبين الانسان كما هو.
بعدها بدأت رحلة البحث والدراسة والتفكير، وبدأ يتكشف أمامي الكثير من تعاليم الدين الإسلامي، وكانت كل مشكلتي تتمثل في عدم وجود من يشجعني علي دخول الإسلام، خاصة وأن المجتمع الغربي ككل يتخذ موقفاً معادياً للإسلام.
ولكني لم أتراجع عن الإسلام.. لقد وجدت في الإسلام التوازن الذي كنت أنشده، وهو الذي هداني إلى الغاية الحقيقية من الحياة، وقد وجدت فيه علاجاً وحلاً لمشكلة الروح في هذا الزمان والتي بحثت كثيراً عنها في مختلف الأديان، لكني لم أجد ديناً يعالج هذه القضية بشكل شامل وواسع سوى الإسلام.
لقد أعلنت إسلامي رغم علمي بالصعوبات التي سوف تواجهني.. وسميت نفسي عبد الصمد.
قلت: ما هي الصعوبات التي واجهتك بعد إسلامك؟
قال: عندما أعلنت إسلامي لم ألق معارضة من قبل أصدقائي، ولكن بمرور الوقت اكتشفت أنني فقدتهم جميعاً، أما بالنسبة لعائلتي، فقد أخفيت إسلامي عنهم طويلا، وعندما اكتشفوا ذلك توترت علاقتي بهم، واصيبوا بحالة من خيبة الأمل والحزن، ولمدة عام كامل، وهم يتعاملون معي بحساسية شديدة.
ورغم أن موقفهم من إسلامي كان يعذبني إلا أنني اقتديت بالصحابي الجليل مصعب بن
قلوب مع محمد (194)
عمير الذي فضل الإيمان علي أمه والتي كان باراً بها..
لكن بمرور الوقت تحسنت علاقتي بالأسرة، ولكنهم ما يزالوا حتي اليوم يحرصون علي إخفاء نبأ إسلامي، ويعتبرون ذلك فضيحة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (أحمد نسيم سوسه)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا باحث مهندس من العراق، وهو عضو في المجمع العلمي العراقي، وواحد من أبرز المختصين بتاريخ الري في العراق، كان يهوديًا فاعتنق الإسلام متأثرًا بالقرآن الكريم، وقد توفي قبل سنوات تاركا الكثير من الدراسات في مختلف المجالات، وخاصة في تاريخ الريّ، وقد فنّد في عدد منها ادعاءات الصهيونية العالمية من الناحية التاريخية، ومن مؤلفاته الشهيرة (مفصل العرب واليهود في التاريخ)، و(في طريقي إلى الإسلام) الذي تحدث فيه عن سيرة حياته.
وقد تشرفت بالالتقاء به، فحدثني عن رحلته إلى الإسلام، وعن إعجابه الشديد بالإسلام، وسأنقل لك من كلامه ما تستطيع أن تكتشف به سر انجذابه إلى الإسلام، فمن أقواله:
(يرجع ميلي إلى الإسلام.. حينما شرعت في مطالعة القرآن الكريم للمرة الأولى.. فولعت به ولعًا شديدًا.. وكنت أطرب لتلاوة آياته) (1)
(الواقع أن تحوير وتبديل مصاحف اليهود أثر أجمع عليه العلماء في عصرنا الحالي نتيجة الدرس والتنقيب وقد جاء ذلك تأييدًا علميًا للأقوال الربانية التي أوحيت قبل نيف وثلاثة عشر قرنًا على لسان النبي العربي الكريم. أما الفرقان المجيد.. فقد حافظ المسلمون عليه بحرص شديد وأمانة صادقة فهو حقًا الكتاب المقدس الفريد الذي أجمع الكل على سلامته وطهارته من التلاعب والتحوير، وما على القارئ إلا أن يطالع ما كتبه المستشرقون في هذا الباب.. الذين
__________
(1) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 51.
قلوب مع محمد (195)
وصفوا كيفية جمعه وتدوينه، وهؤلاء أجانب غرباء كثيرًا ما يصوّبون أسهمهم الناقدة السامة نحو الإسلام. والواقع أن الدلائل التاريخية واضحة بأجلى وضوح مما لا يترك أي شك في أن الفرقان الكريم لم يطرأ عليه أي تحريف أو تحوير وقد جاء كلام الله بكامله على لسان نبيه دون أن يتغير فيه حرف واحد) (1)
(ورد في القرآن أنه جاء مهيمنًا على ما بين يديه من الكتاب، ويستدل من ذلك أن التعاليم الإلهية المقدسة الأصلية قد ضمن القرآن المحافظة عليها بما أوضحه من الحقيقة بإظهار الصحيح والدخيل في الكتب الرائجة في زمان نزوله، وعليه فيكون بهذا البيان والإيضاح قد جاء خير مهيمن على كتب الله الحقيقية وخير حافظ إياها من التلاعب) (2)
(الواقع أنه يتعذر على المرء الذي لم يتقن اللغة العربية ولم يضطلع بآدابها أن يدرك مكانة هذا الفرقان الإلهي وسموه وما يتضمنه من المعجزات المبهرة، ولما كان القرآن الكريم قد تناول كل أنواع التفكير والتشريع فقد يكون من العسير على إنسان واحد أن يحكم في هذه المواضع كلها. وهل من مناص للمرء من الانجذاب إلى معجزة القرآن بعد تمعنه في أميّة نبي الإسلام ووقوفه على أسرار حياة الرسول.. فقد جعل الله تعالى معجزة القرآن وأمّيّة محمد برهانًا على صدق النبوة وصحة انتساب القرآن له) (3)
(إن معجزة القرآن الكريم هي أكثر بروزًا في عصرنا الحالي، عصر النور والعلم، مما كانت عليه في الأزمنة التي سادها الجهل والخمول) (4)
(يستحسن بأتباع موسى وعيسى عليهما السلام أن يراجعوا التاريخ الإسلامي ليقفوا على ما يأمر به الإسلام بشأن الرفق بالأطفال والنساء والشيوخ وغير المقاتلين بصورة عامة. ويثبت لنا
__________
(1) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 86.
(2) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 87.
(3) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 182 – 183.
(4) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 185.
قلوب مع محمد (196)
التاريخ عدا ذلك أن المسلمين ساروا وفق شريعتهم القاضية بوجوب عدم مس الأطفال والنساء والشيوخ بكل أمانة وحرص حتى في الظروف التي كان فيها العدو المقابل يقتل الأطفال والنساء وغير المحاربين من المسلمين) (1)
(وجد اليهود تحت راية الإسلام أمنًا وعدلاً اتقوا به شر الاضطهاد والاعتداء، وقد مضت عليهم قرون عديدة وهم في خير وثراء) (2)
(كان محمد أنموذجًا للحياة الإنسانية بسيرته وصدق إيمانه ورسوخ عقيدته القويمة. بل مثالاً كاملاً للأمانة والاستقامة وإن تضحياته في سبيل بث رسالته الإلهية خير دليل على سموّ ذاته ونبل مقصده وعظمة شخصيته وقدسية نبوته) (3)
(إن التاريخ ينبئنا أن محمدًا ضحى بكل شيء من أجل رسالته إذ أتيحت له مرات فرصة الاختيار بين أمرين أولهما حياة راحة وهناء وغنى على أن ينبذ دعوته وثانيهما حياة عسر واضطهاد مقرونة بنشر رسالته، وقد فضل الأمر الثاني لأن إيمانه برسالته كان قويًا وكان قد أوحي إليه بأنه قد اختاره ربه لبث هذه الرسالة على الإنسانية جمعاء فكان ما أراد الله له) (4)
(على المرء الذي وقف على حقيقة الإسلام أن يعترف بأن الإسلام هو في الحقيقة دين الحرية والفطرة بعيدًا عن قيود الكنيسة واستبدادها في المسيحية وغريبًا عن العصبية وتقاليدها الثقيلة في اليهودية) (5)
__________
(1) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 94.
(2) في طريقي إلى الإسلام: 1/ 130.
(3) في طريقي إلى الإسلام:1/ 174 – 175.
(4) في طريقي إلى الإسلام:2/ 130.
(5) في طريقي إلى الإسلام:1/ 52.
قلوب مع محمد (197)
فتحت دفتر الغريب على فصله السادس، فوجدت عنوانه (الأولياء)، فقلت: من تقصد بالأولياء؟
قال: أولئك الذين فتحت لهم أبواب السماء، وانكشفت لهم الحجب، واتسع لهم من الحقائق ما ضاق على غيرهم، ورأوا من ملكوت الله ما راحوا يبشرون به عباد الله.
قلت: فما علاقة هؤلاء بشمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: هؤلاء هم المستقبل الأعظم لأشعة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا فإنهم أقرب الخلق إليه، وأعرف الخلق به، وأكثر الخلق أدبا معه.
قلت: بم استفادوا ذلك القرب، وذلك الأدب؟
قال: بالسير على قدمه.. فمن سار على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن وحد وجهته إليه ظفر بالأنوار التي لا ينعم بها إلا المخلصون المخلّصون من شوائب الأنا.
قلت: لا أرى أسماء في هذا الفصل.. بل أرى كلمات.
قال: الأولياء كلمات وليسوا أسماء.. وحقائق وليسوا حروفا.
قلت: لم أفهم..
قال: الولي الذي يعيش الحقائق تتبناه الحقائق، وتصبح هي المعبرة عنه، فالولي الحيي يعبر عنه الحياء.. والولي المحب يعبر عنه الحب.. والولي المتوكل يعبر عنه التوكل.. وهكذا.
قلت: أعلم بعض هذا.. فقد ذكروا لطريق الله معارج ومقامات ومنازل.. ولكل حظه منها.
قال: الأولياء هم الذين ظفروا بكل ذلك.. ولهذا كانت الكلمات هي المعبر عنهم لا الأسماء.
قلت: أرى كلمات كثيرة.
قال: سأكتفي لك في هذا المقام بأربعة منها.. فإني أرى الجدل في عصرنا شديدا.. ولن أذكر
قلوب مع محمد (198)
لك إلا ما يطيقون.
قلت: فما الكلمة الأولى؟
قال: الكلمة التي توله القلوب، وتملؤها بالأشواق اللذيذة التي لا تعرف الحزن.
قلت: تقصد محبة الله والشوق إليه!؟
قال: وأقصد محبة رسوله والشوق إليه.. فيستحيل على من أحب الله أن لا يحب رسوله.
قلت: فكيف بدا لك أن تسجل هذه الكلمة؟
قال: لذلك قصة.. كنت في بلاد من بلاد الله.. وكنت مشتت الفؤاد ممتلئا بالأكدار إلى أن سمعت غناء عذبا من أحد البيوت يردد قول محمد إقبال:
قد كان هذا الكون قبل وجودنا... روضاوأرزهارا بغير شميم...
والورد فى الأكمام مجهول الشذى... لا يرتجى ورد بغير نسيم...
بل كانت الأيامُ قبل وجودنا... ليلا لظالمها وللمظلوم...
لما أطل محمدٌ زكت الرُبا... واخضر في البستان كُلُ هشيم...
و أذاعت الفردوس مكنون الشذى... فإذا الورى في نضرة ونعيم
فاقتربت من الباب، فوجدته مفتوحا، فدخلت من غير استئذان، فلم أجد نفسي إلا في حلقة كهالة الشمس تمتلئ بالأنوار.. كانوا سبعة نفر، وكان كل فرد منهم شمسا لا تختلف عن الشمس.
لم يروني وأنا أدخل، ولم يسمعوني وأنا أسلم، بل ظلوا على حالهم غارقين في تأملاتهم، فجأة نطق أحدهم يقول:
عبد بنار الشوق فيك معذب... لكنه أبدا له يستعذب...
جودوا بوصل منكم وبعطفة... تشفي سقاما لا أراه يذهب...
لي فيكم عشق وفرط صبابة... وفؤادي منكم فيه نار تلهب
يا سعد من خصصتموه بودكم... وبمذهب لكم غدا يتمذهب...
ولقد نأيت عن المنى بخطيئتي... وحاشاكم أن تطردوا من يذنب...
فتمام قصدي من ندائكم نفحة... تجلوا الصدا عني كي لا أحجب
التفت إليه، وقلت: أي محبوب هذا الذي ملأ عليك كيانك، فرحت تصرح في الوقت الذي يكتم المحبون فيه حبهم؟
لم يلتفت إلي، ولم يجبني، بل نطق ثانيهم، وقال:
من مثل أحمد في الكونين نهواه... بدر جميع الورى في حسنه تاهوا...
من مثله وإله العرش شرفه... في الخلق والخلق إن الله أعطاه...
الشمس تخجل من أنوار طلعته... حارت عقول الورى في وصفه معناه...
تبارك الله ما أحلى شمائله... حاز الجمال فما أبهى محياه...
يا ربع وادي النقا يا أهل كاظمة... في حيكم قمر في القلب مأواه...
صلى عليه إله العرش ما طلعت... شمس وما حدا الحادي مطاياه
قلت: أنتم تتغنون بحب محمد إذن.. لا بحب ليلى ولبنى!؟
قال ثالثهم:
إذا مدح الشعراء أرباب عصرهم... مدحت الذي من نوره الكون أبهج...
وإذا ذكروا ليلى ولبنى فإنني... بذكر الحبيب الطيّب الذكر ألهج...
أما ومحل الهدي تدمي نحورها... ومن ضمّه البيت العتيق المدجج...
لقد شاقني زوّار قبر محمد... فشوقي مع الزوّار يسري ويدلج...
تظلّ الهوادي بالهوادج ترتمي... وما لي في ركب المحبّين هودج...
وتمسي بروق الأبرقين ضواحكا... فتغري غرامي بالبكا وتهيّج
وأرتاح من أرواح أطيب طيبة... إذا المسك في أرجائها يتأرّج...
بلاد بها جبريل يسحب ريشه... وينزل من جوّ السماء ويعرج...
نبي تغار الشمس من نور وجهه... بهيّ نقيّ الثغر أحور أدعج...
تزيد به الأيام حسنا ويزدهي... به الدين والدنيا به تتبرّج...
مكارم أخلاق وحسن شمائل... وشيمة جود بحره متموّج...
غياث لملهوف وغوث لرائد... وليث إذا صال الكمي المدجج
قلت: بالله عليكم إلا حدثتموني كما يحدث الناس بعضهم، فإني غريب في هذا البلاد، ولا أفهم من الشعر ما أفهمه من النثر، فانثروا نثر الله عنكم الآلام والأحزان.
قال أحدهم: إن أردت أن ينثر الله عنك الهموم والأحزان، فتعلق بحبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يحزن من حل بساحته، ولا يعطش من شرب من يده.
قلت: فبأي حبل أتعلق؟
قالوا جميعا: بحبل الحب.
قلت: وما حبل الحب؟
قال أحدهم: ليس هناك حبل في الدنيا غير حبل الحب.
قلت: أنا لم أسأل عن غير حبال الحب، ولكني سألت عن حقيقة هذا الحبل، وعن مدى جدواه.
قال أحدهم: حب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يربطك بمنبع النور والجمال.
قلت: وحب الله؟
قال: لا يكمل حب الله حتى تمتلئ النفس بحب المعرف بالله والدال عليه والهادي إليه والمعرف بمراضيه.
قلت: من هذا الذي اكتمل له هذا؟
قلوب مع محمد (199)
قال: لم يكتمل هذا في أحد كما اكتمل في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبه عرفنا الله، وبه عبدناه، وبه أشرقت شموس الحقائق على هذا الكون، وبه انبلجت أنوار الحكم على العقل البشري.
قال آخر: هو الخلاصة التي اجتمعت فيها جميع الخيرات، والشمس التي صدرت منها جميع الأشعة، والبذرة التي أنبتت شجرة الجمال في الكون.
قال آخر: كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي اصفى خلاصته (1).
قال آخر: إن جمال الكائنات وحياتها ونورانيتها التي يعيش المؤمن في أكنافها لم تكن لتتحقق لولا رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمعاني الجميلة التي تحملها.
قال آخر: إن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة (2).
قال آخر: لنتصور الأرض والكون والبشر لولا التعاليم التي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولنتأمل قيمة الحياة لو خلت من الحياة التي بثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النافذة التي نتطلع بها إلى الحقائق، وهو العين التي نبصر بها
__________
(1) هذا القول لبديع الزمان النورسي في بيان حقيقة الجمال المحمدي.
(2) هذا القول لبديع الزمان النورسي..
قلوب مع محمد (200)
أسرار الكون والحياة، وقد قال بعض السلف: (رأيت الجنة والنار حقيقة)، فقيل له: (وكيف رأيتهما وأنت في الدنيا؟)، فقال: (رآهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأيتهما بعينيه، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آثر عندي من رؤيتهما بعيني، فإن بصري قد يزيغ عند رؤيتهما أو يطغى، أما بصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فما زاغ وما طغى)
قلت: إنكم تذكرون أوصافا كثيرة يعتبرها بعض قومهم من المبالغات في حق نبيكم.
قال أحدهم: لو ظللنا طول دهرنا نصف أفضال نبينا علينا ما انتهينا.
قال آخر: كيف يقولون هذا.. ونحن لم نخرج عن قوله تعالى في وصفه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:45 ـ 46)، وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:157)، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158)
قال آخر: إن تعمقك في معاني هذه الكلمات يهديك إلى بحور من العلم بحقيقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يطيقها الجامدون.
قلت: لم أفهم.
قال: لقد وصف القرآن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة للعالمين، واعتبره مبشرا ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجل قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم
قلوب مع محمد (201)
من العماية، وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي.
قال آخر: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها قليل منقطع، فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل.
قلت: وعيت هذا.. ولكن الحريصين على صفاء التوحيد من قومكم يخافون على التوحيد في أقل من هذا.
قال أحدهم: فخاطبهم بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)
قلت: فما في هذه الآية؟
قال: هذه الآية الكريمة جمعت أصناف ما يحبه الناس ويؤثرونه وتتوجه به حياتهم على أساسه، ووضعته في كفة ووضعت حب الله ورسوله في كفة أخرى، ثم أنذرت من قدم أهواءه ومحابه على الله، واعتبرته من الفاسقين.
قال آخر: أما من خالف ذلك وقدم الله ورسوله على من سواه، فقد أثنى الله عليه بقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22)
قلوب مع محمد (202)
ففي الآية الكريمة من أصناف الثواب والجزاء لمن ضحى بكل محبة وهوى أمام محبة الله ورسوله ما يقصر عنه الوصف.
قلت: هم يذكرون السنة أكثر من ذكرهم للكتاب.
قال: فاذكر لهم منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (1)، فقد جمع صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أصناف المحبة، وأمر بتقديم محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها.
قال آخر: وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن حلاوة الإيمان لا تتحقق إلا لمن قدم محبة الله ورسوله على من سواهما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار) (2)
قال آخر: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وكله حديث عن الحب، وإخبار بأن الحب وما ينتج عنه من مشاعر هو أعمق أعماق الإسلام.
قلت: ابتعدوا عن النصوص.. وحدثوا عقلي ببراهين العقول (3).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) حاول العلماء ـ كما فعلوا مع محبة الله ـ أن يبحثوا في الأسباب الدافعة لحب رسول الله (، وهي كما نرى لا يمكن حدها بأسباب معينة، فكل شخص دوافعه الخاصة، والتي تختلف باختلاف درجة حبه لرسول الله (ودرجة قربه منه ودرجة تعرفه عليه ودرجة ترقيه في مقامات الإيمان.
وأقل هذه الدرجات ما يبالغ فيه البعض من وصف الصورة الخلقية لرسول الله (في مدحه والثناء عليه بذلك والمبالغة فيه إلى درجة لا نرى أن رسول الله (يرضى عنها.
فرسول الله (مع ما أوتي من حسن الخلقة، والذي ذكره واصفوه، وأثنوا عليه به ليس هو الأصل الدافع للحب، فالحب المؤسس على الجسد قد يليق بالغواني ولا يليق برسول الله (.
فالترغيب الحقيقي في رسول الله (لا يكون بذكر صورته وشكله، وإنما بذكر خلقه وكمالاته، ومع ذلك لا نرى مانعا من ذكر صورته الخلقية لتكون مكملا لصورته الحقيقية لا أصلا لها.
وانطلاقا من هذا نرى بعض التشويه في شخص رسول الله (، والذي يمارسه البعض باسم إحياء السنة، فيتصور أن السنة هي طول اللحية وقصر القميص مع تجهم الوجه والتشدد في محله وغير محله.
وعلاج هذه الظاهرة بالوصف الشامل لرسول الله (، انطلاقا من قربه من ربه، وانتهاء بعلاقته التي شملت كل ما يمكن أن يؤسسه الإنسان من علاقات.
وهذا الوصف وحده ـ والذي يعتمد القرآن الكريم والسنة الصحيحة ـ كاف وحده لملأ القلوب بمحبة رسول الله (، والتفاني في حبه.
وبمثل هذه المبالغة في وصف الهيئة الشكلية لرسول الله (نرى في المقابل بعض المبالغة في وصف مقاماته (الروحية وقربه من ربه وعلاقته بالخلق، حتى تحول رسول الله (بذلك إلى سر غامض، وتحولت رسالته إلى مجموعة ألغاز لا يفهمها إلا خاصة الخاصة، وكأن رسالة رسول الله (العامة الشاملة خاصة بهذه الثلة القليلة التي تفردت بالتعمق في حقيقتها.
وإلى هذين المعنيين، وإلى هذين الفريقين أشار (بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبدالله ورسوله)
وهذا نهي صريح منه (عن وصفه بما ليس في من الصفات التماسا لمدحه، كما وصفت النصارى عيسى - عليه السلام - بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا.
وبدخل فيه أيضا وصفه ببعض ما هو فيه مما ينتج خللا في التعرف عليه (، كمن يقتصر على وصف خلقته الجسدية، أو مقاماته الروحية، أو حياته في بيته، أو حياته مع صحابته، أو غزواته.
ولهذا استغل المستشرقون ما ورد في غزواته (لتصويره بصورة المحارب الذي لا يهدأ، والذي لا يكون له الوقت الكافي للتوجيه والتربية.
بل وقع في ذلك بعض المسلمين حين تصور الدين سيفا مرفوعا على كل هامة، وتصور الدعوة إلى الله وفتح القلوب على دينه حروبا وغزوات لا تنتهي.
وقد غفل هؤلاء عن الأوصاف التي وصف بها رسول الله (في القرآن الكريم، أو التي تناقلها أهل الكتاب في كتبهم، وكلها ترجع إلى الرحمة واللطف وحسن المعاملة مع جميع الخلق.
