×

الكتاب: ثمار من شجرة النبوة

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1437 هـ

عدد الصفحات: 514

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34448-7

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

تجري أحداث هذه الرواية بين مبشر مسيحي - هو بطل الرواية، وهو الذي أسلم بعد ذلك، وحكى قصته للمؤلف - ومجموعة من المستشرقين المنصفين الكبار الذين بهرتهم القيم العظيمة التي جاء بها الإسلام، فشهدوا شهادات صادقة كانت أحسن رد على شهادات المجحفين والمناوئين من المبشرين والمستشرقين والمستغربين.

وتدور أحداث الرواية في جامعة السربون وما حولها.. وفيها مقارنات كثيرة بين كل ثمرة جاء بها الإسلام من خلال مصادره المقدسة، والثمار التي جاءت بها سائر الأديان والمذاهب السماوية أو الوضعية.

ثمار من شجرة النبوة (8)

المقدمة

تنطلق هذه الرواية من مقولة للمسيح عليه السلام في إنجيل متى (15:7 - 17) يقول فيها: (احترزوا من الأنبياء الكذبة، يأتونكم بثياب الحملان الوديعة، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة.. من ثمارهم تعرفونهم، هل تجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية)

ولذلك هي تخاطب بالدرجة الأولى من يجمعون بين الإيمان بهذه المقولة، وبين جحود رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك أنه يستحيل على رجل أمي في بيئة بدوية بعيدة عن كل منتجات الحضارة أن يخرج دينا ممتلئا بالقيم وبكل معاني الخلاص التي كانت تنتظرها البشرية، ولا زالت تتعطش إليها.

وهي تخاطب كذلك كل صاحب عقل سليم، ليجري مقارنة شاملة بين الثمار التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والثمار التي تفتخر بها سائر الأديان.. ليخرج من تلك المقارنة - على الأقل - بأن هذا الدين يحتاج إلى مزيد بحث وتأمل، وأنه لا يصح أن يستعجل العاقل في الحكم عليه ابتداء.

وبناء على هذا الهدف كانت أحداث هذه الرواية.. والتي تجري بين مبشر مسيحي - هو بطل الرواية، وهو الذي أسلم بعد ذلك، وحكى قصته للمؤلف – ومجموعة من المستشرقين المنصفين الكبار الذين بهرتهم القيم العظيمة التي جاء بها الإسلام، فشهدوا شهادات صادقة كانت أحسن رد على شهادات المجحفين والمناوئين من المبشرين والمستشرقين والمستغربين.

وتدور أحداث الرواية في جامعة السربون وما حولها.. وفيها مقارنات كثيرة بين كل ثمرة جاء بها الإسلام من خلال مصادره المقدسة، والثمار التي جاءت بها سائر الأديان والمذاهب السماوية أو الوضعية.

ثمار من شجرة النبوة (9)

وهي تقر في نفس الوقت بالتخلف الذي حصل للمسلمين، والانحرافات التي شوهتهم، وشوهت دينهم.. ولكنها في نفس الوقت تقر بأن بذور الخير لا تزال في هذه الأمة ما دامت مصادرها المقدسة محفوظة.. ولذلك يمكنها أن تسترد حقيقتها، وأن تعود لأداء دورها الرسالي الذي كلفت به.

ومن أهداف الرواية أيضا إخراج القارئ من تلك التعميمات المجحفة التي ترمي جميع المستشرقين بالعمالة وعدم العلمية والنوايا الخبيثة.. بل هي تصنفهم بحسب أعمالهم وأفكارهم.. فمنهم المنصفون.. كالأبطال العشرة لهذه الرواية.. ومنهم غيرهم، والذين لم نهتم في الرواية بذكر أسمائهم.. لأن هدفنا منها هو بيان الثمار العظيمة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي لم تر البشرية ثمارا مثلها في تاريخها الطويل.

وقد قسمناها – كأخواتها من الروايات – إلى عشرة فصول.. كل فصل منها يتناول ثمرة من الثمار:

وهي تبدأ بثمرة الخلاص التي جاء بها الإسلام لينقذ البشرية من الانهيارات التي مرت بها، وكادت تقضي عليها..

ثم بثمرة صمود هذا الدين ومصادره المقدسة رغم الحروب الكثيرة التي شنت عليه.

ثم بثمرة القيم الأخلاقية التي جاء بها، لا كمعان نظرية فقط، بل كتشريعات عملية لا يزال صدى الكثير منها موجودا في الواقع الإسلامي رغم انحرافه.

ثم بثمرة إنسانية الإسلام، وحفاظه على حقيقة الإنسان، وحقوقه مقارنة بغيره من الأديان والمذاهب.

ثم بثمرة روحانيته وتطلعه إلى المعارف السامية المرتبطة بحقائق الوجود الكبرى.

ثم بثمرة سلامه الشامل للكون والإنسان والحياة.

ثم بثمرة النظام العادل الذي دعا إليه..

ثمار من شجرة النبوة (10)

ثم بثمرة العلوم التي جاء بها، ودعا إليها، ووضع المنهج المثالي للتوصل إليها.

ثم بثمرة الفنون والجماليات التي شجع عليها.

ثم بثمرة الحضارة التي تحافظ على رفاه الإنسان، وفي نفس الوقت تحافظ على إنسانيته.

هذه هي الفصول العشرة التي تتشكل منها الرواية، وفي كل فصل منها يلتقي بطل الرواية مستشرقا من المسشترقين ليبرهين له على كل واحد منها.

وهي – كما تحاول أن تغرس الأمل في قلوب المؤمنين بهذا الدين – إلا أنها تحذرهم من الاغترار بمجرد الانتساب إليه.. فهذا الدين هو القيم التي جاء بها.. ولا يمثله إلا من امتلأ بتلك القيم، وسار بها في الناس.. أما من شوهها، فلا يصدق عليه سوى قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]، وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169]

وأحب أن أذكر في الأخير أن هذه الطبعة الجديدة تتميز باختصارها مقارنة بالطبعة السابقة، فقد حذفت الكثير من التفاصيل التي قد تجهد القارئ العادي في فهمها أو الاستفادة منها.

ثمار من شجرة النبوة (11)

البداية

لا أخفي عليكم أني كنت ـ قبل أن أسمع الحكاية التي سأحكيها لكم ـ أحمل مستنقعا من العقد التي نشرتها في نفسي أوهام النقص التي كنت أحملها، والتي لم يستطع ذلك الإيمان الوراثي أن ينزعها مني.

لقد كنت أنظر بأسف إلى الأمة الإسلامية التي تمثل أعظم رسول في الدنيا، وأكمل رسالة نزلت إلى الأرض، نظرة ممتلئة بالازدراء والاحتقار.

فهي أمة متخلفة في جميع الميادين.. بينما غيرها يتقدم في جميع الميادين:

هي متخلفة في السياسة، تحاول أن تقلد حرية الغرب وديمقراطيته، ولكنها لا تستطيع أن تتخلى عن مواريث الاستبداد التي تملكتها، فلذلك تنشئ ديمقراطيات مشوهة تحفظ لها استبدادها وقمعها وتسلطها وقوانين الطوارئ التي ظلت تفرضها منذ ولد الملك العضوض.

وهي متخلفة اقتصاديا.. بل ليس هناك في العالم من هو متخلف مثلها في هذا الميدان.. لقد من الله عليها بثروات يسيل لها لعاب العالم، وبمواقع استراتيجية تحسد عليها، ولكنها تأبى إلا أن تسلم جميع ثرواتها ـ مقابل متاع زهيد ـ لمن يكيلونها أصناف العذاب، بل هي تقيم المسابقات بينهم، فمن كان أكثر عداوة لها، كان أكثر تنعما بخيراتها.

وهي متخلفة اجتماعيا، لا تزال تنخر فيها العنصريات التي جاء الإسلام ليقمعها، ومعها الأعراف البائدة التي وجدت من فتاوى الفقهاء من يبررها، بل يجد لها من الأسانيد الواهية ما يحولها أصلا من الأصول، وشريعة من الشرائع.

ثمار من شجرة النبوة (12)

وهي متخلفة فوق ذلك دينيا.. لا تزال الفرقة تشتت شملها.. ولا يزال التعصب للرجال يشغلها عن نبيها.. ولا يزال الاهتمام بالجزئيات والحرفيات والطقوس يشغلها عن كليات هذا الدين ومقاصده وحقائقه.

والخطر الأكبر من ذلك كله هو جهلها بتخلفها، أو حبها لتخلفها:

فساستها يناوئون كل إبداع، ويفرضون عليه من قوانين الطوارئ، ما يجعل من بلادنا جميعا معتقلا كبيرا، أو سجنا عريضا، أو زنزانة ضخمة لا يتنعم بعذابها إلا المبدعون الصادقون.

والكثير من فقهائها أو المشهور منهم يقف مع ساستها ليبرر تصرفاتهم، فهم ظل الله في أرضه، والله يؤتي ملكه من يشاء، ومن لم يطع سلطان الأرض لم ينل سلطان السماء.

أما عامتهم، فهمهم أن تملأ بطونهم، فهم لا يهتمون بشيء كما يهتمون بأصناف الغذاء، وكتب الطبخ، وموائد الولائم.. فإن انصرف اهتمامهم للدين لم يجدوا إلا الرقاة، ومفسري الأحلام، والمتشبثين بالخرافة والشعوذة.

هذه هي النظرة التي كنت أنظر بها إلى الأمة.. وكنت أتألم بسببها، وأحيانا أصيح مع ذلك الشاعر الذي كان يردد بألم قائلا: (هذه الأمة ماتت والسلام) (1)

كانت تراودني ذلك الصباح ـ كما كانت تراودني كل حين ـ هذه الخواطر..

__________

(1)  من قصيدة للشاعر أحمد مطر بعنوان (عملاء)، يقول فيها:

الملايين على الجوع تنام، وعلى الخوف تنام، وعلى الصمت تنام، والملايين التي تصرف من جيب النيام، تتهاوى فوقهم سيل بنادق، ومشانق، وقرارات اتهام، كلما نادوا بتقطيع ذراعي كل سارق، وبتوفير الطعام.

عرضنا يهتك فوق الطرقات، وحماة العرض أولاد حرام، نهضوا بعد السبات، يبسطون البسط الحمراء من فيض دمانا، تحت أقدام السلام.

أرضنا تصغر عاما بعد عام، وحماة الأرض أبناء السماء، عملاء، لا بهم زلزلة الأرض ولا في وجههم قطرة ماء، كلما ضاقت الأرض، أفادونا بتوسيع الكلام، حول جدوى القرفصاء، وأبادوا بعضنا من أجل تخفيف الزحام.

آه لو يجدي الكلام.. آه لو يجدي الكلام.. آه لو يجدي الكلام.. هذه الأمة ماتت والسلام.

ثمار من شجرة النبوة (13)

وكيف لا تراودني، وأنا أتغذى عليها في اليوم عشر مرات.. ففي كل نشرة أخبار لا أسمع إلا أخبار قومي الذين ينتشرون من المشرق إلى المغرب.. وفي كل نشرة أخبار لا يقتل إلا قومي، ولا يقهر إلا قومي، ولا يموت من الجوع إلا قومي.

ولست الوحيد في تلك الآلام.. بل كل من أراه كان يتألم ألمي.. ومنهم من كان يود أن ينسلخ من جلده، ليتحول فرنسيا أو إنجليزيا أو ألمانيا.. فإذا لم يطق ذلك حاول أن يلوي لسانه لينطق بما حفظه من الأفلام الأجنبية، ثم يلبس ما رآه من ألبستها، ويسير في الشوراع كما يسيرون، ويصفر ويصفق كما يصفرون، وكما يصفقون.

في ذلك الصباح.. وبذلك العقل المتألم، وبتلك النفس المملوءة خجلا، سمعت طرق الباب.. فرحت أهرع إليه لأفتحه.. وبمجرد فتحه دخل رجل غريب ممتلئ بالأنوار، قاصدا البيت الذي تعود أن يزورني فيه الغرباء، وكأن له به معرفة، وكأنه معي على ميعاد.

دخل مسرعا، وخلع حذاءه، ثم استلقى على قفاه، وراح يقول:: هيا أسرع بالفطور.. فالجوع يعصر بطني.. لم أصل إليك إلا بمشقة وعسر.

تعجبت من هذا الغريب الذي لم يستأذن.. لكني رجوت أن يكون مثل من سبقه من الغرباء الذين ملأوا قلبي بالأشعة الجميلة من شمسه صلى الله عليه وآله وسلم.

لذلك أسرعت إلى المطبخ أبحث له عن الطعام الذي طلبه.. لكني لم أجد إلا حبات تمر، وكوب لبن، وكسرة خبز.. فرحت أقدمها له، وجبيني يتقطر حياء، وأنا أقول له: اعذرني.. فهذا ما تعودنا على أكله، فأرجو أن تتحمل حياتنا البسيطة، فنحن لا نزال نعيش الحياة البدائية.

اعتدل في جلسته، ثم ابتسم، وقال: أليست هذه هي الحياة التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟.. ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل التمر، ويشرب اللبن، ويأكل مثل هذه الكسر التي تأكلونها؟

قلت: بلى.. ولكن الحياة تطورت الآن، وللأسف، فقد تخلف قومي عنها.. تخلفوا بأميال كثيرة، وسنوات طويلة، وقد استبد بهم اليأس، فتوقفوا عن السير، واكتفوا بالتفرج على السائرين.

ثمار من شجرة النبوة (14)

قال: ومن هم السائرون الذين وقف قومك يتفرجون عليهم؟

قلت: أولئك الذين يسكنون وراء البحار.. أليسوا هم رواد الحضارة وأساتذتها؟

أليسوا هم الذي اخترعوا جميع قيم الحياة الجميلة، وما تحتاجه الحياة الجميلة؟

فهم الذين اخترعوا التلفزيون والحواسيب والشبكات العنكبوتية.. وهم الذين اخترعوا الطائرات والسيارات والقطارات وجميع وسائل النقل.. وهم الذين صمموا الأنبية الضخمة وناطحات السحاب.. وهم الذين اكتشفوا أعماق البحار، وقمم الجبال، بل راحوا إلى الأفلاك من حولهم يزورونها ويقيمون العلاقات معها.

قال: تقصد قومي؟

قلت: أأنت منهم.. أجئتني من وراء البحار؟

قال: نعم.. وأنا أعرفهم جيدا.. وأعرف الحياة التي يعيشونها..

قلت: إن حياتهم المميزة تجعلنا نشعر بالعقد الكثيرة.

قال: الحياة ليست ذلك فقط.. الحياة أعمق من ذلك بكثير.. ولو تأملت حياة كثير من الحيوانات لوجدت لديها من الاختراعات ما يوازي بالنسبة لها جميع ما صنعه من ذكرت، وراحوا يفخرون على العالم بصنعه.

قلت: وحق لهم أن يفخروا.

قال: بم يفخر المساكين؟

قلت: بما نراه من اختراعات واكتشافات..

تنفس الصعداء، ثم قال: نعم هم الذين اخترعوا التلفزيون.. لكنهم لم يجدوا ما يملأونه به، فراحوا ـ بعقولهم المملوءة بالشهوات ـ يجعلونه ماخورا من مواخير الرذيلة، وحانة من حانات الفساد.

وهم الذين أنشأوا الشبكات العنكبوتية التي تحول العالم قرية صغيرة تربط بين أطراف

ثمار من شجرة النبوة (15)

الأرض.. ولكن المساكين لم يجدوا إلا أن يعمقوا بهذه الشبكات ما سبق للتلفزيون والفيديو البدء به.

وهم الذين اخترعوا جميع وسائل النقل.. ولكنهم ملأوا الأرض بسببها تلوثا، وملأوا الطرقات جثثا.

وهم الذين اخترعوا الأشياء الكثيرة.. ولكنهم لم يأخذوا من الأشياء إلا ذلك الجانب المظلم منها..

شرد ذهنه قليلا، كأنه ينظر إلى شيء مجهول لا أراه، ثم قال: ولم لا تذكر ما فعله قومي بالعباد والبلاد من أنواع الفساد؟

هل يستطيع أحد في الدنيا أن يعد من قتله قومي في قرن واحد؟

وهل يستطيع أحد في الدنيا أن يعرف مقدار الدمار الذي تختزنه أنواع الأسلحة المخبأة في سراديب الأرض، وأعماق المحيطات؟

وهل يستطيع أحد في الدنيا أن يسأل ذرات الجو، وقطرات المياه، وحبيبات التربة، وأنواع الحيوانات عن الجرائم التي ارتكبها قومي في حقها، والتي لم يسمع بها أحد، ولم يرها أحد؟

نعم.. ربما يكون قومي هم الذي أنشأوا هذه الأشياء الكثيرة التي تراها جميلة.. ولكنهم هم.. هم أنفسهم.. الذين أنشأوا بسببها من الدمار أضعاف ما يوازي منافعها.

قلت: أنت تريد أن تجرد قومك من كل مكرمة.

قاطعني بحزن قائلا: لأنه ليس لديهم أي مكرمة.. لقد بحثت في بطون التواريخ، فلم أجد في تواريخهم غير سفك الدماء، واللعب بالأعراض، والتجارة بالإنسان.

قلت: فقومي مثل قومك إذن.. وأنت تختزن من عقد النقص ما أختزنه!؟

قال: وضعكم مختلف تماما.. لقد أتيح لكم أن تعيشوا تحت ظلال شجرة النبوة، وقد أمدتكم تلك الشجرة المباركة بثمارها اليانعة، فلذلك لم تجوعوا جوعنا، ولم تظمأوا ظمأنا، ولم

ثمار من شجرة النبوة (16)

تحرقكم أشعة الشمس التي أحرقتنا، ولم تلهب شهواتكم شياطين الشهوات التي ابتلعتنا.

قلت: ولكننا متخلفون.

قال: ولولا تلك الشجرة لكنتم معدومون..

ثم استأنف قائلا: نعم أنتم متخلفون.. ولكن ليس عن قومي، وإنما عن نبيكم، وعن الصالحين الذين تربوا على يديه، وشربوا من منبعه..

أما قومي، فلا حرج عليكم أن تتخلفوا عنهم، لأنكم إن لحقتموهم لم تجدوا إلا السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، فإذا جاءه لم يجده شيئا.

هكذا قومي.. يلهثون وراء السراب.. ويظلون يلهثون، ثم لا يجدون الماء العذب الذي يسقيهم، ويبل السغب الذي يحرق أجوافهم.. لأن الماء لديكم أنتم.. أنتم وحدكم في هذه الأرض الذين تملكون الماء العذب الذي يروي كل عطش.

قلت: ولكننا عطشى مثلكم.. ونحن الذين ننحني أمام قومك ليسقونا.

قال: تلك غفلة دبت إليكم.. وهي من الجرائم التي ارتكبها قومي نحوكم.

قلت: وما علاقة قومك بذلك؟.. أراك تنسب إليهم كل فساد.

قال: منذ اليوم الأول الذي نبتت فيه شجرة النبوة، وقومي يحاولون استئصالها، فلما لم يطيقوا حاولوا شنق الثمار التي تنتجها.

قلت: لست أفهم سر شجرة النبوة التي تتحدث عنها، وعلاقة قومي وقومك بها.

قال: كنت مثلك أجهل هذه الشجرة.. ولا أعرف قيمتها إلى أن هداني الله إليها، فعرفتها، وعرفت المعاول التي توجهت لتقطعها، والنيران التي توجهت لتحرقها.

قلت: فهل ستحدثني حديثها؟

قال: أجل.. فلم أعاني المشقات في رحلتي إليك إلا لأحدثك حديثها.. فهات قلمك ودواتك وقراطيسك لأحكيها لك.

ثمار من شجرة النبوة (17)

-\--\-

بعد أن أكمل الغريب فطوره، وحمد الله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ممتلئا خشوعا، رمى ببصره إلى الأفق البعيد، ثم قال:

في ذلك اليوم من أيام الشتاء الباردة سرت إلى مدينة تمتلئ بالحضارة والثقافة والعلوم، لأذهب إلى جامعة من جامعاتها التي اشتهرت بتخريج المستشرقين.

قلت: لا شك أنك تقصد باريس، وتقصد جامعة السربون.

قال: أجل.. لقد كنت حينها ممتلئا إعجابا بما أنشأه قومي من حضارة، كانت روحي تسجد أمام كل عمارة، وتتمسح بكل جسر، وتصافح كل تمثال، وتقبل كل لوحة.

لقد كنت أنظر إلى الأشياء الكثيرة التي أمامي، فلا أرى فيها غير الجمال.. الجمال الذي يصيح بكل ألوان العذوبة.

لست أدري كيف خطر على بالي أن أذهب إلى برج إيفل، وفي الحديقة التي تحيط به جلست على كرسي أتأمل ذلك الجمال الذي ينطق به هذا البرج.

خطر على بالي حينها صاحبك معلم السلام.. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل رأى هذا البرج؟.. وهل رأى قبله ثمار الحضارة التي تنعمنا ـ معشر أهل الغرب ـ بها؟

ما استتم هذا الخاطر في ذهني حتى التفت إلى جانبي، فإذا به يجلس بجانبي يحدق إليه كما أحدق، ولكني لم أر في وجهه من الانبهار ما رأيت في وجهي.

صافحته بحرارة قائلا: ها نحن نلتقي أخيرا في باريس.. كيف خطر على بالك أن تأتي إلى هذا الموضع؟

قال: لقد أردت أن أرى بعض ثمار الشجرة التي أسست هذه الحضارة؟

قلت: إنها ثمار يانعة ممتلئة طيبة.. أم أنك تخالفني في ذلك؟

قال: لا أخالفك.. ولا أوافقك.. أحيانا قد تكون الثمار يانعة، طيبة المذاق، حلوة الرائحة،

ثمار من شجرة النبوة (18)

جميلة المنظر، ولكنها تختزن السم الزعاف.

قلت: ما الذي تقوله؟

قال: ألست ترى القتلة المجرمين إذا دسوا سما دسوه في أطيب الأطعمة وألذها؟

قلت: أجل.. حتى تغري الآكلين بأكلها.

قال: فإذا أكلوها سقتهم الموت؟

قلت: ذلك عندما يكون الطعام سما.

قال: كل طعام قد يكون سما، وقد يختزن سما.

قلت: لا يزال الشك الذي اعتراك في الكتاب المقدس يعتريك في الطعام أيضا.

قال: لقد ذكرت لك أني لا أتيقن حتى أشك، ولا أطمئن حتى أضطرب.

قلت: لقد سمعت بأسوار الكلمات المقدسة التي تضع في القلب اليقين بمصدرها الإلهي.. فهل هناك أسوار للثمار الطيبة تفرق بينها وبين الثمار الخبيثة.

قال: أجل.. وسأضرب لك مثالا يوضح لك هذه الأسوار، ويقربها لعقلك:

أرأيت لو أن بك مرضا يمنع جسدك من ثمار معينة، فراح بعض الناس يغريك بكل صنوف الإغراء لتأكلها، ويتفنن في تزيينها لك بكل ما أتيح له من قدرات التزيين.. هل ترى هذا ناصحا لك؟

قلت: هذا لا يريد إلا قتلي.. ولكنه لم يرد أن يلطخ يداه بقتلي، فراح يقتلني بيدي، وببطني، ويستعمل ما ملئت به نفسي من شهوات ليسقيها السم الزعاف.. إن هذا مجرم لا ناصح.

قال: ولكن الناس عندما يرونه لا يرونه إلا ناصحا متملقا في نصحه.

قلت: هم لا يرون ما أرى.. ولا يعيشون ما أعيش.

قال: فهذا هو الحصن الأول للثمار الطيبة.

قلت: لم أفهم..

ثمار من شجرة النبوة (19)

قال: الثمار الطيبة ثمار تناسب الإنسان، وكأنها صنعت خصيصا من أجل الإنسان، وأول ما تبحث عنه هذه الثمار هو مصلحة الإنسان.

قلت: فما الحصن الثاني؟

قال: أرأيت لو جلست في قاعة امتحان يرتبط بها مصيرك.. مصيرك العلمي، ومصيرك الوظيفي.. فجاء بعض الناس، وشغلك بثمار كثيرة بهيجة المنظر حلوة المذاق، تصيح بكل لسان، وتدعوك بكل أسلوب، فانشغلت بها عن امتحانك.. أترى من قدمها لك ناصحا؟

قلت: كلا.. فهذا لا يختلف عن ذاك.. كلاهما لا يريد إلا هلاكي.

قال: ولكنك لن تموت بأكل هذه الثمرة الأخيرة.

قلت: ولكني سأحيا حياة أشبه بالموت.

قال: فهذا هو الحصن الثاني.

قلت: لم أفهم ما ترمي إليه.

قال: كل ثمرة تبعدك عن الوظائف التي أنيطت بها حياتك، أو الرسائل التي كلفت بتبليغها ثمرة سامة، وإن بدت لك حلوة، هي كالشيطان الذي يتزين بكل صنوف الزينة ليجذبك إليه.

قلت: فهل هناك حصون أخرى؟

قال: لا.. هناك حصنان فقط.. بهما تعرف طيبة الثمار من خبثها.

قلت: فهل طبقت هذا على ما أنتجته حضارتنا؟

قال: أجل.. ولكني للأسف.. لم أجد بعد جهد مضن إلا الثمار الخبيثة، وقلما أظفر بثمرة طيبة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: انظر إلى كل من حولك بعين الحقائق لا بعين الشهوات، وسترى ما لم تكن ترى،

ثمار من شجرة النبوة (20)

وتسمع ما لم تكن تسمع.

التفت لأرى ما لم أكن أرى، وأسمع ما لم أكن أسمع.. فإذا به يبتعد عني من غير أن أشعر.

أسرعت إليه، وقلت: إلى أين تذهب، وتدعني!؟

قال: أنا أبحث عن الثمار الطيبة لأكتشف من خلالها الشجرة الطيبة.

قلت: فإذا عرفت الشجرة الطيبة، فما يغنيك معرفتك لها؟

قال: أبحث عمن زرعها.

قلت: فإذا عرفته؟

قال: إذا عرفته جعلته إمامي الذي به أأتم، وقدوتي التي بها أقتدي، ولم أتناول ثمرا إلا من يديه.

-\--\-

بعد أن تركني وسار، حاولت أن أقترب أكثر من تلك الجموع لأرى ما لم أكن أرى، وأسمع ما لم أكن أسمع، فرأيت، وسمعت ما ملأ نفسي بالغثاء..

لقد تخيلت نفسي في حضيرة حيوانات لا هم لها إلا العلف الذي تعلفه، والحياة البهيمية التي لا تعيش إلا من أجلها..

-\--\-

عند باب جامعة السربون، رأيت رجلا لاح لي من مظهره أنه رجل دين، بل يظهر من مظهره أن له مكانة في الكنيسة، ولكني تعجبت منه إذ رأيته يرمي صليبه الذي كان يطوق رقبته، ويرتمي على الأرض ساجدا، يبلل الأرض بدموعه.

اقتربت منه لأسمع ما يقول، واقترب جمع من الناس نحوه كما اقتربت.

كانت الدموع تحول دون فهم الجمع لما يقول، فلذا تصوروه مجنونا، فانصرفوا عنه، أما أنا، فقد وعيت كل كلمة نطق بها.

ثمار من شجرة النبوة (21)

لقد كان يردد ما قاله المسيح في إنجيل متى (15:7 - 17): (احترزوا من الأنبياء الكذبة يأتونكم بثياب الحملان الوديعة، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة.. من ثمارهم تعرفونهم، هل تجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية)

عندما قام من سجوده، اقتربت منه، وحييته، وقلت: لقد رأيتك تفعل عجبا حيرني.. أنت تسجد سجود المسلمين، ثم تقرأ في سجودك إنجيلنا نحن المسيحيين، فهل أنت مسلم أم مسيحي؟

قال: أنا مسلم مسيحي.. أو مسيحي مسلم..

قلت: لا يمكن أن تخلط بين الأديان، فالمسلمون لا يقبلون مسيحيا يظل على مسيحيته، والمسيحيون لا يقبلون مسلما يظل على إسلامه.

قال: لقد كنت مسيحيا خالصا، بل مسيحيا متعصبا.. ولكني الآن تحولت إلى المسيحية الحقيقية التي جاء المسيح يبشر بها.

قلت: فما هي هذه المسيحية؟.. وكيف وصلت إليها؟

قال: لقد ظللت سنة في هذه الجامعة.. أستمع من علمائها: الصديق منهم والعدو.. ورحت أقارن كل ما أسمعه عن الإسلام بما في سائر الأديان والمذاهب والأفكار.. وقد كانت خلاصتي تفكيري ما رأيته الآن..

ثم التفت إلي، وقال: لقد كنت سائرا الآن لألقي موعظة في حفل من الناس دعوني لأذكر لهم ثمرات المسيحية في الدين والحياة.. وكنت أحمل الكتاب المقدس.. وأقلب طرفي في ذلك السور المنيع الذي وصفه المسيح للنبوة الصادقة.

قلت: تقصد سور الثمرات.

قال: أجل.. من أراد أن يعرف النبي الصادق من الكاذب، فلينظر إلى تعاليمه، وإلى ثمار

ثمار من شجرة النبوة (22)

تعاليمه؟

قلت: فهل وجدت في ثمار محمد ما دلك على صدق نبوته؟

قال: أجل..

قلت: فما وجدت؟

قال: لا يمكنني أن أعبر لك عن كل ما وجدت.. لقد طبقت قول المسيح: (لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارا جيدة، كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار، فإذن من ثمارهم تعرفونهم) (متى: 18:7 - 20) على جميع ما أعرفه من المذاهب والأديان، فلم أجد شجرة طيبة إلا شجرة محمد..

فما عرفت ذلك حتى سجدت.. ورحت أترنم بالنص المقدس الذي سمعته من المسيح.. والذي جعله الله سبب هدايتي.

قال ذلك، ثم استمر سائرا من غير أن يسألني عني، قلت له: إلى أين؟

قال: لقد تأخرت.. والجماعة تنتظرني.

قلت: لكنك قد غيرت رأيك.

قال: بل صححت رأيي.. إن أعظم ثمرة للمسيح هي دلالتنا على محمد.. ولذلك.. فإن كل ثمرات محمد ثمرات للمسيح.

هؤلاء كلهم أنبياء.. ولا أحد منهم ينازع الآخر، أو يصارعه.. الصراع لا تجده إلا عندنا..

قال ذلك ثم انصرف.. والبسمة تملأ محياه.

-\--\-

بعد هذه المواقف التي كانت توجهني وجهة واحدة.. وكأنها تحثني على الاستعداد العقلي والنفسي لتلقي هذا النوع من الأشعة.. ذهبت إلى جامعة السربون، وهناك طلبت مقابلة مدير الجامعة، الذي رحب بي غاية الترحيب.. ثم دار بيننا هذا الحوار الذي حاول من خلاله أن يبين

ثمار من شجرة النبوة (23)

لي الوظيفة التي تنتظرني في هذه الجامعة.

قال: لقد تعودت أن أستقبل كل من ترسله الكنيسة بنفسي..

قلت: لم تكلف نفسك هذا مع كثرة أشغالك؟

قال: بالإضافة إلى احترامي العظيم للكنيسة ورجال الكنيسة، هناك سببان يدعواني لهذا الاهتمام:

أما أولهما، فلأن ما أقوله لرجال الدين الذين يشرفون مكتبي هذا يكاد يكون سرا لا ينبغي أن يسمع به أحد.

وأما الثاني، فلأني لا أجد فيمن أراهم معي من يحملون العزيمة التي أحملها، والتي تجعلهم يبلغون الرسالة كما ينبغي.

قلت: فكلي آذان صاغية، فحدثني عن الرسالة التي تريد أن تبلغني إياها.

قال: قبل أن أحدثك عن تلك الرسالة.. والتي جعلتنا نطلبك، أو نطلب بالأحرى من له من القدرات العلمية واللغوية ما لك.. أريد أن أحدثك عن علاقة هذه الجامعة بالدين.. أو بالأحرى علاقة التبشير بالاستشراق.

هذه الجامعة ـ كما تعلم ـ جامعة تهتم بالدراسات الشرقية، أو بالخصوص الدراسات المهتمة بالإسلام.. وهي تحمل في الظاهر لواء العلمية والموضوعية، ولكنها في نفس الوقت تحمل نفس اللواء الذي يحمله المبشرون..

التفت إلي مبتسما، وقال: أنتم تبشرون بالمسيح، ونحن نقرب المسلمين لكم لتبشروهم بالمسيح.. فنحن نقوم بعمل متكامل.

قام من مجلسه، وقال: ربما لم تفهمني جيدا، وربما فهمتني فهما خاطئا، ولذلك سأوضح لك أكثر.

في البداية.. لم يكن هناك استشراق..

ثمار من شجرة النبوة (24)

ابتسمت، وقلت: في البداية لم يكن أي شيء.. ليس الاستشراق وحده.

نظر إلي، وقال: لم تفهمني.. لم أقصد ما فهمته.. حاول أن تركز معي.

ركزت معه كما طلب مني.

كان يحاول أن يقول أشياء كثيرة، وكنت أشعر أنه كان يستحي من ذكرها، ولكنه كان مضطرا لقولها، فلذلك كان يبدوا مضطربا ينحرف ذات اليمين وذات الشمال ليعبر عما يريد أن يوصله لي، وهو مع كل ذلك ينظر إلى وجهي بدقة ليحدد مدى استيعابي لما يقوله.

قال: أقصد أن الاستشراق لم يبدأ من هذه الجامعة.. ولا من أي جامعة من جامعات الدنيا.

قلت: فمن أين بدأ؟

قال: من الكنيسة.. لقد كانت البداية الرسمية للاستشراق من الكنيسة.

نظرت إليه متعجبا، فقال: لا تتعجب.. لقد بدأ الاستشراق من مجمع فينا الكنسي سنة 1312 من ميلاد المسيح، فقد أوصى هذا المجمع بإنشاء عدة كراسي للغات، ومنها اللغة العربية، ولا سيما التشريع الحادي عشر الذي قضى فيه البابا (إكليمنس الخامس) بتأسيس كراسي لتدريس العبرية واليونانية والعربية والسريانية والآرامية في الجامعات الرئيسية (1).

وكانت هذه التوصية قائمة على دعوة (ريموند لول) (2) لإنشاء كراسي للغة العربية في

__________

(1)  إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، قم: دار الكتاب الإسلامي، 1984 م - ص 328.

(2)  ريموند لول (1235 - 1316 م)، إسباني، كان دومينيكيا ثم تحول إلى الفرنسيسكانية، وهو من جزيزة ميورقة، تبنى فكرة السيطرة على الشرق بالتبشير لا بالحروب، ووضع خطة لذلك، وسعى إلى إنشاء مدرسة ميرامار للمنصرين، ثم تواصلت محاولاته لإنشاء مدارس تنصيرية أخرى، ومارس التبشير في شمال إفريقية، وبها توفي، وكان وراء قرار مجمع فينا الكنسي المشهور سنة 1311 - 1312 م، الذي قضى بإنشاء كراسي للغات، ومنها اللغة العربية، من آثاره: رواية تنصيرية، وكتاب المنطق في الحوار مع الكفرة (انظر: عبد الجليل شلبي: الإرساليات التبشيرية: ص 151 - 156)

ثمار من شجرة النبوة (25)

أماكن مختلفة، لقد كان هدفه واضحا من تلك الدعوة..

لقد كان الهدف تبشيريا محضا، ولم يكن له علاقة بالدراسات العلمية المجردة.

نظر إلي ليرى تأثير ما يقوله على وجهي، فلما رآني منصتا مستغرقا في الإنصات أتاح له ذلك حرية الكلام، فقال: منذ ذلك الحين نال الاستشراق رعاية الكنيسة ومباركتها.. وخاصة عندما فشلت الحروب العسكرية من خلال انحسار المد الصليبي بعد جهود قرنين من الزمان.

ولهذا اتجهت الكنيسة الغربية إلى التبشير من خلال الفكر والثقافة والعلم.. فكان التوجه إلى الحرب الفكرية، لتحقق ما فشل فيه سلاح الغزو الحربي.

لقد كان الهدف من هذه الدعوة هو أن تؤتي محاولات التبشير ثمارها بنجاح من خلال تعلم لغات المسلمين، وقد عبر عن هذه الثمار في دعوة (لول) بارتداد العرب إلى المسيحية من الإسلام، كما كان (غريغوري العاشر) يأمل في ارتداد المغول إلى المسيحية، وقبله كان (الإخوة الفرنسيسكان) قد توغلوا في أعماق آسيا يدفعهم حماسهم التبشيري، ومع أن آمالهم لم تتحقق في وقتها إلا أن الروح التبشيرية قد تنامت منذئذ.

وهذا يعني بتعبير أوضح (إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي) (1)

سكت قليلا، ثم استأنف قائلا: لقد انتظم الاستشراق في الفاتيكان، وانتشر واستمر على أيدي البابوات والأساقفة والرهبان، فكان رجال الدين، ومجمعهم الفاتيكان يومئذ، يؤلفون الطبقة المتعلمة في أوربا، ولا سبيل إلى إرساء نهضتها إلا على أساس من التراث الإنساني الذي تمثلته الثقافة العربية، فتعلموا العربية، ثم اليونانية، ثم اللغات الشرقية للنفوذ منها إليه.

نظر إلي وتمعن في تأثير كلماته علي، ثم قال: مما يدلك على الصلة العظيمة بين الاستشراق

__________

(1)  محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ط 2، القاهرة: دار المنار، 1409 هـ - 1989 م - ص 35.

ثمار من شجرة النبوة (26)

والتبشير أنه كان هناك فئة مهمة من المستشرقين لم تتورع عن قبول اللقب الديني، أو الرتبة الدينية.. فمنهم (الأب).. ومنهم (الأسقف).. ومنهم (البطريرك).. ومنهم (المطران)

سأضرب لك بعض النماذج عن هؤلاء:

لاشك أنك تعرف الأب آسين بلاثيوس (1871 - 1944 م) الإسباني، ذلك الرجل الذي اشتهر بدراسة حركة التفاعل الثقافي بين الإسلام والمسيحية، والذي كتب عن (مذهب ابن رشد، ولاهوت توما الإكويني)، وعني بـ (محيي الدين بن عربي)، وأجرى (مقارنة بين ابن عباد الرندي ويوحنا الصليبي)، وصنف في (الغزالي والمسيحية)، وكتب في (الآثار الإنجيلية في الأدب الديني الإسلامي) (1)

لقد حاول كل جهده أن يلبس الإسلام ثوب المسيحية، وقد نجح في ذلك، ولا تزال آثاره تتداول.. أتدري من كان؟.. لقد كان أبا مسيحيا.. كان رجل دين قبل أن يكون رجل استشراق.

ومثله الأب أبوجي (1819 - 1895 م) الفرنسي، لقد كان من الرهبان اليسوعيين (2)، وقد صنف كتبا دينية ومدرسية، لقد جمع هذا الرجل الفاضل بين الوظيفتين: وظيفته الدينية ووظيفته العلمية، بل استخدم الوظيفة العلمية في خدمة وظيفته الدينية.

ومثلهما نعمة الله أبو كرم (1851 - 1931 م)، لقد كان من مستشرقي المدرسة المارونية بلبنان، نصب مطرانا، وكان قد تخرج من جامعة القديس يوسف ببيروت، وعاون في تحرير مجلة البشير، ثم عين رئيسا للمدرسة المارونية في رومة، ومستشارا في المجمع الشرقي، ومن آثاره: قسطاس الأحكام في القانون مع مقارنته بما يقابله في الشرع الإسلامي.

ومثلهم الأب يوسف الأشقر (ق 18 م)، لقد كان من مستشرقي المدرسة المارونية بلبنان،

__________

(1)  عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين: 121.

(2)  اليسوعيون أو الجزويت من الجماعات التبشيرية النشطة، ومؤسسها هو القديس إجناتياس لويولا (1491 - 1559 م)، وكان جنديا إسبانيا، وهي لا تتبع مذهبا معينا، لكنها تعد من المبشرين، انظر: طلال عتريسي: البعثات اليسوعية مهمة إعداد النخبة السياسية في لبنان، دراسة تاريخية وثائقية، بيروت: الوكالة العالمية للتوزيع، 1987 م، ص 28 - 34.

ثمار من شجرة النبوة (27)

ترجم إلى الفرنسية من العربية والسريانية كتبا كثيرة أشهرها سلسلة تواريخ بطاركة الموارنة الأنطاكيين، وقد اعتمد عليه (لي كيين) في كتابه الشرق المسيحي.

كان هناك غيرهم ممن لا يحمل هذه الألقاب.. ولكنه مع ذلك لم يتتلمذ إلا في المدارس اللاهوتية المسيحية أو اليهودية:

منهم أرنست رينان (1823 ـ 1892)، الذي تلقى تعليمه في المدارس اللاهوتية، وتعلم العربية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وزار المشرق وعاش بلبنان فترة من الزمن، واهتم بالعقيدة الإسلامية.

لاشك أنك تعرف موقفه المشهور من العقل السامي، وأنه لا يصلح لدراسة العلم (1).

ومنهم جورج سيل (1697 - 1736) الذي ولد في لندن، والتحق بالتعليم اللاهوتي.. لقد كان من أبرز أعماله ترجمته لمعاني القرآن التي قدم لها بمقدمة احتوت على كثير من الشبهات الجادة (2).

ومنهم وليام ميور (1819 - 1905).. لقد كان مستشرقا ومبشّرا وموظفا إداريا.. وهو إنجليزي، تعلم العربية في أثناء عمله في الهند واهتم بالتاريخ الإسلامي شارك في أعمال جمعية تنصيرية في الهند.

وقد ألف كتاباً يناصر الجهود التنصيرية بعنوان (شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية).. ومن أهم مؤلفاته كتابه في سيرة محمد في أربعة مجلدات، وكتابه حول الخلافة، كما

__________

(1)  وقد ردّ عليه كل من جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية)

(2)  ومع ذلك يقول عبد الرحمن بدوي عن ترجمته: (ترجمة سيل واضحة ومحكمة معاً، ولهذا راجت رواجاً عظيماً طوال القرن الثامن عشر إذ عنها ترجم القرآن إلى الألمانية عام 1746)، ويقول في موضع آخر: (وكان سيل منصفاً للإسلام برئياً رغم تدينه المسيحي من تعصب المبشرين المسيحيين وأحكامهم السابقة الزائفة) (عبد الرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. (بيروت: دار العلم للملايين) 1984.ص 252).

ثمار من شجرة النبوة (28)

ألف كتاباً حول القرآن بعنوان (القرآن تأليفه وتعاليمه) (1)

وغيرهم كثير..

قلت: فأنت ترى إذن بأن التبشير هو الأصل الحقيقي للاستشراق؟

قال: أجل.. وليس العكس كما يذهب أغلب الباحثين.

قلت: ولكن الاستشراق ليس خاصا بالمسيحيين، فهناك مستشرقون يهود وعلمانيون.. بل وملحدون (2).

قال: بورك كل أولئك المستشرقين.. ولا يهمنا من يكونون ما دمنا نتفق على نفس الهدف..

قلت: أتبارك الملحدين واللادينيين؟

قال: لم أباركهم أنا.. أنتم الذين باركتموهم.. الكنيسة هي التي تبارك كل من يقف في وجه الإسلام.. ولا يهمها من يكون، ولا ما يرتدي.

قلت: سمعت كل ما ذكرته، وفهمته، ولكني لم أع الرسالة التي تريد أن تبلغني إياها من خلال هذا الكلام.

قال: اصبر علي.. فليس من عادتي أن أملي على أحد ما يفعل.. عادتي مع جميع من ينتمي لهذه الجامعة أن أقنعه، وأبعث فيه الهمة، ثم أترك له الأسلوب الذي يراه مناسبا لتحقيق القناعة التي أوصلته إليها.

ليس ذلك مع من ينتمي لهذه الجامعة فقط.. أنا أمارس هذا الأسلوب مع أولادي..

__________

(1)  وقد تولى ميور منصب مدير جامعة أدنبره في الفترة من عام 1885 حتى عام 1903. انظر: عبد الرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. (بيروت: دار العلم للملايين)

(2)  من المعلوم أنه ليس كل المستشرقين ينتمون إلى المسيحية، ففيهم المستشرقون اليهود الذين خدموا اليهودية من خلال دراساتهم الاستشراقية، كما أن فيهم الملحدين الذين خدموا الإلحاد من خلال اهتمامهم بالمنطقة العربية والإسلامية، ومحاولاتهم نشر الإلحاد في هذه البقاع بديلا عن الإسلام، ومنهم العلمانيون، فهناك انتساب واضح إلى العلمانية عند فئة من المستشرقين، كما أن هناك انتسابا صريحا للصهيونية عند فئة أخرى من المستشرقين. انظر: الاستشراق والتنصير، لعلي بن إبراهيم الحمد النملة.

ثمار من شجرة النبوة (29)

أكتفي بحوارهم وإقناعهم، ثم أترك لهم بعد ذلك اختيار القرار المناسب.

قلت: لقد ذكرت لي علاقة التبشير بالاستشراق، وحاولت أن تقنعني بأن أصل الاستشراق هو التبشير.

قال: بورك فيك.. لقد وعيت كل ما ذكرته لك.

قلت: ولكني لم أع الرسالة التي يحملها هذا الكلام.

قال: لقد كان ذلك في البدء.. في البدء ولد الاستشراق في محضنة الكنيسة، وظل وفيا لها عهودا طويلة.. ولكنه أحيانا كان ينحرف عن مساره، ويظهر بعض المستشرقين المتمردين الذين يتصورون ـ حسب أوهامهم ـ أنهم يغلبون المنهج العلمي الموضوعي على الرؤية الذاتية الدينية.

قلت: أعلم ذلك.. وأعلم كذلك أن المسلمين يتبنون هذا النوع من المستشرقين، ويفرحون بهم، وينقلون شهاداتهم في كتبهم.

قال: وهذا هو مصدر الخطورة.. إن وجود هذا النوع من المستشرقين أحدث شرخا خطيرا في المقاصد التي يرمي إليها الاستشراق.. لقد تاه أولئك المستشرقون عن الهدف..

لقد صاروا كذلك المحارب الذي لم يكتف بأن يرمي سلاحه، ويولي دبره، وإنما ذهب، وأمد العدو بسلاح كثير، وقنابل كثيرة.

قال ذلك، ثم صاح بنوع من الهستيرية: إنها خيانة.. خيانة عظمى.. لو كنت حاكما عسكريا لحكمت على أولئك بالشنق.. لا يجدي معهم غير الشنق.

التفت إلى نفسه، ورأى خطأه في إظهار ما تكنه نفسه من ألوان الحقد، ثم ابتسم، وقال: اعذرني.. كنت أمزح فقط.. لست أدري لم طغت لغة الحرب هذه الأيام.. صرنا لا نتكلم إلا بالمدافع والأسلحة والقنابل.. لعل ذلك من تأثير وسائل الإعلام.

ثم قال: على العموم، فقد كان هذا النوع الخطير من المستشرقين أفرادا محدودين، ومع ذلك كان لهم ذلك التأثير الخطير.. ولكنهم ـ الآن ـ أمة من الناس.. هم الآن يتكاثرون كما تتكاثر

ثمار من شجرة النبوة (30)

الطفيليات.. لهذا صار خطرهم أعظم.. ولهذا صرنا نفضل المستغربين على المستشرقين.

المستغربون جاءونا أصلا لينسلخوا من هويتهم.. فلذلك نراهم يتزلفون كما لا يتزلف أحد.. أما أولئك المستشرقون الأغبياء.. فهم لا يزالون يلقون أسلحتهم ليمدوا بها عدوهم.

قلت: وهل يوجد أمثال هذا النوع من المستشرقين في هذه الجامعة؟

قاطعني، وقال: أجل.. وهم يتكاثرون كما يتكاثر النمل.. وقد عرفنا السر في ذلك التكاثر.

قلت: وما هو؟

قال: العلمانية.

ابتسمت، وقلت: وما علاقة العلمانية بهذا؟.. ثم ألسنا في دولة علمانية؟

قال: العلمانية هي فصل الدين عن الحياة وعن الدولة وعن الأخلاق..

قلت: أعلم ذلك.

قال: وهؤلاء فصلوا الدين.. أو فصلوا اهتمامهم الديني وانتماءهم الديني عن دراساتهم لتراث المسلمين وفكر المسلمين.

قلت: وما يضيرنا من ذلك.. فهم إن لم يدخلوا بعدهم المسيحي أدخلوا بعدهم الإلحادي، أو بعدهم الوجودي، أو أبعاد أخرى.

قال: ليت الأمر سار على هذا النحو.. هؤلاء أدخلوا البعد الموضوعي.. لقد صاروا يتعاملون مع التراث الإسلامي والفكر الإسلامي بموضوعية وحياد..

قلت: هذا بعد جيد..

قال: وخطير جدا..

قلت: ما خطره؟.. ما داموا يلبسون ثياب العلم، ويتبنون التحقيق العلمي.

قال: لم تفهم إذن كل ما قلت لك.

قلت: بل فهمت.. ولكني لم أفهم خوفك من البعد الموضوعي.

ثمار من شجرة النبوة (31)

سار في أرجاء القاعة، وكأنه يهم أن يقول شيئا يخاف على نفسه منه، أو يخاف علي منه.

لكنه تحدى ذلك، وقال بلسان متلعثم: البحث الموضوعي في تراث المسلمين خطير.. خطير جدا..

ثم قال، وكأنه يستعيد ذكريات مر بها: سلني أنا.. لقد جربت في شبابي هذا النوع من البحث.. ولكني كدت أحترق.. لقد كانت شمس محمد شمسا محرقة كادت تصليني بنارها..

لست أدري مدى صدق قومه في إطلاق لفظ الساحر عليه.. ولكنه ـ معي ـ لا يوجد لقب أصدق منه.. لقد سحرني كما لم يسحرني أحد من الناس.. ظللت دهرا من عمري منشغلا بالتفكير فيه، وفي الشجرة التي تركها لترمي كل حين من الثمار ما يجعل وجوده حيا مستمرا.

لست أدري كيف قلت له مقاطعا: فلماذا تريد قطع هذه الشجرة؟

قال ـ وكأنه لا يدري ما يقول ـ: لست أنا الذي أريد أن أقطعها.. كلهم يريد أن يقطعها.. وما نحن إلا معاول بسيطة.

قلت: ومن يشارككم في الاهتمام بقطعها؟

قال: كثيرون.. منهم أنتم المبشرون.. ومنهم أولئك العساكر المستعمرون.. بالإضافة إلينا نحن المستشرقون.. بالإضافة إلى أولئك الذيول من المستغربين..

كلنا نشكل معاول لهدم شجرة ذلك الساحر التي تؤتي أكلها كل حين، ولا تمل من إعطاء الثمار كل حين.

قلت: فلم نهتم جميعا بقطعها؟

قال: لأنها الشجرة الوحيدة في العالم التي تقف في وجه شجرتنا، وتمنع امتدادها.

قلت: فلم لا نترك الشجرتين تتعايشان مع بعضهما، فنأكل ثمرا ناضجا من كليهما (1

انتفض، وقال: يستحيل ذلك.. يستحيل ذلك..

__________

(1)  أقصد (حوار الحضارات) الذي هو مطلب إسلامي بدل (صراع الحضارات) الذي يتحدث عنه الغرب.

ثمار من شجرة النبوة (32)

قلت: وما وجه الاستحالة؟

قال: ألا تعلم أن شجرة محمد شجرة مسحورة!؟.. إن كل من أكل من ثمارها أصابه سحر محمد.

ابتسمت، وقلت: أراك تؤمن بالسحر، وتبالغ في الإيمان به؟

قال: لو لم أجرب تأثيره ما آمنت به.

قلت: فلنفرض أنا قطعنا شجرة محمد..

قاطعني قائلا: ذلك مستحيل.. هي شجرة ضاربة الأطناب في التربة، بل لعل لها جذورا في السماء يستحيل قطعها.

قلت: فلم نجتهد في تحقيق المستحيل؟

قال: ذلك منهج خاطئ سلكه أسلافنا، ونحن اليوم نعرف استحالته.

قلت: فهل رأيت منهجا آخر يمكن سلوكه؟

قال: أجل.. نترك للشجرة وجودها.. لكنا نترك ثمارها تتساقط من غير أن يأكلها أحد.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ذلك بسيط.. نحذر من ثمارها.. نصف حلاوة ثمارها بحلاوة العلقم، ونصف إكسيرها وترياقها بالسم الزعاف.. ثم نرمي كل من يأكل ثمارها بالتخلف والرجعية والإرهاب والخرافة..

قلت: وحينذاك لن يقترب منها أحد.

قال: وحينذاك ستذبل الشجرة وتموت من غير أن نقطعها.

قلت: فكرة جيدة.. ولكن ألسنا نسيء للبشرية إن فعلنا هذا؟

قال: بل نحسن غاية الإحسان.. لا يمكن للبشرية أن تعيش على ثمار شجرتين متناقضتين غاية التناقض.. لذلك إن أردنا السلامة لشجرتنا، فهذا ما ينبغي أن نمارسه مع شجرة محمد.

ثمار من شجرة النبوة (33)

قلت: فهل تسيرون في هذا السبيل؟

قال: كنا نسير فيه.. ولكنه ظهرت فئة من المستشرقين غفلت عن مبادئها وهدفها وغلبت الموضوعية العلمية في تصورها.. ونخاف على هذه الفئة أن يصيبها سحر محمد.

قلت: فما دوري أنا في هذا؟

قال: لست وحدك.. هناك إخوان كثيرون لك في هذه الجامعة، وهم ينتشرون بين هؤلاء المستشرقين ليقدموا لهم من الرقى والتعاويذ ما يقيهم من سحر شجرة محمد.

قلت: أطلبتم حضوري لأقدم لكم رقى ضد السحر؟

قال: ليس ضد كل سحر.. ضد سحر محمد وحده.

قلت: لا أعرف هذا النوع من الرقى.. بل لا أكاد أؤمن بالسحر.

ابتسم، وقال: أنت لم تفهمني.. الرقى التي نقصدها هي الشبهات.. ليس هناك شيء يقتل شجرة محمد كالشبهات.

قلت: فهمت.. أنت تريدني أن أتصل بهذا النوع من المستشرقين لأملأ عقولهم بالشبهات التي تبعدهم عن شجرة محمد.

قال فرحا: أجل.. هذا ما أريده، وقد ذكرت لك أنك لست وحدك في هذه الجامعة.. هناك كثيرون من أمثالك.

قلت: إن هذا يحتاج وقتا..

قال: لقد أعددنا لك في هذه الجامعة كل ما يريحك، وكل ما يخدمك، ويخدم الهدف النبيل الذي جئت من أجله.

لقد وفرنا لك مسكنا لائقا، وسيارة فارهة، وأموالا سوف تصب كل حين في رصيدك.. وإن احتجت إلى أي نفقات زائدة، فليس عليك سوى الاتصال بي.

قال ذلك، ثم التفت إلى صليب كنت أعلقه ليشير إلى وظيفتي الدينية، فأمسكه بيده، ثم

ثمار من شجرة النبوة (34)

قبله، وقال: لا أطلب منك سوى طلب واحد.

قلت: وما هو؟

قال: انزع هذا الصليب..

قلت: لم؟

قال: لا تظهر أي علاقة لك بالدين في هذه الجامعة.. نحن في جامعة علمانية، ولذلك حاول أن تكون علمانيا في ظاهرك قدر ما استطعت، وخاصة أمام أولئك المرتدين الذين لبسوا لباس الموضوعية العلمية، وتركوا الرسالة النبيلة التي كلفتهم بها أمتنا العظيمة.

-\--\-

خرجت من مكتبه، فصحبني مرشد جال بي في أنحاء الجامعة، ثم أعطاني دفترا يعرفني بالمستشرقين الذين يطلب مني الاتصال بهم والتعامل معهم، ثم سار بي إلى المسكن الفاره المعد لي.. ومعه كل ما تهفو إليه النفوس من الحياة الرغيدة.

لقد ظللت في تلك الجامعة سنة كاملة، رأيت فيها أشياء كثيرة، واستمتعت نفسي بنعم كثيرة.. لكني لا أذكر منها إلا عشرة أيام..

لقد كانت تلك الأيام العشرة هي الأيام التي تنعمت فيها بأشعة جديدة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولن أحكي لك في هذه الرحلة إلا حكاية تلك الأيام العشرة.. أما ما عداها فأكثره لغو فارغ.

ثمار من شجرة النبوة (35)

أولا ـ خلاص

في اليوم الأول من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده أول ثمرة من شجرة النبوة، وهي (ثمرة الخلاص)

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:19)

وعرفت بها سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا: كل مال نَحَلْته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، ثم إن الله، عز وجل، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ، عجَمَهم وعَرَبَهُم، إلا بقايا من أهل الكتاب) (1)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن الحالة التي كان عليها العالم حين جاءه الإسلام.. وتشير ـ في نفس الوقت ـ إلى الدور العظيم الذي قام به الإسلام في إنقاذ البشرية وتخليصها من الهلاك الذي كاد يقضي عليها.

-\--\-

سمعت بتوماس وولكر آرنولد (2)، وهو مستشرق بريطاني كان من النوع الذي حدثني

__________

(1)  رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.

(2)  أشير بهذا الاسم إلى المستشرق Sir Thomas Walker Arnold (1864 - 1930) وهو من كبار المستشرقين البريطانيين، وقد بدأ حياته العلمية في جامعة كامبردج حيث أظهر حبه للغات، فتعلم العربية، وانتقل للعمل باحثاً في جامعة (عليكرا) في الهند، حيث أمضى هناك عشر سنوات ألف خلالها كتابه المشهور (الدعوة إلى الإسلام)

من المهام العلمية التي شارك فيها عضوية هيئة تحرير الموسوعة الإسلامية التي صدرت في ليدن بهولندا في طبعتها الأولى، والتحق بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعد تأسيسها عام 1916. وعمل أستاذاً زائراً في الجامعة المصرية عام 1930.

له عدة مؤلفات سوى كتابه (الدعوة إلى الإسلام) ومنها (الخلافة) وكتاب حول العقيدة الإسلامية.

وهو صاحب فكرة كتاب (تراث الإسلام) الذي أسهم فيه عدد من مشاهير البحث والاستشراق الغربى. وقد أشرف أرنولد على تنسيقه وإخراجه، وهو أول من جلس على كرسي الأستاذية في قسم الدراسات العربية في مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وقد وصفه المستشرق البريطاني المعروف (جب) بأنه (عالم دقيق فيما يكتب، وأنه أقام طويلاً في الهند وتعرف إلى مسلميها، وأنه متعاطف مع الإسلام، وكل هذه أمور ترفع أقواله فوق مستوى الشهادات) (دراسات في حضارة الإسلام، ص 244) ذاع صيته بكتابيه: (الدعوة إلى الاسلام) الذي ترجم إلى أكثر من لغة، و(الخلافة). كما أنه نشر عدة كتب قيمة عن الفن الإسلامي.

ثمار من شجرة النبوة (36)

عنه مدير جامعة السربون، واسمه من الأسماء التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد، وقد كنت أتحين الفرص للقائه والاستماع إليه، ولكني لم أظفر بذلك إلا في ذلك اليوم الجميل...

فقد كنت سائرا أمام حديقة بيته، فوجدته يسقي شجرة ذابلة تكاد تموت.

رفعت كل كلفة، واقتربت منه، وحييته باللغة العربية التي كان يتقنها غاية الإتقان، ويحب أن يجد من يحدثه بها.

نظر إلي، وابتسم، وقال: هل أنت من الشام، أم من مصر؟

قلت: لا هذا ولا ذاك..

قال: فأنت من المغرب إذن؟

قلت: أنا من ألمانيا..

قال: نسبا، أم جنسية مكتسبة؟

قلت: بل نسبا.. أنا ألماني أبا وأما.. ولم أعش في أي دولة عربية.

قال: أنت تتقن العربية جيدا، وكأنك عربي..

قلت: أنا مهتم بها كثيرا، ومهتم بكل ما يرتبط بها من ألوان الثقافة.

قال: هذا شيء جيد.. أنت مثلي في هذا.. أنا أيضا أحب هذه اللغة، وكل ما يرتبط بها من ثقافة، ولست أدري سر ذلك..

ثمار من شجرة النبوة (37)

نظر إلى الشجرة الذابلة التي كان يسقيها، ثم قال: لعل سر ذلك يعود إلى الإكسير الذي أعاد لهذه الشجرة حياتها.

قلت: ما علاقة هذه الشجرة باهتمامك باللغة العربية، والثقافة العربية؟

قال: لقد كان مصير هذه الشجرة هو الفناء والذبول والموت.. لقد أحاط بها الموت من كل جانب، ولم يعد لي أمل في حياتها.. ولكن بعضهم أهداني إكسيرا عجيبا، ما إن وضعته في الماء، وسقيته بها حتى عادت إليها الحياة، وأنت تراها الآن مقبلة على حياة جميلة تنتظرها.

قلت: لا أزال عاجزا عن فهم علاقة الشجرة والإكسير الذي أعاد إليها الحياة باللغة العربية والثقافة العربية.

قال: يمكن أن تشبه العالم الذي نعيش فيه بهذه الشجرة..

قلت: من أي جهة؟

قال: من جهة الحياة والموت.. والمرض والصحة.. والذبول والنشاط.

قلت: ذلك صحيح.. فالشجرة كائن حي لا يختلف عن الإنسان.. يعتريه ما يعتري الإنسان من أسباب العافية والبلاء.

قال: لعل هذا هو سر اهتمامي بالعربية والثقافة العربية.

قلت: هذا ما لم أفهمه.

قال: أنا مهتم كثيرا بتاريخ العالم.. وبأسباب عافيته وأسباب بلائه.. وأوقات انحداره وأوقات ارتفاعه.. ولحظات إنسانيته ولحظات بهيميته..

في بيتي سجلت منحنيات كثيرة للسقوط وللنهوض، وللصعود وللهبوط.

لم أشأ أن أقاطعه لأستفهم عن سر هذا الكلام الغامض، فأخذ يقول: لقد وجدت العالم في جميع فتراته يشبه هذه الشجرة التي اعتراها الذبول وكاد يميتها.. ولكنها عادت للحياة من جديد لما سقيتها بإكسير الحياة.

ثمار من شجرة النبوة (38)

قلت: فهل وجدت البشرية في فترات سقوطها من يسقيها إكسير الحياة؟

قال: لقد سجلت أعظم انحدار لمنحنى سقوط البشرية.. ورأيت بأم عيني الإكسير الذي حمى البشرية من الفناء الذي كان يترصد بها.. وذلك الإكسير هو الذي حملني على أن أتعلم اللغة العربية، وأسافر إلى البلاد العربية، وأتعلم الثقافة العربية.

قلت: فما ذاك الإكسير؟

قال: هو أعظم رجل على الإطلاق.. لعله هو المخلص الذي عناه المسيح عندما قال لتلاميذه: (إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم.. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً.

الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم.. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون، لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء) (يوحنا 14/ 1530) (1).. نعم.. بل هو..

لقد كانت البشرية تنتظر الخلاص.. لقد كانت كالظمآن الذي كاد يهلكه العطش، ولولا محمد، ولولا المياه العذبة التي جاء بها لماتت البشرية من الظمأ.

قلت: كيف تقول ذلك؟.. لقد كان محمد في بيئة صحراوية بدوية.. وكان مع ذلك أميا.. كيف كان هو المخلص؟

قال: أحيانا كثيرة يجعل الله فيما نحتقره من أشياء سر خلاصنا..

__________

(1)  انظر التفاصيل المرتبطة بهذه النبوءة في (أنبياء يبشرون بمحمد)

ثمار من شجرة النبوة (39)

هذه الشجرة مثلا.. يئست منها، وتألمت ليأسي، كنت أراها تذبل أمامي، وأنا لا أطيق معها أي حراك.. ولكن ذلك الرجل الفاضل، بل العبقري الفذ وصف لي إكسيرها.

في البداية عندما وصفه ضحكت بيني وبين نفسي.. بل ظننته يسخر مني، وعندما جربته لم أجربه إلا كما يجرب الغريق تعلقه بقشة لا تغني عنه شيئا.. ولكني بعد أن طبقت ذلك الإكسير العجيب فعل فعله، وأعاد لهذه الشجرة حياتها.

وبالمناسبة.. فالرجل الذي وصف لي هذا الإكسير رجل أمي.. هو يشبه تماما محمد الذي كان أميا، ولكنه كان يحمل الإكسير الذي أعاد به الحياة لشجرة البشرية.

قلت: لقد كانت في عهد محمد حضارات عريقة وديانات قديمة.. ألم يكن في أحدها سر الخلاص؟

قال: لقد كان من سر الخلاص الذي جاء به محمد أنه لم يكن في بقعة من بقاع الأرض غير تلك البقعة البسيطة القريبة جدا من الفطرة.

قلت: لم؟.. هل تعادي الحضارات؟

قال: لا أعاديها، ولكن محمدا لو ولد في بيئة غير تلك البيئة لتلطخت تعاليمه كما تلخطت تعاليمنا نحن المسيحيين.

لقد ذكر القرآن شيئا قريبا من هذا عندما قال: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124)

لقد طلب هؤلاء القوم أشياء مماثلة لما جاءت بها الرسالات السابقة، والتي امتلأت تحريفا، فرد عليهم القرآن بأن الله أعلم بالمحل الذي يجعل فيه رسالته.

قلت: أراك تتحامل على تلك الحضارات العريقة.. والتي لا زلنا نشم عطر ما أنتجته.

قال: كلامك يحتاج بحثا موضوعيا بعيدا عن لغة الخطاب التي تعودنا أن نسمعها.

قلت: وما الكلام الموضوعي في هذا؟

ثمار من شجرة النبوة (40)

قال: الموضوعية العلمية تتطلب استقراء واقع البشرية في عصر محمد، لنرى بموضوعية تامة الحالة التي كانت تعيشها، والدواء الذي كانت تبحث عنه.

قلت: فهل تسمعني حديث ذلك؟

قال: لا يسرني إلا ذلك.. تعال معي إلى البيت.. فمثل تلك التفاصيل لا يمكن أن نتحدث عنها ونحن واقفون.

أمراض الجاهلية

دخلت إلى بيته الذي لا يختلف في تصميمه الداخلي عن البيوت العربية، وقد فرش على أرضه زرابي عربية رأيتها في رحلتي إلى بلاد الشام.

أحضر لي (توماس) الشاي، وأحضر لي معه مجموعة خرائط، وقال: في هذه الخرائط، سنتعرف على العالم القديم.. وكيف كان حاله وقت بعثة محمد.

ولتكون دراستنا موضوعية.. فسنبحث عن جانبين لا مناص لمن يريد أن يعرف الخلاص الذي جاء به محمد من أن يبحث فيهما.

قلت: ما هما؟

قال: الحضارات.. والديانات.