فهذه هي أوصاف رسول الله (في القرآن الكريم، قال الله - عز وجل -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
قلوب مع محمد (203)
قال أحدهم: فاسمع ما يقول ابن حجر..
قلت: فما قال؟
قال: لقد قال: (إن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها
قلوب مع محمد (204)
سالمة من الافات، وهذا هو حقيقة المطلوب وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفه حالا ومالا فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته اوفر من غيره لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه) (1)
قلت: عرفت دلالة العقل على هذا الحب.. فما ثمراته؟
قال أحدهم: هذا الحب هو المحرك لكل خير، الداافع لكل كمال.
قال آخر: ولهذا كان الاتباع الحقيقي لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الاتباع الصادر عن المحبة.
قال آخر: ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأنس بن مالك: (يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل)، ثم قال له: (يا بُنَيَّ وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن علامة حبه له صلى الله عليه وآله وسلم إحياء سنته. فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله.
قال آخر: ويدل على هذا كذلك كل الأحاديث التي تبين مواصفات القريب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي في مجموعها تدل على الخصال الكبرى التي كان يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأخلاق الفاضلة التي مدحه بها ربه، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)
قال آخر: الخلق العظيم هو السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي أخبر بالأجر الجزيل لمن أحياها، ودليل ذلك الأحاديث التي تبين موصافات القريب منه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الصحيح الصريح: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون
__________
(1) فتح الباري: 1/ 60.
قلوب مع محمد (205)
والمتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال المتكبرون)
قال آخر: وفي أحاديث أخرى يجعل القريب منه هو القريب من المستضعفين من الناس، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم ترغيبا في الاهتمام بتربية البنات: (من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في كفالة الأيتام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني السبابة والوسطى)
قال آخر: وفي حديث آخر يذكر فضل المرأة التي تحبس نفسها على أيتامها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا)
قلت: أرى قوما يقصرون المحبة على ما يتصورونه إحياء السنة.
قال أحدهم: علامة إحياء السنة الحقيقي هو أن يعيش حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيمها ومبادئها وسموها، وهو يستحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حركة من حركاته، حتى كأنه يشاهده عيانا، وبذلك يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو دليله الأعظم على الله، وعلى الأدب مع الله.
قال آخر: وهذا ما كان يعيشه الربانيون ويستشعرونه، وهو المراد من إخبارهم عن اجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني: (سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لا يكمل عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي وقت شاء)
قال آخر: لقد ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي ذلك ثم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتمعت به نيفا وسبعين مرة)
قال آخر: ويذكر عن الشيخ إبراهيم المتبولي أنه كان لا يحصى اجتماعه به صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يراه في أحواله كلها ويقول: (ليس لي شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)
قال آخر: ويذكر عن الشيخ أبي العباس المرسي أنه كان يقول: (لو احتجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ما عددت نفسي من جملة المؤمنين)
قلوب مع محمد (206)
قلت: كيف هذا؟
قال أحدهم: هذا الاجتماع ـ الذي لا ينكره إلا معاند ـ دليل على الحب المتغلغل في الصدر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن عين القلب والروح لا ترى إلا ما تحبه، وقد كان خيال ليلى يرتسم في عين قلب المجنون في كل محل.
لم أجد ما أقول، فراح أحدهم ينشد بصوت عذب قصيدة البرعي التي يقول فيها:
هم الأحبة إن جارواوإن عدلوا... فليس لي معدِلٌ عنهموإن عدلوا...
هم الأحبة إن جارواوإن عدلوا... والمالكون لقلبي كيفما فعلوا...
فليعلموا أن ودي ما يغيرهم... تغير من سجاياهم ولا ملل...
و كل شيء سواهم لي به بدلٌ... عنهموما لي بهم من غيرهم بدلُ...
إني وإن فتتوا في حبهم كبدي... باقِ على وُدِّهم راضِ بما فعلوا...
شربت كأس الهوى العذري من ظمأٍ... ولذّ لي في الغرام العلُّوالنهلُ...
فليت شعري والدنيا مفرقةُ... بين الرفاق وأيام الورى دُوَلُ...
هل ترجع الدارُ بعد البعدِ آنسةً... وهل تعودُ لنا أيامُنا الأوَلُ...
يا ظاعنين بقلبي أين ما ظعنوا... ونازلين بقلبي أين ما نزلوا...
ترفّقوا بفؤادي في هَوَادِجِكم... راحت به يوم راحت بالهوى الإبلُ...
فوالذي حَجّتِ الزوارُ كعبتَه... ومن ألمَّ بها يدعوويبتهلُ...
لقد جرى حُبُّكم مجرى دمي فدمي... بعد التفرقِ في أطلالكم طَلَلُ...
لم أنس ليلة فارقت الفريق وقد... عانوا الحبيب عن التوديع وأرتحلوا...
لما تراءت لهم نار بذي سلم... ساروا فمنقطعٌ عنها ومتصلُ...
لا درَّ درُّ المطايا أينما ذهبت... إن لم تُنخ حيث لا تثنى لها العُقلُ
في روضة من رياض الجنة ابتهجت... حسنا وطاب بها للنازل النزل...
حيث النبوة مضروبٌ سرادقها... وطالع النور في الآفاق يشتمل...
وحيث من شرّف اللهُ الوجودَ به... فأستغرق الفضلَ فرداً ما له مثلُ...
محمد سيد السادات من مضرٍ... سرُّ السرارة شمسٌ ماله طَفَل...
شوارد المجد في مغناه عاكفة... وريف رأفته غصنُ الجَنَى الخضِلُ...
تثني عليه المثاني كلما تليت... كما أستنارت به الأقطار والسُّبلُ...
بحرٌ طوارقه برٌّ ومكرمةُ... بدرٌ على فَلَك العلياء مكتملُ...
ما زال بالنور من صلب إلى رحمٍ... من عهد آدم في الساداتِ ينتقلُ...
حتى انتهى في الذُّرى من هاشمٍ وسَمَا... فتىً وطفلاً، توفِّي وهو مكتهلُ...
فكان في الكون لا شكلٌ يُقاسُ به... ولا على مثله الأقطار تشتملُ...
به الحنيفةُ مُرساةٌ قواعدُها... فوق النجوم ونهج الحق معتدلُ...
ومنه ظلُّ لواء الحمد يشملنا... إذا العصاةُ عليهم من لظى ظُلَلُ...
وإنه الحكم العدل الذي نُسِخت... بدين مِلّتِه الأديان والمِللُ...
يا خير من دفنت في الترب أعظمه... فطاب من طيبهن السَّهلُ والجبلُ...
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه... فيه الهدى والندى والعلم والعملُ...
أنت الحبيب الذي نرجو عواطفه... عند الصراط إذا ما ضاقت الحيلُ...
نرجو شفاعتك العظمى لمُذنبِنا... بِجَاهِ وَجْهِك عنا تغفَرُ الزّلَلُ...
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي... في كل حادثة مالي بها قِبَلُ...
قالوا نزيلك لا يؤذي وها أنا ذا... دمي وعرضي مباحٌ والحِمى هَمَلُ...
وذا المسمى بك أشتد البلاء به... فارحم مدامعه في الخدِّ تنهملُ
وحُلَّ عقدة هَمٍّ عنه ما برحت... واشرح به صدر أمٍّ قلبُها وَجِلُ...
وَصِلْ بمرحمةٍ عبدالرحيم وَمن... يليه لا خاب فيهِ الظنُ والأملُ...
صلى وسلم ربي دائماً أبدا... عليك يا خير من يَحْفَى وينتعلُ...
والآل والصحب ما غنَّت مطوقةٌ... وما تعاقبت الأبكارُ والأُصُلُ
وأنشد آخر يقول:
لطيبة عرج إن بين قبابها... حبيب لادواء القلوب طبيب...
إذا لم تطب في طيبة عند طيب... به طابت الدنيا فأين تطيب؟
تركتهم على تلك الحال، وانصرفت، لأسجل هذه الكلمة في هذا المحل.
قلت: ألا تعرف أسماءهم؟
قال: لو عرفتها لسجلتها، ولكني كلما قلبت هذا الدفتر على هذا المحل رأيتهم وسمعتهم كعهدي بهم أول مرة.
قلت: حدثتني عن الكلمة الأولى، فحدثني عن الثانية.
قال: الكلمة الثانية هي التعظيم.. انظر في الدفتر إنها تلي كلمة الحب مباشرة.
قلت: لم كانت كذلك؟
قال: لأنه لا يعظم في عين الحبيب إلا محبوبه.
قلت: فهل تروي قصة عن هذه الكلمة؟
قال: أروي في ذلك قصصا، لكني سأقتصر لك على واحدة منها.
قلت: فحدثني عنها.
قال: في بلد من بلاد الله رأيت رجلا عليه سيما الوقار، وعلى جبينه نور يملأ النفس هيبة وجمالا، وكان في طريقة يسير كما يسير سائر الناس، ولكنه فجأة انحنى على ورقة مرمية على
قلوب مع محمد (207)
الأرض، فمسح عنها الأذى، ثم قبلها، ثم وضعها على جيبه، فحدثت نفسي بأن أتبعه لأرى سر تلك الورقة.
في طريقي خلفه رأيته يدخل حانوت عطار، ويشتري بعض المسك، ثم يخرج تلك الورقة، ويعطرها بذلك المسك، فلم أجد نفسي إلا بجانبه، ولم أجد لساني إلا وهو يقول له: ما شأن هذه الورقة التي لقيت منك كل هذا التعظيم.
لم يحتج إلى وقت يفكر فيه، بل أجاب مباشرة: هذه ورقة فيها اسم لحبيب غال، واسم الحبيب لا ينبغي أن يهان.. بل ينبغي أن يعظم ويقدس، ويعطر بكل مسك.
قلت: من حبيبك هذا الذي ملأته تعظيما ورفعة.
فأجابني على الفور: محمد..
قلت: تقصد نبي المسلمين؟
قال: أجل.. وهل هناك من حمدته السماء والأرض غيره، فصار محمود الكل.
قلت: لقد ذكرتني بقول الشاعر:
المصطفى ما زال يعلو قدرَهُ... حتَّى غدا فى الكون مِسكاً عاطِراَ
ما قلت هذا حتى شعرت بجميع أعضائه ترتعد هيبة، ثم راح يقول بصوت امتزج فيه الحب بالتعظيم بالأشواق:
(المصطفى ما زال يعلو قدرَهُ)... فسما الزمانَ اوائلا وأواخِرا...
طهِّّر فؤادك من شوائب غيِّّه... حتّى تقابلهُ فؤاداً طاهراً...
يا سيدى ولقد غدوتٌ مناجياً... عمرى وبتُّ مع الجلال مسامرا...
كم من صغير جاء حيَّك تائبا... أضحى يسودُ من الرِّجال أكابرا...
والله ما طرأَ العناءُ وسامنى... الا وأذكُرُهُ فأُصبِحُ ظافراَ...
فاذا نهَلتُ نهَلتُ من نور الهدى... واذا سكِرتُ سكرتُ عِلماً ذاخراَ
واذا غفوتُ غفوتُ صباً مُغرماً... واذا افَقتُ رَأيتَهُ لىَ ناظِراَ...
واذا خشيتُ من العدوِّ وكيده... كان النبىُّ هو الملاذَ الناصِراَ...
عوَّدتنا منكَ الجميلَ فهب لنا... منك الوصولَ ولا تردَ الزائراَ...
أَنا ان أكُن جِسما بعيداً انِّما... رُوحى من النجوى تفيضُ سرائِراَ...
أَرسلتُها بِفَمِ النسيمِ شهِيدةً... وتَزِِفُّ باِسمِكُمُ السَّلامَ العاطراَ...
فلكم فقيرٍ عزَّ باَسمكَ جاهُهُ... أمسى يُساجِلُ فى الملوكِ القياصِراَ...
ولَكَم ذليلً نَالَهُ من جاهِكُم... قَدرٌ فأصبحَ بالمذلَّةِ قاهِراَ...
وَلَكم عَيِىٍّ قَد نظرتَ لِروُحِهِ... فَرَوَى المعارِفَ ناثِراً أو شاعِراَ...
قَولِى هُو الحَقُّ الصرَّيحُ فَلَم أَكُن... أرجو بِمَدحِك أن أسُودَ مَظَاهِراَ...
لم أَنسَ حُبَّكَ ما حَييتُ وان أَمُت... اَجِدُ الغرامَ علىَّ مُدَّ منابِراَ...
ان كنتُ صبَّاً اكتُمُ الوُِجدَان فى... قَلبِى يَظُنّوُنِى بِحٌبِكَ فاتِراَ...
أنا هائمٌ ومِن المحبةِ هائجٌ... كالرِّيحِ قَد أزجى السَّحابَ الماطِراَ...
فَأَصُبُُّ فى الاحساس مِن مُهَجِ الوَرَى... حِكَمَاً تُقَلِّبُهَا القُلُوُبُ مَزَاهِراَ...
يا هَذِهِ ألايَّامَ انِّى ليس لِى... الا رسُولُ اللهَِ سِرّاً ظَاهِرا...
أنا كُلُّ شئٍ فى الحياةِ تركتُهُ... وَوَقَفتُ نَفسِى للنَّبِىِّ مُثابِراَ...
والوقفُ لا يُشرَى وليسَ يُباعُ فى... حالٍ يدومُ الى القيامةِ حاضراَ...
أَنا بِاسمِكُم والى اسمِكُم وَلِوَسمِكُم... فى رَسمِكُم قَلبِى عَلَى الشِّعرى سَرَى...
لم أنسَ أيَّامَ الطُّفُولَةِ حَيثُما... كُنتَ المُؤمَّلَ لِى كُنتُ الظافِرَا...
مَا زالَ حُبُّكَ باقياً فى مُهجتى... يُضفى علىَّ من اليقينِ سرائراَ...
ولقد غسلتُ بواطِنى وظواهِرى... فى حُبِهِ حتى نُسِبتُ الطَّاهِرا
نُورُ النَّبىِّ اذا تمكن من فتىً... لم يُبقِ فِيهِ صغائراً وكبائراَ...
نُورُ النَّبىِّ اذا تمكن من فتىً... ألفيتَه بَينَ البريةِ ظاهِرا...
فاذا رُزِقتُ محبةً فَبِِفََضلِه... واذا كَسَبتُ فٌَقَد كَسَبتُ جواهِرا...
قُل لِى عليكَ صلاتُنا وسَلامُنا... حتّى أعُود على المَحَبَةِ شاكرا...
أرَضَيتَنى كَرَماً وَصَاحَبَنِى الرِّضا... حتّى وصَلتٌ فَلَستُ أسلُكُ حائراَ...
ما زالَ فضلُكَ فى البريَّةِ سائراً... يسمو وَيزكو بالنفوسِ ضمائرا...
وَلَكم أراهُ فى العوالِمِ صاعِدا... حتَّى غدا فى الكون مِسكاً عاطِراَ)
تعجبت من حضور بديهتيه، وانصياع الشعر له، فسألته: من أنت؟
قال: علي عقل.
قلت: ذلك القطب الربانى، صاحب الفيوضات الصمدانية، والعلوم اللدنية ذلك الملهم الذي ينساب الشعر من فمه كما ينساب المال الزلال.
قال: هم يقولون هذا.
قلت: بأي بركة نلت هذا؟
قال: ببركة الحبيب..
قلت: وبأي بركات الحبيب نلت ذلك؟
قال: ببركة التعظيم..
قلت: لا يعظم إلا الله.. فكيف رحت تشرك بالله؟
قال: أرأيت لو أن فنانا مبدعا أراك لوحة من لوحاته في منتهى الجمال، فرحت تهينها وتحتقرها، فإذا سألك عن ذلك قلت له: أنا أهينها حتى لا يبقى عظيما في عيني غيرك.. أترى هذا عين العقل؟
قلت: بل أراه عين الحمق.. ولن أنال من هذا الفنان إلا الازدراء.
قلوب مع محمد (208)
قال: لم؟
قلت: لأني احتقرت صنعته.. ولا يمكن أن أشعره بتعظيمي له إلا من خلال تعظيمي لصنعته.
قال: وهكذا الأمر مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو عصارة الجمال التي أمرنا الله بعبوديته من خلال التأمل فيها وتعظيمها وامتلاء قلوبنا بمحبتها.. فلو أهناها لأهنا الله.
قلت: ولكن الحريصين على صفاء التوحيد يخالفونك في هذا.. ويعتبرون كل هذا شركا.
قال: فاقرأ عليهم قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} (الفتح)
قلت: فما في هذه الآيات؟
قال: في هذه الآيات يأمر الله الأمة بتعظيم محمد، ويربط الفلاح بذلك.
قلت: فما الفرق بين المسلمين والمسيحيين في هذا.. ما دام المسيحيون يعظمون المسيح، والمحمديون يعظمون محمدا.
قال: الفرق بينهما عظيم.. فالمحمديون يعظمون محمدا عبودية لله، وتحقيقا لأمر الله، وفيضا من فيوضات تعظيم الله.. بينما المسيحيون يعظمون المسيح لذات المسيح.. فيجعلون للمسيح شركة في الألوهية.
قلت: وتعظيم المسلمين؟
قال: أرأيت لو أنك أرسلت رسولا برسالة لقوم من الناس، فأهانوا رسولك، واحتقروه مع علمهم بأنه رسولك؟
قلت: هم يحتقرونني بذلك ويهينونني.
قلوب مع محمد (209)
قال: فلذلك ربط الله تعالى طاعته بطاعة رسوله، وتعظيمه بتعظيم رسوله، ومحبته بمحبة رسوله.
لقد قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80)
قلت: فرق عظيم بين الطاعة والتعظيم.
قال: فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (النور)
قلت: فما في هذه الآية مما نحن فيه؟
قال: فيها كل ما نحن فيه.. فالله تعالى في هذه الآيات يأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم التعامل معه كما يتعامل الناس بعضهم مع بعض.
لقد قال ابن عباس في تفسير الآيات: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل، عن ذلك، إعظامًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله.
وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود (1).
__________
(1) هذا هو المعنى الأول في تفسير قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} (النور: من الآية 63)، والمعنى الثاني: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العَوفي.
وهذا المعنى أيضا من التعظبم، وهو من أقوى الأدلة على جواز التوسل بالنبي (بل استحبابه، باعتبار التوسل نوعا من طلب الدعاء من المتوسل إليه.
قلوب مع محمد (210)
بل إن الله تعالى نهى المؤمنين عن كل سلوك لا ينسجم مع الأدب مع رسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (البقرة: 104).. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} (الحجرات)
بل إن الله تعالى شرع لمناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب التعظيم له تقديم صدقة على ذلك، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المجادلة:12)
قلت: فما الكلمة الثالثة؟
قال: الالتجاء.
قلت: ما تقصد بالالتجاء؟
قال: المحب الشغوف بحبيبه لا يصبر على فراقه، ولهذا تراه يحن إليه كل حين، ويلتجئ إليه في كل مناسبة.
قلت: ذاك قد يصح مع حبيب حي.. ولكنه لن يصح أبدا مع حبيب ميت.
قال: إن المحبوب يموت عند جميع الناس إلا عند من يحب.. فإنه يظل حيا، ولذلك لا حرج عليه أن يلتجئ إليه.
قلت: ولكن الناس يضحكون عليه حينذاك، وقد يرمونه بالجنون.
قال: المحب الصادق يستلذ جنونه في محبوبه.
قلوب مع محمد (211)
قلت: عد بنا إلى هذه الكلمة وعلاقتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وعلاقتها بعد ذلك بالأولياء.
قال: لقد لاحظت من خلال معايشتي لبعض هؤلاء أولياء، أو كتاباتهم، أنهم لا يتعاملون في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا كما يتعامل الأحياء مع الأحياء.
قلت: ألا يعتقدون موته!؟.. فإن كان كذلك، فاقرأ عليهم قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر:30)
قال: قد قرأت عليهم قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169)
قلت: ما علاقة هذا بذاك؟
قال: ألم يخبر الله تعالى عن موت الشهداء؟
قلت: بلى.. فقد قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (آل عمران:157)، وقال تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) (آل عمران:158)
قال: ألا ترى أن الله تعالى الذي أخبر بموتهم هو الذي أخبر بحياتهم؟
قلت: بلى..
قال: فكذلك الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
التفت إلي، وقال: ثم ألا تعجب أن نقول بحياة الشهداء، ثم لا نقول بحياة سيد الشهداء.
قلت: فنلفرض أني وعيت ما ذكرت، فما ينتج عنه؟
قال: ألم تقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)!؟
قلت: بلى.. فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: سأقص عليك قصة تعلق بها أولياء الله، فراحوا يعيشونها.
قلوب مع محمد (212)
قلت: حدثني عنها.
قال: ذكر الحافظ السمعاني عن علي قال: قَدِمَ علينا أعرابي بعدما دفنّا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قُلتَ فسمعنا قولك، ووعيتَ عن الله ما وَعينا عنك، وكان فيما أنزلَ عليك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)، وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: أنه قد غُفر لك (1).
وفي رواية أخرى عن أبي شبل محمد بن النعمان بن شبل الباهلي قال: دخلتُ المدينة فانتهيتُ إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أعرابي يُوضع على بعيره، فأناخه وعَقَله، ثم دخل إلى القبر الشريف، فسلَّم سلامًا حسنًا، ودعا دعاءً جميلاً ثم قال: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّ الله خصّك بوحيه وأنزل عليك كتابًا جمع لك فيه علم الأولين والآخرين، وقال في كتابه وقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)، وقد أتيتك مقرًا بالذنوب، مستشفعًا بك إلى ربك، فهو ما وعد.
ثم التفت إلى القبر، وقال:
يا خير من دفنت بالقاع أعظُمُه... فطاب من طيبهنّ القاعُ والأكمُ...
أنت النبي الذي تُرجى شفاعته... عند الصّراط إذا ما زلّت القدمُ...
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه... فيه العفاف وفيه الجود والكَرَمُ
ثمّ ركب راحلته فما أشكُّ ـ إن شاء الله ـ إلا أنه راحَ بالمغفرة، ولم يُسمَع بأبلغ من هذا قط.
وذكر محمد بن عبد الله العُتبي هذا، وزاد في آخره: فغلبتني عيناي، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم،
__________
(1) ورواها بنحو لفظها: الإمام البيهقي في شعب الإيمان 3/ 495، وانظر: سبل الهدى والرشاد 12/ 380، وفاء الوفا 4/ 1361، وأبو اليمن ابن عساكر في إتحاف الزائر ص 68/ 69، وابن النجار في الدرة الثمينة، ص 224، وابن حجر الهيتمي في تحفة الزوار ص 55.
قلوب مع محمد (213)
فقال لي: (يا عُتبي، الحق الأعرابي وبشّره أنّ الله قد غفر له) (1)
قلت: أحسبني وعيت ما ذكرته من هذا.. فما لازمه؟
قال: لازمه كل ما سمعته من مخاطبات الأولياء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكواهم إليه، فهم لا يشكون لميت.
قلت: إن من قومي من يعتبر ذلك شركا، وقد قال بعضهم (2) عن قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به... سواك عند حلول الحادث العمم
(هذا الشاعر يستغيث بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول له: لا أجد من ألتجئ إليه عند نزول الشدائد العامة إلا أنت، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخلد صاحبه في النار إن لم يتب منه، لقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106)، أي المشركين، لأن الشرك ظلم عظيم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) (3)
ابتسم، وقال: ما أعجب هؤلاء.. وما أسرعهم في اتهام المؤمنين، بل الأولياء من المؤمنين بالكفر والشرك، ألم يسمعوا ما ورد في التحذير من ذلك.
قلت: بلى.. سمعوا.. ولكنهم يعتقدون أن ما يذكرونه هو الحق الذي لا حق غيره.
قال: أفتراهم إذا جثوا بين يدي الطبيب يشكون حالهم إليه مشركون بذلك؟
قلت: لم يقل بهذا أحد من الناس.
قال: فكيف يزعمون إذن بأن من شكى لحبيبه وطبيبه حاله، يكون مشركا.
__________
(1) رواها الإمام النووي في (الإيضاح) ص 454، وابن بشكوال في (القربة إلى رب العالمين بالصلاة على محمد سيد المرسلين () الورقة (16/أ)
(2) انظر: كتاب (معلومات مهمة من الدين) للشيخ محمد جميل زينو ص 160 ـ 166.
(3) رواه البخاري.
قلوب مع محمد (214)
سكت قليلا، ثم قال: الشرك معروف، وهو ما يعتقده قومي حين يعتبرون المسيح إلها أو أقنوما من إله.
قلت: ولكنهم يتصورون مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه شركا، لأنه لا يدعى إلا الله.
قال: ولم أر المسلمين يدعون غير الله عوامهم وخواصهم، فلا أحد منهم يعتقد إلها غير الله..
قلت: وهذا الخطاب الذي يتوجهون به لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنهم يستغيثون به!؟
قال: هم يفعلون ذلك كما يفعل كل البشر مع الأطباء حين يستلقون أمامهم كما يستلقي الميت بين يدي الغسال ينتظرون منهم أن يكونوا واسطة للشفاء الذي ينزله الله، فالله هو الشافي، والطبيب واسطة.
ومثل ذلك محمد.. فالله هو الرحيم الرحمن.. وقد جعل من خلقه وسائط لرحمته.. ومنهم محمد.
قلت: هم يعتبرون ما تقوله شركا.
قال: ألا يؤمن هؤلاء بالشفاعة العظمى؟
قلت: بلى.. هم يؤمنون.. بل إني أراهم يبدعون منكرها.
قال: فهي واسطة من الوسائط ووسيلة من الوسائل.
سكت، فقال: ألم يقرأوا حديث الأعمى؟
قلت: ابن أم مكتوم!؟
قال: لا.. الأعمى الذي حدث حديثه عثمان بن حنيف، حيث ذكر أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ادع الله أن يعافني)، فقال: (إن شئت أخرت ذلك وهو خير، وإن شئت دعوت)، قال: (فادعه) قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن، ثم يصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء، فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي
قلوب مع محمد (215)
في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم شفعه في وشفعني فيه) (1)
قلت: فما الكلمة الرابعة؟
قال: الألم.
قلت: الألم!؟
قال: أجل..
قلت: عهدي بأولياء الله أسعد الخلق حياة، وأهنأهم نفسا، حتى وكأن الجنة عجلت لهم.
قال: لكن بعض الآلام تعتريهم.
قلت: القلب الذي يعرف الله لا يعرف الألم.
قال: هو ألم أشبه بألم يعقوب لفقد يوسف.. فمقام يعقوب العظيم عند الله، ومقام يعقوب العظيم في درجات السلوك إلى الله لم يمنعاه من ذلك الحزن الذي عبر عنه الله تعالى بقوله: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (يوسف:84)
ومقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سلم الولاية لم يمنعه من قوله عندما توفي ابنه إبراهيم: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) (2)
قلت: فما الحزن الذي يعتري الأولياء.. فيشعرهم بالألم.
قال: فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: ألم تخبرني قبل حين أنهم يستشعرون حياته؟
قال: الحياة مراتب.. فقد يكون شخصا حيا، ولكنك تستشعر ألما لبعده عنك.
قلت: ولكن الأولياء كما ذكرت لي لا يغيبون عن رسول الله.. ولا يغيب رسول الله عنهم..
__________
(1) هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(2) رواه البخاري.
قلوب مع محمد (216)
قال: ذلك لقاء الأرواح.. والأولياء يتلهفون إلى لقاء الأشباح..
التفت إلي، وقال: ألم تسمع حديث ثوبان وغيره من الصحابة وشكواهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألم الفراق؟
قلت: بلى..
قال: ولهذا كانت أعظم المصائب التي حلت بالمؤمنين فقدانهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي عزاء المؤمن عن كل مصيبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة، فليذكر مصيبته بي ليعزه ذلك عن مصيبته) (1)
سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى شغف الأولياء بالقبر الشريف.. فهم يعتبرونه أشرف بقعة في الأرض.
قلت: بلى.. وقد أنكر عليهم البعض ذلك.
قال: لا ينبغي أن ينكر عليهم.. فأحب تراب الله لأهل الله التراب الذي ضم رسول الله.. إنه عطرهم الذي يستنشقون أريجه، ودواؤهم الذي يحميهم من العلل ويملؤهم بالصحة.
قلت: فهل لك قصة مع القبر الشريف؟
قال: أجل.. وهي قصة لن أنساها ما حييت.
قلت: كيف أذن لك في دخول الحرم، والحرم لا يدخله إلا مسلم؟
قال: أتحسبني زرتك قبل أن أزور حبيبي صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان أول ما فعلته بعد إسلامي أن زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي الطريق إليه رأيت وليا من أولياء الله يردد:
أتيتُك راجلاً وَوَدِدْتُ أني... مَلَكْتُ سَوَاد عيني أَمْتَطيهِ...
وما لي لا أسِيرُ على المآقي... إلى قبرٍ رسولُ الله فيهِ
فأسرعت إليه، وقلت له: رويدك.. احذر أن يسمعك بعض المتشددين، فيرميك بالشرك.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق: 3/ 564، المعجم الأوسط:4/ 365.
قلوب مع محمد (217)
قال: فليفعلوا بي ما يشاءون.. فأنا لم أخرج عن هدي السلف، ولا عن أدب الخلف.
قلت: ما تقول؟
قال: لقد كان حسان بن ثابت من سلف الأمة، ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال مخاطبا قبره صلى الله عليه وآله وسلم:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد...
وبورك لحد منك ضمن طيبا... عليه بناء من صفيح منضد...
تهيل عليه الترب أيد وأعين... عليه وقد غارت بذلك أسعد...
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة... عشية علوه الثرى لا يوسد...
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد...
يبكون من تبكي السموات يومه... ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد...
وهل عدلت يوما رزية هالك... رزية يوم مات فيه محمد؟
وقد روي عن ابن المنكدر أنه كان يجلس مع أصحابه فكان يصيبه صمات، فكان يقوم كما هو حتى يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه يصيبني خطر، فإذا وجدت ذلك استعنت بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان يأتي موضعا من المسجد يتمرغ فيه، ويضطجع، فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع (1).
قلت: هذا السلف.. فما فعل الخلف؟
قال: لقد ورث السلف حسان وغيره أمة من الصالحين أنتجوا تراثا عريضا من معاني الحب ولدت أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا أحدهم يقول:
قف عند قبر التهامي والثم الجدثا... وانشق عبير الهدى ممن به مكثا...
واجثُ احتراماً بداع الوجد مدّكراً... فجر النبوة وامدح خير من بُعثا...
محمدٌ سيد الأكوان قاطبة... إذ مجده كابراً عن كابر ورثا...
ما أنجب الدهر ذا خلق وذا خلقٍ... في الفضل يشبهه مذ جاءنا حدثا
__________
(1) ابن المنكدر ليس من الصحابة، ولهذا تحمل الرؤية على الرؤية المنامية، أو على رؤى اليقظة التي أجمع عليها الأولياء.
قلوب مع محمد (218)
فتحت دفتر الغريب على فصله السابع، فوجدت عنوانه (الأحبار)، فقلت: أليس الأحبار هم رجال الدين؟
قال: أجل.. هم رجال الدين من اليهود والمسيحيين.. وقد يقصد به غيرهم.
قلت: من الصعب أن يسلم مثل هؤلاء الرجال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: أجل.. فما هم فيه من السلطان والجاه والتعصب يقف حائلا بينهم وبين الإسلام.. ولكن مع ذلك هناك من هؤلاء من تغلب على هواه، وطلق جاهه، وجميع الدنيا العريضة التي أتيحت له، ليتمتع بجمال شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: لقد ذكر الله تعالى هؤلاء، وأثنى عليهم ثناء حسنا في القرآن الكريم، فقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} (المائدة)
وقال فيهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِِ} (آل عمران:199)
وقال فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ
قلوب مع محمد (219)
السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص:52 - 55)
قال: ولهذا تراني اهتممت في هذا الدفتر بالبحث عن هؤلاء.. فهم ـ بالنسبة لنا معشر رجال الدين ـ من أعظم الشهود على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: أراك وضعت أسماء كثيرة من غير عصرنا.. بل هي من عصر النبوة، فكيف التقيت بها؟
قال: لقد التقيت بها في أسانيد الثقاة.. فهذه الجموع الكثيرة التي امتلأت قلوبها تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيا للإسلام يستحيل أن تجتمع على الكذب.
قلت: فهل ترى نبدأ بهؤلاء.. أم نعرج إلى المعاصرين؟
قال: ليس من الأدب أن نتخطى رقاب الصديقين.. فلنبدأ بهؤلاء.
كان من أول الأسماء التي وصعت في هذا الفصل اسم (سلمان الفارسي)، فسألت الغريب عن سر اختياره لسلمان، فقال: سلمان ليس فردا.. بل هو معنى.. ومعنى عظيم يشير إلى الصادقين من رجال الدين.
قلت: ما تعني؟
قال: لقد أمضى سلمان شطرا من عمره ليس له من هم غير البحث عن الحقيقة.. فلذلك صار رمزا للباحث عن الحقيقة.
قلت: صدقت في هذا.. وقد ألف بعضهم رواية بهذا الاسم، وكان موضوعها سلمان.
قال: لقد كان أول سلمان أول من وضع رواية الباحث عن الحقيقة.. أو مذكرات الباحث عن الحقيقة.. فهلم نسمع له..
قلت: وكيف نسمع له، وقد رمم.
قلوب مع محمد (220)
قال: آذان الروح يمكن أن تسمع كل شيء..
ثم التفت إلي، وقال: حاول أن تتخلص من جلباب جسدك.. ولترحل إلى ذلك الزمن الجميل الذي جلس فيه سلمان يحدث عن نفسه.
أصابني نوع من الغيبة اللذيذة، رحت خلالها أسمع الغريب، وهو يحدثني بلسان سلمان، وكأني كنت جالسا في تلك اللحظة مع سلمان نفسه.
قال سلمان: كنت رجلا من أهل فارس من أصبهان، من جي، ابن رجل من دهاقينها، وكان أبي دهقان أرضه، وكنت أحب الخلق إليه، فأجلسني في البيت كالجواري، فاجتهدت في المجوسية ـ فكنت في النار التي توقد فلا تخبو، وكان أبي صاحب ضيعة، وكان له بناء يعالجه في داره،، فقال لي يوما: يا بني، قد شغلني ما ترى فانطلق الى الضيعة، ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعة بهمي بك، فخرجت لذلك، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون، فملت إليهم وأعجبني أمرهم، وقلت: هذا والله خير من ديننا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس، لا أنا أتيت الضيعة، ولا رجعت إليه، فاستبطأني وبعث رسلا في طلبي، وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام.
فرجعت الى والدي، فقال: يا بني، قد بعثت اليك رسلا، فقلت: مررت بقوم يصلون في كنيسة، فأعجبني ما رأيت من أمرهم، وعلمت أن دينهم خير من ديننا.
فقال: يا بني، دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت: كلا والله.
فخافني وقيدني.
فبعثت الى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم، وسألتهم إعلامي من يريد الشام، ففعلوا فألقيت الحديد من رجلي، وخرجت معهم، حتى أتيت الشام، فسألتهم عن عالمهم، فقالوا: الأسقف، فأتيته، فأخبرته، وقلت، أكون معك أخدمك وأصلي معك؟ قال: أقم.
فمكثت مع رجل سوء في دينه، كان يأمرهم بالصدقة، فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه، حتى
قلوب مع محمد (221)
جمع سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فتوفي، فأخبرتهم بخبره، فزبروني، فدللتهم على ماله فصلبوه، ولم يغيبوه ورجموه، وأحلوا مكانه رجلا فاضلا في دينه زهد ورغبة في الاخرة وصلاحا، فألقى الله حبه في قلبي، حتى حضرته الوفاة، فقلت: أوصى، فذكر رجلا بالموصل، وكنا على أمر واحد حتى هلك.
فأتيت الموصل، فلقيت الرجل، فأخبرته بخبري، وأن فلانا أمرني باتيانك، فقال: أقم، فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة، فقلت له: أوصي، قال: ما أعرف أحدا على ما نحن عليه الا رجلا بعمورية.
فأتيته بعمورية، فأخبرته بخبري، فأمرني بالمقام وثاب لي شيئا، واتخذت غنيمة وبقيرات، فحضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، مهاجره بأرض ذات نخل، وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت فتخلص إليه، فتوفي.
فمر بي ركب من العرب، من كلب، فقلت: أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه، وتحملوني الى بلادكم؟ فحملوني الى وادي القري، فباعوني من رجل من اليهود، فرأيت النخل، فعلمت أنه البلد الذي وصف لي، فأقمت عند الذي اشتراني، وقدم عليه رجل من بني قريظة فاشتراني منه، وقدم بي المدينة، فعرفتها بصفتها، فأقمت معه أعمل في نخله، وبعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وغفلت عن ذلك حتى قدم المدينة، فنزل في بني عمرو بن عوف، فاني لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عمر لصاحبي، فقال: أي فلان، قاتل الله بني قيلة، مررت بهم آنفا وهم مجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة، يزعم أنه نبي، فوالذي ما هو الا أن سمعتها، فأخذني القر ورجفت بي النخلة، حتى كدت أن أسقط، ونزلت سريعا، فقلت: ما هذا الخبر؟ فلكمني صاحبي لكمة، وقال: وما أنت وذاك؟ أقبل على شأنك، فأقبلت على عملي حتى أمسيت، فجمعت شيئا فأتيته به، وهو بقباء عند أصحابه، فقلت: اجتمع عندي، أردت أن أتصدق به، فبلغني انك رجل صالح، ومعك
قلوب مع محمد (222)
رجال من أصحابك ذوو حاجة، فرأيتكم أحق به، فوضعته بين يديه، فكف يديه، وقال لأصحابه: كلوا.
فأكلوا، فقلت: هذه واحدة، ورجعت.
وتحول الى المدينة، فجمعت شيئا فأتيته به، فقلت: أحببت كرامتك فأهديت لك هدية، وليست بصدقة، فمد يده فأكل، وأكل اصحابه، فقلت: هاتان اثنتان، ورجعت.
فأتيته، وقد تبع جنازة في بقيع الغرقد، وحوله أصحابه، فسلمت، وتحولت أنظر الى الخاتم في ظهره، فعلم ما أردت، فألقى رداءه، فرأيت الخاتم، فقبلته، وبكيت، فأجلسني بين يديه، فحدثته بشأني كله كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك، وأحب أن يسمعه أصحابه، ففاتني معه بدر وأحد بالرق، فقال لي: كاتب يا سلمان عن نفسك، فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته، على أن أغرس له ثلثمائة ودية وعلى أربعين أوقية من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعينوا أخاكم بالنخل)، فأعانوني بالخمس والعشر، حتى اجتمع لي، فقال لي: (فقر لها ولا تضع منها شيئا حتى أضعه بيدي)، ففعلت، فأعانني أصحابي حتى فرغت، فأتيته، فكنت آتيه بالنخلة فيضعها، ويسوي عليها ترابا، فانصرف، والذي بعثه بالحق فما ماتت منها واحدة، وبقي الذهب، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من اصحابه بمثل البيضة، من ذهب أصابه من بعض المعادن، فقال: (ادع سلمان المسكين الفارسي المكاتب)، فقال: (أد هذه) فقلت: يا رسول الله، واين تقع هذه مما علي؟ وروى أبو الطفيل، عن سلمان، قال: أعانني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيضة من ذهب، فلو وزنت بأحد لكانت أثقل منه (1).
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عبد الله بن سلام)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا الرجل من كبار أحبار اليهود، وهو من ذرية يوسف الصديق عليه
__________
(1) رواه ابن إسحق وغيره.
قلوب مع محمد (223)
السلام، وكان اسمه الحصين، فغيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عالم أهل الكتاب، وكان إسلامه في اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار أبي أيوب أول ما قدم (1).
وقد حدث عن نفسه بخبر إسلامه، فقال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له (2)، فكنت مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة.
فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: (لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت)، فقلت لها: (أي عمة وهو، الله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به)
ثم قالت: (يا ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟)، فقلت لها: (نعم)، قالت: (قذاك إذا)
قال: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شئ سمعته يقول: (افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) (3)
وقد أخبر أنس عن السر الذي جعله يقبل على الإسلام، فقال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني سألك عن خلال لا يعملهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أخبرني بهن جبريل آنفا.
__________
(1) كما في رواية عبد العزيز بن صهيب عند البيهقي.
(2) توكف الخبر: إذا انتظر، انظر: النهاية: 5/ 221.
(3) رواه البخاري.
قلوب مع محمد (224)
فقال عبد الله: جبريل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، فقال عبد الله: عدو اليهود من الملائكة، ثم قرأ أنس: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:97)
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق (تسوقهم) إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد.
فقال عبد الله: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله.
ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه.
ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك.
فأدخله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال: (يا معشر يهود يا ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله قد جئتكم بالحق فأسلموا)
فقالوا: ما نعلمه.
فقال: أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا.
فقال: أرأيتم إن أسلم.
قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا ابن سلام اخرج إليهم)
فخرج عبد الله فقال: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في
قلوب مع محمد (225)
التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه)
قالوا: كذبت أنت شرنا وابن شرنا، وانتقصوه.
قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟
قال عبد الله: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وحسن إسلامها (1).
-\--\-
قلبت بعض الصفحات، بحثا عن أسماء لأحبار من عصرنا، أو قريبين من عصرنا.
وكان من الأسماء التي وجدتها (القس إسحق هلال مسيحه) (2)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد تشرفت بالالتقاء به بعد ما سمعت بإسلامه في إطار الوظيفة التي أخبرتك عنها، وكان من تصريحاته لي قوله: بدأت علاقتي مع بعض المسلمين سراً، حيث بدأت أدرس وأقرأ عن الإسلام، وقد طُلب منّي إعداد رسالة الماجستير حول مقارنة الأديان، وأشرف على الرسالة أسقف البحث العلمي في مصر سنة 1975، واستغرقت في إعدادها أربع سنوات، وكان المشرف يعترض على ما جاء في الرسالة حول صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأميته وتبشير المسيح بمجيئه.
وأخيراً تمّت مناقشة الرّسالة في الكنيسة الإنكليكيّة بالقاهرة، واستغرقت المناقشة تسع ساعات وتركزت حول قضيّة النّبوّة والنّبي صلى الله عليه وآله وسلم علماً بأن الآيات صريحة في الإشارة إلى نبوّته وختم النّبوّة به.
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) هو القس المصري السابق اسحق هلال مسيحه، رئيس لجان التنصير بأفريقيا، وهو راعي كنيسة المثال المسيحي، ورئيس فخري لجمعيات خلاص النفوس المصرية بإفريقيا وغرب آسيا.
قلوب مع محمد (226)
قلت: فهل منحوك هذه الرسالة مع هذا؟
قال: نعم منحوني الرسالة بيد، وأخذوها مني باليد الأخرى.. لقد صدر القرار بسحب الرسالة منّي وعدم الاعتراف بها.
قلت: فماذا فعلت؟
قال: أخذت أفكر في أمر الإسلام تفكيراً عميقاً حتّى تكون هدايتي عن يقين تام، ولكن لم أكن أستطيع الحصول على الكتب الإسلامية، فقد شدّد (..!؟) الحراسة عليّ وعلى مكتبتي الخاصّة.
قلت: فكيف وصلت إلى أشعة محمد مع هذا التضييق؟
ابتسم، وقال: أصدقك القول.. إنهم كلما ضيقوا على الإسلام، كلما اتسع وازداد انتشاره..
في يوم من أيام عام 1978 م كنت ذاهباً لإحياء مولد العذراء بالإسكندريّة، وأثناء ركوبي في الحافلة بملابسي الكهنوتية، وبصليب يزن ربع كيلو من الذهب الخالص وعصاي الكرير صعد صبيّ صغير يبيع كتيبات صغيرة، فوزعها على كلّ الركّاب ماعدا أنا.
عندما انتهى من التوزيع والجمع، فباع ما باع وجمع الباقي، قلت له: (يا بنيّ لماذا أعطيت الجميع بالحافلة إلا أنا)، فقال: (لا يا أبونا أنت قسيس)
وهنا شعرت، وكأنّني لست أهلاً لحمل هذه الكتيّبات مع صغر حجمها.. فألححت عليه ليبيعني منها، فقال: (لا هذه كتب إسلاميّة) ثم نزل.
وبنزول هذا الصّبي من الحافلة شعرت وكأنّني جوعان، وفي هذه الكتب شبعي، وكأنّني عطشان وفيها شربي.. نزلت خلفه، فجرى خائفاً منّي، فنسيت من أنا وجريت وراءه حتّى حصلت على كتابين.
عندما وصلت إلى الكنيسة الكبرى بالعبّاسيّة (الكاتدرائيّة المرقسيّة) ودخلت إلى غرفة النّوم المخصّصة بالمدعوّين رسميّاً كنت مرهقاً من السفر، ولكن عندما أخرجت أحد الكتابين، وهو
قلوب مع محمد (227)
(جزء عم) وفتحته وقع بصري على سورة الإخلاص، فأيقظت عقلي وهزت كياني..