قلت: ما وجه الحصر في ذلك؟

قال: الحضارات تنبئ عما وصل إليه الفكر البشري من البحث عن خلاص البشر.

قلت: والديانات؟

قال: هي الوحي الإلهي المنزل لإنقاذ البشر.

قلت: أفلم يكن في كل الحضارات والديانات المنتشرة في ذلك الوقت ما يحمل سر الخلاص؟

ثمار من شجرة النبوة (41)

قال: لنرى ذلك.. تعال بنا نطبق ما ذكرناه من القواعد في هذا المجال.

حضارات

قلت: أجل.. ولنبدأ بالحضارات (1).

أشار إلى بقعة كبيرة من الأرض، وقال: هذه هي حدود الدولة الرومانية.. وفي هذه البقعة الواسعة نشأ ما يسمى بالحضارة الرومانية.

التفت إلي، وقال: لاشك أن اسمها يقرع الأذن بهيبة عظيمة.

قلت: ذلك صحيح.. فالدولة الرومانية دولة ترمز إلى القوة والشباب والحياة.

قال: وترمز إلى الاستبداد والانحلال والتجبر.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد بلغ الاستبداد غايته في الدولة الرومانية، فعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات، وتضاعفت الضرائب، حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات، ويبغضونها بغضا شديداً، بل ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية، وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات.

لقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة، وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه، ووصلوا في التبذل إلى أحط الدركات.. بل أصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه، ثم إنفاقه في الترف وإرضاء الشهوات.

__________

(1)  رجعنا في وصف الحضارات والديانات المعاصرة لبعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، فهو المرجع الذي رجع له الكثير في هذا الباب، وقد رجع هو بدوره إلى مراجع مختلفة عربية وإنجليزية.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن أكثر مراجعنا في هذا الكتاب هي ما يطلق عليه الكثير (الكتب الفكرية) ككتب سيد قطب ومحمد قطب وأبي الأعلى المودودي ومحمد الغزالي والشهيد الصدر، وغيرهم.. بالإضافة إلى كتب المستشرقين المتعلقة بالإسلام والحضارة الإسلامية.. بالإضافة إلى الكتب المؤرخة للأفكار والأديان والمذاهب، وخاصة (الموسوعة اليهودية) للمسيري، فهي من أوثق المراجع العلمية في هذا الباب.

ثمار من شجرة النبوة (42)

لقد ذابت أسس الفضيلة، وانهارت دعائم الأخلاق، حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية.

وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع، وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع.

لقد قال (جيبون) يصف كل ذلك: (وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر نقطة، وكان مثلها كمثل دوحة عظيمة كانت أمم العالم في حين من الأحيان تستظل بظلها الوارف، ولم يبق منها إلا الجذع الذي لا يزداد كل يوم إلا ذبولاً)

أما المجتمع الروماني، فقد كان مليئا بالتناقض والاضطرابات، وقد صور حاله صاحب كتاب (الحضارة ماضيها وحاضرها) بقوله: (كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء ـ في جانب آخر ـ حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون العنف والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة)

ثمار من شجرة النبوة (43)

بالإضافة إلى هذا، فقد كان الرومان متجبرين غاية التجبر، عنصريين غاية العنصرية، لقد كان المبدأ الأساسي الذي يجتمعون عليه، ويجمعون عليه هو تقديس الوطن الرومي، والشعب الرومي.

ولم تكن الأمم والبلاد التي كانت تسيطر عليها الدولة الرومانية (1) إلا خادمة لمصلحتها، وعروقاً يجري منها الدم إلى مركزها.. فلهذا كانت الدولة الرومانية تستهين بكل حق ومبدأ، وتدوس كل شرف وكرامة، وتستحل كل ظلم وشنيعة، لا يمنعها من ذلك الحيف والظلم اشتراك في دين وعقيدة، ولا إخلاص ووفاء للملكة.

يقول مؤرخ عربي شامي عن الحكم الروماني في الشام: (كانت معاملة الروماني للشاميين بادئ ذي بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه مملكتهم في داخليتها من المشاغب والمتاعب، ولما شاخت دولتهم انقلبت إلى أتعس ما كانت عليه من الرق والعبودية، ولم تضف رُومية بلاد الشام مباشرة ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين، ولا أرضهم أرضاً رومانية، بل ظلوا غرباء ورعايا، وكثيراً ما كانوا يبيعون أبنائهم ليوفوا ما عليهم من الأموال، وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق، وبهذه الأيدي عمر الرومان ما عمروا من المعاهد والمصانع في الشام) (2)

وقد كان ذلك السلوك العنصري المتجبر هو سبب سقوط الدولة الرومانية، يقول (Robert Briffault) عند ذكره لسبب سقوط الدولة الرومانية: (لم يكن سبب انقراض الدولة الرومية وسقوطها الأساسي الفساد الزائد (كالرشوة وغيرها) بل كان الفساد والشر وعدم المطابقة بالواقع مما صحب نشوء هذه الدولة من أول يومها وتغلغل في أحشائها، إن

__________

(1)  كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، وكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره، ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية.

(2)  خطط الشام للأستاذ كرد علي: 1/ 101.

ثمار من شجرة النبوة (44)

كل مؤسسة بشرية تقوم على أساس زائف منها ولا تستطيع أن تنقذ نفسها بذكاء أو نشاط، ولما كان الفساد مما قامت عليه هذه الدولة فكان لا بد أن تبيد يوماً وتنهار، لقد رأينا أن الدولة الرومية إنما كانت وسيلة لرفاهية طبقة صغيرة على حساب الجماهير الذين كانت هذه الطبقة تستغلهم وتمتص دمائهم، لقد كانت التجارة تسير في رومة بأمانة وعدل، وقد كان ذلك مما طبعت عليه هذه الدولة، وقد كانت فائقة في قوة الحكم والقضاء، وفي الكفاءة، ولكن هذه المحاسن كلها لم تكن لتحفظ الدولة من عواقب الزيف الأساسي والخطأ)

-\--\-

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي الهند.

قلت: إنها معدن الحكمة، وينبوع العدل والسياسة، وأهل الأحلام الراجحة، والآراء الفاضلة.. هكذا وصفها صاعد الأندلسي في طبقات الأمم.

قال: ولكنها كانت في العهد الذي جاء فيه محمد على حافة الهاوية، كانت كتلك الشجرة الذابلة التي رزقها الله إكسير الحياة.

لقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدواره الهند ديانة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، أي في العهد الذي تزامن مع مجيء محمد (1).

لقد اشتركت الهند مع جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي، الذي شمل الأرض جميعا في ذلك الزمن.. وأخذت نصيباً غير منقوص من هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة.

لقد كان النظام الاجتماعي السائد هو نظام الطبقات الجائر المبالغ في جوره.. بل لم يعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة، وأشد

__________

(1)  انظر هذه التفاصيل في (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)

ثمار من شجرة النبوة (45)

استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً، وخضعت له آلافاً من السنين.

وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي بتأثير الحرف والصنائع وثوراتها، وبحكم المحافظة عل خصائص السلالة الآرية المحتلة ونجابتها.

وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي، وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفق عليه البلاد وأصبح قانوناً رسمياً ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها وهو المعروف الآن بـ (منوشاستر)

يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات ممتازة وهي البراهمة، وهي طبقة الكهنة ورجال الدين.. وشتري رجال الحرب.. وويش رجال الزراعة والتجارة.. وشودر رجال الخدمة.

وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة، فقد ذكر أن البراهمة هم صفوة الله، وهم ملوك الخلق، وإن ما في العالم هو ملك لهم، فإنهم أفضل الخلائق وسادة الأرض، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر من غير جريرة ما شاءوا، لأن العبد لا يملك شيئاً وكل ماله لسيده.

ونص هذا القانون على أن البرهمي الذي يحفظ رك ويد (الكتاب المقدس) هو رجل مغفور له، ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطرار والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية أو يأخذ منهم إتاوة، ولا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً، وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه، أما غيره فيقتل.

ثمار من شجرة النبوة (46)

أما الشتري، فإن كانوا فوق الطبقتين (ويش وشودر)، ولكنهم دون البراهمة بكثير.. يقول (منو): (إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده)

أما شودر (المنبوذون)، فكانوا في المجتمع الهندي ـ بنص هذا القانون المدني الديني ـ أحط من البهائم وأذل من الكلاب، فيصرح القانون بأن من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك، وليس لهم أن يقتنوا مالاً أو يدخروا كنزاً فإن ذلك يؤذي البراهمة، وإذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً، فعلى الملك أن يكوي إسته وينفيه من البلاد، وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه، وإذا ادعى أنه يعلمه سقي زيتاً فائراً، وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء.

أما المرأة.. فقد نزلت في هذا المجتمع منزلة الإماء، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج، فإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج، وتكون هدف الإهانات والتجريح، وكانت أمة بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على إثر وفاة زوجها تفادياً من عذاب الحياة وشقاء الدنيا.

-\--\-

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي مصر.

قلت: إنها بلد النيل السعيد، والخير الكثير، والحضارة العظيمة.

قال: ولكنها كانت تعيش في ذلك العهد أسوأ أيام حياتها (1).. لقد كانت في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالمسيحية، وبالدولة الرومية معاً، أما الأولى فلم تستفد منها إلا

__________

(1)  انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.

ثمار من شجرة النبوة (47)

خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح، وفي فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة الألهية، وقد ظهرت في القرن السابع في شر مظاهرها، وأنهكت قوى الأمة العقلية، وأضعفت قواها العملية.

وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً تجرعت في سبيلهما من المرائر في عشر سنين ما ذاقته أوربا في عهد التفتيش الديني في عقود من السنين، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة، وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية رغم كونها مستعمرة رومية، ولا هي تتمتع بالحرية الدينية والعقلية، رغم كونها مسيحية.

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه المعروف (حضارة العرب): (ولقد أكرهت مصر على انتحال المسيحية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن، وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين) (1)

وفوق هذا، فقد اتخذها الروم مصر شاة حلوباً يستنزفون مواردها، ويمتصون دماءها، يقول ألفرد: (إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد.. مما لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل)

__________

(1)  حضارة العرب، تعريب عادل زعيتر: 336.

ثمار من شجرة النبوة (48)

وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها، وكدر عليها صفو حياتها، وألهاها عن كل مكرمة.

-\--\-

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي أوروبا، وهذه بالتحديد أقاليمها الشمالية الغربية.

قلت: أوروبا بلد الحضارة الراقية والطبيعة الفاتنة.. إنها بلادنا التي غذونا من لبانها.

قال: لقد كانت ـ في ذلك الحين ـ تتسكع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية، والحروب الدامية.. يقول (Robert Briffault): (لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً، قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا وفرنسا، فريسة الدمار والفوضى والخراب)

-\--\-

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه آسيا الوسطى وهذا بالتحديد شرقها.

قلت: إنها بلد المغول والترك واليابانيين.

قال: لقد كانت هذه الشعوب ـ في ذلك الوقت ـ بين بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروة علمية، ولا نظاماً سياسياً راقياً، إنما كانت في طور الانتقال من عهد الهمجية إلى عهد الحضارة، ومنها شعوب لا تزال في طور البداوة والطفولة العقلية.

-\--\-

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي بلاد العرب،

ثمار من شجرة النبوة (49)

وهذه هي جزيرتهم.

قلت: إنها بلاد محمد، وقد امتازوا ـ في ذلك الحين ـ بأخلاق كادوا يتفردون بها، كالفصاحة وقوة البيان وحب الحرية والأنفة والفروسية والشجاعة والحماسة في سبيل العقيدة والصراحة في القول وجودة الحفظ وحب المساواة وقوة الإرادة والوفاء والأمانة.

قال: لكنهم ـ في ذلك الحين أيضا ـ ولشدة تمسكهم بدين آبائهم وتقاليد أمتهم أصيبوا بانحطاط ديني شديد، ووثنية سخيفة، قلما يوجد لها نظير في الأمم المعاصرة لهم.

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان فيهم أدواء كثيرة متأصلة:

لقد كان شرب الخمر واسع الشيوع، شديد الرسوخ فيهم، يتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء، وقد شغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً.

قال قتادة: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزيناً سلبياً ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاً.

وكان أهل الحجاز، العرب واليهود، يتعاطون الربا، وكان فاشياً فيهم، وكانوا يجحفون فيه ويبلغون إلى حد الغلو والقسوة.

أما المرأة، فقد كانت في ذلك المجتمع عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها وتُبْتز أموالها، وتُحرم إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة.

لقد ذكر القرآن كل ذلك مصححا له، ففي القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}

ثمار من شجرة النبوة (50)

(النساء:19)

قال ابن عباس في تفسيرها: (كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك) (1)

وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد، وقد ذكره القرآن، ففيه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} (التكوير)، وفيه: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (الاسراء:31)

وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وكان شعارهم في ذلك قولهم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين.

قلت: لقد ورد في حديث محمد هذا الشعار!؟

قال: لقد قاله محمد مصححا له، فقد ورد في الحديث: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، قيل: كيف أنصره ظالما؟ قال: (تحجزه عن الظلم، فان ذلك نصره) (2)

استأنف توماس حديثه عن طبيعة العرب قائلا: وفوق ذلك كان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية، وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية، حتى صارت الحرب مسلاة لهم، قال قائلهم:

وأحياناً على بكر أخينا... إذا ما لم نجد إلا أخانا

لقد هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر، فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة،

__________

(1)  رواه البخاري وأبو داود، والنسائي، وابن مَرْدُويه، وابن أبي حاتم.

(2)  رواه أحمد والبخاري والترمذي.

ثمار من شجرة النبوة (51)

وما ذاك إلا لأن كليباً، وهو رئيس معدّ رمى ضلع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها، وقتل جساس بن مرة كليباً، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب.

ديانات

التفت إلي توماس، وقال: هذه هي دول العالم.. وتلك هي حضارتها وانحطاطها.. لقد كانت أشبه شيء بتلك الشجرة قبل أن أعالجها بذلك الإكسير.

قلت: والأديان.. أين ذهبت الأديان؟.. وأين ذهب رجالها من الأحبار والرهبان؟

قال: لقد تحول الدين إلى تجارة لا تختلف عن سائر أنواع التجارة..

لقد ذكر القرآن هذا، ففيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة:34)

وقد دفعهم حبهم للمال وتعظيمهم له إلى تحريف الدين من أجله، كما في القرآن: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة:79)

قلت: هذا النقد القرآني قد يصح مع اليهود.. ولكنه لا يصح أبدا عن المسيحية التي هي دين الزهاد والرهبان والعباد.

قال: اسمح لي أن أصارحك بموقفي من المسيحية..

قلت: لا بأس.. تحدث كما تشاء.

قال: لم تكن المسيحية في يوم من الأيام أهلا لخلاص الإنسان.

قلت: ما تقول؟.. والمسيحية هي الدين الوحيد في العالم الذي يصيح بالخلاص، ويستعمل مصطلح الخلاص.

قال: الخلاص الذي يصيحون به أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة..

ثمار من شجرة النبوة (52)

سكت قليلا، ثم قال بأسف (1): لقد كان في المسيحية أثارة من تعليم المسيح كان يمكنها أن تخلص البشرية، لكن بولس جاء، فطمس نورها، وطعّمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت المسيحية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية، اضمحلت في جنبها تعليم المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة من اليم، وعادت نسيجاً خشبياً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين، تحول بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية.

ثم ثارت حول الديانة، وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الشعوب، واستهلكت ذكاءها، وابتلعت فدرتها العملية، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً وتعذيباً، وإغارة وانتهاباً واغتيالاً، وحولت المدارس والكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة، وأقحمت البلاد في حرب أهلية.

وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين مسيحيي الشام والدولة الرومية، وبين مسيحيي مصر، أو بين (الملكانية) و(المنوفيسية)

لقد كان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسح البشرية، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له.

وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والمسيحيين، كل طائفة تقول للأخرى: (إنها ليست على شيء)

__________

(1)  انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وانظر تفاصيل أخرى في الفصول القادمة.

ثمار من شجرة النبوة (53)

لقد ذكر القرآن هذا، ففيه: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (مريم:37)

لقد حاول الإمبراطور هرقل (610 - 641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها، وأراد التوفيق بينها، وتقررت صورة التوفيق، وهي أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة المسيح، وعما إذا كانت له صفة واحدة، أم صفتان، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد.

وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية، وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المختلفة له متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل، ولكن القبط نابذوه العداء، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة.

وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف، فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة، وأما المسألة الأخرى، وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل، فأرجأ القول فيه، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها، وجعل ذلك في رسالة رسمية، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي، ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود، فقد كان الرجال يعذبون ثم يقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها عليهم حتى يسيل الدهن على الأرض، ويوضع السجين في كيس مملوء من الرمل ويرمى به في البحر.. إلى غير ذلك من الفظائع.

قلت: واليهود؟

ابتسم، وقال: ألا تعرف اليهود!؟.. إنهم وباء العالم وسرطانه القاتل، وقد كانوا في ذلك الوقت أضعب الأمم، فقد كانوا عرضة للاضطهاد والاستبداد، والنفي والجلاء، والعذاب والبلاء.

ثمار من شجرة النبوة (54)

وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء القومية، والإدلال بالنسب، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا، أورثهم كل ذلك نفسية غريبة لم توجد في أمة وانفردوا بخصائص خلقية كانت لهم شعاراً على تعاقب الإعصار والأجيال، منها الخنوع عند الضعف، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل.

وقد وصفهم القرآن في آيات كثيرة وصفاً دقيقاً عميقاً يصور ما كانوا عليه في القرنين السادس والسابع من تدهور خلقي، وانحطاط نفسي، وفساد اجتماعي، عزلوا بسببه عن قيادة العالم.

وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم إلى المسيحيين، وبغض المسيحيين إليهم وشوه سمعتهم، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610 م) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده (أبنوسوس) ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً، قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً، ورمياً للوحوش الكاسرة.

قلت: والديانات الأخرى.. ورجالها.. ألم يكن فيهم من يصلح لإنقاذ البشرية؟

أشار توماس إلى بقعة من الأرض، وقال: هنا كانت تنتشر المجوسية.

قلت: ألم يكن في المجوسية ما يصلح لإنقاذ البشرية؟

قال: لقد جاء زرادشت، ودعا إلى التوحيد، وأبطل الأصنام (1)، وقال: (إن نور الله يسطع

__________

(1)  ذكر كثير من علماء المسلمين إلى نبوة زرادشت، ويسمونه (نبي المجوس)، وممن انتصر لذلك، وقد توفر له من (العلم بالملل والنحل ما يؤهله لذلك ابن حزم، فقد قال في الفصل: (أما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته) ثم عقب على ذلك بقوله: (ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله (لمن صحت عنه معجزة، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء:164))

ثم بين أن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم، واستدل على ذلك بالتحريفات الواقعة في الديانات المختلفة،، ثم بين قاعدة جليلة في ذلك فقال: (وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ، وعند ثلاثة وعشرين هربذا، لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم) (الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/ 90)

ونفس ما دفع به ابن حزم عن زرادشت ما نسبه إليه المجوس ذكره غيره من العلماء، قال الباقلاني: (وكذلك الجواب عن المطالبة بصحة أعلام زرادشت إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد، لأن العلم بصدقهم غير واقع لنا، أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده الأعلام، ودعا إلى نبوة نوح وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب النصارى على المسيح - عليه السلام - من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط، وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك) (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:203)

وقد ذكر ابن حزم أن هذا القول ليس بدعة للمتأخرين، بل أن من السلف من قال بذلك، قال: (وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة، وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر، وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه ثم قال: (ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله (الجزية منهم، وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي) (الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/ 90)

ثمار من شجرة النبوة (55)

في كل ما يشرق ويلتهب في الكون)، وأمر بالاتجاه إلى جهة الشمس والنار وساعة الصلاة، لأن النور رمز إلى الإله وأمر بعدم تدنيس العناصر الأربعة وهي: النار والهواء والتراب والماء.

وجاء بعده علماء سنوا للزرادشتيين شرائع مختلفة، فحرموا عليهم الاشتغال بالأشياء التي تستلزم النار، فاقتصروا في أعمالهم على الفلاحة والتجارة.

ومن هذا التمجيد للنار واتخاذها قبلة في العبادات تدرج الناس إلى عبادتها حتى صاروا يعبدونها عيناً ويبنون لها هياكل ومعابد، وانقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار وجُهلت الحقيقة ونسي التاريخ (1).

ولما كانت النار لا توحي إلى عبّادها بشريعة ولا ترسل رسولاً، ولا تتدخل في شئون حياتهم ولا تعاقب العصاة والمجرمين أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس وتقاليد

__________

(1)  انظر تاريخ إيران تأليف شاهين مكاريوس: 221 – 224.

ثمار من شجرة النبوة (56)

يؤدونها في أمكنة خاصة في ساعات خاصة، أما في خارج المعابد، وفي دورهم ودوائر حكمهم وتصرفهم، وفي السياسة والاجتماع، فكانوا أحراراً يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، أو ما يؤدي إليه تفكيرهم، أو ما توحي به مصالحهم ومنافعهم، شأن المشركين في كل عصر.

وهكذا حُرِم الفرس في حياتهم ديناً عميقاً جامعاً يكون تربية للنفس، وتهذيباً للخلق، وقامعاً للشهوات، وحافزاً على التقوى وفعل الخيرات، ويكون نظاماً للأسرة وتدبيراً للمنزل وسياسة للدولة، ودستوراً للأمة، ويحول بين الناس وطغيان الملوك، وعسف الحكام، ويأخذ على يد الظالم، وينتصف للمظلوم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين اللادينيين والإباحيين في الأخلاق والأعمال.

أشار إلى بقعة أخرى من العالم، وقال: هذه هي الصين القديمة، وهنا ـ وفي ذلك الزمان ـ كانت تنتشر ثلاث ديانات: ديانة (لا وتسو)، وديانة (كونفوشيوس)، والبوذية:

أما ديانة (لا وتسو)، فقد تحولت إلى ديانة وثنية في عهد قريب، فهي تُعني بالنظريات أكثر منها بالعمليات، وكان أتباعها متقشفين زاهدين، لا يتزوجون ولا ينظرون إلى المرأة، ولا يتصلون بها، فلم يكن لها أن تكون أُسّاً لحياة سديدة أو حكومة رشيدة، حتى التجأ الذين جاءوا بعد مؤسسها إلى مخالفته والعدول عنه إلى غيره.

أما (كونفوشيوس) فقد كان يعني بالعمليات أكثر من النظريات، ولكن انحصرت تعاليمه في شؤون هذه الدنيا وتدبير الأمور المادية والسياسية والإدارية، وقد كان أتباعه لا يعتقدون ـ في بعض الأزمنة ـ بعبادة إله معين، فيعبدون ما يشاءون من الأشجار والأنهار، وليس فيها نور من يقين ولا باعث من إيمان ولا شرع سماوي، وإنما هي حكمة حكيم وتجارب خبير، يستفيد بها الإنسان إذا شاء ويرفضها إذا شاء.

أما البوذية، فقد فقدت بساطتها وحماستها، وابتلعتها البرهمية الثائرة الموتورة، فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت.

ثمار من شجرة النبوة (57)

وقد غمرت هذه التماثيل الحياة الدينية والمدنية التي ظهرت في عهد ازدهار البوذية.

ولم يزل وجود الإله الإيمان به في البوذية موضع خلاف وشك عند مؤرخي هذه الديانة ومترجمي مؤسسها، حتى يحار بعضهم ويتساءل: كيف قامت هذه الديانة العظيمة على أساس رقيق من الآداب التي ليس فيها الإيمان بالله، فلم تكن البوذية إلا طرقاً لرياضة النفس وقمع الشهوات، والتحلي بالفضائل، والنجاة من الألم، والحصول على العلم.

أشار إلى جزيرة العرب، وقال: في هذه المنطقة التي ولد فيها محمد لم يكن يعبد إلا التماثيل التي يصنعها الناس بأيديهم.

لقد كان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي.

وقد استهترت العرب عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب، وكان في جوف الكعبة وفي فنائها ثلاث مائة وستون صنماً، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة.

وكان للعرب آلهة شتى غير هذه الأصنام من الملائكة والجن والكواكب، فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله، واتخذوا كذلك من الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم (1).

أشار إلى مناطق أخرى، وقال: لم تكن الوثنية سائدة في بلاد العرب وحدها، بل كل هذه المناطق كانت لا تعرف دينا غير الوثنية المتطرفة.

لقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس، فقد كان عدد الآلهة في (ويد) ثلاثة وثلاثين، وقد أصبحت في هذا القرن 330 مليون.

وقد أصبح كل شيء رائع، أو كل شيء جذاب، بل كل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد.

__________

(1)  كتاب الأصنام: 44.

ثمار من شجرة النبوة (58)

ولهذا جاوزت التماثيل والآلهة والإلاهات الحصر، وأربت على العد، فمنها أشخاص تاريخية، وأبطال تمثل فيهم الله في عهود وحوادث معروفة، ومنها جبال تجلى عليها بعض آلهتهم، ومنها معادن كالذهب والفضة تجلى فيها إله، ومنها نهر الكنج الذي خرج من رأس (مهاديو) الإله، ومنها آلات الحرب وآلات الكتابة وآلات التناسل وحيوانات أعظمها البقرة والأجرام الفلكية وغير ذلك، وأصبحت الديانة نسيجاً من خرافات وأساطير وأناشيد وعقائد وعبادات لم يستسغها العقل السليم في زمن من الأزمان.

وقد ارتقت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، وبلغت أوجها في القرن السادس والسابع، حتى فاق هذا العصر في ذلك العصور الماضية.

وقد عكفت الطبقات كلها، وعكف أهل البلاد من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام، حتى لم تجد الديانة البوذية والجينية منها بدا، وتذرعت هاتان الديانتان بهذه الوسيلة للاحتفاظ بحياتهما وانتشارهما في البلاد.

ولعل أشهر ديانة ارتبطت بذلك ديانات الهند منذ العهد القديم، فقد تناقلت الكتب الهندية، وتحدثت الأوساط الدينية عن ظهور صفات الإله، وعن وقوع الحوادث العظيمة وعن تعليل الأكوان روايات وأقاصيص عن اختلاط الجنسين من الآلهة وغارة بعضها على البيوت الشريفة تستك منها المسامع ويتندى لها الجبين حياء.

وتأثير هذه الحكايات في عقول المتدينين المخلصين المرددين لهذه الحكايات في إيمان وحماسة دينية وفعلها في عواطفهم وأعصابهم واضح، زاد إلى ذلك عبادتهم لآلة التناسل لإلههم الأكبر (مهاديو)، وتصويرها في صورة بشعة، واجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال وبنات.

أضف إلى ذلك ما يحدث به بعض المؤرخين من أن رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات، والنساء يعبدن الرجال العراة.

ثمار من شجرة النبوة (59)

وقد أصبح كثير من المعابد مواخير فساد، يترصد فيها الفاسق طلبته، وينال فيها الفاجر بغيته، وإذا كان هذا شأن البيوت التي رفعت للعبادة والدين، فما ظنك ببلاط الملوك وقصور الأغنياء!؟

إكسير الإسلام

بعد أن استعرض توماس من ذاكرته التاريخية ما كان عليه أهل العصر الذي ولد فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من انحطاط وارتداد وسقوط، قال لي: في هذا الوضع الذي ذبلت فيه شجرة البشرية جاء الإكسير الذي أعاد لها الحياة.

قلت: تقصد الإسلام.

قال: أجل.. لقد جاء الإسلام بتلك القيم النبيلة.. ولم يكتف بأن يبشر بها في جزيرة العرب، بل راح ينشرها على العالم.

فقد كان من مزايا الإسلام الكبرى التي خولت له هذا الدور كونه دينا عالميا.. لا يدبن به قومية من القوميات.. ولا شعب من الشعوب.

قلت: لقد تم ذلك بحد السيف؟

قال: لقد فعل ذلك التاريخ، وليس الإسلام.. ذلك أنه يستحيل أن تحصل أي قناعة بالسيف.

الدعوة

قلت: ولكن.. ما سر انتشار الإسلام مع كونه لم يستعمل أي شدة أو عنف في فرضه؟

قال: شيئان، كلاهما يطلق عليه الإسلام (الدعوة)

قلت: ما هما؟

قال: السلوك الطيب الذي أبداه المسلمون مع أهل البلاد التي دخلوا إليها، ووسائل

ثمار من شجرة النبوة (60)

الإقناع بالحجة والبراهين التي مارسوها.

قلت: فحدثني عنهما.

قال: أما في عهد محمد.. فقد كانت سيرة محمد الممتلئة بالطهارة والصدق والإيمان تجذب القلوب إليه جذبا.. فلذلك دخل الكثير إلى الإسلام بسبب سلوكه وأخلاقه وإيمانه وما كان له من الدلائل الكثيرة التي أرشدتهم إلى نبوته.

وأما في عهد من بعده.. فقد كان سلوك محمد الذي ورثه أتباعه وراحوا ينشرون طيبه هو السر في دخول الناس في الإسلام أفواجا.

لقد شهد أصدقاؤنا من المستشرقين للإسلام بهذا..

لقد قال أوليفر: (إن الإسلام لم يأخذ طريقه خلف الصحراء بإفريقية، إلا بعد انحلال دولته الكبرى في المغرب، وكانت وسيلة الإسلام لهذه البقاع هي الثقافة والفكر والدعوة، فانتشر الإسلام بين شعوب البربر، وقامت خلف الصحراء دول إسلامية لعبت في التاريخ دورا كبيرا)

وقال اللورد هدلي: (لا أظن أبدا أن المسلمين اجتهدوا في حين من الأحيان أن يحشوا أفكارهم ومعتقداتهم الدينية في حلوق الناس وصدورهم بالقوة أو الفظاعة أو التعذيب، ولم يشهر محمد السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية البشرية، وإن أعداء الإسلام لأعجز من أن يأتوا بدليل أومثل من الأمثلة التي أثرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخصواحد)

ويقول المسيو (هنري ديو كاستري)، وهو أحد حكام الجزائر الفرنسيين في كتابه عن الإسلام: (هكذا كانت تعاليم النبي محمد بعد أن دخل العرب في الإسلام، وقد اقتفى أثره خلفاؤه من بعده، وذلك يضطرنا الى القول بما قاله (روبنسون) قبلنا: أن شيعة محمد هم وحدهم الذين جمعوا بين محاسنة الأجانب، ومحبة انتشار دينهم، هذه العاطفة هي التي أثرت دفعتهم في سبيل الفتح وهو سبب لا حرج فيه... فنشر القرآن جناحيه خلف جيوشه الظافرة، وانقضوا انقضاض الصاعقة على افريقيا الشمالية من البحر الاحمر الى المحيط الاطلسي، ولم يتركوا أثرا

ثمار من شجرة النبوة (61)

للعنف في طريقهم، إلا ما كان لا بد منه في كل حرب، ولكنهم لم يبيدوا أمة قط أبت الإسلام)

أنا لم أكتف بالشهادات وحدها.. وإن كان لها تأثيرها الخطير في إبراز الحقائق..

ولكني رحت أتتبع مسيرة الدعوة الإسلامية في كل مراحلها.. وقد تبين لي ـ بعد البحث الطويل ـ أن الإسلام لم يكره في أي فترة من فترات تاريخه أي أحد في الدخول للإسلام..

حتى ما أظهر المتطرفون الذين يطلق عليهم المسلمون (الخوارج)، فقد كانوا مع شدتهم مع مخالفيهم من المسلمين متسامحين مع غيرهم من أهل الديانات الأخرى مما اضطر بعض المسلمين إلى التظاهر بالكفر حتى يحتموا منهم.

لقد كان حاديهم إلى ذلك ما ورد في القرآن من تأمين المخالفين، ففيه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} (التوبة)

وقد روي أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فلقيهم ناس من الخوارج، فقالوا لهم: من أنتم؟ قال لهم واصل: مستجيرون حتّى نسمع كلام اللّه، فاعرضوا عليّنا. فعرضوا عليهم فقال واصل: قد قبلنا. قالوا: فامضوا راشدين، قال واصل: ما ذلك لكم حتى تبلغونا مأمننا. قال اللّه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، فأبلغونا مأمننا)، فجاءوا معهم حتى بلغوا مأمنهم (1).

سكت قليلا، ثم قال: تلك الآية تمثل حقيقة الدعوة في الإسلام.. وعلاقة السيف بها.

الإسلام ـ إذا استعمل السيف ـ لا يستعمله إلا ليوفر للمخالفين الجو المناسب الذي يتيح لهم أن يسمعوا القرآن.. هذه الآية تشير إلى ذلك.

ولهذا كان محمد يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشدًا، ولو كان من المحاربين، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن

__________

(1)  رواه المدائني.

ثمار من شجرة النبوة (62)

عمرو، وغيرهم واحدًا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين لمحمد ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم.

وقد استنتج الفقهاء من هذا أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.

التفت إلي، وقال: قلب الطرف في جغرافية البلاد التي انتشر فيها الإسلام لتعلم أن الدعوة هي التي جذبت قلوب الناس للإسلام لا السيف..

فأكثر المسلمين في العالم ينتشرون في بلاد لم تطأها جيوش المسلمين..

لقد دخلت شعوب عظيمة في الإسلام دون أن تطأ أرضها جيوش المسلمين كشعوب جنوب شرقي آسيا التي انتشر فيها الإسلام على أيدي التجار والدعاة، وتفوق الإسلام في أندونيسيا، وتفوق على الديانات الكنفوشية والبوذية والمسيحية.

حتى المغول الذين اكتسحوا العالم الإسلامي فقتلوا وحرقوا ودمروا، نجدهم بعد ذلك يدخلون في الإسلام، وينضوون تحت لوائه، ويكونون من حماته.. لقد قلت في كتابي (الدعوة إلا الإسلام) أذكرهم: (لا يعرف الإسلا م بين ما ترك به خطوب وويلات خطبا أعنت قسوة من زوات المغول.. على أن الإسلام لم يلبث أن نهض من رقدته، وظهر بين الأطلال، واستطاع بواسطة دعاته أن يجذب هؤلاء الفاتحين البرابرة ويحملهم على اعتناقه)

أتدري السر في كل ذلك؟

قلت: ما سره؟

قال: تلك السماحة والسلام والنبل والترفع الذي ربى عليه محمد أتباعه.. لقد كانت البذور التي بذرها محمد في نفوس أتباعه، والتربية التي رباهم عليها هي السر في كل ذلك النجاح.

ثمار من شجرة النبوة (63)

لقد أرسل البطريرك النسطورى الثالث إلى البطريرك (سمعان) زميله فى المجمع بعد ظهور الإسلام رسالة يقول فيها: (إن العرب الذين منحهم الرب سلطة العالم وقيادة الأرض أصبحوا معنا، ومع ذلك نراهم لا يعرضون النصرانية بسوء، فهم يساعدوننا ويشجعوننا على الاحتفاظ بمعتقداتنا، وإنهم ليجلون الرهبان والقسيسين، ويعاونون بالمال الكنائس والأديرة)

وقد قال المؤرخ العالمى (هـ. ج. ويلز) فى كتابه (معالم تاريخ الإنسانية): (لقد تم فى 125 عاماً أن نشر الإسلام لواءه من نهر السند إلى المحيط الأطلسى وإسبانيا، ومن حدود الصين إلى مصر العليا، ولقد ساد الإسلام لأنه كان خير نظام اجتماعى وسياسى استطاعت الأيام تقديمه، وهو قد انتشر لأنه كان يجد فى كل مكان شعوباً بليدة سياسياً: تسلب وتظلم وتخوف، ولا تعلم ولا تنظم، كذلك وجدت حكومات أنانية سقيمة لا اتصال بينها وبين أى شعب. فكان الإسلام أوسع وأحدث وأنظف فكرة سياسية اتخذت سعة النشاط الفعلى فى العالم حتى ذلك اليوم، وكان يهب بنى الإنسان نظاماً أفضل من أى نظام آخر)

لقد كان ذلك العدل الذي طالما حلمت الشعوب به هو السر الأكبر في انتشار الإسلام..

لقد فتح المسلمون مصر، وكان سكانها على دين المسيحية، فلم يكرههم المسلمون على اعتناق الإسلام، ولو كان هناك إكراه ما بقى الأقباط على دينهم حتى هذه اللحظة.

إنما أقام المسلمون العدل الذي أمرهم به دينهم، فردوا للأقباط كرامتهم الإنسانية المفقودة التى سلبهم إياها حكامهم الرومان، وهم على نفس الدين، ولكن على مذهب مخالف.

لقد كان الرومان يلهبون ظهور الأقباط بالسياط لمخالفتهم إياهم فى المذهب، فلا يتحرك الأقباط لرد العدوان، ولا يجدون ملجأ يلجئون إليه يمنحهم الحرية الاعتقادية ويمنحهم العدل والكرامة، فلما جاء المسلمون منحوهم كل ذلك.

سكت قليلا، ثم قال: لقد بحثت في تاريخ الدعوات، فلم أجد دعوة اكتملت، واكتمل لها من أسباب النجاج ما اكتمل لمحمد، ولدين محمد.

ثمار من شجرة النبوة (64)

قلت: أنت وصلت لهذا.. وغيرك ربما وصل إلى غيره.

قال: كل الصادقين من الباحثين من أصحابنا المستشرقين ومن غيرهم وصلوا إلى ما وصلت إليه.. ولكن منهم من كسر الحواجز، فأقر، ومنهم من كسرته الحواجز، فسكت، أو شهد بما لم يعلم..

سأنقل لك بعض شهادات (1) من عرفتهم من المستشرقين الذين كانوا يبحثون عن المثالب قدر ما استطاعوا.. لكنهم لم يجدوا غير المناقب، فراحوا يشهدون بما علموا (2):

لقد قال (رودي برت)، وهو من علماء ألمانيا المعاصرين: (كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة يعيثون فيها فساداً، حتى أتى محمد ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس)

ويقول (مارسيل بوازار) (3)، وهو مفكر، وقانونى فرنسى: (لم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشراً بدين وحسب، بل كان كذلك مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ وأثرت في تطور انتشار الإسلام فيما بعد على أوسع نطاق)

ويقول (أرنولد توينبي)، وهو المؤرخ البريطاني الشهير: (لقد كرس محمد حياته لتحقيق رسالته في كفالة هذين المظهرين في البيئة الاجتماعية العربية، وهما: الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم، وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه

__________

(1)  سنحاول في هذه الرسالة جمع أكبر قدر من الشهادات المرتبطة بالثمرات المختلفة للإسلام، ولا يخفى ما لهذه الشهادات من اعتبار برهاني علمي، بالإضافة إلى اعتبارها التأثيري في المسلمين أنفسهم، وخاصة من بهرهم الغرب، والحضارة الغربية.

ويحضرني في هذا أن بنت الشيخ المراغي شيخ الأزهر، كانت مسافرة مع أبيها فصادفت في تلك الرحلة امرأة من (الخواجات) فراحت تذكر لابنة الشيخ إعجابها بالعقاد، وخصوصاً (العبقريات)، وهنا راحت ابنة الشيخ تطلب العبقريات من أبيها، فقال الشيخ بحسرة: (أنا شيخ الأزهر، وابنتي لم تسمع لي، وسبق أن كلمتها عن العقاد وكتبه، فلما حدثتها الخواجة استمعت لها وصدقتها)، ثم عقب بألم ومرارة قائلاً: (يبدو أننا لن نؤمن ولن نصدق بالإسلام إلا إذا آمن الخواجة به)

(2)  هذه النقول من كتاب (قالوا عن الإسلام)، من مواضع متفرقة منه.

(3)  سنجري حوارنا الافتراضي معه في فصل (إنسانية)

ثمار من شجرة النبوة (65)

الوحدانية والسلطة التنفيذية معاً، فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب، ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطلسي إلى شواطئ الأوراس)

ويقول الدكتور م. ج. دوراني: (وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد، فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة الله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغيَّر طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة التي لم تنجب رجلاً عظيماً واحداً يستحق الذكر منذ قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفاً من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية، وتعلم الناس أمور الدين الجديد)

ويقول (غوستاف لوبون)، وهو المؤرخ المعروف: (إنَّ هذا الكتاب (القرآن) تشريع ديني وسياسي واجتماعي).

ويقول (مونتجومري وات) عميد قسم الدراسات العربية في جامعة أدنبره سابقاً: (يعتبر القرآن قلاقل العصر نتيجة أسباب دينية بالرغم من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأنه لا يمكن تقويمها إلا باستخدام الوسائل الدينية مثل كل شيء، وإنه لمن الجرأة الشك في حكمة القرآن نظراً لنجاح محمد في تبليغ الرسالة)

ويقول العالم (مايكل هارت) الأمريكي الشهير: (إن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.. إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوله أن يُعْتَبَر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية)

ويقول (إدوارد بروي)، وهو باحث فرنسي معاصر وأستاذ بهذه الجامعة: (عندما قبض

ثمار من شجرة النبوة (66)

النبي العربي عام 632 م كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة لم تعرف مثلها من قبل)

ويقول (فيليب حتي): (إذا نحن نظرنا إلى محمد من خلال الأعمال التي حققها فإن محمداً الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد يبدو لنا بكل وضوح واحداً من أقوى الرجال في جميع أحقاب التاريخ، لقد نشر ديناً هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية، وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر)

ويقول (السير لنتجنستادير): (إن تاريخ الحكم الإسلامي يدحض ظنون بعض الغربيين من أن الإسلام لا يصلح لإقامة دولة تساس فيها الأمور على قواعد المصلحة الاجتماعية وحسن العشرة بين المسلمين وغير المسلمين، وأن مفكري الإسلام في جميع العصور بحثوا قواعد الحكم والعرف من الوجهة الفلسفية، وأخرجوا لأممهم مذاهب في السياسة والولاية تسمو إلى الطبقة العليا)

ويقول (إدوارد كيبون): (إن من عبقرية النبي العربي وفي خلال أمته وفي روح دينه أسباب انحلال الدولة الرومانية الشرقية وسقوطها، وإن أبصارنا لتتجه دهشة إلى ثورة من أعظم الثورات التي طبعت أمم الأرض بطابع خالد)

ويقول (برناردشو) بأسلوبه الساخر: (إنَّ محمداً أصلح العالم وهو جالس يشرب قهوة في المدينة)

ويقول (صامويل هنتغتون) المفكر الأمريكي في إحدى محاضراته: (لا آدم سميث ولا توماس جيفرسون سيفيان بالاحتياجات النفسية والعاطفية والأخلاقية للإنسان، ولا المسيح سيفي بها على المدى الطويل، محمد سينتصر)

ثمار من شجرة النبوة (67)

التنوير

قلت: وعيت هذا.. وأحسب أن كل من قرأ كتابك (الدعوة إلى الإسلام) سيعيه مثلما وعيته.

قال: لقد كتبت ذلك الكتاب في بداية بحثي عن الحقيقة.. وقد ذكرت فيه بعض ما ندمت عليه بعد ذلك (1).. ولكن الحقيقة أعظم من أن يحتويها كتابي ذلك أو غيره.. إن الحقيقة أعظم من أن تحويها جميع كتب الدنيا.

قلت: لقد ذكرت لي الإكسير الذي استفاد منه من اهتدوا بهدي الإسلام، وانضموا تحت لوائه.. وبقينا نحن.. نحن الوحيدون.. أهل أوروبا.. الذين لم يصبنا إكسير الإسلام.. ولكنا مع ذلك من أكثر شعوب العالم تحضرا.

ابتسم، وقال: لولا إكسير الإسلام ما نال قومنا من الحضارة ما نالوا.. لولا الإسلام لظلت أوروبا في ظلمات القرون الوسطى.. أو لقضى بعضها على بعض.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد بحثت في هذا كما بحثت في غيره.. وسأعطيك خلاصة موجزة لأبحاثي في هذا المجال.

لقد قدم الإسلام لقومي خدمات لا يمكن إحصاؤها، وهي تشمل الجانبين: الدين والحياة.

الدين

قلت: الدين!؟.. وما علاقة ديننا بإكسير الإسلام؟

__________

(1)  مع شهرة توماس بالاعتدال إلا أن البعض شكك في ذلك (انظر: محمود حمزة عزوني، دراسة نقدية لكتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف توماس ولكر آرنولد، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الدعوة من المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة)

ثمار من شجرة النبوة (68)

قال: إن له علاقة وطيدة.. ليس بالمسيحية وحدها.. بل باليهودية أيضا..

وسأبدأ بتأثيره على اليهودية التي هم أم المسيحية الأولى..

لقد كان الإسلام والتعاليم العظيمة التي جاء بها سببا من أهم أسباب حركات التنوير التي حصلت في اليهودية (1).. فقد انطلق دعاة حركة التنوير اليهودية من المنطلقات نفسها التي انطلقت منها حركة الاستنارة الغربية بكل محاسنها ومساوئها وبكل تعميماتها وتناقضاتها.

فقد أنكر دعاة التنوير ما تصوروه طفيلية اليهود وهامشيتهم، وهي سمات مرتبطة بالوظائف التقليدية لليهود ومسألة التجارة والربا، فطالبوا بضرورة تغيير ذلك حتى يمكن تحويل اليهود من عناصر هامشية منعزلة إلى عناصر منتجة مندمجة.

كما طالبوا بضرورة تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية.

ولم يكن للدعوة إلى تحديث وظائف اليهود وحرفهم ومهنهم مضمون اقتصادي وحسب، وإنما كان لها مضمون ثقافي ونفسي عميق، إذ كانت دعوة إلى أن يتحرك أعضاء الجماعة من مسام المجتمع كجماعة وظيفية وسيطة منعزلة لها ثقافتها الخاصة إلى نخاعه أو صلبه. فيصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع، يتحدثون بلغته ويرتدون أزياءه وينتمون إليه ويدينون له وحده بالولاء.

وقد طالب هؤلاء التنويريون بأن تتم العملية التعليمية خارج الإطار الديني وأن تشمل الجماهير كلها وليس الأرستقراطية الفكرية وحدها من الحاخامات وغيرهم، كما طالبوا إخوانهم في الدين بأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس غير اليهودية حتى يتقنوا كل الفنون العلمانية، مثل الهندسة والزراعة، وشجعوا ممارسة الأعمال اليدوية، كما دافعوا عن تعليم المرأة.

وبالفعل، بدأت المدارس اليهودية العلمانية تظهر، لأول مرة في تاريخ الجماعات اليهودية الأوربية، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وافتُتحت أول مدرسة يهودية لتعليم المرأة في

__________

(1)  انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

ثمار من شجرة النبوة (69)

روسيا عام 1836. وكان دعاة التنوير يرون أن التعليم العلماني هو السبيل إلى تحديث اليهود ودمجهم وعلمنتهم.

وقد حاولوا أن يُدخلوا نزعة عقلانية على اليهودية، فأحيوا كتابات المفكر العربي (الإسلامي) المؤمن باليهودية موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بإدخال التعليم غير الديني على الدراسات الدينية اليهودية.

ويُعَدُّ المفكر الألماني موسى مندلسون، الذي تأثر بأعمال موسى بن ميمون، أباً للتنوير اليهودي.

وقد صاغ موسى بن ميمون المبادئ الثلاثة عشر التي جعلها أساس الدين اليهودي وأركان الإيمان فيه على غرار أصول الإيمان في الإسلام، وأدرج فيها بعض أصول الإيمان الإسلامية مما لم يكن معروفًا في اليهودية من قبل أو مدرجًا في العهد القديم، كالاعتقاد بأن الله عالم، وبالثواب والعقاب في الآخرة، والاعتقاد في بعث الموتى.

وحدد مفهوم النبوة والمعجزة لأول مرة في اليهودية، وقد جاء إما متأثرًا بنظرية الفلاسفة المشائين كالفارابي وابن سينا، وإما متابعًا لجمهور علماء الإسلام في استدلالهم على هذه المعتقدات بالنصوص القرآنية.

وقد أقر ابن كمونة بعدم ذكر الثواب والعقاب الأخروي في التوراة وراح يعتذر عن ذلك ويحاول تسويغه، وهذا يؤكد اقتباس ابن ميمون هذه الأصول من الإسلام.

بالإضافة إلى هذا، فقد بدأ نقد التوراة، يقول (واكسمان) صاحب كتاب (الأدب اليهودي): (في القرن الحادي عشر دخلت الفلسفة اليهودية مرحلة جديدة متأثرة بالمؤلفات الفلسفية الإسلامية والأفكار الإسلامية، وكان من أثر هذا أن بدأ الشك في التلمود، وبدأت تظهر أفكار حرة، ولم يقتصر الهجوم والنقد الذي قام به القراءون والطوائف المتصلة بهم على التلمود،

ثمار من شجرة النبوة (70)

بل شمل الكتاب المقدس أعظم إنتاج عقلي في الدين اليهودي) (1)

أما التأثير الإسلامي على المسيحية، فواضح لا شك فيه.

ولعل أهم هذه الآثار هو حماية الإسلام المسيحية من السقوط في حمأة الوثنية التي كان لا يفرق بينها وبينها إلا قاب قوسين أو أدنى.

قلت: إن ما تقوله غير صحيح.. فلم تقترب المسيحية في يوم من الأيام من رجس الوثنية.

وكيف تقترب من الوثنية، وكتابها المقدس يقول لها: (لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن، ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور) (سفر التثنية: 5: 8)

ويقول لها: (فاحذروا لأنفسكم جدا، فأنتم لم تروا صورة ما حين خاطبكم الرب في جبل حوريب من وسط النار. لئلا تفسدوا فتنحتوا لكم تمثالا لصورة ما لمثال رجل أو امرأة) (تثنية: 4: 15)

ويقول لها: (لا تصنعوا لكم أصناما، ولا تقيموا لكم تماثيل منحوتة، أو أنصابا مقدسة، ولا ترفعوا حجرا مصورا في أرضكم لتسجدوا له) (اللاويين: 26: 1)

هذه هي نصوص التوراة التي وردت في النهي عن عمل الصور والتماثيل وعن عبادتها، والسجود لها.. وأنت تعرف أن التوراة تعتبر كتابا مقدسا لدى المسيحيين، بالإضافة إلى أن العهد الجديد خال من أي دعوة لعبادة الأوثان.

قال: ولكن المسيحيين اقتبسوا هذه العبادة كما اقتبسوا غيرها.. بل كادت تصبح ديانة وثنية لولا أن حماها الله بالإسلام.

قلت: كيف ذلك؟

__________

(1)  نقلا عن إبراهيم موسى هنداوي، الأثر العربي في الفكر اليهودي. ص 144، مكتبة الأنجلو المصرية 1963 م.

ثمار من شجرة النبوة (71)

قال: ألا تسمع بالأيقونات (1

قلت: بلى..

قال: ألم تسمع بأنه مر بها يوم من الأيام صارت تعبد فيه من دون الله؟

سكت، فقال: لقد جاء يوم على المسيحية عبدت فيه الصور والتماثيل، فلا تكاد تجد ديرا أو كنيسة إلا وهما ممتلئان بشتى الصور والتماثيل، للمسيح، ولمريم، والقديسين منهم، وهي موضع تقديسهم وعبادتهم.

وبالتتبع التاريخي لهذه الشعيرة نجد أنها لم تكن في أول أمرها كما هي عليه الآن، بل قد كانت نشأتها في البداية محدودة النطاق، ثم ما لبثت أن نمت تدريجيا، وانتشرت انتشارا واسعاً، ثم أصبحت من ضمن شعائر المسيحية، وذلك عن طريق مجامعهم.

هذا ليس كلامي.. بل إن الشهود من المسيحيين يثبتون هذا.. يقول المؤرخ المسيحي (ول ديورانت): (كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر.. كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية.

ولما تضاعف عدد القديسين المعبودين، نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة.

__________

(1)  (الأيقونة) باليونانية (آيكون) بمعنى (صورة) أو (تمثيل)، ومنها (التأيقن) بالنحت. وفي السياق المسيحي، تشير كلمة (أيقونة) إلى (لوحة) أو (رسم بارز) (بالفرنسية: با رليف bas-relief) أو "لوحة فسيفسائية للمسيح أو العذراء (وأحياناً أحد القديسين). وكانت الأيقونات تُعتبَر أداة مساعدة أو وسيطاً للعابدين حتى يمكن للشخص المقدَّس المصوَّر في الأيقونة والمتجسِّد فيها، أن يستمع لدعواتهم، انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

ثمار من شجرة النبوة (72)

وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار، والصور، والتماثيل المقدسة إلى معبودات، يسجد الناس لها، ويقبلونها، ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها، ويتوجونها بالأزهار، ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي.

وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص، تستطيع أن ترى الصور المقدسة، في كل مكان، في الكنائس، والأديرة، والمنازل، والحوانيت، وحتى أثاث المنزل، والحلي، والملابس نفسها لم تخل منها.

وأخذت المدن التي تتهددها أخطار الوباء، أو المجاعة، أو الحرب، تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية أو على ما فيها من الأولياء والقديسين للنجاة من هذه الكوارث)

ولكنه ما إن انتشر الإسلام، وعم أرجاء المعمورة، وخاصة في القرن الثامن الميلادي، وعرفت تعاليمه لغير أهله ـ وما فيه من النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل فضلا عن تقديسها ـ حتى بدأ بعض المنصفين من المسيحيين وأرباب السلطان في نبذ هذه البدعة والعمل على إزالتها.

ومن هؤلاء الإمبراطور (ليو الثالث)، الذي تشبعت نفسه بفكرة سرت إليه من المسلمين وغيرهم الذين ذموا عكوف جمهرة المسيحيين على تعظيم الصور والتماثيل في الكنائس وفي خارجها، فعقد مجلسا من الأساقفة وأصدر مرسوما عام (726 م) يطلب فيه إزالة جميع الصور والتماثيل الدينية من الكنائس، وحرم تصوير المسيح والعذراء، وأمر بأن يغطي بالجص ما على جدران الكنائس من صور، لكن لم يقابل هذا المرسوم بالموافقة الجماعية، فكان أن عارضته الكنيسة، وثار عليه الشعب. واتفقوا على عزل (ليو) وطرده من الحكم.

واجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا (جريجوري الثاني)، وصب اللعنة فيه على محطمي الصور والتماثيل، إلا أن أولاد (ليو الثالث) ساروا على نهجه، منهم ابنه (قسطنطين الخامس 741775 م) حيث جمع هذا الإمبراطور مجلسا من أساقفة الشرق في القسطنطينية سنة (754 م) قرر فيه بصفة قاطعة: تحريم اتخاذ الصور والتماثيل في العبادة، ووصفها بأنها عمل

ثمار من شجرة النبوة (73)

ممقوت، وحرم طلب الشفاعة من العذراء، وأمر بأن يمحى أو يدمر كل ما في الكنائس من صور وتماثيل.

وعلى هذا سار أحفاده من بعده حتى كان عام (787 م) حيث دعت الإمبراطورة (إيريني) ـ التي كانت معاصرة لهارون الرشيد ـ رجال الدين في العالم المسيحي إلى عقد مجمع عام للبحث في مسألة (الصور والتماثيل)، واتخاذ قرار حاسم بشأنها. فاجتمع في مدينة نيقية عام (787 م) حوالي (377) أسقفا، وأصدروا قرارا بتعظيم صور المسيح وأمه والقديسين، لا بعبادتها.

وجاء في قرار هذا المجمع ما يلي: (نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط، بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات، لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل، وسائر القديسين في صورهم، شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم، والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور)

واستمر الحال هكذا، حتى قامت حركة الإصلاح الكنسي في القرن الخامس عشر الميلادي، وكان من مبادئها منع اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها متأثرين في ذلك بما رأوه من المسلمين عن طريق الحروب الصليبية.

بالإضافة إلى هذا، فقد ظهر لمقاومة هذه الظاهرة الخطيرة حركة تُسمَّى (أيكونوكلازم) (iconoclasm)، أي (تحطيم الأيقونات) أو (تحطيم الأوثان)، وقد ظهرت حول القسطنطينية في القرنين الثامن والتاسع تحت تأثير الإسلام.

لقد رأت هذه الحركة أن الأيقونات تشكل سقوطاً في الوثنية باعتبار أن كثيراً من المصلين أصبحوا يظنون أن الأيقونة هي نفسها الشخص المقدَّس المرسوم عليها.

وقد نجحت الحركة بشكل مؤقت إذ ظهر أباطرة معادون للأيقونات، وحتى بعد قمع الحركة، كان الفنانون البيزنطيون يحاولون الابتعاد عن التصوير الواقعي والميل نحو التجريد، وذلك حتى يبتعدوا عن التجسيم والتوثين.

ثمار من شجرة النبوة (74)

ليس هذا فقط هو تأثير الإسلام في المسيحية..

فمن تأثيره فيها ما دعا إليه البروتستانت من حرية قراءة الكتاب المقدس، ورفض احتكار الكنيسة تفسيره، والتي فتحت الباب أمام حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب، تلك الحركة المنهجية التي تدين بالفضل لعلماء الإسلام الذين كتبوا في الرد على هذا الاحتكار كابن حزم والغزالي والقرطبي وابن تيمية وابن القيم، وغيرهم.

لقد شهد قاموس (برتلس مان) لديانات العالم على تأثير الإسلام في المسيحية، فقال: (لقد أثَّر الإسلام تأثيرًا عظيمًا في العقيدة المسيحية والفلسفة، وقاد على سبيل المثال إلى نقاش جديد حول عبادة الصور وتقديسها في المسيحية)

الحياة

قلت: وعيت كلامك في تأثير الإسلام في الإصلاح الديني.. فما تأثيره في إصلاح الحياة.. حياتنا نحن الأوروبيين؟

قال: لهذا أيضا بعض علاقة بالدين.. وبالخصوص بالكنيسة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أنت تعلم أن الكنيسة كانت ذات سطوة عنيفة على كل مرافق الحياة فى أوروبا فى قرونها الوسطى المظلمة.. وكان سبب ذلك سيطرة الفساد الكامن فى الكنيسة على كل مرافق الحياة.

لقد أخطأ بعض قومنا، أو كثير منهم، فتصوروا أن الدين هو سبب ذلك التخلف، وسبب ذلك الظلام الذي غمر قروننا الوسطى بينما الدين بريء من ذلك..

لقد كان المسلمون في تلك العصور في أزهى فترات حياتهم مع كونهم كانوا ملتزمين بدينهم.

وقد ذكر التاريخ ـ الذى تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة ـ أن أوروبا بدأت تخرج

ثمار من شجرة النبوة (75)

من ظلمات قرونها الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، سواء فى الحروب الصليبية، أو البعوث التى بعثتها للتعلم فى مدارس المسلمين فى الأندلس بصفة خاصة، وفى صقلية وغيرها من البلاد التى نورها الإسلام.

بل تذكر الروايات التاريخية أن رجال الدين المسيحى أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية فى تلك المدارس، أو فيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية، وأنهم كانوا يترقون فى مناصب الأكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة.

وقد قال روجر بيكون فى القرن الثالث عشر الميلادى: (من أراد أن يتعلم، فليتعلم العربية لأنها هى لغة العلم)

لقد وجدت أوروبا عندما احتكت بالمسلمين ـ في المواطن المختلفة التي أتيح لها أن تحتك بهم فيها (1) ـ عالما عجيبا بالنسبة لها، ليس فيه بابورات، ولا رجال دين.. وليست فيه أسرار عقدية يختص بعملها فريق من الناس دون فريق.. وليس فيه نبلاء يستعبدون الناس فى إقطاعياتهم.. وليس فيه حجر على العقول أن تفكر، ولا حجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس.

قال (راندال) فى كتابه (تكوين العقل الحديث): (وبنوا ـ يقصد المسلمين ـ فى القرن العاشر فى أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب، بل كان علما طبق على الفنون والصناعات الضرورية للحياة العملية، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون فى القرون الوسطى التفكير العلمى والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما فى أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة) (2)

وقال ليوبولد فايس ـ الذي بهره الإسلام، فأسلم، وتسمى محمد أسد ـ فى كتابه (الإسلام على مفترق الطرق): (إن العصور الوسطى قد أتلفت القوى المنتجة فى أوروبة.. كانت العلوم فى

__________

(1)  سنذكر بعض هذه المواطن في هذا المبحث.

(2)  تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمة: 1/ 314.

ثمار من شجرة النبوة (76)

ركود، وكانت الخرافة سائدة، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم، فى ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامى فى العالم ـ فى بادئ الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق، وبالجامعات الإسلامية الزاهرة فى أسبانيا المسلمة فى الغرب، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التى أنشأتها جمهوريتنا جنوة والبندقية ـ أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدنية العربية.

وأمام تلك الأبصار المشدوهة، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبيين، ظهرت مدنية جديدة، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة، ذات كنوز ثقافية كانت قد ضاعت، ثم أصبحت فى أووربة من قبل نسيا منسيا، ولكن الذى صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة.. لقد خلقوا لأنفسهم عالما علميا جديدا تمام الجدة.. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمى الحديث الذى نعيش فيه لم يدشن فى مدن أوروبا النصرانية، ولكن فى المراكز الإسلامية: فى دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة) (1)

قلت: فكيف تسنى لأوروبا أن تتصل بالمسلمين، وتستفيد منهم، بالرغم مما كان بينهما من شحناء وبغضاء لا تزال أثارة منها إلى يومنا هذا؟

قال: لقد كانت لذلك طرق كثيرة.. وجسور ممتدة.. وأنت تعرف المسلمين.. فهم أكثر الناس طيبة ولو مع أعدائهم.

لقد كان من تلك الجسور التي وصلت أوروبا بالإسلام جسر الأندلس (2).. أو إسبانية حالياً.. فالأندلس قطعة من أوروبة، تجاور فرنسا وهي قريبة من إيطاليا وإنكلترا وغيرها من الأقطار الأوروبية.

وقد أرسلت كثير من البلاد الأوروبية أبناءها على شكل بعثات ترعاها مستويات رسمية

__________

(1)  الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة عمر فروخ، ص 39 – 40.

(2)  انظر: الثقافة الإسلامية وأثرها في الحضارة، الأستاذ محمود الشرقاوي.

ثمار من شجرة النبوة (77)

عالية، للدراسة في بلاد الأندلس.. وتصدى كثيرٌ منهم للقيام بعملية ترجمة لأمهات كتب التراث العربي الإسلامي إلى اللاتينية وغيرها، وعلى رأس ذلك كله القرآن، وقد بدأوا بدراسة العلوم، واستمر الانتفاع مما لدى أهل الأندلس من علوم نظرية وفلسفية وعلوم مادية وتطبيقية طيلة وجود العرب في الأندلس.

وبذلك تعتبر المكتبة الإسبانية العامة في مدريد من المكتبات المهمة التي تحتوي على الكثير من المخطوطات العربية والإسلامية، التي تصدى الغرب لدراستها والانتفاع منها بعد نقلها إلى لغاتهم، وهكذا كانت بذور النهضة الأوروبية.

ومن تلك الجسور الحروب الصليبية التي وضعت الأوروبيين في مواجهة مباشرة مع الشرق وحضارته وعلومه، ورغم الإساءة في البداية إلى التراث العربي الإسلامي إذ حرق الصليبيون في أنطاكية عند الاستيلاء عليها الكثير من المخطوطات العربية الإسلامية، فقد التفت الأوروبيون إلى ضرورة الانتفاع من هذا التقدم الذي يشاهدونه، فنقلوا في سفنهم كل ما استطاعوا نقله من كتب، وأدوات، ومحاصيل يمكن زراعتها في بلادهم، حتى الحِرَف المختلفة نقلوها إلى بلادهم، ونشطوا في إقامة المعاهد والجامعات وتدريس كتب العرب المسلمين في جامعاتهم.

لقد بقي كتاب (القانون) في الطب لابن سينا يُدرّس في بروكسل ـ بلجيكا ـ حتى 1909 م، ومثل ذلك كتب الجبر، والرياضيات، وعلوم الطب، والصيدلة، وعلم الحيل (الميكانيك)، والكيمياء، والنبات، كل ذلك انتقل إلى جامعاتهم، واستمر تدريس تلك الكتب لعدة قرون، وبذل علماؤهم جهوداً كبيرةً في الدراسة التطبيقية والتجريبية حتى وضعوا بلادهم على عتبة الحضارة الحديثة والمعاصرة، وعجّت معاجمهم بالمفردات والمصطلحات العربية الإسلامية العلمية، على اختلاف أنواعها مع شيء من تطويع هذه المفردات لإدخالها في لغتهم.

ومن تلك الجسور جسر صقلية وجنوب إيطاليا، فقد فتح العرب المسلمون صقلية في

ثمار من شجرة النبوة (78)

العهد العباسي، وحيثما حلّ العرب حلّت معهم رسالتهم وعلومهم.

وحتى عندما غادر العرب جنوب إيطاليا وصقلية على يد روجر النورمندي، حرص روجر على تشجيع العرب المسلمين للبقاء في صقلية، وذلك لعلمه بغزارة علومهم وعظمة حضارتهم، ومنهم الشريف الإدريسي الذي رسم العالم المعروف لديه على لوح من الفضة وأهداه للملك، كما أهداه كتاباً في الجغرافية هو (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) (1)

كما شجع روجر ترجمة العلوم العربية الإسلامية إلى لغتهم، وسار على نهجه من بعده، أمثال فريدريك ملك صقلية، الذي بشّر بالحضارة الإسلامية في أوروبة، وبنى مدرسة للطب في سالرنو، وأسس جامعة نابولي.. وهكذا وجدت الحضارة العربية الإسلامية طريقاً ثالثاً سلكته إلى أوروبة.. فكانت ولادة الحضارة الأوروبية.

قلت: ولكن الأوروبيين اليوم ينكرون ذلك أعظم إنكار؟

قال: دعهم ينكروا.. فلا خير فيمن ينكر خير غيره..

ومع ذلك، فليس كل الأوروبيين بذلك الحقد.. لقد كان هناك علماء منصفون شهدوا بتأثير الحضارة الإسلامية العظيم في أوروبا وحياة أوروبا ونهضة أوروبا.

ومنهم المؤرخ الفرنسي المعروف (جوستاف لوبون) الذي تناول في كتابه (حضارة العرب) تأثير حضارة الإسلام في الغرب وأرجع فضل حضارة أوربا الغربية إليها وقال: (إن تأثير هذه الحضارة بتعاليمها العلمية والأدبية والأخلاقية عظيم، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب الا إذا تصور حالة أوربا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة) (2)

وقد ذكر في كتابه هذا بأن عهد الجهالة قد طال في أوربا العصور الوسطى، وأن بعض العقول المستنيرة فيها لما شعرت بالحاجة إلى نفض الجهالة عنها، طرقت أبواب العرب يستهدونهم

__________

(1)  انظر: الإسلام والحضارة العربية، محمد كرد علي: 1/ 284.

(2)  جوستاف لوبون: حضارة العرب ص 26.

ثمار من شجرة النبوة (79)

ما يحتاجون إليه، لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذلك العهد.

ويقرر لوبون أن العلم دخل أوربا بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا، وأنه في سنة 1120 م أنشئت مدرسة للترجمة في طليلة بالأندلس بعناية (ريمولة) رئيس الأساقفة، وأن هذه المدرسة أخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفات المسلمين، ولم يقتصر هذا النقل على كتب الرازي وابن سينا وابن رشد فحسب بل نقلت اليها كتب اليونان التي كان العرب قد نقلوها إلى لسانهم.

ويضيف لوبون أن عدد ما ترجم من كتب العرب إلى اللاتينية يزيد على ثلثمائة كتاب.

وهو يؤكد فضل العرب على الغرب في حفظ تراث اليونان القديم بقوله: (فإلى العرب، وإلى العرب وحدهم، لا إلي رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة علوم الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردًا علميًا سوى مؤلفاتهم وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلاً، وأخلاقًا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفوقهم قوم في الإبداع الفني) (1)

وأكد لوبون أثر الاسلام وأثر حضارته في كل بلد استظلت برايته قائلاً: (كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي فتحوها عظيمًا جدًا في الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظاً في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها حينما خفق علم الرسول الذي أظلها بأسرع مايمكن، ازدهرت فيها العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي ازدهار) (2)

وأشاد لوبون بفضل العرب في نشر العلوم وفتح الجامعات في البلاد التي استظلت برايتهم فيقول: (ولم يقتصر العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه، فالعرب قد نشروها، كذلك بما

__________

(1)  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 26.

(2)  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 66.

ثمار من شجرة النبوة (80)

أقاموا من الجامعات وما ألفوا من الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في أوربا من هذه الناحية، ولقد كان العرب أساتذة للأمم المسيحية عدة قرون، وأننا لم نطلع على علوم القدماء والرومان الابفضل العرب، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغن عما نقل إلى لغاتنا من مؤلفات العرب) (1)

ومن الشهداء المنصفين الفيلسوف الفرنسي (رينيه جينو)، الذي أسلم، وتسمى (عبد الواحد يحيى)، فقد قال: (والأثر الواضح الذى يثبت لنا انتقال المؤثرات الثقافية من المسلمين إلى أوربا هو تلك الكلمات العربية الأصل التي تستعمل لنقل الأفكار وإظهار ما تكنه النفوس، فإن من السهل علينا أن نستنتج انتقال تلك الأفكار والآراء الإسلامية نفسها، وفي الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية قد تناول إلى درجة بعيدة، وبشكل محسوس كل العلوم والفنون والفلسفة وغير ذلك، وقد كانت إسبانيا مركز الوسط إلهام الذي انتشرت منه تلك الحضارة، فالكيمياء احتفظت دائما باسمها العربي، وعلم الفلك أكثر اصطلاحاته الخاصة ماتزال محتفظة في كل اللغات الأوربية بأصلها العربي، كما أن كثيرا من النجوم مايزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون عليها أسماء عربية، ومن السهل جدًا أن نوضح أن كثيرًا من المعارف الجغرافية عرفت من الرحالة العرب الذين جابوا كثيرًا من الأقطار وحملوا معهم معلومات جمة.. وإننا لنجد أثر الثقافة الإسلامية في الرياضيات أكثر وضوحًا، وهذا علم الحيوان الذي يسهل علينا من اسمه العربي أن نعرف طريق انتقاله إلى الغرب، كما أن الأرقام الحسابية التي يستعملها الأوربيون هي نفس الأرقام التي استعملها العرب، وأن كثيرًا من المعاني التي جادت بها قرائح الكتاب والشعراء المسلمين أخذت واستعملت في الأدب الغربي، كما نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح وبصفة خاصة في فن البناء وذلك في العصور الوسطى.

ولم تكن هناك وسيلة لتعرف أوربا الفلسفة اليونانية الا عن طريق الثقافة الإسلامية، لأن التراجم اللاتينية لأفلاطون وأرسطو لم تنقل أو تترجم من الأصل اليوناني مباشرة، وإنما أخذت

__________

(1)  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 569.

ثمار من شجرة النبوة (81)

من التراجم العربية، وأضيف إليها ماكتبه المعاصرون المسلمون مثل ابن رشد وابن سينا في الفلسفة الإسلامية.

ويختم رينيه جينو شهادته بقوله: (هذا جزء من كل من أثر الثقافة الإسلامية في الغرب، ولكن الغربيين لايريدون أن يقولوا به لأنهم لا يريدون الاعتراف بفضل الشرق عليهم، ولكن الزمن كفيل بإظهار الحقائق) (1)

ليس العلماء وحدهم هم الذين شهدوا لفضل الإسلام على الغرب.. هناك ساسة منصفون شهدوا له أيضا.. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي، ظهر كتاب (توكيد الذات الأوربية: آفاق القرن الحادي والعشرين) للمستشار الألماني هيلموت شميت، وقد وضح فيه مساهمة الثقافة الإسلامية العربية في روافد الثقافة الأوربية، وضرورة الإسلام في تطور أوروبا مستقبلاً.

وقد أفرد لهذه النقطة عشر صفحات في كتابه الذي يقع في 255 صفحة، وهو يقول في ختام معالجة هذه النقطة: (خلال القرن الجديد سيصبح الجوار الجديد مع الإسلام أحد الشروط الأساسية لتأكيد الذات الأوربية والحفاظ عليها، ومن المحتمل أن يعتمد إحلال السلام والاستقرار في أوروبا على هذا الشرط)

في حفل تكريم المستشرقة الألمانية (آنا ماري شميل) وتسليمها جائزة السلام من (رابطة الكتاب الألمان)، في 10/ 1/1995 م، لمناصرتها الفكر الإسلامي، ودعوتها إلى فهمه وتغيير الصورة الشوهاء التي شكلها الإعلام الأوربي عن الإسلام والمسلمين، ألقى الرئيس الألماني (رومان هوتسوج) كلمة دعى فيها إلى أهمية فهم الإسلام فهماً صحيحاً، وأشاد فيها بالتنوير الإسلامي الذي حفظ للغرب ـ قبل ستة أو سبعة قرون ـ أجزاء عظيمة من التراث القديم

وقال الرئيس الألماني: (هل يجوز لنا أن نصنف المسلمين الأتقياء مع (الأصوليين

__________

(1)  انظر: الفيلسوف رينيه جينو أو عبد الواحد يحيى، للدكتور عبد الحليم محمود، ص 50 – 60.

ثمار من شجرة النبوة (82)

الإرهابيين) فقط لمجرد افتقادنا نحن للإحساس السليم تجاه استهزاء بالمشاعر الدينية للآخرين، أو لكوننا لم نعد قادرين على التعبير عن هذا الإحساس السليم)

وفي الختام دعا الرئيس الألماني إلى فهم الإسلام فهماً صحيحاً لتحديد موقف آخر منه غير الموقف الذي بنى على الجهل به.

بالإضافة إلى هؤلاء ألقى الأمير تشارلز (ولى عهد بريطانيا) خطاباً في قسم الدراسات الإسلامية بإحدى الجامعات البريطانية في بدايات النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين الميلادي، تحدث فيه عن جوانب في علاقة الغرب بالإسلام ودعا إلى ضرورة التعاون بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وأهمية التواصل فيما بينهما، ونبذ ما تركته الحروب الصليبية في العالم الإسلامي من آثار سيئة لا تزال متبقية في النفوس.

وقد أشار إلى وجود نقاط اتفاق بين الإسلام والغرب أكثر من وجود نقاط اختلاف فيما بينهما، وانتقد الصورة الشوهاء التي يروجها البعض، فيقول: (والكثيرون في الغرب يرون الإسلام على أنه حرب أهلية دامية في الشرق الأوسط، وأصولية إسلامية إن حكمنا قد شابه التشوه لاعتبار أن التطرف هو القاعدة، ويظن الكثيرون أن أحكام الشريعة غير عادلة، ولكن ينبغي أن نتدارس تطبيقاتها قبل أن نصدر أحكاماً.. إن هناك عدداً من الدول الإسلامية أعطت حق التصويت للمرأة في نفس الوقت مع أوروبا، كما أن النساء المسلمات لا يعتبرن مواطنات من الدرجة الثانية)

ولم يتوقف إنصاف الأمير تشارلز للإسلام عند هذا الحد، بل أكد فضل الإسلام والحضارة الإسلامية على أوروبا في نهضتها الحديثة، وقال بصراحة: (كثير من السمات التى تفخر بها أوروبا الحديثة جاءت إلينا من الأندلس.. إن الإسلام جزء من ماضينا ومن حاضرنا)

وأخذ الأمير في خطابه يلح على الحوار بين الإسلام (يقصد المسلمين) والغرب ويوضح أهمية اتسام هذا الحوار بالصبر، ويقول: (لكن ذلك يتطلب جهدا ًشاقاً لكي يفهم بعضنا الآخر،

ثمار من شجرة النبوة (83)

ولكي نتمكن من إبعاد شبح الخوف والتشكك)

كما دعا الأمير تشارلز في كلمة ألقاها في مؤتمر سنوي للخارجية البريطانية بمركز (ويلتون بارك) بلندن، في عام 1997 م، رجال الدين من بني جنسه، وكذلك خبراء الاقتصاد، إلى الاستعانة بالمسلمين في حماية القيم لدى الصغار، وقال: (في كل أنحاء العالم يمكننا أن نجد من يريد تعلم الإنجليزية، لكننا هنا في الغرب نحتاج إلى التعلم على أيدي مدرسين مسلمين كيف نتدبر الأمور مرة أخرى، بقلوبنا لا بعقولنا فقط)

كما أردف قائلاً: (إننا في الغرب يمكننا الاستفادة من الرسالة الإسلامية في اكتشاف جذور مفاهيمنا الحالية التي ندين فيها للقيم الإسلامية التي تحترم الطبيعية الثابتة للقوانين الطبيعية)

قلت: ذكرت لي الجسور التي كانت صلة وصل بيننا وبين المسلمين، وذكرت لي الشهادات المنصفة التي تثبت حصول ذلك التأثير، ولم يبق إلا أن تحدثني عن نماذج عن بعض ذلك التأثير.. فالنماذج هي التي تحدد المدى الذي وصل إليه التأثير.

قال: لا يمكنني في هذا المجلس أن أعدد لك إلا بعض النماذج التي يظهر فيها أثر المسلمين علينا.. وكل نموذج منها سيل من السيول تكونت بعده أنهار كثيرة لا نزال نستقي منها.

لقد كان تأثير الثقافة الإسلامية على أوربا تأثيرًا عميقًا في شتى نواحى الحياة.. وسأختار لك منها ما يرتبط بالمعارف والعلوم والفنون:

ففي الأدب.. قامت صلة وثيقة بين طائفة من عباقرة الشعر في أوربا بأسرها، خلال القرن الرابع عشر الميلادي وما بعده، وموضوعات الأدب العربي والثقافة الإسلامية على وجه لايقبل التشكيك.

ومن هؤلاء (بوكاشيو) و(بترارك) و(دانتي) وهم من أعلام النهضة الايطالية، و(شسر) الكاتب الانجليزي الشهير، و(سرفانيتس) الإسباني، وإلى هؤلاء يرجع التأثير البارز في قيام النهضة الأدبية في أوربا.

ثمار من شجرة النبوة (84)

ففي عام 1346 م كتب بوكاشيو حكاياته التي سماها (الليالي العشرة)، وحذا فيها حذو ليالي ألف ليلة وليلة، التي كانت منتشرة حكاياتها في مصر والشام، وقد ضمن حكاياته مائة حكاية على غرار ألف ليلة وليلة، وأسندها إلى سبع من السيدات وثلاثة من الرجال الذين اعتزلوا في بعض ضواحي المدينة فرارا من مرض الطاعون، وفرضوا على كل منهم حكاية يقصها على أصحابه في كل صباح لقضاء وقت الفراغ، وقد ملأت هذه الحكايات أقطار أوربا، واقتبس منها الكاتب الإنجليزي (وليم شكسبير) موضوع مسرحية (العبرة بالخواتيم)، واقتبس منها (ليسينج) الألماني مسرحية (ناتان الحكيم).

وكان شوسر إِمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية من أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه، لأنه التقى به حين زار إيطاليا، ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (قصص كانتربري)

وكانت صلة دانتي (1) بالثقافة الإسلامية وثيقة، لأنه أقام في صقلية في عهد الملك فردريك الثاني، الذي درس الثقافة الإسلامية في مصادرها العربية الأصيلة، وقد لاحظ أحد المستشرقين أن الشبه قريب جدًا بين وصف الجنة في كلام الصوفي الكبير محي الدين بن عربي (1164 - 1240 م) في مؤلفه الكبير (الفتوحات المكية) وأوصاف دانتي لها في الكوميديا الالهية.

وقد كان دانتي يعرف شيئا غير قليل من سيرة محمد، فاطلع على الأرجح من هذا الباب على قصة الإسراء والمعراج ومراتب السماء، ولعله اطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء المعرى، واقتبس من كل هذه المصادر معلوماته عن العالم الآخر التي أوردها في الكوميدا الالهية، وأكبر القائلين بالاقتباس على هذا النحو هو عالم من أمة الأسبان انقطع للدراسات العربية، وهو الأستاذ آسين بالسيوس (2).

__________

(1)  هو دانتى البجيري (1265 - 1321 م) وهو من مفاخر عصر النهضة، وهو صاحب الكوميديا الالهية، وقد قام بترجمتها إلى اللغة العربية الدكتور حسن عثمان.

(2)  انظر: عبد الرحمن بدوي: دور العرب في تكوين الفكر الأوربي، بيروت 1965، ص 63 - 84.

ثمار من شجرة النبوة (85)

وقد عاش بترارك في عصر الثقافة الإسلامية بإيطاليا وفرنسا، ودرس العلم بجامعتي مونبلييه وباريس بفرنسا وكلتاهما قامتا على تلاميذ علماء المسلمين في الجامعات الأندلسية.

أما سرفانتيس فقد عاش في الجزائر بضع سنوات وألف كتابه (دون كيشوت) بأسلوب لا يشك من يقرأه في اطلاع كاتبه على العبارات العربية والأمثال التي لاتزال شائعة بين العرب حتى هذه الأيام. وقد جزم برسكوت صاحب الاطلاع الواسع على تاريخ الأسبان بأن فكاهة (دون كيشوت) كلها أندلسية في اللباب.

أما عن الشعر، فقد ذكر دانتى أِنّ الشعر الايطالي ولد في صقلية بفضل الشعر العربي وبتأثير منه، ولقد شاع نظم الشعر بالعامية في إقليم بروفانس في جنوب فرنسا، وانتشر الشعر في ذلك الإقليم على يد الشعراء الجوالين الذين عرفوا باسم (التروبادور) وواضح أن الأوربيين اشتقوا هذا الاسم من كلمة طروب العربية، وقد وجدت في أشعار الأوربيين بشمال الأندلس كلمات عربية وأشارات لعادات إسلامية.

والشعر العربي الأندلسي في الموشحات والزجل كان السبب في نشأة الشعر الأسباني نفسه، والزجل يكون عادة باللغة الدارجة، بينما يكون الموشح بالعربية الفصحى، وهذان اللونان من النظم من ابتكار أهل الأندلس، وهما اللذان أثرًا في نشأة الشعر الأوربي، وقد أثبت الباحثون انتقال بحور الشعر الأندلسي والموسيقي العربية إلى أوربا.

وامتد التأثير العربي في نشأة الشعر الأوربي إلى بعض الموضوعات كالمغامرات، وطريقة علاج هذه الموضوعات، كما يتمثل هذا في فكرة الحب العذري التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي، فإنه يرتد إلى الشعر الأندلسي، وأزجال ابن قزمان، وقد عرض فكرة الحب العذري، ابن حزم في كتابه (طوق الحمامة).

أما في مجال القصة الأوربية، فنجد أن هذه القصة تأثرت في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في العصور الوسطى وهي: المقامات، وأخبار الفروسية، وأمجاد الفرسان

ثمار من شجرة النبوة (86)

مغامراتهم لإحراز المجد أو في سبيل الحب.

وترى طائفة من النقاد الأوربيين أن رحلات (جليفر) التي ألفها سويفت، ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها ديفوى، تدين لقصص ألف ليلة وليلة، ولرسالة حى بن يقضان التي ألفها الفيلسوف الأندلسي المسلم ابن الطفيل، وقد وضح أنه كان لترجمة ألف ليلة وليلة إلى اللغات الأوربية أول القرن الثاني عشر أثر عظيم وبالغ الخطورة على الأدب الأوربي.

ولم تنقطع الصلة بين الأدب الإسلامي والآداب الأوربية الحديثة حتى اليوم، ويكفي لبيان الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي في آداب الأوربيين أننا لا نجد أديبا واحدا من نوابغ الأدباء عندهم قد خلا شعره أو نثره من الإشارة إلى بطل إسلامي، أو نادرة إسلامية، ومن هؤلاء: شكسبير، أديسون، بايرون، سودى، كولردج، شيلي من أدباء الإنجليز، ومن أدباء الألمان، جيته، هرور، وليسنج، ومن أدباء فرنسا: فولتير، لافونتين.

وقد صرح لافونتين باقتدائه في أساطيره التي ألفها بكتاب (كليلة ودمنة) الذي عرفه الأوربيون عن طريق المسلمين.

وقد ذكر (ألفارو القرطبي) اهتمام أهل الأندلس من المسيحيين بالآداب العربية، فقال: (يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول علي أسلوب عربي صحيح رشيق، فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية علي الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ وأسفاه! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا علي علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهضة ن وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخري يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم، فواحر قلباه! لقد نسب المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف

ثمار من شجرة النبوة (87)

قادر علي إنشاء رسالة إلي صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعي الأمر كتابة العربية ن فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم) (1)

أما في الفلسفة، فقد كان أثر المسلمين في التفكير الفلسفي لأوربا عظيمًا، وكانت أسبانيا هي مركز تأثير الفلسفة الإسلامية على الفكر الأوربي الغربي، لأن أوربا لم تعرف فلاسفة الشرق إلا عن طريق الأندلس حيث أشرف ريموند أسقف طليطلة على ترجمة أعمال الفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم.

والمسلمون هم الذين حفظوا فلسفة كبار فلاسفة اليونان وعلى ما سطروه في كتبهم وبخاصة أرسطو وأوصلوا هذا التراث إلى الغرب، فاتصال العقلية الأوربية الغربية بالفكر العربي هو الذي دفعها لدراسة الفلسفية اليونانية.

وقد قرر روجر بيكون أن معظم فلسفة أرسطو ظلت عديمة الأثر في الغرب لضياع المحفوظات التي حوت هذه الفلسفة أو لندرتها وصعوبة تذوقها حتى ظهر فلاسفة المسلمين الذين قاموا بنقل فلسفة أرسطو وشرحها وعرضها على الناس عرضًا شاملاً.

ومن فلاسفة الأندلس الذين كان لهم أعمق الأثر في الفكر الأوربي، ابن باجه، وابن الطفيل، وابن رشد.

ويعد ابن رشد الشارح الأعظم لفلسفة أرسطو، وكان أول من أدخل فلسفته إلى أوربا (ميخائيل سكوت) سنة 1230 م، ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب هذا الفيلسوف قد ترجمت إلى اللاتينية، ولم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بارو بإيطاليا والمعلم الأكبر دون منازع (2).

__________

(1)  حضارة الإسلام، جرونيباوم، ص 81 - 82 م.

(2)  جوده هلال ومحمد صبح: قرطبة في التاريخ الإسلامي، ص 104 - 105.

ثمار من شجرة النبوة (88)

ويبدو أثر ابن رشد واضحًا في خروج كثير من الغربيين على تعاليم الكنيسة وتمسكهم بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة.

وقد ظهر أثر آراء ابن رشد واضحًا في فلسفة القديس توما الأكويني (1125 - 1274 م) حتى أن الفصول التي كتبها توما في العقل والعقيدة وعجز العقل عن إدراك الأسرار الإلهية ليست إلا مقابلاً لما كتبه ابن رشد في باب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة ومن الاتصال)

وبلغ تأثر توما بفلسفة ابن رشد أن كتاب (الخلاصة) لتوما يحوي بعض مذاهب إسلامية الأصل، مما يثبت أن الأثر الذي تركه ابن رشد في عقلية الغرب لم يكن مجرد شروح كتابات أرسطو، وإنما كان أبعد وأعمق من ذلك بكثير (1).

ويعد الفيلسوف الألماني المعاصر كانت من أكبر تلاميذ ابن رشد، وقد قال جوستاف لوبون عن ابن رشد: (إِنه كان الحجة البالغة للفلسفة في جامعاتنا منذ أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، لما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473 م أمر بتدريس مذهب هذا الفيلسوف العربي ومذهب أرسطو) (2)

وكان للفيلسوف الصوفي المسلم محي الدين بن عربي (560 هـ ـ 638 هـ) أثر كبير في عقول النساك والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده، وقد ذكر (آسين بلاسيوس) المستشرق الأسباني أن نزعات دانتى الصوفية وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من محي الدين بن عربي بغير تصرف كثير.

ومن المعلوم أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين هو جوهان أكهارت الألماني، فقد نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي ودرس في جامعة باريس، وهي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم، وأكهارت يقول كما يقول ابن عربي: (إِن الله هو الوجود

__________

(1)  سعيد عاشور: فضل العرب على الحضارة الأوربية. القاهرة 1957، ص 36.

(2)  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 569.

ثمار من شجرة النبوة (89)

الحق ولا موجود سواه (1)، وأن الحقيقة الإلهية تتجلى في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان التي مصيرها إلى الاتصال بالله من طريق الرياضة والمعرفة والتسبيح، وأن صلة الروح بالله ألزم من صلة المادة بالصورة، والأجزاء بالكل، والأعضاء بالأجسام) (2)

وقد اقتبس الفيلسوف المتصوف الأسباني ـ رايموندلول ـ من ابن عربي خاصة في كتابه (أسماء الله الحسنى) لأنه كان يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي بقرن واحد، وجعل أسماء الله مئة، وهي لم تعرف بهذا العدد في الديانة المسيحية قبل ذاك.

أما في الطب.. فقد عرف في طب العرب موسوعات طبية إسلامية ترجمت كلها إِلى اللاتينية، اطلع عليها أطباء أوربا، ونهلوا من معينها حتى مطلع العصور الحديثة، كان في مقدمتها كتاب (القانون) لابن سينا في القرن الثاني عشر، وقد جمع خلاصة الطب عند العرب واليونان والسريان والأقباط، وضم ملاحظات جديدة عن الالتهاب الرئوي وعدوى السل، مع وصف لسبعمائة وستين دواء، وقد ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية وطبع عشرات المرات.

كما ترجم الحاوي للرازي (ت 320 هـ/ 926 م) وهو أكبر من القانون وأوسع مادة وموضوعًا، وقد أكمله تلاميذ الرازي بعد موته، وترجم إلى اللاتينية في عام 1486 م، وفيه آراء جديدة عن الفتق والحجامة والحميات وأعصاب منطقة الحنجرة وعضلاتها، وله كتاب (المنصوري) الذي ترجم عام 1481 م ورسالة عن الجدري والحصبة بوصف وتشخيص آية في الدقة لأول مرة.

وكان الكتاب الملكي في الطب لعلي بن عباس (ت 384 هـ / 994 م) شائعًا عند الأوربيين لستة قرون من الزمان (3)، كما كان خلف بن قاسم الزهراوي (ت 414 هـ/1013 م) معروفاً عند

__________

(1)  ذكرنا المعاني الحقيقية المقصودة من كلام العارفين في هذا المجال الذي أساء البعض فهمه، فراح يرميهم بالكفر والبدعة من غير فهم لمقاصدهم، ولا ذوق لمشاربهم في رسالة (أكوان الله) من (رسائل السلام)

(2)  عباس محمود العقاد: أثر العرب في الحضارة الأوربية. القاهرة 1963، ص 98 - 99.

(3)  سيديو، تاريخ العرب العام: 2/ 77.

ثمار من شجرة النبوة (90)

الأوربيين بكتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) بأجزائه الثلاثة، وقد أفرد القسم الأخير منها للجراحة، وفيه أشار إلى أهمية التشريح للجراح، ووصف كثيرًا من الجراحات باسهاب، وأجرى جراحات في شق القصبة الهوائية وتفتيت الحصارة في المثانة وخاصة عند النساء عن طريق المهبل، وسبق إلى استخدام ربط الشرايين، ووصف استعداد بعض الأجسام للنزيف وعلاجه بالكى، وقد زود كتابه برسوم للآلات الجراحية، وقد ترجمه إلى اللاتينية جيرار الكريموني وطبع في أوربا عشرات المرات، وكان مرجعًا في جامعات سالرنو ومونيليه وغيرهما.

وفطن المسلمون إلى أمراض النساء والولادة، وقد كتب في هذا المجال علي بن عباس في توليد الجنين الميت، والأدوية المانعة للحمل، أو النصائح التي تتعين مراعاتها عند التوليد.

وكان الأطباء في البلاد الإسلامية في القرن العاشر، يعلمون تشريح الجثث في قاعات مدرجة خصصت لذلك في جامعة صقلية، واكتشف ابن النفيس الدمشقي المصري الدورة الدموية الصغرى، ونقلها عنه (هارفن) الإنجليزي وعزاها لنفسه ومثل ذلك فعل (سرفينوس) الإيطالي، ويدعم ذلك ما قاله المؤرخ المعاصر (مايرهوف): (إن ما أذهلني حقًا، مماثلة الجمل الأساسية في أقوال هذين الطبيبين لما كتبه ابن النفيس وكأنها ترجمت ترجمة حرفية)، ويؤيد ذلك ايضًا العالم (الدوميالي) في كتابه عن علوم العرب، كما يؤيده الأستاذ الدكتور (ليون بينه) أستاذ الفسيولوجيا بباريس.

قلت: أهذه هي العلوم التي برع فيها المسلمون.. واقتبسها منهم أجدادنا؟

قال: هذه بعض العلوم فقط.. والأهم من ذلك كله هو المناهج التي كان يمارس بها المسلمون تفكيرهم، وكنا نفتقر إليها.

قلت: تقصد المنهج العقلي.

ثمار من شجرة النبوة (91)

قال: لا.. أقصد المنهج التجريبي (1).

قلت: ذلك منهجنا.. به عرفنا.. وعليه قامت حضارتنا.. فقد أسسه في بلادنا (روجر بيكون) و(فرنسيس بيكون)

قال: لقد اعترف الأول بأنه اقتبس هذا المنهج من المسلمين.

يقول دوهرنج: (إن آراء روجر بيكون فى العلوم أصدق وأوضح من آراء سميه المشهور (فرنسيس بيكون).. ومن أين استقى روجر بيكون ما حصله فى العلوم؟)، ثم يجيب: (من الجامعات الإسلامية فى الأندلس)

ويقول بريفولت فى كتابه: (بناء الإنسانية): (إن روجر بيكون درس اللغة العربية، والعلم العربى، والعلوم العربية فى مدرسة أكسفورد، على خلفاء معلميه العرب فى الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذى جاء بعده الحق فى أن ينسب إليهما الفضل فى ابتكار المنهج التجريبى، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب، هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة 0 والمناقشات التى دارت حول واضعى المنهج التجريبى، هى طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية، وقد كان منهج العرب التجريبى فى عصر بيكون قد انتشر انتشاراً واسعاً، وانكب الناس، فى لهف، على تحصيله فى ربوع أوروبا) (2)

ويقول: (لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التى ولدتها ثقافة العرب فى أسبانيا، لم تنهض فى عنفوانها إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام، ولم يكن العلم وحده هو الذى

__________

(1)  سنتحدث عن المناهج المختلفة، ونقارن بينها وبين المناهج التي قررها الإسلام، وأخذ بها علماء المسلمين في فصل (معارف) من هذه الرسالة.

(2)  بناء الإنسانية، ص 202.

ثمار من شجرة النبوة (92)

أعاد إلى أوروبا الحياة، بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوروبية) (1)

ويقول: (إنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوروبى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون، فى نشأة تلك الطاقة التى تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفى المصدر القوى لازدهاره، أى فى العلوم الطبيعية، وفى روح البحث العلمى) (2)

ويقول: (إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم ـ كما رأينا ـ لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم فى يوم من الأيام، فتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية، وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث فى دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبى، كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليونانى، ولم يقارب البحث العلمى نشأته فى العالم القديم إلا فى الإسكندرية فى عهدنا الهلينى، أما ما ندعوه (العلم) فقد ظهر فى أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، بطرق التجربة والمقاييس وتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان، وهذه الروح، وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوروبى) (3)

التفت إلي، وقال: هذا في الماضي.. ونحن إلى الآن لا نزال نستفيد من خبرات المسلمين

__________

(1)  بناء الإنسانية، ص 202.

(2)  بناء الإنسانية، ص 190.

(3)  بناء الإنسانية، ص 109.

ثمار من شجرة النبوة (93)

وعلمائهم وباحثيهم.. بل نحن نمارس كل الوسائل لنمتص كل القدرات والكفاءات لننعم بها نحن دونهم (1).. ثم نظل على جحودنا وكبريائنا وحقدنا.

-\--\-

ما وصل (توماس) من حديثه إلى هذا الموضع حتى انهمرت دموع حارة من عينيه، فأخرج منديلا من جيبه، وراح يمسحهما به.

قلت له: ما الذي دعاك إلى البكاء؟

قال: أمران طالما هطلت دموعي بسببهما.

قلت: ما هما؟.. فعساك تهيج من دموعي ما هيج من دموعك.

قال: أولهما.. أني ذكرت تلك النفوس الطيبة التي ربيت على يدي محمد.. فراحت تنشر خيرها وخلاصها للأمم لا تبتغي بذلك أجرا.. فحررت العبيد.. وأنارت الدنيا.. ونشرت من القيم ما لا تستطيع الدنيا جميعا إحصاءه.

قلت: فما يبكيك من هذا؟

قال: لم يبكني ما فعلوا بنا.. ولا بأهل الأرض من إخواننا.. ولكن يبكيني ما فعلنا بهم..

لقد رحنا بجشعنا وحرصنا وطمعنا ننهب خيرات البلاد التي آوتنا وعلمتنا.. ورحنا نعض الأيدي التي توجهت لتحريرنا من كل القيود التي طوقت أعناقنا.. ورحنا نقتل أحفاد من سالت دماؤهم في سبيل خلاصنا.

__________

(1)  أشير بهذا إلى هجرة الكفاءات والعقول.. فالغرب إن كان قد اعتمد في تشييد النهضة الحديثة على إنجازات الحضارة الإسلامية في العصورالوسطى، فإنه لم يتوقف عند ذلك الحد.. بل هاجرت إلى الدول الغربية والأمريكية أعداد من الكفاءات العلمية والخبرات التقنية، تحصيها مجلة (العلم والمجتمع) في عددها الصادر في ديسمبر 1977 م بثلاثين ألفا، كما ذكر كتاب (رجال ونساء العلم الأمريكيين) 754 من العلماء المتخصصين في مجالات متنوعة، منهم 321 من الدول العربية، 167 من الهند وباكستان، 106 من إيران وأفغانستان، 76 من تركيا (وهى دولة إسلامية) وحصى الكتاب من العلماء المسلمين 226 مهندساً، 313 في العلوم الطبية البيولوجية، 255 في العلوم الطبيعية والرياضية.

ثمار من شجرة النبوة (94)

قلت: هذا الأول.. وهو جدير بأن يجعلني أشاركك في بكائك.. فما الثاني؟

قال: أبكاني قومي الذين نهلوا من خلاص محمد القشور، وتركوا اللباب.. لقد اهتموا بالظواهر، ونسوا البواطن، واهتموا بالعلوم، ونسوا القيم، واهتموا بالدنيا، ونسوا الآخرة.

قلت: فما كنت فاعلا لو رجعت إلى ذلك الزمان؟

قال: آخذ بخلاص المسلمين روحه وجسده.. باطنه وظاهره.

قلت: أتسمح لي حضرة العلامة الجليل أن أسألك سؤالا قد يحرجك؟

قال: سل ما بدا لك.

قلت: أنا أتعجب من كل هذه الحماسة التي تبديها للإسلام، ولكني مع ذلك أراك تحتفظ بصليبك، ودينك.. هل ترى أن الذي قدم كل هذا الخلاص للبشرية كان كاذبا في دعوى النبوة؟

انتفض، وقال: يستحيل ذلك.. يستحيل ذلك..

قلت: ولكني لا أزال أراك على دينك.. كيف هذا؟

صمت قليلا، ثم قال: لن أحدثك عن نفسي.. سأذكر لك ما قال (اللورد هدلي).. وافهم أنت ما تشاء.

قلت: أعرفه.. فما قال؟

قال: لقد قال: (إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم)

قلت: لكن (اللورد هدلي) أظهر إسلامه، وتحدى كل من وقف في طريقه.. وقد كان لإسلامه ضجة كبيرة، وذلك لمكانته بين قومه، وعلو قدره العلمي، وقد حج بيت الله الحرام، ومر في طريقه بالإسكندرية، فأقام له أهالي الثغر حفلة كبيرة برعاية الأمير عمر الطوسوني، وبرئاسة الشيخ عبد الغني محمود شيخ علماء الإسكندرية آنذاك.

ثمار من شجرة النبوة (95)

قال: لقد قال في سبب اعتناقه الإسلام: (عندما كنت أقضي ـ أنا نفسي ـ الزمن الطويل من حياتي الأولى في جو الكنيسة كنت أشعر دائماً أن الدين الإسلامي به الحسن والسهولة، وأنه خلو من عقائد الرومان والبروتستانت، وثبتني في هذا الاعتقاد زيارتي للشرق التي أعقبت ذلك، ودراستي للقرآن الكريم)

ويقول: (فكرت وصليت أربعين سنة كي أصل إلى حل صحيح)

ويقول: (إذا أصبح كل فرد في الإمبراطورية الإنجليزية محمدياً حقيقياً بقلبه وروحه لأصبحت إدارة الأحكام أسهل من ذلك، لأن الناس سيقادون بدين حقيقي)

ويقول: (ليس هناك في الإسلام إلا إله واحد نعبده ونتبعه، إنه أمام الجميع وفوق الجميع، وليس هناك قدوس آخر نشركه معه، إنه لمن المدهش حقاً أن تكون المخلوقات البشرية ذوات العقول والألباب على هذا القدر من الغباوة، فيسمحون للمعتقدات والحيل الكهنوتية أن تحجب عن نظرهم رؤية السماء)

ويقول في شعوره بعد إسلامه: (إن الدين الإسلامي تملك رشدي صدقاً، وأقنعني نقاؤه، وأصبح حقيقة راسخة في عقلي وفؤادي، إذ التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتها قط من قبل، كما استنشق هواء البحر الخالص النقي، وبتحققي من سلامة وضياء وعظمة الإسلام ومجده، أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار)

كانت هذه النصوص تخرج من أعماق أعماق قلبه.. وكأنها قد ولدت تلك اللحظة، قلت: لقد سمعت بكل ما قال من هذا وغيره.. وأنا لا أسألك عنه.. وإنما أسألك عن نفسك.

قال: أحيانا تجد غيرك يوفق في التعبير عما في نفسك أكثر من قدرتك.. فتكتفي بتعبيره عن تعبيرك.. وبلسانه عن لسانك.

قلت: فأنت مقتنع بما قال؟

قال: وأنا حزين لما أفعل.

ثمار من شجرة النبوة (96)

قال ذلك.. ثم صمت صمتا طويلا.. استحييت أن أقطعه عليه.. فخرجت، ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمار من شجرة النبوة (97)

ثانيا ـ صمود

في اليوم الثاني من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة الصمود من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9)، وسر قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (التوبة)

وعرفت بها سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة) (1)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون) (2)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر) (3)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن التأييد الذي أمد الله به هذا الدين، فقام صامدا في وجه كل المؤمرات التي كانت ولا تزال تحاك ضده.

وإلى جنب هذا عرفت سر تلك النصوص الكثيرة التي تنبئ المسلمين عن العداوات الكثيرة التي تختزنها لهم الأيام، والتي عبرت عنها النصوص القرآنية والنبوية خير تعبير:

قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ

__________

(1)  رواه مسلم.

(2)  رواه البخاري ومسلم.

(3)  رواه أحمد.

ثمار من شجرة النبوة (98)

هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} (البقرة)

وقال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)} (النساء)

وقال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} (الممتحنة)

وقال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} (التوبة)

فهذه النصوص المقدسة جميعا تقريرات ربانية تخبر المسلمين عبر التاريخ عما يريد الجاهلون والجاهليون أن يفعلوه بالشجرة المباركة التي بذر بذورها نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.

-\--\-

سمعت بـ (جابرييلي فرانشيسكو) (1) وهو مستشرق إيطالي كان من النوع الذي حدثني عنه مدير جامعة السربون، واسمه من الأسماء التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد، وقد كنت أتحين الفرص للقائه والاستماع إليه، ولكني لم أظفر بذلك إلا في ذلك اليوم الجميل...

في صباح ذلك اليوم سرت إلى حديقة جميلة بضاحية باريس، سمعت أن بها شجرة ولدت قبل أن تولد أكثر مباني المدينة، كان يأتيها الشيوخ ليتذكروا شبابهم، ويأتيها الشباب، ليسألوا الله أن يمدهم من العمر ما أمدها.

عندما رأيتها لم أصدق أنها شجرة عجوز، فقد كانت نضارة الشباب تملؤها، فأوراقها لا

__________

(1)  هو في الأصل abrieli Francesco. (1904 ـ 1997) مستشرق إيطالي، كان مهمتاً باللغة العربية وآدابها حتى عيّن كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها بجامعة روما، عرف بدراسته للأدب العربي، وفي تحقيق التاريخ الإسلامي، انتخب عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1948. واشتهر فرانشسكو بمواقفه المعتدلة من التاريخ الإسلامي. (انظر: سمير القريوتي، (رحيل فرانشسكو جابرييلي) في الشرق الأوسط، عدد:6592، 5 شعبان 1417 (15 ديسمبر 1996 م)

ثمار من شجرة النبوة (99)

تزال غضة طرية، وسيقانها الجديدة تضاهي سيقان أصغر الأشجار وأرقها، وثمارها لا تزال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولكن ما أكد لي هذا العمر الطويل الذي رزقها الله إياه هو ضخامة أصولها، وامتداد جذورها، وتعالي هامتها، ورسوخها الشديد في أرضها، فهي لا تهزها العواصف، ولا تعبث بها الأعاصير، ولا تميد بأغصانها الرياح.

وفوق ذلك، فقد اكتسبت مقاومة فعالة ـ لست أدري مصدرها ـ ضد كل تلك الحشرات الضارة التي عبثت بصحة نظيراتها، فأسلمتها إلى الموت المحتوم.

هناك رأيت (جابرييلي فرانشيسكو) المستشرق الإيطالي، جالسا على عشب تلك الحديقة، يحدق بشدة إلى تلك الشجرة، وكأنه يرى في أوراقها وأغصانها وهامتها ما لا يرى سائر الناس.

فرحت فرحا شديدا للقائه، فحييته باللغة العربية، لأنال فرصة الحديث معه، فقد كنت أعلم هيامه الشديد بها.

عندما سمعني أتحدث بالعربية، طلب مني أن أجلس بجانبه، فجلست، وبدأ يسألني عني، فذكرت له ما أذن لي في ذكره، وحجبت عنه ما نهيت عن ذكره.

قلت له بعدها: أراك مستغرقا في هذه الشجرة، أتتذكر فيها شبابك؟

قال: لا.. أتذكر فيها رجلا غرس شجرة لا تختلف كثيرا عن هذه الشجرة.. لقد غرسها منذ قرون طويلة، ومع ذلك لا تزال غضة طرية ممتلئة شبابا.

مرت عليها الأعاصير.. كل الأعاصير.. فلم تجتثها.

أصيبت الأرض بجانبها بالزلازل، ولكن أرضها لاتزال مستقرة ثابتة.

اجتمعت جميع أسود الدنيا وسباعها لتغرز أنيابها في أصولها، وتقطع منابع الرزق عن فروعها، فعادت إليها أنيابها خاسئة حسيرة عاجزة.

صوبت في وجهها المدافع.. فلم تفلح المدافع، ولم يفلح القائمون عليها.

ثمار من شجرة النبوة (100)

أضرمت حولها النيران، فلم تحرقها، ولم تجفف أوراقها، ولم تشوه صورتها.

ثم نظر إلى، وقال: هذه الشجرة تذكرني بتلك الشجرة العظيمة.

قلت: من ذلك العظيم الذي غرس تلك الشجرة العظيمة.

قال: صدقت، فالشجرة العظيمة لا يغرسها إلا عظيم.

قلت: فمن هو؟

قال: محمد.

قلت: أي محمد تقصد؟

قال: وهل هناك غير محمد؟

قلت: لعلك تقصد نبي العرب.

قال: بل نبي العالم.. نعم إن شجرة محمد نبتت في بلاد العرب، ولكن أغصانها وأوراقها وثمارها شملت العالم أجمع.

قلت: أي شيء أغراك بتلك الشجرة حتى نالت منك كل هذا الاهتمام؟

قال: الصمود..

قلت: الصمود!؟.. ما تعني بالصمود؟

قال: لقد كنت مغرما منذ صغري بالأبطال الصامدين الذين لا يهتزون لشيء، ولا يتأثرون لشيء.. الأبطال الثابتون على مبادئهم أمام كل ترغيب، وأمام كل ترهيب.

وقد كان من الأبطال الذين امتلأ قلبي تعظيما لهم محمد.. لقد سمعت قوله لعمه الذي جاء يخبره بما أغراه قومه به، وبما رهبوه.. فقال: (يا عم.. والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) (1)

قلت: والمسيح ـ أيضا ـ ثبت أمام خشبة الصليب.. لقد قضى ست ساعات على الصليب،

__________

(1)  رواه ابن إسحق وغيره.

ثمار من شجرة النبوة (101)

وقد تألم فيها بأنواع عديدة من الآلام لم تزعزعه، ولم تهد كيانه المقدس.

لقد تألم آلاما كثيرة.. آلاما في جسده.. وآلاما في نفسه.

لقد تفل عليه، وضرب بالسياط، ووضعوا إكليل شوك فوق رأسه القدوس، وهو الملك صاحب التيجان الكثيرة.

وطعنوه بحربة في جنبه، وسالت منه ينابيع الغفران من خلال ذلك الدم الذي يطهر من كل خطية، والذي لا يزال يتكلم ويطلب الغفران لأجلنا.

ثقبوا يديه ورجليه بمسامير حديدية غليظة بواسطة أيدي الجنود الرومانيين الذين كانت قلوبهم غليظة.

رددت هذا الكلام من غير شعور، فقال: أنت مهتم بالدين المسيحي إذن؟

قلت: وكيف لا أهتم، وأنا مسيحي؟

قال: وأنا مثلك مسيحي.. أذهب كل أحد إلى الكنيسة.. ولكني لا أشعر بأي اهتمام بالمسيحية.

قلت: لم؟

قال: ألم أذكر لك بأني مغرم بالبطولة والصمود إلى الغاية التي لا تتصورها؟

قلت: ولم تتجل البطولة في أحد كما تجلت في المسيح، وهو على خشبة الصليب.

قال: إن شئت الحق، فإن هناك آلاف المصلوبين في العالم أبدوا من البطولة والصمود على ما هو أخطر من الصليب أضعاف ما ذكر عن المسيح..

بل إنه لا أحد من المجرمين المصلوبين من صاح بذلك الرعب الذي صاح به المسيح عندما قوّله كتبتنا قوله: (إيلي إيلي.. لماذا شبقتني!؟ أي إلهي إلهي لماذا تركتني) (متى:27) (1)

ثم التفت إلي، وقال: حتى لو فرضنا أن ما حصل من المسيح صمود لا نظير له، فإنه صمود

__________

(1)  هذا بناء على ما يعتقده المسيحيون، أما المسيح.. فقد كان سيد الأبطال الثابتين، والبطولة لا تتجلى على الصليب وحده..

ثمار من شجرة النبوة (102)

شخص يبعث على الإعجاب.. لا صمود أمة..

قلت: ولكن أتباع المسيح أبدوا من الصمود والثبات ما لا نظير له.

إن التاريخ يشهد بالبطولات العظيمة التي أبداها أتباع المسيح في القرون الثلاثة الأولى تجاه جميع أنواع المحن والبلايا والاضطهادات التي مورست عليهم.

قال: ولكنهم ـ في الأخير ـ تزعزعوا أمام إرادة الامبراطور..

نعم.. لم تطق معهم أسلحة الترهيب.. ولكن أسلحة الترغيب جذبتهم.. فتحولت المسيحية من دين المسيح إلى دين قسطنطين.. يغير فيها ما يشاء، ويثبت ما يشاء.

قلت: كيف تقول هذا؟

قال: أنا مؤرخ.. ولا أتعامل إلا مع الوثائق التاريخية، ولدي من الوثائق الكثيرة ما يثبت تلك الانحناءات الخطيرة التي انحناها ورثة المسيح، ليتركوا ـ في الأخير ـ الأمر للبابا الأول حضرة الامبراطور قسطنطين ليتصرف في دينهم كيف يشاء.

اسمح لي.. يا أخي.. أن أقول لك بأن ديننا الذي ندين به ورثناه من الامبراطور، لا من المسيح.

قلت: إن هذا الكلام الذي تقوله خطير جدا.

قال: ولكنه صحيح جدا للأسف..

قلت: لا بأس قد أقر لك بما ذكرت.. ولكن كيف صمدت الثمار التي جاء بها الإسلام؟

نظر إلى الشجرة برهة، ثم قال: ألم تتساءل عن سر نشاط هذه الشجرة وحياتها واستمرارها في العطاء طول تلك السنين التي مرت بها؟

قلت: لا أحتاج إلى التساؤل عن ذلك.. فهو واضح.. فأرضها طيبة تمدها بالماء وما تحتاجه من غذاء الأرض، وهواؤها عليل يمدها بما تحتاجه من غذاء السماء.. وهي مع ذلك كريمة لا تحتفظ بهذه الأقوات لنفسها.. بل تمد بها من قصدها، فتحييه بحياتها، وتشمله ببركاتها.

ثمار من شجرة النبوة (103)

قال: فكذلك الشجرة التي غرسها محمد.. لقد كان لصمود المصادر التي تغذت بها شجرته أثرها الكبير في حفظ حياة دينه، وحفظ ثمراته.

قلت: ولكنا نرى الإسلام تقزم بعد أن كان عملاقا، وهرم بعد أن كان شابا.

قال: هو هرم مزيف، وهو تقزم تكذب العين في رؤيته.. الإسلام في حقيقته لا يزال يحتفظ بكل مقومات حياته.. ولكن الحروب العظيمة التي ووجه بها جعلتنا نرى في المسلمين ما نراه.. ولو أن هذه الحروب توقفت أياما، وتركت المسلمين لأنفسهم لعادوا إلى قوتهم التي تختزن في مصادرهم.

إن الشجرة التي غرستها المصادر المقدسة لهذا الدين شجرة لا تنتج إلا الثمار الطيبة.. وهي ثمار قد يعرض عنها البعض في وقت من الأوقات، ولكنهم سرعان ما يحنون إليها، ويحدو بهم الشوق للأكل منها.

قلت: هذا كلام عام أريد تفاصيله.

قال: ولن تجد عندي إلا تفاصيله.. لقد عشت كثيرا في المجتمعات المسلمة.. ومع كونها تخلفت كثيرا عن دينها، ولكنها مع ذلك لا تزال تحتفظ بكل المقومات التي يمكن أن تعيد لها الحياة من جديد، وتعيد لهذا الدين دوره الرائد في العالم.

العقيدة

قلت: فلنبدأ بالعقيدة.. والتي هو أصل أصول الدين، وأساس أسسه.

قال: لقد بحثت في الأديان جميعا.. وقرأت تراثها المقدس.. وتغلغلت في أديرتها ومعابدها لأبحث عن صورة مقدسة لله.. فلم أجدها إلا في دين محمد..

إنه الدين الوحيد الذي يعرض تعريفا لله ينسجم مع الفطرة والعقل والكون والحياة..

إن كل شيء يبرهن على كل كلمة يحملها دين محمد عن الله.

ثمار من شجرة النبوة (104)

والمسلمون في جميع فترات تاريخهم يحملون تصورات مقدسة عن الله تسمو كثيرا عن كل ما حصل في جميع الأديان من تحريفات.

أنت مثلي تحب التفاصيل.. ولا تقنع بالأسلوب الخطابي.. فلذلك سأذكر لك ما يبرهن لك على أن الشجرة الوحيدة التي صمدت في وجه جميع التحريفات هي الشجرة التي غرسها محمد.

إن أهم ما يميز العقيدة الإسلامية هو تناسبها مع الفطرة السليمة التي يلتقي فيها العقل والروح والنفس من غير أن يحصل بينها أي اضطراب.. لقد عبر القرآن عن هذه الخاصية بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30)

هذه العقيدة الفطرية تشرحها سورة قصيرة قل أن يوجد مسلم لا يستظهرها هي سورة الإخلاص.. وهي السورة التي نزلت جواب إلهياً للمشركين عندما سألوا محمدا أن يصف لهم ربه.

وهذه الحقيقة هي التي تجذب اهتمام وتركيز دارسي الإسلام من أول لحظة، وتدفع من كتبت له الهداية منهم إلى نفض ما علق بفطرته من ركام والدخول في دين الله بطمأنينة، ذلك أن (أول ما يستشعره القلب والعقل أمام العقيدة الإسلامية هو الاستقامة والبساطة والوضوح.. وهذه السمة التي تجتذب الأفراد الذين يدخلون في هذا الدين من الأوربيين والأميركيين المعاصرين فيتحدثون عنها بوصفها أول ما طرق حسهم من هذا الدين وهي ذاتها السمة التي تجتذب البدائيين في إفريقيا وآسيا في القديم والحديث لأنها سمة الفطرة التي يشترك فيها الناس أجمعين متحضرين وبدائيين) (1)

لقد قال بعض قومنا من المسيحيين ممن عشقوا هذه العقيدة الفطرية المنطقية: (بدأت

__________

(1)  خصائص التطور الإسلامي:228.

ثمار من شجرة النبوة (105)

أدرس الأديان بصفة عامة، والإسلام على وجه الخصوص، فأيقنت في غضون دراستي أن دنيا تفكيري وإحساسي أقرب للإسلام منها للمسيحية، وبالتدريج اكتشفت أن الإسلام كمنهج حياة كان ينسجم من كافة الوجوه مع فطرتي البشرية)

ويقول: (عندما درست وجهة النظر الإسلامية حول النبي عيسى عليه السلام ابن الله، كما عرفت فيما بعد من أستاذ بروتستانتي أن عدداً كبيراً من المسيحيين ـ حوالي 80 بالمائة ـ منهم أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية في هذه الناحية على الأقل من عقيدتهم، أما من الناحية العملية فحتى قبل إسلامي كنت أنفر من الخمور والرقص وما شابه ذلك من الأمور التي عرفت فيما بعد أنها محرمة في الإسلام، وهكذا كان الإسلام بالنسبة لي كعملية اكتشافي لفطرتي) (1)

ويقول: (والعجيب في قضية التثليث التي تنسب أوروبا الفضل في إنكارها إلى فلاسفة عصر التنوير (ق 18) من أمثال فولتير، ويعرب بعض الباحثين عن دهشتهم لان عقلية جبارة كتلك التي يتمتع بها ديكارت لم تستنكر هذه العقيدة ولو بكلمة واحدة.. هذا في حين أن الإسلام ـ دين الله الحق ـ سبق إلى نقص هذه العقيدة وإبطالها ليس من خلال تنفيره العام من الشرك وإنكاره المطلق فحسب بل أفرد الحديث عنها استقلالاً وفصله من وجوه منوها بأنها عقيدة وثنية قديمة وهي الحقيقة التي لم تعرفها أوروبا إلا بعد ظهور علم مقارنة الأديان الذي يعد من أحداث علومها النظرية، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة:30)) (2)

هذا في العقيدة في الله التي هي أصل العقائد ولبابها.. وهكذا في سائر العقائد.

قارن بين موقفنا من الخطيئة الموروثة التي تنبني عليها المسيحية، وبين قول القرآن: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ

__________

(1)  رجال ونساء اسلموا، عرفات كامل العشي:1/ 24 - 25.

(2)  رجل ونساء اسلموا، عرفات كامل العشي:1/ 24 – 25.

ثمار من شجرة النبوة (106)

إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام:164).. وقوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء:15).. وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الزمر:7)

وغيرها من الآيات الكثيرة التي تنفي مسؤولية الإنسان على ما لم يعمله.. بل إن القرآن ينفي مسؤولية الإنسان على ما أكره عليه.. لأن العمل لايعتبر عملا يستحق الجزاء إلا إذا كان عن طواعية تامة.. يقول القرآن: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106).. ويقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)

قارن هذه العقيدة التي تنسجم مع المنطق العقلي بعقيدتنا في الخطيئة الموروثة..

لقد أزعجت الخطيئة المورثة فولتير وباسكال.. بل أقلقت الضمير الأوروبي كله وأرقته منذ أن اعتنقها إلى الآن..

أما القرآن، فإنه يذكر الحادثة باعتبارها حدثا تاريخيا يذكر للعبرة.. لا لتبنى حياة البشر كلها على أساسه..

بالإضافة إلى ذلك.. فالقرآن ذكر القصة مذيلة بذكر التوبة والاستغفار وبيان أن الله قبل التوبة وغفر الخطيئة، ففي سورة البقرة ينتهي سياق القصة إلى قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:37)

وفي سورة الأعراف تنتهي القصة بقوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (لأعراف:23)

ثمار من شجرة النبوة (107)

وفي سورة طه يقول: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} (طه)

انظر.. إن الآيات القرآنية لا تعطي الخطيئة ذلك الحجم الضخم الذي تعطيها إياه تعاليم الكنيسة، فهي أمر عرضي في حياة آدم، بل في حياة كل بشر، تمحوه التوبة ويذهبه الاستغفار.

أما الهبوط إلى الأرض ـ على حسب القرآن ـ فقد كان هو الغرض الأصلي من خلق آدم.. فقد قال الله للملائكة قبل خلق آدم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30).. ولم تكن المعصية إلا سببا لذلك (1)..

إن هذه العقيدة المنطقية ـ مقارنة بعقيدتنا ـ هي الأساس السليم الذي بني عليه السلوك الإسلامي الرفيع.

أما تصوراتنا.. فقد كانت محل سخرية من المسلمين.. ومحل نقد لاذع.. وقد كان علماء المسلمين أسبق من فلاسفة عصر التنوير وأتباع مدرسية النقد التاريخي في هذا المضمار.. كما قال ابن القيم: (فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما أنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكة وعبده، وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسبوا إليه.. ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة ونسبوه إلى غاية النقص حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا.. وبالجملة فلا نعلم أمة سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة)

هذا الكلام نموذج من بين انتقادات عقلية لا حصر لها دونها علماء المسلمين قبل أن يخلق سبينوزا وباسكال وفولتير بقرون، وقبل أن تفكر أوروبا في شيء اسمه (النقد التاريخي) أو حرية

__________

(1)  ويدل لهذا ما روي من محاجة آدم موسي ـ عليهما السلام ـ حين عاتبه على أنه تسبب في إخراج بنيه من الجنة، فرد عليه آدم كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلينها)، قال: بلى قال - صلى الله عليه وسلم -: (فحج آدم موسى (ثلاثاً)) رواه البخاري.

ثمار من شجرة النبوة (108)

التفكير.

قلت: أنا أقر بالكثير مما ذكرت من الانحرافات الخطيرة التي دخلت المسيحية.. ولكنها مع ذلك لا تقل عن الانحرافات التي دخلت الإسلام.. وبذلك انحنى الإسلام أمام الهرطقات الكثيرة التي دخلته كما انحنت المسيحية..

قال: لا.. لقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على مقولات الفرق الإسلامية المرتبطة بهذا الجانب.. فوجدتها كلها تصب في بحر واحد هو بحر الوحدانية والتقديس والتعظيم.. المسلمون كلهم موحدون لله.. يحملون تصورات غاية في القداسة عن الله.

قلت: ولكني قرأت الكثير من الكتب والمطويات التي تحذر من طوائف المبتدعة من المؤولة والمفوضة والمشبهة والمجسمة..

قال: تلك ـ كما يقال ـ زوبعة في فنجان.. وأولئك قوم من المتطرفين.. هم أشبه الناس بأولئك الذين اجتمعوا بأمر قسطنطين في مجمع نيقية.. ليس لهم من هم إلا التفريق بين صفوف إخوانهم..

قلت: ولكن لقولهم مصداقية عظمى.

ابتسم، وقال: لقد أتيحت لي مخالطة بعضهم.. وقد رأيت من قصر عقولهم ما صرفني عن الاستماع لهم..

قلت: ولكن كلامهم مهم جدا.. لقد لاحظت اهتمام الكنيسة به.

قال: إن الكنيسة تهتم بمقولاتهم لأنها من التبشير غير المباشر.. أما الحقيقة.. فلا خلاف بين المسلمين جميع المسلمين في جميع مسائل العقيدة.

قلت: الشيعة والسنة والمعتزلة والخوارج..

قال: أجل.. جميعهم يعبدون إلها واحدا.. ويؤمنون بنبي واحد.. وكل الذي يثار ليس إلا

ثمار من شجرة النبوة (109)

زوبعة في فنجان (1).

الشعائر

قلت: عرفت صمود ثمار عقائد الإسلام.. فهل صمدت ثمار شعائره؟

قال: أجل.. وبنفس صمود عقيدته.. ذلك أن كليهما يستمد من مصادر ثابتة صحيحة غاية في القوة..

قلت: فهل صمد الإسلام في هذا الميدان؟

قال: كما لم يصمد دين من الأديان.. بل هو لا يزال غضا طريا كما جاء.. وقد كان للنظام الذي اتسمت به شعائر الإسلام السر الأكبر في بقائها وصمودها.

فكل الشعائر التي وضعت النصوص الإسلامية المقدسة طرقها وأساليبها ليس لها إلا هدف واحد هو ربط المسلمين بربهم ورسولهم ودينهم، فلا يمر وقت من الأوقات على المسلم يكون فيه بعيدا عن ربه وذكره وعبادته (2):

فارتباط المسلم بربه مستمر دائم في كل لحظة من لحظات عمره، بل هو على صلة دائمة به: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام)

فهو يصلي كل يوم وليلة خمس صلوات مفروضة، في أوقات محددة موقوتة، ليس له أن يتقدم عليها أو يتأخر بدون عذر شرعي.. وهو مأمور بالطهارة الكبرى والصغرى لكل صلاة منها.. هذا عدا نوافل الصلاة المؤكدة وغيرها مما لا حصر له منها..

وهو يصوم شهرا كاملا في السنة فرضا لا يسقطه عنه سقوطا مؤقتا أو مطلقا إلا عذر

__________

(1)  هناك تفاصيل كثيرة ترتبط بهذا، وتجيب عن الشبه المتعلقة به في رسالة (الباحثون عن الله)

(2)  انظر: الإسلام دين هداية ورحمة واستعصاء، د. عبد الله قادري الأهدل.

ثمار من شجرة النبوة (110)

شرعي.. هذا عدا نوافل الصوم التي أفضلها صوم يوم وإفطار يوم على القادر في عمره كله.. وهناك أيام محدودة في الأسبوع وفي الشهر وفي العام يشرع للمسلم صيامها..

وهو يحج حجا مفروضا عليه مرة في عمره، لا يجوز له تركه إلا بعذر شرعي.

وهو يخرج زكاة ماله في أوقاته المحددة، لا يجوز له تأخير ذلك، وأمره الله تعالى بنوافل الصدقات والإنفاق مما رزقه الله، في كل ما يحقق الخير للإسلام والمسلمين..

وهو مأمور بذكر الله تعالى الواجب والمندوب، بحيث لا يزال لسانه رطبا بذكر ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)} (الأحزاب)

وهو مأمور بتعاطي ما أحل الله، وترك ما حرم الله في كل تصرفاته، فلا يخلو المسلم في أي وقت من أوقاته من فعل طاعة أو ترك معصية.

فليس له أن يعصر خمرا ولا يبيعها ولا يعلن عنها ولا يسقيها ولا يملكها..

وليس له أن يصنع سلاحا أو يبيعه لمن يقتل به نفسا حرم الله قتلها مسلما كان أو غير مسلم بغير حق، ولا يتلف به مالا ولا حرثا ولا حيوانا..

وليس له أن يبيع أو يشتري بيعا أوشراءا فيه غش للناس، وضرر بهم.

وليس له أن يسرق مال غيره ولا يغتصب أرضه ولا يستحل عرضه ولا يطلع على عورات جاره..

فهو في كل حال من أحواله مرتبط بربه، لأنه يضبط جميع تصرفاته بطاعته وترك معصيته..

وهو مرتبط بجماعة المسلمين من أي جنس كانوا، وفي جميع أنواع الشعائر.. ففي الإسلام عبادات جماعية، يقوم بها المسلمون قياما جماعيا، سواء كان التكليف بها فرض عين أو فرض كفاية أو مندوبا..

ولهذا شرع للمسلمين عمارة الجوامع والمساجد في مدنهم وأحيائهم، وشرع لهم عمارتها بذكر الله فيها، وبخاصة صلوات الجماعات خمس مرات في اليوم والليلة، وصلوات الْجُمَع

ثمار من شجرة النبوة (111)

الأسبوعية، التي ينادي المؤذنون فيها لكل صلاة من تلك الصلوات.

وشرع لهم أن يكون أئمتهم من القراء الذين يحفظون كتاب الله أو كثيرا منه، ويفقهون أحكام الله، فيسمع منهم المصلون في الصلوات الجهرية ما يقرؤون من كتاب الله، فيتدبرونه وينتفعون به..

والمسلم في هذه الحالة العبادية الخاشعة الراغبة الراهبة، شديد البحث والتفتيش عن نفسه في آيات كتاب ربه، ليعرف أين هو فيها من النواحي الإيمانية والعبادية والأخلاقية، والاجتماعية، والفقهية والدعوية، أين هو من رضا ربه أو سخطه.. وهل يتصف بصفات من رضي الله عنهم من المؤمنين، أو بصفات من سخط الله عليهم من الكافرين والمنافقين، وهل صلته بالله تؤهله لدخول الجنان أو لعقاب ربه في النيران.

ويتدبر ذكر ربه المشروع في قيامه وركوعه وسجوده وقعوده، فيمتلئ قلبه حبا لله ورغبة فيما عنده وخوفا ورهبة من قوته وجبروته، وطمعا في عزته ونصره على أعدائه، فلا يخاف إلا الله ولا يطلب العزة إلا من مولاه، فلا يخرج من صلاته إلا وقد تحقق له الهدف من إقامتها والحكمة من أدائها.. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)

يضاف إلى هذه الصلوات الخمس صلوات أخرى لها مناسبات معينة.. لا علاقة لأي منها بأي قومية أو عنصرية أو وثنية:

منها صلاة الاستسقاء عند الجدب والقحط لطلب الغيث من ربهم الذي يسقي أرضهم وينبت زرعهم ويدر ضرعهم ويغذيهم ويغذي أنعامهم..

ومنها صلاة الكسوف والخسوف عندما تكسف الشمس ويخسف القمر، تضرعا إلى الله تعالى من أن لا ينزل بهم غضبه عقابا على معصيته، ففي الكسوف والخسوف تذكير لعباده بكمال

ثمار من شجرة النبوة (112)

قدرته، وتغيير الأحوال المعتادة إلى غيرهما مما لا قدرة لأحد على اتقائه إلا برحمة الله وفضله (1)..

ومنها صلاة العيدين: عيد الفطر وعيد النحر، اللتين يؤديها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، في يوم واحد أو أيام متقاربة، بحسب المطالع.

وللمسلمين يومُ عيدٍ أسبوعي، وهو يوم الجمعة الذي فرض فيه على كل مكلف من رجالهم، حضور خطبتيه وصلاته، حيث يعلو خطباء الجوامع الكبيرة والصغيرة في القرى والمدن والأحياء المنابر، أمام الجموع الحاشدة، لتذكيرهم بكل ما يحتاجون إليه في حياتهم من أمر الإيمان والعبادة والأخلاق والحلال والحرام في المعاملات، والشئون السياسية والعلاقات الدولية، مبنية كلها على كثير من آيات القرآن والسنة وما استنبطه منهما علماء الإسلام.

إنها مظاهرة مشروعة في يوم واحد وفي كل مكان من الأرض لنصر هذا الدين وجمع كلمة المسلمين على الحق، وتفقههم في دين الله، لا يستطيع أحد أن يمنعها.

وفرض على المسلمين جميعا فرض عين على كل قادر صيام شهر رمضان كله، لذلك ترى المسلمين في هذا الشهر المبارك، جميعا صائمين نهاره، تجتمع أسرهم في المنازل لتنال وقت الإفطار ووقت السحور، في غاية من الفرح والحبور، يتسابقون في مناولة أحدهم أخاه حبات التمر أو لقمة العيش.

وهكذا تجد جماعاتهم في المساجد عند أذان المغرب، يمدون موائدهم ويقربون تمرهم وأطعمتهم، ويتنافسون في استضافة المصلين على مشاركتهم في الإفطار معهم.

إنه شهر تربية وتدريب وإيمان وتقوى وعبادة جماعية ذات أثر عظيم في جمع الكلمة والثبات على هذا الدين وقوة الصلة برب العالمين..

وفرض على الصائمين في ختامه حقا لفقرائهم، سميت بزكاة الفطر، لتكون طهرة لهم وغناء لإخوانهم المحتاجين في يوم العيد الذين يفرحون فيه بتوفيق الله لهم بإتمام الصيام، فلا يفرح

__________

(1)  انظر مراعاة الشريعة للنواحي الصحية في صلاة الكسوف في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (113)

فيه الغني دون الفقير، ولا يترك الفقير فيه يتكفف لقمة عيشه وعيش أولاده.

وهكذا تراهم في الحج يفدون إلى البيت الحرام من كل فج عميق، يملأون الجو والبر والبحر، متحدين لباسا ونية وذكرا، مؤدين نسكهم في وقت واحد طوافا وسعيا ووقوفا، ومبيتا ورميا ونحرا، بصفة قلما تجد لها نظيرا في أمة من الأمم، وهم يلهجون في كل أوقاتهم بذكر الله.