لقد بدأت أرددها حتى حفظتها، وكنت أجد في قراءتها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً وسعادة روحية، وبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ أحد القساوسة وناداني: (أبونا إسحاق)، فخرجت وأنا أصيح في وجهه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} دون شعور منّي.
بعد ذلك ذهبت إلى الإسكندريّة لإحياء أسبوع مولد العذراء يوم الأحد.. وأثناء صلاة القداس المعتاد، وفي فترة الراحة ذهبت إلى كرسي الاعتراف لكي أسمع اعترافات الشعب الجاهل الذي يؤمن بأن القسيس بيده غفران الخطايا.
ومن ضمن من جاء امرأة تعض أصابع الندم، وهي تقول: (إني انحرفت ثلاث مرات، وأنا أمام قداستك الآن أعترف لك رجاء أن تغفر لي، وأعاهدك ألا أعود لذلك أبداً).. ومن العادة المتبعة أن يقوم الكاهن برفع الصليب في وجه المعترف ويغفر له خطاياه.
وما كدت أرفع الصليب لأغفر لها حتى وقع ذهني على العبارة القرآنية الجميلة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فعجز لساني عن النطق، وبكيت بكاءً حارّاً، وقلت: (هذه جاءت لتنال غفران خطاياها منّي فمن يغفر لي خطاياي يوم الحساب والعقاب)
هنا أدركت أن هناك كبير أكبر من كل كبير، إله واحدٌ لا معبود سواه.
ذهبت على الفور للقاء الأسقف وقلت له: (أنا أغفر الخطايا لعامة الناس، فمن يغفر لي خطاياي)، فأجاب دون اكتراث: (البابا)، فسألته: (ومن يغفر للبابا)، فانتفض جسمه ووقف صارخاً وقال: (أنت قسيس مجنون، والذي أمر بتنصيبك مجنون حتّى وإن كان الغريب، لأنّنا قلنا له لا تنصّبه لئلاّ يفسد الشعب بإسلاميّاته وفكره المنحل) بعد ذلك صدر القرار بحبسي في دير (ماري مينا) بوادي النطرون.
قلت: أحصل هذا!؟
قال: حصل ما هو فوق هذا.. لقد أخذوني معصوب العينين، وهناك استقبلني الرهبان
قلوب مع محمد (228)
استقبالاً عجيباً كالوا لي فيه صنوف العذاب علماً بأنّني حتّى تلك اللحظة لم أسلم، كل منهم يحمل عصا يضربني بها وهو يقول: (هذا ما يصنع ببائع دينه وكنيسته)
استعملوا معي كل أساليب التعذيب الذي لا تزال آثاره موجودةً على جسدي، وهي خير شاهدٍ على صحّة كلامي حتّى أنّه وصلت بهم أخلاقهم اللاإنسانيّة أنهم كانوا يدخلون عصا المقشّة في دبري يوميّاً سبع مرّات في مواقيت صلاة الرهبان لمدّة سبعة وتسعين يوماً، وأمروني بأن أرعى الخنازير.
وبعد ثلاثة أشهر أخذوني إلى كبير الرهبان لتأديبي دينياً وتقديم النصيحة لي، فقال: (يا بنيّ.. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، اصبر واحتسب. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)، قلت في نفسي ليس هذا الكلام من الكتاب المقدس ولا من أقوال القديسين.
وما زلت في ذهولي بسبب هذا الكلام حتى رأيته يزيدني ذهولاً على ذهول بقوله: (يا بنيّ نصيحتي لك السر والكتمان إلى أن يعلن الحق مهما طال الزمان)
لقد احترت في المعني الذي يشير إليه هذا الرجل، وهو كبير الرهبان، ولم يطل بي الوقت حتى فهمت تفسير هذا الكلام المحيّر.
لقد دخلت عليه ذات صباح لأوقظه فتأخر في فتح الباب، فدفعته ودخلت، وكانت المفاجأة الكبرى التي كانت نوراً لهدايتي لهذا الدين الحق دين الوحدانيّة عندما شاهدت رجلاً كبيراً في السنّ ذا لحية بيضاء، وكان في عامة الخامس والستّين، وإذا به قائماً يصلي صلاة المسلمين (صلاة الفجر).
تسمرتُ في مكاني أمام هذا المشهد الذي أراه، ولكنّي انتبهت بسرعة عندما خشيت أن يراه أحد من الرهبان، فأغلقت الباب.
جاءني بعد ذلك وهو يقول: (يا بنيّ استر عليّ ربّنا يستر عليك)، ثم أضاف: (أنا منذ 23 سنة على هذا الحال.. غذائي القرآن.. وأنيس وحدتي توحيد الرحمن.. ومؤنس وحشتي عبادة الواحد
قلوب مع محمد (229)
القهّار.. الحقّ أحقّ أن يتّبع يا بنيّ)
بعد أيّام صدر الأمر برجوعي لكنيستي بعد نقلي من سوهاج إلى أسيوط، لكن الأشياء التي حدثت مع سورة الإخلاص وكرسي الاعتراف والراهب المتمسّك بإسلامه جعلت في نفسي أثراً كبيراً، لكني كنت محتارا ماذا أفعل، وأنا محاصر من الأهل والأقارب وممنوع من الخروج من الكنيسة بأمر (..!؟)
بعد مرور عام، جاءني خطاب يأمرني بالذهاب كرئيس للّجنة المغادرة إلى السودان في رحلة تنصيريّة، فذهبنا إلى السودان في الأوّل من سبتمبر 1979 م وبقينا به ثلاثة شهور، وحسب التعليمات البابويّة بأن كلّ من تقوم اللجنة بتنصيره يسلّم مبلغ 35 ألف جنيه مصريّ بخلاف المساعدات العينيّة، فكانت حصيلة الذين غرّرت بهم اللجنة تحت ضغط الحاجة والحرمان خمسة وثلاثين سودانيّاً من منطقة واو في جنوب السودان.
وبعد أن سلّمتُهم أموال المنحة البابويّة اتّصلت بالبابا من مطرانيّة أم درمان فقال: (خذوهم ليروا المقدسات المسيحيّة بمصر (الأديرة))، وتم خروجهم من السودان على أساس أنهم عمّال بعقود للعمل بالأديرة لرعي الإبل والغنم والخنازير وتم عمل عقود صوريّة حتّى تتمكّن لجنة التنصير من إخراجهم إلى مصر.
بعد نهاية الرحلة، وأثناء رجوعنا بالباخرة في النّيل، قمت أتفقّد المتنصرين الجدد وعندما فتحت بعض الأبواب على الباخرة، فوجئت بأن المتنصر الجديد الذي أطلقنا عليه عبد المسيح (وكان اسمه محمّد آدم) يصلّي صلاة المسلمين.
تحدّثت إليه فوجدته متمسّكاً بعقيدته الإسلاميّة، فلم يغره المال، ولم يؤثّر فيه بريق الدنيا الزائل.. ومما أذكره أني قلت له: (يا عبد المسيح لماذا تصلّي صلاة المسلمين بعد تنصّرك؟!)، فقال: (بعت لكم جسدي بأموالكم، أمّا قلبي وروحي وعقلي فملك الله الواحد القهّار لا أبيعهم بكنوز الدنيا وأنا أشهد أمامك بأن لا إله إلا الله وأنّ محمّد رسول الله)
قلوب مع محمد (230)
بعد هذه الأحداث التي أنارت لي طريق الإيمان، وهدتني لأعتنق الإسلام وجدت صعوبات كثيرة في إشهار إسلامي نظراً لأنّني قس كبير ورئيس لجنة التنصير في إفريقيا، وقد حاولوا منع ذلك بكل الطرق لأنه بالنسبة لهم فضيحة كبيرة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (إبراهيم خليل فلوبوس) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أشهر من نار على علم.. كان أستاذا بكلية اللاهوت الإنجيلية.. وقد نشأ في الكنيسة.. وترقى في مدارس اللاهوت.. وتبوأ مكانة مرموقة في سلم التنصير..
قلت: فحدثني عن لقائك به، وحديثك معه.
قال: لقد تشرفت بالالتقاء به، والحديث معه عن سر إسلامه، وكان مما ذكره لي قوله: ولدت في الإسكندرية عام 1919.. ونشأت فيها نشأة نصرانية ملتزمة وتهذبت في مدارس الإرسالية الأمريكية، وتصادف وصولي مرحلة (الثقافة) المدرسية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتعرض مدينة الإسكندرية لأهوال قصف الطائرات.. فاضطررنا للهجرة إلى أسيوط حيث استأنفت في كليتها، وقد دفعتني أخبار الحرب والنكبات لأن أنظر إلى العالم نظرة أعمق قادتني للاتجاه إلى دعوة السلام وإلى الكنيسة.. التي كانت ترصد رغباتي وتؤجج توجهاتي.. فالتحقت بكلية اللاهوت سنة 1945 م وأمضيت فيها ثلاث سنين.
__________
(1) إبراهيم خليل أحمد قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام 1919، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية، ومن جامعة برنستون الأمريكية. عمل أستاذًا بكلية اللاهوت بأسيوط. كما أرسل عام 1954 إلى أسوان سكرتيرًا عامًا للإرسالية الألمانية السويسرية. وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام. لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه رسميًا عام 1959. كتب العديد من المؤلفات، أبرزها ولا ريب (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن)، (المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي)، و(تاريخ بني إسرائيل)، و(المسيح إنسان لا إله) و(الإسلام في الكتب السماوية) و(اعرف عدوك اسرائيل) و(الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية) و(الغفران بين المسيحية والإسلام)
قلوب مع محمد (231)
قلت: الأصل في مثل هذه الكلية أن تعمق فيك التوجه للمسيحية..
قال: أجل.. ذلك صحيح.. لقد درسنا مقدمات العهد القديم والجديد، والتفاسير والشروحات وتاريخ الكنيسة.. ولكنا لم نكتف بذلك، فنظام الكلية يدرس تاريخ الحركة التنصيرية وعلاقتها بالمسلمين، ولهذا درسنا القرآن الكريم والأحاديث النبوية...
قلت: أكانت هذه الدراسة لمجرد الاطلاع العلمي؟
قال: لا.. لا يمكن أن تهدف كلية مثل تلك الكلية لهذا الهدف النبيل.. لقد كانوا يهيئوننا للحوار المستقبلي مع المسلمين، لنستخدم معرفتنا لنحارب القرآن بالقرآن، والإسلام بالنقاط السوداء في تاريخ المسلمين.
لقد كنا نحاور الأزهريين وأبناء الإسلام بالقرآن لنفتنهم، فنستخدم الآيات مبتورة عن سياقها، لنخدم أهدافنا.. لقد كان لدينا في هذا كتب ننهل منها..
قلت: منها..!؟
قال: هي كثيرة.. لعل أهمها كتاب (الهداية) وهو في 4 أجزاء، و(مصدر الإسلام).. إضافة إلى استعانتنا واستفادنا من كتابات عملاء الاستشراق أمثال طه حسين الذي استفادت الكنيسة من كتابه (الشعر الجاهلي) مائة في المائة، وكان طلاب كلية اللاهوت يعتبرونه من الكتب الأساسية لتدريس مادة الإسلام.
وعلى هذا المنهج كانت رسالتي في الماجستير تحت عنوان (كيف ندمر الإسلام بالمسلمين) سنة 52 والتي أمضيت 4 سنوات في إعدادها من خلال الممارسة العملية للوعظ والتنصير بين المسلمين من بعد تخرجي عام 48.
قلت: أنا أعجب لك.. كيف يمكن لرجل يكتب مثل هذه الرسالة، ويتوجه هذا التوجه ينقلب ذلك الانقلاب الذي انقلبته.
قال: لا تعجب.. فالهداية من الله وبالله.. لقد من الله علي، فتعرضت لشمس النبوة التي
قلوب مع محمد (232)
نسخت تلك الأحقاد التي ملأتنا بها الكنيسة.
قلت: فحدثني كيف أشرقت عليك أنوار الهداية.
قال: في مؤتمر تبشيري دعيت للكلام، فأطلت الكلام في ترديد كل المطاعن المحفوظة ضد الإسلام، وبعد أن انتهيت من حديثي بدأت أسأل نفسي: لماذا أقول هذا وأنا أعلم أنني كاذب؟! واستأذنت قبل انتهاء المؤتمر، خرجت وحدي متجهاً إلى بيتي، كنت مهزوزاً من أعماقي، متأزماً للغاية، وفي البيت قضيت الليل كله وحدي في المكتبة أقرأ القرآن، ووقفت طويلاً عند الآية الكريمة: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)
في تلك الليلة اتخذت قرار حياتي فأسلمت، ثم انضم إلي جميع أولادي، وكان أكثرهم حماساً ابني الأكبر (أسامة) وهو دكتور في الفلسفة، ويعمل أستاذاً لعلم النفس في جامعة السوربون.. وبإسلامهم زادت بيوت الإسلام بيتاً.
قلت: تلك النهاية التي انتهيت إليها، وأنا أسألك عن البداية.
قال: في شهر يونيو تقريباً عام 1955 م استمعت إلى قول الله سبحانه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} (سورة الجن).. هذه الآية الكريمة من الغريب أنها رسخت في القلب، ولما رجعت إلى البيت سارعت إلي المصحف وأمسكته وأنا في دهشة من هذه السورة..
قلت: لقد كنت تقرأ القرآن من قبل، بل تستخدمه لحرب القرآن والإسلام، فكيف أثرت فيك هذه الآيات خصوصا.
قال: لست أدري.. ربما كنت حينها في لحظة من لحظات الصدق.. أو ربما أشرقت علي حينها شمس الهداية..
قلوب مع محمد (233)
في ذلك الحين تحولت إلى إنسان آخر.. لقد عدت لأقرأ القرآن بغير النية التي كنت أقرؤه بها.. فاستوقفني قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف:6)
هذه النصوص جعلتني أرجع للكتاب المقدس لأتأكد مما يذكره القرآن..
قلت: فماذا وجدت؟
قال: لقد ظللت لعدة سنوات أدرس هذه التنبؤات إلى أن وجدتها حقيقة لم يمسها التبديل والتغيير، لأن بني إسرائيل ظنوا أن النبوة لن تخرج عن دائرتهم..
على سبيل المثال جاء في (سفر التثنية) وهو الكتاب الخامس من كتب التوراة (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به) (1) توقفت أولاً عند كلمة (إخوتهم) وتساءلت: هل المقصود هنا من بني إسرائيل؟ لو كان كذلك لقال (من أنفسهم) أما وقد قال (من وسط إخوتهم) فالمراد بها أبناء العمومة، ففي سفر التثنية (إصحاح 2 عدد 4) يقول الله لسيدنا موسى عليه السلام: (أنتم مارون بنجم إخوتكم بني عيسو...) و(عيسو) هذا الذي نقول عنه في الإسلام (العيس) هو شقيق يعقوب عليه السلام، فأبناؤه أبناء عمومة لبني إسرائيل، ومع ذلك قال (إخوتكم) وكذلك أبناء (إسحق) وأبناء (إسماعيل) هم أبناء عمومة، لأن (إسحق) شقيق (إسماعيل) عليهما السلام ومن (إسحق) سلالة بني إسرائيل، ومن (إسماعيل) كان (قيدار) ومن سلالته كان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الفرع الذي أراد بنو إسرائيل
__________
(1) انظر تفاصيل الاستدلال بهذه النبوة في رسالة (أنبياء يبشرون بمحمد) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (234)
إسقاطه وهو الذي أكدته التوراة حين قالت (من وسط إخوتهم) أي من أبناء عمومتهم.
وتوقفت بعد ذلك عند لفظة (مثلك) ووضعت الأنبياء الثلاثة: موسى، وعيسى، ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للمقابلة فوجدت أن عيسى عليه السلام مختلف تمام الا ختلاف عن موسى وعن محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وفقاً للعقيدة النصرانية ذاتها والتي نرفضها بالطبع، فهو الإله المتجسد، وهو ابن الله حقيقة، وهو الأقنوم الثاني في الثالوث، وهو الذي مات على الصليب.. أما موسى عليه السلام فكان عبدالله، وموسى كان رجلاً، وكان نبياً، ومات ميتة طبيعية ودفن في قبر كباقي الناس وكذلك سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإذاً فالتماثل إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بينما تتأكد المغايرة بين المسيح وموسى ـ عليهما السلام ـ ووفقاً للعقيدة النصرانية ذاتها! فإذا مضينا إلى بقية العبارة: (وأجعل كلامي في فمه..) ثم بحثنا في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فوجدناه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم لم يلبث أن نطق بالقرآن الكريم المعجزة فجأة يوم أن بلغ الأربعين.. وإذا عدنا إلى نبوءة أخرى في التوراة سفر أشعيا إصحاح 79 تقول: (أو يرفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة ولا الكتابة ويقول له اقرأ، يقول ما أنا بقاريء..) لوجدنا تطابقاً كاملاً بين هاتين النبوءتين وبين حادثة نزول جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء، ونزول الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)
قلت: هذا عن التوراة، فماذا عن الإنجيل؟
قال: إذا استثنينا نبوءات برنابا الواضحة والصريحة ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم، وذلك لعدم اعتراف الكنيسة بهذا الإنجيل أصلاً، فإن المسيح عليه السلام تنبأ في إنجيل يوحنا تسع نبوءات، و(البرقليط) الذي بشر به يوحنا مرات عديدة... هذه الكلمة لها خمسة معاني: المعزّي، والشفيع، والمحامي، والمحمد، والمحمود، وكل هذه المعاني ينطبق على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمام الانطباق فهو المعزّي المواسي للجماعة التي على الإيمان وعلى الحق من بعد الضياع والهبوط، وهو المحامي
قلوب مع محمد (235)
والمدافع عن عيسى ابن مريم عليه السلام وعن كل الأنبياء والرسل بعدما شوه اليهود والنصارى صورتهم وحرفوا ما أتوا به وهو الإسلام.. ولهذا جاء في إنجيل يوحنا [14/ 16 و17] (أنا أصلي إلى الله ليعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق).. وقال في نبوءة أخرى (16/ 13 ـ 14] (وأما متى جاء ذاك الروح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به. ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني)
لقد وجدت أن هذه النبوءة تنطبق تماما على قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110)
قلت: فقد كانت البشارات التي وردت في الكتاب المقدس هي دليلك إلى الإسلام.
قال: لقد كانت بعض أدلتي.. وإن شئت قل: لقد كانت هي منبهي الأول الذي جعلني أبحث عن الحقيقة.. فقد انطلقت منها إلى مقارنات جادة بين الإسلام والمسيحية.. وقد كات تلك المقارنات هي الأساس الذي بني عليه إسلامي.
قلت: فحدثني عن بعض مقارناتك.
استجمع ذهنه قليلا، ثم قال: لقد قرأت بتأمل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).. ثم قارنت بينها وبين ما ورد في الإنجيل عن الغفران: (بدون سفك دم لا تحصل مغفرة) وبالقول: (هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الحبيب لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية).
قارنت بين العقيدتين.. فعرفت أن المغفرة في عقيدتنا مقيدة بقيود: من جانب الله ببذل ابنه الحبيب، ومن جانب المرء بضرورة الإيمان بهذا الابن.
ومن هذه العقيدة نشأت فريضة كنيسية تعرف بسرّ الشكر، وفيها يؤمن المسيحي باستحالة
قلوب مع محمد (236)
الخبز إلى جسد المسيح واستحالة الخمر إلى دم المسيح حقيقة، وبتناولهما تصير فيه حياة أبدية، ومن هذه العقيدة نشأت صكوك الغفران.. إنها بدعة وخروج عن الحق الإلهي الذي ندّد به زعماء الإصلاح في القرن الخامس عشر.. فحمدت الله على رحمته الواسعة ومغفرته اليقينية بدون قيد ولا شرط مادي، بل بتوبة صادقة وعزم على الحياة الطاهرة (1).
قلت: هل هناك مقارنة غيرها جعلتك تؤثر الإسلام؟
قال: كثيرة هي مقارناتي.. منها أني قرأت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)، ثم قارنته بما جاء بالإنجيل: (إذن لسنا أولاد جارية، بل أولاد حرة)
لقد زال عني بتلك المقارنة العجب عن التفرقة العنصرية عند الأمريكيين في أيامنا هذه بين البيض والسود، وزاد إعجابي وإجلالي للمسلمين.. فسيد القوم عندهم يقف بجانب المواطن العامل والمزارع والتاجر والموظف كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، راكعين ساجدين، يخشون ربهم ويرجونه الرضا والعفو، فأيقنت أن مجد الإسلام والمسلمين في هذا التساند الجميل والتآخي الحبيب (2).
بالإضافة إلى هذا، فقد استوقفني كثيرًا نظام التوحيد في الإسلام، وهو من أبرز معالم الإسلام.. إن التوحيد يجعلني عبدًا لله وحده لست عبدًا لأي إنسان، التوحيد في الإسلام يجرّد الإنسان ويجعله غير خاضع لأي إنسان، وتلك هي الحرية الحقيقية، فلا عبودية إلا لله وحده.
بالإضافة إلى هذا، فإن الإسلام دين المنطق والعقل، لم يجعل وساطة بين الله والإنسان، ولم يترك مقادير الناس تحت رحمة نفر منهم يلوحون لهم بسلطان الكنيسة.
قلت: ألا تزال تذكر اللحظة التي أعلنت فيها عن إسلامك؟
__________
(1) انظر: محمد في التوراة، ص 10 – 11، بتصرف.
(2) محمد في التوراة، ص 11.
قلوب مع محمد (237)
قال: لن أنسى ذلك ما حييت..
قلت: فحدثني عنها..
قال: بعد أن وصلت إلى اليقين وتلمست الحقائق بيدي كان عليّ أن أتحدث مع أقرب الناس إلي.. وكان أقربهم إلي زوجتي.. لكن الحديث تسرب عن طريقها إلى الإرسالية للأسف، وسرعان ما تلقفوني ونقلوني إلى المستشفى وتحت مراقبة صارمة مدعين أني مختل العقل.. ولأربعة شهور تلت عشت معاناة شديدة جداً، ففرقوا بيني وبين زوجتي وأولادي، وصادروا مكتبتي وكانت تضم أمهات الكتب والموسوعات... حتى اسمي كعضو في مجمع أسيوط، وفي مؤتمر (سنودس) شُطب، وضاع ملفي كحامل ماجستير من كلية اللاهوت... ومن المفارقات العجيبة أن الإنجليز في هذه الآونة كانوا قد خلعوا الملك طلال من عرش الأردن بتهمة الجنون... فخشيت أن يحدث معي الأمر ذاته.. لذلك التزمت الهدوء والمصابرة وصمدت حتى أطلق سراحي، فقدمت استقالتي من الخدمة الدينية، واتجهت للعمل في شركة أمريكية للأدوات المكتبية، لكن الرقابة هناك كانت عنيفة جداً، فالكنيسة لا تترك أحداً من أبنائها يخرج عليها ويسلم، إما أن يقتلوه أو يدسوا عليه الدسائس ليحطموا حياته.. وفي المقابل لم يكن المجتمع المسلم حينذاك يقدر على مساعدتي... ففي حقبة الخمسينات والستينات كان الانتماء للإسلام والدفاع عنه لا يعني إلا الضياع!