يلتقي المسلمون ليحققوا في لقائهم ما ذكره القرآن من حكم الحج ومنافعه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (الحج:28)

يُعَلِّم عالِمُهم جاهلَهم، ويتحاورون فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير في دينهم ودنياهم.

التفت إلي، وقال: قارن هذا بشعائرنا وقداساتنا التي يتحول فيها الخبز جسدا، والخمر دما.. أو قارنه بصكوك الغفران..

إن كثيرا من قومنا امتلأوا إعجابا بشعائر المسلمين التعبدية التي يتوجه فيها المسلم مباشرة إلى الله من غير حاجة إلى أي وسائط..

يقول توماس أرنولد: (إنه لا يتأتي لأحد يكون قد رأى ذلك المشهد أن يبلغ تأثره به أعماق قلبه وأن لا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها) (1)

وقال رينان: (لم أدخل مسجداً إلا شعرت بانفعالات نفسية وأسف بالغ حينما أذكر أنني لست مسلماً) (2)

ويقارن المستشرق الأمريكي (بودلي) بين المسيحية والإسلام في ذلك قائلاً: (لو أن القديس بطرس عاد إلى روما لامتلأ عجباً من الطقوس الضخمة وملابس الكهنوت المزركشة والموسيقى الغربية في المعبد المقرونة باسمه، ولن يعيد البخور والصور والرقى إلى ذهنه أي شيء من تعاليم سيده المسيح.. ولكن إذا ما عاد محمد إلى أي مسجد من المساجد المنتشرة بين لندن

__________

(1)  إلى الدين الفطري الأبدي: الطرازي:263.

(2)  إلى الدين الفطري الأبدي: الطرازي:264.

ثمار من شجرة النبوة (114)

وزنجبار فإنه سيجد نفس الشعائر البسيطة التي كانت تقام في مسجده في المدينة الذي كان من الآجر وجذوع الشجر) (1)

أما المهزلة العظمى (صكوك الغفران) التي تعد صفحة سوداء في تاريخ الإنسانية، فلا يستطيع أحد من أعداء الإسلام أو دعاة العلمانية مهما بلغت به المكابرة أن يزعم أنها وجدت في التاريخ الإسلامي فضلاً عن أصوله التشريعية ذاتها.

فهذه المهزلة لم يعرفها المسلمون حتى في أحط وأحلك عصورهم حين فشا الجهل وعلقت بعض الخرافات بأذهان الجهلة والعوام.. فلم يحدث قط أن كتب أحد ممن يسمون أولياء وثيقة غفران.. ذلك أن الأمة الإسلامية مهما انحرفت وتخبطت تظل لديها مسكة من عقل وبقية من إيمان تمنعها عن ارتكاب مثل هذه الحماقات الصفيقة التي لم يتورع عنها بابوات الكنيسة قرابة ثلاثة قرون.

قلت: ولكن مع ذلك.. فقد انتشرت بدع كثيرة بلاد المسلمين.

قال: لقد طفت المجتمعات الإسلامية كما ذكرت لك.. بل دخلت مساجدها.. فلم أر إلا صلاة واحدة، لعلها هي الصلاة التي صلاها محمد.. بل إن الأسانيد الكثيرة تشير إلى أنها نفس صلاة محمد..

ولم أر المسلمين يصومون إلا شهرا واحدا قد يختلفون في يوم من أيامه.. ولكنهم يتفقون في كل أيامه.. ويتفقون مع ذلك في كل أحكامه..

وأنت ترى المسلمين يقصدون كعبة واحدة، ويصلون خلف إمام واحد، ويقفون على جبل واحد.. هو نفس الجبل الذي وقف عليه محمد، وخطب خطبة الوداع.

ألا ترى في كل هذا دلائل صمود الإسلام؟

قلت: ولكني أرى حلقا كثيرة تعقد تختلف فيها المجتمعات..

__________

(1)  الجفوة المفتعلة بين العلم والدين:23 - 24.

ثمار من شجرة النبوة (115)

قال: تقصد حلق الذكر التي قد يختلط فيها الرقص واللعب.

قلت: أجل.. أليس ذلك انحناء؟

قال: لا.. تلك عادات توارثتها تلك الشعوب، وحاولت أن تمزجها ببعض شعائر الإسلام.. والإسلام يتساهل كثيرا في هذا الباب.

قلت: فهو انحناء إذن.

قال: ليس هذا انحناء.. وإن كان انحناء فهو انحناء عادات الشعوب للإسلام وعقيدة الإسلام.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن تلك العادات كانت مملوءة بالوثنية أو بغيرها من العناصر التي يرفضها الإسلام، وهي في حركاتها من اللهو المباح الذي لا يرفضه الإسلام.. ولذلك وقف العدول من المسلمين موقفا وسطا.. حفظوا بها عادات تلك الشعوب.. وحفظوا به في نفس الوقت سلامة عقيدتها.

قلت: فما هذا الموقف الوسط؟

قال: أقروا الحركات التي لا علاقة لها بالدين.. وأضافوا إليها ذكر الله.. والترنم بحبه.. فتحولت العادة عبادة.. وتحولت الطقوس الوثنية طقوسا دينية.

قلت: لم أفهم ما تقصد.. فإني أرى البعض يعتبر هؤلاء مارقة من الدين.

قال: تلك نظرة المتطرفين.. وهم لا يشكلون إلا جزءا لا يكاد يذكر أمام جماهير المسلمين.

أما عوام المسلمين.. وعلماء المسلمين.. فهم متشددون في أصول الدين.. متساهلون في العادات التي لا تمس جوهر الدين، ولا تؤذي حقيقته.

قلت: فأنت تقر كل ما يمارس في تلك المجامع.

قال: أنا ليس لي سلطة الإقرار ولا سلطة الإنكار.. ولكني لا أرى في ذلك خطرا على الإسلام.. بل أرى فيه صمودا عجيبا للإسلام.

ثمار من شجرة النبوة (116)

ذلك أن أولئك يمارسون كل شعائر الإسلام بحرص شديد.. ولا يكتفون بذلك، بل يحولون عاداتهم عبادة، ولهوهم ذكرا.

قلت: ولكن العوائد مختلفة.. وهي تفرق بين المسلمين.

قال: مفهوم الوحدة في الإسلام مفهوم أسمى من كل المفاهيم التي نعرفها.. ذلك أنه يقرر القواعد والأصول.. ثم يترك لأتباعه ميادين كثيرة يمكنهم أن يختلفوا فيها من غير أن ينكر بعضهم على بعض (1).

السلوك

قلت: فلنتحدث عن الناحية الثالثة من نواحي الدين.. وهي السلوك.. وهي الناحية التي أرى أن حضارتنا المؤسسة على الكنيسة أفلحت فيها.. وخفق الإسلام.

قال: كيف عرفت ذلك؟

قلت: ألسنا أصحاب السلوك الحضاري الذي لم يصل أحد في الدنيا إلى سلوكه.

ابتسم، وقال: أي سلوك حضاري؟.. لو كنت قلت: إن هذه الحضارة التي سلمت زمامها للشيطان جمعت كل جرائم من سبقها من الحضارات كنت صادقا..

قلت: كيف ذلك؟

قال: تفصيل ذلك يطول.. وربما تجد من يتحدث لك عن تفصيل المقارنات في هذا الجانب (2).. ولكني أقول لك من وحي دراستي للمصادر الإسلامية والتاريخ الإسلامي.. بل والواقع الإسلامي لكثير من شعوب المسلمين:

ليس هناك في الدنيا.. ولا في التاريخ.. ولا في مصادر الأديان سلوك أنظف ولا أرفع ولا

__________

(1)  سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (الروحانية) من هذه الرسالة.

(2)  سنذكر الكثير من الأدلة المثبتة لهذا في الفصول القادمة.

ثمار من شجرة النبوة (117)

أسمى من سلوك المسلمين.. ذلك أن السلوك في الإسلام عبادة لا تقل عن أي عبادة شعائرية.

ولهذا وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، ففي الحديث: (خياركم أحاسنكم أخلاقا) (1)، وفي الحديث: (إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم) (2)

بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من محمد ـ الذي يمثل الكمال الإنساني ـ بقدر حسن الخلق، ففي الحديث: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا: (يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون) قال: (المتكبرون) (3)

ولذلك، فإن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، ففي الحديث: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) (4)، وفي الحديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) (5)، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.

وسئل محمد عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل عن

__________

(1)  أحمد.

(2)  الترمذي، وقال: حديث صحيح.

(3)  الترمذي.

(4)  الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

(5)  الطبراني، وإسناده صحيح.

ثمار من شجرة النبوة (118)

أكثر ما يدخل الناس النار فقال: (الفم والفرج) (1)

بل أخبر أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (2)

ولهذا فإن القرآن يربط بين قضايا الإيمان والعبادة والسلوك في كل آياته.. ففي الآية التي تصف أصول البر يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)

وفي الآية التي تثني على أوصاف المؤمنين يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35)

انطلاقا من هذا.. فإن للأخلاق الإسلامية مزايا كثيرة تميزها عن غيره من أنواع الأخلاق التي جاءت بها الأديان والمذاهب والفلسلفات..

فمن مزاياها (3) الثبات.. فالثبات في الأخلاق ضرورة، لأنها الضوابط التي تضبط سلوك الناس، ولأنّها المقياس الذي يلتقي عنده الجميع.. وتتميز الأخلاق الإسلاميّة في ذلك على الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد، والتي هي متغيرة لأنها من وضع الإنسان القاصر.

ومن مزاياها الفطرية.. وذلك ما يجعلها يسيرة وفعّالة في حياة البشر.. أمّا الأخلاق المنبثقة

__________

(1)  الترمذي، وقال: حديث صحيح.

(2)  أبو داود.

(3)  انظر: دراسات في الفكر الإسلامي، بسام نهاد جرار.

ثمار من شجرة النبوة (119)

عن العادات والتقاليد فتكون في أحيان كثيرة منافية للفطرة، وعلى وجه الخصوص في حالات انتكاس المجتمع وتدهور أخلاقياته، وتكون في أحيان أخرى مثاليّة ومجافية لواقع النفس البشريّة، وهذا يعني أنّ الأخلاق الإسلاميّة واقعيّة، لأنها تراعي واقع الإنسان وفطرته.

ومن مزاياها العملية.. فهي إيمان وعمل، وهي تختلف عن الأخلاق في المنظور الفلسفي، حيث أنّ الفلسفة تقدم الجانب المعرفي ولا تهتم بالجانب العملي التطبيقي.

ومن مزاياها.. أنها تستند إلى العقيدة، وتنبثق عنها، وهذا ما يجعلها قناعات قبل أن تكون سلوكاً، على خلاف الأخلاق التي تستند إلى العادات والتقاليد؛ فكثيراً ما تُمارس هذه الأخلاق على أساس من التقليد غير الواعي وبُحكم العادة، ويغلب أن يكون الدافع إليها الرغبة في إرضاء المجتمع.

ومن مزاياها.. أنها عبادة يثاب فاعلها، ويتقرب بها إلى الله تعالى، مما يجعلها ذات منفعة دنيويّة وأخرويّة، على خلاف الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد، ولذلك يسهل نبذها عندما تتعارض مع المصالح الدنيويّة للفرد أو الجماعة.

ومن مزاياها.. أنها مُلزمة، وتأتي سلطة الإلزام ابتداءً من القناعة الدينيّة، ثم من الرغبة في مثوبة الخالق والرهبة من عقوبته، ثم من نظرة المجتمع المؤمن الذي يعيش فيه المسلم، ثم ما يكون من قانون يُنظّم المجتمع ويحمي قيمه.. أمّا الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد فتضعف فيها سلطة الإلزام والتي يغلب أن تكون منحصرة في نظرة المجتمع، حيث أنّ القانون الوضعي لا يشمل الكثير من مسائل الأخلاق.

ومن مزاياها.. أنها شاملة لكل سلوكيات الإنسان، لا يستثنى من ذلك أي سلوك.. ثم هي تشمل الفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، وتشمل جميع فئات المجتمع في جميع الظروف.. وهي تشمل ظاهر الإنسان وباطنه وجميع جوانب شخصيّته، على خلاف الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد والفلسفات، حيث أنها قاصرة ولا تشمل كل سلوك، ثم هي تتعامل مع الظاهر

ثمار من شجرة النبوة (120)

ولا سلطان لها على الباطن، ثم هي في ظروف الحرب، مثلاً، تختلف عنها في ظروف السلم، ونجدها أحياناً تختلف بين حاكم ومحكوم، وخادم ومخدوم، وصغير وكبير، وطبقة اجتماعيّة أخرى.

قلت: ولكن الواقع الإسلامي يختلف كثيرا عن هذه المثالية التي تذكرها.

قال: نعم.. الواقع الإسلامي متخلف كثيرا عن هذه المثل.. ولكن.. ألم تتساءل عن سر ذلك؟

قلت: لم أتساءل.

قال: أنا تساءلت عن ذلك، وبحثت عنه، وقد وجدت أن أولئك المتخلفين لم يتتلمذوا على محمد في سلوكهم، ولم يتعرضوا لأشعة محمد حتى يرتفعوا إلى هذه المثل.

قلت: فعلى من تتلمذوا؟

قال: علينا نحن.. تتلمذوا على ما نبثه لهم عبر وسائل الإعلام الكثيرة التي لا هم لها إلا إفسادهم وتضليلهم.

قلت: فقد انحنى الإسلام في هذه الناحية إذن؟

قال: لا.. مدرسة الإسلام لم تنحن.. ولكن بعض المسلمين انحنوا.. ولو أتيح لهم الجو المناسب، فسيقومون من جديد..

قلت: من ضمن لك ذلك؟

قال: أنا لست في شك من ذلك.. لأن الفطرة التي تملأ نفوسهم لن يؤثر فيها أي انحراف.

الانتشار

قلت: فحدثني عن صمود الانتشار..

قال: لقد ذهبت إلى التاريخ أقارن أنواع البلاء التي تعرضت لها العقائد والمذاهب

ثمار من شجرة النبوة (121)

والأفكار، فلم أجد مواجهات عنيفة كتلك المواجهات التي قوبل بها الإسلام.. ولم أجد صمودا كذلك الصمود الذي أبداه المسلمون.

إن تاريخ الإسلام حافل بالمواجهات بينه وبين أعدائه والمكيدين له والمتآمرين عليه.. وفي كل مرة كان الإسلام يخرج منتصرا شامخا (1)..

لقد اجتمع على محمد العدوان الثلاثي: المشركون كلهم في جزيرة العرب، واليهود والمنافقون في غزوة الأحزاب، فخرجوا من ذلك العدوان منتصرين.

وحاربتهم الدول العظمى في ذلك العهد: الروم في الشمال، والفرس في الشرق، والأحباش في الجنوب، فكان النصر لهم على تلك الدول جميعا.

واجتمعت على حربهم الدول الصليبية، وكانوا في غاية من الضعف والتفرق، ولكن أعداءهم خرجوا في النهاية يجرون أذيال الهزيمة..

واجتاح التتار وزعيمهم هولاكو عاصمة الخلافة بغداد، وسيطروا على المسلمين سيطرة لم يكونوا يظنون أنهم سيطردون منها شر طردة، ولكن النصر كان حليف المسلمين.

واستجاب أتاتورك لليهود والصليبيين، وأغلق مدارس المسلمين وغير مناهجهم وأكرههم على إظهار موافقته في كتابة أغلى كتاب على وجه الأرض بغير حروفه العربية، وأرغمهم على الأذان بغير ألفاظه العربية، وأنزل بالمسلمين من المحن والمصائب ما لا يخفى على قارئ التاريخ، ولكن المسلمين درَّسوا أولادهم في دهاليز منازلهم، وفي حظائر دوابهم القرآن والحديث، والفقه، والتفسير، والتاريخ الإسلامي، وإذا الجيل الذي نشأ في عهده يظهر بعد إدباره حافظا للقرآن، متقنا للغة العربية، متمسكا بدينه.. رافضا مبادئ أتاتورك وزمرته على رغم تسلطهم واستبدادهم الشامل الذي تدعمه القوة العسكرية..

وجثم الاتحاد السوفييتي على صدور المسلمين في آسيا الوسطى سبعين عاما، قتل من قتل،

__________

(1)  انظر: العالم الإسلامي والمكائد الدولية، فتحي يكن، والإسلام دين رحمة وهداية واستعصاء.

ثمار من شجرة النبوة (122)

واعتقل من اعتقل، وشرد من شرد، وحظر على المسلمين حمل القرآن، ومع ذلك خرج الجيل الذي نشأ في ظل هذا النظام الظالم، وهو يحفظ القرآن، ويحفظ أحكام دينه ويلتزم بها، وما جوهر دوداييف، وزملاؤه الذين سلكوا سبيله إلى الآن إلا دليل على أن المسلمين يستعصون على أي عدو يحاول القضاء عليهم وعلى دينهم..

والمحتلون الأوربيون البريطانيون، والفرنسيون والإيطاليون، والبرتغاليون، والألمان والأسبان، الذين اغتصبوا بلدان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وبقوا فيها فترات طويلة، حتى أصبحت في ظاهر الأمر جزءا من بلد المحتل، خرجوا جميعا وهم يجرون أذيال الهزيمة..

وهاهم المسلمون اليوم، يجاهدون أعداءهم الأقوياء ماديا المعتدين عليهم في بلدانهم، في فلسطين والعراق والفيليبين والشيشان وأفغانستان وغيرها من البلدان، برغم ضعفهم المادي، صابرين مستبسلين، لا يخافون إلا ربهم، وسيبقون كذلك حتى يحقق الله لهم النصر على عدوهم..

ولم تكن الحرب حربا عسكرية فقط.. ولم يكن الصمود صمودا عسكريا فقط..

لقد وضعت مخططات كثيرة.. وحيكت مؤامرات كثيرة لينحرف المسلمون عن دينهم.. لكنها كلها باءت بالفشل..

لقد قال (زويمر) في بداية المؤتمر العالمي للتبشير في القدس سنة (1933) يفضح هذه المؤامرات، ويبين الهدف منها: (إن مهمتكم إخراج المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاقية التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، إنكم أعددتم شبابا في بلاد الإسلام لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الإستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في الدنيا إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بأغلى ما يملك)

ويقول زويمر: (إن السياسية الإستعمارية لما قضت منذ سنة (1882) على برامج التعليم

ثمار من شجرة النبوة (123)

في المدارس الإبتدائية أخرجت منها القرآن، ثم تاريخ الإسلام، وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية، ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا للدين ولا للوطن حرمة)

ويقول (هاملتون جب) المستشرق الإنجليزي في كتابه (جهة الإسلام) سنة (2391 م): (إن العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة لا دينيا في كل مظاهر حياته) (1)

هذا ما كان قومنا يتوقعونه من الأجيال القادمة.. لقد عادوا يفركون أيديهم فرحا بعد أن رأوا مجموعات من خريجي جامعاتهم لا يعبأون بدين، ولا يهتمون بخلق ولا قيمة، ولكن كل تلك المخططات باءت بالفشل، وانحنت أمام صمود الإسلام.

لقد أنفقوا أموالهم وأحكموا خططهم ودبروا مكائدهم لإخراج جيل لا ديني، توقع سادته أن يكون سحق الإسلام في المنطقة على يده، وأقموا الجامعات وفرضوا الإختلاط وأقصوا الصادقين من حملة القيم والأخلاق عن كل المراكز الحساسة، وقربوا دعاة الإباحية والإلحاد والعلمانية والفساد إليهم، ونصبوهم قضاة وسادة وأقاموا حولهم الهالات، ونفخوا في الأقزام حتى أضحوا عمالقة في أعين الرعاع والدهماء، ولكن هل كان لهم الذي أرادوا؟ هل أقصي الإسلام نهائيا عن حياة الفرد والأسرة والمجتمع؟

قلت: نعم.. لقد نجحوا في كثير من ذلك..

قال: ولكن تلك المدارس التي خططوا لها أن تصير مدارس علمانية لا صلة لها بدين ولا خلق راحت تدفع بالأفواج إلى الإسلام.

لقد أضحت الجامعات التي سهروا على منهاجها وظنوها مراكز التدمير تقدم نماذج من الشباب الصادق الملتزم الذي يضحي بكل شيء من أجل عقيدته ودينه.

__________

(1)  انظر هذه المقولات وغيرها في كتاب (الخنجر المسموم) لأنور الجندي، و(أجنجة المكر الثلاث) لعبد الرحمن حبنكه، و(قادة الغرب يقولون) لجلال العالم.

ثمار من شجرة النبوة (124)

لقد أصبحت الجامعات كبلاط فرعون يربى فيه موسى عليه ليهدم بيده عرش فرعون ويسحب البساط من تحت رجليه.

أما سحر حضارتنا.. فلم يعد يخدع الأبصار.. فققد تفتحت أعين المسلمين على نور الإسلام، وانفتحت بصائرهم لتقبل الحق، بعد انبلاج الحق وسطوع نوره على القلوب والنفوس.

فحيثما تتوجه الآن في الكرة الأرضية تجد رجوعا إلى الإسلام.. تجد نفوسا متعطشة للدين، حتى تستظل بفيئه بعد أن أضناها لفح الهاجرة وأرهقها طول المشي في التيه (1).

قلت: ولكن الإسلام ـ الآن ـ يواجه حروبا عظيما.. حروبا في كل النواحي، ومن كل الجهات.. فهل تراه سيصمد لها؟

قال: لا أقول يصمد لها فقط.. بل إنه سينتصر فيها.. وسيعود أولئك المحاربون إلى الإسلام أفواجا كما عاد القرشيون..

هذا (ديباسيكييه) المفكر الفرنسي، يرشح الإسلام كمنقذ وحيد للبشرية فيقول: (إن الغرب لم يعرف الإسلام أبدا، فمنذ ظهور الإسلام اتخذ الغرب موقفا عدائيا منه، ولم يكف عن الإفتراء عليه والتنديد به لكي يجد المبررات لقتاله، وقد ترتب على هذا التشويه أن رسخت في العقلية الغربية مقولات فظة عن الإسلام، ولا شك أن الإسلام هو الوحدانية التي يحتاج إليها العالم المعاصر ليتخلص من متاهات الحضارة المادية المعاصرة التي لا بد أن استمرت أن تنتهي بتدمير الإنسان) (2)

إن هؤلاء الكتاب الغربيين يقفون نفس الموقف الذي وقفه هرقل عندما وصله كتاب محمد، فقد سأل أبا سفيان عن أحوال محمد، وبعد أن أخبره قال هرقل لأبي سفيان: (إن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو

__________

(1)  انظر: الإسلام ومستقبل البشرية، عبد الله عزام.

(2)  مجلة الإيمان اللبنانية عدد (75) السنة الثانية آذار سنة (0891 م)

ثمار من شجرة النبوة (125)

أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) (1)

لقد كان هرقل عاقلا يدرك أن أمر العقائد إلى إقبال، وأمر السلطان الذي لا يدعمه فكر وعقيدة إلى زوال، كان هرقل آنذاك يحكم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولكنه يراها متفسخة من داخلها، وسرعان ما تتهاوى على رؤوس أصحابها، ولأول ضربة من ضربات أعدائها.

ولهذا فإن أعداء الإسلام الذين درسوا تاريخه يعرفون قدرته على الممانعة والمواجهة والخروج من الأزمات.. يقول ابن غوريون: (نحن لا نخشى الإشتراكيات ولا القوميات ولا الملكيات في المنطقة، إنما نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا وبدأ يتململ في المنطقة، إني أخشى أن يظهر محمد جديد في المنطقة)

وبمثل هذا شهد أصدقاؤنا من المستشرقين، يقول (كوستاف لوبون): (مع ما أصاب حضارة العرب من الدثور، كالحضارات التي ظهرت قبلها: لم يمس الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطان كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم شيئًا من قوتها.. وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستورًا لها وحدة اللغة والصلات التي يسفر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي. وتجب على جميع أتباع محمد تلاوة القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان، واللغة العربية هي لذلك أكثر لغات العالم انتشارًا على ما يحتمل، وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن جمعها به تحت علم واحد في أحد الأيام) (2)

ويقول: (كان سلطان الإسلام السياسي والديني قويًا في بلاد الهند، ورسخ فيها ثمانية قرون بفضل ملوك الإسلام الذين تداولوا حكمها، ولا يزال سلطان الإسلام الديني قائمًا في بلاد

__________

(1)  رواه البخاري ومسلم.

(2)  حضارة العرب، ص 126.

ثمار من شجرة النبوة (126)

الهند، وإن توارى سلطانه السياسي عنها، وهو يمضي قدمًا نحو الاتساع) (1)

ويقول: (تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بإحكام كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا) (2)

ويقول: (دخلت حضارة العرب في ذمة التاريخ منذ زمن طويل، ولا نقول، مع ذلك أنهم ماتوا تمامًا، فنرى الآن ديانتهم ولغتهم اللتين أدخلوهما إلى العالم أكثر انتشارًا مما كانتا عليه في أنضر أدوارهم.. ولا يزال الإسلام جادًا في تقدمه.. واليوم يدرس القرآن، فيما عدا جزيرة العرب، في مصر وسورية وتركية وآسية الصغرى وفارس وقسم مهم من روسية وأفريقية والصين والهند، وتناول القرآن مدغشقر وأفريقية الجنوبية، وعرف في جزر الملايو، وعلمه أهل جاوة وسومطرة وتقدم إلى غينيا الجديدة، ودخل أمريكا مع زنوج أفريقية.. ويتقدم الإسلام في الصين تقدمًا يقضي بالعجب.. حيث اضطر المبشرون الأوروبيون إلى الاعتراف بالحدود وسيقوم الإسلام – كما يقول وازيليف – مقام البوذية، ومسلمو الصين لا يشكون في ذلك وهذه المسألة على جانب عظيم من الأهمية. فإذا اعتنقت الصين دين الإسلام تغيرت علاقات العالم القديم السياسية تغيرًا عظيمًا وأمكن دين محمد أن يهدّد النصرانية من جديد) (3)

يقول جب في كتابه (Wither Islam) (جهة الإسلام)، وهو كتاب كتبه مجموعة من المستشرقين نتيجة أبحاث قدمت لمؤتمر في جامعة (برنستون في أمريكا: (إن الحركات الإسلامية تتصور عادة بسرعة مذهلة مدهشة، فهي تنفجر انفجارا مفاجئا قبل أن يتبين المراقبون من إماراتها ما يدعوهم إلى الإسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا الزعامة وظهور صلاح الدين)

__________

(1)  حضارة العرب، ص 186.

(2)  حضارة العرب، ص 417.

(3)  حضارة العرب، ص 616 – 61 7.

ثمار من شجرة النبوة (127)

-\--\-

عندما وصل (جابرييلي فرانشيسكو) من حديثه إلى هذا الموضع استأذنني في الانصراف، فقلت له: اسمح لي حضرة الأستاذ الفاضل أن أسألك هذا السؤال الذي حيرني..

قال: تريد أن تسأل عن سر عدم إسلامي مع هذه الحماسة التي أبديها للإسلام.

قلت: أجل.. فأنا في غاية العجب منك.

قال: أنت تعلم ما قاله (اللورد هدلي)

قلت: تقصد قوله: (إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم)

قال: أجل.. وهذا ما أستطيع أن أجيبك به، ولن أزيد.

قال ذلك.. ثم انصرف سائرا من غير أن يسألني عني..

بقيت أتأمل تلك الشجرة العظيمة لأرى فيها من عزة الإسلام وصموده ما كان محجوبا عن بصيرتي.

وفي تلك الأثناء تنزلت علي أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمار من شجرة النبوة (128)

ثالثا ـ قيم

في اليوم الثالث من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة القيم من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (المائدة)

وسر قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} (الإسراء)

وعرفت بها سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعث لاتمم مكارم الاخلاق) (1)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن مقصد شريف من مقاصد الإسلام، وهو التزكية والتربية وبث القيم الرفيعة في النفوس والمجتمعات المسلمة، وهو هدف لم يتحقق إلا في الإسلام.. ولم أعرف برهان ذلك إلا في ذلك اليوم المبارك.

-\--\-

منذ وطئت قدماي أرض السربون كان لي شوق عظيم لأن ألتقي (آرثر جون آربري) (2)..

__________

(1)  البخاري ومسلم.

(2)  هو Arthur John Arberry (1905 - 1969) ولد في مدينة بورتسموث بجنوب بريطانيا، التحق بجامعة كامبريدج لدراسة اللغات الكلاسيكية اللاتينية واليونانية، وشجعه أحد أساتذته (منس) على دراسة العربية والفارسية.

ارتحل إلى مصر لمواصلة دراسته للغة العربية. عاد إلى مصر ليعمل في كلية الآداب رئيساً لقسم الدراسات القديمة (اليونانية واللاتينية) وزار فلسطين وسوريا ولبنان.. اهتم بالأدب العربي فترجم مسرحية (مجنون ليلي) لأحمد شوقي كما حقق كتاب (التعرف إلى أهل التصوف)، واصل اهتمامه بالتصوف وذلك بنشره كتاب (المواقف والمخاطبات) للنفري، وترجمه إلى الإنجليزية. (انظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين: 5 - 8)

ثمار من شجرة النبوة (129)

لقد كنت أشعر بأن بيننا صلات قرابة كثيرة..

فهو يهتم بالقيم الإنسانية الرفيعة، ويعتبرها الثمرة الكبرى لكل دين، بل يقيم الأديان على أساسها، وكنت مثله في ذلك.

وقد كانت القيم التي يبشر بها هي نفس القيم التي أشعر بأهميتها الكبرى في بناء الحياة الإنسانية.

وقد كان مع ذلك يتألم كثيرا لتخلف القيم عن المجتمعات المعاصرة التي باعت نفسها للشياطين الذين وضعوا لها دساتير تخالف دساتير الفطرة التي طبعت عليها.

في ذلك الصباح الجميل.. وفي حديقة من حدائق باريس تشتهر بأنواع جميلة من الأزهار.. تفوح بكل روائح العطر العذبة.. وتشرق منها جميع ألوان الابتسامة.. رأيته كراهب يجثو أمام زهرة من الزهرات يتأملها، ويغرق في تأمله.

كنت أعلم حبه للغة العربية.. فلذلك اقتربت منه، وأنشدته قول مسعود سماحة:

تمتعْ بأزهارِ هذي الحياة... فإِن حياتكَ بعضُ الزمنْ

وخلِّ النضارَ وجمعَ النضار... فما زاد نفسكَ غيرُ الكفنْ

التفت إلي، وقال: صدقت.. ولا فض فوك..

ثم نظر إلى الأزهار، وقال: صدق مسعود سماحة.. لقد عبر خير تعبير عن جمال الحياة التي تختزنها هذه الأزهار.

قلت: أراك غارقا في التأمل فيها.. فهل ترى فيها ما لا نرى؟

قال: ربما ترى فيها أنت ـ ما دمت تتذوق الشعر ـ ما أرى.. ولكن الكثير ممن ترى لا يرى ما نرى.

قلت: أنا لا أرى إلا زهرة تفوح بأريج العطر، وتملأ العين بثغرها الجميل المبتسم.

قال: إن هذه الزهرة التي تراها تختزن جميع القيم الكريمة..

ثمار من شجرة النبوة (130)

ثم التفت إلى البشر الذين حوله، وقال: لقد كان في إمكان كل فرد من هؤلاء أن يكون كهذه الزهرة.. وكان في إمكان البشر جميعا أن يتحولوا إلى أزهار طيبة تفوح بأعذب ألحان العطر.. وكان في إمكان الأرض أن تصبح بذلك حقلا كبيرا وحديقة عظيمة وجنة من الجنان لا تقل عن جنان الآخرة..

قاطعته قائلا: فما الذي حال بينهم وبين أن يكونوا كذلك؟

قال: الشهوات التي ملأتهم بها الشياطين، والأنانية التي جعلتهم يدوسون كل زهرة، ويخنقون كل عطر.

قلت: فأنت يائس إذن من البشر.. سلمت نفسك لعالم الأزهار..

قال: لا.. لست يائسا.. لقد ترك رجل من البشر وطئت قدماه ثرى الأرض ذات يوم بذورا كثيرا لأزهار جميلة ظلت تتفتح في كل العصور.. لعلها في يوم من الأيام تستطيع أن تحول الأرض حديقة غناء..

قلت: تقصد المسيح.. لا شك أنك تقصده.

قال: المسيح ترك بذورا كثيرا لأزهار جميلة.. لكن المجرمين خنقوها في مهدها، لعلهم حافظوا على ألوانها وبعض روائحها، ولكنهم سقوها السم الزعاف، فلا يقترب منها أحد إلا أصابه من سمها.

قلت: فمن هذا الذي بقيت أزهاره سالمة لم تخنق؟

قال: محمد.

قلت: نبي المسلمين.

قال: نبي العالمين.. إنه النبي الوحيد الذي لا تزال بذور أزهاره حية عطرة جذابة يمكنها أن تحول الأرض جميعا حديقة غناء.

قلت: أنت مغرم باللغة والأدب.. وقد قرأت لك ترجمتك لمسرحية (مجنون ليلي) لأحمد

ثمار من شجرة النبوة (131)

شوقي.. فما الذي جعلك تربط بين تعاليم محمد، وبين الأزهار؟.. أو ما هو وجه الشبه بينهما؟

قال: انظر إلى هذه الزهرة الجميلة.. وأخبرني عن سر جمالها.

قلت: أنت تكلفني عنتا.. فالجمال ذوق من الصعب الحديث عن أسراره.

قال: أما أنا.. فقد حاولت أن أجعله علما.. وحاولت أن أبحث عن سر أسراره.

قلت: لم؟

قال: لأبحث عن كيفية تحويل البشر إلى أزهار.. لقد وجدت أثناء بحثي المضني سبعة أسرار.. فلما انتهيت من تحديدها رحت أبحث في الفلسفات وفي الأديان عمن عبقت تلك الأسرار السبعة من تعاليمه، وفي الأجيال التي تربت على تعاليمه، فلم أجد ذلك إلا في دين محمد.

قلت: فما هذه الأسرار السبعة.

قال: العفاف، والكرم، والنبل، والتضحية، والقوة، والأمانة، والصدق.. وقد رأيت من خلال بحثي عن سر الزهرية في الأزهار أنها كلها ترجع إلى العفاف.. أو كلها تنطلق من العفاف.. فالفرد العفيف مأوى لكل فضيلة، والمجتمع العفيف مأوى لكل القيم.

لقد صدق محمد عندما عبر عن ذلك، فقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الاولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت) (1).. فالحياء الذي أساس العفة.. هو الحاجز بين الإنسان وكل رذيلة، وهو الحامل لكل إنسان على كل فضيلة.

قلت: فهل ترى في هذه الأزهار ما تذكره من هذه الصفات؟

قال: لولا توفر الأزهار على هذه الصفات ما كانت أزهارا..

قلت: فحدثني عنها.

قال: حديثها طويل.. وسأختصره لك اختصارا.. ولكني لن أحدثك عن القيم التي جاء بها محمد حتى أحدثك عن القيم التي نشرتها شياطين الرذيلة في مجتمعاتنا.. فلا يظهر جمال النور

__________

(1)  البخاري وغيره.

ثمار من شجرة النبوة (132)

إلا في الظلمة.

قيم الجاهلية

نظر إلى الأزهار بحزن، ثم قال: لقد خلق الله البشر مثل هذه الأزهار براءة وعذوبة وجمالا.. لقد كان عبير البشر الأزهار يسيح في الأرض، فيملأها بالجمال..

لكن المجرمين الذين استسلموا لأهوائهم راحوا يحولون من تلك الأزهار الجميلة أشواكا وسموما.. فصارت الأرض التي كانت جنة سجنا.. وصارت الأرض التي كانت مأوى الطيبة والعفاف ماخورا للخبث والرذيلة..

لقد صارت كما ذكر القرآن في (جاهلية)..

قلت: نعم.. لقد وصف القرآن قوم محمد بأنهم كانوا يعيشون جاهلية.

قال: كما وصف غيرهم بأنهم في جاهلية.. فالجاهلية في المفهوم القرآني لا تعني فترة زمنية.. ولا محلا مكانيا.. بل تعني قيما منحطة، ونظما جائرة، وأخلاقا منحرفة، وفكرا شيطانيا..

إن الجاهلية في المفهوم القرآني هي الكلمة البديلة عن كل ذلك..

لقد ذكر القرآن جاهلية التصور، فقال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154)

وذكر جاهلية الحكم، فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)

وذكر جاهلية التبرج، فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب:33)

وذكر جاهلية العصبية والقومية والوطنية، فقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} (الفتح:26)

ثمار من شجرة النبوة (133)

قلت: ولكن الجاهلية مشتقة من الجهل.. والجهل لا يعني إلا تخلف العلم.

قال: أعظم الجاهليات هي الجاهليات التي تحول من العلم حمارا تركبه لتنفذ به مآربها الخسيسة.. لا تحول العلم فقط.. بل تحول كل مسؤولية تناط بها.

وقد كان قومنا من هؤلاء..

أما رجال ديننا، فحولوا من الكتاب المقدس شبكة يصطادون بها أموال الناس وأعراضهم..

وأما رجال دنيانا، فحولوا من السلطات التي خولت لهم وسيلة لجر رعاياهم إلى مستنقعات الشياطين، لأنه لا يستقيم لهم الأمر إلا إذا عبدت رعيتهم الشياطين.

قلت: أراك متحاملا على رجال الدين ورجال الدنيا!؟

قال: لست متحاملا.. ولكنها الحقيقة التي عرفتها بعد كل تلك السنين..

لقد عرفت أن القيم النبيلة لم تكن في يوم من الأيام إلا في الإسلام.. وأنها لن تكون في يوم من الأيام إلا بالإسلام..

الإسلام وحده هو الإكسير الذي يقضي على كل سموم الجاهلية.

المسيحية

نظر إلي، ثم قال: قد تتهمني بالحياد.. وتخطئ في ذلك.. لأني لم أكن في يوم من الأيام مسلما، ولكني أحدثك عن جهود وبحوث امتدت بي إلى ما تراه من عمر.

لقد بدأت بالمسيحية.. بحكم كوني من أسرة مسيحية.. وأعجبت بالرهبان الذين مثلوا العفاف والمروءة والنبل ـ في نظري في ذلك الوقت ـ في أرقى درجاتها.. ولكني بعد ذلك عرفت أن سلوك الرهبان لم يزد الفجور إلا انتشارا، ولا الانحراف إلا رسوخا.

قلت: كيف ذلك؟

ثمار من شجرة النبوة (134)

قال: حديث ذلك يطول.. فالجاهلية التي تغلغلت في جميع مناحي الحياة من الصعب جمع جميع تفاصيلها.. ولذلك سأحدثك عن بذرة خطيرة من بذور الجاهلية، وهي في نفس الوقت ثمرة من أخطر ثمارها.

لقد اعتبرها الإسلام حماية الفرد والمجتمع منها مقصدا من مقاصده، بل من ضروريات مقاصده.

قلت: تقصد حفظ العرض والنسل.

قال: أجل.. لقد قال محمد يبين خطورة هذا النوع من الانحراف: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة) (1)

وقد وضع الإسلام لأجل وقاية المجتمع لأجل تحقيق هذا المقصد منظومة كاملة من التشريعات.. لا يزال قومنا يسخرون منها ويضحكون مع أنه لا يمكن للبشر أن يتحولوا إلى أزهار من دونها.

قلت: لقد كنت تحدثني عن الرهبان..

قال: أجل.. لقد أراد الرهبان أن يصادموا الفطرة بموقفهم من المرأة، فصدمتهم.

لقد كان الرهبان.. حسب ما استنتجت بعد ذلك سببا من أسباب الرذائل التي تعيشها مجتمعاتنا.

لقد كانوا ينشرون إيحاء عاما في المجتمع بأن المرأة مخلوق شيطانى دنس ينبغى الابتعاد عنه.. وكانوا يرون أن الزواج ضرورة غريزية حيوانية للعامة، ولكن السعيد الأتقى من استطاع أن يرتفع عنها ولا يتزوج (2).

لقد قال أحد رجال الكنيسة لتلاميذه مرة: (إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً

__________

(1)  رواه الترمذي والحاكم وابن حبان.

(2)  انظر: جاهلية القرن العشرين، لمحمد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (135)

بشرياً، بل ولا كائنا وحشياً، وإنما الذى ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صفير الثعبان) (1)

وقد عبرت (رأى ستراتشى) إحدى المطالبات بحقوق المرأة فيما بين الحربين، عن موقف الرهبانية، فقالت: (يستفاد من النظرية التى أوصت بهذا التطاول عن المرأة أن الشهوة الجنسية هى أشنع الخطاياً جميعاً، وأنها كانت فى الحقيقة الخطيئة التى سببت سقوط الإنسان، وإن العفة الكاملة هى أعلى مثل فى الحياة وأنه يجب أن يلعن النساء لأنهن سبب الغواية، وكان يقال أن الشيطان مولع بالظهور فى شكل أنثى وأنه طالما زار النساك بهذه الصورة فى كهوفهم الجبلية وصفوة القول أن مجرد التفكير فى النساء كان خطراً وأن المرأة نفسها كان نحساً من النحوس) (2)

ومضت الأمور على ذلك حيناً طويلا: مباذل شنيعة بشعة فى الإمبراطورية الرومانية على اتساعها، ورهبانية واسعة الآفاق على حدود الصحارى، وفى داخل المدن، فراراً من الفساد.

لقد ذكر (ليكى) فى كتابه (تاريخ الأخلاق فى أوروبا) تأثير سلوك الرهبان السلبي في انتشار الرذائل، فقال: (كانت الدنيا فى ذلك الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى، وإن المدن التى ظهر فيها أكبر الزهاد كانت أسبق المدن فى الخلاعة والفجور، وقد اجتمع فى هذا العصر الفجور والوهم اللذان هما عدوان لشرف الإنسان وكرامته) (3)

ويصور الكاتب النفور من المرأة وما يرتبط بها من علاقات فى ظل الرهبانية، فيقول: (وكانوا يفرون من ظل النساء، ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن فى الطريق والتحدث إليهن، ولو كن أمهات أو أزواجاً وشقيقات تحيط أعمالهم وجهودهم الروحية)

__________

(1)  أشعة خاصة بنور الإسلام: 29.

(2)  تاريخ العالم: 1/ 297.

(3)  عن كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبى الحسن الندوى.

ثمار من شجرة النبوة (136)

وقال ترتوليان Tertulian، وهو أحد أقطاب المسيحية الأول وأئمتها، مبينا نظرية المسيحية فى المرأة: (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، وإنها دافعة بالمرء إلى الشجرة الممنوعة، ناقضة لقانون الله. ومشوهة لصورة الله ـ أى الرجل ـ)

وقال كرائى سوستام Chry Sostem الذى يعد من كبار أولياء الديانة المسيحية فى شأن المرأة: (هى شر لابد منه، ووسوسة جبلية، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ورزء مطلى مموه)

لقد كانت هذه أقوالهم.. ولكن أفعالهم لم تكن كأقوالهم..

فالتاريخ يشهد في جميع فتراته على الفضائح الكثيرة التي كانت تنتشر داخل دور العبادة وبين الرهبان والراهبات.. ولا تزال مثل هذه الفضائح تنشرها الجرائد كل حين..

نظر إلي، وقال: لا تستغرب.. فمن يقرأ ما في الكتاب المقدس من نصوص تكاد تصور الرذيلة للعين، بل تكاد تجعلها شيئا مقدسا لا يستغرب أن يحصل كل ذلك.

ففي الكتاب المقدس نصوص كثيرة تبيح الرذيلة، بل تكاد تقدسها (1).

فـ (البغاء) من الوظائف المحترمة في الكتاب المقدس، والبغيُّ شخصية مقبولة فيه، وإن كانت مُحتقَرة في المجتمع العبراني القديم، ففي سفر التكوين (38/ 14 ـ 19) ذكر أن يهودا عاشر عاهرةً نظير أجر، ولا يوجد في السياق ما يدل على أن هذا أمر مرفوض أخلاقياً، وقد اتضح فيما بعد أن العاهرة هي تامار زوجة ابنه الذي مات، وقد أنجبت من والد زوجها طفلين.

ويذكر سفر يشوع قصة العاهرة راحاب التي ساعدت العبرانيين على دخول أريحا (يشوع 2/ 1 ـ حتى نهاية السفر)، وترد في سفر الملوك الأول 3/ 16) ـ 27) قصة سليمان مع الأُمَّين اللتين تنازعتا طفلاً، وهما في القصة عاهرتان.

وتوجد في سفر القضاة (16/ 1) إشارة إلى زيارة شمشون لعاهرة في غزة.

__________

(1)  انظر الأمثلة الكثيرة من الكتاب المقدس الدالة على ذلك في (الكلمات المقدسة)، فصل (الأدب)

ثمار من شجرة النبوة (137)

ليس ذلك فقط.. بل إن إبراهيم ذلك النبي الذي اجتمعت الأمم على فضله يتحول في الكتاب المقدس إلى بائع لعرضه.. ففي العهد القديم إشارة صريحة إلى أن إبراهيم قد استفاد مالياً من العلاقة الجنسية لزوجته بفرعون مصر.

وإستير البطلة اليهودية التي يوجد في الكتاب المقدس سفر مسمَّى باسمها هي الأخرى عاهرة.

والإشارات والقصص في الكتاب المقدس كلها تدل على أن مهنة البغاء مهنة طبيعية، قد تكون وضيعة ولكنها، مع هذا، جزء من البناء الاجتماعي والأخلاقي.

وقد ورد في العهد القديم فقرات لا تُحرِّم البغاء في حد ذاته، وإنما تُحرِّم على العبرانيين أن يدعوا بناتهم يعملن بهذه المهنة: (لا تدنس ابنتك بتعريضها للزنى لئلا تزني الأرض وتمتلئ الأرض رذيلة) (لاويين 19/ 29)

وهناك فقرات تُحرِّم على الكهنة الزواج من عاهرات: (امرأة زانية أو مدنَّسة لا يأخذ ولا يأخذوا امرأة مطلقة من زوجها) (لاويين 21/ 7). وهي تحريمات ليست عامة أو مطلقة وإنما مقصورة على أفراد معيَّنين وتحت ظروف معيَّنة. ولذا، فإننا نجد إشارات عديدة في العهد القديم إلى عاهرات يقمن بوظيفتهن بشكل شبه عادي (أمثال 7/ 1. ـ 23، أشعياء 23/ 16، ملوك 22/ 38) (1)

طأطأت رأسي خجلا، فقال: ليت الأمر اقتصر على هذا.

قلت: أهناك ما هو أخطر من هذا؟

قال: أجل.. لقد تحولت الكنائس التي يأوي إليها الشاردون الذين غلبتهم شهواتهم لتملأهم بالعفاف محال لا تكتفي بالسكوت على الرذائل فقط.. بل تيسر الطريق إليها..

سأذكر لك شهادة رجل مسلم عاش في أمريكا مدة، واختلط ببعض كنائسها، وقد

__________

(1)  انظر: الموسوعة اليهودية لعبد الوهاب المسيري.

ثمار من شجرة النبوة (138)

وصف بدقة ما رآه (1)..

لقد قال يقدم لتلك الشهادة: إن كثيرين مممن لم يعيشوا بعض الوقت فى أوروبا أو أمريكا ـ أو ممن عاشوا هناك ولكنهم لم يتعمقوا وراء الظواهر ـ كثيراً ما تخدعهم كثرة الكنائس وانتشارها ـ وبخاصة فى الولايات المتحدة ـ حيث تقوم فى البلد الصغير الذى لا يتجاوز تعداده عشرة آلاف نسمة أكثر من عشرين كنيسة أحياناً.. وكثيراً ما تخدعهم كثرة مظاهر الاحتفالات الدينية والمراسم والأعياد الدينية.. وكثيراً ما تخدعهم كثرة الأحزاب التى تحمل أسماء (المسيحية).. ثم كثيراً ما يخدعهم ما يكتبه ويذيعه رجال الدين من كتب ومقالات وبحوث وإذاعات فى موضوعات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية البحتة أحياناً..

كثيراً ما يخدعهم هذا كله فيحسبون أن للدين شأناً فى أوروبا وأمريكا، وأن لرجال الدين أثراً فى الحياة الاجتماعية هناك.. وهذه نظرة سطحية لا تدرك حقيقة ما هو واقع هناك.

إن الكنيسة ـ بعد أن ذاقت مرارة الإهمال، ووحشة البعد عن الحياة الاجتماعية، بعد شرود الناس منها منذ عصر النهضة، وخاصة منذ عصر التنوير، ثم عصر الفلسفة الوضعية المادية ـ قد عادت تلهث وراء المجتمع، وتتعلق بأهداب الناس. لا لتقود المجتمع ولا لتنقل الناس إلى الدين. ولكن لتجرى وراء المجتمع، ولتتملق شهوات الناس!

عادت لتقيم فى الكنائس ـ بعد القداس ـ حفلات مختلطة للجنسين يشرب فيها النبيذ، وتدور حلقات الرقص، وتعرض فيها ألعاب التسلية، ويتخاصر فيها الفتيان والفتيات المخمورين، ويلتذون نشوة المخاصرة والعناق حتى الفجر.. كل أولئك لاجتذاب الشبان والشواب إلى الكنيسة!

لقد جربت الكنيسة حين وقفت ـ بالباطل ـ فى وجه ميول الناس الفطرية، كيف خرجوا عليها وداسوها وأهملوها، فعادت الآن تتجنب أن تقف ـ بالحق ـ فى وجه شهواتهم ونزواتهم،

__________

(1)  هو سيد قطب، وقد ذكر ذلك في كتابيه: الإسلام ومشكلات الحضارة، وأمريكا التي رأيت.

ثمار من شجرة النبوة (139)

فيدوسوا عليها ويهملوها!

لقد عادت أوروبا إلى حياة الرومان القديمة التى تسمح للآلهة والأرباب أن تنطق بالرجز على ألسنة الكهان، وأن تكون مواسمها مواسم بهجة ولذة ومتاع.. وذلك دون أن يسمحوا لها بالتدخل فى شئون حياتهم أو توجيهها وجهة تنافى اللذة والمتاع.

بعد هذه المقدمة ذكر بعض مشاهداته في كنائس أمريكا، فقال: (إذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم النصرانى ـ على تفاوت ـ فإنها فى أمريكا مكان لكل شاء إلا للعبادة، وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر معد للهو والتسلية، أو ما يسمونه بلغتهم time (fun) good ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً وضرورياً، ومكاناً للقاء والأنس، ولتمضية (وقت طيب) وليس هذا شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعايتها.

ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين ـ شباناً وشواب ـ ويجتهد راعى كل كنيسة أن يلحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة بالمذاهب والنحل.

ولهذا تتسابق جميعاً فى الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة، وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران، للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة المشوقة، لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التى تتبعها المتاجر، ودور العرض السينمائى والتمثيل.. وليس هناك من بأس فى استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن وأبرعهن فى الغناء والرقص والترويح.. تماماً كما تقف فتيات فى ثياب شديدة اللمعان والإثارة فى مداخل وطرقات دور السينما لجذب الأنظار..

وهذه ـ مثلاًـ محتويات إعلان عن حفلة كنيسة، كانت ملصقة فى قاعة اجتماع الطلبة فى إحدى الكليات، لجذب طلبة الكلية وطالباتها إلى كنيسة معينة فى المدينة الجامعية الصغيرة: (يوم الأحد ـ أول أكتوبر سنة 1950 ـ فى الساعة السادسة مساء.. عشاء خفيف. ألعاب سحرية. ألغاز. مسابقات. تسلية. رقص)

ثمار من شجرة النبوة (140)

وليس فى هذا أى غرابة. لأن راعى الكنيسة لا يحس أن عمله يختلف فى شئ عن مدير المسرح، أو المدير المتجر.. النجاح أولاً وقبل كل شئ.. ولا تهم الوسيلة.. وهذا النجاح يعود عليه بنتائجه الطيبة: المال، والجاه، فكلما كثر عدد الملتحقين بكنيسته عظم دخله وزاد كذلك احترامه ونفوذه فى البلدة. لأن الأمريكى بطبيعته يؤخذ بالضخامة فى الحجم والعدد. وهى مقياسه الأول فى الشعور والتقدير) (1)

قلت: علمت ما حصل للعفة.. فما حصل لغيرها؟

قال: لقد ذكرت لك أن العفاف هو الأساس الذي تقوم عليه القيم.. فمن ذهب العفاف عنه تملكته الشياطين، ولم يدر في أي واد من أوديتها يهلك.

ولهذا كان محمد يحذر من الوقوع في الفواحش.. وكان يقول: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) (2)

اليهودية

التفت إلي، فرآني صامتا لا أجد كلمة أستطيع أن أرد بها على ما ذكره من فضائح الكنيسة.. فقال: ذلك عندنا.. معشر أتباع المسيح.. أو معشر عبدة المسيح..

أما عند اليهود.. فالأمر لا يختلف كثيرا.. ولا يستغرب ذلك من دين يمتلئ كتابه المقدس بكل تلك الرذائل الخلقية.

ولهذا كان من أهم الوظائف التي مارسها اليهود في المجتمعات التي حلوا فيها في جميع فترات التاريخ تجارة الرقيق الأبيض (3).

__________

(1)  من كتاب (أمريكا التي رأيت) لسيد قطب.

(2)  رواه مسلم.

(3)  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في (الموسوعة اليهودية) للمسيري.

ثمار من شجرة النبوة (141)

نظر إلى الأزهار الجاثية أمامه بألم، ثم قال: ليت الأمر اقتصر على البغاء المجرد.. لقد حاول هؤلاء الذين لم ينالوا من أنبيائهم غير اللعنات أن يجعلوا الأرض جميعا ماخورا من مواخير الرذيلة.

لقد نقلوا فن الرذيلة إلى الجامعات والمدارس.. بل إلى المستشفيات والعيادات النفسية.. ليجعلوا الإنسان كائنا جنسيا لا هم له إلا إرواء شهواته.. وبأي السبل؟

قلت: أراك تلمح إلى فرويد!؟

قال: فرويد وغيره من الذين أرادو أن يمسحوا كل براءة لا زالت تطبع وجه البشرية.

قلت: ولكن ما علاقة فرويد وأوليائه باليهود؟

ابتسم، وقال: لم يكن فرويد إلا ثمرة من الثمار اليانعة التي أثمرتها شجرة اليهودية الملقحة ببراعم الوثنية.

قلت: نعم.. فرويد نبت بين اليهود.. ولكنه ليس واحدا منهم.. ولا ينبغي أن نتهم دينا من الأديان لانحراف فرد من أفراده.. وإلا لم يبق دين في الأرض.. بما فيها الإسلام.

قال: لقد كنت أقول قولك هذا إلى أن بان لي وجه الحق الذي حاول البعض ستره.

قلت: فما بان لك (1

قال: لقد قرأت أقوال الكثير من المحللين الذين ربطوا بين فرويد واليهودية (2).. ولم أقتنع

__________

(1)  انظر: الموسوعة اليهودية، البُعد اليهودي في رؤية فرويد The Jewish Dimension Of Freud's World VIEW.

(2)  ذكر المسيري في (الموسوعة اليهودية) أن الكثير من مؤرخي الأفكار يذهبون إلى القول بأن التحليل النفسي (علم يهودي) يضرب بجذوره في طبيعة اليهود النفسية (وهذه مقولة أخذ بها النازيون وكثير من الصهاينة).

والمدافعون عن هذا الرأي (أ. روباك A.Roback ـ إيزيدور سادجر Sadger ـ إرنست جونز Jones)، وهم يسوقون قرائن عديدة من بينها أن اليهود دائمو التأمل في أسباب الظواهر، ويتضح هذا في مزامير داود وفي التلمود، وهذا التفسير يربط بين التحليل النفسي وبعض الصفات الأزلية الثابتة في طبيعة اليهود.

وهناك من يحاول أن يُدخل بُعداً تاريخياً فيذهب إلى القول بأن التحليل النفسي هو محاولة اليهودي أن يعالج عُصابه الناجم عن وجوده الدائم في المنفى.

وتذهب سوزان هاندلمان إلى أن فرويد إن هو إلا تعبير عن تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة، وهو جزء من انتقام اليهودي من مجتمع الأغيار الذي اقتلعه من مكانه، ولذا فاليهودي يقوم بتفكيك الحضارة الغربية المسيحية، تماماً كما قامت هذه الحضارة بتفكيكه.

وقد ذكر المسيري أن مثل هذه الأفكار تلاقي رواجاً غير عادي في بعض الأوساط في العالم العربي، وتُستخدَم في تدعيم الرأي القائل بوجود (مؤامرة يهودية) تعبِّر عن الجوهر اليهودي.

ثمار من شجرة النبوة (142)

بكل ما قالوا إلى أن سمعت ما قال فرويد نفسه.

قلت: فما قال؟

قال: لقد رأيت فرويد يربط كثيرا بين التحليل النفسي وانتمائه اليهودي، فالمقاومة التي لاقاها التحليل النفسي كانت، في تَصوُّره، جزءاً من رفض الحضارة الغربية لكل ما هو يهودي، والتحليل النفسي في تصوره كان من إبداعه.. لقد قال: (لمدة عشر سنوات كنت أنا الشخص الوحيد الذي انشغل به ولا أحد يعرف أكثر مني ما هو التحليل النفسي)

وكان فرويد يتصور أن عالم الأغيار (غير اليهود) سيرفض التحليل النفسي بسبب يهوديته، ولذا كان يتصور أنه لابد من إعطائه واجهة (مسيحية)، وكان هذا هو الدور المُوكَل ليونج ابن الراعي السويسري.

فكتب فرويد إلى كارل أبراهام خطاباً يحثه فيه على كسب مودته، (فيونج مسيحي وابن قسيس (ولذا فهو) يجد عناصر مقاومة داخلية شديدة تعوق اقترابه مني. ونحن لا غنى لنا إطلاقاً عن رفاقنا الآريين كافة، وإلا سقط التحليل النفسي ضحية معاداة اليهود)

وحينما اعترض أتباع فرويد على ترشيح يونج لرئاسة الجمعية الدولية قال لهم فرويد: (إن معظمكم من اليهود، ومن ثم فإنكم لن تستطيعوا ضم أصدقاء للفكر الجديد، على اليهود أن يَقنَعوا بدورهم المتواضع في تمهيد الطريق، فمن أشد الأمور أهمية بالنسبة لي أن أستطيع إيجاد

ثمار من شجرة النبوة (143)

روابط مع دنيا العلم. وها أنتم ترون أني أتقدم في السن وأشعر بالتعب من الهجوم المتواصل. إننا جميعاً (أي اليهود العاملين في حقل التحليل النفسي) في خطر)

ثم أمسك فرويد بثنية سترته، ومضى يقول بطريقة مسرحية: (إنهم لن يتركوا لي سترة أغطي بها ظهري ولكن السويسريين (أي المسيحيين) سينقذوننا سينقذونني، وسينقذونكم جميعاً أيضاً)

وكان فرويد كثيراً ما يتباهى باليهودية وبانتمائه اليهودي، فكان يرى أن الشعب اليهودي قَدَّم التوراة للعالم، وأن اليهودية مصدر طاقة لكثير مما كتب.

وقد أكد أكثر من مرة أنه كان دائماً مخلصاً لشعبه (ولم أتظاهر بأنني شيء آخر: يهودي من مورافيا جاء أبواه من جاليشيا)

وحينما سأله صديق يهودي عما إذا كان من الواجب على اليهود أن يوجهوا أولادهم لاعتناق المسيحية، وهو أمر كان شائعاً بين اليهود آنذاك، بل من المعروف أن بعض أقارب فرويد قد تَنصَّروا، رد قائلاً: (اليهودية مصدر طاقة لا يمكن أن تُعوَّض بأي شيء آخر، (فاليهودي) عليه كيهودي أن يكافح، ومن الواجب أن يُنمِّي في نفسه كل هذا الكفاح، فلا تحرمه من هذه الميزة)

وقد انضم فرويد لجماعة (بناي بريت) عام 1895 وفيها ألقى أولى محاضراته عن تفسير الأحلام. وفي 6 مايو عام 1926 أقامت الجمعية حفلاً خاصاً بمناسبة بلوغه السبعين من عمره، ولم يَحضُر فرويد هذا الحفل وأناب عنه في حضوره طبيبه الخاص البروفسور لدفيج براون الذي ألقى كلمته والتي تضمنت قوله (.. إن كونكم يهوداً لأمر يوافقني كل الموافقة لأنني أنا نفسي يهودي. فقد بدا لي دائماً إنكار هذه الحقيقة ليس فقط أمراً غير خليق بصاحبه، بل هو عمل فيه حماقة أكيدة. إنني لتربطني باليهودية أمور كثيرة تجعل إغراء اليهودية واليهود أمراً لا سبيل إلى مقاومته، قوى انفعالية غامضة كثيرة كلما زادت قوتها تَعذَّر التعبير عنها في كلمات. بالإضافة إلى

ثمار من شجرة النبوة (144)

شعور واضح بالذاتية الداخلية، الخلوة الآمنة لتركيب عقلي مشترك. ثم بعد هذا كله كان إدراكي أنني مدين بالفضل لطبيعتي اليهودية فيما أملك من صفتين مميزتين لم يكن في وسعي الغناء عنهما خلال حياتي الشاقة: فلأني يهودي وجدت نفسي خلواً من التحيزات التي أضلت غيري دون استخدام ملكاتهم الذهنية، وكيهودي كنت مستعداً للانضمام إلى المعارضة وللتصرف دون موافقة الأغلبية الساحقة. وهكذا وجدت نفسي واحداً منكم أقوم بدوري في اهتماماتكم الإنسانية والقومية، واكتسبت أصدقاء من بينكم، وحثثت الأصدقاء القليلين الذين تبقوا على الانضمام إليكم)

ولكنه بعد خمسة أعوام نجده يكتب رداً على تهنئة حاخام فيينا له بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين يقول: (في مكان ما في أعماق روحي أشعر أني يهودي متعصب.. وأني شديد الدهشة أن أكتشف نفسي هكذا، رغم كل جهودي للوصول للموضوعية ولإنكار التحيز)، أي أن اليهودية التي جعلته خلواً من التحيزات في سن السبعين، جعلته غير قادر على إنكار التحيز في سن الخامس والسبعين.

بل إن فرويد كان يغازل الصهيونية ويظهر هذا في تباهيه بما يُسمَّى (الشعب اليهودي)، وكان يعرف تيودور هرتزل ويوليه الاحترام ويشير إليه باعتباره (الشاعر والمحارب من أجل حقوق شعبنا)، وأرسل إليه أحد كتبه مع عبارة إهداء شخصي عليه، وكان أحد أبناء فرويد عضواً في جماعة قديما الصهيونية، كما كان هو نفسه عضواً فخرياً بها.

وقد كتب فرويد إلى إحدى تلميذاته من العاملات بالتحليل النفسي، وهي إشبيلر اين، بعد أن علم أنها توشك أن تضع طفلاً، يقول لها: (أود لو خرج الطفل ذكراً أن يصير صهيونياً متعصباً.. إننا يهود، وسنظل يهوداً.. وسيبقى الآخرون، على استغلالهم لنا، دون أن يفهمونا، أو يقدرونا حق التقدير) (1)

__________

(1)  الخطاب مؤرخ في أغسطس 1913 ولكنه لم يُنشَر إلا عام 1982، الموسوعة اليهودية.

ثمار من شجرة النبوة (145)

قلت: أراك تريد أن تثبت لي بأن المنظومة الفرويدية (منظومة يهودية)، وأن التحليل النفسي (علم يهودي).. إن هذا هو نفس ما يدَّعيه الصهاينة وأعداء اليهود في آن واحد؟

قال: بل هو نفس ما يدعيه فرويد.. بل هو نفس ما تبرزه الأدلة الكثيرة التي تبين النشأة الحقيقية لتلك النظرية التي لم يكن لها من هدف غير الإجهاز على البقية الباقية من البراءة الإنسانية.

ولتستوعب ذلك، وتقتنع به تحتاج إلى دراسة متمعنة للتلمود، وللقبَّالاه، باعتبارها من التراث المقدس لليهود (1).

فأهم نقط التماثل بين المنظومة الفرويدية والمنظومة القبَّالية هي مركزية الجنس في كليهما، فقد سُمِّيت الفرويدية (النظرية الجنسية الشاملة) أي (الواحدية الجنسية)، وهي تسمية لها ما يبررها، فالجنس ـ حسب تصور فرويد ـ ليس وراء كل سقم نفسي وحسب، بل إن طاقته هي المحرك أيضاً لكل ما يَصدُر عنه من وجوه النشاط من لحظة أن نُولَد، والجنس ليس مقصوراً على العلاقة الجنسية، ولكنه في واقع الأمر صورة مجازية تتخلل على نحو ما كل النشاط الإنساني، وضمن ذلك نشاط الإنسان العلمي والفني، وهذا لا يختلف كثيراً عن استخدام القبَّالاه للجنس كصورة مجازية أساسية في رؤيتها للعالم، فقد عزا التراث القبَّالي إلى الإله صفة الجنسية، فالتجليات النورانية العشرة (سفيروت) كان يتم التعبير عنها من خلال رموز وصور مجازية جنسية، وتُعدُّ الشخيناه (السفيروت العاشر) التعبير الأنثوي عن الإله.

وفي صدد ما جاء عن الجنس في التراث القبَّالي يذكر باكان أن هذا التراث يتضمن عشرة أسفار هي الفيض القدسي والسلطات الخفية للإله، وكل جزء منها مرتبط بجانب من الإله. وتاسع هذه الأسفار اسمه (يسود) أي الأساس، ومكان اليسود الأعضاء الجنسية لآدم قدمون أو الإنسان الأول وهو المايكروكوزم (العالم الأصغر) الذي يقابل الماكروكوزم (العالم الأكبر).

وقد وصف بعض الحاخامات القبَّالاه بأنها قامت بتجنيس الإله وتأليه الجنس، وهذا

__________

(1)  ذكر المسيري أنه اعتمد في هذا على كتاب صبري جرجس، وعلى دراسة باكان فرويد والتقاليد الصوفية اليهودية.

ثمار من شجرة النبوة (146)

وصف دقيق أيضاً للمنظومة الفرويدية على الأقل في جانبها الاختزالي الشائع.

ومن نقاط الالتقاء بين الفكر القبَّالي والفكر الفرويدي المعرفة أو (داث)، فداث في التراث القبَّالي تَنتُج من اتحاد (حوخماه) أو الحكمة و(بيناه) أو الفهم. والحوخماه مفهوم ذَكَري والبيناه مفهوم أنثوي، وبذا تكون داث النسل المقدَّس لاتحادهما الخفي.

غير أن المعرفة (داث) تُستخدَم أيضاً في التوراة بمعنى الاتصال الجنسي، وأول استخدام لها ورد في (تكوين 4: 1) بهذا المعنى، (وعرف آدم امرأته حواء فحبلت..)، وقد تكرر استخدام الكلمة بالمعنى نفسه في مناسبات متعددة بعد ذلك.

ويذكر باكان أن الزوهار يتحدث عن الاتصال الجنسي بوصفه (الكشف عن العرى)، ولما كانت كلمة بيناه التي تعني (الفهم) تعني في الوقت نفسه (الأم)، فإن الرجل الذي يخطئ جنسياً يكون في الوقت نفسه كأنه قد (كشف عن عرى الأم)

وفرويد يخال أنه وصل إلى الفهم (بيناه) بالكشف عن اللاشعور، أي الكشف عن عرى العقل في الإنسان. ويتضمن مفهوم الموقف الأوديبي خيال الأم العارية. والمعرفة (داث) في التراث القبَّالي تَنتُج من اتحاد الحكمة والفهم، والمعرفة (الاستبصار) عند أصحاب التحليل النفسي الفرويدي ثمرة اتحاد الشعور واللاشعور. وهذا الاتحاد في ذاته كما يقولون خبرة شهوية عميقة من حيث أنه يتناول الكشف عن الموقف الأوديبي، أي اكتشاف المرء عقدة أوديب داخل نفسه والكشف عنها ثم الكشف عما تنطوي عليه من خيال الأب والأم في العلاقة الجنسية، ومن حلول الطفل، خيالاً أيضاً، محل الأب في هذه العلاقة.

والعلاقة بين المعرفة والجنسية لها شواهد أخرى عند فرويد أيضاً، فقد ذكر في مجموعة مقالاته أن الطفل في سن الثالثة إلى الخامسة، حين تصل حياته الجنسية إلى قمتها الأولى، يبدأ يبدي من النشاط ما يمكن أن يُعزَى إلى رغبته في التقصي والمعرفة، كما أن الرغبة في المعرفة لدى الأطفال، فيما يرى فرويد، تتجه على نحو عنيف وفي فترة مبكرة إلى المشكلات الجنسية. بل إن التحليل

ثمار من شجرة النبوة (147)

الفرويدي ليمضي في هذا الاتجاه إلى مدى أبعد فيزعم أننا نكون أكثر دقة إذا قلنا إن هذه المشكلات (الجنسية) قد تكون أول ما ينبه رغبته في المعرفة عموماً.

ومن نقاط الالتقاء تلك المرتبطة بما جاء بالزوهار من نسبة الجنسية الثنائية للإنسان، فالإله ينطوي داخل نفسه على الشخيناه وهي مرادفه الأنثوي. وآدم الذي خُلق على مثال الإله كان ينطوي على مرادف أنثوي هو الضلع الذي خُلقت منه حواء، والفكر القبَّالي ينطوي على أن الذكر والأنثى قطبان لكيان واحد، كما أن الزوهار يتضمن أن (الإله لا يبارك مكاناً إلا حيث يجتمع فيه رجل وامرأة، وأن الرجل لا يُسمَّى رجلاً إلا إذا اتصل بامرأة، والرجل غير المتزوج ناقص وتعوزه نعمة الإله)

ويذهب فرويد إلى أن الإنسان يُولَد بتركيب جنسي ثنائي، وأن هذه الثنائية تنفصل فيما بعد، ولكن التحقيق في حياة الإنسان لا يصل إلى غايته إلا بعودة هذه الثنائية إلى الاتصال مرة أخرى في العلاقة الجنسية السوية.

وفي سفر براخوت في التلمود وردت آراء عن الأحلام تشبه كثيراً من آراء فرويد، فقد ورد في هذا السفر (إن المرء لا يرى في الحلم إلا ما توحي به أفكاره)، فالأحلام تعبير عن رغبة لدى الحالم وبالإمكان تفسيرها عن طريق اللعب بالألفاظ وهي ذات مدلول جنسي، وهي في أساسها تعبير رمزي، كما أنها تعبِّر عن الصراع بين دوافع (الخير) ودوافع (الشر) وهذه جميعاً تطابق ما قال فرويد عن الأحلام.

ومن المعالم البارزة في سفر براخوت أنه يستخدم الخيالات الجنسية ليرمز إلى المعرفة فيقول (إذا حلم إنسان بأنه يتصل بأمه جنسياً فله أن يتوقع الوصول إلى الفهم، وإذا حلم بأنه يتصل جنسياً بعذراء مخطوبة، فله أن يتوقع الوصول إلى معرفة التوراة، وإذا حلم شخص بأنه يتصل جنسياً بامرأة متزوجة فله أن يثق في أنه على موعد مع القدر بالنسبة لمستقبل العالم، بشرط ألا يكون على معرفة بها، وألا يكون قد فكَّر فيها أثناء المساء)

ثمار من شجرة النبوة (148)

الحضارة الغربية

قلت: حدثتني عن بحثك في موقف المسيحية واليهودية من قيم العفاف والحرص على العرض والشرف.. ولكن المجتمعات ـ وخاصة المجتمعات الحديثة ـ لا يحكمها الدين وحده.. فهناك فلسفات ومذاهب وشيع.

قال: أجل.. لقد أمضيت في الاهتمام بهذا الجانب جزءا مهما من حياتي، وكان من أهم ما بحثت فيه البذور التي أنبتت أشجار الرذيلة في المجتمعات الغربية التي تتوهم أنها تعيش قمة قمم الحضارة مع أنها في حقيقتها لا تعدو نوعا من التطوير المخزي لحضارة سدوم وعمورية.

قلت: فماذا وجدت؟

قال: لقد أدت الثورة على الكنيسة التي لم تعرف كيف تمثل الدين تمثيلا صحيحا إلى ظهور فلسفات كثيرة لا هم لها إلا خلع اللباس الإنساني عن الإنسان، وإلباسه لباس البهيمية الغارقة في مستنقعات الشهوات.

لن أطيل الحديث عليك.. ولكني سأذكر لك ثلاثة من أعمدة الرذيلة التي قامت عليها مواخير الفساد التي تعج بها مجتمعاتنا: ماركس.. فرويد.. ودركايم (1).. فهؤلاء الثلاثة وغيرهم كثير هم الذين تأسست عليهم الحضارة الغربية والقيم الغربية والانحرافات الغربية.

أما ماركس ـ صاحب التفسير المادى للتاريخ ـ فيبرز موقفه من العفاف في قوله: (إن (العفة) من فضائل المجتمع الإقطاعى البائد كقيمة موقوتة لابد أن توجد فى هذا الطور الاقتصادى.. لا كقيمة ذاتية ينبغى أن تتبع بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية، لأنها مرتبطة بكيان (الإنسان) ذاته المتميز عن الحيوان)

أما فرويد، فقد عرفنا موقفه من قبل.. إنه لا يكتفى بتصوير الإنسان حيواناً، وإنما يصوره

__________

(1)  انظر فصل (اليهود الثلاثة) في كتاب (التطور والثبات فى حياة البشر) لمحمد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (149)

حيواناً ممسوخاً مشوهاً، ينبع كله من طاقة واحدة من طاقاته.. هى الطاقة الجنسية.

أما دوركايم، فيقول: (إن الأخلاقيين يتخذون واجبات المرء نحو نفسه أساساً للأخلاق، وكذا الأمر فما يتعلق بالدين، فإن الناس يرون أنه وليد الخواطر التى تثيرها القوى الطبيعية الكبرى أو بعض الشخصيات الفذة لدى الإنسان (يقصد الرسل والأنبياء والقديسين)، ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على الظواهر الاجتماعية اللهم إلا إذا أردنا تشويه طبيعتها) (1)

أما الدين الذي كان يمكن أن يغرس وازع الفضيلة في النفس، فقد وقف هؤلاء الثلاثة، كما وقف غيرهم ممن هو تبع لهم، أو ممن كان مثلهم يحتقرونه ويزدرون به:

أما دركايم، فيقول إن الدين ليس فطرة!

وأما ماركس، فيقول: إن الدين أفيون الشعب، ويقول إنه مجموعة من الأساطير ابتدعها الإقطاعيون والرأسماليون لتخدير الجماهير الكادحة، وتلهيتها بنعيم الآخرة عن حياة الحرمان فى الأرض.

وأما فرويد، فيقول: إن الدين ناشئ من الكبت، من عقدة أوديب..

وراح هؤلاء الثلاثة الذين رضعنا فلسفاتهم مع حليب أمهاتنا يرمون بمعاولهم على الأخلاق:

أما دركايم، فراح يبشر بأن الجريمة ظاهرة سوية، والزواج ليس من الفطرة، والأخلاق شاء لا يمكن الحديث عنه ككيان ثابت، وإنما كل ذلك من صنع (العقل الجمعى) الذى لا يثبت على حال، وينتقل من النقيض إلى النقيض.

وأما ماركس، فراح يبشر بأن الأخلاق مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى المتطور على الدوام، وليس قيمة ثابتة.

وأما فرويد، فراح يبشر بأن الأخلاق تتسم بطابع القسوة حتى فى صورتها الطبيعية

__________

(1)  قواعد المنهج فى علم الاجتماع ص 165.

ثمار من شجرة النبوة (150)

العادية، وهى كبت ضار بكيان الإنسان.

لقد كانت هذه الأفكار الخطيرة هي البذور التي تلقفها جميع سدنة الرذيلة ليحولوا الحضارة الغربية إلى ناد من نوادي سدوم وعمورية.

قلت: أراك لا ترى من فلسفات هؤلاء إلا جانبها المظلم.

قال: لأنه لم يكن فيها أي نور.. لقد حملت جميع مصابيح الحقيقة لأبحث عن ذرة من النور في فلسفاتهم، فلم أجدها.

قلت: ولكن الحضارة الغربية بفضل فلسفاتهم وصلت إلى ما وصلت إليه من رقي مادي.

ابتسم بسخرية، وقال: نعم.. نسيت.. لقد وصلنا إلى صناعة السينما والتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت..

قلت: أجل.. وغيرها كثير.

قال: ولكنا لم نستخدمها إلا في تمكين الرذائل والانحرافات.. لنجعل في كل بيت ماخورا من مواخير الرذيلة..

كان يمكننا بهذه الأجهزة ـ لو أنا التزمنا الهدي العظيم الذي جاء به محمد، وجاء به قبله الأنبياء ـ أن نحول البشر إلى زهور.. ونحول الأرض إلى حديقة.. ولكنا أبينا إلا أن نحولها إلى ما تراها.

لقد قال الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون) (1)

وقد أجرى بعضهم دراسة على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة

__________

(1)  بصمات على ولدي، طيبة اليحى.

ثمار من شجرة النبوة (151)

والجنس يشكل 72 بالمائة منها (1).

أما الإنترنت التي استطاعت أن تصل العالم جميعا بعضه ببعض، لتحوله مجتمعا واحدا، بل أسرة واحدة، فقد مارست هي الأخرى الوظائف المنحطة التي مارسها قبلها التلفزيون والسينما.. بل إن ممارستها لها تفوق جميع الممارسات السابقة.

نظر إلى الأزهار بألم.. وقال: وهكذا قام المجرمون بخنق أزهار الفضيلة.. ليغرسوا بدلها شجرة الرذيلة..

لقد تعاون العلم مع التكنولوجيا مع الفلسفة ليملأوا النفوس العطشة بكل ما تبتغي من شهوات.. فانحط الأفراد، وانحطت الأسر، وانحط المجتمع.

قيم الإسلام

قلت: حدثتني عن ضياع القيم في ظل الأديان والمذاهب والفلسفات.. فأين نجدها إذن؟

قال: في الإسلام.. لقد ذكرت لك أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي احتفظ بالقيم الإنسانية النبيلة، وأنه الوحيد الذي يستطيع أن يحول البشر إلى حقل كبير من الأزهار التي تفوح بأجمل ألوان العطر..

قلت: فحدثني عن قيم الإسلام.

قال: لقد ذكرت لك أن القيم النبيلة تجتمع في سبع.

قلت: أجل.. وقد ذكرت لي أن تلك السبع هي سر جمال الأزهار.

العفاف

قال: وقد ذكرت لك أن أول سر من أسرار الأزهار (العفاف)؟

قلت: أجل.. فعليه تبني سائر القيم.

__________

(1)  هو د. حمود البدر، انظر: الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 14.

ثمار من شجرة النبوة (152)

قال: نعم.. فهو يعني البراءة والطهر والصفاء.. ولا يمكن أن تكون الأزهار أزهارا من غير براءة ولا طهر ولا صفاء.

إن جمال محيا العفيف لا يختلف كثيرا عن جمال محيا أجمل زهرة من أزهار العالم..

ألا تعلم سر جمال يوسف؟.. لقد اعتبره القرآن رمزا للعفاف.. كما اعتبره المصريون والناس رمزا للجمال.. وفي ربط القرآن بينهما دليل على أن قمة الجمال لا تكون إلا مع قمة العفاف.

قلت: ولكن هذه الناحية لم تتحقق إلا في المسيحية.. فهي الدين الوحيد الذي يعتبر العفاف أصل أصوله..

قال: لعلك تقصد قول المسيح: (وسمعتم أنه قيل: لا تزن! أما أنا فأقول لكم: كل من ينظر إلى امرأة بقصد أن يشتهيها، فقد زنى بها في قلبه! فإن كانت عينك اليمنى فخا لك، فاقلعها وارمها عنك، فخير لك أن تفقد عضوا من أعضائك ولا يطرح جسدك كله في جهنم) (متى:5/ 27 - 29)

قلت: أجل.. ألا ترى في هذا قمة العفاف؟

قال: بلى.. وهو يتفق تماما مع ما جاء في القرآن من الأمر بغض البصر والتشديد فيه، ففي القرآن: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} (النور)

ففي هاتين الآيتين منظومة كاملة للعفاف.. فهي لا تأمر فقط بغض البصر، والذي قد

ثمار من شجرة النبوة (153)

يطيقه فرد من الناس، وتعجز عنه أمة منهم، ولكنه يوفر الجو المناسب للعفاف والبراءة والطهر.

نظر مليا إلى الزهرة الجميلة التي كانت سبب التقائنا، ثم قال: لا يمكن للبراءة والطهر أن تتم من خلال زهد يمارسه بعض الناس فقط..

الطهارة والبراءة والعفاف تقتضي منظومة كاملة.. وللأسف لم أجد في أي دين من الأديان ولا فلسفة من الفلسفات هذه المنظومة فيما عدا الإسلام.

قلت: إن من قومنا من يعتبرون موقف الإسلام من هذا.. ودعوته الملحة للعفاف نوعا من الكبت الذي لا ينسجم مع الفطرة السوية.. ففي الإنسان غرائز.. والمواقف السليم من الغرائز أن تطلق لا أن تحد (1).

قال: أنت تذكرني بمواقف كثير من علماء النفس عندنا.. وموقفهم من الدين.. فقد ذكروا أن الدين يكبت النشاط الحيوي للإنسان، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم، ذلك الشعور الذي يستولي على المتدينين خاصة، فيخيل لهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة.

ولهذا ظلت أوربا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين، فلما نبذت قيود الدين تحررت مشاعرها من الداخل، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج.

قلت: أجل.. إنك تردد ما يقولونه بدقة.. أفلا ترى في هذا القول حجة كافية للرد على الإسلام في موقفه من العفاف؟

قال: إن الرد على هذا يحوجنا إلى التعرف على معنى (الكبت)، فإن هذه اللفظة كثيراً ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين، فضلاً عن العوام والمقلدين.

قلت: الكبت على حسب ما أعرف.. على حسب ما يقولون.. هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي.

__________

(1)  انظر: شبهات حول الإسلام، محمد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (154)

قال: لا.. ليس هو الكبت هو الامتناع.. وإلا لكان كل الإنسان حدثته نفسه بفاحشة من الفواحش، فلم يقع فيها مصابا بالكبت.

قلت: فما هو الكبت إذن؟

قال: الكبت في الحقيقة هو استقذار الدافع الغريزي في ذاته، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره.

والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية، والعمل الغريزي قد لا يكفي وحده لعلاجها.. فالذي يأتي هذا العمل، وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به، شخص يعاني الكبت حتى ولو فعل هذا عشرين مرة كل يوم.. لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله.

وهذا الشد والجذب في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية.

قلت: هذا تفسيرك للكبت؟

قال: لا.. بل هذا تفسير علماء النفس أنفسهم.. بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية. فهو يقول: (ويجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا (الكبت الشعوري)، وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي، فهذا مجرد (تعليق للعمل)

قلت: فهل ترى هذا التفسير كافيا لدفع هذه الشبهة عن الإسلام؟

قال: هذه الشبهة لا تقع إلا من دين ينفر من الغرائز، ويدعو إلى كبتها.. والإسلام لم يفعل هذا.. بل ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أصرح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور.. فالقرآن يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ

ثمار من شجرة النبوة (155)

الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14)

ففي هذه الآية يجمع القرآن شهوات الأرض، ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس، لا اعتراض عليه في ذاته، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات.

قلت: فالإسلام إذن دين إباحي؟

قال: أنت تتصور أن أمر الغرائز إما أن يكون كبتا، وإما أن يكون إباحية؟

قلت: أنا أذكر ما يقولون.. فهل ترى أن هناك منطقة وسط بينهما؟

قال: أجل.. وقد وضع لها الإسلام منظومة من الشرائع والتوجيهات لا يكفي هذا المحل لسردها جميعا.

فالإسلام لا يبيح للبشر أن يهبطوا لعالم الحيوان بحجة مقاومة الكبت.. لأن هناك فرقاً هائلاً بين هذا وبين الكبت اللاشعوري، أي أن هناك فرقا بين استقذار هذه الشهوات في ذاتها، ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع.

وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ، وعدم كبتها في اللاشعور، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولاً من المتاع، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه، أو على المجموع كله.

والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات، هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي، واستعباد الشهوات له بحيث تصبح شغله الشاغل، وهمه المقيم، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً لا يهدأ، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر.

أما الضرر الذي يحدث للمجتمع، فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق، فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة، وفك روابط المجتمع، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك.

وفي هذه الحدود التي تمنع الضرر يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة، بل يدعو إليها

ثمار من شجرة النبوة (156)

دعوة صريحة فيقول مستنكراً على من حرمها: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32).. ويقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77).. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172).. ويقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (لأعراف:31)

بل إن محمدا يذكر في حديث له أن الرجل يثاب على أداء ما تتطلبه هذه الغريزة زوجته، فيقول المسلمون متعجبين: (يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟)، فيرد عليهم: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) (1)

ولهذا.. فإنه يستحيل أن يحصل أي كبت في ظل الإسلام.. ذلك أن الإسلام يطلب من الشباب شيئا واحدا، وهو أن يضبط هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها.. يضبطها في وعيه وبإرادته، وليس في لاشعوره، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب، وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت، وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية.

قلت: ولكن أولئك يعتبرون هذا نوعان من الحرمان، ولو كان حرمانا مؤقتا؟

قال: ليست في الدعوة إلى ضبط الشهوات أي تحكم.. لأنه لا يمكن أن تقوم أمة من الأمم، وهي لا تتحكم في شهواتها.. ولا تنظمها.. إنها تتحول بذلك إلى غابة لا يأمن فيها الإنسان على نفسه، ولا على عرضه..

التفت إلي، وقال: للأسف لم تعطنا حضارتنا أي كابح يجعل طاقات الأمة تتوجه نحو القيم الرفيعة لتوجه طاقتها فيها كما فعل الإسلام.. وهو دليل خطير على هزيمة الحضارة في هذا

__________

(1)  رواه مسلم.

ثمار من شجرة النبوة (157)

الجانب المهم من الحياة.

قلت: أيقنت هذا ووعيته.. فأخبرني عن التشريعات التي وضعها الإسلام ليحفظ بها الفرد والمجتمع من هذه الانحرافات الخطيرة التي وقعت فيها مجتمعاتنا.

قال: لا يمكن إحصاء ذلك في هذه الجلسة.. ولكني سأذكر لك أصول ما شرعه الإسلام في هذا الجانب الخطير.. والذي لم أجد مثيلا له في أي دين من الأديان، أومذهب من مذاهب الأخلاق.

أولا.. لقد بدأ الإسلام، فملأ النفس نفورا من الفواحش وهربا منها حتى صارت بالنسبة لها هي القذارة بعينها، ففي الحديث: (إذا زنى الرجل أخرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان) (1)

وفي حديث آخر: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشا فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب) (2)

وفي حديث آخر: (إذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة) (3)

ولهذا وصف القرآن المؤمنين بأنهم لا يقعون في مثل هذه الفواحش: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} (الفرقان:68)

ولم يكتف الإسلام بتحريم الزنا، بل حرم كل ما يقرب منه، أو يؤدي إليه، ففي القرآن: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام:151).. وفيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الاسراء:32)

__________

(1)  رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والبيهقي.

(2)  رواه أحمد بسند حسن.

(3)  رواه البزار.

ثمار من شجرة النبوة (158)

أنت ترى كيف أن القرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا، وهي مبالغة في التحرز، لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة، فالتحرز من المقاربة أضمن، فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان.

ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقياً للوقوع فيه.. فيكره الاختلاط في غير ضرورة.. ويحرم الخلوة.. وينهى عن التبرج بالزينة.. ويحض على الزواج لمن استطاع.. ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع.. ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور.. وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد.. ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم.. إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال (1).

ولم يكتف الإسلام بهذا.. بل وضع معه الكثير من التشريعات الرادعة التي تملأ النفس نفورا من هذا النوع من المعاصي..

ومن هذه العقوبات ما نص عليه القرآن بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2)

قلت: إن قومي يؤلبون الخصومات على محمد بسبب هذا.

قال: أولئك جهلة أو منحرفون.. وهم لا يفهمون الإسلام.. ويتعجبون من مثل هذه التشريعات..

الإسلام يهتم بالإنسان، ويعتبره محور التشريعات والتنظيمات والحضارة.. فلذلك يتعامل مع النفس الإنسانية بجميع ما في هذه النفس من الرغبة والرهبة.

فيخاطب الرغبة بالحث على العفاف وبالإخبار بما في الجنة لمن صبر من الحور العين.. ويخاطب الرهبة بالعذاب الأليم.. وبأنواع الحدود التي شرعها.

نعم.. نحن في واقعنا اليوم نضحك على الحدود التي شرعها الإسلام في هذا الجانب..

__________

(1)  في ظلال القرآن، سيد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (159)

ولكنا ننسى ما أدى إليه التساهل فيه من انتشار الأمراض، وانحلال الأسر، وتحطم المجتمعات.. وهو ما يفوق ذلك العقاب البسيط المحدود الذي وضعه الإسلام رادعا لا منتقما (1).

الكرم

قلت: عرفت السر الأول.. فحدثني عن السر الثاني.

قال: السر الثاني هو الكرم.. ألا ترى إلى هذه الأزهار الكريمة التي تجود بتلك الروائح الطيبة، ولا تبخل بها على أحد من الناس!؟

قلت: بلى.. فلم نر من الأزهار منذ اختلطنا بها إلا خيرا.

قال: وهكذا الإسلام.. وهكذا من يستنير بأشعة شمس محمد.. فإنك لن تجد عنده إلا الكرم..

الكرم أصل أصيل من أصول الإسلام.. وهو ما نفتقده نحن معشر البخلاء الذين لم نكتف بالشح بما لدينا، بل رحنا ننهب ثروات الشعوب وخيراتها نتلاعب بها كما نشاء.. وقد نجود عليهم ببعض فتاتها، ثم نزعم أننا نتصدق عليهم بذلك.

قلت: تلك حضارة الاستعمار.. والمسيحية لم تفعل هذا.

قال: المسيحية فعلت أخطر من هذا.. فقد راحت تبيع ما لا تملك..

قلت: ما تقصد؟

قال: ألم تكن الكنيسة تبيع صكوك الغفران!؟

طأطأت رأسي، فقال: أصدقك القول.. إن كل رجال الدين من كل الأديان التي عرفتها انقلبوا لصوصا.. وحولوا معابدهم إلى دور للعصابات.. لقد ذكر القرآن هذا.. ففيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة:34)

__________

(1)  انظر التفاصيل المرتبطة بالحدود الشرعية والشبهات المثارة حولها في رسالة (عدالة للعالمين)

ثمار من شجرة النبوة (160)

قلت: والإسلام!؟

قال: لقد بحثت في آداب العالم وقيمه.. فلم أجد دينا يحث على الكرم، ويربي أتباعه عليه، كما وجدت في الإسلام..

لقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة التي تحث على الكرم، وتعتبره من الكمال، بل تعتبره من مقاييس الكمال، فقد اعتبر محمد: (السخاء خلق الله الأعظم) (1)، وذكر أن (السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل) (2).. وقال: (إن الله يدخل بلقمة الخبز، وقبضة التمر ومثله، مما ينفع المسكين ثلاثة الجنة: صاحب البيت الآمر به، والزوجة المصلحة، والخادم الذي يناوله المسكين) (3).. وقال: (إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه) (4).. وقال: (ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة، كلهم يدعوه إلى ما عنده) (5).. وقال: (كم من حوراء عيناء، ما كان مهرها، إلا قبضة من حنطة، أو مثلها من تمر) (6).. وقال: (اليد العيا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة) (7).. وقال: (لا حسد إلا في إثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) (8)

__________

(1)  ابن النجار عن ابن عباس.

(2)  الترمذي والبيهقي.

(3)  الحاكم.

(4)  الشيخان.

(5)  أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.

(6)  العقيلي في الضعفاء.

(7)  أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي.

(8)  أحمد، والشيخان، وابن ماجة.

ثمار من شجرة النبوة (161)

وأخبر أن الله يتقبل الصدقة، ويربيها لصاحبها، فقال: (إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد) (1)، وفي رواية: (إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي ولده، أو فصيله حتى يكون مثل أحد) (2).. وقال: (إن العبد ليتصدق بالكسرة، تربو عند الله حتى تكون مثل أحد) (3)

وأخبر أن أحب الأعمال إلى الله الكرم، فقال: (أحب الأعمال إلى الله تعالى، من أطعم مسكينا من جوع، أو دفع عنه مغرما، أو كشف عنه كربا) (4).. وقال: (أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض، إدخال السرور على المسلم) (5)

وأخبر عن حب الله للمكرمين، فقال: (إن أحب عباد الله إلى الله، من حبب إليه المعروف، وحبب إليه أفعاله) (6).. وقال: (إن الله تعالى استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما) (7).. وقال: (إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها) (8)، وقال: (ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدت عليه مؤنة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال) (9)

وقال: (خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما الله تعالى، فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيرا، استعمله على قضاء

__________

(1)  الترمذي.

(2)  أحمد، وابن حبان في صحيحه.

(3)  الطبراني.

(4)  الطبراني.

(5)  الطبراني.

(6)  ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ.

(7)  الطبراني.

(8)  البيهقي، وأبو نعيم في الحلية.

(9)  ابن أبي الدنيا والبيهقي.

ثمار من شجرة النبوة (162)

حوائج الناس) (1)

وأخبر أن الصدقة تقي صاحبها من النار، فقال: (ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة) (2).. وقال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة) (3)، وفي رواية: (اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة) (4)، وفي أخرى: (تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفاء الخطيئة كما يطفاء الماء النار) (5)، وفي حديث آخر قال: (تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار) (6)، وقال: (إن الصدقة لتطفاء عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته) (7)، وقال: (من أطعم أخاه من الخبز حتى يشبعه، وسقاه من الماء حتى يرويه، بعده الله من النار سبع خنادق، كل خندق مسيرة سبعمائة عام) (8)

وفي حديث آخر يرسم الصورة التي تمثل ذلك بقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا ير إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة) (9)

وأخبر عن تأثير الكرم في الوقاية من نيران الدنيا، فقال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر

__________

(1)  البيهقي.

(2)  أحمد.

(3)  الشيخان.

(4)  الطبراني.

(5)  الطبراني.

(6)  الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية.

(7)  الطبراني.

(8)  النسائي، والحاكم.

(9)  أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجة.

ثمار من شجرة النبوة (163)

في الدنيا، هم أهل المنكر في الآخرة) (1)

بل ذكر ما هو أعظم من ذلك، فقال: (تسد الصدقة سبعين بابا من السوء) (2)، وقال: (الصدقة تمنع سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجذام والبرص) (3)، وقال: (الصدقة تمنع ميتة السوء) (4)، وقال: (مناولة المسكين تقي ميتة السوء) (5)، وقال: (تداركوا الهموم والغموم بالصدقات، يكشف الله تعالى ضركم، وينصركم على عدوكم) (6)، وقال: (الصدقة على وجهها، واصطناع المعروف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، تحول الشقاء سعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء) (7)

وأخبر عن عظم الغبن الذي يحيق بالبخلاء، فقال: (إعلموا أنه ليس منكم أحد، إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت) (8)، وفي رواية: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، فإن ماله ما تقدم، ومال وارثه، ما تأخر) (9)

وأخبر عن الجزاء المعد للكرماء في الدنيا قبل الآخرة، فقال: (إذا أراد الله بقوم نماء، رزقهم السماحة والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح عليهم باب خيانة) (10)، وقال: (استعينوا على

__________

(1)  الحاكم.

(2)  الطبراني.

(3)  الخطيب.

(4)  القضاعي.

(5)  الطبراني والبيهقي.

(6)  الديلمي.

(7)  أبو نعيم في الحلية.

(8)  النسائي.

(9)  أحمد، والترمذي.

(10)  ابن عساكر، والطبراني.

ثمار من شجرة النبوة (164)

الرزق بالصدقة) (1)، وقال: (استنزلوا الرزق بالصدقة) (2)

وأخبر (أن ملكين ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا) (3)، وقال: (إن الله تعالى يقول يا ابن آدم أودع من كنزك عندي، ولا حرق، ولا سرق، ولا غرق، أوفيكه أحوج ماتكون إليه) (4)

وغيرها من النصوص الكثيرة التي جعلت الكرم من القيم النبيلة التي يتنافس فيها الأغنياء والفقراء على حد سواء.

ولم يكتف الإسلام بهذا.. بل شرع التشريعات الكثيرة التي تجعل من الكرم خلقا مفروضا.. لا مجرد تكرم يرتبط بقوة الإيمان وضعفه.

ولهذا، فإن الزكاة ـ التي تمثل شريعة من شرائع الكرم ـ ركن من أركان الإسلام.. والإسلام لم يكتف بها.. بل ربط الكثير من العبادات والكفارات بالصدقات.

المروءة

قلت: فحدثني عن السر الثالث من أسرار زهرية الأزهار.

قال: المروءة.. المروءة هي السر الثالث من أسرار الأزهار.

قلت: لم أفهم علاقة المروءة بالأزهار.

قال: المروءة هي الترفع عن السفاسف.. والبحث عن المعالي.

قلت: عرفتها في البشر.. ولم أعرفها في الأزهار.

قال: ألا ترى الأزهار كيف تتنافس في ألوانها وأشكالها وعطورها.. بحيث تحاول كل

__________

(1)  الديلمي.

(2)  البيهقي.

(3)  الشيخان وغيرهما.

(4)  البيهقي.

ثمار من شجرة النبوة (165)

زهرة أن تفوق غيرها!؟

قلت: ما تقوله صحيح..

قال: فإذا وصل البشر إلى هذه المرتبة من التعالي عن السفاسف، والبحث عن الرتبة النفيسة كانوا كالأزهار..

وقد بحثت في الأديان والمذاهب عن هذا النوع الشريف من أنواع التنافس، فلم أجده في الإسلام.

لقد ظهر في المجتمعات الإسلامية جماعات ليس لها من هم إلا التنافس في المروءة.. وقد أطلق على هؤلاء لقب (الفتيان)، وأطلق على سلوكهم (الفتوة)،

استنباطا لذلك مما ورد في القرآن من مدح الفتوة.. فقد ورد في وصف أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ((الكهف:13)، وفيه عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ((الانبياء:60)

وقد عرف ابن القيم (الفتوة) باعتبارها منزلا من منازل السائرين، فقال: (حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، فهي استعمال حسن الخلق معهم، فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله) (1)

وعرفها السبكي، فقال: (والفتوة من أعظم خصال الخير جامعة كمال المروءة وحسن الخلق والإيثار على النفس واحتمال الأذى وبذل الندى وطلاقة الوجه والقوة على ذلك، حتى تكون فتوته على ذلك فتوة الفتيان والصفح عن العثرات ويكون خصما لربه على نفسه وينصف من نفسه ولا ينتصف ولا ينازع فقيرا ولا غنيا ويستوي عنده المدح والذم والدعاء والطرد ولا يحتجب ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويحقق المحبة سرا وعلنا فإذا قوي على ذلك فهو الفتى

__________

(1)  مدارج السالكين:2/ 340.

ثمار من شجرة النبوة (166)

وإذا اجتمع قوم على ذلك وتعاهدوا عليه فنعم ما هو) (1)

وقد ذكر ابن القيم أن أقدم من تكلم في الفتوة الإمام جعفر الصادق، فذكر عنه أنه سئل عن الفتوة فقال للسائل: (ما تقول أنت؟) فقال: (إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت)، فقال: (الكلاب عندنا كذلك)، فقال السائل: (يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما الفتوة عندكم؟)، فقال: (إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا)

وقال الفضيل بن عياض: (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان)، وقال أحمد، وقد سئل عن الفتوة: (ترك ما تهوى لما تخشى)، وسئل الجنيد عن الفتوة فقال: (لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا)، وقال الحارث المحاسبي: (الفتوة أن تنصف ولا تنتصف)، وقال عمر بن عثمان المكي: (الفتوة حسن الخلق)

ويعبر الدقاق عن كمال الفتوة، فيقول: (هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي، وهو يقول أمتي أمتي) (2)

والحكايات والقصص الورادة عن هؤلاء الفتيان تبرز ناحية مهمة، وهي التنافس على الأخلاق العالية النبيلة، ووجود التنافس على الخير في المجتمع يرفع المجتمع إلى آفاق عالية من التحضر، ولهذا مر المجتمع الإسلامي بفترات يكاد يعدم فيها الفقر لكثرة من يتنافس على الرحمة بالفقراء وخدمتهم.

ومن تلك الحكايات، وهي متعلقة بجانب من الفتوة، وهو التغافل عن عيوب الغير وأخطائهم، أن رجلا من الفتيان تزوج امرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: اشتكيت عيني، ثم قال: عميت، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: (كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها)، فقيل له: (سبقت الفتيان)

__________

(1)  فتاوى السبكي: 2/ 548.

(2)  مدارج السالكين:2/ 342.

ثمار من شجرة النبوة (167)

ومثل ذلك أن امرأة سألت حاتما عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت، فقال حاتم: (ارفعي صوتك)، فأوهمها أنه أصم، فسرت المرأة بذلك، وقالت: (إنه لم يسمع الصوت) فلقب بحاتم الأصم)

واستضاف رجل جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم، فانقبض واحد منهم، وقال: (ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال) فقال آخر منهم: (أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار، ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا)

وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى، فقال الرجل: (يا غلام قدم السفرة)، فلم يقدم، فقالها ثانياوثالثا فلم يقدم، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: (ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا)، فقال الرجل: (لم أبطأت بالسفرة)، فقال الغلام: (كان عليها نمل، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد، فلبثت حتى دب النمل)، فقالوا: (يا غلام مثلك يخدم الفتيان)

قال ابن القيم: (ومن الفتوة التي لا تلحق ما يذكر أن رجلا نام من الحاج في المدينة، ففقد هميانا فيه ألف دينار، فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد فعلق به وقال: (أخذت همياني)، فقال: (أي شيء كان فيه؟)، قال: (ألف دينار)، فأدخله داره، ووزن له ألف دينار، ثم إن الرجل وجد هميانه، فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال، فأبى أن يقبله منه، وقال: (شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا)، فقال الرجل للناس: (من هذا؟)، فقالوا: (هذا جعفر بن محمد) (1)

التضحية

قلت: فحدثني عن السر الرابع من أسرار زهرية الأزهار.

قال: لن تكون الأزهار أزهارا حتى تمتلئ بمعاني التضحية والبذل والإيثار.

__________

(1)  مدارج السالكين:2/ 343.

ثمار من شجرة النبوة (168)

قلت: لم أفهم علاقة الأزهار بذلك..

قال: ألا ترى الزهرة تظل تمنحنا أريجها العطر إلى أن تذبل؟

قلت: بلى..

قال: فهي تبذل لنا ـ مع أنفاس عطرها ـ روحها.. هي كالشمعة تحرق لتضيء لنا.

قلت: فأين وجدت مثل هذا النبل؟

قال: لم أجده إلا في الإسلام.. وفي القيم التي ربى الإسلام عليها المسلمين.. إن التضحية بالنفس والمال والوقت في سبيل الله من أسمى أخلاق الإسلام، ومن أرفع واجباته.

قلت: في سبيل الله.. لا في سبيل الخلق.

قال: سبيل الله في الإسلام يراد به سبل الخلق.. وإنما اعتبر سبيلا لله حتى لا يطلب صاحبه عليه أجرا إلا الأجر الذي أعطاه الله له.

لقد قال القرآن في الأمر بالتضحية في سبيل نصرة المستضعفين: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)

ويصف القرآن معنى آخر من معاني التضحية، فيقول: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)

ففي هذه الآية إخبار عن الإيثار الذي تحلى به الأنصار لما قدم المهاجرون إليهم، بعد أن تركوا في بلادهم كل ما يلزم لنفقتهم، فوجدوا لهم إخوانا لهم اقتسموا معهم زادهم، بل آثروهم على أنفسهم.

وقد سبق ذكر الآية السابقة قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

ثمار من شجرة النبوة (169)

(الحشر:8)، فأخبر بفضل المهاجرين الذي آثرهم الأنصار على أنفسهم ليبين أن ذلك الإيثار وتلك النفقات لم تذهب عبثا، بل وقعت في موقعها الصحيح، لأن الإنسان قد ينفق، ويؤثر ولكنه لا يسد خللا، لا يحقق مقصدا، لأنه رمى بنفقته في غير مواضعها، فعبثت بها الرياح.

وقد حفظت لنا كتب الحديث بعض ما فعله الأنصار مع المهاجرين، ففي الحديث: قال المهاجرون: (يا رسول اللّه ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللّه لهم) (1)

وظلوا هكذا حتى بعد أن فتح الله على المؤمنين، وقد روي أن محمدا دعا الأنصار أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: (لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها)، قال: (إما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة) (2)

بل روي أكثر من ذلك، ففي الحديث: قالت الأنصار: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل)، فقال: (لا)، فقالوا: (أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟) قالوا: (سمعنا وأطعنا) (3)

بل روي أكثر من ذلك، فقد كان الأنصار من حرصهم على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين أنه ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكافل بصورة جميلة، فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الانسان:8 ـ 9)

ففي هاتين الكريمتين إخبار عن إيثار هؤلاء المحاويج من المؤمنين غيرهم بالطعام مع

__________

(1)  أحمد.

(2)  البخاري.

(3)  البخاري.

ثمار من شجرة النبوة (170)

حبهم له وحاجتهم إليه، ثم هم لا يطلبون على ذلك جزاء ولا شكورا.

وهو موقف يشبه كثيرا موقف النبي موسى عندما سقى للفتاتين، ثم أوى إلى الظل من غير أن يشعر نفسه أو يشعر غيره أنه فعل شيئا، قال: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ((القصص:24)

وهذه المواقف ـ في حقيقتها، وفي حقيقة الإسلام ـ ليست شيئا ثانويا مستحبا، وإنما هي واجب من واجب من واجبات الدين، فقد ورد في الحديث: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به) (1)، وقال: (أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله) (2)

بل نص القرآن على هذا في مواضع مختلفة بصيغ مشددة تدل على أن الأمر ليس موكولا لرغبات الناس، وإنما هو واجب من واجبات الدين، فلا يصح أن يموت الناس جوعا في نفس الوقت الذي تمتلئ يه خزائن الكثيرين، ولو دفعوا الزكاة.

القوة

قلت: فحدثني عن السر الخامس من أسرار زهرية الأزهار.

قال: السر الخامس هو (القوة)

قلت: ولكني أرى الأزهار ضعيفة تطؤها الأقدام، وتطحنها الأصابع.

قال: القوة في عيون الحقائق أرفع من أن تختصر في عضلات مفتولة، أو قامة متطاولة.

قلت: فما هي القوة؟

قال: لقد عبر محمد عن بعض مظانها، فقال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي

__________

(1)  البزار، والطبراني في الكبير عن أنس.

(2)  مسلم عن ابن عمر.

ثمار من شجرة النبوة (171)

يملك نفسه عند الغضب) (1)، وفي رواية أخرى: (أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه) (2)

قلت: فهل للأزهار مثل هذه القوة؟

قال: أجل.. ألا ترى المجرمين يدوسونها بأقدامهم، أو يذبحونها بأيديهم، أو يطحنونها بأصابعهم.. ولكنها لا تبخل بعطرها عليهم!؟

قلت: أجل.. أرى ذلك.

قال: فهذا مظهر من مظاهر القوة.

قلت: تقصد ما نسميه (قوة الشخصية)

قال: لقد جاء الإسلام بكل أنواع القوة.. وحث على كل أنواع القوة.. وأمر بأن تسخر كل ألوانها في صالح الخير والحق والجمال.

لقد قال القرآن آمرا بالأخذ بالقوة لحماية المستضعفين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60)

وأهم أنواع القوة التي حث الإسلام عليها، وأمر بها قوة النفس وترفعها وتعاليها بالحق الذي تملكه.

قلت: تقصد العزة؟

قال: العزة مظهر من مظاهر القوة، بل هي من أجلى مظاهرها، وقد وصف القرآن بها المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ

__________

(1)  أحمد والبيهقي.

(2)  ابن أبي الدنيا في ذم الغضب.

ثمار من شجرة النبوة (172)

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54)

وأخبر أنها خلق من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها ويحرصوا عليها فقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8)، وقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:139)

فهذه الآية تعلم المؤمنين إباء الضيم، والثورة على المذلةِ والهوان.

ولهذا وصف الله المؤمنين في الأجيال السابقة للإسلام بهذا الخلق، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)

بل إن القرآن يسمي الله بـ (الْعَزِيزُ) ما يقرب من تسعين مرة، ليملأ أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة، فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزة ربهم تأبوا على الهوان حين يأتيهم من أي مخلوقٍ.

وقد علم القرآن المؤمنين الإقدام والاحتمال والثبات في مواطن اليأس موقنين أن الله معهم في تلك المواقف الشديدة.. {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:104).. {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد:35)

قلت: أليس في هذا تناقضا مع دعوة الإسلام إلى السلام.. ففي الآية التي قرأتها نهي عن الدعوة إلى السَّلْمِ!؟

قال: فرق كبير بين السلم والسلام.. فالسلم هو الاستسلام لشروط الأعداء وكبرهم والتذلل لهم والتضعضع أمامهم.. أما السلام فهو تحقيق الأمن للنفوس والمجتمعات في ظلال العدل والحرية والإخاء والمساواة.

ثمار من شجرة النبوة (173)

فإذا لم يحقق السلام هذه المطالب.. فليس هو بسلام.. والشدة في ذلك الحين قد تكون هي البلسم الذي يعيد للحياة صفاءها وسلامها.

ولهذا أخبر القرآن أن الفتنة أشد من القتل، فقال: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:191)

الأمانة

قلت: فحدثني عن السر السادس من أسرار الأزهار.

قال: السر السادس هو (الأمانة)

قلت: تقصد رد الودائع..

قال: رد الودائع مظهر من مظاهر الأمانة.. أما الأمانة في ذاتها فإن لها من المظاهر عدد زبد البحر.

قلت: فما حدها الجامع؟

قال: لقد أناط الله بكل مخلوق في كل محل من المحال، وفي كل زمن من الأزمان وظيفة ألزمه بأدائها، فإذا أداها كما ينبغي من غير غش ولا خداع ولا خيانة ولا احتيال كان أمينا.

ألا ترى كيف أن ابنة الشيخ الصالح سمت موسى أمينا من غير أن تودعه أي وديعة، فقالت لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص:26

قلت: فكيف عرفت أمانته؟

قال: لقد كان الموقف الذي وقفه موسى يقتضي إعانة الفتاتين الضعيفتين، ولو قصر في ذلك كان خائنا..

نظرت إلى الأزهار، وقلت: فهل تحققت الأزهار بهذا؟

قال: أجل.. لقد أنيط بها أن تكون متعة للعين وراحة للنفس ولذة للشم.. وهي تؤدي كل

ثمار من شجرة النبوة (174)

ذلك بكل تفان من غير أي تقصير.

قلت: فما أمانة البشر؟

قال: لقد ذكر القرآن أن الله حمل البشر أمانة عظيمة عجزت السموات والأرض عن حملها، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

قلت: فما هذه الأمانة؟

قال: أمانة الخلافة.. لقد ذكر القرآن أن الله خلق الإنسان لأجل الخلافة.

قلت: فما الخلافة؟

قال: لها جهتان: جهة إلى الله تستدعي التسليم له ومحبته وطاعته المطلقة، وجهة إلى الخق تستدعي التعامل معهم وفق ما يقتضيه العدل والرحمة.

وقد ذكر القرآن الجهة الثانية، فقال عن داود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ:26)

قلت: لقد كان داود حاكما، وليس كل الناس كذلك.

قال: كل إنسان له حكم يرتبط به.. لقد ذكر محمد ذلك فقال: (كلكم مسئول عن رعيته، فالامام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (1)

قلت: فكيف تزعم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تحقق له هذا السر العظيم؟

قال: لأني لم أجد دينا يحرص على الأمانات مع كل الخلق من الأصدقاء والأعداء مثل

__________

(1)  البخاري ومسلم.

ثمار من شجرة النبوة (175)

الإسلام..

لقد قرأت الكتب المقدسة، فلم أجد نصا يقول لأتباعه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)

ويقول لأتباعه، في أحوال شدتهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (لأنفال:58)

أتعلم ما تعني هذه الآية؟

قلت: ما تعني؟

قال: أي إذا خشيت من قوم نقض عهدهم، وأردت أن تلغي عهدك معهم، فلا تغدر بهم، بل أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك (1).

إن الإسلام لا يجيز نقض العهد حتى في حالات الشدة انتهازا للفرصة.

قارن هذا بالعهود الكثيرة التي يقطعها قومنا على أنفسهم، ثم سرعان ما ينكثون بها، بل يغدرون في نكثهم.

الصدق

قلت: فحدثني عن السر السابع.

قال: السر السابع هو (الصدق)

قلت: فما الصدق؟

__________

(1)  ابن كثير.

ثمار من شجرة النبوة (176)

قال: الصفاء والخلاص الذي لم يكدر بأي شائبة.. ألا ترى إلى هذه الأزهار التي تمتلئ صفاء ورقة وشفافية!؟

قلت: الصدق ممدوح في الشرائع جميعا.

قال: ولكني لم أجد دينا يحرص على الصدق ويملأ القلب به، بل يضعه في ذروة المقامات الرفيعة مثل الإسلام.. فهو الدين الوحيد الذي رفع الصدق إلى أعلى الدرجات، ونزل بالكذب إلى أخفض الدركات.

لقد قال محمد في الآثار التي يحدثها الصدق والكذب: (: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا) (1)

بل اعتبر الكذب وما يرتبط به من النفاق الذي توعد القرآن أهله بالدرك الأسفل من النار، ففي الحديث: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) (2)

-\--\-

ما وصل (آرثر جون آربري) من حديثه إلى هذا الموضع حتى امتلأت عيناه بدموع لم يملك حبسها.

قلت: ما الذي يبكيك؟

قال: يبكيني أمران:

أما أولهما، فنقض الكثير من المسلمين للعهود التي عهد إليهم بها نبيهم، وتركهم للقيم الرفيعة التي جاءهم بها طلبا لما عندنا، وهم يعلمون أنا لسنا على شيء.

__________

(1)  رواه البخاري ومسلم.

(2)  رواه البخاري.

ثمار من شجرة النبوة (177)

وأما الثاني، فتكبرنا على محمد وعلى أمة محمد وعلى القيم التي جاء بها محمد.. وهو ما أحالنا إلى شريعة الغاب التي نحياها.

ثم ابتسم، وقال: أنا لست يائسا.. يوشك أن تعود البشرية إلى هذا الهدي العظيم.. ولكن بعد أن تصلى بنيران الأشواك التي نسجتها بأهوائها.

قلت: متى ذلك؟

قال: إذا تخلت عن كبريائها، وفخرها، وتطاولها.. حينذاك ستجد محمدا وهدي محمد أقرب إليها من نفسها.

قلت: أنا أعجب لك حضرة الأستاذ الفاضل كيف تحزن على البشرية، ولا تحزن على نفسك.

قال: لن أقول لك إلا ما قاله (اللورد هدلي)

قلت: تقصد قوله: (إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم)

قال: لقد صدق الرجل.. لقد صدق الرجل..

أردت أن أسأل، فتركني، ومضى، وقد امتلأ قلبي بأنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمار من شجرة النبوة (178)

رابعا ـ إنسانية

في اليوم الرابع من تلك الأيام العشرة التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة الإنسانية من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} (التين)

وسر قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الاسراء:70)

وسر قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن التكريم العظيم الذي ناله الإنسان في الإسلام، وتخبر في نفس الوقت عن المسؤولية العظيمة المناطة به.

ولا يمكن أن يعرف الإنسان إلا بهما.. بمعرفة حقيقته الشريفة، ووظائفة العظيمة.

-\--\-

سمعت بمارسيل بوازار، وهو مفكر، وقانونى فرنسى، كان له اهتمام كبير بالعلاقات الدولية وحقوق الانسان، وقد كتب عدداً من الأبحاث للمؤتمرات والدوريات المعنية بهما.

وكان يضم إلى هذا الاهتمام اهتمامه بالإسلام، وقد كتب كتابه (إنسانية الإسلام)، الذى انبثق عن اهتمامه الشديد بالإنسان، وبالإسلام في نفس الوقت..

ولهذا الكتاب أهمية كبرى في الدراسات الغربية للإسلام، بما تميز به من موضوعية، وعمق، وحرص على اعتماد المراجع التى لا يأسرها التحيز والهوى، زيادة على رجوعه للمصادر الإسلامية نفسها.

ثمار من شجرة النبوة (179)

وبسبب هذا الكتاب.. وبسبب موضوعية الرجل.. كان اسمه من الأسماء التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد، مع كونه لم يكن ينتسب لجامعة السربون.

وقد كنت أتحين الفرص للقائه والاستماع إليه، ولكني لم أظفر بذلك إلا في ذلك اليوم الجميل...

في ذلك اليوم كنت أسير في شارع مزدحم من شوارع باريس.. كانت أصوات السيارات فيه تكاد تصيبني بالصمم.. وكان الهواء مكدرا.. والروائح التي تنبعث من المحلات المختلفة تملأ الأنف بالتقزز..

ربما هناك من يحب هذه الأجواء المزدحمة.. ولكني لم أكن من هذا النوع.. فأنا أحب الحياة الهادئة الوديعة المسالمة الساكنة..

في ذلك الجو الكئيب ـ بالنسبة لي على الأقل ـ التقيت ضالتي التي كنت أبحث عنها (مارسيل بوازار).. وقد عجبت إذ رأيته ينشغل في ذلك الزحام بشجرة من الأشجار، يطأطئ رأسه إليها، ويحرك بيديه تربتها، ويزيل عنها ما علق بها من آثار الازدحام، ثم يخرج من حقيبته قارورة ماء، يسقيها بها، ويمسح على أغضانها وأوراقها كما يمسح أحدنا على رأس اليتيم والمسكين.

تعجبت من سلوكه الطيب هذا.. واقتربت منه، وحييته، فرد علي التحية، ثم عاد إلى الشجرة يمسح عنها ما علق بها.

قلت له: ألست (مارسيل بوازار)؟

قال: أجل.. هل تعرفني؟

قلت: أجل.. لقد قرأت كتابك عن (إنسانية الإسلام).. وأنا أتعجب كيف كتبت ذلك الكتاب، ولماذا كتبته؟

قال: كتبته لأجل هذه الشجرة التي تراها تئن، ولا يسمعها أحد.. وتبكي ولا تجد من

ثمار من شجرة النبوة (180)

يمسح دموعها.. وتمتلئ الأرض التي تستقر عليها بالقاذورات، ثم لا تجد من ينظفها.

قلت: لم أرك في كتابك تذكر شجرة من الأشجار..

قال: بل لم أذكر غير الأشجار..

قلت: إلى ما يرمز قولك هذا.

قال: الإنسان لا يختلف عن الشجرة.. فطرة الإنسان التي لم تتدنس بالأفكار الشيطانية لا تختلف عن فطرة الأشجار.. ولذلك جعلت الشجرة رمزي الذي أصل به إلى حقيقة الإنسان.. وحقوق الإنسان.

قلت: فأنت لا تختلف عن دارون إذن.. لقد اعتبر دارون الحيوانات.. أو الخلية الحيوانية هي أصل الإنسان.. وأنت تجعلها الخلية النباتية.

قال: أنت تسيء إلي بهذه المقارنة.

قلت: كيف؟

قال: أنا أبحث عن حقوق الإنسان.. والتي تنطلق من كرامة الإنسان.. أما ذلك الرجل ـ قصد أو لم يقصد ـ فقد كان فكره معاديا للإنسان.. وحقيقة الإنسان.. وحقوق الإنسان.

قلت: فأنت لا تؤمن بتفسير دارون للحياة.

قال: إن كل عاقل لا يجد في نظرية دارون إلا الانحطاط..

أنا لا يهمني استغلال دارون لبعض المعلومات التي توصل إليها في رحلاته.. والتي حاول من خلالها أن يرسم للإنسان صورة حيوانية.. بل صورة لا يرضاها الحيوان لنفسه (1).. ولكن يهمني استغلال المعادين للإنسان نظريته ليحطموا بها حقيقة الإنسان، ثم يفرضوا ـ بعد ذلك ـ ما توهموه من حقوق الإنسان.

قلت: فهل حصل هذا؟.. هل خرجت نظريته من علم الحياة إلى علم القانون والاجتماع..

__________

(1)  انظر الرد العلمي على نظرية دارون في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (181)

قال: بل خرجت نظريته إلى كل ميادين الحياة.. ألست ترى نظريته تدرس فى معظم مدارس الأرض، لا على أنها فرضية علمية، كما اعتبرها دارون نفسه.. ولا على أساس أنها نظرية علمية لم تثبت ثبوتا قاطعا يرشحها لأن تكون حقيقة علمية.. بل هي تدرس على أنها حقائق نهائية فى علم الحياة.

قلت: فما يضرك من تدريسها؟.. أم أنك تقف مع الكنيسة التي كفرت دارون ابتداء، ووصفته بأنه زنديق مهرطق مارق من الدين، لأنه ينفى الخلق المباشر من الله للإنسان على صورته؟

قال: ربما يكون هذا أحد الأسباب.. ولكن السبب الأخطر له علاقة بهذه الشجرة.

قلت: أراك تعود إلى الشجرة من جديد؟

قال: أجل.. هذه الشجرة تمثل الإنسان.. لقد رأيت أخواتها في الغابات الطليقة، ورأيت لها من الجمال ما لا يمكن وصفه، وذقت من ثمارها ما لا يستطيع لساني أن ينساه، وشممت من روائحها الطيبة ما ملأني بالروحانية العذبة..

أما هذه الشجرة المسكينة التي عزلت عن أخواتها، وأكرهت على أن تعيش في واقع غير واقعها.. وأن تعيش حياة غير حياتها.. فأنت تراها ذابلة ميتة.. نعم لها أوراق وسيقان تجعلها تعيش حياة بدائية.. ولكن بلا ثمار طيبة.. ولا روائح زكية.. ولا حياة مطمئنة.

قلت: ما علاقة ذلك ببغضك لنظرية دارون؟

قال: دارون نقل شجرة الإنسان من الغابة التي غرست فيها إلى غابة اختلط فيها الكل.. فلم تعد للإنسان رائحة الإنسان، ولا طعم الإنسان، ولا جمال الإنسان.

قلت: لم أفهم مرادك.

قال: لقد كان الإنسان منذ وجدت الدنيا ينظر إلى نفسه على أنه مخلوق مميز مكرم مزين بالعقل والمشاعر.. وبما لا يمكن حصره من القيم والمثل النبيلة.

ثمار من شجرة النبوة (182)

ولكنه بمجيئ دارون.. وبتغلغل أفكاره في المجتمع.. تغير الموقف تماما.

فنظرية دارون تقرر حيوانية الإنسان وماديته.. أي أن الظروف المادية المحيطة بالإنسان هى التى أثرت فى تطوره وإعطائه صورته.. وهي بذلك تنفى القصد والغاية من خلقه، وتنفى التكريم الربانى له بإفراده بين الكائنات الأخرى بالعقل والقدرة على الاختيار والقدرة على التمييز فضلا عن المزايا الإنسانية الأخرى.

إن نظرية كهذه يمكن أن تعطى إيحاءات خطيرة فى كل اتجاه (1)..

فحين يكون الإنسان حيوانا أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى، فأين مكان العقيدة فى تركيبه، وأين مكان الأخلاق، وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية!؟

وحين يكون حيوانا، أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى، فما مقياس الخطأ والصواب فى أعماله؟.. وكيف يقال عن عمل من أعماله إنه حسن أو قبيح، جائز أو غير جائز.. أو بعبارة أخرى: كيف يمكن إعطاء قيمة أخلاية لأعماله؟

وحين يكون حيوانا، أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى، فما معنى الضوابط المفروضة على سلوكه؟.. وما معنى وجود الضوابط على الإطلاق (2

التفت إلي، وقال: أتدري ما سر انتشار هذه النظرية، وما نتج عنها من خلل؟

قلت: ما سره؟

قال: الكنيسة..

قلت: ما علاقة الكنيسة بهذا؟.. لقد كانت الكنيسة من أهم المعارضين لدارون.

قال: ولكن الخلل الفكرى الذي حدث فى حياة أوروبا فى ظل سيطرة الكنيسة الفكرية هو

__________

(1)  انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.

(2)  قالت الداروينية الحديثة – فيما بعد – إن الضوابط موجودة فى الكيان " البيولوجى " للإنسان، فى تركيب مخه وجهازه العصبى، وإنه متفرد بهذا عن الحيوان.

ثمار من شجرة النبوة (183)

الذى رشح للهزة التى أصابت هذا الفكر يوم أطلقت عليه فكرة التطور، فقد كان كل شئ فى حس أوروبا المسيحية الكنسية ثابتا منذ الأزل، وسيظل ثابتا إلى الأبد.. ليست فكرة الألوهية فقط هى التى ينطبق عليها تصور الثبات، ولا القيم الدينية والأخلاقية وحدها، ولكن الجبال والشجر والحيوان والطير، والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وكل شئ فى الحياة.

البابا هو البابا ذو القداسة، يذهب واحد ويجئ آخر، والبابوية ذاتها وقداستها أمر ثابت لا يتغير..

الملوك والأباطرة هم الملوك والأباطرة.. يذهب منهم من يذهب ويجئ من يجئ.. ولكن الملكية ذاتها أمر ثابت لا يتغير..

الإقطاع هو الإقطاع.. يذهب أمير ويجئ أمير.. بنفس الصورة، ونفس المعاملة، نفس السيادة من جهة، والعبودية من الجهة الأخرى.. وكلها أمور ثابتة لا تتغير.

من ثم غلب على الفكر الأوروبى المسيحى الكنسى تصور الثبات فى كل شئ.

فلما وقعت الثورة الفرنسية وأزالت الإقطاع والملكية، وزلزلت نفوذ الكنيسة كان ذلك حدثا حادا فى تاريخ أوروبا أثر تأثيرا عميقا فى كل اتجاه، ولكنه كان قمنا ـ بعد فترة من الزمن ـ أن يفقد حدته، ويستقر على صورة فيها لون من الثبات.

ولكن دارون جاء، فأطلق قذيفته على أمر لم تهزه حتى الثورة الفرنسية ذاتها، التى زلزلت كثيرا من الأوضاع فى أوروبا، فقال: إن الخلق ذاته غير ثابت، وإن الإنسان لم يكن إنسانا حين وجد أول مرة بل كان شبيها بالحيوان.

وفي ذلك الوقت سارع المفسدون في الأرض إلى تولي هذه النظرية، بل وإخراجها من إطارها الضيق الذي وردت فيه، إلى إطار أوسع وأضخم..

لقد سارع هؤلاء المفسدون يرمون فكرة (الثبات) ذاتها وقالوا ـ مستغلين فكرة التطور ـ إنه لا شئ ثابت على الإطلاق، وإن طلب الثبات فى أى شئ.. في الدين أو الأخلاق أو التقاليد.. هو

ثمار من شجرة النبوة (184)

فى حد ذاته فكرة خاطئة.. فكرة غير علمية.. فكرة مخالفة لطبيعة الأشياء.

ثم ظلوا يرددون هذه الأقاويل، وينشرونها ويؤكدون عليها، حتى صارت هى الصبغة المسيطرة على الفكر البشري، لا يقبلون فيها جدلا ولا مناقشة.. ومن ناقش فهو الرجعى المتزمت الجامد المتأخر الذى يريد أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء.. وعقارب الساعة لا ترجع أبدا إلى الوراء.. وستسحقه عجلة التطور التى لا تبقى ولا تذر (1).

التفت إلي، وقال: هل ترى هذه الحياة التي نعيشها في وسط هذا الزحمة؟

قلت: نعم.. وأصدقك القول بأن نفسي تضيق في هذه المحال.

قال: نفسك تضيق، لأنه لا زال فيك بعض الفطرة.. أما أكثر من تراهم، فقد انتكست فطرتهم.. فلذلك لا يحبون إلا مثل هذه الأجواء المدنسة.

قلت: ولكن التطور اقتضى هذا؟

قال: أرأيت.. أنت نفسك تقع في وهم التطور.. إن التطور هو القنبلة التي ستلقينا في أودية الهلاك.

قلت: ألذلك أيضا علاقة بهذه الشجرة؟

قال: أجل.. هذه الشجرة التي قلعها دارون من غابة الإنسانية ليغرسها كما شاء له هواه في غابة الحيوانية صارت عرضة لكل تبديل وتغيير..

جاء ماركس.. فقلع من هذه الشجرة جذور الروحانية والإيمان والتوجه للملأ الأعلى..

وجاء فرويد.. وقلع عن هذه الشجرة ثيابها، ليحيلها عارية، لا يسترها حياء، ولا تحفظها قيم..

وجاء دركايم، فأنشأ نظرية اجتماعية لتفسير الظواهر الاجتماعية بناها على حيوانية الإنسان، وغلبة نزعة القطيع الحيوانية عليه من جهة، وعلى انعدام الثبات فى القيم الاجتماعية من

__________

(1)  انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (185)

جهة أخرى.. فقلع عن هذ الشجرة جميع أصولها التي تربطها بالإنسان.

وهكذا ظل المفكرون الذين يستوحون أفكارهم من الشياطين، وظلت معهم الحكومات الجبرية، تضع تعديلاتها على شجرة الإنسان إلى أن حولتها إلى مسخ لا علاقة له بالإنسان.

قلت: فأنت يائس إذن من حياة شجرة الإنسان.

قال: لا.. لست يائسا.. ولو كنت يائسا، لما رأيتني أسقي هذه الشجرة، وأمسح آهاتها.

قلت: وما الذي دفعك إلى عدم اليأس.. أتراك ظفرت بمن يعيد شجرة الإنسان إلى غابة الإنسان.

قال: أجل.. لقد وجدته.. لقد نجح في الحفاظ على شجرة الإنسان طوال قرون عديدة، وترك لنا من التعاليم السامية ما يعيد الإنسان إلى فطرته وطبيعته التي جبل عليها.

قلت: من تقصد؟

قال: محمد..

قلت: نبي الإسلام!؟

قال: بل نبي الإنسان.. محمد هو النبي الوحيد الذي لا تزال تعاليمه هي العلاج الوحيد للإنسانية.. وهي الأمل الوحيد لعودة الفطرة الإنسانية.

قلت: ما سر ذلك؟

قال: إن محمدا يتلقى معارفه عن الإنسان، لا من عقله، ولا من تجاربه، ولا من بحوثه، بل يتلقاها من مصدر لعله هو المصدر الذي خلق الإنسان.. ومن خلق الإنسان عرف حقيقته، وعرف حقوقه.

قلت: نحن الآن في عصر العلوم.. أترى مخابرنا التي وسعت كل شيء ضاقت بمعرفة الإنسان.

قال: أجل.. لأن الإنسان ليس مادة جامدة.. وليس شيئا واحدا.. إنه في كل لحظة كيان

ثمار من شجرة النبوة (186)

جديد، بل هو في كل لحظة كيانات كثيرة..

والأمر ليس قاصرا على الفرد.. بل على المجموع.. فلكل إنسان إنسانيته الخاصة التي تميزه عن غيره.

فهل يمكن لمخابرنا مهما دقت مقاييسها أن تضع كل البشر وفي كل لحظة من لحظات حياتهم في محك مخابرها؟

قلت: ذلك غير ممكن.

قال: فلذلك كانت معرفة حقيقة الإنسان انطلاقا من المخابر غير ممكنة..

حقيقة الإنسان

قلت: فهل عرف محمد حقيقة الإنسان؟

قال: أجل.. لقد تضمن الكلام المقدس الذي تنزل عليه.. وتضمنت الكلمات العظيمة التي نطق بها حقيقة الإنسان.. وهي الحقيقة التي بنيت على أساسها حقوق الإنسان في الإسلام..

قلت: أراك تدمج كلامك عن الحقيقة بالحقوق.

قال: لأن الخطأ الذي وقع فيه قومنا هو فصلهم بين الحقيقة والحقوق.. أو هو انطلاقهم في سن الحقوق من معلومات خاطئة.

نظر إلى الشجرة، وقال: هذه الشجرة.. إذا لم نعرف حقيقتها ونوعها وجنسها وأصناف حاجاتها، فإننا لا يمكن أن نتعامل معها معاملة صحيحة.. بل قد نسقيها سما، ونحن نتصوره دواء.

قلت: فحدثني عن تصور الإسلام لحقيقة الإنسان التي بنى عليها تصوره لحقوقه.

قال: لقد طفت المذاهب.. وسألت أرباب الأفكار.. وجلت على الحضارات والأديان أسألها عن الإنسان، فلم أجده إلا عند محمد.