لذلك كان عليّ أن أكافح قدر استطاعتي، فبدأت العمل التجاري، وأنشأت مكتباً تجارياً هرعت بمجرد اكتماله للإبراق إلى (د. جون تومسون) رئيس الإرسالية الأمريكية حينذاك، وكان التاريخ هو الخامس والعشرين من ديسمبر 1959 والذي يوافق الكريسماس، وكان نص البرقية: (آمنت بالله الواحد الأحد، وبمحمد نبياً ورسولاً) لكن إشهار اعتناقي الرسمي للإسلام كان يفترض عليّ وفق الإجراءات القانونية أن ألتقي بلجنة من الجنسية التي أنا منها لمراجعتي ومناقشتي.
قلوب مع محمد (238)
وفي الوقت الذي رفضت جميع الشركات الأوربية والأمريكية التعامل معي تشكلت اللجنة المعنية من سبعة قساوسة بدرجة الدكتوراه.. خاطبوني بالتهديد والوعيد أكثر من مناقشتي! وبالفعل تعرضت للطرد من شقتي لأنني تأخرت شهرين أو ثلاثة عن دفع الإيجار، واستمرت الكنيسة تدس علي الدسائس أينما اتجهت.. وانقطعت أسباب تجارتي.. لكني مضيت على الحق الذي اعتنقته... إلى أن قدر الله أن تبلغ أخباري وزير الأوقاف حينذاك عبدالله طعيمة، والذي استدعاني لمقابلته وطلب مني بحضور الأستاذ الغزالي المساهمة في العمل الإسلامي بوظيفة سكرتير لجنة الخبراء في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
ولما بلغت الستين، بدأت عملي كداعية إسلامي متفرغ، وكان أول ما نصرني الله به أن ألتقيت مع الدكتور جميل غازي ـ رحمه الله ـ بـ 13 قسيساً بالسودان في مناظرة مفتوحة انتهت باعتناقهم الإسلام جميعاً، وهؤلاء كانوا سبب خير وهداية لغرب السودان حيث دخل الألوف من الوثنيين وغيرهم دين الله على أيديهم.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الدكتور وديع أحمد)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد كان شماسا، وقد التقيت به في مصر.. وقد حدثتني عن رحلته إلى الإسلام، وكيفية تخلصه من الشبهات الكثيرة التي وضعت في طريقه، فقال: لقد مررت برحلة طويلة قاربت 40 عاما الى أن هدانى الله للإسلام..
في البداية.. كنت من عائلة متدينة، وقد أصر أبي ـ وقد كان واعظا فى جمعية أصدقاء الكتاب المقدس، وكانت مهنته التبشير فى القرى المحيطة والمناطق الفقيرة لمحاولة جذب فقراء المسلمين الى المسيحية ـ أن أنضم الى الشمامسة منذ أن كان عمرى ست سنوات، وأن أنتظم فى دروس مدارس الأحد.
وفيها تلقيت أخطر الشبهات عن الإسلام والمسلمين، ومنها أن المسلمين اغتصبوا مصر من
قلوب مع محمد (239)
المسيحين وعذبوا المسيحين.. ومنها أن المسلمين يضطهدون النصارى لكى يتركوا مصر ويهاجروا.. ومنها أن المسلم أشد كفرا من البوذى وعابد البقر.. ومنها أن القرآن ليس كتاب الله ولكن محمد اخترعه.. وغير ذلك من الشبهات التى تزرع الحقد الأسود ضد المسلمين فى القلوب.
لكن الله شاء أن يقيض لنا في هذه الفترة من يقف في وجه هذه الشبهات.. وقد كان أبي هو ذلك النور المبدد لظلمات الشبهات.. لقد كان في هذه الفترة المحرجة يتكلم معنا سرا عن انحراف الكنائس عن المسيحية الحقيقية التى تحرم الصور والتماثيل والسجود للبطرك والاعتراف للقساوسة.
قلت: كيف يكون ذلك، وقد ذكرت لي أنه هو الذي أصر على أن تكون من الشمامسة؟
قال: لست أدري.. ولكني لا أزال محتارا في شأنه.. لقد كان يمارس في حياته أشياء كثيرة لا تدل إلا على أنه مسلم يكتم إسلامه.. وقد كان ذلك من أهم أسباب هدايتي.
فقد هجر الكنائس والوعظ والجمعيات التبشيرية تماما.. وكان يرفض تقبيل أيدي الكهنة (وهذا أمر عظيم عند النصاري).. وكان لايؤمن بالجسد والدم (الخبز والخمر) أي لا يؤمن بتجسيد الإله.. وبدلاً من نزوله صباح يوم الجمعة للصلاة أصبح ينام ثم يغتسل وينزل وقت الظهر.. وكان ينتحل الأعذار للنزول وقت العصر والعودة متأخرا وقت العشاء.
ومما قوى هذا الموقف عندي أنه صار ينطق بألفاظ جديدة لم يكن يقولها مثل (أعوذ بالله من الشيطان) (لا حول ولا قوة الا بالله)..
وقد وجدت بعد موته عام 1988 بالإنجيل الخاص به قصاصات ورق صغيرة يوضح فيها أخطاء موجودة بالأناجيل وتصحيحها.. بل عثرت علي إنجيل جدي (والد أبي) طبعة 1930 وفيها توضيح كامل عن التغيرات التي أحدثها النصاري فيه منها تحويل كلمة (يا معلم) و(يا سيد) إلى (يا رب) ليوهموا القارئ أن عبادة المسيح كانت منذ ولادته.
قلوب مع محمد (240)
قلت: إن كل ما ذكرته أدلة قوية تشير إلى إسلامه.. ولكن لم كان يكتمه؟
قال: ألم تسمع بقول اللورد هدلي؟
قلت: تقصد قوله: (إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم)
قال: أجل.. ولو أن هذه الحواجز النفسية رفعت لرأيت غير ما ترى، وسمعت غير ما تسمع.
قلت: فكيف أزلت أنت هذه الحواجز النفسية؟
قال: ذلك فضل الله.. وتلك هدايته التي ملأ بها قلبي، مع أني تعرضت لحواجز كثيرة اجتمعت على أن تحول بين قلبي وبين الإيمان.. لكن الله بفضله وكرمه رفعها عني.
لقد صرت أستاذاً في مدارس الأحد ومعلما للشمامسة، وكان عمري 18 سنة وكان علي أن أحضر دروس الوعظ بالكنيسة والزيارة الدورية للأديرة (خاصة في الصيف) حيث يتم استدعاء متخصصين في مهاجمة الإسلام والنقد اللاذع للقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كانوا في تلك الاجتماعات يذكرون لنا أن القرآن مليء بالمتناقضات، ثم يذكروا نصف آية مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء:43) ويقطعوها لنتوهم أن القرآن ينهى عن الصلاة.
بل كانوا ـ أكثر من ذلك ـ يذكرون أن القرآن مليء بالألفاظ الجنسية ويفسرون كلمة (نكاح) علي أنها الزنا أو اللواط.
وكانوا يذكرون لنا يقولون أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ تعاليم النصرانية من (بحيرا) الراهب، ثم حورها واخترع بها دين الإسلام، ثم قتل بحيرا حتى لا يفتضح أمره..
وقد كنت في تلك الفترة أسمع أسئلة محيرة من الشباب الحاضر كانت ـ هي الأخرى ـ من
قلوب مع محمد (241)
أهم أسباب هدايتي.
من ذلك أن شابا سأل أحد القساوسة قائلا: ما رأيك بمحمد؟
فقال القسيس: هو إنسان عبقري وذكي.
فقال الشاب: هناك الكثير من العباقرة مثل (أفلاطون، سقراط، حامورابي....) ولكن لم نجد لهم أتباعاودينا ينتشر بهذه السرعة الي يومنا هذا؟ لماذا؟
فيتهرب القسيس من الإجابة.. أو يغالطه بطريقة ذكية تصرفه عن سؤاله.
ومنها أن شابا سأل قسيسا: ما رأيك في القرآن؟
فأجاب القسيس: كتاب يحتوي علي قصص للأنبياء ويحض الناس علي الفضائل ولكنه مليء بالأخطاء.
فقال الشاب: لماذا تخافون أن نقرأه، وتكفرون من يلمسه أو يقرأه؟
فيصر القسيس أن من يقرأه كافر دون توضيح السبب.
ومنها أن آخر سأل: إذا كان محمد كاذباًَ فلماذا تركه الله ينشر دعوته 23 سنة؟ بل ومازال دينه ينتشر الي الآن مع انه مكتوب في كتاب موسي (كتاب ارميا) ان الله وعد بإهلاك كل إنسان يدعي النبوة هووأسرته في خلال عام؟
فييجيب القسيس: لعل الله يريد أن يختبر المسيحيين به.
بالإضافة إلى هذا.. فقد مررت في حياتي بمواقف كثيرة محيرة.. كلها كانت أشعة اهتديت بها إلى شمس محمد.
منها أن البطرك (..!؟) أصدر في عام 1971 قرارا بحرمان الراهب (..!؟) ـ وهو راهب بدير مينا ـ من الصلاة لأنه لم يذكر اسمه في الصلاة، وقد حاول إقناعه الراهب (..!؟) بالصلاة فانه يصلي لله، وليس للبطرك ولكنه خاف من البطرك أن يحرمه من الجنه أيضا.
وقد تسائل هذا الراهب: هل يجرؤ شيخ الأزهر أن يحرم مسلما من الصلاة؟
قلوب مع محمد (242)
لقد كان أشد ما يحيرني هو معرفتي بتكفير كل طائفة مسيحية للأخرى، فلهذا سألت القمص (..!؟)، وهو أب اعترافي، فأكد هذا وأن هذا التكفير نافذ في الأرض والسماء.
فسألته متعجبا: هل معني هذا أننا كفار لتكفير بابا روما لنا؟
أجاب: للأسف.. نعم.
سألته: وباقي الطوائف كفار بسبب تكفير بطرك الإسكندرية لهم؟
أجاب: للأسف.. نعم.
سألته: وما موقفنا إذا يوم القيامة؟
أجاب: الله يرحمنا!!!
وفوق هذا كنت كلما دخلت الكنيسة، ووجدت صورة المسيح وتمثاله يعلو هيكلها سألت نفسي: كيف يكون هذا الضعيف المهان الذي استهزأ به اليهود وعذبوه رباًوإلهاً!؟
المفروض أن أعبد رب هذا الضعيف الهارب من بطش اليهود، وتعجبت حين علمت أن التوراة قد لعنت الصليب والمصلوب عليه وأنه نجس وينجس الأرض التي يصلب عليها، كما في (تثنية 21: 22 – 23)
وفوق هذا كله فقد كان لي جار مسلم وكنت كثير الجدل معه، وذات يوم كلمني عن العدل في الإسلام (في الميراث، في الطلاق، القصاص....) ثم سألني هل عندكم مثل ذلك؟ فأجبت لا.. لايوجد..
وبدأت أسأل نفسي: كيف أتي رجل واحد بكل هذه التشريعات المحكمة والكاملة في العبادات والمعاملات بدون اختلافات؟.. وكيف عجزت مليارات اليهود والنصاري عن إثبات أنه مخترع؟
بالإضافة إلى هذا كله كنت أسمع أحاديث الدكتور محمد الشاطبي ـ وقد كنت حينها طبيبا في مستشفي (صدر كوم الشقافة) ـ وقد كان دائم التحدث مع الزملاء عن أحاديث محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
قلوب مع محمد (243)
وكنت في بداية الأمر أشعر بنار الغيرة، ولكن بعد مرور الوقت أحببت سماع هذه الأحاديث التي كانت قليلة في ألفاظها كثيرة في معانيها، جميلة الألفاظ والسياق.. وقد شعرت وقتها أن محمدا نبي عظيم.
وكان بالقرب من عيادتى مسجد.. اقترب منه، وأخذت أنظر بداخله، فوجدته لا يشبه الكنيسة مطلقا (لا مقاعد – لا رسومات – لا ثريات ضخمة – لا سجاد فخم – لا أدوات موسيقى وايقاع – لا غناء لا تصفيق) ووجدت أن العبادة فى هذه المساجد هى الركوع والسجود لله فقط، لا فرق بين غنى وفقير يقفون جميعا فى صفوف منتظمة وقارنت بين ذلك وعكسه الذى يحدث فى الكنائس فكانت المقارنة دائما لصالح المساجد.
ثم حبب الله إلى القرآن.. فاشتريت مصحفا، وتذكرت أن صديقى أحمد الدمرداش ذكر أن القرآن: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79)، فاغتسلت (1) ولم أجد غير ماء بارد وقتها، ثم قرأت القرآن، وكنت أخشى أن أجد فيه اختلافات (بعد ما ضاعت ثقتى فى التوراة والانجيل)، وقرأت القرآن فى يومين ولكنى لم أجد ما كانوا يعلمونا إياه فى الكنيسة عن القرآن.
بل رأيت أن من يكلم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يخبره أنه سوف يموت.. ولا يجرؤ أن يتكلم هكذا الا الله..
بعد كل هذا دعوت الله أن يهدين ويرشدني..
وذات يوم غلبني النوم، فوضعت المصحف بجوارى.. وقرب الفجر رأيت نورا فى جدار الحجرة، وظهر رجل وجهه مضئ اقترب منى، وأشار الى المصحف، فمددت يدى لأسلم عليه لكنه اختفى.. وقد وقع فى قلبى أن هذا الرجل هو النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشير الى أن القرآن هو طريق النور والهداية.
__________
(1) ذكرنا في مناسبات كثيرة أن هذا ليس شرطا في قراءة القرآن، ومن اشترطه فقد بعد كثيرا عن الصواب، ذلك أن الاغتسال يتطلب نية بالصفة الشرعية، والنية المرادة هي التقرب إلى الله، وذلك لا يكون إلا بالإسلام.
وقد فصلنا المسألة بتفاصيلها في السلاسل الفقهية خاصة (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)
قلوب مع محمد (244)
وقد كان ذلك من الأسباب الكبرى لإسلامي.
قلت: لم تكتف بما يفعل الكثير من التكتم على إسلامهم.
قال: أجل.. لقد سألت أحد المحامين عن كيفية دخول الإسلام، فدلني علي قسم الشئون الدينية لمديرية الأمن.. ولم أنم تلك الليلة التي امتلأت فيها بوساوس الشياطين.
لكني لم أهتم لها.. خرجت في السادسة صباحا ودخلت كنيسة (..!؟) وكانت الصلاة قائمة، وكانت الصالة مليئة بالصور والتماثيل للمسيح ومريموالحواريين وآخرين إلي البطرك السابق (..!؟) فكلمتهم: (لو أنكم علي حق وتفعلون المعجزات كما كانوا يعلمونا فافعلوا أي شيء.. أي علامة أو إشارة لأعلم أنني أسير في الطريق الخطأ).. وبالطبع لم أجد أي إجابة.
لقد بكيت ـ حينها ـ كثيرا علي عمر طويل ضاع في عبادة هذه الصور والتماثيل.. وبعد البكاء شعرت أنني تطهرت من الوثنية، وأنني أسير في الطريق الصحيح طريق عبادة الله حقا.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (أبو بكر موايبيو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا مارتن جون موايبوبو.. اسمه الأصلي (مارتن جون موايبوبو)، وقد أصبح بعد إعلانه الإسلام معروفاً باسم (الحاج أبو بكر جون موايبوبو)، وهو رئيس الأساقفة اللوثريِّ التنزانيِّ.
قلت: فهل التقيت به؟
قال: أجل..
قلت: كيف تم ذلك؟.. وماذا قال لك؟
قال: كنت في ذلك اليوم الذي أعلن فيه هذا الرجل إسلامه في تنزانيا.. لقد كان ذلك في الثالث والعشرين من شهر كانون الأوَّل لعام 1986.. أي قبل يومين من أعياد الميلاد..
لقد كنت في الكنيسة مع حشد من المصلين نستمع إليه، وهو يعزف آلاته الموسيقيَّة بطريقةٍ
قلوب مع محمد (245)
تثير مشاعر الجميع.. ولم نكن نعرف ذلك الحين ما يجول في خاطر الأسقف.
فجأة نهض، وأعلن إسلامه بقوة لا نظير لها، وكأنه يتحدانا، أو كأنه يتحدى نفسه التي كانت تحول بينه وبين ذلك الإعلان.. أو كأنه يتذكر يوم الزينة الذي فاجأ فيه السحرة فرعون والناس جميعا بإعلان إسلامهم لله.
ما إن فعل ذلك حتى وقع حشد المصلِّين في حالة شللٍ تامٍّ للصدمة الَّتي أصابتهم لسماع هذا الخبر، إلى درجة أنَّ مساعد الأُسقف قام من مقعده فأغلق الباب والنوافذ، وصرَّح لأعضاء الكنيسة بأنَّ رئيس الأساقفة قد جُنّ.
وفورا اتَّصلوا بقوات الأمن لأخذ الرَّجل المجنون.. فجاءوا، وتحفَّظوا عليه في الزنزانة حتَّى منتصف الليل، إلى أن جاء الشَّيخ أحمد شيخ ـ وهو الرَّجل الَّذي حثَّه على دخول الإسلام ـ وكفله لإطلاق سراحه.
ولم يكن ذلك إلى بداية للآلام الكثيرة التي تعرض لها..
لقد تعرفت هناك على صحفي اسمه (سيمفيوي سيسانتي)، وهو صحفيٌّ من صحيفة القلم، وقد أخبرني بلقائه به، وقد ذكر لي أن هذا الأسقف لم يكن رجلا عاديا، ولا رجل دين بسيط..
فهو لم يحصل فقط على شهادتي البكالوريوس والماجستير في اللاهوت، بل لديه شهادة الدكتوراه في اللاهوت والتي حصل عليها من الإدارة الكنسيَّة من إنجلترا، بالإضافة إلى باقي الدَّرجات العلميَّة التي حصل عليها من برلين في ألمانيا.
ولهذا المستوى العلمي نصب أمينا عاما لمجلس الكنائس العالميِّ لشؤون إفريقيا ـ والتي تشمل تنزانيا وكينيا وأوغندا وبوروندي وأجزاء من أثيوبيا والصُّومال ـ وكان منصبه في مجلس الكنائس يفوق الرئيس الحاليَّ للجنة حقوق الإنسان الجنوب إفريقيَّة بارني بيتيانا، ورئيس لجنة المصالحة الوطنيَّة الأُسقف ديسموند توتو.
قلوب مع محمد (246)
وذكر لي أن الرجلٍ وُلد قبل 61 عاماً في بوكابو، وهي منطقةٌ على الحدود مع أوغندا من عائلة اهتمت بتنشئته تنشئة دينية، فبعد سنتيْن من ولادته قامت عائلته بتعميده؛ وبعد خمس سنواتٍ كانت تراقبه بفخرٍ وهو يصبح خادم المذبح في القُدَّاس.
وقد أخبر أبو بكر عن رغبة والده في انضمامه للكنيسة، وقد حصل هذا في الخامسة والعشرين من عمره، حيث استسلم لرغبة والده الذي كان يقول له: (يا بنيّ، قبل أن أغمض عيني (أموت)، سأكون مسروراً إنْ أصبحتَ راهباً)
وهذا القرار هو الَّذي قاده إلى إنجلترا عام 1964 للحصول على الدبلوم في إدارة الكنائس؛ وبعد ذلك بسنةٍ سار إلى ألمانيا للحصول على البكالوريوس، وبعودته بعد عامٍ أصبح أُسقفاً عاملاً، وفيما بعد رجع ليحصل على الماجستير.
وقد كان إلى هذا الوقت مقلدا محضا، ولكنه في أثناء تحضير للدكتوراه بدأ يخرج من ربقة التقليد، وقد ذكر لي أنه قال له: (بدأت أتساءل باندهاش، فهناك المسيحيَّة والإسلام واليهوديَّة والبوذيَّة، وكلُّ دينٍ منها يدَّعي أنَّه الحقّ؛ فما هي الحقيقة؟ كنت أريد الحقيقة)
وهكذا بدأ بحثه حتى اختزله إلى الأديان الرئيسيَّة الأربعة.. ثم حصل على نسخةٍ من القرآن الكريم..
وقد ذكر موايبوبو ذلك قائلاً: (حين فتحت القرآن الكريم، كانت الآيات الأولى الَّتي أقرأها هي سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
وقد كانت هذه الآيات هي البذور التي نبتت بها بعد ذلك شجرة إسلامه.. وفي ذلك الوقت اكتشف بأنَّ القرآن الكريم هو الكتاب المقدَّس الوحيد الَّذي لم يحصل له أي تشويه.
قال: (وهذا ما قُلْته كخاتمةٍ في رسالتي للدكتوراه. ولم يكن يهمُّني إنْ كانوا سيمنحوني الدكتوراه أم لا، لأنَّ هذه هي الحقيقة؛ وأنا كنت أبحث عن الحقيقة)
قلوب مع محمد (247)
وفي حالته الذهنيَّة هذه، ذهب إلى أُستاذه المحبوب فان بيرغر، وقد أخبر عن نص الحوار الذي جرى بينهما، فقال: (أغلقت الباب، ثمَّ نظرت إليه في عينيه، وسألته: من كلِّ الأديان الَّتي في الدُّنيا، أيُّها هو الدِّين الحقّ؟ فأجابني: (الإسلام)، فسألته: (فلماذا أنت إذاً لست مسلماً؟) فقال لي: (أوَّلاً: أنا أكره العرب؛ وثانياً: هل أنت ترى كلَّ هذا الترف الَّذي أنعم فيه؟ فهل تعتقد بأنِّي سأتخلَّى عن كلِّ ذلك من أجل الإسلام؟) وعندما تفكَّرت بجوابه، بدأت أتفكَّر بحالتي الخاصَّة أيضاً)
فمنصب موايبوبو، وسياراته، كلُّ ذلك خطر على باله.. ولذلك لم يستطيع إعلان إسلامه.. وهكذا ظل لسنةٍ كاملةٍ ممتلئا بهذه المخاوف إلى أن استطاع أن يقف في وجهها في تلك اللحظة الحرجة.