ثمار من شجرة النبوة (187)

قلت: فماذا قال لك محمد؟

قال: لقد أخبرني القرآن المقدس الذي تنزل على محمد عن حقيقة الإنسان في مواضع كثيرة تجتمع جميعها في قصة خلق الإنسان.. ففي القرآن: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} (البقرة)

إن هذه الآيات تجمع جميع الحقائق التي تفصل النظرة الإسلامية الإنسان عن جميع النظرات المدنسة بلوثات الأهواء:

العبودية

لقد بدأت الآية الأولى بذكر الله رب الإنسان.. وذكر الخالقية.. وأن الإنسان مخلوق لله..

وهذه نقطة خلاف جوهرية بين الإسلام وجميع المذاهب المادية التي تسيطر على عقول بناة الحضارة الغربية وكل الحضارات الجاهلية..

ثمار من شجرة النبوة (188)

ذلك أن الإنسان يدرس في جميع العلوم الإنسانية بمعزل عن خالقه، كأنما هو قد خلق نفسه، أو كأنما وجد بغير موجد.. وقد ترتب على هذا ألا تكون للإنسان مرجعية خارج حدود ذاته، إنما يكون هو مرجع نفسه، فما يراه هو يكون هو الأصل وهو الصواب.. إنه بعبارة أفصح هو الإله.

لقد نشأ هذا الانحراف الخطير في مدارسنا ومعارفنا وعلومنا من التصورات الخاطئة التي كانت تحملها الكنيسة، وتفرضها على الناس..

لقد كان رد فعلنا تجاه طغيان الكنيسة منذ عصر النهضة هو التمرد على سلطان الكنيسة، والتمر على الله ذاته، وإقامة الإنسان نفسَه مرجعا بدلا من الله، وكانت هذه بداية العلوم الإنسانية.. أي العلوم التي يؤخذ العلم فيها من الإنسان، لا من خالق الإنسان.

لست الوحيد الذي يقرر هذا.. ولست الوحيد الذي اكتشف هذا.. لعلك قرأت كتاب (مبادئ الفلسفة) لـ (رايو برث)، لقد قال يتحدث عن عصر النهضة: (وامتاز هذا العصر بشعور الإنسان بشخصيته المطلقة، وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطا بعيدا في اعتبار العالم كله وطنا له.. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية، مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى، ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء الإنسانيين.. وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون نمو الفردية، أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل) (1)

سأضرب لك نموذجا يوضح لك هذا.. يقول (جوليان هكسلي) في كتابه (الإنسان في العالم الحديث): (إن الإنسان قد خضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن ـ وقد تعلم وسيطر على البيئة ـ فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل

__________

(1)  رايو برث، مبادئ الفلسفة، ترجمة محمد أمين، طبع دار الكتاب العربي ببيروت، ص 119 – 120.

ثمار من شجرة النبوة (189)

على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله)

ويقول في نفس الكتاب: (إن أسطورة بروميثيوس (1) ما تزال كامنة في كيان الأوربي الحديث توجهه على غير وعي منه، فالأوربي المعاصر هو بروميثيوس الحديث الذي يريد أن يضع نفسه في مكان الإله، وكلما تعلم، وزادت سيطرته على البيئة، ارتفع في حس نفسه درجة، وهبط الإله مقابل ذلك في حسه بنفس القدر، حتى إذا استطاع يوما أن يخلق الحياة انتهى الإله من حسه تماما، وأصبح هو الله)

التفت إلي، وقال: أرأيت مبلغ الخطر الذي وصلت إليه العلوم الإنسانية في عزلها الله عن خلق الإنسان..

قلت: هذا رجل مجنون لا ينبغي أن نقيس عليه، ولا أن نأخذ بقوله.

قال: كلهم مجانين.. كل من أخرج هذه الشجرة من غابتها ليضعها في هذا المستنقع مجنون..

لم يكن هكسلي وحده هو الذي قال ذلك.. الكل قال ذلك.. صرح أو كتم، يقول برنتون: (فالمذهب العقلي يتجه إلى إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون، ومن الوجهة التاريخية فإن نمو المعرفة العلمية، وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي

__________

(1)  (بروميثيوس) كائن أسطورى كان الإله (زيوس) يستخدمة فى خلق الناس من الماء والطين، وقد أحس بالعطف نحو البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم. فعاقبه (زيوس) على ذلك بأن قيده بالسلاسل فى جبال القوقاز حيث وكل به نسر يرعى كبده طول النهار وتتجدد الكبد فى أثناء الليل، ليتجدد عذابه فى النهار.

ولكى ينتقم (زيوس) من وجود النار المقدسة بين أيدى البشر أرسل إليهم (باندورا) – أول كائن أنثى على وجه الأرض – ومعها صندوق يشتمل على كافة أنواع الشرور ليدمر الجنس البشرى.. فلما تزوجها (إيبيميثيوس) – أخو (بروميثيوس) – وتقبل منها هدية (الإله!) فتح الصندوق فانتثرت الشرور وملأت وجه الأرض.

وهذه الأسطورة ـ في الفكر الغربي ـ ترمز إلى طبيعة العلاقة بين البشر والله، فالنار المقدسة، نار (المعرفة) قد استولى عليها البشر سرقة واغتصاباً من الآلهة، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، ويصبحوا آلهة! والآلهة تنتقم منهم فى وحشية وعنف، لتنفرد وحدها بالقوة، وتتفرد دونهم بالسلطان.. (انظر: منهج الفن الإسلامى، محمد قطب)

ثمار من شجرة النبوة (190)

نحو الكون) (1)

ويقول: (إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة في هذا العالم (يقصد المعتقدات الدينية).. فالإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة، ولكن صانع هذه الساعة الكونية ـ ونعني بها الكون ـ لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد، أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة ليجروا عليها، وإنه ليبدو أنه ليس ثمة ذاعٍ أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الكونية، الذي لا يستطيع ـ إذا ما أراد ـ التدخل في شئون عمله) (2)

أرأيت هذا المجنون الثاني.. إنه يقر بإله.. ولكنه يعزله.. وما جدوى إله معزول.

أتدري ما الذي أفضى إليه هذا القول؟

قلت: أنبئني.

قال: إن كل اختلال حصل في هذه الحضارة لم يحصل إلا بسبب هذا الموقف من الإله.. إن عزلها الإنسان عن الله هو الذي جعلها تسقط في أحضان الشيطان.. وهي سائرة خلف خطاه لن ينقذها إلا هدي محمد.

قلت: لم؟

قال: لأنه يستمد من المنبع الذي نبع منه الإنسان.

قلت: إن كان ذلك بسبب إخباره بأن الإنسان مخلوق خلقه الله.. فهو مما تتفق عليه جميع الأديان.. بل إن قوم محمد من المشركين كانوا يقولون ذلك، فقد ذكرهم القرآن، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} (الزخرف)

قال: ليس ذلك فقط ما أقصده.. إن هؤلاء المشركين، ومثلهم كل الأديان التي تحمل

__________

(1)  جرين برنتون، منشأ الفكر الحديث، ترجمة عبد الرحمن مراد ص 27.

(2)  جرين برنتون، منشأ الفكر الحديث، ترجمة عبد الرحمن مراد ص 151.

ثمار من شجرة النبوة (191)

تصورات خاطئة عن رب الإنسان لا تساهم إلا في زيادة خطأ معرفة الإنسان بنفسه، وبالتالي الخطأ في كل ما يرتبط به.

التفت إلي، وقال: فلنفرض أنه أتيحت لك طاقة كهربائية تستطيع أن تستخدمها في مجالات شتى، فهل يكون سلوكا علميا سليما أن تقول: لا يهمني مصدر هذه الطاقة، ولن أشغل نفسي بمحاولة التعرف على هذا المصدر، إنما الذي يعنيني هو هذه الطاقة ذاتها، وطريقة استخدامها، والمجالات التي يمكن أن تستخدم فيها!؟

قلت: ربما أقول هذا.. وربما يقول هذا أكثر الناس.

قال: إن هذا قد يستقيم لو أن هذه الطاقة كانت تجري على منوال واحد، وبحسب ما تشتهي.. لكنها إذا فاجأتك كل مرة بأمور لا تستطيع تفسيرها، ومن ثم لا تستطيع أن تستخدمها على الوجه الأمثل، فمرة تجدها متدفقة ومرة تراها منحسرة بغير سبب ظاهر لك.. مرة تنير، ومرة تحرق.. مرة تزيد من حيويتك، ومرة تعرضك للهلاك..

ألا ترى أن التعرف على المصدر، وطبيعته، وطريقة تصريفه لهذه الطاقة، سيعينك على فهم تلك الظواهر التي لا تفسير لها عندك، ويعينك ذلك على استخدام تلك الطاقة في أحسن أوضاعها!؟

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. بل إني في تلك الحالة لا أستغني عن معرفة مصدرها.

قال: أرأيت لو بحثت.. ولكنك سقطت على معلم جاهل، فدلك على معلومات خاطئة تتعلق بمصدر الطاقة؟

قلت: حينها لا يختلف الأمر.. بل قد أقع في دواهي لا تقل عن الدواهي التي كنت أمر بها قبل أن أتعرف عليه.

قال: فقد عرفت إذن أهمية المصدر الصحيح في السلوك الصحيح.

قلت: فهل جاء محمد بالمعلومات الصحيحة عن مصدر الإنسان؟

ثمار من شجرة النبوة (192)

قال: أجل.. فالله ـ في التصور الإسلامي ـ لا ينحصر في أنه هو مصدر الوجود البشري وخالقه، وإنما هو إلى جانب ذلك المنعم المتفضل.. الرزاق ذو القوة المتين.. المدبر لأمر الوجود كله.. الفعال لما يريد.. يقول القرآن في صفة الله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد:3) وهو الذي {يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة:28).. و{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ْ (24)} (الحشر).. و{هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} (الإخلاص)

ولله في التصور الإسلامي سنن في التعامل مع خلقه.. هي بمثابة القوانين التي تنظم حياتهم كما تنظم حياة جميع الوجود.

فالبذخ المادي.. والترف المعيشي الذي نتصوره حضارة، ونقيس الأمم على أساسه لا يعني شيئا بالنسبة للسنن الإلهية.. ذلك أنه قد يكون نوعا من التخمة القاتلة، أو من السمن الكاذب:

ففي القرآن: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} (الأنعام)

وتوزيع الأرزاق بين الناس ومثلها المواهب فضل من فضل الله يدعو إلى التواضع والعبودية.. لا الكبر والبطر، ففي القرآن: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} (الزخرف:32)

وهذا التفضيل المؤقت.. أو المرتبط ببعض الجوانب لا يعني التفضيل المطلق.. فالقرآن ينكر تلك التصورات التي تجعل الإنسان يقيس غيره بمقدار ما عنده من ثروة: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا

ثمار من شجرة النبوة (193)

مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)} (الفجر)

ولهذا.. فإن النظرة الإسلامية للإنسان في غاية السمو والرفعة.. لأنها تستمد قوانينها وسننها من المنبع الذي جاء منه الإنسان.. لا من العقول التي أوحت لها الشياطين بزخرف القول لتشغل الإنسان عن الإنسان.

فتلك العقول التي تدرس الإنسان بمعزل عن خالقه، وعن السنن الربانية التي تحكم حياته، تتيه في المعيار الذي تقيس به تصرفاته، وتتيه في المعيار الذي تقيس به إنجازاته..

وتتيه بحسب ذلك فيمن تعتبره مرتفعا راقيا، ومن الذي نعتبره منتكسا هابطا.. أم الكل سواء.

وتتيه في التصرفات.. أيها تعتبره خيرا.. وأيها تعتبره شرا.. أم لا خير ولا شر..

وتتيه في الإنجازات.. أيها تعتبره صالحا.. وأيها نعتبره فاسدا.. أم يستوي الأمران في الميزان.

من هنا تتخبط النظريات، وتتخبط التفاسير التي تحاول أن تفسر السلوك البشري والحياة البشرية، ما بين مبدأ اللذة والألم، ومبدأ النفعية، ومبدأ نسبية القيم؛ وما بين التفسير المادي للتاريخ، والتفسير اللبرالي؛ وما بين الغاية التي تبرر الوسيلة، واللاغائية، والعدمية، والفوضوية، والوجودية.. وكلها مذاهب، وكلها تفاسير.. وكلها لا تزيد الإنسان إلا بعدا عن الإنسان.

الازدواج

قلت: وعيت هذا.. وأدركت أهميته.. فأنبئني عما فهمته من ذلك النص القرآني من موقف الإسلام من الإنسان.

قال: في ذلك النص يبين القرآن أركان الإنسان.. فهو قبضة من طين الأرض، ونفخة من

ثمار من شجرة النبوة (194)

روح الله.. وهما مترابطان متماسكان متفاعلان، يتكون منهما معا كيان موحد (1).

هذا الكيان ليس قبضة طين خالصة، كما كان قبل النفخة العلوية فيه.. وليس روحا خالصة طليقة من قبضة الطين.. إنما هو الأمران معا فى وحدة مترابطة تختلف فى خصائصها اختلافا جذريا عن قبضة الطين الخالصة، ونفخة الروح الخالصة، وإن كانت تحمل بين الحين والحين بعض أوجه الشبه من هذه وتلك، حين تجنح جنوحا شديدا نحو عالم الجسد أو عالم الروح، ولكنها حتى فى تلك الحالات لا تكون مماثلة أبدا لأي من العنصرين منفصلين.

فالإنسان فى لحظة الشهوة الجامحة غير المنضبطة يكون أقرب إلى قبضة الطين، لأنه يتعامل بجسده أكثر من أى جانب من جوانبه، ومع ذلك لا يكون أبدا جسدا خالصا كالحيوان، لأن فيه ـ على الأقل ـ قدرا من الوعي والإرادة والاختيار حتى فى هذا العمل اللاصق بالطين، بينما الحيوان لا يعمل بوعى ولا إرادة حرة ولا اختيار.

وفى لحظة التوجه الروحي الراقي يكون أقرب إلى نفخة الروح، لأنه ينطلق بروحه من إطار الحس المحدود، ومع ذلك لا يكون أبدا روحا خالصة كالملائكة، لأن له جسدا لا يستطيع أن يتخلص من وجوده، وعقلا لا يكف تماما عن التفكير.

هذا هو الإنسان كما يفسره الإسلام بعنصريه المكونين له: قبضة الطين، ونفخة الروح.

والخطأ الذي وقعت فيه كل الحضارات والمذاهب والأديان هو محاولتها تفسير الإنسان بعنصر واحد من عنصريه دون الآخر.. وهذا هو الخطأ الأكبر الذي تسللت منه سائر الأخطاء..

فالحضارة المادية التي تأسست على المذاهب المادية تبرز جانب الجسد، وجانب الحس، وجانب المادة، فإذا أخذت شيئا من النفخة العلوية أخذت جانب العقل وأبت جانب الروح، وسخرت العقل ـ من ثم ـ فى شهوات الجسد ومطالب الحس وعالم المادة، ففقد علويته ورفعته، وأسف مع قبضة الطين، وأنشأ عمارة مادية للأرض خالية من إشراقة الروح.

__________

(1)  الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب، بتصرف.

ثمار من شجرة النبوة (195)

والمذاهب الروحية تبرز جانب الروح، وتهمل الجسد وتكبته وتقهره وتحتقره وتقوم بتعذيبه من أجل رفعة الروح، كما تفعل الهندوكية والرهبانية، كما أنها تهمل عالم الحس وعالم المادة، فلا يقوم الإنسان بعمارة الأرض، ولا يقاتل الشر والطغيان، ولا يجاهد لإقامة الحق والعدل، اكتفاء بلذة الفناء فى عالم الروح، التى يتم من خلالها الوجود (1).

الآدمية

قلت: وعيت هذا.. وعرفت أهميته.. فما فهمت من القرآن من تميز التصور الإسلامي للإنسان.

قال: الآدمية.. لقد ورد في الآيات التي تلوتها عليك أن أول البشر هو آدم.. وآدم لم يكن من عائلة الشمبانزي.. بل هو مخلوق بالأصالة.. لقد أراد الله القادر على كل شيء أن يخلق الإنسان، فخلق الإنسان، وكان أول إنسان هو آدم.

ولهذا نرى القرآن يذكر البشر بأبيهم الذي ينتسبون إليه، ففيه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} (الأعراف).. وفيه: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)} (الأعراف)

قلت: أراك تشتد ككثير من المسلمين في إنكار هذا.. مع أني لا أرى فيه من المبالغة ما ترى.. اللهم إلا ما أدى إليه استغلال هذه النظرية، وتحميلها ما لا تحتمل.

قال: لا.. هذا من أصول الأخطاء، وليس من فروعها.. فالداروينية التي تقول بأن الإنسان لم يخلق إنسانا من أول لحظة، إنما هو تطور عن كائن آخر هو القرد الشبيه بالإنسان، والمتطور بدوره عن أحد القردة العليا الأربع: الشمبانزي والغوريللا والأورانج أوتانج

__________

(1)  انظر: الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (196)

والجيبون، وأنه مر في تطوره بمراحل عدة، كان يقترب فيها في كل مرة من وضعه الحالي.. فكان في مبدأ أمره يمشي على أربع، وينتصب قائما أحيانا كما تفعل القردة العليا، ثم زاد انتصاب قامته حين أخذ يأكل من ثمار الأشجار، فأصبح رأسه من ثم يرتكز على الجذع أكثر مما يكون معلقا في الفضاء، فأتيح لمخه أن يكبر، فتكلم وتعلم، ورويدا رويدا على مدى من الزمن لا يكاد يحصى أصبح هو الإنسان..

هذه النظرية لا تهتم بالإنسان.. كما ذكره القرآن.. باعتباره أصلا قائما بذاته، وإنما تهتم بالخيوط التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان.. لتقول للإنسان: أنت بسبب هذه الخيوط حيوان لا إنسان.

ففي هذه النظرية جرى التركيز على الخصائص الجديدة التي يكتسبها الكائن المتطور، لا على السمات التي يشترك فيها مع الكائنات السابقة عليه، التي لم تسر على خط التطور مثله.

فهناك مثلا ـ بحسب النظرية ـ كائن ليس له جهاز سمعي، تلاه في التطور كائن يشبهه في كثير من الخصائص، ولكنه اكتسب جهازا سمعيا لم يكن موجودا في الكائنات المشابهة له، السابقة عليه، والتي تطور عنها.. فعند الحديث عن هذا الكائن يكون التركيز على هذه الحاسة الجديدة التي اكتسبها والأطوار التي مرت بها حتى اكتملت في وضعها النهائي.. وكذلك لو كان الكائن قد اكتسب جهازا بصريا أو جهازا للطيران، أو جهازا لتنظيم الدورة الدموية.. مما لم يكن لأقرانه الذين تطور عنهم.

وكان مقتضى ذلك بالنسبة للإنسان أن يكون التركيز على ما تفرد به الإنسان عن أشباهه من الكائنات السابقة عليه، التي تطور عنها، لا على أوجه الشبه بينه وبين تلك الكائنات.. وذلك كله على فرض صحة الفرضية من أساسها.. ولكن الذي جرى على يد داروين كان هو التركيز على أوجه الشبه بين الإنسان والقردة العليا (مع افتراض وجود حلقة مفقودة بينهما) أكثر من التركيز على ما تفرد به الإنسان.. أي ـ بعبارة أخرى ـ التركيز على حيوانية الإنسان، وليس على

ثمار من شجرة النبوة (197)

إنسانيته.

لقد حاولت الداروينية الحديثة سدّ هذا الخلل في تطبيق النظرية بالنسبة للإنسان، فكتب جوليان هكسلي، وهو من عمد الداروينية الحديثة كتابا سماه (الإنسان في العالم الحديث) بدأه بفصل طويل بعنوان تفرد الإنسان، ذكر فيه أن المعلومات التي بنى عليها داروين نظريته كانت ناقصة، وأن العلم الحديث كشف عن جوانب كثيرة من تفرد الإنسان لم تكن معلومة لداروين، وجاء في هذا الفصل قوله: (وبعد نظرية داروين لم يعد الإنسان مستطيعا تجنب اعتبار نفسه حيوانا، لكنه بدأ يرى نفسه حيوانا غريبا جدا، وفي حالات كثيرة لا مثيل له. ولا يزال تحايل تفرد الإنسان من الناحية البيولوجية غير تام)

وجاء فيه: (وهكذا وضع علم الحياة الإنسان في مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان).. وفيه: (وأخيرا، فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية في طريقة تطوره) (1)

ولكن على الرغم من هذه المحاولة من جانب الداروينية الحديثة ما زال الإنسان ـ في أذهان الناس جميعا ـ حيوانا.. وما زال التركيز على الجانب البيولوجي من كيانه، ولا ذكر على الإطلاق للجانب الروحي من الإنسان.

إن السخرية بالإنسان تصل بالداروينية حدها حين تقصر تطور في الإنسان في عقله وإبهامه.

عقله تطور حين تعود الإنسان ـ أو الكائن الشبيه بالإنسان ـ على الوقوف منتصبا لفترات طويلة ليأكل من ثمار الشجر، فارتكز رأسه على الجذع، فأتيح للمخ أن يكبر، فتعلم وتكلم.

وإبهامه تطور (ولا أدري لماذا!) فصار يحسن الإمساك بالأشياء، فاستخدم الأدوات، ثم سعى إلى تحسينها، فصارت له حضارة.. وصار له تاريخ.

__________

(1)  جوليان هكسلي، الإنسان في العالم الحديث، مقتطفات من ص 3 – ص 9.

ثمار من شجرة النبوة (198)

وفيما عدا هذين.. بقي الإنسان حيوانا.. كان وما يزال.

قلت: ألم ير هؤلاء الأغبياء الإنجازات الحضارية العظيمة التي قام بها الإنسان دون سائر الحيوانات؟.. ألم يكن في هذا ما يكفيهم ليصدهم عن وساوسهم تجاه حقيقتهم؟

ابتسم، وقال: لم يصعب عليهم أن يجدوا حلا لذلك..

لقد ذكروا أن الإنسان حيوان.. كان وما يزال.. تطور منه ما تطور، ولكنه لم يخرج من حيوانيته.

وما دامت أهداف ومشاغل الحيوان تنحصر في صراع البقاء، والاستمتاع، المتمثل في الطعام والشراب والجنس.. فإن هذه نفس مشاغل الإنسان وأهدافه.

والفرق بينهما.. بين الإنسان المتطور، والحيوان.. هو أن الحيوان يقوم بهذين الأمرين بدافع الغريزة، بغير وعي منه لما يفعل، ولا وعي منه بأنه يقوم بما يقوم به من أعمال وتصرفات لتحقيق هذين الهدفين الرئيسيين في حياته.

أما الحيوان المتطور الذي هو الإنسان، فقد اكتسب الوعي حين كبر مخه نتيجة انتصاب قامته، فلم تعد كل أعماله غريزية، بل حتى الغريزي منها صار يمارسه بوعي، يبدأ بإدراك الرغبة وينتهي إلى تحقيقها مرورا بالبحث عن الوسائل المادية إلى إشباعها.. ولكن الأهداف تبقى هي الأهداف.. وهي صراع البقاء والاستمتاع.

أما الحيوان، فهو يستخدم قوته العضلية ليأخذ مكانه في صراع البقاء، وليحصل على ضروراته، وأحيانا يستخدم الحيلة، ولكن بوحي الغريزة، وفي نطاقها.

وأما الحيوان المتطور فهو ـ إلى جانب عضلاته ـ يستخدم الأداة المستجدة التي اكتسبها في تطوره، وهي العقل، وكلما ارتقى صار استخدامه للعقل أوسع مدى وأكثر فاعلية، وذلك فضلا عما يتيحه له التطور الآخر ـ تطور إبهامه ـ من استخدام أدوات لا حصر لها لتحقيق أهدافه.

وأما الاستمتاع فقد ارتقى كذلك مع الحيوان المتطور، باستخدام التطورين الرئيسيين في

ثمار من شجرة النبوة (199)

كيانه، فدخل فيه العقل على نطاق واسع، يستجد فيه كل حين لونا جديدا من ألوان الاستمتاع، ويستخدم في سبيل ذلك مزيدا من الأدوات يخترعها العقل، وتستخدمها اليد ذات الإبهام المتطور.

ونشأ من ذلك التطور الحضارة..

فالحضارة بهذا هي حصيلة سعى الإنسان لإثبات ذاته في صراع البقاء، وسعيه إلى الاستمتاع من جانب آخر..

فسعيه إلى إثبات ذاته في صراع البقاء يتمثل في القوة الحربية، والقوة السياسية، والقوة العلمية، والقوة الاقتصادية.

وسعيه إلى الاستمتاع يتمثل في الفن بمحتلف أنواعه إلى جانب المتاع الحسي المباشر بما يلبي نداء الشهوات..

وهذه ـ بشقيها ـ هي معايير إنجازاته.

فالأمم تقاس بالقوة الحربية والقوة السياسية والقوة العلمية والقوة الاقتصادية التي تمكنها من البقاء في حومة الصراع، وتكفل لها ـ كلما تمكنت ـ سحق القوى الأخرى أو التغلب عليها ـ كما تقاس كذلك بتعدد الفنون التي تستخدمها من أجل الاستمتاع.

ويكون هذا هو المعيار التاريخي، والاجتماعي، الذي تقاس به عظمة الأمم خلال التاريخ.

أما القيم النبيلة ـ من نشر العدل وإزالة الظلم ونشر الخير، وإشراك الناس في الخير بدافع الإنسانية بصرف النظر عن المنفعة، والتعاون على البر والتقوى ـ فلا وجود لها في ظل هذا التصور.. إنها مجرد كلام جميل يتحدث عه المتحدثون، وشعارات يرفعونها، ولكنها عند الجد لا تؤخذ مأخذ الجد، لأنه لا مكان لها عند الحيوان الأصلي، ولا مكان لها كذلك عند الحيوان المتطور.

الخلافة

ثمار من شجرة النبوة (200)

قلت: وعيت هذا.. فهل هذا وحده تصور الإسلام عن حقيقة الإنسان؟

قال: لا.. كل ما ذكرته لك مقدمات عن حقيقة الإنسان.

إن الإنسان ككل شيء في هذا الوجود خلق لغاية يؤديها، وحكمة هي التي تحدد وظيفته، ثم تحدد بعد ذلك الحقوق التي يستدعيها توفير الجو لأدائه لوظيفته.

قلت: تقصد واجبات الإنسان.

قال: أجل.. فمن الخطأ أن نتحدث عن حقوق الإنسان، ولا نتحدث عن واجبات الإنسان.

قلت: الحضارة الحديثة.. بل كل حضارة.. طوقت الإنسان بكثير من الواجبات.. في مقابل ما تعطيه من حقوق.

قال: نظرة الإسلام للحقوق والواجبات تختلف كثيرة عن نظرة هذه الحضارة.. وعن نظرة كل حضارة.. وكل دين.. وكل فكر.

قلت: فما هي هذه النظرة؟

قال: الإسلام يعتبر الإنسان خليفة.. والآيات التي قرأتها لك تحدد هذه الوظيفة الكبرى التي تفسر سر وجود الإنسان على هذه الأرض، وتفسر سر الطاقات التي منحت له.

لقد قدم القرآن لقصة خلق آدم هذه المقدمة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30)

وبما أن الخلافة تتضمن الهيمنة والسيطرة والقدرة على الإنشاء والتعمير والقدرة على التمييز والاختيار.. فقد أمد الله الإنسان بالأدوات الصالحة للخلافة..

وفي القرآن ذكر لهذه الأدوات.. والتي هي أول الحقوق التي تستدعيها وظيفة الخلافة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا.. } (البقرة:31).. {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق).. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ

ثمار من شجرة النبوة (201)

لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} (النحل).. {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد).. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (الشمس).. {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61).. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} (الجاثية:13).. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (الملك:15)

هذه أول الحقوق التي نالها الإنسان بفضل الله.. لا بفضل التطور.. ولا بفضل الصراع كما تدعي جميع النظريات البشريات.. إنما هي مواهب إلهية زود بها الإنسان ليستطيع أن يؤدي الوظيفة الخطيرة التي وكلت إليه.

قلت: لا أزال حائرا في معنى الخلافة.. وفي علاقة حقيقة الإنسان بها.. وفي علاقة حقوق الإنسان بها.

قال: الإنسان في التصور الإسلامي مخلوق كريم لغاية رفيعة.. هو لم يخلق كما تتوهم الفلسفات ليأكل ويشرب ويسيطر.. ويمارس من أنواع المتع ما يغذي الفراغ الذي تعاني منه روحه، وإنما خلق ليكون خليفة.. يتولى إدارة الأرض وعمارتها وتطويرها.. وبما أنه خليفة فإن ذلك يقتضي أمورا.. على أساسها تنبني حقيقة الإنسان وحقوقه (1):

أولها.. انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد هو الله، بدلاً من كل الانتماءات الأخرى، والايمان بسيد واحد للكون.. وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام عليه الإسلام.

والثاني.. إقامة العلاقة الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبوديات الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.

والثالث.. تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان

__________

(1)  انظر: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، الشهيد آية الله الصدر، ص 11 ـ 12.

ثمار من شجرة النبوة (202)

الاستغلال والتسلط، فما دام الله تعالى واحداً ولا سيادة إلاّ له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانيّة والحقوق.

والرابع.. الخلافة استئمان، والأمانة تفترض المسؤولية والاحساس بالواجب، اذ بدون ادراك الكائن انّه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الامانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.

والإنسان بهذا المفهوم الذي جاء به الإسلام للخلافة خارج عن أي نوع من أنواع التبعية لأي قوّة اجتماعية أياً كانت، بل هو خاضع لله وحده.. فلا قمية لنسب ولا لون ولا وطن ولا قومية.. ولا أي شيء من هذه الأشياء التي قام عليها التناحر بها بين البشر.

والخلافة بهذا الشكل حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة.. حركة لا توقف فيها لأنها متجهة نحو المطلق، وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو.

قلت: فما الفرق بين هذا الفهم الذي جاء به الإسلام.. وبين سائر المذاهب والأفكار؟

قال: الفروق عظيمة لا يمكن حصرها.. سأضرب لك أمثلة عنها لتدرك سمو التصور الإسلامي، وانحطاط سائر التصورات.

الإسلام يعتبر الإنسان.. كل إنسان.. خليفة لله.. أي انتماء الإنسان الأول لله، فهو الذي خلقه.. ومنه يستمد وجوده، ورزقه، وإليه يتوجه بالعبادة والدعاء.

وهذا الانتماء يجعله يمحو من خاطره وسلوكه كل تلك الانتماءات الضيقة التي تمليها عليها حدود المكان والزمان والمصالح.

ولهذا.. فهو يشعر بأخوة تنتظم جميع الكون.. ولا تنحصر في البقع الضيقة التي ولد فيها، أو انتسب إليها.

قارن هذا المفهوم الذي ينطلق من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}

ثمار من شجرة النبوة (203)

(الحجرات) بجميع المفاهيم العنصرية التي تفوح من الأديان والمذاهب والحضارات..

إن القوميات والشعوب والقبائل والآباء والأنساب التي ابتعد بها الإنسان عن الانتماء لله.. كما يعنيه مفهوم الخلاقة.. هو الذي صدر مع صداه الضارب في أحقاب التاريخ أكثر الحروب، وأبشع العصبيات، وأرذل الجرائم الإنسانية.

فعندما انطلق الرومان من أرضهم الخصبة، ومعيشتهم الميسرة، وفلسفتهم وأساطيرهم لم يكونوا يحملون مع جيوشهم الجرارة من فضل حضارة وإنسانية، ليساهموا في رفعة الإنسان، بل كان زادهم الوحيد، وهاجسهم الوحيد، ودافعهم الوحيد هو أن يعرفوا العالم الذي نعتوه بالبربرية من هو الإنسان الروماني وأي دماء تسري في عروقه.

وعندما أباد خلفهم من الأوروبيين سكان أمريكا وأستراليا، واستعبدوا سكان إفريقيا واستعمروا سكان آسيا لم يكونوا يشعرون بأي ألم، وهم يستغلون الأرض، ويستسخرون البشر، ويمصون دماءهم، لأنهم كانوا يعتقدون، بل قد يصرحون، بأنهم الجنس السامي، والإنسان الممتاز، الإنسان الذي يجوز له أن يستغل من دونه كما يستغل سائر البشر النبات والحيوان.

ومرت حقبة على البشرية تصوروا أنهم تخلصوا من العبودية والاستعمار، وأن الإنسان ترقى ليمحو آثار الشعوبية والقبلية والعرقية، وأن العالم يتجه نحو الإنسان المفصول عن أعراقه، ولكن الأخبار التي تبث كل يوم، بل كل ساعة تكذب كل هذا.

فالآلاف يموتون في أنحاء العالم بجريمة من جرائم ذلك الإنسان الأشقر، فلا يلتفت العالم لهم، ولا يترحم عليهم، ولا يعزي ذويهم في مصابهم، لأن الموت هو المصير الحقيقي لهم، وهو الخاتمة السعيدة لمأساة وجودهم، فإذا ما جرح فرد من أفراد ذلك الجنس المتميز انتهض البشر جميعا لمداواة جراحه، وإذا ما فقد انتهضوا جميعا للبحث عنه، فإذا مات تحولوا جميعا معزين ومواسين، والويل لمن لم يفعل كل ذلك، أو بعض ذلك.

هذه الشعوبية والقبلية والعرقية هي التي وقفت قديما حائلا بين الشعوب واتباع أنبيائها،

ثمار من شجرة النبوة (204)

وهي التي تقف حاليا بين هذا العالم الذي يدعي معرفة كل شيء، ويتصور أنه حقق كل شيء، وبين الالتفات للبحث عن التفسير الصحيح للكون، والبحث الجاد عن حقيقة الإنسان.

التفت إلي، وقال: هذا مثال واحد عن أثر الوعي بحقيقة الخلافة في تقويم سلوك الإنسان والجماعات.. وهو مثال لم يكتمل نضجه إلى على أيدي محمد.

الخلود

قلت: وعيت هذا.. فهل هذا وحده تصور الإسلام عن حقيقة الإنسان؟

قال: لا.. إن هناك شيئا عظيما.. بل هو أكسير لم يأت به إلا محمد.. وهو الذي يضع للحياة طعمها الجميل.. وهو الذي ينفي الصراع الذي يتوهمه الغافلون.

قلت: ما هو؟

قال: الخلود.

قلت: ما الخلود؟

قال: ألا ترى البشرية تتنازع وتتصارع من أجل البقاء؟

قلت: بلى.. وقد ولد ذلك الاستعمار والحروب الكثيرة التي لا نزال نرى آثارها.

قال: إن سر ذلك كله يكمن في عدم الإيمان بخلود الإنسان.. فلذلك تجده يلهث ليملأ ذلك الفراغ العظيم الذي تمتلئ به نفسه.

قلت: وهل أوجد الإسلام ما يملأ به ذلك الفراغ؟

قال: أجل.. لقد ذكر الإسلام للإنسان أنه خالد.. وأن الموت مجرد مرحلة يمر بها كما يمر بمرحلة الجنين.. وأنه بعد موته سيعيش الحياة الحقيقية التي هي نتيجة لحياته الدنيا..

إن هذا التصور الذي ذكره القرآن.. وجاء به الإسلام.. بصورة لا نظير لها في جميع الأديان والمذاهب.. هو الحل الوحيد الذي يقضي على ذلك الفراغ العظيم الذي يجعل هم الإنسان

ثمار من شجرة النبوة (205)

محصورا في الصراع والاستمتاع.

ولكن أولئك الدجالين الذين وقفوا يملأون عقول البشر بأهوائهم اجتهدوا جهدهم لينفوا هذا.. فلهذا لا ترى في جميع الدراسات الغربية التي اهتمت بالإنسان رعاية هذا البعد.

فجميع الدراسات تدرس الإنسان باعتباره يعيش حياته الدنيا وحدها، ولا معاد له في الآخرة، وبذلك اختلت الموازين تماما.

فاعتبار الحياة الدنيا هي المبدأ والنهاية يؤثر تأثيرا بالغا في رؤية الإنسان للأشياء، ليس فقط من الناحية الاعتقادية، ولكن كذلك من الناحية السلوكية والعملية والعلمية.

فحين يكون أمامك منظر متكامل تعرف مبدأه ومنتهاه، وتستطيع أن تعرف مكان كل جزئية فيه، ودلالتها في المنظر المتكامل، ثم تقتطع جزءا من المنظر، وتقول: يكفيني هذا الجزء، ولست بحاجة إلى باقيه! هل يكون سلوكك عقلانيا؟.. وهل يكون واقعيا؟.. وهل تحصل على نتائج علمية صحيحة؟!

إن إدراك الدلالة الخاصة لكل جزئية في الصورة يرتبط ارتباطا وثيقا بالرؤية الشاملة للكل المتكامل المتمثل في الصورة، أما في القطاع الذي تقتطعه ـ أيا كان حجمه ـ فكيف تأخذ الجزئية دلالتها؟ وكيف تتكامل النظرة؟ فإذا كان الجزء الذي اقتطعته هو الأصغر، والمتروك هو الأكبر، فأي خلل يمكن أن ينشأ في الرؤية، وإلى أي مدى تفقد الجزئيات دلالتها؟!

والعلوم الاجتماعية التي نشأت وترعرعت في الغرب في ظل الصراع الحاد مع الكنيسة ودين الكنيسة ألغت اليوم الآخر من حسابها تماما، على أنه غيبيات لا تخضع للبحث العلمي، وميتافيزيقيا ضارة ومعوّقة عن التقدم العلمي والعمراني، فلا ينبغي الاهتمام يها والالتفات إليها، ونشأ من ذلك اختلال هائل في رؤية القيم والأهداف.

فحين يعيش الإنسان للدنيا وحدها، ويعتقد أن ما يجنيه فيها من خير أو شر هو الحصية النهائية لجهده، وألا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جزاء في الآخرة، فكيف تكون قيمه، وكيف

ثمار من شجرة النبوة (206)

تكون أهدافه؟

إنه بذلك، سيركز على الهدفين الرئيسيين للحيوان: الغلبة في صراع البقاء، والاستمتاع، وإن كانت أدواته لتحقيق كل من الهدفين هي أدوات الحيوان المتطور، أي باستخدام العقل، واستخدام العدد والآلات.

ولأجل هذا يبرز مثل هذا الشعار (القوة هي الحق) ويكون قانون التعامل بين التجمعات البشرية بعضها وبعض هو قانون الغاب: القوي يأكل الضعيف أو ينحيه من الطريق، بصرف النظر عما هو حق وما هو عدوان.

وإن كان الكلام الحلو الذي تعلمه الحيوان المتطور حين أتيح لمخه أن يكبر، يفيض رقة وعذوبة وهو يتكلم عن التعاون الدولي، وعن الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الآخرين ولا ينفي هذا أن تكون هناك أخلاقيات في السياسة والاجتماع، وعلاقات الناس بعضهم وبعض في داخل كل تجمع على حدة، قائم على رابطة الدم أو العصبية القومية، ولكنها ـ باعترافهم ـ أخلاقيات نفعية، يتواضعون عليها لتقليل الاحتكاك في التجمع الواحد إلى أقصى حد ممكن، وتوجيه العدوان إلى الآخرين، ثم لينال كل إنسان حظه من الاستمتاع الحيواني بأقل قدر من المنغصات.. وحتى هذه الأخلاقيات ـ كما يقول دركايم ـ دائمة التقلب لا تثبت على حال.

حقوق الإنسان

قلت: وعيت حقيقة الإنسان كما يصورها القرآن.. وكما تصورها مذاهب البشر وأفكارهم، فما الحقوق التي تتطلبها هذه الحقيقة؟

قال: فما هي الحقوق التي تتصورها أنت؟

قلت: ثلاث: الحرية.. والإخاء.. والمساواة.. وهي الحقوق التي جاءت بها الثورة الفرنسية..

ثمار من شجرة النبوة (207)

قال: وما الثورة الفرنسية؟

قلت: تلك التي أعلنت حقوق الإنسان.

قال: وأعلنت معها عقوق الإنسان..

قلت: ما تقول؟

قال: سأحكي لك القصة من أولها لتعلم أنه بقدر الحقوق التي تصور الإنسان أنه نالها في هذه الثورة بقدر الضرائب الضخمة التي دفعها.

نظر إلى الشجرة الجاثية أمامنا بحزن، ثم قال: لقد قام أولئك الثوار المساكين بقلع شجرة الإنسان قلعا شديدا ممتلئا بالفوضى، فقطعوا عروقها، وسملوا أعين أوراقها، ثم ملأوها بالصور التي شاءت لهم أهواؤهم أن تحجب أشعة الشمس عنها، ثم أحضروا مياه المستنقعات، فسقوها بها، فامتلأت بالأدواء.

قلت: كيف حصل كل ذلك؟

قال: في ذلك اليوم الذي اختلط فيه البغض بالحب.. والحقوق بالعقوق.. قام الثوار الذين انفجر بهم الظلم الاجتماعي، وقام معهم المفسدون في الأرض (1)، إلى الثورة..

__________

(1)  يدعى اليهود في تبجح وغرور أنهم صناع الثورة الفرنسية ومدبروها، تقول البروتوكولات المنسوبة لهم: (تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها الكبرى.. إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا)

وتقول: (كذلك كنا قديماً أول من صاح في الناس (الحرية والمساواة والإخاء) كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر) (البروتوكولات:103،111)

وقد أيدهم في دعواهم هذه بعض الكتاب من أمثال وليم كار في (أحجار على رقعة الشطرنج) وسيبريدوفيتش في (حكومة العالم الخفية} (انظر أحجار على رقعة الشطرنج: فصل الثورة الفرنسية. وحكومة العالم الخفية:79)

ويدل لهذا أن اليهود تغلغلوا في منظمات الثورة المختلفة كالجمعية التأسيسية ونادي اليعاقبة وبلدية باريس، ولهذا استطاعوا أن ينفثوا تلك الشعارات التي رددتها الجماهير ببلاهة لا سيما شعار الثورة البارز (الحرية والإخاء والمساواة)، فهذا الشعار الذي قامت عليه الثورة وحققته كان له عند اليهود تفسير آخر:

فهم يقصدون بالحرية تحطيم القيود الأخلاقية والتقاليد الموروثة التي تحول بينهم وبين إفساد الأمم وتدميرها.

ويقصدون بالإخاء والمساواة كسر الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول بينهم وبين الانسلال إلى أجهزة الدولة وتنظيماتها، وإذابة الفوارق الدينية بينهم وبين غيرهم كى تزول عنهم وصمة الاحتقار والمهانة.

وهكذا نجحوا في تحويل الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين نفسه وجعلوا لفظة الدين عند الشعوب الأوربية مرادفة للظلم والرجعية والتخلف والاستبداد.

ثمار من شجرة النبوة (208)

لقد كان النظام الاجتماعي الذي هيمن على الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى هو نظام (الإقطاع) (1).. وربما كان هذا النظام أبشع النظم الاجتماعية في التاريخ (2).

وقد كان من رحمة الله بأمة محمد أنه لم يكن فيها هذا النوع من النظم.. ذلك أن سياسة المال التي اتسم بها الإسلام، كانت تمنع ظهور الإقطاع.

والأخطر من ذلك.. ولعله هو الذي جر الثورة الفرنسية إلى ذلك الانحلال أو ذلك الاستغلال السيء لمبادئها هو أن الكنيسة كانت أكبر الملاك الإقطاعيين، فلذلك وقفت ضد الثورة، بدل أن تتولاها وتحميها وترشدها.

إن الكنيسة ـ التي حكمت أوروبا طيلة عصورها المظلمة ـ لم تكتف بصد الناس عن نور الإسلام، بل ناقضت تعاليم الإنجيل الداعية إلى المحبة والتسامح ونافست الأمراء الإقطاعيين في إذلال الشعوب وقهرها.

لقد برر القديس توما الاكويني نظام الاسترقاق الإقطاعي بقوله: (إنه نتيجة لخطيئة آدم) (3) وكأن رجال الكنيسة والبارونات ليسوا من بني آدم.. ولهذا لم تكن تلك الثورة في حقيقة أمرها تمرداً على الكنيسة، لأنها كنيسة، وإنما كان ذلك لأنها مالك إقطاعي.

يقول ويلز: (كانت ثورة الشعب على الكنيسة دينية... فلم يكن اعتراضهم على قوة الكنيسة، بل على مساوئها ونواحي الضعف فيها، وكانت حركات تمردهم على الكنيسة حركات

__________

(1)  سنتحدث عن هذا النوع من النظم في فصل (نظام) من هذه الرسالة.

(2)  انظر: العلمانية، لسفر الحوالى، وغيره من المراجع السابق ذكرها.

(3)  قصة الحضارة:14/ 406.

ثمار من شجرة النبوة (209)

لا يقصد بها الفكاك من الرقابة، بل طلب رقابة دينية أتم وأوفي... وقد اعترضوا على البابا لا لأنه الرأس الديني للعالم المسيحي، بل لأنه لم يكن كذلك، أي لأنه كان أميراً ثرياً دنيوياً، بينما كان يجب أن يكون قائدهم الروحي) (1)

بسبب هذا.. ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.

ونتج عن هذا أن حلت الجمعيات الدينية، وسرح الرهبان والراهبات، وصودرت أموال الكنيسة، وألغيت كل امتيازاتها.

وكان ذلك كله يمكن أن يتم باعتدال.. لولا أن الثورة الغوغائية لا يمكن أن تحصد الاعتدال..

والأخطر من ذلك كله أن القائمين على الثورة والناشرين لها أو الذين تربوا في أحضانها ومهدها انطلقوا من الثورة.. ولم ينطلقوا من العلم.. فوقعوا في أخطاء لا تقل عن الأخطاء التي ثاروا عليها.

لقد كان من أخطر ما ولدت الثورة.. وأخطر من ولدها تلك الأفكار التي سميت أفكارا تنويرية مع أنها كانت تحوي من الظلمات ما لا يقل عن الظلمات التي أرادت رفعها.

فمن المدارس التي ظهرت.. والتي طبعت الحياة العقدية والسلوكية والاجتماعية.. وحاولت أن تفسر حقيقة الإنسان، وتستنتج منها حقوقه مدرسة الكتاب الموسوعيين الذين كتبوا دائرة المعارف بزعامة (ديدرو)، وكانوا كما يقول ويلز: (يناصبون الأديان عداوة عمياء)

ومنها مدرسة (روسو)، وهي مدرسة ذات طابع اجتماعي وسياسي، وروسو هو صاحب كتاب (العقد الاجتماعي) الذي أطلق عليه (إنجيل الثورة الفرنسية).. ومن أعمدة هذه المدرسة

__________

(1)  معالم تاريخ الإنسانية:3/ 989.

ثمار من شجرة النبوة (210)

(مونتسيكو) صاحب (روح القوانين)

ومن كتابات هؤلاء استلهم زعماء الثورة مبادئهم واقتباساتهم.

والغرض من فكرة العقد الاجتماعي واضح للعيان فهي تهدف إلى استبدال (لمصلحة الاجتماعية) أو الرابطة النفعية للأفراد بالأخلاق والنظم الدينية، لتحل عبادة المجتمع ممثلاً في الوطن أو القوم محل عبادة الله، وذلك ما نادت به الثورة حرفياً.

وروسو لم يكن ـ في الحقيقة ـ صاحب هذه الفكرة.. بل سبقه إليها الفلاسفة المثاليون في المدن الفاضلة ففي (جمهورية أفلاطون) و(اليوتوبيا) لتوماس مور، و(مدينة الشمس) لكامبانيلا، وكلها نماذج واضحة للحياة اللادينية التي تقوم على أساس من التفاهم والوفاق المجرد بين الأفراد، وهو ما عبر عنه روسو بالعقد الاجتماعي، إلا أنه أضاف إلى هذا النموذج ما اقتبسه من (هوبز) و(ميكافيلي) اللذين غلبا جانب الشر لدى الإنسان على الخير، لذلك كان روسو هداماً أكثر منه فيلسوفاً.

ومن تلك المدارس مدرسة الدين الطبيعي، وهي مدرسة ذات طابع فلسفي هدام، وقد سبق الفلاسفة العقلانيون غيرهم في بحث علاقة الفرد بالدولة والمناداة بمجتمع ينفصل فيه الدين عن الدولة، وكانت فكرتهم اللادينية أوسع مما تصوره ميكافيلي، لأن الدين نفسه عندهم يجب أن يلغى ليحل محله (الدين الطبيعي أو القانون الطبيعي)

وربما كان الفيلسوف (سبينوزا) رائد الفكرة العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة، فهو يقول في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة): (ومن الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات أيا كانت أو التدخل في شؤون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم الأكثر يقيناً والأوسع قبولاً بين الناس) (1)

__________

(1)  رسالة في اللاهوت والسياسة، ص:426.

ثمار من شجرة النبوة (211)

وهكذا بتأثير هذا الفكر اللاديني جسمت الثورة الفرنسية الفكرة الفلسفية القديمة بإقامة مجتمع يرفض القيم والأخلاق الدينية، ويجعل العلاقات النفعية المحضة هي الرباط المقدس الوحيد.

قلت: فهل تتصور تلك الجماهير البسيطة من الفلاحين والعمال الذين قهوهم الإقطاع قد قرأوا أفكار روسو، وانتقادات فولتير، ليقوموا بالثورة؟

قال: ربما لم يقرأوا.. ولكنهم قد قرأوا الواقع.. قرأو مخازي الكرادلة والقساوسة وفضائحهم وثراءهم البازخ.. ورأو بأعينهم ما عبر عنه توماس جفرسن بقوله: (إن القسيس في كل بلد، وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائماً حليف الحاكم المستبد يعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر) (1)

وكان كل ذلك مدعاة لأن تصب الجماهير جام غضبها على الكنيسة، وتصرخ خلف (ميرابو): (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)

قلت: أرانا انشغلنا بالحديث عن الثورة الفرنسية عن حقوق الإنسان.

قال: لا.. لم ننشغل.. لابد أن نفهم كل هذا حتى نعي معنى حقوق الإنسان التي نادت بها الثورة الفرنسية، والتي اعتبرت بعد ذلك دستورا لحقوق الإنسان.. فلا يمكن مقارنة ما جاء به الإسلام إلا بعد أن نعرف ما جاءت به هذه الثورة التي زعم لها أنها أول من نادى بحقوق الإنسان.

قلت: أنا إلى الآن لم أعرف كيف دخلت فكرة حقوق الإنسان إلى الثورة الفرنسية..

قال: لا يزال ذلك لغزا.. أو قريبا من اللغز.. ذلك أن تلك الجماهير كان يمكن ككل الثورات أن تكتفي بالإنجازات البسيطة.. ولكنها لم تكتف بذلك.

لم تكتف الثورة بمصادرة أملاك الكنيسة.. أو القضاء على نفوذها.. لتظل بعد ذلك مؤمنة

__________

(1)  أفكار ورجال:502.

ثمار من شجرة النبوة (212)

بدينها، وفيه لتاريخها، متمسكة بتقاليدها العريقة، لولا أنه وجد عامل آخر قلب أهداف الثورة وحول خط سيرها.

فعندما اندفعت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل، وهو رمز العبودية والاستبداد لم تكن ترفع سوى شعار واحد هو (الخبز)، والخبز وحده.

لكنها ما إن بدأت في قطف أولى نتائج ثورتها حتى وجدت نفسها تهتف بشعار (الحرية المساواة الإخاء)، وهو شعار لقنته تلقيناً.. كما لقنت شعار (لتسقط الرجعية)، وهي كلمة ملتوية تعني الدين.

وعندما بدأت المقصلة في تطبيق تلك الشعارات كان الضحايا يقدمون على مذبحها بحجة واحدة هي أنهم من أعداء الشعب، مع أنه كان بينهم من يعرف الشعب براءته، ودهش الشعب حين كان يرى من يقرأ بيان القتل اليوم باسم الشعب، يقدم هو نفسه غدا إلى المقصلة باسم الشعب أيضاً.

قلت: كيف هذا.. هل ترى الثورة فشلت في تحقيق أهدافها؟

قال: بل انحرفت عن أهدافها..

لقد تولى مفسدون كثيرون رعاية الثورة وتوجيهها.. فلذلك انحرفت ذلك الانحراف الخطير.. وانحرفت معها حقوق الإنسان انحرافا لا نزال نعاني منه.

قلت: ما هو هذا الانحراف؟

قال: عزل الدين عن الحياة.. وعزل حقيقة الإنسان عن حقوقه.

قلت: فهل تحدثني عن آثار ذلك؟

قال: سأحدثك عن بعض آثار ذلك، لتكتشف الزور الذي تحتوي عليه أكذوبة حقوق الإنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية، وأعلنتها القوانين العالمية.

الحرية

ثمار من شجرة النبوة (213)

قلت: فلنبدأ حديثنا بالحرية..

نظر إلى الشجرة بعمق، ثم قال: هل ترى هذه الشجرة المسكينة التي تتنفس السموم، وترضع من المستنقعات.

قلت: ما بها؟

قال: هذه هي نهاية الحرية التي نادى بها أولئك الشياطين الذين اعتلوا عرش البشرية.

قلت: إن ما تقوله خطير جدا.

قال: وصادق جدا.. الحرية التي يريدها أولئك الشياطين هي أن تتمرد هذه الشجرة على جميع الغابة التي ولدت في أحضانها لتشرب غير الماء الذي تشربه، وتأكل من غير الكلأ الذي تأكل منه.

إن أول ما فعلته تلك الثورة التي أعلنت الحرية أن بترت الإنسان عن الإنسان، لأنها تصورته قيدا يكبت حرية الإنسان.

وقد بدأت ذلك بتحريره من الله.. أو بعزل الله عن حياته.

ثم كان الانقلاب الصناعى (1) الذى أتى على بقية ما كان من بنيان.. لقد أحدث هذا الانقلاب تغيراً كاملاً فى صورة المجتمع.. فى كل شاء فيه..

وكان عاملاً من أهم العوامل فى التركيز على (فردية) الإنسان..

لقد جاء العمال من الريف فرادى.. غير متعارفين ولا مترابطين، وسكنوا فى المدينة كذلك فرادى.. لا يلتقون إلا فى زمالة العمل وحده، ولكن لا تقوم بينهم الروابط التى كانت تقوم بين الفلاح وأخيه فى الريف، حيث الناس متعارفون، متعاونون، تربطهم القرابة والمصاهرة والجوار ودوام الاتصال.. والتقاليد المشتركة التى توحد كيانهم من الداخل فيلتقون متعارفين بالمشاعر والأفكار.

__________

(1)  انظر كتب سيد قطب ومحمد قطب، خصوصا (مذاهب فكرية معاصرة).

ثمار من شجرة النبوة (214)

بل إنهم جاءوا كذلك فرادى بلا أسر.. فقد كان الجيل الأول من العمال النازحين من الريف يتحسسون الطريق فى المدينة، فلا يحضرون معهم أسرهم حتى يطمئنوا أولاً إلى الجو الذى يعيشون فيه، وكان معظمهم من الشبان العزاب الذين لم يرتبطوا بعد برباط الزواج..

وهكذا أحس كل إنسان فى المدينة بفرديته المتميزة أكثر مما أحس بالرباط الجمعى..

ثم عملت المرأة.. وأحست كذلك بفرديتها وحريتها..

لقد كانت من قبل هملاً لا وجود له ولا كيان ولا استقلال، مجرد تابع للرجل، تعيش عن طريقه اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وفكرياً.. وكل شاء.. فلما اشتغلت حدث فى نفسها انقلاب، وصار فى يدها مال تملكه ملكاً حقيقياً، مباشراً، كاملاً، تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء.

وتعاملت ـ بشخصها مباشرة ـ مع المجتمع، فى المصنع والمتجر والطريق..

وتعاملت مع الرجل ـ أو بدأت ـ إن لم يكن على أنها ند له، فعلى الأقل على أنها لم تعد ذلك التابع الذى لا كيان له، وإنما صارت كائناً يحاول أن يصل إلى مستوى الرجل وينازعه السلطان..

وفى كل ذلك برزت فرديتها التى لم يكن لها وجود من قبل..

واشتغل الأطفال كذلك.. وبرزت ـ رويداً رويداً ـ لهؤلاء الصغار فردية متميزة، يكتسبونها من عرك العمل لهم منذ طفولتهم، ومن العملة القليلة التى تتحصل فى أيديهم..

وهكذا صار الجميع أفراداً متميزى الفردية.. تحرر بعضهم من بعض..

قلت: وما الخطر في ذلك.. إن الحياة لا تستقيم إلا بهذه الفردية..

قال: ولكن الفردية التي ولدت في ذلك الوقت كانت انحرافا خطيرا.. ذلك أنها ولدت في ظل الجاهلية المنحرفة..

لقد ذاق هؤلاء جميعاً فرديتهم المستقلة (المتحررة) من غير طريقها السوى، الذى كان يضمن لهم ـ مع الإحساس بالذاتية المتميزة ـ توازناً فى الإحساس بالحقوق والتبعات، والحرية والالتزام.

ثمار من شجرة النبوة (215)

فسكان المدينة الجدد كانوا ـ رويداً رويداً ـ قوماً يتحللون من الدين والأخلاق والتقاليد، بتأثير الانتقال من الكبت العنيف فى الريف إلى (حرية) المدينة وبحبحتها، وبتأثير الانسلاخ التدريجى الدائم من الدين، وبتأثير التفسير الحيوانى للإنسان الذى بثته الداروينية فى النفوس؛ وبتأثير التفسير الجنسى للسلوك الذى بثه فرويد؛ وبتأثير وجود الشباب الفاره القوة بلا أسر تعصمه من الخطيئة، فيلجأ إلى الحل الرخيص الذى تقدمه المدينة فى صورة بغاء..

والمرأة ـ وهى تحس رويداً رويداً بفرديتها ـ كانت تستقى هذه الفردية على انحراف، فهى خارجة من حالة انعدام الكيان.. فى كل شاء.

فلما أحست بذاتيتها أخذت تناضل لتحطيم كل قيد.. لازماً أو غير لازم.. وأخذت بالذات تسعى إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد لأنها استخدمت ضدها فى معركة (التحرر).. استخدمها الرجل ليصدها عن منافسته، بينما كان هو فى واقع حياته متحللاً من الدين والأخلاق والتقاليد.

وحدث عند هذا انحلال مدمر شنيع..

لقد تحطمت روابط المجتمع، وروابط الأسرة، وفسد كيان الرجل والمرأة كليهما.. فلم يعودا رجلاً وامرأة كما خلقهما الله.

أما الرجل ـ وقد فقد روابطه الاجتماعية وضعفت فى نفسه روابط الأسرة وروابط الرجولة ذاتها ـ فقد أصبح شيئاً أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان.. آلة منتجة، ولكنها لا تكاد تفكر أو تحس.. وإنما تعيش الحياة لحظة لحظة، بلا هدف شامل ولا وعى بإنسانية الإنسان.. ثم إذا فرغ من الإنتاج المادى الذى يكبت كيانه الحى ويطمس إشعاعه الروح فيه ـ بسبب الأسلوب الآلى الذى يؤدى به العمل ـ انطلق فى حيوانية هابطة يشبع دوافع الحيوان.. وتتحول فى نظره إلى هذين الهدفين القريبين: إنتاج كالآلة.. وانطلاق كالحيوان.

قلت: وعيت هذا.. بل إني أرى هذا بعيني، وأتألم له كما تتألم.. بل إنه في كل يوم يظهر

ثمار من شجرة النبوة (216)

شذوذ جديد من هذا العالم الحر.. ويطالب الجميع بقبوله، لأنه مظهر من مظاهر الحرية.. ومن ينكر ذلك يعتبر من محور الشر الذي ينبغي أن يحارب ويباد لتحفظ الحرية في العالم.

قال: أما الإسلام.. دين الحرية الحقيقية.. فقد بنى مفهوم الحرية على أسس صحيحة تخدم الفرد، وتخدم المجتمع.. وتقيم عمارة الأرض التي لا تستقيم إلا بالحرية المنضبطة بضوابط المسؤولية.

قلت: لقد ذكرت لي أن حقوق في الإسلام تنطلق من تصوره لحقيقته.

قال: أجل.. ولذلك فإن الحرية في الإسلام تنطلق من الخصائص التي عرف بها الإسلام الإنسان.. وأولها العبودية لله..

قلت: إن قومنا من دعاة الحرية يعتبرون هذا من القيود التي تمنع انطلاقة الحرية..

قال: لا.. إن العبودية لله، والتي تعني الانقياد التام والطاعة الكاملة لله هي التي تحرر الإنسان من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة أخرى.

وهذا ما يكشف عن التحرر الحقيقي للانسان من كافة الأغلال والقيود التي طالما كبلت إرادته وفكره وجسمه وروحه وحتى عواطفه خلال مسيرته الحافلة بالعناء.

فالعبودية لله تعني أسمى أنواع الحرية التي لم يحلم بها الإنسان، ولم يتصورها أبداً، وهو يصارع ألوان العبوديات التي سلبت منه نعمة الحرية والحياة الآمنة والعيش الهاناء.

إن العبودية لله تحرر الإنسان من كل القيود.. لا من قيود الظلم والامتهان والاستعباد والآلهة المزورة فحسب، وانما من قيود النفس وأهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية.

وذلك ما يتيح للانسان شق طريقه بشكل أفضل وأداء دوره بالصورة المطلوبة.

ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال، فإن الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس.. لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى

ثمار من شجرة النبوة (217)

لتنتهي إلى التحرر من كل اشكال العبودية المهينة (1).

قلت: ولكن الذين ثاروا في الثورة الفرنسية ثاروا على الكنيسة التي ترمز للعبودية لله.

قال: لا.. لم تكن الكنيسة في يوم من الأيام ترمز للعبودية لله.. لقد قال القرآن في الانحراف الخطير الذي آلت إليه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31)

أنت تعلم ما فعله رجال ديننا متذرعين بما أعطي لهم من سلطة المنح والمنع، والغفران والحرمان، والإدخال في رحمة الله، والطرد منها، لأن المسيح قال لبعض تلاميذه: سأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما ربطته على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما حللته على الأرض يكون محلولا في السموات.

أما الإسلام فليس فيه هذا النوع من العبودية..

الإسلام يأمر بالعبودية التي تتوجه لله وحده من دون أي وسائط.. ولذلك فإن هذه العبودية هي عين الحرية.. فهي تحرره من أي قيد فكري أو سياسي أواجتماعي أونفسي.. وغيرها من القيود التي تحاول فرضها عليه الافكار والعقائد والتقاليد والقوى التي لاتمت إلى الله بصلة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)

وانطلاقا من هذه العبودية الجميلة التي يعيشها الفرد المؤمن كما تعيشها الجماعة المؤمنة يتحرك المؤمن في الحياة طبقاً لمرضاة من توجه إليه بالعبودية..

فالمسلم مطالب بتحقيق مرضاة الله، والبحث عنها في التكاليف التي كلف بها..

قلت: أليس هذا قيدا للحرية؟

قال: أرأيت لو أن طبيبا نهاك عما يضرك، أو أمرك بما ينفعك، ثم فعلت ما طلبه منك عن

__________

(1)  الاضواء، العدد 2، مقالة للشهيد آية الله الصدر.

ثمار من شجرة النبوة (218)

رضا تام.. وطواعية محبة.. أكان ذلك قيدا؟

قلت: لا.. فالطواعية تتنافى مع القيد.

قال: فهكذا العبودية التي أمر بها الإسلام، والتي يقوم بها المؤمن، ففيها وصفان يزيلان عنها ما نتوهمه من قيود:

أما أولهما، فكونها لا يمكن أن تتحقق إلا بالرضى التام والطواعية التامة.. ولهذا يربط الإسلام بين العبادة والمحبة.. فالعبادة التزام من قلب ممتلئ بحب الله.. قلب يشعر أنه ليس في الوجود من هو أجدر من الله بأن يحب، والإسلام بمصادره المقدسة يعمق في المؤمنين هذه المحبة.. فهو يصف الله بأنه صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وخلق له ما في الأرض جميعا، وأسبع عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وخلقه في أحسن تقويم، وصوره فأحسن صورته، وكرمه وفضله على كثير من خلقه، ورزقه من الطيبات، وعلمه البيان، واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.

فإذا امتلأ المؤمن بهذه المحبة مارس العبودية ـ بجميع أنواعها ـ برضا وتلذذ وطواعية..

وأما الثاني.. فهو أن هذه العبودية التي يمارسها المؤمن عن طواعية تامة لم يقصد منها إلا مصالحه.. والمصالح بالمفهوم الإسلامي تشمل مصالح الدنيا، ومصالح الآخرة.

ولهذا.. فإن النصوص المقدسة تربط بين طاعة الله والمصالح..

قلت: إن قومنا يقصدون بالحرية حرية الرأي.. وهو ما أتاحته الديمقراطية الحديثة؟

قال: تقصد ديمقراطية المشاغبين؟

قلت: ما تقول؟

قال: أرأيت لو كنت معلما.. وكان لك تلاميذ.. وكان أكثرهم مشاغبين لا علاقة لهم بالعلم، ولا اهتمام لهم به.. وراحوا يطالبونك بانتخابات تحدد لهم الدروس التي يقرؤونها، والمنهج الذي تدرسهم به.. أترى هذا الأسلوب نافعا لهم؟

ثمار من شجرة النبوة (219)

قلت: لا أراه مجديا معهم.. فهم سيرمون جميع الدروس في سلة المهملات.. وسيجعلون من المدرسة ملعبا لأهوائهم وشغبهم.

قال: فهكذا هذه الديمقراطية المزيفة.. إنها تتيح للص والمجرم والقاتل والمنحرف من الأصوات ما تتيحه للمفكر والعالم والعبقري.

وهي مع ذلك لا تتيح لهم إلا حرية محدودة في أطر رسمتها (1).. فالمتتبع لواقع حرية الرأي في الفكر الغربي يجدها قد قيدت بقيدين: أولهما سيطرة الاحتكارات الرأسمالية الكبرى على وسائل الإعلام، وقدرتها على توجيه الإعلام، والتحكم في مصادر الأخبار والمعلومات.. وثانيهما تلك القيود المثيرة التي تفرضها الدولة، بحجة عدم الاعتداء على حريات الآخرين، والمحافظة على الأمن الداخلي، والتي غالباً ما تستخدم كذريعة للحد من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم.

قلت: والإسلام.. لقد سمعت أنه يكبت حرية الرأي!؟

قال: هو يكبت حرية الرأي الذي يريد أن يخرب المجتمع، أو يفتت وحدته، أو يحول وجهته عن الله الذي خلقه..

أما الرأي الذي يكون نصحا أو نقدا بناء.. فإن الإسلام لا يكتفي باعتباره حقا.. بل يعتبره واجبا على الكل.. وهو لا يسميه رأيا.. بل يسميه نصيحة، ويشرع له من الأخلاق ما يضعه في قمة قمم الأدب.

قلت: وعيت هذا.. ولكن الإسلام يقمع حرية المعتقد.

قال: الإسلام ينهى عن الإكراه في الدين.. ولا يجيز لأحد أن يكره أحد على أي اعتقاد.