وقد ذكر لهذا الصحفي عن فضل الله الذي تداركه برُؤى بدأت تلاحقه، وآياتٌ من القرآن الكريم دوامت على الظُّهور أمامه، وأُناسٌ موشحون بالبياض يأتون إليه، خاصَّةً في أيَّام الجُمَع، حتَّى لم يستطع أن يقاوم أكثر.
قلت للصحفي: ألم تكن تلك الرؤى.. ومخاوفه منها ترجع للطَّبيعة الخُرافيَّة للأفارقة؟
قال لي الصحفي: لقد سألت موايبوبو هذا السؤال، فأجابني: لا؛ لا أظنُّ بأنًّ كلَّ الرُؤى سيِّئة.. فإنَّ هناك تلك الرُؤى الَّتي تهديك للاتجاه الصَّحيح، وتلك الَّتي لا تفعل ذلك.. أمَّا هذه -على وجه الخصوص- فقد قادتني إلى الطَّريق الصَّحيح، إلى الإسلام)
بعد فترة سمعت بما حصل لهذا الأسقف نتيجة إشهار إسلامه، فقد علمت بأن الكنيسة قامت بتجريده من بيته وسياراته، ولم تستطع زوجه تحمُّل ذلك، فحزمت حقائبها وأخذت أولادها وتركته، وذلك على الرغم من تأكيد موايبوبو لها بأنَّها ليست مُلزمةً بدخول الإسلام. وعندما ذهب إلى والديه، الَّلذيْن كانا أيضاً قد سمعا بقصَّته، وقد طلب منه أبوه انتقاد الإسلام علانيةً، ومثل ذلك أمه، ولكنه ظل ثابتا على موقفه.
قلوب مع محمد (248)
بعد أن أصبح وحيدا اضطر إلى الرحيل حيث تنتمي عائلته أصلاً على الحدود بين تنزانيا ومالاوي.. وخلال رحلته جَنَح إلى بروسيل حيث التقى بزوجته، وهي راهبةٌ كاثوليكيَّةٌ اسمها الأخت (جيرترود كيبويا)، وهي تُعرف الآن باسم الأخت زينت، ومعها سافر إلى كاييلا، حيث أخبره العجوز الَّذي منحه المأوى في الليلة السَّابقة بأنه هناك سيجد مسلمين آخرين، ولكن قبل ذلك، وفي صباح ذلك اليوم رفع الآذان للصَّلاة، وهو الشيء الَّذي جعل القرويِّين يخرجون من منازلهم سائلين المضيف كيف يؤوي رجلاً مجنوناً.
لكن الراهبة ـ التي تزوج بها بعد ذلك ـ هي التي صرفت عنهم هذه النظرة، وقد كانت هي الَّتي ساعدته فيما بعد على دفع النَّفقات العلاجيَّة لمشفى الإرساليَّة الأنجليكانيَّة حين كان مريضاً جدّاً.
وأخبرني أنه سألها: لماذا ترتدي الصَّليب في سلسلةٍ على صدرها، فكان أن أجابت بأنَّ ذلك لأنَّ المسيح قد صُلب عليه، وقد رد عليها بأنه (لنَقُل أن أحدهم قتل أباك ببندقيَّةٍ، فهل كنت ستتجوَّلين حاملةً البندقيَّة على صدرك؟)
لقد جعل ذلك الراهبة تفكِّر.. وحين عرض عليها الأُسقف الزواج لاحقاً، كان جوابها بالإيجاب، فتزوَّجا سرّاً، وبعد أربعة أسابيع كتبت إلى مسؤوليها تُعلِمهم بأنَّها تركت الرَّهبنة.
وقد سمع الشَّيخ الَّذي قدَّم لهما المأوى ـ وهو خال الرَّاهبة ـ بهذا الزواج؛ وفي لحظة وصولهما إلى بيته نُصحا بالهرب، لأنَّ الشَّيخ كان يُعبِّئ بندقيَّته، وكان والد الرَّاهبة غاضباً ومتوحِّشاً كالأسد.
انتقل موايبوبو من رفاهية منزل رئيس الأساقفة ليعيش في بيتٍ مبنيٍّ من الطِّين، وبدلاً من راتبه الكبير كعضوٍ في المجلس الكنسيِّ العالميِّ كأمينٍ عامٍّ لشرق إفريقيا، بدأ بكسب قوته كحطَّابٍ، وحرَّاثٍ لأراضي الآخرين.
وفي الأوقات الَّتي لم يكن يعمل فيها كان يدعو إلى الإسلام علانية، ممَّا قاده إلى سلسلةٍ من
قلوب مع محمد (249)
الأحكام القصيرة بالسِّجن لعدم احترام المسيحيَّة.
وحين كان يؤدِّي فريضة الحجِّ في عام 1988، حدث بلاء آخر، حيث فُجِّر بيته، وترتب على ذلك قتل أطفاله التوائم الثلاثة.
وقد ذكر أن من المتسببين في ذلك الأُسقف ـ الذي هو ابن خالته ـ ويذكر أنَّه بدلاً من أن يحبطه ذلك فقد فعل العكس، لأنَّ عدد الَّذين كانوا يعلنون إسلامهم كان يزداد، وهذا يشمل حماه أيضاً.
وفي عام 1992 اعتُقِل لمدَّة عشرة أشهرٍ مع سبعين من أتباعه، اتُّهموا بالخيانة، وكان ذلك بعد تفجير بعض محلات بيع لحم الخنزير الَّتي كان قد تحدَّث ضدَّها (1)، وبعد ذلك مباشرةً هاجر إلى زامبيا منفيّاً؛ وذلك بعد أن نُصِحَ بأنَّ هناك مؤامرة لقتله.
وذكر بأنَّه في كلِّ يومٍ كان يُطلق فيه سراحه، كانت الشرطة تأتي لتعتقله مُجدَّداً، يقول موايبوبو: (لقد قالت النِّساء بأنَّهن لن يسمحن بذلك! وبأنَّهم سيقاومن اعتقالي من قبل قوات الأمن بأجسادهن، وكانت النِّساء أيضاً هنَّ اللواتي ساعدنني على الهرب عبر الحدود مُتخفياً؛ فقد ألبسنني ملابس النِّساء!)
وهذا هو أحد الأسباب التي جعلته يُقدِّر دور النِّساء: (يجب أن تُعطى النِّساء مكانةً رفيعةً، وأن يُمنحن تعليماً إسلاميّاً جيِّداً، وإلا فكيف يمكن للمرأة أن تتفهَّم لماذا يتزوَّج الرَّجل أكثر من امرأةٍ واحدة.. لقد كانت زوجي زينب هي من اقترحت عليَّ بأنِّي يجب أن أتزوَّج بزوجي الثَّانية ـ صديقتها شيلا ـ حين كان يتوجَّب عليها السَّفر إلى الخارج من أجل الدِّراسات الإسلاميَّة)
وقد صادف أن لقيته مرة بعد هذا، وهو يخطب في جمع من المسلمين، وهو يقول لهم ناصحا: (إنَّ هناك حرباً على الإسلام.. وقد أغرقوا العالم بالمطبوعات.. والآن بالتحديد يعملون على جعل
__________
(1) لا نرى من النصح للإسلام أن يتحدث المسلم في الأرض التي فيها غير مسلمين عن مثل هذه المواضيع، فذلك يشوه صورة الإسلام من جهة، ويعرض المسلمين الذين قد يشكلون أقلية للأذى من جهة أخرى.
وقد نصح (معاذا عن مواضيع الدعوة وتدرجها.. وذلك هو الأسلوب النبوي الأمثل، انظر في هذا رسالة (النبي الهادي) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (250)
المسلمين يشعرون بالعار بوصفهم لهم بالأُصوليِّين، فيجب على المسلمين ألا يقفوا عند طموحاتهم الشَّخصيَّة، ويجب عليهم أن يتَّحدوا، فعليك أن تدافع عن جارك إن كنت تريد أن تكون أنت في أمان)
سمعته يقول ذلك، وهو يحضُّ المسلمين على أن يكونوا شجعاناً، مُستشهداً بالمركز الإسلاميِّ العالميِّ للدَّعوة وبدور الشَّيخ أحمد ديدات الذي كان شديد الإعجاب به، وقد سمعته يقول عنه يخاطب المسلمين: (ذلك الرَّجل ليس مُتعلِّماً، لكن انظر إلى الطَّريقة الَّتي ينشر بها الإسلام)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الراهب ماركو كوربس)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا رجل من الفلبين، وقد صادفته في رحلة من رحلاتي، فرأيته شديد الحماس للإسلام، متألما لما مضى من عمره بعيدا عنه، وقد لاحظت في حديثه نفحة الصدق التي حدثني عنها معلم السلام، فرحت أسأله عنه، وعن سر ذلك الجرص على الدعوة للإسلام، فقال:
كنت من طائفة وثنية.. وكان جدي وعمتي مُعالِجَيْن روحانيَّيْن يعبدان الأصنام والأرواح، وقد شهدت الكثير من المرضى الَّذين جاءوا إليهما من أجل العلاج، وكيف كانوا يبرأون، ولذلك فقد تسبَّبا في اتباعي ما يؤمنان به.
وعندما وصلت السابعة عشرة من عمري، لاحظت بأنَّ هناك الكثير من الأديان، والَّتي تحوي أنواعاً مختلفةً من التعاليم، وكلٌّ منها يدَّعي بأنَّه الدِّين الحقّ.
عندها تساءلت: (هل يتوجَّب عليَّ أن أبقى على دين عائلتي، أم أنِّي يجب أن أُجرِّب الاستماع إلى الأديان الأخرى؟)
وفي أحد الأيام دعاني ابن عمي لحضور عيد الخميس في الكنيسة، وكان دافعي هو مشاهدة
قلوب مع محمد (251)
ما يفعلونه داخل الكنيسة، فشاهدتهم يغنُّون، ويصفِّقون، ويرقصون، ويبكون رافعين أيديهم في دعائهم ليسوع.. ثم قام الراهب بالوعظ بخصوص الإنجيل.. ثم ذكر الفقرات الأكثر شيوعاً، والَّتي يقتبسها كلُّ المبشِّرين، وهي تلك الَّتي تتعلَّق بأُلوهيَّة المسيح مثل ما في (يوحنا 1:12، ويوحنا 3:16، ويوحنا 8:31 - 32)، وفي ذلك الوقت، ولدت من جديد كمسيحيّ، وقَبِلْتُ يسوع المسيح إلها ومُخلِّصا.
كان أصدقائي يزوروني كلَّ يومٍ للذهاب إلى الكنيسة، وبعد شهرين تمَّ تعميدي، فأصبحت عضواً منتظماً في صلاتهم، وبعد مرور خمسة أعوام، أقنعني راهبنا بالعمل في الكهنوت كعاملٍ متطوِّع، ثم أصبحت المنشد الرئيسي، ثم القائد في الصَّلاة، ثم معلِّماً في مدرسة الأحد، ثم أصبحت أخيراً راهباً رسميّاً في الكنيسة.
وكان عملي خاضعاً لبعثة التبشير الإنجيليَّة القرويَّة الحرَّة (..!؟) وهي بعثةٌ تبشيريَّة مثل بعثة (يسوع هو الله)، و(الناصري)، و(خبز الحياة).. وغيرها من الجمعيات.
بدأت تعليم الناس الإنجيل وتعاليمه، وأجبرت نفسي على حفظ أجزاءٍ وآياتٍ منه عن ظهر قلبٍ من أجل الدِّفاع عن الدِّين الَّذي كنت أُومن به.
وقد أصبحت فخوراً بنفسي لهذا المنصب الَّذي حظيت به، وكنت غالباً ما أرى أنِّي لا أحتاج إلى أيِّ تعاليم أو نصوص أخرى عدا الإنجيل، ولكن مع ذلك، كان هناك فراغٌ روحيٌّ في داخلي.
صلَّيت، وصُمْت، واجتهدت لإرضاء مشيئة الإله الَّذي كنت أعبده، ولم أكن أجد السعادة إلَّا عندما كنت أتواجد في الكنيسة.. لكن هذا الشعور بالسعادة لم يكن مستمرّاً، وحتى عندما كنت أتواجد مع عائلتي.
ومما زاد في آلامي هذه أنَّ بعض أصدقائي من الرُّهبان ماديُّون، فهم يغمسون أنفسهم في الشهوة الجسديَّة والفساد، والتعطُّش للشهرة.
وعلى الرغم من كلِّ ذلك فقد واصلت مقلدا اعتناقي الدِّين بقوَّة، وذلك لأنني كنت أعرف
قلوب مع محمد (252)
ـ حسب ما تقوله التعاليم ـ بـ (أنَّ الكثيرين يُدْعَوْن، ولكنَّ القليل منهم يُخْتارون)
كنت دوماً أُصلِّي ليسوع المسيح ليغفر لي ذنوبي، وكذلك ذنوبهم، فقد كنت أظنُّ بأنَّه هو الحلُّ لكلِّ مشكلاتي، ولذلك فإنَّه يستطيع الاستجابة لكلِّ دعائي.
مع ذلك ـ وبالنظر إلى حياة زملائي من الرُّهبان ـ لا تستطيع أن تجد بينهم أمثلةً جيّدةً مُقارنةً بالرعيَّة الَّتي يعظونها، وهكذا بدأ إيماني يخفت، وناضلت بصعوبة بالغة على العمل في خدمة الصَّلاة الجماعيَّة.
في أحد الأيام، فكرت في السفر إلى الخارج، وليس ذلك من أجل العمل فقط، بل ـ وأهم من ذلك ـ من أجل نشر اسم يسوع كإله ـ بناء على قناعتي في ذلك الوقت ـ وكان في خطتي الذهاب إمَّا إلى تايوان أو كوريا، إلَّا أنَّ مشيئة الله تعالى كانت في حصولي على تأشيرة عملٍ في بلد مسلم، ووقَّعت في الحال عقداً لمدَّة ثلاثة أعوام للعمل فيه.
بعد أسبوعٍ من وصولي لاحظت أُسلوب الحياة المختلف، كاللغة، والعادات والتقاليد، حتى الطعام الَّذي يأكلونه، فقد كنت جاهلاً تماماً بثقافات الآخرين.
والحمد لله، فقد حدث أن كان لديَّ زميلٌ فلبينيٌّ في المصنع، وهو مسلمٌ يتكلَّم العربيَّة، لذلك -ومع أنِّي كنت متوتِّراً، إلَّا أنِّي حاولت سؤاله عن المسلمين، وعن دينهم ومعتقداتهم. فقد كنت أعتقد بأنَّ المسلمين من عُتاةِ القَتَلة، وأنَّهم يعبدون الشيطان والفراعنة ومحمَّداً كآلهةٍ لهم ـ وحدَّثته عن إيماني بالمسيح، وكردِّ فعلٍ على ذلك أخبرني أنَّ دينه يختلف تماماً عن ديني، واقتبس لي آيتيْن من القرآن الكريم كانهتا المفتاح الأول لإسلامي:
أما الأولى، فمن سورة المائدة، وهي الآية الَّتي جاء فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3)
وأما الثانية، فمن سورة يوسف: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
قلوب مع محمد (253)
لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:40)
لقد أصابتني هاتان الآيتان بصدمةٍ قويَّة.. كانت هي البداية لإسلامي.
بعد ذلك بدأت بملاحظة حياة صاحبي المسلم.. وكلَّ يومٍ كنَّا نتحدث.. كلٌّ منا يتحدث عن دينه، حتى أصبحنا في النِّهاية صديقيْن حميميْن.
وفي إحدى المناسبات ذهبنا إلى البلد لإرسال بعض الرسائل. وهناك حدث أن رأيت جمهرةً من أُناسٍ كثيرين يشاهدون فيلماً لمناظرةٍ لأحد أفضل المبشِّرين لديّ.
وقد أخبرني صديقي المسلم بأنَّ هذا الَّذي أدعوه بأفضل مبشِّرٍ لديّ كان الشيخ أحمد ديدات، وهو داعيةٌ إسلاميٌّ مشهور، فأخبرته بأنَّ رهباننا في الوطن جعلونا نعتقد بأنَّه مبشِّرٌ عظيمٌ فقط؛ وأخفوا عنَّا شخصيَّته الحقيقيَّة بأنَّه داعيةٌ مسلم، ومهما كانت نيَّتهم، فإنَّها بالتأكيد كانت لإبعادنا عن معرفة الحقيقة.
على الرغم ممَّا عرفته، فقد اشتريت أشرطة الفيديو، وبعض الكتب أيضاً لأقرأ عن الإسلام.
وفي مكان إقامتنا، حدَّثني صديقي عن قصص الأنبياء، وكنت حقيقةً مُقتنعاً، لكنَّ كبريائي أبقاني بعيداً عن الإسلام.
وبعد مُضيِّ سبعة أشهر، حضر إليَّ في غرفتي صديقٌ آخر، وهو مسلمٌ من الهند، وأعطاني نسخةً من ترجمة معاني القرآن الكريم بالإنجليزيَّة. وفيما بعد قادني إلى البلد، ثم اصطحبني إلى المركز الإسلاميّ.
هناك قابلت أحد الإخوة الفلبينيِّين؛ ودار بيننا نقاشٌ حول بعض المسائل الدينيَّة، وقام بربط ذلك بمقارنةٍ لحياته قبل الإسلام ـ حين كان مسيحيّاً ـ وبعده؛ ثم شرح لي بعض تعاليم الإسلام.
وفي تلك الليلة المباركة، دخلت الإسلام، وأعلنت دخولي الإسلام بترديد الشهادتين)
سرد لي قصته، ثم قال: كنت سابقاً أتَّبع ديناً أعمى، أمَّا الآن فإنِّي أرى الحقيقة المطلقة، وهي أنَّ الإسلام هو الطريقة الأفضل والكاملة للحياة المصمَّمة لكلِّ البشريَّة.
قلوب مع محمد (254)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الدكتور جاري ميلر) (1)، فسألت الغريب عنه، فقال: قال: هذا (جاري ميلر).. أو كما يحب أن يسمى (عبد الأحد عمر).. وهو كندي الأصل.. وقد كان قسيساً نشيطا يدعو للمسيحية، بالإضافة إلى اهتمامه بالرياضيات.. بل كونه عالما فيها.
وقد كان أول لقاء لي معه أني كنت في ساحة (..!؟) أستمع إليه، وهو يتوجه بخشوع للملتفين حوله يقول لهم: أيها المسلمون، لو أدركتم فضل ما عندكم علي ما عند غيركم لحمدتم الله أن أنبتكم من أصلاب مسلمة ورباكم في محاضن المسلمين وأنشأكم علي هذا الدين العظيم.
ثم أضاف: إن معني النبوة، ومعني الألوهية، ومعني الوحي، ومعنى الرسالة، ومعنى البعث، ومعنى الحساب.. كل تلك المعاني ليست إلا عندكم.. والفرق بين ما عندكم فيها، وما عند غيركم، كالفرق مابين السماء والأرض.
بعدما انتهى من خطابه الذي يفيض من قلب ممتلئ بالخشوع الصادق اقتربت منه لأتنسم سر رائحة الصدق التي نبعت من كلامه.
قال لي: لقد جذبني لهذا الدين وضوح العقيدة، ذلك الوضوح الذي لا أجده في عقيدة سواها.
__________
(1) هو الدكتور جاري ميلر (عبد الأحد عمر) عالمٌ في الرياضيات واللاهوت المسيحيِّ ومُبشِّرٌ سابق، وقد كان الدكتور ميلر في إحدى فترات حياته نشطاً في التبشير المسيحيّ، ولكنَّه بدأ مبكِّراً باكتشاف تناقضاتٍ كثيرةٍ في الإنجيل.
وفي سنة 1978، حصل أن قرأ القرآن الكريم مُتوقِّعاً بأنَّه أيضاً سيحوي خليطاً من الحقيقة والزَّيْف. لكنَّه ذهل باكتشافه أنَّ رسالة القرآن الكريم كانت مُطابقةً لنفس جوهر الحقيقة الَّتي استخلصها من الإنجيل. فدخل الإسلام، ومنذئذ أصبح نشطاً بتقديمه للناس، بما في ذلك استخدام المذياع والبرامج التلفازيَّة. وهو أيضاً مؤلِّفٌ للعديد من المقالات والنشرات الإسلاميَّة، نذكر منها: (ردٌّ موجَزٌ على المسيحيَّة – وجهة نظر المسلم"،و"القرآن العظيم"،و"خواطر حول (براهين) أُلوهيَّة المسيح"،و"أُسُسُ عقيدة المسلم"،و"الفرق بين الإنجيل والقرآن"،و"المسيحيَّة التبشيريَّة – تحليلٌ لمسلم)
قلوب مع محمد (255)
قلت: هذه الجملة.. فما التفاصيل؟
قال: لقد كنت أحب الرياضيات حبا شديدا.. وقد كان سر حبي لها هو حب المنطق أو التسلسل المنطقي للأمور..
قلت: فهل قادتك الرياضيات للإسلام؟
قال: تستطيع أن تقول ذلك.. في يوم من الأيام أردت أن أطبق المنهج المنطقي مع القرآن.. لقد قرأته بحثا عن بعض الأخطاء التي تعزز موقفي عند دعوتي للمسلمين للمسيحية... وكنت أتوقع أن أجد القرآن كأي كتاب بشري تلوح عليه آثار المؤلف، وآثار البيئة التي أبدع فيها.
قلت: فما وجدت؟
قال: وجدت ما بهرني.. لقد وجدت أن القرآن ذلك الكتاب القديم الذي كتب منذ 14 قرنا لا يتكلم عن الصحراء ولا عن البيئة العربية.. بل ولا عن محمد وحياة محمد كشأن الكتاب المقدس عندنا.. بل هو كتاب يحتوي على أشياء لا توجد في أي كتاب آخر في هذا العالم.
كنت أتوقع أن أجد بعض الأحداث العصيبة التي مرت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل وفاة زوجته خديجة أو وفاة بناته وأولاده.. لكني لم أجد شيئا من ذلك.
بل وجدت فوق ذلك.. وهو ما أوقعني في حيرة عظيمة.. أن هناك سورة كاملة في القرآن تسمى سورة مريم، وفيها تشريف لمريم ـ عليها السلام ـ ولا يوجد مثيل لها في كتب المسيحيين ولا في أناجيلهم.. وفي نفس الوقت لم أجد سورة باسم عائشة أو فاطمة.
ومثل ذلك وجدت أن عيسى عليه السلام ذكر بالاسم 25 مرة في القرآن في حين أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر إلا 4 مرات فقط.
ثم أخذت أقرأ القرآن بتمعن أكثر لعلي أجد مأخذا عليه.. لكني لم أجد إلا ما يبهرني:
لقد قرأت مرة قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82)، فملأتني بالحيرة.. فمن المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر
قلوب مع محمد (256)
مبدأ إيجاد الأخطاء أو تقصي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها Falsification test.. والعجيب أن القرآن الكريم يدعوا المسلمين وغير المسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه ولن يجدوا.
ومع كثرة بحوثي ومطالعاتي لم أجد مؤلفا في العالم يمتلك الجرأة، ليؤلف كتابا، ثم يقول عنه (هذا الكتاب خالي من الأخطاء).. ولكن القرآن على العكس تماما لا يقول لك (لا يوجد أخطاء) فقط، بل يعرض عليك أن تجد فيه أخطاء، ولن تجد.
ومن الآيات التي استوقفتني، وبهرتني: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)
لقد وجدت أن هذه الآية هي بالضبط موضوع البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل في عام 1973، وكان عن نظرية الانفجار الكبير، وهي تنص أن الكون الموجود هو نتيجة انفجار ضخم حدث منه الكون بما فيه من سماوات وكواكب.. فالرتق هو الشي المتماسك في حين أن الفتق هو الشيء المتفكك (1)..
ومن الآيات التي استوقفتني قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} (الشعراء)، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل:98)
التفت إلي، وقال: أرأيت.. هل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب.. يؤلف كتابا، ثم يقول قبل أن تقرأ هذا الكتاب يجب عليك أن تتعوذ مني.
إن هذه الآيات من الأمور الإعجازية في هذا الكتاب المعجز.. وفيها رد منطقي لكل من قال بهذه الشبهة.
ومن السور التي استوقفتني سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}
__________
(1) انظر التفاصيل العلمية المرتبطة بهذه الآية في (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (257)
(المسد)
لقد علمت أن هذا الرجل أبا لهب كان يكره الإسلام كرها شديدا، لدرجة أنه كان يتبع محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أينما ذهب ليقلل من قيمة ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. فإذا رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم إلى أناس غرباء، فإنه ينتظر حتى ينتهي الرسول من كلامه ليذهب إليهم ثم يسألهم ماذا قال لكم محمد؟.. لو قال لكم أبيض، فهو أسود، ولو قال لكم ليل فهو نهار.
وقبل 10 سنوات من وفاة أبي لهب نزلت هذه السورة، وهي تقرر أن أبا لهب سوف يذهب إلى النار، أي بمعنى آخر أنه لن يدخل الإسلام.
وخلال عشر سنوات كاملة كل ما كان على أبي لهب أن يفعله هو أن يأتي أمام الناس ويقول: (محمد يقول أني لن أسلموسوف أدخل النار، ولكني أعلن الآن أني أريد أن أدخل في الإسلام وأصبح مسلما.. الآن مارأيكم هل محمد صادق فيما يقول أم لا؟ هل الوحي الذي يأتيه وحي إلهي؟)
لكن أبا لهب لم يفعل ذلك، مع أن كل أفعاله كانت هي مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكنه لم يخالفه في هذا الأمر.
لقد كانت لدية عشر سنوات ليهدم الإسلام بدقيقة واحدة، ولكن لأن هذا الكلام ليس كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم فإن أبا لهب لم يسلم.
كيف لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلم أن أبا لهب سوف يثبت ما في السورة إن لم يكن هذا وحيا من الله؟.. بل كيف يكون واثقا خلال عشر سنوات كاملة أن ما لديه حق لو لم يكن يعلم أنه وحيا من الله؟
لكي يضع شخص هذا التحدي الخطير ليس له إلا معنى واحد هذا وحي من الله (1).
وقد ذكر لي هذا الدكتور الفاضل أن من المعجزات الغيبيبة التي استوقفته، وجعلته يراجع نفسه التحدي القرآني للمستقبل بأشياء لايمكن أن يتنبأ بها الإنسان وهي خاضعة لنفس الاختبار
__________
(1) انظر المزيد من النبوءات الغيبية وتفاصيلها في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (258)
السابق ألا وهو Falsification tests أو مبدأ إيجاد الأخطاء حتى تتبين صحة الشيء المراد اختباره.
فالقرآن ـ مثلا ـ يذكر أن اليهود هم أشد الناس عداوة للمسلمين، وهذا مستمر الى وقتنا الحاضر، فأشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود.
وهذا يعتبر تحديا عظيما، ذلك أن اليهود لديهم الفرصة لهدم الإسلام بأمر بسيط ألا وهو أن يعاملوا المسلمين معاملة طيبة لبضع سنين، ويقولون عندها: (ها نحن نعاملكم معاملة طيبة، والقرآن يقول إننا أشد الناس عداوة لكم، إذن القرآن خطأ!، ولكن هذا لم يحدث خلال 1400 سنة!! ولن يحدث، لأن هذا الكلام نزل من الذي يعلم الغيب وليس كلام إنسان)
التفت إلي، وقال: هل رأيت أن الآية التي تتكلم عن عداوة اليهود للمسلمين تعتبر تحديا للعقول، فالله تعالى يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة:82)
ومن الآيات التي ذكر لي هذا الدكتور الفاضل أنها استوقفته تلك الآيات التي تنبئ عن وحي الله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما في القرآن من الغيوب.. فالله تعالى يقول: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)، ويقول: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49)، ويقول: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف:102)
لقد قال لي الدكتور ميلر بعد أن قرأ علي هذه الآيات: (لا يوجد كتاب مما يسمى بالكتب الدينية المقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، كل الكتب الأخرى عبارة عن مجموعة من المعلومات التي تخبرك من أين أتت هذه المعلومات، على سبيل المثال الكتاب المقدس عندما يناقش قصص
قلوب مع محمد (259)
القدماء فهو يقول لك الملك فلان عاش هنا وهذا القائد قاتل هنا معركة معينة وشخص آخر كان له عدد كذا من الأبناء وأسماءهم فلان وفلان..
والكتاب المقدس دائما يخبرك إذا كنت تريد المزيد من المعلومات يمكنك أن تقرأ الكتاب الفلاني أوالكتاب الفلاني لأن هذه المعلومات أتت منه.
وهذا كله بعكس القرآن الذي يمد القارئ بالمعلومة، ثم يقول: لك هذه معلومة جديدة.. بل ويطلب منك أن تتأكد منها إن كنت مترددا في صحة القرآن بطريقة لا يمكن أن تكون من عقل بشر.. والمذهل في الأمر هو أهل مكة في ذلك الوقت ـ أي وقت نزول هذه الآيات ـ ومرة بعد مرة كانوا يسمعونها ويسمعون التحدي بأن هذه معلومات جديدة لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا قومه،، بالرغم من ذلك لم يقولوا: هذا ليس جديدا بل نحن نعرفه، أبدا لم يحدث أن قالوا مثل ذلك ولم يقولوا: نحن نعلم من أين جاء محمد بهذه المعلومات، أيضا لم يحدث مثل هذا، ولكن الذي حدث أن أحدا لم يجرؤ على تكذيبه أو الرد عليه لأنها فعلا معلومات جديدة كليا، وليست من عقل بشر، ولكنها من الله الذي يعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل)
قلت: أرى أن النبوءات التي ملأتك بالانبهار في القرآن؟
قال: ليست وحدها.. بل كل القرآن بهرني.. كل آية من آياته، بل كل كلمة من كلماته..
أذكر أنه قبل بضع سنوات، وصلتنا قصَّةٌ إلى تورونتو بكندا عن رجلٍ كان بحَّاراً في الأسطول التجاريّ، ويكسب رزقه من عمله في البحر، وقد أعطاه أحد المسلمين ترجمةً لمعاني القرآن الكريم ليقرأها، ولم يكن هذا البحَّار يعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام، لكنَّه كان مهتمّاً بقراءة القرآن الكريم. وعندما أنهى قراءته، حمله وعاد به الى المسلم الَّذي أعطاه إياه، وسأله: (مُحمَّدٌ هذا.. أكان بحَّاراً؟)، فقد كان الرجل مندهشاً من تلك الدِّقَّة الَّتي يصف بها القرآن العاصفة على سطح البحر. وعندما جاءه الردُّ: (لا، في الحقيقة لم يكن. فمحمَّدٌ عاش في الصَّحراء)
لقد كان هذا كافياً له ليُعلن إسلامه على الفور، لقد كان مُتأثِّراً جدّاً بالوصف القرآنيِّ
قلوب مع محمد (260)
للعاصفة البحريَّة، لأنَّه بنفسه كان مرَّةً في خِضَمِّها، وكان لذلك يعلم أنَّه أيّاً من كان الَّذي كتب هذا الوصف، فإنَّه لا بُدَّ وقد عاش هذه العاصفة بنفسه، فالوصف الَّذي جاء في القرآن عن العاصفة لم يكن شيئاً يستطيع أن يكتبه أيُّ كاتبٍ من محض خياله، والموج الَّذي من فوقه موجٌ من فوقه سحاب لم يكن شيئاً يمكن لأحدهم تخيُّله والكتابة عنه، بل إنَّه وصفٌ كتبه من يعرف حقاًّ كيف تبدو العاصفة البحريَّة.
التفت إلي، وقال: هذا مثلٌ واحدٌ على أنَّ القرآن ليس مرتبطاً بزمان أو مكان، ومن المؤكد أنَّ الإشارات العلميَّة الَّتي يُعبِّر عنها لا يمكن أن يكون أصلها من الصَّحراء قبل أربعة عشر قرناً مضت.
لقرونٍ عدَّةٍ قبل ظهور رسالة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، كانت هناك نظريَّةٌ معروفةٌ عن الذرَّة وضعها الفيلسوف اليوناني ديموقريتوس، فهذا الفيلسوف والَّذين جاءوا من بعده افترضوا أنَّ المادَّة تتكوَّن من دقائق صغيرةٍ غير مرئيَّةٍ وغير قابلةٍ للانقسام تسمى الذرَّات. وكان العرب أيضاً قد أَلِفُوا هذا المفهوم، فكانت في الواقع كلمة (ذرَّة) في العربيَّة تعني أصغر جزءٍ كان معروفاً للإنسان.
أمَّا الآن فإنَّ العلم الحديث قد اكتشف بأنَّ هذه الوحدة الأصغر للمادَّة ـ وهي الذرَّة الَّتي تحمل نفس خصائص المادة الَّتي تنتمي إليها ـ يمكن تقسيمها إلى مُكوِّناتها.
وهذه حقيقةٌ جديدةٌ تُعدُّ نتاجاً للتطوُّر في القرن الماضي، فمن المثير جدّاً للاهتمام أنَّ هذه المعلومة كانت قد وُثِّقت فعلاً في القرآن الكريم قبل ذلك بأربعة عشر قرناً، والَّذي يقول الله تعالى فيه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61)
فبلا أدنى شك أنَّ مثل هذا التصريح لم يكن شيئاً مألوفاً حتَّى للعربيِّ في ذلك الوقت، فبالنسبة له كانت الذرَّة هي أصغر شيءٍ موجود، وهذا دليلٌ على أنَّ القرآن لم يعف عليه الزَّمن.
قلوب مع محمد (261)
قلت: أرى لك اهتماما آخر بالإعجاز العلمي الذي يذكر المسلمون بأنه موجود في القرآن؟
قال: أجل.. إنَّ فهم القرآن الكريم بطريقةٍ علميَّةٍ حقيقيَّةٍ ممكنٌ للغاية، وذلك لأنَّ القرآن الكريم يقدِّم شيئاً لا تقدِّمه الكتب السماويَّة الأخرى خاصَّة أو الأديان الأخرى عامَّة. إنَّ في القرآن ما يطلبه العلماء. هناك الكثير في هذه الأيَّام ممَّن لديهم نظريَّاتٍ عن طريقة عمل الكون، إنَّهم في كلِّ مكان من حولنا، لكنَّ مجتمع أهل العلم لا يكلِّف نفسه حتَّى بالاستماع إليهم. وذلك لأنَّ المجتمع العلميَّ -وخلال القرن الماضي- وضع شرطاً لقبول مناقشة النظريَّات الجديدة، وهو ما يُسمَّى (اختبار الزَّيف) فهم يقولون: (إن كانت لديك نظريَّة، فلا تزعجنا بها حتى تحضر لنا مع هذه النظريَّة طريقةً ما تُثبت إن كنت على صوابٍ أم على خطأ)
مثل هذا الاختبار كان بالتأكيد هو السَّبب الَّذي جعل العلماء يستمعون لإينشتاين في مطلع هذا القرن. لقد جاء بنظريَّةٍ جديدةٍ، وقال: (أنا أعتقد بأنَّ الكون يعمل بهذه الطَّريقة، وها هي ثلاث طُرُقٍ لتُثبت إنْ كنت مخطئاً!) بعدئذٍ وضع العلماء نظريَّته تحت الاختبار لمدَّة ستِّ سنوات، فنَجَحَتْ في اجتياز الاختبارات، وبالطُّرق الثَّلاث كلِّها.
طبعاً، هذا لم يثبت أنَّه كان عظيماً، بل أثبت فقط أنَّه يستحقُّ أنْ يُستمع له، لأنَّه قال: (هذه هي نظريَّتي، وإنْ أردتم إثبات أنِّي مخطئٌ فافعلوا هذا أو جرِّبوا ذاك)
وهذا هو بالضَّبط ما يقدِّمه القرآن الكريم.. بعض هذه الاختبارات أصبحت مفروغاً منها حيث إنَّها أثبتت صحَّتها، والبعض الآخر ما زال قائماً إلى يومنا هذا. إنَّ القرآن يشير أساساً إلى أنَّه إذا لم يكن هذا الكتاب هو ما يدَّعيه، فما عليكم إلَّا أن تفعلوا هذا أو ذاك لتثبتوا أنَّه مُزيَّف، وخلال ألفٍ وأربعمائة سنة مرَّت لم يستطع أحد بالطبع أن يفعل هذا أو ذاك فيثبت ذلك، لذلك ما زال يعتبر صحيحاً وأصيلاً.
ولهذا أنا أقترح على من يريد أن يدخل في مناظرةٍ حول الإسلام مع أحد من غير المسلمين ـ الَّذين يدَّعون أنَّ لديهم الحقيقة وأنَّ المسلمين على الباطل ـ أن يضع بدايةً كلَّ الحُجَجِ الأخرى
قلوب مع محمد (262)
جانباً وأن يسأله ما يلي: (هل يوجد أيُّ اختبارٍ للزَّيف في دينك؟ هل يوجد في دينك ما يمكن أن يُبيِّن أنَّكم على خطأ إن استطعت أنا أن أُثبت ذلك؛ هل يوجد أيُّ شيء؟!
التفت إلي، وقال: أستطيع أن أعدك منذ الآن أنَّه لن يكون لدى أيٍّ منهم أيُّ اختبار أو إثبات؛ لا شيء! وذلك لأنَّهم ليس لديهم أدنى فكرةٍ أنَّه يتوجَّب عليهم حين عرضهم ما يؤمنون به على النَّاس أن يقدِّموا لهم الفرصة لإثبات أنهَّم مخطئون إن استطاعوا.
ومع هذا، فإنَّ الإسلام يقدِّم لهم ذلك. ومثالٌ رائعٌ على كيفيَّة تزويد القرآن الكريم الإنسان بفرصةٍ ليتثبَّت من أصالته، وأن (يثبت زيفه) جاء في السُّورة الرابعة. وأقول بصدق أنِّي كنت مندهشاً حين اكتشفت هذا التحدِّي لأوَّل مرَّة: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء 82)
فهذا يمثِّل تحدِّياً واضحاً لغير المسلمين، لأنَّه (وبطريقةٍ غير مباشرة) يدعوهم لإيجاد أيِّ خطأ. وحقَّاً -إن وضعنا الجديَّة أو الصُّعوبة في هذا التحدِّي جانباً- فإنَّ تقديم مثل هذا التحدِّي -في المقام الأوَّل- ليس حتَّى من طبيعة البشر، فهو يتعارض مع تكوين الشخصيَّة البشريَّة. فالإنسان لا يتقدَّم لاختبارٍ في المدرسة، ثمَّ بعد إنهاء الاختبار يكتب ملحوظةً للمُصَحِّحِ يقول فيها: (هذه الإجابات مثاليَّة، ولا يوجد فيها أيُّ خطأ. فجد خطأً واحداً إن استطعت!) فالإنسان ببساطةٍ لا يفعل ذلك. فذاك المعلِّم ما كان ليذوق طعم النَّوم حتى يجد خطأً ما! ومع ذلك فإنَّ هذه هي الطَّريقة الَّتي يصل بها القرآن إلى النَّاس.
سكت قليلا، ثم قال: موقفٌ آخرٌ مثيرٌ للدَّهشة يتكرَّر في القرآن كثيراً، ويتعامل مع نُصح القارئ، فالقرآن يُعْلِمُ القارئ عن حقائق مختلفةٍ ثمَّ يُعطيه النَّصيحة بأنَّه إن كان يريد أن يعرف أكثر عن هذا أو ذاك، أو إن كان يشكُّ فيما قيل، فما عليه عندئذٍ إلَّا أن يسأل أولئك الَّذين يملكون العلم والمعرفة. وهذا موقفٌ مدهش، فمن غير المعتاد أن يُؤلَّف كتابٌ من قِبَلِ إنسانٍ لا يملك أيَّ خلفيَّةٍ جغرافيَّة، أو نباتيَّة، أو أحيائيَّة، ويبحث فيه مثل هذه الموضوعات، وبعدئذٍ ينصح القارئ بأن
قلوب مع محمد (263)
يسأل أهل العلم إن كان في رَيْبٍ من شيء. يقول الله تعالى في القرآن العظيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء 7)
في كلِّ عصرٍ من العصور السابقة ـ وحتَّى الآن ـ كان هناك علماء مسلمون يتتبَّعون إرشادات القرآن، وقد توصَّلوا إلى اكتشافاتٍ مذهلة، فإذا نظر أحدنا إلى أعمال العلماء المسلمين لعصورٍ عديدةٍ مضت، فسيجد أنَّهم كانوا ممتلئين بالاستشهادات القرآنيَّة، فأعمالهم تُبيِّن أنَّهم قاموا بالبحث في مكانٍ ما عن شيءٍ ما، وقد أكَّدوا أنَّ سبب بحثهم في مثل هذا المكان أو ذاك بالذَّات لأنَّ القرآن أرشدهم في ذلك الاتجاه.
فمثلاً يشير القرآن إلى خلق الإنسان، ثمَّ يحثُّ القارئ على البحث في ذلك، فهو يعطي القارئ لمحةً أين يبحث، ويخبره بأنَّه سيجد معلوماتٍ أكثر عن ذلك، وهذه هي نوعيَّة الأشياء الَّتي يبدو أنَّ المسلمين اليوم يبحثونها بتوسُّع.
سأضرب لك مثلا على ذلك.. قبل عدَّة سنوات، قام بعض المسلمين بجمع كلِّ الآيات القرآنيَّة الَّتي تتحدَّث عن علم الأَجِنَّة، وهو العلم الَّذي يدرس مراحل نموِّ الجنين في الرَّحم؛ ثمَّ قالوا: (هذا ما يقوله القرآن الكريم. فهل هو حقّ؟)
في الحقيقة، لقد أخذوا في هذا بنصيحة القرآن الكريم: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل:43).. وحصل أن اختاروا أستاذاً جامعيّاً في علم الأجنَّة من جامعة تورونتو في كندا، ولم يكن مسلماً. هذا الأستاذ يُدعى (كيث موور)، وهو مؤلِّفٌ للعديد من الكتب في علم الأجنَّة، ويُعدُّ من الخبراء العالميِّين المُبرِّزين في هذا المجال، وجَّهوا له الدَّعوة، ثمَّ قالوا له: (هذا ما يقوله القرآن الكريم فيما يخصُّ تخصُّصَكم. فهل هو صحيح؟.. ماذا تستطيع أن تخبرنا عن ذلك؟).. وأثناء إقامته في بلاد المسلمين، قدَّموا له كلَّ المساعدة الَّتي احتاجها في الترجمة وكلَّ العون الَّذي كان يطلبه.
لقد كان مذهولاً جدّاً بما وجد بحيث أنَّه غيَّر بعض النُّصوص في كتبه، فقد قام في الطبعة
قلوب مع محمد (264)
الثانية من (تاريخ علم الأجنَّة) بإضافة بعض المواد الَّتي لم تكن موجودة في الطبعة الأولى، وذلك لما وجده في القرآن الكريم، وحقّاً فإنَّ هذا يُصوِّر بوضوحٍ أن القرآن الكريم سابقٌ لزمانه، وأنَّ أولئك الَّذين يؤمنون به يعرفون ما لا يعرفه الآخرون (1).
ابتسم، ثم قال: لقد كان من دواعي سروري أنِّي أجريت لقاءً تلفازيّاً مع الدكتور كيث موور، وتحدَّثنا مُطوَّلاً حول هذا الموضوع، وكان ذلك بالاستعانة بالصور التوضيحيَّة وغيرها، وقد ذكر بأنَّ بعض الأشياء الَّتي ذكرها القرآن الكريم عن نموِّ الإنسان لم تكن معروفةً إلى ما قبل ثلاثين عاماً، لقد ذكر في الواقع موضوعاً مُعيَّناً بشكل خاص، وهو وصف القرآن الكريم للإنسان بالعلقة في إحدى مراحل نموِّه، وأنَّ هذا الوصف كان جديداً بالنسبة إليه، ولكنَّه عندما تفحَّص الأمر وجده حقيقة، وهكذا أضافه إلى كتابه. لقد قال: (لم يخطر ببالي ذلك أبداً من قبل)، ولهذا فقد ذهب إلى قسم علم الحيوان وطلب صورةً للعلقة، وعندما وجد أنَّها تشبه الجنين تماماً في هذه المرحلة من النموّ، قرَّر أن يضع الصورتين في أحد كتبه (صورة الجنين وصورة العلقة).
بعد ذلك قام الدكتور موور أيضاً بتأليف كتابٍ عن علم الأجنَّة السريريِّ، وعندما نشر هذه المعلومات في تورونتو سبَّبت ضجَّةً كبيرةً في كلِّ أنحاء كندا.
لقد كانت في بعض الصُّحف على الصَّفحات الأولى وفي جميع أنحاء كندا، وبعض العناوين الرئيسيَّة كانت شديدة الطَّرافة. فمثلاً، كان أحد العناوين الرئيسيَّة يقول: (شيءٌ مدهشٌ وُجِدَ في كتابٍ قديم!)