قلت: لا أقصد هذا.. ولكني أقصد أمره بقتل المرتد.. أليس ذلك إكراها (2

__________

(1)  انظر: د. محمد مفتي/ د. سامي الوكيل، الحرية السياسية الغربية وحق إبداء الرأي في التصور الإسلامي.

(2)  رددنا على هذه الشبهة في (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (220)

قال: لا.. النصوص المقدسة للمسلمين لم تذكر قتل المرتدين.. لقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره، فلم أجد فيه آية واحدة تأمر بقتل المرتد.. لم أجد فيه إلا التحذير من مصيره في الآخرة.

اسمع مثلا إلى هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} [آل عمران: 90 - 91]

إنها واضحة في كونها لا تفرض أي عقوبة على المرتد إلا العقوبة الأخروي.

وقد مارس بعض اليهود هذا في عهد النبوة، كما ذكر القرآن: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} (آل عمران)، ومع ذلك لم يتقل محمد واحدا منهم بسبب ذلك.

سكت قليلا، ثم قال: الإسلام لا يتوجه بالعقوبة إلا للمحارب المفسد الذي لا هدف له إلا تخريب المجتمع، وتفتيت وحدة المسلمين، وخرق صفوفهم.. أما المرتد الذي يحتفظ بردته لنفسه، ويحتفظ بكفره لنفسه، فلا يتدخل الإسلام في اختياره.. بل إن محمدا كان يرى المنافقين ويعلم أسماءهم.. ولم يقتل واحدا منهم.

ثم التفت إلي، وقال: أنا أتعجب من المسيحيين الذين يقولون هذا.. ألم يقرأو ما كتبه القديس (أوغستان) إلى الكونت (بونيفاس) يشير عليه باستعمال القوة لردع أهل البدع من المسيحيين، وردهم إلى النصرانية، وقد مثلهم في كتابه ببغال تعض وترفس من يعالجها من مرضها، والذي يعالجها مضطر إلى إيلامها؛ ليستطيع أن يضمد جراحها، ومثّلهم بالطفل الصغير الذي لا تتيسر تربيته بغير الحوط والعقاب، وقال: إن القسوة العادلة هي التي تأتيها كنيسة المسيح ضد الكافرين، لكن القسوة الظالمة هي التي يستعملها الكافرون ضد كنيسة المسيح.

الإخاء

ثمار من شجرة النبوة (221)

قلت: لقد حدثتني عن الحرية.. فحدثني عن الإخاء.

قال: أأحدثك عن الإخاء الذي علمته الثورة الفرنسية للثوار الذين قاموا بها، أم عن الإخاء الذي جاء به الإسلام؟

قلت: حدثتني عن كليهما.

قال: أول مظهر من مظاهر الإخاء الذي علمتنا إياها الثورة الفرنسية هو الاستعمار والنهب والسيطرة على حقوق المستضعفين، ثم قتلهم بعد ذلك.

لاشك أنك تعرف نابليون.. وتعرف رحلته إلى مصر.

قلت: أجل.. في تلك الرحلة أعلنت مصر بداية التحضر.

قال: وفي تلك الرحلة أعلنت الثورة الفرنسية ومعها الغرب جميعا بداية الانحطاط.

سأذكر لك حادثة واحدة تبين لك معنى الأخوة كما تفهمها شعوبنا، وكما يفهمها قادتنا.

لقد واجه الإحتلال الفرنسي عدة ثورات وانتفاضات شعبية خلال السنوات الثلاث التي هيمن فيها على مصر.. وفي 21 تشرين الأول 1798، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من دخول الفرنسيين، نشبت ثورة بدأها شيخ أزهري خرج إلى الأسواق ينادي: أن كل مؤمن موحد بالله عليه بجامع الأزهر، لأن اليوم ينبغي لنا أن نغازي الكفار.

وصارت الأصوات ترتفع من فوق المآذن والسطوح العالية تدعو المسلمين للجهاد، فتجمعت الجماهير حاملة البنادق والأسلحة، وبدأ الناس بمهاجمة الجنود الفرنسيين، كما هوجمت دار العلوم والمستشفى العسكري.

في ذلك الحين، أمر نابليون بتوجيه المدافع المصوبة في القلعة صوب الجامع الأزهر وما حوله من الدور والأسواق، وبدأت بدك المباني بالقنابل، فأثارت الرعب فهرب الناس من المكان.

وفي المساء أحاط الجنود الفرنسيون يصحبهم ثلاثمائة خيال بالجامع، ثم دخلوا فيه، وأخذوا يأسرون من كان فيه من الثوار، ويعبثون به وبمحتوياته عبثاً شديداً.

ثمار من شجرة النبوة (222)

وذهب شيوخ الأزهر لمقابلة نابليون يرجونه الكف عن انتهاك الجامع وقتل الناس، فأخذ يلومهم ثم أعلن العفو عنهم.. لكن إعلانه للعفو كان ظاهرياً، إذ أنه أصدر أوامره خفية بقتل كل من قاد الثورة أو شارك فيها.

وكان من أوامره لأحد قواده: تفضل أيها المواطن القائد بأن تأمر قومندان القاهرة بقطع رؤوس جميع المسجونين الذين أمسكوا وبيدهم سلاح، فليؤخذوا إلى شاطئ النيل، بعد هبوط الظلام، ولتلق جثثهم المقطوعة الرؤوس في النهر.

ثم أمر نابليون بإعدام ثمانين رجلاً من الذين كانوا أعضاء في (ديوان الدفاع) وهو الديوان الذي كان بمثابة مركز القيادة للثورة.

هكذا تصرف القائد المتنور بمبادئ الثورة الفرنسية، إذ حمل معه المقصلة (الجيلوتين) التي أصبحت من أبرز معالم الثورة الفرنسية.. وأعدم عشرات من شيوخ الأزهر وطلابه دون محاكمة أو تحقيق.

وبعد أن تمت عمليات الإعدام والتصفيات الجسدية، أذاع نابليون منشوراً أشار فيه إلى عفوه، إذ بدأه بالتهديد والوعيد، ثم ذكر أنه فعل ما فعل بتقدير الله وإرادته، وأنه لا ينجو أحد من عقابه، وأن لديه قدرة عجيبة على أن يعرف ما في داخل المرء بمجرد أن يراه..

اسمع ما يقول هذا التلميذ النجيب الذي تتلمذ على الثوة الفرنسية: (أيها العلماء والأشراف، أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره، فلا يجد ملجأً ولا مخلصاً ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى.. والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة. وأعلموا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقُدِّرَ في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أُمِرْتُ به. ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته

ثمار من شجرة النبوة (223)

وقضائه. وأعلموا أيضاً أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صدق وحق. إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم، فلترجع أمتكم جميعاً إلى صفاء النية وإخلاص الطوية، فإن منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفاً من سلاحي وشدة سطوتي، ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والذي يفعل ذلك يكون معارضاً لأحكام الله ومنافقاً، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب. واعلموا أيضاً أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم، لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده. ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعايشة، أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يُرَد، وإن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي. فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة، والسلام) (1)

أرأيت الأسلوب الذي يتعامل به قومنا مع أولئك المتحضرين أصحاب القلوب الطيبة

__________

(1)  اتبع نابليون سياسة براغماتية تميل إلى كثير من النفاق، فحاول التقرب من المسلمين والتحبب إليهم، فقد أعلن أنه مسلم في قلبه وأنه سيعتنق الإسلام، ولبس العمامة والقفطان في أحد الأيام، وصلى مع المصلين. وذهب إلى أكثر من ذلك في نفاقه، إذ قال لأحد مشايخ الدين أنه ينوي إقامة حكومة موحدة تقوم على مبادئ القرآن التي هي وحدها المبادئ الحقة القادرة على إسعاد الناس.

ونسي نابليون الفكر الأوربي ومبادئ الثورة الفرنسية، وأخذ يتصرف تصرف المشايخ الصوفية فأشاع أنه شاهد النبي (في منامه وأنه قال له: اجهر بإيمانك، بأركان ديني لأنه دين الله. إن العرب في انتظار هذه العلامة، وسأخضع آسيا كلها لسلطانك. وأخذ يساهم في المواليد النبوية وينفق عليها.

وكان المسلمون يشكون في ادعاءاته وتصرفاته فهو (نصراني ابن نصراني) ـ على حد تعبيرهم ـ وقد حاول إقناع الناس بسلوكه، وذكر يوماً لشيخ الأزهر أنه يرغب باعتناق الإسلام، ولكن الذي يمنعه من ذلك عقبتان، الختان وتحريم الخمر.

وبينما كان نابليون سادراً في ألاعيبه وأكاذيبه، كان هناك قائد فرنسي قد أعلن إسلامه فأصبح اسمه عبد الله مينو. فكان يتلو القرآن ويؤدي الصلاة. فأرسل إليه نابليون يهنئه على (تضحيته) في سبيل القضية (الوطنية) (انظر: القانون الدولي والقانون الإسلامي، رسالة ماجستير قدمت إلى قسم الدراسات الإسلامية في جامعة ليدن بهولندا)

ثمار من شجرة النبوة (224)

والإيمان العظيم..

هذا ما علمتهم أفكار التنوير التي حملتها الثورة الفرنسية.

أما ما علمتهم المسيحية.. فلا أحتاج إلى ذكره لك.. فأنت تعرف الحروب الصليبية.. لقد قادها رجال دين.. لينفخوا فيها الحقد المسيحي..

لم يكتف تلاميذ الثورة الفرنسية النجباء بإعلان أخوتهم للعالم بهذا الأسلوب..

لقد ساروا إلى الأرض يقسمونها كما يحلو لهم.. وكأنها تركة لأبيهم الذي مات، فهم يرثونها عنه.. أما أهل الأرض من البسطاء والمستضعفين، فلهم مصيران لا ثالث لهما: إما الموت.. وإما السخرة.

أما السخرة.. فلن أحدثك عنها، فهم يسمونها أسام كثيرة يحرفون بها الحقائق.

وأما الموت.. فإن جرائم الإبادة التي نالت البشر في الفترة التي أعلنت فيها حقوق الإنسان، والأخوة الإنسانية لا تعدلها جرائم البشر في جميع فترات تاريخهم.

لقد بلغ عدد الذين أبادتهم بريطانيا العظمى من أجل إخضاع الصين لتاجها أكثر من عشرين مليون إنسان.

وكانت فرنسا تستعمر الجزائر رغم إرادة شعبها الذين قاوموا الاستعمار بعنف، ولم تستجب فرنسا لنداء الحرية المدوي في صفوف الشعب الجزائري، إلا بعد أن قتلت من ذلك الشعب المضطهد ما يقارب المليونين نسمة وبصورة بشعة قاسية.

وفي أثناء حرب الجزائر طلب حكام فرنسا من القائد العام للجيش أن يحول أجمل مسجد في الجزائر إلى كنيسة، فوقع اختياره على مسجد الحي الأورلي في القشارة فتقدمت مجموعة من آلية الهندسة للسلاح الفرنسي إلى المسجد، وكان الوقت وقت صلاة المغرب، وكان المسجد غاصاً بالمصلين الذي قدر عددهم بـ (1400) مصلٍّ، فدخلوا عليهم وقتلوا فيهم إلى منتصف الليل، حيث أبادوهم جميعاً.

ثمار من شجرة النبوة (225)

وقد أحصي عدد القنابل التي ألقاها الطيران الأميركي من سنة 1961 إلى سنة 1972 م زهاء ستة ملايين وسبعمائة وسبعة وعشرين ألف طن من القنابل على منطقة الهند الصينية وحدها.

وألقت الطائرات الأميركية واحد وسبعين مليون لتراً، من المواد الكيمياوية السامة على منطقة في جنوب فيتنام توازي مساحة إيرلندا الشمالية.

والمثال الواضح الذي يتفق عليه الجميع.. ليظهروه على أنه المجرم الوحيد.. هتلر.. تعرف طريقة تعامله الأخوي مع الشعوب.

قلت: أجل.. لقد فعل ما فعل باليهود.. لقد كاد يبيدهم..

قال: وهذا من الجرائم التي يتفنن إخواننا التلاعب بها، ليتاجروا بها في إبادة أولئك المسلمين البسطاء المستضعفين.

قلت: أتنكر إبادة هتلر لليهود (1

قال: بل أنكر نزعة التفرقة بين اليهود وغيرهم في هذا.. أليس البشر جميعا إخوة؟

قلت: بلى..

قال: فلم يفرق بين اليهود والغجر؟

قلت: وما علاقة اليهود بالغجر؟

قال: لقد نال الغجر المستضعفين من الإبادة ما نالهم.. ولكن لا أحد يتحدث عنهم.. سأذكر لك بعض ما وصفت به إحدى منشورات اليونسكو ما حصل للغجر المساكين (2):

لقد بدأ الاهتمام بالبحث في الخصائص العِرقية للغجر، فأعلن الدكتور هانز جلوبكه ـ أحد

__________

(1)  ارتبطت الإبادة النازية بـ (اليهود) بحيث استقر في الأذهان أن النازيين لم يبيدوا سوى اليهود، وقد ساعد الإعلام الغربي والصهيوني على ترسيخ هذه الفكرة حتى أصبح دور الضحية حكراً على اليهود.. بل تطور الأمر إلى حد أنه إذا ما أراد باحث أن يبيِّن أن الإبادة النازية لم تكن مقصورة على اليهود، وإنما هي ظاهرة شاملة ممتدة تشمل الغجر والسلاف والبولنديين وغيرهم، فإنه يصبح هدفاً لهجوم شرس (انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري)

(2)  نقلا عن الموسوعة اليهودية للمسيري.

ثمار من شجرة النبوة (226)

المساهمين في صياغة قوانين نورمبرج ـ عام 1936 ـ أن الدم الذي يجري في عروق الغجر (دم أجنبي). ثم صنَّفهم الأستاذ هانز ف. حينثر في فئة مستقلة تمثل مزيجاً عرْقياً غير محدَّد (إذ لم يستطع نفي أصلهم الآري). وبلغت الخصائص العرْقية لدى الغجر من الأهمية درجة أهلتها لأن تصلح موضوعاً لرسالة دكتوراه، ومما قالته إيفا جوستين مساعدة الدكتور ريتّر في قسم الأبحاث العِرقية بوزارة الصحة (عند مناقشة رسالتها) إن الدم الغجري (يُشكِّل خطراً بالغاً على صفاء الجنس الألماني)

ووجَّه طبيب يُدعَى الدكتور بورتشي مذكرة إلى هتلر يقترح فيها فرض الأشغال الشاقة على الغجر وتعقيمهم بالجملة نظراً لأنهم (يُشكِّلون خطراً على نقاء دم الفلاحين الألمان)

وفي 14 ديسمبر عام 1936، صدر قرار أدى إلى تفاقم أوضاع الغجر، إذ وصمهم بأنهم (مجرمون معتادون على الإجرام)

وفي نهاية عام 1937 وخلال عام 1938 شُنت حملات اعتقال جماعية عديدة ضد الغجر، وخُصِّص لهم جناح في معتقل بوخنولد.

وفي عام 1938، أصدر هملر بنفسه أمراً بنقل مقر المركز الوطني لشئون الغجر إلى برلين.. وفي السنة نفسها اعتُقل ثلاثمائة غجري كان قد استقر بهم المقام في قرية مانفويرت حيث كانوا يملكون الحقول والكروم.

وقد أمر هملر بتصنيف الغجر في الفئات التالية: غجري صرف (Z)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الغجري (ZM+)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الآري (ZM-)، وخلاسي يتساوى فيه العرْقان الغجري والآري (ZM).

ويميِّز المؤرخ ح. بلِّنج في كتابه (ألمانيا وإبادة الجنس) بين أساليب مختلفة لإبادة الجنس تتمثل في الإبادة عن طريق إزالة القدرة على الإنجاب واختطاف الأطفال، والإبادة عن طريق الزج في المعتقلات، والإبادة عن طريق الإفناء.

ثمار من شجرة النبوة (227)

قلت: لقد اقشعر جلدي مما ذكرت..

قال: أنا لم أذكر لك إلا مثالا واحدا عن بعض جرائم الإبادة التي تهدف إلى تنقية العرق.. أما جرائم الإبادة التي تهدف إلى نشر ديمقراطية الدماء.. فاذهب وسل عنها أفغانستان والعراق وفلسطين.. بل سل عنها جميع عوالم المستضعفين ليخبروك بما يفعل بهم عالم المستكبرين.

قلت: يكفيني ما حدثتني به.. لقد جعلتني أنظر إلى تاريخ قومي بخجل.

قال: ليس إنسانا من لم يخجل من جرائمه، أو من جرائم قومه.

قلت: فحدثتني عن الأخوة التي دعا إليها الإسلام.. والتي عاشها المسلمون.

قال: ليس هناك في الأديان أخوة إلا الأخوة التي دعا إليها الإسلام.. وليس هناك في التاريخ أخوة إلا الأخوة التي مثلها المسلمون.

أما الإسلام.. فقد اعتبر البشر جميعا إخوة.. مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم وأديانهم.

ولهذا تجد القرآن ينادي البشر بهذا الوصف: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (لأعراف:26).. {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:27)..: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الاسراء:70)

بل إنه اعتبر الأنبياء الكرام إخوة لأعدائهم الذين كانوا يسومونهم الخسف فقد اعتبر قوم نوح إخوانا لنوح: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء:106).. واعتبر قوم هود إخوانا لهود: {) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء:124).. واعتبر ثمود إخوانا لصالح: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء:142)

وقد روي أن محمدا كان يقول دبر كل صلاة: (اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد

ثمار من شجرة النبوة (228)

أنك الله وحدك لا شريك لك.. اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك.. اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة) (1)

ألا ترى كيف اعتبر محمد إقرار مبدأ (الأخوة) بعد الشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولمحمد بالعبودية والرسالة!؟

قلت: ولكن القرآن يتحدث عن أخوة الدين.. ففيه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة:11).. وفيه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (الأحزاب:5)

بل إن القرآن حصر علاقة المؤمنين في الأخوة، ففيه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10)

قال: هذه مرتبة من مراتب الأخوة..

فالإسلام يعتبر المسلمين جميعا ـ مهما تعددت أوطانهم وأعراقهم وألوانهم ـ أسرة واحدة لها أب روحي واحد هو محمد.. ولها دين واحد هو الإسلام.

وهذه الأخوة هي العلاقة الوحيدة التي تحكم بين المسلمين جميعا.. فليس في المسلمين أي عنصرية كتلك العنصرية التي تمتلئ بها شعوب الأرض.

وقد زخر التراث الإسلامي بجميل الأخلاق وعظيم الآداب التي طبعت علاقات المسلمين بعضهم ببعض.. والتي استوحت معانيها من نصوص القرآن ومن حديث محمد، فقد قال معبرا عن أصل أصول ذلك: (: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (2)

قلت: ولكن هذه العلاقات محصورة بين المسلمين فيما بينهم..

قال: هذه مرتبة من مراتب العلاقات.. وهي مرتبة ضرورية.. ألا ترى أن الناس جميعا

__________

(1)  رواه أحمد.

(2) ) البخاري:1/ 10.

ثمار من شجرة النبوة (229)

يمارسون في علاقاتهم هذا الأسلوب.. فيفرقون بين إخوانهم وأصدقائهم وأقاربهم وأهل بلدهم وسائر الناس!؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فقد اعتبر الإسلام هذا النوع من الأخوة مرتبة من المراتب.. وهي لا تلغي غيرها من المراتب، كما لا تلغي الصداقة ولا القرابة غيرها من العلاقات.

قلت: عرفت القسمين اللذين تعامل معهما الإسلام معاملة الأخوة.. لكن هناك من تعامل معهم معاملة العداوة.. وأمر المسلمين بمعاداتهم واعتبر ولاءهم من نواقض الإخلاص للإسلام.

قال: أولئك هم المحاربون الظالمون المعتدون..

قلت: فكيف تخلفت أخوة الإسلام عن هؤلاء؟

قال: هي لم تتخلف.. ولكنهم هم الذين تخلفوا عنها..

الإسلام يتعامل بمنطق الرحمة مع الجميع.. حتى أن أخص خصائص محمد التي وصفه بها القرآن هي كونه رحمة للعالمين.

ولذلك فإن الإسلام مع المحاربين يتلمس كل السبل لعدم وقوع الحرب بينه وبينهم.. ولكن الحرب إذا فرضت نفسها.. ولم يكن هناك مندوحة عنها أجازها الإسلام أو فرضها بحسب الظروف والأحوال مع آداب كثيرة وأخلاق عظيمة لم أر لها مثيلا في أي دين من الأديان..

المساواة

قلت: فحدثني عن المساواة.

قال: لقد درست عن كثب مجتمعات كثيرة متنوعة.. فلم أجد مجتمعا يمتلئ بالتواضع

ثمار من شجرة النبوة (230)

كالمجتمع الإسلامي.

قلت: ما علاقة التواضع بالمساواة؟

قال: لا يمكن أن تنشأ المساواة إلا في ظلال دين أو فلسفة تعتبر التواضع قيمة من قميها الكبرى.. وخلقا من أخلاقها الرفيعة..

ذلك أن الطبقية لا تنشأ إلا في ظلال المتكبرين.. فالمتكبرون ـ بالقوانين التي يسنونها لأنفسهم، أو يسنها لهم مجتمعهم ـ هم الذين يحولون المجتمعات إلى طبقات يعتلون هم أعلى درجاتها.

لقد بحثت في تاريخ أوربا في العصور الوسطى (1) ـ في الوقت الذي كان فيه المسلمون يدا واحدة وقلبا واحدا ـ فوجدت طبقات النبلاء أو الأشراف، ورجال الدين والشعب، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف بعضها عن بعض، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر.

فرجال الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم، وكان لهم في تلك العصور سطوة كبرى، فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة، يريد أن يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب، ويريدون هم أن ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم. وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي وقفها عليهم المتدينون، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على الناس، بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان.

أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض، بحيث يولد الطفل فإذا هو شريف منذ مولده، ويظل شريفاً حتى يموت، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها في حياته، وقر بها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم.

أما امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على الشعب الموجود في الإقطاعية.. كانوا هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي القانون الذي

__________

(1)  انظر: شبهات حول الإسلام، محمد قطب.

ثمار من شجرة النبوة (231)

ينفذ على الشعب، وكانت تتكون منهم المجالس النيابية التي تشرع للبلاد، فكانت تشريعاتهم لا تهدف إلا حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء صفة القداسة عليها.

أما الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات، وإنما عليه الواجبات كل الواجبات، وكان يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل.

ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم، هي الطبقة البرجوازية. وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب، قامت الثورة الفرنسية التي ألغت - في الظاهر - نظام الطبقات، وأعلنت - نظرياً - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.

وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة، ولكن من وراء ستار، ومع بعض التعديلات التي اقتضاها التطور الاقتصادي، ولكن الجوهر لم يتغير، فهي طبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم، وعلى الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات الديمقراطية، فإن الرأسمالية تعرف طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات، وتنفذ بوسائلها الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف العنوانات.

بل ما يزال في إنجلترا ـ أم الديمقراطية كما كان يقال ـ مجلس يسمى بصفة رسمية (مجلس اللوردات)، وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما عدا الابن الأكبر، منعاً لتفتيت الثروة، أي محافظة على ثروات (الأسر) لكي تبقى قائمة لا تزول، ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى.

هذا هو نظام الطبقات، يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان، وتملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فتشرع لحماية نفسها، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة.

قلت: هذا في غير الإسلام.. فحدثني عن المساواة في الإسلام.

ثمار من شجرة النبوة (232)

قال: ليس هناك دين ينظر للبشر جميعا بمنظار واحد كالإسلام.. فهو يعتبرهم جميعا عبادا لله.. وأفضلهم أقربهم لله، وأكثرهم نفعا لعباده (1).

لقد نص القرآن على هذا في مواضع كثيرة.. فهو يرد على اليهود والمسيحيين الذين اعتبروا أنفسهم أبناء لله، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)

وبين عدالة الجزاء الإلهي الذي يتعامل مع العباد بحسب أعمالهم لا بحسب أمانيهم، فقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)

وقد رسخ محمد بسلوكه وهديه هذه المعاني.. حيث كان يصحبه العرب والعجم، والبيض والسود، والأحرار والرقيق، ولم يكن يميز أحدهم عن الآخر.

وقد ورد في الحديث: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب) (2)

وفي حديث آخر، قال: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون) (3)

__________

(1)  في الحديث سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أي الناس أحب إلى الله؟) قال: (أنفع الناس للناس) رواه الطبراني وغيره بألفاظ متقاربة، وهذا لفظ الطبراني، انظر: المقاصد الحسنة ص (200 – 201)

(2)  المعجم الكبير للطبراني.

(3)  رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف.

ثمار من شجرة النبوة (233)

وفي حديث آخر قال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) (1)

وفي حديث آخر: (أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا) (2)

قلت: فكيف عمق الإسلام قيمة المساواة في نفوس المسلمين؟

قال: بتربيتهم على التواضع لله ولخلق الله..

لقد اعتبر القرآن الكبر الحجاب الأكبر بين العباد ومعرفة ربهم والاتصال به، فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146)

بل أخبر أن المتكبرين لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (لأعراف:40)..: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83)

وقد ربى محمد في أصحابه هذا الخلق العظيم.. فكان يحثهم عليه بكل الأساليب، ففي الحديث القدسي: (إن الله تعالى أوحى إلي أن توضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا ينبغي أحد على أحد) (3)

__________

(1)  أحمد.

(2)  أحمد.

(3)  رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.

ثمار من شجرة النبوة (234)

وفي حديث آخر: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله) (1)

وفي حديث آخر: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة) (2)

وفي حديث آخر: (من مات وهو برئ من الكبر والعلو والدين دخل الجنة) (3)

وفي حديث آخر: (من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله، ومن ارتفع عليه وضعه الله) (4)، وفي رواية: (من تواضع تعظيما يحفظه الله، ومن تواضع خشية يرفعه الله)

قلت: ولكن الإسلام ربى في نفوس أتباعه العزة.. وهي نوع من أنواع الكبر.

قال: لا.. العزة ليست كبرا.. ويستحيل أن تكون كبرا.

العزة هي امتلاء النفس تعظيما للحق الذي هداها الله إليه، فلا تتشوف لغيره، والمعتز بالحق هو الذي يسعى لإيصاله لغيره من غير أن يستعلي عليهم به.

لقد أخبر محمد (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك) (5)

وفي حديث آخر: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: (ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله) (6)

__________

(1)  رواه مسلم والترمذي.

(2)  رواه مسلم والترمذي.

(3)  رواه الترمذي والنسائي وغيرهما.

(4)  رواه الطبراني.

(5)  مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة عن جندب باب النهي عن تقنيط الانسان من رحمة الله وبرقم (2621).

(6)  أبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن أبي قتادة.

ثمار من شجرة النبوة (235)

وفي حديث آخر: (قال رجل لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله إلى نبي من الانبياء أنها خطيئة، فليستقبل العمل) (1)

وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبدا، فقال الله عزوجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فاني قد غفرت له) (2)

وقد سمى محمد هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين) (3)، فقال: (ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار) (4)

بل أخبر عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال: (إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم) (5)، وقال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم) (6)

-\--\-

ما وصل (مارسيل بوازار) من حديثه إلى هذا الموضع حتى اغرورقت عيناه بدموع لم يملك حبسها، فقلت: ما يبكيك؟

نظر إلى الشجرة، وقال: أبكي على هذه الشجرة المسكينة.. إنها تئن.. فلا يسمعها أحد..

قلت: ما تطلب؟

قال: تطلب تلك التعاليم العالية الرفيعة التي نادى بها محمد، ولا زال ينادي بها..

تطلب أن يعود الإنسان لغابة الإنسان..

__________

(1)  الطبراني في الكبير عن جندب.

(2)  الطبراني في الكبير.

(3)  معنى يتألى: يحلف والالية اليمين.

(4)  البخاري في التاريخ.

(5)  مالك وأحمد ومسلم وأبو داود.

(6)  أحمد ومسلم وأبو داود.

ثمار من شجرة النبوة (236)

تطلب أن ترمى تلك الوساوس ـ التي نفختها الشياطين في دعاة جهنم ـ إلى هاوية العدم ليعود للإنسان اعتباره الذي ألغي.. وتعود للإنسان حقيقته التي زيفت.

قلت: فما الذي يحول بين الإنسان وتعاليم محمد؟

قال: كلهم يرفعون أصواتهم ليملأوا الدنيا ضجيجا.. فلا يسمع أحد صوت محمد.. إنهم يمارسون ما فعله مشركو قريش حين قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26)

قلت: إني أعجب لك.. كيف تقول هذا.. ومع ذلك لم أرك في يوم من الأيام ترقى منبرا من المنابر لتعلن إسلامك.

ابتسم، وقال: لله من المنابر ما لا تراه.. ولإعلان الإسلام من الصيغ ما لا تسمعه.

قلت: فأنت مسلم إذن!؟

قال: كم وددت لو كنت كذلك..

قلت: فما الذي يحول بينك وبينه!؟

قال: أنسيت أخاك التوأم!؟

قلت: ما باله.. لقد تركته في ألمانيا بألف خير وعافية.

قال: إن لي توأما مثله.. لا يختلف عنه في شيء.. يضع ألف حجاب بيني وبين محمد.. ولكني يوشك أن أتخلص من حجبه جميعا لتشملني أنوار تلك الشمس التي شملت العالمين.

قال ذلك، ثم انصرف ليتركني بجانب تلك الشجرة أمسح بعض آلامها.. وفي ذلك الحين تنزلت علي أشعة جديدة، اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمار من شجرة النبوة (237)

خامسا ـ روحانية

في اليوم الخامس من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرقة التي قطفت على يديها ثمرة الروحانية من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)

وعرفت بها سر قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن وظيفة كبرى من وظائف النبوة هي وظيفة التزكية وملأ القلوب بمحبة الله والتوجه إليه..

-\--\-

كان من ضمن الأسماء الموجودة بالدفتر الذي سلمني إياه المرشد المستشرقة (آنا ماري شميل) (1).. وقد وضع بجانب اسمها هذه الكلمة (المارقة)

__________

(1)  هي Annemarie Schimmel (ولدت في 1922)، وهي من أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين، بدأت دراسة اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وتتقن العديد من لغات المسلمين وهي التركية والفارسية والأوردو.

درّست في العديد من الجامعات في ألمانيا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي أنقرة، وقد اهتمت بدراسة الإسلام، وحاولت تقديم هذه المعرفة بأسلوب علمي موضوعي حتى نالت أسمى جائزة ينالها كاتب في ألمانيا تسمى جائزة السلام.

لكن بعض الجهات المعادية للإسلام لم يرقها أن تنال هذه الباحثة المدافعة عن الإسلام في وجه الهجمات الغربية عليه، فحاولوا أن يمنعوا حصولها على الجائزة.

وقد أدرك مكانة هذه المستشرقة العلاّمة والداعية المسلم في أوروبا الدكتور زكي علي منذ أكثر من أربعين سنة حين كتب يقول: (وعلى رأس المحررين (لمجلة فكر وفن) الأستاذة الألمعية الدكتورة آن ماري شميل المتخصصة في دراسة محمد إقبال حكيم وشاعر باكستان.. وترجمت إلى الألمانية له ديوان (جاويد نامة) وكتاب (رسالة المشرق عن الفارسية) وهي أستاذة بجامعة بون وغيرها ومن أكابر علماء ألمانيا.. وتنصف الإسلام والمسلمين كثيراً جزاها الله خيراً)

وقال عنها ـ أيضاً ـ أنها أصدرت العديد من الكتب منها كتاب (محمد رسول الله) بسطت فيه مظاهر تعظيم وإجلال المسلمين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عبد اللطيف الجوهري. من أعلام الدعاة في أوروبا: العلاّمة الدكتور زكي علي. (جدة: عالم المعرفة 1418 - 1988) ص 123 والمقالة التي كتبها الدكتور زكي علي نشرت في مجلة البريد الإسلامي في 25/ 6/1963)

وقد امتدحها رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا بأنها ما زالت تواصل كتاباتها الموضوعية وترجماتها عن الإسلام (عكاظ، عدد 10961، ربيع الآخر 1417، (16 أغسطس 1996 م)

ثمار من شجرة النبوة (238)

وقد كان هذا اللقب الذي وضع أمام اسمها من أكبر داوعي اهتمامي بلقائها، والحديث معها عن سبب هذا المروق الذي ينسب لها.

في ذلك اليوم المبارك الذي التقيتها فيه كنت أسير في حقل لعباد الشمس.. وكنت أنظر إليه، وهو يحول وجهته للشمس حيثما تحولت، فتعجبت من ذلك المنظر، ورحت أحاول تفهم سر ذلك التحول.. أو رحت أبحث عن المغناطيس الذي يجذب وجه عباد الشمس للشمس، أو رحت أبحث عن الدواليب التي تحرك وجه عباد الشمس نحو الشمس.

في تلك الأثناء سمعت صوتا حانيا يردد:

أحبك حبين حب الهوى... وحباً لأنك أهْلٌ لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي... بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهلٌ له... فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

كان صوتا رقيقا عذبا روحانيا.. فانجذبت إليه، كما انجذبت زهرة عباد الشمس للشمس..

ثمار من شجرة النبوة (239)

على عشب ذلك الحقل رأيتها.. رأيت (آنا ماري شميل)، ولم أكن أعرفها، مع كونها من أهل بلدي القلائل بجامعة السوربون.. اقتربت منها، وقلت: هل عادت رابعة العدوية إلى الحياة؟

قالت: أنا لست رابعة.. ولكني عاشقة لرابعة، كعشق هذه الأزهار للشمس.

قلت: وما الذي جذبك لها؟

قالت: الحب.. الحب هو أعظم جاذب في هذا الوجود.. ولم أر أحدا يتحدث عنه بمثل تلك اللوعة التي تتحدث عنه بها رابعة، وإخوانها من القديسين.

قلت: لا شك أنك لا تعرفين المسيحية.. فالمسيحية هي دين الحب.. وفي كتابها المقدس تلك الآية التي لا نظير لها في أي كتاب من الكتب المقدسة التي تملأ الدنيا.

في الكتاب المقدس هذه العبارة المقدسة (الله محبة)

ابتسمت، وقالت: اسمح للمارقة أن تجيبك لتؤكد لك من مروقها ما كنت تجهله.

قلت: كيف تحولت رابعة إلى مارقة؟

قالت: يستطيع عدوك أن يصفك بما يشاء، وباللقب الذي يشاء ما دام يرى لنفسه سلطة وضع الألقاب.

قلت: أأنت (آنا ماري شميل).. تلك المرأة الألمانية التي تحدت الأعراف، فراحت تعلن حبها للإسلام؟

قالت: أجل.. ولذلك لقبوني بالمارقة.. وما أحلى هذا الاسم إذا كان من أعدائك.. لأنه يعلن انتصارك عليهم.

قلت: ولكن ما الذي جذب قلبك إلى حب الإسلام والدفاع عنه مع كونك ـ حسبما أعلم ـ مسيحية نفسا وأبا وجدا.

قالت: ألا ترى إلى هذه الزهرة الجميلة، وهي تولي وجهها إلى الشمس حيثما تولت؟

قلت: أجل.. وقد كنت قبل ساعة، أتأملها، وأبحث عن الدواليب التي تحركها جهة

ثمار من شجرة النبوة (240)

الشمس.

قالت: فقد بحثت عن تلك الدواليب.. ووجدتها.. ورحت أبحث في الأديان والمذاهب والأفكار والحضارات.. فلم أجد تلك الدواليب إلا في الإسلام..

محمد هو الرجل الوحيد في العالم الذي يملك أسرار الدواليب التي يتحول بها البشر إلى أزهار عباد شمس تتحول وجوهها لا إلى الشمس.. وإنما إلى المصدر الذي جاءت منه الشمس وجاء منه كل شيء.

لقد جاء في القرآن: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:115)

محمد هو الرجل الوحيد في العالم الذي جاء بمنظومة كاملة تفسر حقائق الوجود، وتملأ النفس والعقل والقلب والروح والسر وجميع اللطائف بها.

قلت: ولكنك نسيت ما ورد في رسالة يوحنا، فقد قال: (أيها الاحباء لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة من الله وكل من يحب الله فقد ولد من الله) (يوحنا 1/ 4:7)

وقد كتب يوحنا هذه العبارة التي لا يوجد مثلها في أي كتاب من الكتب المقدسة: (لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به) (يوحنا 3: 16)

ابتسمت، وقالت: لقد كنت مثلك تبهرني مثل هذه العبارات الجميلة.. لكني عندما حاولت أن أعيش معانيها لم أجد فيها من المعاني الروحانية اللذيذة ما يمكن أن أعيشه.

لاحظ بعين العقل والمنطق والروح تلك العبارة الأخيرة التي بهرتك كما بهرت الملايين من غير أن يعرفوا معناها.

ألا ترى أنها تحمل تصويرا مشوها عن الله يصرف القلوب عنه.. بل قد يملؤها ببغضه!؟

قلت: ما تقولين؟

قالت: أرأيت لو أنك.. وأنت صاحب الدار.. دعوت ضيوفا إلى بيتك لتطعمهم من

ثمار من شجرة النبوة (241)

طعامك، وتسقيهم من شرابك.. ثم بدر من أحد ضيوفك ما أساء إليك.. فنظرت إليهم نظرة غضب تريد أن تبطش بهم.. ثم سرعان ما تحولت إلى حليم رحيم.. ولكنك لم تعف عنهم.. وإنما ذهبت إلى ولدك الوحيد لتضعه على الصليب، وتقتله شر قتلة أمام أعين ضيوفك، فإذا سألوك عن سر ما تفعله، قلت لهم: لأجل أن أكفر عن خطاياكم.

فإذا سألوك: لم؟.. ألا يمكن أن تكفر عن خطايانا بغير هذا الأسلوب؟

قلت لهم: لقد وضعت قانونا، بأني لا أكفر الخطايا إلا بالدم..

فإذا سألوك: ألا يمكن أن تتنازل عن قانونك هذه المرة؟

قلت: لا..

فإذا سألوك: لم؟

قلت: لأني عادل.

فإذا سألوك: فلم عاقبت من لم يستحق العقوبة إذن؟

قلت: لأني رحيم.

التفتت إلي، وقالت: ألا ترى هذا نوعا من الجنون!؟

هل الذي يحب العالم لا يحب ابنه الوحيد.. ثم كيف يحب الله العالم، ولا يحب ابنه.. ثم.. هل الذي يحب العالم يقتل ابنه الوحيد!؟

ثم.. كيف نثق بإله لم يشفق على ابنه من أجل غفران خطيئة مذنب آخر؟ كما يقول بولس في (رومية 8: 32): (الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لاجلنا اجمعين)

لقد نسب بولس إلى الله عدم الشفقة.. أي القسوة.

ألا توجد طريقة أخرى عند إله المحبة بدلاً من قتل ابنه المزعوم لإنقاذ غيره!؟

وهل اقتضت رحمته ألا يُعالج هذه الجريمة إلا بجريمة أبشع منها؟

وهل صحيح ما يقوله بولس الذي حجر على الله المغفرة في رسالته إلى العبرانيين (9:

ثمار من شجرة النبوة (242)

22)، فقال: (وكل شئ تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة) (1).. أهذا إله يمكن أن يكون محبوبا.. الإله العاشق للدماء.. الذي لا يكفر الخطايا إلا بعد أن يسفك الدماء؟

ثم كيف يتطهر العباد الذين لم يجاهدوا أنفسهم في ذات الله.. أبالانتحار.. حتى يقدموا قرابين لله الذي يحب الدماء.. أم بالإيمان والذكر والعبادة والتوجه!؟

لم أجد ما أقول، فقالت: إن دينا يقوم على مثل هذه العقيدة يستحيل أن تصدر منه أي روحانية شفافة صادقة مترفعة.. ذلك أن قوانين الروحانية لا تنسجم إلا مع قوانين العقلانية.. فلا تناقض بين العقل والروح.

قلت: لقد ذكرت لي أنك اكتشفت أسرار الدواليب التي تحرك عباد الشمس.

قالت: لقد اكتشفت أسرار الدواليب التي تحرك القلوب نحو الله.. وهي ما تحتاج أن تعرفه.

قلت: فما هي؟

__________

(1)  وهذا الذي قاله بولس، ويتعلق المسيحيون به.. بل يعتبرونه من أصول عقائدهم، وعليه تقوم حياتهم الروحية، يخالف ما ورد في الكتاب المقدس، فقد جاء في (هوشع: 6: 6 - 7): (إني أطلب رحمة لا ذبيحة، ومعرفتي أكثر من المحرقات. 7 ولكنكم مثل آدم، نقضتم عهدي)

وفيه (هوشع 14: 1 - 3): (ارجع تائبا يا إسرائيل إلى الرب إلهك، لأنك قد تعثرت بخطيئتك. احملوا معكم كلام ابتهال وارجعوا إلى الرب قائلين له: انزع إثمنا، وتقبلنا بفائق رحمتك، فنزجي إليك حمد شفاهنا كالقرابين. إن أشور لن تخلصنا، ولن نعتمد على خيول مصر لإنقاذنا، ولن نقول للأوثان صنعة أيدينا: (أنتم آلهتنا) لأن فيك وحدك يجد اليتيم رحمة)

وفي (ميخا 6: 6 - 8): (يارب: بماذا أتقدم عندما أمثل أمام الرب وأسجد في حضرة الله العلي؟ هل أتقدم منه بمحرقات وبعجول حولية؟ هل يسر الرب بألوف أنهار زيت؟ هل أقرب بكري فداء إثمي وثمرة جسدي تكفيرا عن خطيئة نفسي؟ لقد أوضح لك الرب أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يبتغي منك سوى أن تتوخى العدل، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعا مع إلهك)

وفي (مزمور 40: 6): (لم ترد أو تطلب ذبائح ومحرقات عن الخطيئة، لكنك وهبتني أذنين صاغيتين مطيعتين)

وبهذا يتبين أن ما ذكره بولس من أخطر البدع التي حرفت المسيحية.

ثمار من شجرة النبوة (243)

قالت: ثلاث: الربانية.. والعقلانية.. والإنسانية.

قلت: فهل ستحدثيني عنها؟

قالت: سأحدثك بخلاصة خلاصة ما وجدته من مقارناتي بين الإسلام وغيره من الأديان والفلسفات والمذاهب.. لتعرف سر مروقي (1).

الربانية

قلت: فلنبدأ حديثنا عن الربانية.

قالت: لقد بحثت في التوجهات الروحية المختلفة.. فوجدت كل طائفة من الطوائف تولي وجهها نحو شمس من الشموس الآفلة.. ثم بحثت في وجهة المسلمين، فوجدتها جميعا موجهة نحو الشمس التي لا تأفل.

لعلك تعرف قصة إبراهيم في القرآن.. والتي ورد فيها: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} (الأنعام)؟

قلت: أجل.. فما فيها مما نحن فيه؟

قالت: فيها كل ما نحن فيه.. إن هذه الآيات تلخص السير الروحي للمسلمين.. فالسير الروحي للمسلمين لا يتوجه إلا لله.. كما قال القرآن: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162)

__________

(1)  انظر التفاصيل المرتبطة بالجانب الروحي في الإسلام في رسالة (سلام للعالمين)

ثمار من شجرة النبوة (244)

وذلك هو معني الإسلام، كما جاء في القرآن بعد الآية السابقة: {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:163)

بينما سيرنا نحن المسيحيين لا يتوجه إلا نحو أنفسنا.. فنحن بتركيزنا على الخطايا والفداء والكفارة ونحوها قد وضعنا حجبا بيننا وبين الله.

بينما لا تشكل الخطايا في نظر الإسلام إلا إفرازات للطبيعة الإنسانية.. ويمكن تجاوزها بالتوبة الصادقة.. وقد جاء في القرآن: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)

بل نحن لم نكتف بذلك.. لقد جعلنا من ديانتنا ديانة كهنوتية تفتقر إلى الوسائط الكثيرة.. بينما المسلمون يرتبطون بالله من أول لحظة، فليست لديهم أي وسائط بينهم وبين الله، وقد قال القرآن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)

قلت: واليهود.. هم أيضا أصحاب ديانة سماوية.

قالت: اليهود يعبدون أنفسهم.. لا الله.. ولذلك فإن شموسهم منحنية انحناءة بشعة مشوهة تصور ما تمتلئ به قلوبهم من أحقاد.

قلت: والمسلمون!؟

قالت: كل عارفي المسلمين وأوليائهم وقديسيهم لا تلهج ألسنهم إلا بذكر الله ومحبة الله وتعظيم الله..

سأل الشبلي جارية حبشية، فقال: من أين؟ قالت: من عند الحبيب، قال: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب، قال: ما تريدين من الحبيب؟ قالت: الحبيب.

إن هذه الجارية عبرت خير تعبير عن وجهة أولياء أمة محمد.. فهم لا يعرفون إلا الله، ولا يبحثون إلا عن الله.

ثمار من شجرة النبوة (245)

وقد قال مثلها ابن عطاء الله يحث المريدين على توحيد الوجهة: (كن أيها العبد إبراهيمياً، فقد قال أبوك إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76).. وكل ما سوى الله آفل إما وجوداً وإما إمكاناً، وقد قال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج:78).. فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم، ومن ملة إبراهيم رفع الهمة عن الخلق، فإنه يوم زج به في المنجنيق تعرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما إلى الله فبلى، قال: فاسئله، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.. فانظر كيف رفع إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ همته عن الخلق ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال من الله، بل رأى الحق سبحانه أقرب إليه من جبريل، ومن سؤله، فلذلك سلمه من نمروذ ونكاله، وأنعم عليه بنواله وأفضاله، وخصه بوجود إقباله)

وقال في حكمة من حكمه الجليلة يحذر من الانقطاع في الطريق عن الله بأي شاغل من الشواغل، أو زخرف من الزخارف: (لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم:42)

والعارفون من المسلمين يعتبرون سكون الإنسان للأشياء وعدم عبوره منها وقوفا بل سقوطا، فعن القاسم بن عبد الله البزار قال سمعت سري بن المغلس يقول: (لو أن رجلا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار، عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار، فخاطبه كل طائر منها بلغته، وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يدها أسيرا)

قلت: ألا ترين في هذا خطورة على إنسانية الإنسان وعلاقته بالأكوان؟

قالت: لا.. في هذه الوجهة تجتمع الإنسانية مع العقلانية مع الربانية..

فالعارف لا يحجب عن نفسه وعن الكون احتقارا لنفسه أو احتقارا للكون.. وإنما هو

ثمار من شجرة النبوة (246)

يعيد في ذهنه نسبة الكون إلى صاحبه.. وبذلك تنتظم أموره جميعا..

العارف ينظر إلى الكون.. ويعيش الكون..

ولكن نظرته تختلف كثيرا عن نظرة الماديين الذين يصارعون الكون ويصارعون أنفسهم.. ولا يرون في الكون ولا في أنفسهم من جوانب الجمال ما حجبهم عنه صراعهم.

العارفون ينظرون إلى الكون المسبح قبل أن ينظروا إلى الكون المسخر، فيجتهدون في تفقه أسرار تسابيحه، قال الغزالي: (فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرّك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم، وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحِصر تفاوت درجاتهم)

إن هذه هي دعوة القرآن إلى التعرف على الله من خلال الآفاق والأنفس..

لقد وصف القرآن هؤلاء العارفين وعلاقتهم بالكون، فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} (آل عمران)

قلت: ولكني أسمع بأن الروحانيين من المسلمين ينفون الأكوان؟

قال: هم ينفونها من حيث ذاتها، وثبتونها من حيث انتسابها إلى الله، فالعارفون لا يتوجهون إلا إلى الله، ولا ينحجبون بشيء عن الله.. يرددون مع أبي مدين قوله:

ثمار من شجرة النبوة (247)

الله قل وذر الوجود وما حوى إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله أن حققته... عدم على التفصيل والإجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها... لولاه في محو وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته... فوجوده لولاه عين محال

والعارفون بربهم لم يشهدوا... شيئاً سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً في الحال والماضي والاستقبال

وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:

شغل المحب عن الهواء بسره في حب من خلق الهواء وسخره

والعارفون عقولهم معقولة... عن كل كون ترتضيه مطهره

فهم لديه مكرمون وفي الورى... أحوالهم مجهولة ومستره

وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر ـ كما ورد في الحديث كلمة لبيد (1): ألا كل شيء ما خلا الله باطل ـ

قلت: إن هذا عينه ما يردده أهل وحدة الوجود.. بل إن هذا النوع من الوحدة نجده عند اليهود أنفسهم.. ففي القبالاه نجد كلمات كثيرة تشير إلى هذا المعنى.

قال: نعم.. قد تجد بعض الكلمات مما يوهمك أن وحدة الوجود الفلسفية أو اليهودية هي عينها وحدة الوجود التي ينسبها البعض إلى العارفين من المسلمين.. ويؤيد هذا بعض العوام من المسلمين ممن لم يكن لهم من القدرة العقلية ما يحللون به الكلام ليفهموا حقيقة المراد منه.

ولكن التأمل العقلي والتحليل المنطقي يدل على أن وحدة الوجود المشار إليها عند الصوفية المسلمين مغايرة تمام المغايرة لقول الفلاسفة ووحدتهم التي لا تفرق بين الخالق والمخلوق

__________

(1)  وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها أشعر كلمة تكلمت بها العرب، وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر، وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر، وفي أخرى أصدق بيت قالته الشعراء، وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.

ثمار من شجرة النبوة (248)

والصنعة والصانع.

فليس المراد بوحدة الوجود عند الصوفية وجودين قديمين اتحدا، ولا قديم وحادث اتحدا، لأنهم يعتقدون ـ انطلاقا من المصادر المقدسة ـ أن الله لا يحل في شيء، ولا يمازج شيئاً، ولا شئ في ذاته في خلقه، ولا من خلقه في ذاته، وقربه وبعده ليس كقرب الأجسام وبعدها، ولا هو محصور ولا محدود.. تنزه عن أوصاف خلقه.

لقد قال محي الدين بن عربي وهو من رجالات التصوف الذي أسيء فهم مقاصدهم: (لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته، والملك عن ملكيته، ويتحد بخالقه تعالى، لصح انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً، وصار الحق خلقاً، والخلق حقاً، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجباً، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبداً)

انظر كيف ينفي الاتحاد والحلول بشدة، فما كان في كتبه مما يوهم ذلك فهو إما مدسوس عليه، وإما فهم على غير حقيقته (1).

وبمثل هذا نطق كل العارفين.. فقد قال الشيخ علوان الحموي (ت 936 هـ) في تعليقه على كلام محمد بن واسع تلميذ الحسن البصري في فنائه عن الخلق بالحق: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه) قال معلقاً على هذا: (مذهب أهل الحق أن مولانا عز وجل لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء، وكلما ورد عليك ما يوهم ظاهره الحلول فأوله)

وقد بين الشيخ الهجويري (ت. 470 هـ) في كتابه (كشف المحجوب) تعليقاً على هذه العبارة قوله: (إن المرأ عندما تغلبه المحبة للذات الإلهية يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الصنع وإنما يرى الصانع)

وقال أحد العارفين: (أراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر لأن الرؤية من خصائص

__________

(1)  انظر: اليواقيت والجواهر:1/ 80 –81) وقد قال ابن عربي في الفتوحات (جـ 4 ص 372 - 379): (ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فهو معلول لا دواء له)

ثمار من شجرة النبوة (249)

البصر، والشهود من خصائص البصيرة)

سكتت قليلا، ثم قالت: لقد نطق القرآن بهذه المعاني.. بل إن تأمل القرآن هو الذي جعل هؤلاء العارفين يصلون إلى ما وصلوا إليه من حقائق..

اسمع لهذه الآية.. وحاول أن تعيشها.. ففيها من الحقائق ما يجعل القلب لا يعرف وجهه إلا الله نافيا ما سواه..: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد:3)

فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.

لقد قال سيد قطب ـ هو مثال العارف المسلم المملوء بالروحانية العميقة ـ مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى: (وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى، حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة، فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}

ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء: (الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود)

لقد عبر القرآن ـ كذلك ـ عن هذا المعنى باسم الله (الأحد) في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص:1)، وهو اسم عظيم يحوي ـ مع التأمل ـ الكثير من الدلالات، ولهذا لما خشي محمد

ثمار من شجرة النبوة (250)

أن لا يقدر حق قدره ـ كما قد لا تقدر المعاني الواردة في السورة حق قدرها ـ ذكر أن هذه السورة ـ التي تحوي هذه الحقيقة الجليلة ـ والتي نتوهمها صغيرة تعدل ثلث القرآن.

ولهذا كان بلال في رمضاء مكة في بداية الإسلام يصيح بها في نشوة عظيمة، وقد فني عن كل العذاب المحيط به: (أحد أحد)

ولا غرابة في كل هذا ـ كما يقول سيد قطب ـ (فإن الأحدية التي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلنها: قل هو الله أحد. هذه الأحدية عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة)

ولهذا ـ خلاف ما قد نتصور ـ فإن غاية رسالة محمد لم تكن الدعوة والتربية على معنى التوحيد الذي ينفي الشريك فقط، وإنما الدعوة والتربية على معنى الأحدية الذي ينفي الوجود الذاتي لغير الله.. وعلى كليهما تقوم حياة المؤمن، ومن كليهما يستمد العارف (1).

لقد شرح سيد قطب بتعبيره الجميل المعاني التي يعيشها العارف، وهو في ظلال هذا الاسم الجليل، فقال: (إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده، وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية)

وهذه الحقيقة هي التي تتأسس عليها كل حقائق المعرفة والسلوك، وهي النهاية التي ينتهي إليها سلوك العارف ليبدأ بها استمداده، فهو ما دام ينظر إلى الوجود نظرة الشريك الذي يزاحم ربه في وجوده، لا يستمد من هذا الوجود غير الجهل والتشتت، لكنه إن خلع عنه هذا الوجود المشرك، وحلاه بحلية الأحدية، فإن الوجود كله يصبح عيونا تفيض بالمعارف على قلبه.

ولهذالا يفهم العارفون من قول (لا إله إلا الله)، ما يفهمه الكثير من قصر معناها على (لا معبود بحق إلا الله)، بل يفهمون ذلك، ومعه يفهمون أن (لا موجود بحق إلا الله)

قلت: ولكني سمعت بكثير من المسلمين يكفرون سيدا وغيره بهذا.

__________

(1)  انظر تفاصيل هذه المسألة والموقف القرآني منها في رسالة (أكوان الله) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (251)

قالت: دعك منهم.. هم فئة محدودة معروفة بالتطرف في كل شيء.. لعله لم يصب الإسلام بأنواع البلاء إلا بسببها.

فهذه المجموعة هي التي تزعمت تطرف الإرهاب.. وتزعمت تطرف الشعوذة.. وتزعمت تطرف التفريق بين المسلمين.. وهي تتزعم أنواعا كثيرة من التطرف أخطرها أنها الحجاب الأعظم بين قومنا وبين الإسلام.

وأنبئك سرا.. أنا التي أتهم بالمروق.. كنت مثل قومي في نكرانهم للإسلام.. وكان أولئك من سبب ذلك النكران.. ولكني ما تخلصت من عقدتهم، ورحت أبحث عن الحقائق من أهلها حتى بان لي من حقائق الإسلام ما جعلني مارقة بين قومي.

قلت: ولكن أولئك يذكرون أقوالا لعلماء لهم اعتبارهم في الإسلام؟

قالت: هم لا يقرؤون شيئا.. فإذا قرأوا ينتقون ما يقرؤون، ويقطعونه تقطيعا.

هم يزعموون أنهم يستمدون من ابن القيم.. مع أن ابن القيم يتحدث عن هذه المعاني من دون إنكار لها.. فهو يقول في مدارج السالكين عند حديثه عن منزلة الفناء: (الفناء ضد البقاء، والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه، بل بقاؤه من لوازم نفسه وهو الله تعالى وحده، وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب، وليس له من نفسه بقاء، كما أنه ليس له من نفسه وجود، فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه، وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم، قبل إيجاده والفناء بعد إيجاده)

ويرفع توهم أن المراد بأن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه بقوله: (إنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما، وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء موجده له استحال بقاؤه، فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفسه معدوم وفان فافهمه)

قلت: وعيت مقاصد العارفين من المسلمين من هذا.. ولكني لم أع الفرق بينهم وبين سائر الطوائف.

ثمار من شجرة النبوة (252)

قالت: لقد ذكرت اليهود.. وتصورت أن في اليهودية مثل هذا.

قلت: أجل..

قالت: لتفهم الفرق بين هذه المعاني عند المسلمين وعند غيرهم من الطوائف وخاصة اليهود تحتاج إلى تمييز مهم بين نمطين من التصوف، فالتصوف هو الاسم الذي اشتهرت به هذه المعاني (1):

أما ألهما ـ وهو تصوف المسلمين ـ فهو تصوف يدور في نطاق إطار توحيدي، ويَصدُر عن الإيمان بإله يتجاوز الإنسان والطبيعة والتاريخ، ومن ثم يؤمن بالثنائيات الدينية الفضفاضة (سماء/أرض ـ إنسان/طبيعة ـ إله/إنسان)

وتتبدَّى هذه الرؤية في تدريبات صوفية يقوم بها المتصوف ليكبح جماح جسده تعبيراً عن حبه للإله وعن محاولته التقرب منه، وهو يعرف مسبقاً استحالة الوصول والتوحد مع الإله، فالحلول الإلهي يتنافى مع الرؤية التوحيدية، ولذلك، فإن وحدة الوجود عند الصوفية المسلمين ـ بمعناها الفلسفي ـ قمة الكفر.. والمتصوف الذي يدور في إطار توحيدي يعبِّر عن حبه الإلهي عن طريق فعل في التاريخ والدنيا يلتزم فيه بقيم الخير ويُعلي به من شأن القيم المطلقة المُرسَلة للإنسان من الإله ويصلح به حال الدنيا.

أما النمط الثاني من التصوف ـ وهو تصوف اليهود.. ومثله كثير من صوفية الأديان والمذاهب المختلفة، ولعل بعضه سرى لبعض طوائف المسلمين ـ فيدور في إطار حلولي يصدر عن الإيمان بالواحدية الكونية، حيث يحل الإله في الطبيعة والإنسان والتاريخ، ويتوحد معها ويصبح لا وجود له خارجها، فيُختزَل الواقع بأسره إلى مستوى واحد يخضع لقانون واحد.. ومن ثم، يستطيع من يعرف هذا القانون (الغنوصي) أن يتحكم في العالم بأسره.

فالتحكم في العالم وفي الأشياء هو هدف المتصوف في هذا الإطار... ولهذا تجده ـ بدلاً من

__________

(1)  انظر هذه التفاصيل.. ونظرة اليهودية للتصوف في (الموسوعة اليهودية) للمسيري.

ثمار من شجرة النبوة (253)

التدريبات الصوفية التي يكبح بها الإنسان جسده ويطوع لها ذاته ـ يأخذ شكل التفسيرات الباطنية وصنع التمائم والتعاويذ والبحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها التأثير في الإرادة الإلهية، ومن ثم التحكم الإمبريالي في الكون.

وحتى لو أخذ هذا التصوف شكل الزهد، فالهدف من الزهد ليس تطويع الذات، وإنما الوصول إلى الإله والالتصاق به والتوحد معه والفناء فيه، ليصبح المتصوف عارفاً بالأسرار الإلهية، ومن ثم يصبح هو نفسه إلهاً أو شبيهاً بالإله.

والمتصوف بهذا النمط لا يكترث إلا بذاته، ولذا فهو لا يتحرك في الزمان والمكان الإنسانيين، ولا يأتي بأفعال في التاريخ، ولا يهتم بإصلاح الدنيا، بل يضع نفسه فوق الخير والشر، وفوق كل القيم المعرفية والأخلاقية.

ألا ترى الفرق بينهما عظيما؟

قلت: أجل.. فالتجربة الصوفية التوحيدية تطويع للذات وطاعة للخالق وإصلاح للدنيا، وأما الثانية فهي تحقيق للذات وتطويع للخالق وبحث عن التحكم في الدنيا.

ولكن كيف يستخدم كلاهما مصطلحا واحدا (تصوف) مع هذا؟

قال: العاقل لا ينحجب بالمصطلحات.. بل يبحث عن الحقائق..

الروحانية الإسلامي ـ التي استطاع التصوف المعتدل أن يعبر عنها أحسن تعبير ـ تمثل قمة التوجه إلى الله، وقمة الاستسلام له.

ولكن الروحانية المادية التي يمثلها التصوف الحلولي اليهودي أو المسيحي.. ليس سوى توجه للذات، بل هو في أشكاله المتطرفة، ليس سوى شكل من أشكال العلمنة.. فإذا كان الإله أو الخالق هو مخلوقاته، فإن مخلوقاته هي هو.. وإذا حل الإله في المادة، فإن الطبيعة تصبح هي الإله، كما يذكر إسبينوزا، كما أن صاحب العرفان يصبح قادراً على التحكم في الإله والطبيعة والكون.. وفي هذا نرى ملامح سوبرمان نيتشه، الذي لا يؤمن إلا بإرادة القوة ويتجاوز أخلاق

ثمار من شجرة النبوة (254)

الضعفاء.

ولهذا، فإن المتصوف اليهودي لا يتجه نحو تطويع الذات الإنسانية الفردية لله، وإنما يحاول الوصول إلى فَهْم طبيعة الإله من خلال التأمل والمعرفة الإشراقية الكونية (الغنوص أو العرفان) بهدف التأثير في الإله والتحكم الإمبريالي في الواقع.

ولهذا نرى ارتباط التصوف اليهودي أو القبَّالاه بالسحر، ولهذا أيضاً كانت علاقة السحر بالعلم والغنوصية.

وقد وصف العالم جيرشوم شوليم الصوفية اليهودية بأنها (ثيو صوفية)، أي أنها معرفة الإله من خلال التأمل والمعرفة الإشراقية الكونية (الغنوص) أو العرفان، ومن ثم، فهي تبتعد عن التمرينات الصوفية ومحاولة الذوبان أو إفناء الذات الإنسانية في الذات الإلهية.

قلت: وعيت كل ما ذكرته.. ولكن ألا ترين أن هذا النوع من الروحانية فيه نوع من الارستقراطية!؟

قالت: ما تقصد؟

قلت: إن هذه المعاني التي ذكرتها لا يستطيع استيعاب فلسفتها إلا الأكابر.. أما البسطاء من الناس، فهم لا يطيقون فهمها.. وبالتالي، فإن المعاني الروحية للإسلام من اختصاص الثلة لا العامة؟

قالت: في كلامك بعض الصحة.. وكثير من الأخطاء.

أما ناحية الصحة.. فهي أن المعاني الروحية الراقية بدرجاتها العالية لم تكتمل إلا للأكابر من الأولياء.. ولا حرج في هذا.. ففي كل أمة من الأمم العامة والقديسون.

وقد أشار القرآن إلى هذه الثلة حاثا على سلوك سبيها باعتبارها النموذج الأكمل للإنسان، فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)

ثمار من شجرة النبوة (255)

والقرآن يسمي هؤلاء (مقربون)..: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 11)

والقرآن يعتبر هذا النوع ثلة قليلة في جميع الملل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} (الواقعة: 14)

ولكن هذا لا ينفي انتشار المعاني الروحية العالية بين المؤمنين..

ففي القرآن وفي كلام محمد وهديه منظومة كاملة من التوجيهات والتشريعات ليس لها من هدف سوى ربط المؤمنين بالله..

لا شك أنك تعرف الأذكار والأدعية وأنواع المناجاة التي وردت بها النصوص المقدسة للمسلمين؟

قلت: أجل..

قالت: لقد بحثت في تلك النصوص ودرستها دراسة متأنية، وقارنت بينها وبين أنواع الأدعية والأذكار في جميع الأديان والمذاهب.. فلم أجد روحانية أرق من تلك الروحانية التي تضمنتها أدعية المسلمين.

قلت: ولكني أرى بدعا كثيرة دخلت.. فهناك أنواع من المناجاة لم ترد في النصوص المقدسة.. ومع ذلك أرى المسلمين يلهجون بذكرها.

قالت: لقد بحثت في تلك الأنواع أيضا.. فرأيتها تصب فيما ورد في النصوص.. لقد صب الصالحون من المسلمين ممن أوتو قدرات بلاغية عالية المعاني الروحية الرقيقة في صورة أدعية وابتهالات ومناجاة لتكون معراجا يرقى بالمريدين إلى الله.

ولا أرى فيها أي بدعة.. فقد كان محمد يقر ما يقوله أصحابه من أدعية ومن أنواع الأذكار ما لم يخالف ما ورد في العقيدة الإسلامية من حقائق.

سأذكر لك نموذجا من هذا النوع لترى فيه كيف تنتظم المعاني الروحية العالية في مناجاة

ثمار من شجرة النبوة (256)

رقيقة.

هذه المناجاة هي المناجاة المنسوبة للإمام الحسين، وينسبها بعضهم لابن عطاء الله..

اسمع ما يقول: (إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟!.. إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟!)

إن هذه المناجاة.. بل هذه الحكمة مما يميز الروحانية الإسلامية.. إنها روحانية افتقار إلى الله.. ولجوء إلى الله.. وانطراح بين يدي الله.. وهو تصديق لما ورد في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)

ولذلك.. فإن هذا الفقر يملأ صاحبه بالتواضع لله.. ولخلق الله.. وتجعله في قمة السلام بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله.. وبينه وبين الخلق.

ثم يقول: (إلهي إن اختلاف تدبيرك، وسرعة حلول مقاديرك، منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عطاء واليأس منك في بلاء)

هذه ناحية أخرى مهمة تجعل العارفين من المؤمنين.. بل تجعل العوام منهم متوجهين دائما إلى الله..

فالله في الإسلام لم يتخل عن خلقه هو معهم يرعاهم في كل لحظة {َمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام:59).. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7)..: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19)..: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس:61)

ثمار من شجرة النبوة (257)

وهو يقلب المقادير على مقتضى حكمته ورحمته وعدله.. {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الانبياء:23)

ثم يقول في أدب المؤمن العارف بنفسه: (إلهي مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك).. أي مني ما يليق بلؤمي الذي هو وصف العبيد من مبارزتك بالذنوب، ومنك ما يليق بكرمك الذي هو وصف الربوبية من التجاوز والعفو وستر العيوب)

ثم يقول: (إلهي وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي)، وهذا توسل من المؤمن إلى الله بأسمائه.. وهو ما يقرب المؤمن إلى الله قربا عظيما.