ويبدو واضحاً من هذا المثل أنَّ النَّاس لم يفهموا بوضوحٍ حول ماذا كانت كلُّ تلك الضجَّة، وأحد الأمور الَّتي حدثت حقّاً أنَّ أحد الصحفيين سأل الدكتور موور: (ألا تعتقد أنَّ العرب ربَّما كانوا يعرفون هذه المعلومات عن هذه الأشياء، أي عن وصف الجنين، وعن شكله وكيف يتغيَّر وينمو؟ فربَّما لم يكن هناك علماء، ولكنَّهم ربَّما قاموا بشيءٍ من التشريح الوحشيِّ على طريقتهم –
__________
(1) انظر التفاصيل العلمية المرتبطة بهذا، وبأقوال هذا الدكتور في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
قلوب مع محمد (265)
أي قاموا بتقطيع النَّاس وتفحُّص هذه الأشياء)
فأشار له الدكتور على الفور بأنَّه نسي شيئاً في غاية الأهميَّة، وهو أنَّ كلَّ صور الجنين الَّتي عُرضت في الفيلم قد جاءت من صورٍ أُخِذت عن طريق المجهر؛ وأضاف قائلاً: (ليست المسألة هي إنْ كان أحد النَّاس قد حاول اكتشاف علم الأجنَّة قبل أربعة عشر قرناً مضت، ولكنَّها في أنَّه لو حاول ذلك فإنَّه لم يكن باستطاعته رؤية شيءٍ على الإطلاق!)
فكلُّ ما يصفه القرآن الكريم عن شكل الجنين هو عندما يكون صغيراً جدّاً ولا يُرى بالعين المجرَّدة، لذا فالمرء بحاجةٍ إلى مجهرٍ ليرى ذلك، إلَّا أنَّ مثل هذه الآلة لم تُكتشف إلَّا قبل أكثر من مائتي عامٍ بقليل.
وأضاف الدكتور موور ساخراً: (ربَّما كان لدى أحدهم ـ قبل أربعة عشر قرناً مضت ـ مجهراً سرِّيّاً، فقام بعمل هذه الأبحاث، ولم يرتكب أثناء ذلك أيَّ خطأٍ يُذكر، ثمَّ علَّم محمَّداً ذلك بطريقةٍ ما، وأقنعه بأن يضع هذه المعلومات في كتابه؛ وبعدئذٍ حطَّم مجهره، واحتفظ بسرِّه للأبد.. فهل أنت تصدِّق ذلك؟! يجب عليك حقّاً ألَّا تفعل، حتَّى تحضر دليلاً للإثبات، لأنَّ مثل هذه النظريَّة ما هي إلَّا سخافة!)
وعندما سُئِل الدكتور موور: (كيف تفسِّر إذاً وجود مثل هذه المعلومات في القرآن؟) كان ردُّه: (لم يكن هذا ممكناً إلَّا بوحيٍ من الله)
ومع أنَّ هذا المثل عن بحث الإنسان عن معلوماتٍ مُحتواةٍ في القرآن الكريم قام به عالمٌ غير مسلم، إلَّا أنَّه يعتبر صحيحاً، وذلك لأنَّ هذا الرَّجل واحدٌ من أهل الذِّكر في هذا المجال، فلو ادَّعى شخصٌ عاديٌّ بأنَّ ما يقوله القرآن حول علم الأجنَّة صحيح، لما كان لزاماً علينا قبول كلامه.
على أيَّة حال فإنَّ المركز المرموق والاحترام والتقدير الَّذي يكنُّه المرء للعلماء تجعل الإنسان يفترض تلقائيّاً صحَّة النتائج الَّتي يتوصَّلون اليها نتيجة البحث في موضوعٍ ما.
قلوب مع محمد (266)
وهذا ما دفع أحد زملاء الدكتور موور ـ يُدْعى مارشال جونسون، ويعمل بشكلٍ مُكثَّفٍ في مجال علم الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) في جامعة تورونتو ـ لكي يصبح مُهتمّاً جدّاً بالقرآن الكريم، لأنَّ الحقائق الَّتي ذكرها عن علم الأجنَّة كانت دقيقة، ولذلك سأل المسلمين أن يجمعوا له كلَّ شيءٍ في القرآن الكريم ممَّا له علاقة بتخصُّصه، ومرَّةً أخرى كان النَّاس مندهشين جدّاً من النتائج.
التفت إلي، وقال: إنَّ عدداً كبيراً من الموضوعات مذكورٌ في القرآن الكريم، ممَّا يتطلَّب بالتأكيد وقتاً طويلاً لتفصيل كلِّ موضوعٍ على حدة، فيكفي من أجل الهدف من هذا النِّقاش أن أقول بأنَّ القرآن الكريم يضع تصريحاتٍ واضحةٍ ودقيقةٍ حول موضوعاتٍ متنوِّعةٍ، وأثناء ذلك ينصح القارئ بالتثبُّت من صحَّتها بالبحث عند العلماء، وكلُّ ما صُوِّر في القرآن أثبت صحَّته بوضوح.
سكت قليلا، ثم قال: هناك أمرٌ في القرآن الكريم لا نجده في أيِّ كتابٍ آخر!
قلت: ما هو؟
قال: من المثير للاهتمام أنَّ القرآن الكريم حين يزوِّد القارئ بالمعلومات، فإنَّه كثيراً ما يخبره بأنَّه لم يكن يعلم ذلك من قبل.
اسمع قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء:113).. واسمع قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151)
وطبعاً لا يوجد أيُّ كتابٍ مقدَّسٍ يقوم بتقديم مثل هذا الزَّعم، فكلُّ الكتب المقدَّسة والمخطوطات القديمة الَّتي يملكها النَّاس تحوي بالفعل معلوماتٍ كثيرة، ولكنَّها تذكر دوماً من
قلوب مع محمد (267)
أين جاءت تلك المعلومات.
فمثلاً، عندما يناقش الإنجيل التاريخ القديم، فإنَّه يذكر بأنَّ هذا الملك عاش في المنطقة الفلانيَّة، وأنَّ ذاك خاض المعركة الفلانيَّة، وأنَّ الآخر كان له أبناء كثيرون.
وهو دائماً ينصُّ على أنَّك إنْ أردت الحصول على المزيد من المعلومات، فما عليك إلَّا أن تقرأ الكتاب الفلاني أو العلَّاني، لأنَّه من هناك جاءت المعلومات. وباختلافٍ كبيرٍ عن هذا الأسلوب، فإنَّ القرآن الكريم يزوِّد القارئ بالمعلومات، ثمَّ يقول له إنَّ هذه المعلومات شيءٌ جديدٌ لم يكن يعرفه أحدٌ حين نزوله.
وطبعاً كان هناك دائماً دعوةٌ للبحث في هذه المعلومات، للتأكُّد من صحَّتها وأصالتها (إنَّها وحيٌ من الله تعالى).
ومن المثير للدَّهشة أنَّ مثل هذا الطَّرْح لم يستطع أبداً أنْ يتحدَّاه أحدٌ من غير المسلمين قبل أربعة عشر قرناً مضت، فالواقع أنَّ أهل مكَّة الَّذين كانوا يكرهون المسلمين كرهاً شديداً، وكانوا يستمعون لهذا الوحي المرَّة تلو المرَّة وهو يدَّعي بأنَّ ما يسمعونه شيءٌ جديدٌ لم يعرفوه من قبل، لم يستطع أحدٌ منهم أن يرفع صوته قائلاً: (لا، ليس هذا بجديد. فنحن نعلم من أين جاء محمَّدٌ بهذه المعلومات، فقد تعلَّمناها في المدرسة)
إنَّهم لم يستطيعوا أبداً تحدِّي أصالة القرآن الكريم، لأنَّه فِعْلاً كان شيئاً جديداً.
سكت قليلا، وكأنه يسترجع ذكرياته، ثم قال: في إحدى المرَّات جاءني رجلٌ بعد أن أنهيت محاضرةً ألقيتها في جنوب إفريقيا، لقد كان غاضباً جدّاً لما قلتهُ، ولذلك ادَّعى قائلاً: (سأذهب إلى بيتي الليلة ولا بُدَّ أن أجد خطأً ما في القرآن)، فأجبته طبعاً: (أُهنِّئُك. فهذا هو الشيء الأكثر ذكاءً فيما قلته)
بالتأكيد، هذا هو الموقف الَّذي يجب أن يتَّخذه المسلمون مع أولئك الَّذين يشكُّون في أصالة القرآن الكريم، لأنَّ القرآن الكريم نفسه يُقدِّم هذا التحدِّي، فحتماً بعد القبول بهذا التحدِّي،
قلوب مع محمد (268)
والاكتشاف بأنَّ القرآن حقّ، فإنَّهم سيؤمنون به لأنَّهم لم يستطيعوا أن يجرِّدوه من صحَّته؛ بل سيكتسب احترامهم لأنَّهم تأكَّدوا من أصالته بأنفسهم.
والحقيقة الأساسيَّة الَّتي يجب أن تُكرَّر كثيراً بخصوص التثبّت من أصالة القرآن الكريم، هي أنَّ عدم قدرة أحدهم على توضيح أيِّ ظاهرةٍ بنفسه لا يلزمه بقبول وجود هذه الظاهرة، أو قبول تفسير شخصٍ آخر لها.
وهذا يعني أنَّ عدم قدرة الإنسان على تفسير شيءٍ ما لا يعني أنَّه يجب بالضرورة أن يقبل بتفسير الآخرين. ومع ذلك فإنَّ رفض الإنسان لتفسير الآخرين يعود بالعبء عليه نفسه ليجد جواباً مُقْنِعاً. هذه النظريَّة العامَّة تنطبق على العديد من المفاهيم في الحياة، ولكنَّها تتناسب بشكلٍ كبيرٍ مع التحدِّي القرآني، لأنَّها تشكِّل صعوبةً كبيرةً لمن يقول: (أنا لا أومن بالقرآن)، ففي اللحظة الَّتي يرفضه فيها، يجد الإنسان نفسه ملزماً بأن يجد التفسير لذلك بنفسه، لأنَّه يشعر بأنَّ تفسيرات الآخرين ليست صحيحة.
في الحقيقة، وخاصَّةً في إحدى الآيات القرآنيَّة الَّتي اعتدت أن أرى أنَّها تُرجمت خطأً إلى الإنجليزيَّة، يذكر الله تعالى رجلاً كان يسمع آيات الله تتلى عليه، إلاَّ أنَّه كان يغادر دون أن يتفحص حقيقة ما سمع، أي أنَّ الإنسان ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ مذنبٌ إذا سمع شيئاً ولم يبحثه أو يتفحَّصه ليرى إن كان صحيحاً.
وهذا جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان:7)
فالإنسان يُفترض منه أن يُعْمِل عقله بكلِّ المعلومات الَّتي ترده، وأن يقرِّر ما هو الهراء منها ليُلْقِيه بعيداً، وما هو المفيد ليحتفظ به ويستفيد منه فيما بعد. فلا يستطيع المرء أن يترك الأمور على اختلاف أنواعها تزدحم في ذهنه هكذا فقط. بل يجب أن توضع الأمور في فئاتها المناسبة وأن تُفهم حسب ذلك.
قلوب مع محمد (269)
فمثلاً، إذا كانت المعلومات ما تزال في حاجةٍ إلى تأمُّلٍ، فعندئذٍ يجب أن يُميِّز المرء إن كانت أقرب إلى الصواب، أم هي إلى الخطأ أقرب. ولكن إذا كانت كلُّ الحقائق قد عُرِضَت، فإنَّه عندئذٍ يجب عليه أن يُقرِّر تماماً بين هذين الأمرين. وحتَّى عندما لا يكون المرء إيجابياًّ بخصوص أصالة المعلومة، إلاَّ أنَّه ما زال مطلوباً منه أن يُعْمِل عقله في كلِّ المعلومات ليعترف بأنَّه فقط لا يعرف ذلك على وجه الدقَّة.
ومع أنَّ هذه النقطة الأخيرة تبدو وكأنَّها غير ذات قيمةٍ واقعياًّ، إلاَّ أنَّها مفيدةٌ للوصول إلى نتيجةٍ إيجابيَّةٍ فيما بعد، وذلك لأنَّها تُرغم المرء على الأقلِّ بأن يتعرَّف ويبحث ويعيد النظر في الحقائق. وهذا التآلف مع المعلومات سيزوِّد الإنسان بالحد الفاصل عندما تتمُّ الاكتشافات المستقبليَّة وتُعرض معلوماتٌ إضافيَّة، فالشيء المهمُّ هو أن يتعامل المرء مع الحقائق، لا أن ينبذها ـ هكذا وببساطة ـ وراء ظهره بدافع العاطفة أو اللامبالاة.
سكت قليلا، ثم قال: اليقين الحقيقيُّ بخصوص صحَّة القرآن الكريم واضحٌ من خلال الثِّقة الَّتي تُهَيْمِنُ خلال آياته، وهي الثَّقة الَّتي تأتي بطريقةٍ مختلفة، ألا وهي (استنزاف البدائل)، فالقرآن الكريم أساساً يؤكِّد أنَّه وحيٌ يوحى، فإن كان هناك من لا يصدِّق ذلك، فليثبت له مصدراً آخر! وهذا هو التحدِّي.
لدينا هنا كتابٌ مصنوعٌ من الورق والحبر، فمن أين أتى؟ وهو يقول أنَّه وحيٌ إلهي؛ فإن لم يكن كذلك، فما هو مصدره؟ والحقيقة المثيرة هي أنَّه لا يوجد أحدٌ على الإطلاق لديه تفسيرٌ يصلح ليناقض ما جاء في القرآن الكريم.
في الواقع، لقد تمَّ استنزاف كلِّ البدائل، وحيث أنَّ هذا الفكر قد أُسِّس من قِبَلِ غير المسلمين فقد اختزلت هذه البدائل لتصبح مقصورةً على مدرستين فكريَّتيْن تبادليّاً، مُصرِّين في ذلك على إحداهما أو على الأخرى. فمن ناحيةٍ توجد مجموعةٌ كبيرةٌ من الَّذين بحثوا في القرآن الكريم لمئات السنين والَّذين يدَّعون قائلين: (نحن متأكِّدون من شيءٍ واحد، وهو أن ذلك الرَّجل محمَّداً كان
قلوب مع محمد (270)
يتوهَّم أنَّه نبي.. فقد كان مجنوناً)، فهم مقتنعون بأنَّ محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان مخدوعاً بطريقةٍ ما.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ هناك مجموعة أخرى تدَّعي: (بوجود هذا الدَّليل (الجنون)، فإنَّنا يقيناً نعرف شيئاً واحداً، وهو أنَّ ذلك الرَّجل محمَّداً كان كاذباً)
وما هو مدعاةٌ للسخرية أنَّ هاتين المجموعتين لا يبدو أبداً أنَّهما تجتمعان دون تناقض، وفي الواقع، فإنَّ العديد من المراجع الَّتي كُتبت عن الإسلام عادةً تدَّعي النظريَّتين معاً. فهم يبدأون بالقول بأنَّ محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان مجنوناً، وينتهون بأنَّه كان كاذباً.
ويبدو أنَّهم لا يدركون أبداً بأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بالإمكان أن يكون الاثنين معاً! لكنَّ الكثير من المراجع في العادة تذكر هذيْن الأمريْن معاً.
فمثلاً، إذا جُنَّ أحد النَّاس وظنَّ حقاًّ أنَّه نبيّ، فإنَّه لن يقضي الليل بطوله مُخطِّطاً: (كيف سأخدع النَّاس غداً ليظنُّوا أنِّي نبيّ؟)، فلأنَّه يؤمن فعلاً بأنَّه نبيّ، هو واثقٌ بأنَّ الإجابة على أيِّ تساؤلٍ ستأتيه عن طريق الوحي.
وفي واقع الأمر، فإنَّ جزءاً كبيراً من القرآن الكريم نزل على شكل ردود على تساؤلات، فكان أحدهم يسأل رسول الله محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم سؤالاً، فينزل الوحي بالإجابة. ومؤكَّدٌ أنَّ أحد النَّاس إن كان مجنوناً ويعتقد بأنَّ ملاكاً سوف يلقي الإجابة في أُذُنه، فإنَّه عندئذ حين يسأله أحد النَّاس سؤالاً سيظنُّ بأنَّ ملاكاً سيأتيه بالإجابة. فلأنَّه مجنون، هو حقّاً سيظنُّ ذلك. ولن يطلب من السائل الانتظار بُرهةً، ثم يذهب إلى أصحابه ليسألهم: (هل يعرف أيٌّ منكم الإجابة؟) فهذا النَّوع من السُّلوك هو ميزةٌ لغير المؤمن بأنَّه نبي.
ما يرفض قبوله غير المسلمين هو أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يكون الاثنين معاً، فهو إمَّا أن يكون متوهِّماً وإمَّا كاذباً. وبطريقةٍ أخرى، فهو إمَّا أن يكون واحداً منهما أو لا يكون كلاهما؛ وقطعاً لا يمكنه أن يكون الاثنين معاً! ويجب التأكيد هنا على حقيقة أنَّ هاتين الصفتين ـ بديهيّاً ـ هما سمتان شخصيّتان تبادليَّتان.. أي حيث توجد إحداهما فلا وجود للأخرى.
قلوب مع محمد (271)
التفت إلي، وقال: سأذكر لك حوارا يمثل هذه الحلقة المفرغة الَّتي يدور فيها غير المسلمين بشكلٍ دائم. فإذا سألت أحدهم: (ما هو مصدر القرآن الكريم؟)، فإنَّه سيجيبك بأنَّ مصدره هو عقل رجلٍ كان مصاباً بالجنون، وعندئذ تسأله: (إن كان قد جاء به من رأسه، فمن أين حصل على المعلومات المحتواة فيه؟ فمن المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم يذكر أشياء كثيرة لم يكن العرب يعرفونها)، ولكي يستطيع أن يفسر الحقيقة الَّتي قدَّمتها له فإنَّه سيغيِّر موقفه ويقول: (حسناً، ربَّما لم يكن مجنوناً، بل ربَّما كان بعض الأعاجم يعطونه تلك المعلومات، وهكذا كذب على النَّاس وأخبرهم بأنَّه كان نبيّاً)
وعند هذه النقطة يجب أن تسأله: (إذا كان محمدٌ كاذباً، فمن أين حصل على ثقته بنفسه؟ ولماذا كان يتصرَّف وكأنَّه كان نبيّاً فِعلاً؟)
وفي النِّهاية ـ وعندما يكون قد حُشر في الزاوية ـ فإنَّه كالقطَّة سيندفع فجأةً وبسرعةٍ بأوَّل ردٍّ يخطر على باله ـ ومتناسياً أنَّه قبل ذلك استثنى ذاك الاحتمال ـ ليدَّعي: (حسناً، ربَّما لم يكن كاذباً. ربَّما كان مجنوناً وحقّاً كان يعتقد أنَّه نبيّ)، وهكذا يبدأ دورانه في الحلقة المفرغة من جديد.
لقد ذكر القرآن الكريم هذا، واعتبره من أساليب الكفار في جحد الحقائق، فالله تعالى يقول: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} (الدخان)
سكت قليلا، وكأنه يسترجع ذكرياته مع أمثال هؤلاء الجاحدين الذين ملأوا الدنيا بالشبهات الجوفاء، ثم قال: قبل سبع سنواتٍ تقريباً، زارني أحد الرُّهبان في بيتي، وفي تلك الحجرة الَّتي كنَّا نجلس فيها كان هناك قرآنٌ على الطاولة ووجهه إلى الأسفل، فلم يعرف الرَّاهب أيّ كتابٍ هو.
وفي منتصف نقاشنا، أشرت إلى الكتاب قائلاً: (أنا لديَّ الثِّقة بهذا الكتاب)، فأجاب ناظراً إلى القرآن الكريم من غير أن يعرف ما هو: (حسناً، وأنا أقول لك بأنَّه إن كان ذلك الكتاب ليس
قلوب مع محمد (272)
الإنجيل، فقد أُلِّف من قِبَلِ الإنسان)، فكان ردِّي عليه: (دعني أُحدِّثك شيئاً عمَّا جاء في هذا الكتاب)، وخلال ثلاثٍ أو أربع دقائق فقط ذكرت له ما يتعلَّق ببعض الأمور الموجودة في القرآن الكريم.
وبعد تلك الثَّلاث أو الأربع دقائق فقط غيَّر موقفه تماماً وقال: (أنت على حقّ، فالإنسان لم يؤلِّف هذا الكتاب، بل الشيطان هو الَّذي ألَّفه!)
طبعاً، اتِّخاذ مثل هذا الموقف هو غايةٌ في سوء الطَّالع، وذلك لأسبابٍ عدَّة، منها أنَّه عُذْرٌ مُتسرِّعٌ ورخيصٌ كمَخْرَجٍ فوريٍّ من ذلك الوضع المزعج.
وفيما يتعلَّق بهذا الأمر، هناك قصَّةٌ مشهورةٌ في الإنجيل تذكر كيف أنَّ بعض اليهود في أحد الأيَّام كانوا شهوداً حين أقام يسوع رجلاً من الموت، كان ذلك الرَّجل ميتاً لأربعة أيَّام، وعندما وصل يسوع، قال ببساطة: (انهض)، فقام الرَّجل ومشى في طريقه. وحين رأوا هذا المشهد، قال بعض الشُّهود من اليهود مُنْكِرِيْن: (هذا هو الشيطان. الشيطان هو الَّذي ساعده)
وهذه القصَّة تُكرَّر الآن كثيراً في الكنائس في جميع أنحاء العالم، والنَّاس يذرفون دموعاً غزيرةً لسماعها قائلين: (آه، لو كنت هناك، فما كنت لأكون غبيّاً مثل اليهود!)، ويا للسخرية، فمع هذا فإنَّ هؤلاء النَّاس يفعلون ما فعله اليهود تماماً حين تعرض عليهم ـ في ثلاثٍ أو أربع دقائق ـ جزءًا صغيراً فقط من القرآن الكريم؛ وكلُّ ما يستطيعون قوله هو: (آه، الشيطان فعل ذلك.. الشيطان هو الَّذي ألَّف هذا الكتاب!) لأنَّهم حقّاً يكونون قد حُشِروا في الزَّاوية؛ وحين لا يملكون أيَّ إجابةٍ مقبولة، فإنَّهم يلتجئون إلى أسرع وأرخص حُجَّةٍ مُتاحةٍ لهم.
ومثلٌ آخرٌ على استخدام النَّاس لهذا الموقف الضَّعيف يمكن إيجاده في تفسير كفَّار مكَّة لمصدر رسالة محمَّدٍ صلى الله عليه