ثم يقول متبريا من الحول والقوة التي قد تحجبه عن الله: (إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك، ولك المنة علي، وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك، ولك الحجة علي)

ثم يتوجه إلى الله متوسلا إليه بكمالاته لطلب حاجاته: (إلهي كيف تكلني إلى نفسي وقد توكلت لي؟ وكيف أضام وأنت الناصر لي؟ أم كيف أخيب وأنت الحفي بي؟

ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت إليك؟ أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت وإليك؟

إلهي ما ألطفك بي مع عظيم جهلي، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي!)

كانت (آنا ماري شميل) تقرأ هذه المناجاة الطويلة عن ظهر قلب بخشوع ورقة ملأتني بمشاعر لا أسطيع وصفها.

قلت لها: إن هذا الإمام يذكر معاني جليلة.. فهل ترين كل هذه المعاني مستنبطة من النصوص المقدسة؟

قالت: لو كان الوقت كافيا لاستدللت لكل كلمة قالها بنصوص كثيرة من القرآن

ثمار من شجرة النبوة (258)

والسنة.. إن الروحانية الإسلامية فيض من القرآن والسنة.. وهذه ميزة لم أجدها في أي دين من الأديان.. اذهب إلى كتابنا المقدس.. وحاول أن تجد ما يملأ روحك بما يلبي أشواقها إلى الله.. أنا موقنة أنك لن تجد إلا ما يملأ نفسك بالغثيان (1)..

سكتت قليلا، ثم قالت: بتلك الكلمات الرقيقة التي تفوح بعطر الربانية كان القديسون من المسلمين يسيرون ليملأوا أفواه العوام والخواص بذكر الله والتوجه لله والامتلاء بحب الله، وحب أوليائه.

ولذلك.. فإن الروحانية الإسلامية روحانية عامة حتى في حال ضعف المسلمين..

لقد رأيت بعض المسلمين من المنحرفين أو من السكارى قد يقاتل من يسب ربه أو كتابه أو نبيه.. إنه يختزن في نفسه ـ مع كونه منحرفا في نظر الإسلام ـ إيمانا عظيما ومحبة عظيمة.. نعم غلبته شهواته.. ولكن الروحانية الإسلامية لا زالت تجذبه.. ولعلها في يوم من الأيام تستطيع أن تخلصه.

وهذا هو سر قوة الإسلام..

فقوة الإسلام في روحانيتة.. وقوة روحانيته في ربانيته.

سكتت قليلا، ثم قالت، وهي تعتصر ألما: إن المسيح يسب في بلادنا.. ويسخر منه، فيثور المسلمون ويتألمون.. أما نحن فلا ننبس ببنت كلمة..

أتدري لم؟

قلت: لم؟

قالت: لأن كتابنا المقدس لا يحمل أي احترام لله..

قارن ما سمعته من تلك الأدعية والمناجاة بما يذكه كتابنا المقدس من مناجاة الأنبياء.. لا الأولياء..

__________

(1)  انظر في هذا رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (259)

لقد جاء في سفر الملوك الأول (17: 20) عن إيليا النبي وهو يخاطب الله: (وصرخ إلى الرب وقال: أيها الرب إلهي، أأيضاَ إلى الأرملة التي أنا نازل عندها أسأت باماتتك ابنها)

وفي سفر الخروج (5: 22) عن موسى النبي وهو يخاطب الله: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: لِمَاذَا أَسَأْتَ إِلَى شَعْبِكَ يَارَبُّ؟ لِمَاذَا أَرْسَلْتَنِي؟ فَمُنْذُ أَنْ جِئْتُ لأُخَاطِبَ فِرْعَوْنَ بِاسْمِكَ، أَسَاءَ إِلَى الشَّعْبِ، وَأَنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ عَلَى الإِطْلاقِ)

وفي سفر إشعياء (63: 17) أن إشعيا النبي خاطب الله قائلاً: (لماذا أضللتنا يا رب عن طرقك؟ قسيت قلوبنا عن مخافتك)

وفي مزمور (10: 1) أن داود النبي خاطب الله قائلاً: (يارَبُّ لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟)

بهذه الوقاحة يخاطب الأنبياء في الكتاب المقدس الله.. فكيف تريد من عوامنا أن يخاطبوا الله أو المسيح أو أي نبي من الأنبياء.

العقلانية

قلت: حدثتني عن الضابط الأول للروحانية الإسلامية.. هو ضابط الربانية، فحدثيني عن الضابط الثاني.. والذي سميته (العقلانية)

قالت: ميزة الإسلام الكبرى أنه دين ينسجم مع جميع لطائف الإنسان.. مع عقله.. وقلبه.. وروحه.. وسره.. بل ينسجم مع جسده.. ومجتمعه.. والكون جميعا (1).

ولذلك، فالعقلانية إطار من الأطر التي تحكم جميع السلوكات والعقائد حتى لا يقع العقل في الخرافة.. ولا يقع السلوك في الشعوذة.

وهذا بخلاف جميع ما عرفته من أديان ومذاهب وأفكار.. فكلها يحوي مغالطات عجيبة

__________

(1)  انظر الأدلة المفصلة على هذا في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (260)

لا تستقيم تحت موازين العقل.

سأضرب لك مثالا على الدجل الذي تمارسه الكنيسة لتكسب أتباعا جددا..

هي لا تقنعهم بالعقل.. ولا تحدثهم عن الله.. وإنما تسارع إلى ملأ جانب الشعوذة والخرافة التي يعشقها العوام.. وتنفر منها العقول.

لا شك أنك تعرف (الرمح المقدس)

قلت: لم أسمع بها.

قالت: إنها من قصة من قصص الحروب الصليبية التي استطاع رجال ديننا بواسطتها إقناع عقول المخلصين لإسالة أنهار دماء المسلمين (1).

لقد دفع الصليبيون من أجل عبور آسيا الصغرى ثمناً باهظاً، إذ فقدوا أفضل جنودهم وخيرة عساكرهم، بينما استولى اليأس والفزع على البقية الباقية..

وبدأ الخوف من تفكك الجيش وفرار الجنود يساور القادة، فعمدوا إلى بعض الحيل الدينية لصد هذا الخطر وربط الجنود برباط العقيدة.. ومن تلك الحيل التى روجوا لها ما رواه المؤرخون عن ظهور المسيح والعذراء أمام الجنود الهيابين ووعدهم بالصفح عن الخطايا والخلود فى الجنة إذا ما استماتوا فى معاركهم ضد المسلمين..

غير أن هذا الأسلوب النظرى لم يلهب حماس الجنود، ولم يحقق الغرض الذى ابتدعه الصليبيون من أجله، فكان لا بد من أسلوب آخر ينطوى على واقعة مادية يكون من شأنها إعادة الإيمان إلى القلوب التى استبد بها اليأس، وتقوية العزائم التى أوهنتها الحرب، وهنا أذيع بين الجنود قصة اكتشاف الرمح المقدس..

تلك الواقعة التى روى تفاصيلها المؤرخ (جيبون) فضلاً عن غيره من المؤرخين المعاصرين. قال: إن قساً يدعى بطرس بارتلمى من التابعين لأسقفية (مارسيليا) منحرف الخلق

__________

(1)  هذه القصة نقلها الشيخ محمد الغزالي من كتاب (الشرق والغرب)

ثمار من شجرة النبوة (261)

ذا عقلية شاذة، وتفكير ملتو معقد زعم لمجلس قيادة الحملة الصليبية، أن قديساً يدعى (أندريه) زاره أثناء نومه، وهدده بأشد العقوبات إن هو خالف أوامر السماء، ثم أفضى إليه بأن الرمح الذى اخترق قلب المسيح مدفون بجوار كنيسة القديس بطرس فى مدينة (انطاكيا)، فروى (بارتلمى) هذه الرؤيا لمجلس قيادة الجيش، وأخبرهم بأن هذا القديس الذى طاف به فى منامه قد طلب إليه أن يبادر إلى حفر أرض المحراب لمدة أيام ثلاثة، تظهر بعدها (أداة الخلود) التى تخلص المسيحيين جميعاً، وأن القديس قال له: ابحثوا تجدوا.. ثم ارفعوا الرمح وسط الجيش، وسوف يمرق الرمح ليصيب أرواح أعدائكم المسلمين..

وأعلن القس (بارتلمى) اسم أحد النبلاء ليكون حارساً للرمح، واستمرت طقوس العبادة من صوم وصلاة ثلاثة أيام دخل فى نهايتها اثنا عشر رجلاً ليقوموا بالحفر والتنقيب عن الرمح فى محراب الكنيسة.

لكن أعمال الحفر والتنقيب التى توغلت فى عمق الأرض اثنى عشر قدماً لم تسفر عن شاء. فلما جن الليل أخلد النبيل الذى اختير لحراسة الرمح إلى شاء من الراحة، وأخذته سنة من النوم، وبدأت الجماهير التى احتشدت بأبواب الكنيسة تتهامس..!..

فاستطاع القس (بارتلمى) فى جنح الظلام أن ينزل إلى الحفرة، مخفياً فى طيات ثيابه قطعة من نصل رمح أحد المقاتلين العرب، وبلغ أسماع القوم رنين من جوف الحجرة، فتعالت صيحاتهم من فرط الفرح، وظهر القس وبيده النصل الذى احتواه بعد ذلك قماش من الحرير الموشى بالذهب، ثم عرض على الصليبيين ليلتمسوا منه البركة، وأذيعت هذه الحيلة بين الجنود وامتلأت قلوبهم بالثقة، وقد أمعن قادة الحملة فى تأييد هذه الواقعة بغض النظر عن مدى إيمانهم بها أو تكذيبهم لها.

وقد روى التاريخ الكثير من مثل هذه الخرافات.. وبمثلها تنتشر المسيحية للأسف.. فنحن لا ننشر ديننا إلا بطرد الشياطين.. هذا هو منهجنا العقلي الذي نرحل به إلى الله..

ثمار من شجرة النبوة (262)

كنت أقرأ قبل أيام نشرة صغيرة، على أحد وجهيها صورة العذراء وهى تقطر وداعة ولطفاً، وعلى ذراعها الطفل الإله يسوع يمثل البراءة والرقة.. أما الوجه الآخر للصورة فقد تضمن هذا الخبر تحت عنوان (محبة الآخرين وخدمتهم)، وتحته هذه الجملة (حسبما تتاح لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع) (غل 6: 10).. كانت السيدة زهرة ابنة محمد على باشا بها روح نجس، ولما علم أبوها أن (الأنبا حرابامون) أسقف المنوفية قد أعطاه الله موهبة إخراج الأرواح النجسة استدعاه. ولما صلى لأجلها شفيت فى الحال، فأعطاه محمد على باشا صرة بها أربعة آلاف جنيه، فرفضها قائلاً: إنه ليس فى حاجة إليها لأنه يعيش حياة الزهد، وهو قانع بها) (1)

بهذا ومثله تتعامل الروحانية المسيحية..

لقد كان القديسون يرقون إلى مرتبة القداسة.. لا بسبب سلوكهم الطيب وروحانيتهم الرفيعة، وإنما بسبب المعجزات التي تظهر على أيديهم (2).

لقد كان باستطاعة أي محتال أن يترقى في منصبه بالقيام بأي عمل تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، وإذا كان التاريخ يذكر فزع الإمبراطور (شارلمان) وحاشيته من الساعة التي أهداها إليه الرشيد ظانين أن بها قوى خفية من الجن والشياطين، فما بالك بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة.

لن أذكر لك شواهد على هذا من القرون الوسطى.. فشواهدها في ذلك العصر المظلم لا تكاد تنتهي.. وإنما سأذكر لك بعض ملامح الخرافات التي لا تزال كنيستنا تمارس نشاطها على أتباعها في العامل الغربي ذاته.

يقول فريزر: (معظم الفلاحين في فرنسا لا يزالون يعتقدون أن القسيس يملك على العناصر قوة خفية لا تقاوم وأنه حين يتلو البعض الصلوات المعينة بالذات التي لا يعرفها سواه

__________

(1)  ذكر هذا الشيخ محمد الغزالي.

(2)  انظر: العلمانية، لسفر الحوالى.

ثمار من شجرة النبوة (263)

والتي لا يحق لغيره أن يرتلها فإنه يستطيع في حالة الخطر الداهم أن يبطل لفترة معينة فعل القوانين الأبدية للعامل الفيزيقي أو حتى يقلبها تماما)

وفي مناطق أخرى يعتقد الناس (أن القسيس يملك القدرة على تشتيت العواصف، وإن لم يكن لكل القساوسة مثل هذه الملكة، ولذا فانه حين يتغير راعى الكنيسة في بعض تلك القرى يبدى أتباع الأبرشية كثيراً من التلهف لمعرفة ما إذا كان الراعى الجديد يتمتع بهذه السلطة كما يسمونها، وعلى ذلك فبمجرد أن تظهر أدنى بادرة بهبوب إحدى العواصف الشديدة فإنهم يخضعونه للاختبار فيطلبون إليه القيام ببعض الشعائر والترتيل ضد الغيوم المتكاثفة فإذا جاءت النتائج محققة لآمالهم ضمن الراعي الجديد لنفسه عطف أتباع الكنيسة واحترامهم)

وهناك قداس خاص يستعمله القساوسة في الأعمال الانتقامية يتحدث عنه فريزر بقوله: (لا يقام هذا القداس إلا في كنيسة متهدمة أو مهجورة حيث تنعق البوم وتمرح الخفافيش وقت الغسق وتأوي إليها جماعات الغجر في الليل، وحيث تقبع الضفادع البرية تحت مذبحها المدنس، فهناك يأتي ذلك القسيس الشرير بالليل ومعه عشيقته الفاجرة الخليعة وحين ترسل الساعة أولى دقاتها معلنة الحادية عشر يبدأ يهمهم في تلاوة القداس ابتداء من آخره إلى أوله بحيث يفرغ منه يحين تبدأ دقات الساعة تعلن منتصف الليل وتقوم عشيقته بمساعدته في ذلك، أما القربان الذي يباركه فلابد أن يكون أسود اللون كما أنه لا يتناول النبيذ، ولكنه يشرب بدلا منه بعض الماء من بئر سبق أن ألقيت فيها جثة طفل مات قبل تعميده، ثم يرسم علامة الصليب ولكن على الأرض وبقدمه اليسرى ويقوم بأداء كثير من الأعمال الأخرى التي لا يستطيع أي مسيحي أن يراها دون أن يصيبه العمى والصمم والبكم بقية حياته)

وفي سنة 1893 م حدثت في جزيرة صقلية حادثة تصور الموضوع أبلغ تصوير فقد كانت الجزيرة تمر بمحنة رهيبة بسبب الجفاف، وكان الجدب قد استمر ستة أشهر متصلة تناقصت كميات الطعام بسرعة وأنتاب الناس ذعر شديد فجربوا كل الطرق المعترف بها للحصول على

ثمار من شجرة النبوة (264)

المطر، خرجت جموعهم من منازلهم وأحاطوا بالصور والتماثيل المقدسة يتوسلون إليها بترتيل الصلوات وإضاءة الشموع في الكنائس طيلة الليل والنهار وعلقوا على الأشجار سعف النخيل الذي سبق لهم أن باركوه في (أحد السعف) (1) ونثروا في الحقول (الكناسة المقدسة) وهى التراب الذي كنسوه من الكنائس في ذلك اليوم، فلم يجد ذلك شيئاً وحملوا الصلبان على أكتافهم وساروا حفاة الأقدام عراة الرؤوس وجلد بعضهم بعضاً بالسياط ولكن دون جدوى.

وأخيراً لجأوا إلى القديسين وتجمعوا حول القديس فرانسيس الذي اعتادوا حسب اعتقادهم أن ينالوا المطر ببركته فأقاموا له الصلوات والترانيم والزينات لكن جهودهم كلها ذهبت هباء فنبذوا معظم القديسين حتى أنهم ألقوا بالقديس يوسف في إحدى الحدائق ليجرب بنفسه الحال التي وصل إليها الناس واقسموا أن يتركوه هناك في الشمس حتى يأتيهم المطر، وأداروا وجوه بعض القديسين إلى الحائط كما يفعل المدرس بالتلاميذ الأشقياء، وجردوا بعضهم من ملابسهم الفاخرة وقذفوهم بأقذع السباب والشتائم أما القديس ميخائيل رئيس الملائكة ـ حسب عقيدتهم ـ فقد نزعوا أجنحته الذهبية ومزقوها ووضعوا مكانها أجنحة ورقية في بعض المناطق قيد الناس قس بلدته وتركوه عارياً وأخذوا يهتفون إليه بغضب (المطر أو حبل المشنقة) (2)

قلت: هذه عقلانيتنا.. فحدثيني عن عقلانية الروحانية الإسلامية.

قالت: إن القرآن الذي هو مصدر المسلمين الأول يقيم بناء روحيا عميقا على أسس العقل.. وعلى أسس العقل وحده..

ولهذا نجد أعلى صفات المؤمنين في القرآن هي صفة اليقين.. واليقين هو بلوغ المعرفة درجة من اليقين العقلي، بحيث تسري بعدها إلى الجوارح وسائر اللطائف.

فالفلاح الذي أخبر عنه القرآن الكريم عند ذكره للطائفة المؤمنة في سورة البقرة مرتبط

__________

(1)  يوم مقدس عندهم.

(2)  انظر قذائف الحق للشيخ الغزالى: 48 فما بعدها.

ثمار من شجرة النبوة (265)

باليقين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:4)

وأئمة الهدى العارفين بالله الذين جعلهم الله نجوما لهداية الخلق هم الذين زاوجوا بين الصبر واليقين، أو المجاهدة والمعرفة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)

وآيات الله بأنواعها المختلفة لا يفهمها ولا يصدقها ولا يقدرها حق قدرها سوى الموقنين {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (البقرة:118)

ومن هذه الآيات آيات الله الكونية المتجلية في الأرض {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (الذريات:20)، أو المتجلية في الإنسان والكائنات الحية {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية:4)، فكل هذه الآيات لا يدركها سوى الموقنين.

وحقائق القرآن التي هي بصائر البصائر لا يراها ولا يعرفها ولا يهتدي بها ويرحم غير الموقنين {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية:20)

والمعارف المرتبطة بالله لا يفهمها، أو يذعن لها، أو يستشعر سموها سوى الموقنين، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} (الدخان:7)

وأحكام الله لا يدرك حكمها، ويستكنه أسرارها، ويعرف وجوه المنافع والمصالح فيها سوى الموقنين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)، والآية تشير إلى أن إدراك الحسن المتغلغل في ثنايا الأحكام لا يقلب صفحاته سوى الموقنين، ولعله لأجل هذا لم يتصد للبحث في أسرار الشريعة ومقاصدها سوى من جمعوا بين العلم والتقوى، أو بين اليقين والإرادة.

ومن هذه المنطلقات القرآنية أجمع العارفون من المسلمين على أن اليقين هو البذرة التي تنبت منها جميع المحاسن التي ينضح بها العرفان.

ثمار من شجرة النبوة (266)

وقد أجمعوا على اعتبارها المركب الذي يحمل السالكين إلى الله، وبقدر سلامة المركب يكون الوصول.

وقد قال أبو سعيد الخراز معبرا عن هذا الدور: (العلم ما استعملك واليقين ما حملك)، فلولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به.

ويشير الجنيد إلى أن اليقين لا يعني ما يتصوره البعض ـ ممن يشحنون حياة العارفين والأولياء بالكرامات مع ما قد يلابسها من خرافات وأساطير ـ فالموقن لا يحتاج لأن يمشي على الماء ليثبت صحة يقينه: (قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا)

وهذه النصوص وغيرها تشير إلى أهمية اليقين وارتباطه بالروحانية.. وفي نفس الوقت ارتباطه بالعقلانية.

قلت: فهمت علاقة اليقين بالروحانية.. ولكني لم أفهم علاقته بالعقلانية.

قالت: أول مستقبل للحقائق هو العقل.. فإذا نضجت الحقائق في العقل.. وتقبلها سرت إلى الروح.. هذا هو منطلق الروحانية عند المسلمين..

أما منطلق الروحانية عندنا.. فهو أن تتيقن الروح بما لا يعقل العقل.. وبذلك يفرض على العقل التسليم بما لا يعلم وما لا يعقل.

قلت: ولكني قرأت عن كثير من أولياء المسلمين ذمهم للعقل، واعتقادهم لقصوره، فقد سئل النوري: (ما الدليل على الله؟ قال: (الله)، قال: فما العقل؟ قال: العقل عاجز، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.

وعبر آخر عن ذلك بقوله: (العقل يجول حول الكون فإذا نظر إلى المكون ذاب)

وعبر أبو بكر القحطبي على استحالة التعرف على الله بالعقل بقوله: (من لحقته العقول فهو مقهور إلا من جهة الإثبات ولولا أنه تعرف إليها الألطاف لما أدركته من جهه الإثبات)

ثمار من شجرة النبوة (267)

قالت: صدق كل هؤلاء.. فلم ينطقوا إلا الحقيقة..

قلت: فكيف يستقيم ما ذكرته عن انبناء الجانب الروحي من الإسلام على العقل، وهؤلاء ـ أعمدة الروح في الإسلام ـ يقولون ما يقولون؟

قالت: هؤلاء يشيرون إلى جانبين كلاهما خطر على الروحانية الصرفة:

أما أولاهما، وهي أخطرهما، فهي محاولة حصر الله بحدود العقل.. أو محاولة العقل التعرف على الله من خلال العقل المجرد.

وأما الثانية، فهي حصر العلاقة بالله في الجانب العقلي المجرد كما فعلت الفلسفة من غير تفاعل الوجدان.

قلت: سلمت بأن الثانية تنافي الروحانية.. ولكن الأولى لا أرى أنها تنافيها.

قالت: بل تنافيها.. لأن للعقل حدودا لا يستطيع أن يتجاوزها.. سأضرب لك مثالا يوضح لك ذلك:

أرأيت لو أن أحدهم دق عليك الباب، ولم تكن تعرفه، هل تستطيع ـ من خلال الاستدلال العقلي ـ أن تستدل على طوله ولونه واسمه ونسبه؟

قلت: لا.. فعقلي أقصر من أن يعرف ذلك.

قالت: ولكنك تستطيع أن تعرف أشياء من خلال هذا التصرف.

قلت: أجل..

قالت: فهذا هو دور العقل.. فهو يفتقر لمعرفة التفاصيل لأن يفتح له الباب حتى يتعرف على التفاصيل.

قلت: فقد فتح لنا الباب بالمسيح.

قالت: نعم.. فتح الباب بالمسيح.. ولكنا ـ معشر المسيحيين ـ أغلقنا باب المسيح، وفتحنا باب بولس.. وأبواب المجامع المقدسة.. فسقطنا في الخرافة.

ثمار من شجرة النبوة (268)

قلت: فكيف نرجع إلى باب المسيح؟

قالت: بباب محمد.. فلا يمكن أن نفهم المسيح دون أن نمر على باب محمد.

الإنسانية

قلت: حدثتني عن ضوابط الروحانية الإسلامية من الربانية والعقلانية.. فحدثيني عن الضابط الثالث.. الإنسانية.

قالت: لقد خلقنا الله بشرا.. وطلب منا أن نعبده، ونحن بشر.. وليس من اللائق، ولا من الأدب، ولا من الحكمة أن نخرج من البشرية عندما نريد أن نمارس الروحانية..

قلت: لم أفهم هذا.. فمع أننا بشر إلا أن الكمال في أن نرتقي عن بشريتنا.

قالت: من غير أن نخرج عنها.

قلت: بل لو استطعنا الخروج عنها لفعلنا.. فذلك هو الكمال الأكبر.

قالت: إن هذا الكلام يحمل احتقارا للبشرية.. لأن من يريد أن يخرج من شيء، ليدخل في غيره.. لا يريد أن يخرج منه إلا لاحتقاره له، واعتقاده لنقصه.

وهذه ميزة للإسلام تفصله عن كثير من الديانات والفلسفات التي تحتقر الإنسان.. فهو يكرم الإنسان، ويضعه في المحل الذي خلقه الله له.

إننا ـ معشر المسيحيين ـ لما احتقرنا الإنسان ربأنا بالمسيح أن يكون إنسانا.. فلذلك رفعناه إلى مقام الإلهية..

أما قرآن المسلمين فهو يصرح في كل لحظة بأن محمدا وسائر الأنبياء والأولياء ليسوا إلا بشرا.. يقول القرآن: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف:110).. ويقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}

ثمار من شجرة النبوة (269)

(فصلت:6)

ويقول عن سائر الأنبياء: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (ابراهيم:11)

قلت: وعيت هذا.. ولكن ما علاقته بالروحانية؟

قالت: لهذا علاقة وطيدة بالروحانية الإسلامية.. فأهم خصائص الإسلام أنه دين الفطرة.. والفطرة هي الطبيعة التي خلق عليها الإنسان.. أو النظام الذي يتحكم في الإنسان.. وهذه الفطرة لا ينبغي تدنيسها ولا تحريفها.. بل لا ينبغي للروحانية أن تحرف هذه الفطرة عن مسارها.

ففي الإسلام ـ كما ذكرت لك ـ تلتقي الروحية مع المادية، ويجتمع الدين مع الدنيا، وتتشابك أشواق الروح مع الغرائز التي خلقت في الإنسان، ولم يكن له أن يخرج عنها.

وهذا بخلاف كل ما نعرفه من فلسفات وأديان ومذاهب..

ففي اليهودية تطغي المادية المحضة.. فلا تكاد تجد للروحانية أثرا، ولا تكاد ترى للآخرة مكانا، حتى الوعد والوعيد لا يتعلقان إلا بأمور دنيوية.

أما المسيحية.. ففي الإنجيل: (لا يدخل غني ملكوت السموات، حتى يدخل الجمل في سم الخياط..).. وقال المسيح لشاب آمن به ودخل في دينه: (إذا أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع ما تملك واعطه للفقراء، ثم تعال واتبعني).. وقال لتلاميذه: (وأنتم فلا تبحثوا عما تأكلون وما تشربون ولا تهتموا لذلك، لأن هذه الأشياء إنما يبحث عنها غير المؤمنين)

لقد ذكر الأستاذ (ليكي) في كتاب (تاريخ أخلاق أوروبا) صورا لجموح الرهبانية وغلوها، تقشعر منها الجلود، وتفزع القلوب، وتدهش العقول، وهي قليل من كثير جدا.. لقد قال هذا المؤرخ: (زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم واسترعوا

ثمار من شجرة النبوة (270)

الأنظار وشغلوا الناس، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية، ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفا من الرهبان، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب، وكان الراهب (سرابين) يرأس عشرة آلاف، وقد بلغ عددهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر)

قلت: ولكن مع ذلك.. فقد كان نظام الرهبانية من أرقى الأنظمة الروحية في العالم.. بل إن بعض مفكرينا يرى أن النظام الروحي في الإسلام مستمد من نظام الرهبانية عندنا.

قالت: قد يكون من المسلمين من وقع فيما وقع فيه رهباننا.. ولكنه بذلك انحرف عن الإسلام انحرافا شديدا.. ذلك أن نظام الرهبانية يتنافى تماما مع تعاليم الإسلام.

فقد اعتبر الإسلام الرهبانية بدعة خطيرة في الدين، ففي القرآن عند ذكر التحريف الذي حصل للمسيحية: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:27)

ولهذا، فإن الروحانية الإسلامية تنطلق من مزازين دقيقة تجمع بين الروح والجسد، وبين الفرد والمجتمع.. وبين الدنيا والآخرة.. وهي بذلك تجمع للإنسان كل متطلبات إنسانيته.. وهي بذلك تختلف تمام الاختلاف عن الرهبانية التي انحرفت لها الكثير من الأديان والمذاهب والفلسفات.

فالذي يقدم الروح على الجسد يحرم الإنسان من جزء أصيل منه وهو جسده.

والذي يقدم الفرد يبتر الإنسان من البيئة التي خلقها الله له، وخلقه لها، ويجعله سلبيا لا هم له إلا ذاته.

والذي يقدم الآخرة على الدنيا يحرم الإنسان من فترة من فترات الزمن خلقها الله له، وخلقه لها.

ثمار من شجرة النبوة (271)

قلت: هذا كلام عام أريد تفاصيله.

قالت: لن أطيق أن أذكر لك كل تفاصيله، ولكني سأكتفي بعرض شروط الرهبانية على النصوص المقدسة للمسلمين لتعرف موقفها منها.

فقد اشترط القائمون على نظام الرهبانية شروطاً لا بد من تحقيقها في الراهب.. لا يكون راهبا إلا بها.

منها العزوبة.. وهذا أهم شروط الرهبانية، وقد ورد في إنجيل متى: (يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل) (متى: 19: 13)

إضافة إلى أن التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، من أساسيات المسيحية، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول (سان بونافنتور) أحد رجال الكنيسة: (إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشرياً، بل ولا كائنا حياً وحشياً، وإنما الذى ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صفير الثعبان) (1)

وكان من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين غير الرهبان أو تسريهم، و(كانت الكنيسة منذ زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة).. (وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه يضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله وبنى الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه) (2).. (بوجوب التبتل على رجال الدين وتطليق زوجات المتزوجين منهم وكان لهذا الأمر آثار امتدت إلى القرن السادس عشر وانتهت بانتصار

__________

(1)  أشعة خاصة بنور الإسلام: 29.

(2)  قصة الحضارة 14: 382.

ثمار من شجرة النبوة (272)

الكنيسة) (1)

وإذا كان هذا هو الحال مع غير الرهبان، فلنتصور كيف تكون الحال معهم.

وهذا الشرط يتناقض تماما مع ما دعا إليه الإسلام من حث على الزواج وترغيب فيه، فقد وردت النصوص القرآنية الكثيرة التي تأمر بالزواج وتحث عليه.. ففي القرآن: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) ففي هذه الآية توجيه للأنظار للنعم التي وضعها الله في الزواج، وكيف هيأ الزوجين لبعضهما لتنتج عن ذلك المودة والرحمة.

وفي القرآن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب}} (الرعد: 38).. ففي هذه الآية إخبار بأن الزواج من سنن المرسلين، وفيه رد بليغ على الممتنعين عنه بحجة التعبد والتبتل.

وفي القرآن: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور:32) وفي هذه الآية حث على تزويج من للمسلم ولاية عليهم، ونهي عن جعل الفقر حاجزا بين المؤمن والزواج.

وفي القرآن: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3) ففي هذه الآية إجازة للتعدد في إطاره الشرعي الصحيح، وتنبيه للعلة من إجازته.

وعلى ضوء هذا الهدي القرآني جاءت النصوص الحديثية الكثيرة ترغب في الزواج، بل تعتبره من الأعمال الصالحة، ومن سنن الصالحين، ففي الحديث: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وان أقسم عليها أبرته،

__________

(1)  تاريخ أوروبا في العصور الوسطى: 2: 152.

ثمار من شجرة النبوة (273)

وان غاب عنها حفظته في نفسها وماله) (1)،فقد اعتبر محمد في هذا الحديث الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة يكتنزها من دنياه ـ بعد الإيمان بالله وتقواه ـ وعدها أحد أسباب السعادة.

وفي حديث آخر: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) (2)

وفي حديث آخر: (من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح) (3)

وفي حديث آخر: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) (4)

وفي حديث آخر: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) (5)

قلت: هذا الشرط الأول للرهبانية، وقد علمت شدة معارضة الإسلام له.. فما الشرط الثاني؟

قالت: التجرد الكامل عن الدنيا.. فعلى الراهب ـ حتى يصير راهبا ـ أن يعتزل عزلة نهائية

__________

(1)  أبو داود:2/ 126.

(2)  المسند المستخرج على صحيح مسلم: 4/ 141، مصنف عبد الرزاق: 10/ 221، المعجم الأوسط: 8/ 281.

(3)  رواه احمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح، انظر: مجمع الزوائد: 4/ 272.

(4)  مسلم: 2/ 1018، البخاري: 2/ 673، ابن حبان: 9/ 335، الدارمي: 2/ 177، البيهقي: 4/ 296، أبو داود: 2/ 219، النسائي: 2/ 95.

(5)  البخاري: 5/ 1949.

ثمار من شجرة النبوة (274)

عن المجتمع، ويقطع النظر عن كل أمل في الحياة.

قلت: لقد كتب المسلمون في العزلة كتبا.. بل مارس الكثير من علمائهم هذه العزلة.. بل لهم ـ إلى الآن ـ ما يسمى بالخلوات التي يختلون فيها للعبادة.

فإن قلت: إن كل ذلك حادث.. فقد شرع الإسلام الاعتكاف، وهو نوع من العزلة.

قالت: فرق عظيم بين العزلة التي دعا إليها الإسلام، واعتبرها مدرسة تربوية تهذيبية، وبين عزلة الرهبان.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قالت: العزلة التي مارسها الربانيون من المسلمين هي عزلة تربوية تشبه مكوث المريض في المستشفى مدة معينة يحددها طبيبه، ويحددها نوع العلاج الذي يريد ممارسته.

وهي لا تعني الانفراد في الجبال والكهوف عن الناس.. اللهم إلا في أحوال الفتن التي يفر فيها المؤمن بدينه.

قلت: فما الشرط الثالث من شروط الرهبانية؟

قالت: عدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة..

يقول صاحب كتاب (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة): (لنقرأ هذا السفر الطريف (محاكاة المسيح)، إنه أكبر أسفار التبتل المسيحي، ولنطلب بين صحائفه ومظاهر الحياة المسيحية بمعناها الصحيح، وأن ما نجده لمعبر عن الحال أبلغ عبارة: إحتقار أساسى لكل علم، حتى يشمل ذلك علم الإلهيات، واحتقار أصيل لكل ما نسميه خيرات هذا العالم: الثراء والشرف الاجتماعي، حتى المركز الوسط، وإنه لحتم علينا أن نستشعر دائما التواضع والندم وأن نمارس عملياً على الدوام التضحية وكل مظهر تمليه الرحمة وأن نجمع حواسنا في صمت وذهول تام وتأمل دينى ينسى المرء فيه كيانه، يجب أن نقتل فينا كل ميول دنيوي، يجب أن يموت عالم الرغبة، يجب أن نبدأ من هذا العالم الزائل ما سوف يكون لنا الوجود الأبدى)

ثمار من شجرة النبوة (275)

ثم يعلق على هذه التعاليم قائلاً: (عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاس على الإنسانية، وإن التطبيق الكامل لمثل تلك المبادئ ليمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائى للنوع الإنساني) (1)

قلت: فما موقف الإسلام من هذا؟

قالت: للجسد في الإسلام قيمة لا تقل عن قيمة الروح.. فلذلك يذكر في القرآن باعتباره من نعم الله على عباده.. ففي القرآن: {قالَ لَهُ صاحِبهُ وَهوَ يُحاورهُ أكفرتَ بالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً} (الكهف: 37).. وفيه: {هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذلولاً فامشُوا فِي مناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ} (الملك: 15).. وفيه: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقناكُمْ وَلا تَطْغَوا فِيهِ فَيُحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (طه:81)

فهذه الآيات القرآنية تحمل بين طيّاتها معاني تشريعية كثيرة تبين قيمة الجسد وأهمية المحافظة عليه (2)..

فهي تبين أن الإنسان بتكوينه الجسماني، وبطبيعته البدنية، جزء من عالم الطبيعة، وأنّ الأرض هي مصدر نشوئه وتكوينه.. فهو ابن الأرض، ونتاجها الحي المترقي في تكوينه وأجهزته الجسمية المختلفة: {أكفرتَ بالَّذي خلقكَ مِن تُراب}

وهي تبين أن هذا الجسد الذي نشأ من الأرض لا يستغني بطبيعته عن إمداد الأرض لوجوده، من الطعام والشراب واللباس والسكن.. {وَما جَعَلناهُمْ جَسداً لا يأكُلون الطَّعامَ} (الأنبياء: 8).

وهي تبين أن التوافق في التكوين الطبيعي بين الإنسان والطبيعة تام ومتناسق، فكلّ ما يحتاجه الإنسان لاستمرار الحياة متوفر في عالم الطبيعة ومتنام فيها.. {وَباركَ فيها وقدّرَ فيها

__________

(1)  المشكلة الأخلاقية والفلاسفة:115.

(2)  انظر مقالا بعنوان: كيف تعامل الإسلام مع الجسد؟ من موقع (البلاغ) الموسوعة الإسلامية.

ثمار من شجرة النبوة (276)

أقواتَها في أربعةِ أيّام سواءً للسّائلينَ} (فصّلت: 10).. {جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولاً} (الملك: 15)

وهي تبين أن كلّ ما في الأرض، من خيرات وطيّبات، حلال طيّب ومباح لكافة بني الإنسان، دون تفريق أو تمييز، فحكمة الله، وعدله تقضيان بأن تتوفر لكلّ إنسان حاجته وحقّه المقرر له في الحياة: {يا أَيُّها النّاس كُلُوا مِمّا فِي الأَرضِ حَلالاً طَيِّباً} (البقرة: 168)

انطلاقا من هذا.. فقد جاء الإسلام بشريعة تحرص على حفظ الحياة، وتتجاوب مع حاجات التكوين، فاستوعب بشريعته كل تلك الحاجات الإنسانية الطبيعية وقام بتنظيمها في مجالها الطبيعي المحدّد لها.

فقد أمر بمد الجسم بحاجاته المختلفة من الطعام والشراب، باعتبارهما من نعم الله على عباده: {فَلْينظر الإنسان إلى طَعَامِهِ} (عبس: 24)

وقد قاوم الإسلام لهذا محاربة الجسد، والحرمان من الطعام والشراب واللذائذ المحلّلة، تلك المحاربة التي دعا لها المترهّبون وأمثالهم ممّن يعتقدون أنّ محاربة الجسد، وتعذيبه بالجوع، والعطش، والحرمان يؤدي إلى تقوية الروح، وتنمية الملكات النفسيّة والأخلاقيّة.

فقد استنكر القرآن على هؤلاء المنحرفين موقفهم هذا من المتع الجسديّة، والطيّبات التي أنعم الله بها على عباده، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتي أخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزق} (الأعراف: 32)

قلت: فما الشرط الرابع؟

قالت: تحمل تلك العقوبات الشديدة في حال التفريط في الطقوس الكثيرة التي يتطلبها نظام الرهبانية..

سأذكر لك نموذجا عن بعض ذلك من تعاليم القديس (كولمبان) الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا.. فمن تعاليمه: (يجب أن تصوم كل يوم وتصلى كل يوم وتعمل كل يوم وتقرأ

ثمار من شجرة النبوة (277)

كل يوم، وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد)

(ويجب أن يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق)

وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسى أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الربانى.. وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسى أن يدعو الله قبل الطعام وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع ومئتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة.

وأقام (كولمبان) نظام الحمد الذى لا ينقطع، فكانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين (1).

ولم يقتصر الأمر على ما ذكره بل تجاوز ذلك إلى تصرفات جنونية تشمئز لها الفطر السليمة، ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم.

وقد روى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح... وقد عبد الراهب يوحنا ثلاث سنين قائما على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.

وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب

__________

(1)  قصة الحضارة 14: 365.

ثمار من شجرة النبوة (278)

اتهينس أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبرا هام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: وأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات (1).

وهناك راهب منعزل اخترع درجة جديدة من الورع يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق (2).

أما القديس كولمبان فـ (كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن (3).

وفوق هذا كله.. فقد كان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهبونهم إلى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمها، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب (أمبروز) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.

فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حنانا ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة، لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكي (ليكي) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب.

__________

(1)  ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 168.

(2)  معالم تاريخ الإنسانية: 732.

(3)  قصة الحضارة: 14: 356.

ثمار من شجرة النبوة (279)

قلت: فكيف أطاقوا تحمل كل هذا العناء؟

قالت: ومن ذكر لك بأنهم أطاقوا.. لقد تمردوا على فطرهم، فتمردت عليهم..

لقد قال رئيس دير كلونى: (إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التى أنشأها المؤمنين الخاشعون لكى تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى) (1)

لقد أدى التزمت والغلو في الدين ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تماماً، وأصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق وتضرب بها الأمثلة في ذلك، وقد وصل الحال بمسيحيي الشرق ـ وربما كانوا أكثر حياء وأشد تمسكاً إلى حد أن المستهترين من الخلفاء والشعراء المجان كانوا يرتدون الأديرة كما يرتاد رواد الدعارة اليوم بيوت العهر وألفوا في ذلك كتباً منها (الديارات) المعروف في الأدب العربي (2).

-\--\-

ما وصلت (آنا ماري شميل) من حديثها إلى هذا الموضع حتى امتلأت عينيها بمدامع لم تملك حبسها، فقلت: ما الذي يبكيك؟

قالت: لقد ذكرت صديقة لي كتبت كتابا سمته (الحج الى مكة)، وقد طبع بالعربية تحت عنوان (البحث عن الله)..

قاطعتها قائلا: تقصدين اللادي ايفلين كوبولد، تلك النبيلة الإنكليزية، التي اعتنقت الإسلام وزارت الحجاز، وحجت حج المسلمين، وكتبت مذكراتها عن رحلتها تلك في ذلك

__________

(1)  قصة الحضارة: 145: 372.

(2)  كتبه أبو الحسن السابشتى.

ثمار من شجرة النبوة (280)

الكتاب.

قالت: أجل.. لقد استطاعت أن تحطم كل الجدران والحجب التي كانت تحول بينها وبين الإسلام..

لقد كانت تقول: (سألني كثيرون كيف ومتى أسلمت؟ وجوابي على ذلك أنه يصعب عليّ تعيين الوقت الذي سطعت فيه حقيقة الإسلام أمامي فارتضيت الإسلام دينًا. ويغلب على ظني أنني مسلمة منذ نشأتي الأولى. وليس هذا غريبًا إذا ما راح المرء يفكر بأن الإسلام هو الدين الطبيعي الذي يتقبله المرء فيما لو ترك لنفسه ولم يفرض عليه أبواه الدين الذي يعتنقانه فرضًا. ألم يصف أحد مشاهير النقاد في أوروبا: (بأنه دين العقل والإنسانية)؟ (1)

وكانت تقول: (الإسلام كلمة تعني التسليم لله، وهي تعني السلام أيضًا، ويعرف المسلم بأنه الرجل الذي يسير في حياته وفاقًا لمشيئة خالقه وأوامره والذي يعيش بسلام مع الله وعباده. ولعل أجمل ما في الإسلام ما يضطرب فيه من وحدانية إلهية، وأخوة إنسانية، وخلوه عن التقاليد والبدع والتصاقه اللصوق كله بما في الحياة من أمور عملية.. والإيمان في القرآن إنما يقوم على العمل الصالح وليس هناك في الإسلام إيمان دون ما عمل صالح أبدًا) (2)

وكانت تقول: (إن روحانية الإسلام قوية شديدة، فهي أبدًا تدفع المسلمين بعضهم إلى بعض وتجعل منهم قوة إنسانية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مما لا يوجد مثله في العالم الحاضر) (3)

وكانت تقول: (الإسلام دين حي، حي في قلوب أتباعه ومريديه، وهو دين كلما تقدمت به الأيام زادت حيويته وقوي أمره وتبسط سلطانه وفشت دعوته ولولا ذلك لما أمكنه أن يعيش

__________

(1)  البحث عن الله، ص 9.

(2)  البحث عن الله، ص 13.

(3)  البحث عن الله، ص 13

ثمار من شجرة النبوة (281)

وأن يظل محتفظًا بقوته وتأثيره وحب أتباعه له) (1)

قلت: فما الذي يحول بينك وبين سلوك سبيلها؟

تنفست الصعداء، ثم قالت: حجب كثيرة.. لكني لن أستسلم لها.. يوشك أن أقطعها حجابا حجابا حتى أصل إلى تلك الشمس المضيئة التي شملت بأشعتها أركان العالم.

قالت ذلك، ثم قامت، وكأنها تهم بشيء..

أما أنا، فقد بقيت أتأمل تلك الأزهار الجميلة من عباد الشمس.. وقد عرفت سر الدواليب التي تحركها الشمس.

وفي ذلك المحل المبارك تنزلت علي أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1)  البحث عن الله، ص 13.

ثمار من شجرة النبوة (282)

سادسا ـ سلام

في اليوم السادس من تلك الأيام العشرة المباركة التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة السلام من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)

وسر قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة:28)

وسر قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).. وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)

وعرفت بها سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) (1)

وسر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي القاتل متعلقا رأسه بأحدى يديه متلببا قاتله بيده الاخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به تحت العرش فيقول المقتول لله: رب هذا قتلني! فيقول الله للقاتل: تعست! ويذهب به إلى النار) (2)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن عظم قدسية الروح الإنسانية.. وعظم جرم القتل.. وأنه لا يباح إلا للضرورات الشديدة، وبالحدود التي تحفظ المصالح.

__________

(1)  رواه البخاري.

(2)  رواه الطبراني في الكبير.

ثمار من شجرة النبوة (283)

-\--\-

كان من ضمن الأسماء الموجودة بالدفتر الذي سلمني إياه المرشد اسم (مكسيم رودنسون) (1).. وقد تعجبت كثيرا من وضعه في القائمة مع كونه مفكرا ماركسيا، وهو في ذات الوقت يرجع إلى أصل يهودي.. وهو بذلك قد اجتمعت فيه جميع أسباب العداوة للإسلام من ماركسية تعادي الأديان، ومن يهودية تعادي الإنسان.

لكني عندما رأيته، وسمعت حديثه زال عجبي من ذلك، وعرفت أن ماركسيته نوع من الهروب من يهوديته..

في ذلك اليوم سرت إلى الجبل الذي كان يجثم بجلال في ضاحية باريس.. وكان بهذا الجبل غابة زيتون كأنها ولدت مع ميلاد الإنسان.

وقد احترت إذ رأيت جزءا مهما من تلك الغابة قد طوق بأسوار من حديد مكهرب ليمنع أي داخل، ورأيت خارج تلك الغابة شابا يافعا ممتلئا شبابا جالسا ينظر إلى تلك الأشجار المقيدة بقيود الحديد والكهرباء..

اقتربت منه، وسألته عن سر حزنه، وسر أشجار الزيتون المطوقة بتلك الأغلال القاسية.

__________

(1)  هو مكسيم رودنسون (1915 -) Maxime Rodinson مفكر ماركسي ومستشرق فرنسي من أصل يهودي، وُلد في باريس عام 1915، وكان أبوه أحد مؤسسي اتحاد نقابات العمال اليهود في باريس، تلقَّى تعليمه الابتدائي في باريس ثم عمل كصبي تشهيلات قبل التحاقه بقسم اللغات الشرقية الحية في السوربون حيث درس اللغات السامية والإثنوجرافيا وعلم الاجتماع.

اخترناه هنا لأنه كان يرى أن الغربيين يتأثرون كثيراً بما يحدث في إسرائيل أكثر مما يحدث في الدول العربية حيث لا يأبهون بما يحدث في هذه البلاد كثيراً أو لا يأبهون بها على الإطلاق، فلا تزال المشاعر العنصرية وآثارها السياسية تطغى على حياة الغربيين. ويضرب رودنسون مثالاً لذلك بتزايد نمو الأحزاب العنصرية والنازية في الغرب الأوربي، ولذا فهو لا يعتقد في أطروحات غياب الإعلام العربي وتغيير الحالة الذهنية الغربية، لأنه يرى أن المسألة أعقد كثيراً من ذلك وترجع إلى الطبيعة العنصرية الأساسية في بنية الحضارة الغربية. (انظر: الموسوعة اليهودية، المسيري، وانظر فيها فصلا مهما حول [شخصيات ومنظمات يهودية معادية للصهيونية]

ثمار من شجرة النبوة (284)

قال لي: هذه الأشجار لي.. ورثتها عن سلسلة طويلة من الجدود.. ولم يشك أحد في يوم من الأيام أنها لي.. ولم يخطر على بال أحد في يوم من الأيام أن تنزع مني.

قلت: فمن الذي نزعها منك؟.. وما الذي جعله ينزعها منك؟

قال: رجل يهودي قاسي القلب محجر الفؤاد.. له مال عريض.. وجاه مكين، اشترى به ذمم القضاة والمحاكم والشرطة والجيش.. ولم يترك أحدا إلا رشاه.. وزور لأجل ذلك كتبا سماها كتبا مقدسة تعده بأرضي وبزيتوني.

قلت: فمن الذي أغراه بأرضك دون الأراضي!؟

قال: قوم من الحاقدين.

قلت: عليك أم عليه!؟

قال: علي وعليه..

قلت: كيف يستقيم هذا؟

قال: لقد كره الحاقدون مقامه بينهم، فأرادوا نفيه عنهم، فلم يجدوا غير أرضي..

قلت: ولم اختاروك أنت؟

قال: لعلمهم بإبائي ورسوخي في أرضي، وتضحيتي بكل شيء في سبيلها.

قلت: فهل ستقاومه؟

قال: جبان أنا إن لم أقاومه.. مقاومته واجب إنساني، وخلق رفيع.

قلت: ولكنك تملك الزيتون الذي هو رمز السلام.

قال: ولكني لو تركت له زيتوني فسيحرقه ويدمره.. ويؤسس في أرض الزيتون مصانع سلاح يدمر بها العالم.

قلت: ولكنك ـ إن قاومته ـ سيرمونك بالإرهاب.

قال: قد فعلوا ذلك.. ويوشك أن يرموني في سجونهم.. ولكني مع ذلك لم أيأس، ولن

ثمار من شجرة النبوة (285)

أيأس.. فسيخلفني من يقوم في وجوههم، ومن ينتزع منهم أرضي، ويحمي زيتوني.

في ذلك الموقف.. التقيت (مكسيم رودنسون)

جاء، ومعه محفظته التي يحمل فيها كتبه، ومعها قفة يحمل فيها طعاما إلى ذلك الشاب، وما إن رآه الشاب حتى راح يصافحه بحرارة.

سألت الشاب أن يعرفني بهذا الرجل الطيب، فقال لي: هذا (مكسيم رودنسون).. هو ابن عم لذلك المغتصب الظالم.. ولكنه يبغضه أشد البغض، ويحاربه أعنف حرب.

ملأ السرور قلبي في تلك اللحظة، فقد كنت محتارا في الطريقة التي أدخل بها عالم هذا الرجل.

ابتدأته بقولي: أنت الأستاذ (مكسيم رودنسون) المستشرق والمفكر..

قاطعني، وقال: والباحث عن السلام.. البحث عن السلام هو وظيفتي الكبرى التي لا تراها العيون.

قلت: ما تقصد؟

قال: إن حياتي كلها بحث عن السلام.. لقد ولدت في بيئة تمتلئ حربا وبغضا وأحقادا.. ولذلك تراني أفر من موضع إلى موضع.. ومن بلد إلى بلد.. ومن مذهب إلى مذهب.. لا لشيء إلا لأجل البحث عن السلام.

قلت: فلم تبحث عن السلام؟

قال: لأنه لا حياة بلا سلام.. السلام هو الوسط الصحيح الذي تنمو فيه شجرة الإنسانية.. فلا يمكن لشجرة الإنسانية أن تؤتي ثمارا طيبة، وهي مختنقة بنيران الحرب.

انظر إلى هذا الزيتون المسكين المحاصر.. ألا ترى إلى دموعه، وهي تنحدر كما تنحدر السيول!؟

إن هذا الزيتون الذي يمثل السلام يريد الحاقدون خنقه ليؤسسوا على أنقاضه شجرة

ثمار من شجرة النبوة (286)

الدمار التي لا تثمر غير سفك الدماء.

قلت: فهل وجدت السلام؟

قال: وجدته..

قلت: كيف وجدته؟

قال: وجدته محاصرا كما يحاصر هذا الزيتون.

قلت: أين وجدته؟.. ومن غرس شجرته؟

قال: وجدته في الإسلام.. وقد غرس شجرته محمد.

تعجبت كثيرا من قوله هذا، فقلت: لقد علمت أنك شيوعي يهودي.. فكيف تقول هذا؟

قال: أقول الحقيقة التي يمتلئ بها قلبي، ولكن لساني يعجز عن التعبير عنها.

قلت: ولكني أرى الناس جميعا مجمعون على أن الإسلام دين الإرهاب، وأن المسلمين هم ممثلو الإرهاب في العالم.

قال: ألم تر إلى هذا الشاب المسكين الممتلئ حزنا؟

قلت: بلى.. لقد كنت أتحدث معه الساعة.

قال: إنهم يسمونه (إرهابيا)

قلت: لقد أخبرني بذلك.

قال: لو أن هذه الشاب المسكين لم يطوق حقله، ولم يخرج من أرضه، أتراه يحمل السلاح على عدوه؟

قلت: لا أراه يفعل ذلك.. فبراءة السلام بين عينيه.

قال: وهكذا المسلمون المساكين.. احتلوا أرضهم.. وقتلوا أطفالهم.. ونهبوا خيراتهم.. ومنعوهم من كل شيء حتى من الكلام.. فإذا قام أحدهم ورمى حجرا ليعبر عن إبائه سموه إرهابيا..

ثمار من شجرة النبوة (287)

قلت: لقد ذكرت لي أنك لم تجد السلام إلا في الإسلام، وعند محمد.

قال: ذلك بحث طويل.. لقد فتشت الأديان والمذاهب والفلسفات والأفكار أبحث عن السلام الشامل.. فلم أجده إلا في دين محمد.

قلت: فهل تحدثني بخلاصة أبحاثك؟

قال: أجل.. يسرني ذلك كل السرور.. فأنا لا هم لي إلا التبشير بهذا.

سلام الجاهلية

قلت: بم نبدأ حديثنا عن السلام؟

قال: بالجاهلية.

قلت: بجاهلية العرب!؟

قال: بجاهلية العالم.. فلا يعرف فضل الجمال إلا بمقارنته بالدمامة.. ولا يعرف فضل السلام إلا بمقارنته بالصراع.. ولا يعرف فضل الإسلام إلا بمقارنته بالجاهلية.. كما لا تعرف الثمرة الطيبة إلا بمقارنتها بالثمرة الخبيثة.

قلت: فبأي ثمرة خبيثة نبدأ؟

قال: باليهودية.

قلت: هي دينك الذي ينتمي إليه أبوك وجدك.

قال: من أراد أن يبحث عن الحقيقة فعليه أن يقطع جذوره، ويطلق أباه وجده.

قلت: إن اليهود شعب مضطهد، وقد عانى في حياته الأمرين.. فكيف تعتبره عدوا للسلام؟

قال: إن عداوته للسلام تنطلق من دينه ومعتقداته.. فهو يمارس الإرهاب عبادة لا عادة..

قلت: ما تقول؟

ثمار من شجرة النبوة (288)

قال: ألا تعرف سفر حزقيال؟

قلت: هو سفر من أسفار كتابنا المقدس في عهده القديم.

قال: نعم.. وهو قاسم مشترك بينكم وبيننا.. ولذلك، فإن لكم شبها عظيما بنا.. أتدري بماذا يوصينا الرب في هذا السفر الغالي الذي اشتركنا في وراثته؟

قلت: بم؟

أخرج الكتاب المقدس من محفظته، وفتحها على هذا السفر، وقال: الرب ـ في هذا السفر المقدس ـ يأمر بقتل النساء والاطفال والشيوخ والبهائم، فيقول: (اعبروا في المدينة خلفه واقتلوا. لا تترأف عيونكم ولا تعفوا. أهلكوا الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء. ولكن لا تقربوا من أي إنسان عليه السمة، وابتدئوا من قدسي). فابتدأوا يهلكون الرجال والشيوخ الموجودين أمام الهيكل. وقال لهم: (نجسوا الهيكل واملأوا ساحاته بالقتلى، ثم اخرجوا). فاندفعوا إلى المدينة وشرعوا يقتلون) (حزقيال 9: 5 - 7)

التفت إلي، وقال: هل سمعت.. إن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد في الدنيا.. الذي يأمر بقتل الأطفال؟

ليس هذا فقط.. اسمع ما يقول سفر العدد (31: 1 - 18): (وقال الرب لموسى: انتقم من المديانيين لبني إسرائيل، وبعدها تموت وتنضم إلى قومك. فقال موسى للشعب: (جهزوا منكم رجالا مجندين لمحاربة المديانيين والانتقام للرب منهم.... فحاربوا المديانيين كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر؛ وقتلوا معهم ملوكهم الخمسة: أوي وراقم وصور وحور ورابع، كما قتلوا بلعام بن بعور بحد السيف. وأسر بنو إسرائيل نساء المديانيين وأطفالهم، وغنموا جميع بهائمهم ومواشيهم وسائر أملاكهم، وأحرقوا مدنهم كلها بمساكنها وحصونها، واستولوا على كل الغنائم والأسلاب من الناس والحيوان،.... فخرج موسى وألعازار وكل قادة إسرائيل لاستقبالهم إلى خارج المخيم، فأبدى موسى سخطه على قادة الجيش من رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين

ثمار من شجرة النبوة (289)

من الحرب، وقال لهم: لماذا استحييتم النساء؟ إنهن باتباعهن نصيحة بلعام أغوين بني إسرائيل لعبادة فغور، وكن سبب خيانة للرب، فتفشى الوبأ في جماعة الرب. فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، واقتلوا أيضا كل امرأة ضاجعت رجلا، ولكن استحيوا لكم كل عذراء لم تضاجع رجلا)

ليس هذا فقط.. لقد جاء في سفر يشوع (6: 16): (قال يشوع للشعب: اهتفوا، لأن الرب قد وهبكم المدينة. واجعلوا المدينة وكل ما فيها محرما للرب.. أما كل غنائم الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد، فتخصص للرب وتحفظ فى خزانته. فهتف الشعب، ونفخ الكهنة في الأبواق. وكان هتاف الشعب لدى سماعهم صوت نفخ الأبواق عظيما، فانهار السور في موضعه. فاندفع الشعب نحو المدينة كل إلى وجهته، واستولوا عليها. ودمروا المدينة وقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير)

ليس هذا فقط.. لقد جاء في سفر هوشع (13: 16) يقول الرب: (تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق)

وفي سفر إشعيا (13: 16) يقول الرب: (وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم)

التفت إلي، وقال: اسمع هذه التشريعات الإرهابية القاسية التي يأمبر بها الكتاب المقدس.. لقد جاء في سفر التثنية (20: 10 - 15) قول الرب: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح، فإن أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. واما النساء والاطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة اعدائك التي اعطاك الرب الهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا)

ثمار من شجرة النبوة (290)

ليس هذا فقط.. اسمع إلى تشريعات الإبادة التي يأمر بها إله الكتاب المقدس..

لقد جاء في سفر التثنية (20: 16): (أما مدن الشعوب التي يهبها الرب إلهكم لكم ميراثا فلا تستبقوا فيها نسمة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمركم الرب إلهكم)

التفت إلي، وقال: لا أظن هتلر قام بفعلته الشنيعة ـ إن كان فعلها ـ إلا بعد قراءة هذا النص.. لقد خشي على قومه أن يضموا إلى هذه الأجناس التي أمر اليهود بإبادتهم، فراح يتغذى بهم قبل أن يتعشوا بقومه (1).

ليس هذا فقط.. فأوامر الرب بالقيام بالمذابح والمجازر في الكتاب المقدس لا تنتهي.. لقد جاء في سفر صموئيل الأول (15: 3 - 5): (وقال صموئيل لشاول: (أنا الذي أرسلني الرب لأنصبك ملكا على إسرائيل، فاسمع الآن كلام الرب. هذا ما يقوله رب الجنود: إني مزمع أن أعاقب عماليق جزاء ما ارتكبه في حق الإسرائيليين حين تصدى لهم في الطريق عند خروجهم من مصر. فاذهب الآن وهاجم عماليق واقض على كل ماله. لا تعف عن أحد منهم بل اقتلهم جميعا رجالا ونساء، وأطفالا ورضعا، بقرا وغنما، جمالا وحميرا)

ولهذا.. فإن من أهم أوصاف الرب أنه إله النقمات.. لقد جاء في مزمور (94: 1): (يا إله النقمات.. يا رب.. يا إله النقمات).. وفي (تثنية: 4:24): (لأن الرب الهك هو نار آكلة اله غيور).. وفي (أشعياء:66: 16): (لأن الرب بالنار يعاقب وبسيفه على كل بشر ويكثر قتلى الرب).. وفي (ارميا 48:10): (ملعون من يعمل عمل الرب برخاء وملعون من يمنع سيفه عن الدم).. لقد قال مثل هذا بولس في رسالته إلى العبرانيين (12: 29): (لأن إلهنا نارا آكلة)

قلت: إن كل ما ذكرته من نصوص أحفظه عن ظهر قلب..

قال: تصور معي عندما يلقن الطفل الصغير هذه النصوص.. وغيرها من النصوص

__________

(1)  هناك من يذهب إلى أن هتلر يهودي العرق..

ثمار من شجرة النبوة (291)

الكثيرة التي تمتلئ بها الأسفار المقدسة..

ثم يلقن بعدها عقدة التفوق العنصري الموهوم لما يسمى بـ (الشعب المختار).. ويلقن معها شدة الاستهانة بدماء الآخرين من (الأمميين) أو (الأغيار) أو (الجوييم) أو (العامة) أو (الكوفريم) والتي تعني كلها الأصناف البشرية الأخرى غير اليهود.

فإذا وجد هذا الطفل تطلعا للبطولة حكيت له قصة شمشون.. وبطولات شمشون (1).

فإذا بلغ هذا الطفل لم يجد أمامه إلا العصابات الإرهابية..

قلت: إن اليهود يشكون الإرهاب ويخافون منه.

قال: اللص لا يخاف إلا اللصوص.. ولو لم يكونوا لصوصا لما خافوا أحدا..

الإرهاب ليس حدثا عابرا عرضيا في أولئك القساة إنما هو أمر كامن في مشروعهم الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، وفي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

كما أن حلقات وآليات هذا الإرهاب مترابطة متلاحقة، فالهجمات الإرهابية التي شنت ضد بعض القرى العربية أدت إلى استسلام بقية سكان الأراضي المحتلة، أي أن المذابح والاعتقالات والإبعادات إن هي إلا آلية من آليات الاستيطان الصهيوني الإحلالي، ولا يمكن تخيل إمكانية تحقق المشروع الصهيوني بدونها.

والإرهاب الصهيوني هو الآلية التي تم بها تفريغ جزء من فلسطين من سكانها وفرض المستوطنين الصهاينة ودولتهم الصهيونية على شعب فلسطين وأرضها.

وقد تم هذا من خلال الإرهاب المباشر، غير المنظم وغير المؤسسي، الذي تقوم به المنظمات الإرهابية غير الرسمية (المذابح ـ ميليشيات المستوطنين ـ التخريب ـ التمييز العنصري) والإرهاب

__________

(1)  شمشون، هو اسم لشخص يُشار إليه أحياناً بأنه آخر القضاة، فقد كان قاضياً من قبيلة دان مدة عشرين سنة، وقد اشتهر بقوته الجسدية الخارقة، تدور حياته حول مجموعة من المغامرات مع ثلاث نساء.. انظر القصة وتحليلها في (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

ثمار من شجرة النبوة (292)

المباشر، المنظم والمؤسسي، الذي تقوم به الدولة الصهيونية (التهجير ـ الهيكل القانوني للدولة الصهيونية ـ التفرقة العنصرية من خلال القانون ـ الجيش الإسرائيلي ـ الشرطة الإسرائيلية ـ هدم القرى).

وكلا هذين النوعين من الإرهاب (الإرهاب المؤسسي وغير المؤسسي) مرتبطان تمام الارتباط، ويتم التنسيق بينهما ويجمع بينهما الهدف النهائي، وهو إفراغ فلسطين من سكانها أو إخضاعهم وحصارهم (1).

لعلك سمعت بواقعة دير ياسين (قبل عام 1948)

قلت: أجل.. ولكنها من فعل بعض الرعاع.. ولا يصح أن ننسبها لشعب كامل.

قال: لقد راح ضحية تلك المذبحة زهاء 260 فلسطينياً من اهالي القرية العزل.. وكانت هذه المذبحة، وغيرها من اعمال الارهاب والتنكيل، احدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات الصهيونية المسلحة من اجل السيطرة على الاوضاع في فلسطين تمهيداً لاقامة الدولة الصهيونية.

لقد أرسل مناحم بيجين برقية تهنئة الى رعنان قائد الارجون المحلي قال فيها: (تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك انهم صنعوا التاريخ في اسرائيل)

وفي كتابه المعنون الثورة كتب بيجين يقول: (إن مذبحة دير ياسين اسهمت مع غيرها من المجازر الاخرى في تفريغ البلاد من 650 الف عربي)، واضاف قائلاً: (لولا دير ياسين لما قامت اسرائيل)

قلت: ألا يمكن أن يكون ما حصل من اليهود من إرهاب مجرد رد فعل لما حصل لهم من إذلال؟

قال: رد الفعل يكون لمن فعل الفعل لا لغيره.. هكذا يقول المنطق.. وهكذا تقول القيم النبيلة..

__________

(1)  انظر: الصهيونية والعنف... من بداية الاستيطان الى انتفاضة الاقصى، د. عبد الوهاب المسيري.

ثمار من شجرة النبوة (293)

وفي هذه الحالة ينبغي لقومنا أن يوجهوا رد فعلهم للمسيحيين.. لأنه ـ على مدار التاريخ ـ لم يذل اليهود أحد كما أذلهم المسيحيون..

لقد ظل اليهود في نظر العالم المسيحي بأسره (أمة ملعونة) لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم ـ في اعتقاد المسيحيين ـ قتلة السيد المسيح.

وقد عانى اليهود صنوفا من الاضطهاد والازدارء بناء على هذا التصور الذي ترسخ في العقل المسيحي وصمد على مر القرون، مدعوما بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية وسياسية خاصة (1).

أما حياتهم مع المسلمين، فقد كانت لا تختلف عن حياة المسلمين أنفسهم.. بل إن العصر الذهبي لليهود لم يعيشوه إلا في ظلال المسلمين..

فقد كان اليهود ـ الذين يعيشون في بلاد المسلمين ـ يشاركون في معظم مجالات الحياة وفي كل المهن والحرف تقريباً، وكانت ملكية الأراضي مفتوحة أمامهم، كما أنهم تملكوا العقارات في كل أنحاء البلاد وتناقلوها عن طريق الوراثة أو عمليات البيع والشراء فيما بينهم وبين المسلمين دون أية مضايقات (2).

__________

(1)  لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية ـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة المسيحية بشكل عام، والكاثولوكية الغربية بشكل خاص كان من نتائج هذه التحولات أن أصبحت المسيحية الجديدة التي عرفت باسم البروتستانتية ربيبة لليهودية.

فقد أصبح للعهد القديم أهمية أكبر في نظر البروتستانت من العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعا لذلك في أذهان المسيحيين الجدد وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام 1523 كتابا عنوانه (المسيح ولد يهوديا) قدم فيه رؤ