×

الكتاب: سلام للعالمين

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1437 هـ

عدد الصفحات: 715

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34420-3

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

تتناول هذه الرواية أعقد مشكلة في الواقع بكل جوانبه النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.. وهي مشكلة الصراع الذي تنفخ فيه جميع شياطين الإنس والجن، ليعيش الإنسان محجوبا عن ربه، وعن عوالم الجمال التي خلقها له ربه.

وهي - كما تصف الواقع بمرارته وآلامه - تحاول أن تضع بين يدي القارئ أنوار السلام الجميل التي أنقذ الله بها عباده عبر رسله الكرام، وأولياءه العظام.

فهي تصف – بحيادية تامة- واقع الصراع بآلامه وهمومه وأحزانه.. كما تصف واقع السلام بكل آماله وأفراحه وسعادته.

والسلام الذي تصفه هذه الرواية هو المنطلق من الدين الإلهي الحقيقي.. لا الدين البشري المزيف الذي تفننت الشياطين في صناعته، وحاولت أن تخلطه بدين الله..

سلام للعالمين (12)

المقدمة

تتناول هذه الرواية أعقد مشكلة في الواقع بكل جوانبه النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.. وهي مشكلة الصراع الذي تنفخ فيه جميع شياطين الإنس والجن، ليعيش الإنسان محجوبا عن ربه، وعن عوالم الجمال التي خلقها له ربه.

وهي - كما تصف الواقع بمرارته وآلامه - تحاول أن تضع بين يدي القارئ أنوار السلام الجميل التي أنقذ الله بها عباده عبر رسله الكرام، وأولياءه العظام.

فهي تصف – بحيادية تامة- واقع الصراع بآلامه وهمومه وأحزانه.. كما تصف واقع السلام بكل آماله وأفراحه وسعادته.

والسلام الذي تصفه هذه الرواية هو المنطلق من الدين الإلهي الحقيقي.. لا الدين البشري المزيف الذي تفننت الشياطين في صناعته، وحاولت أن تخلطه بدين الله..

والعلامة الفارقة بين الدين الإلهي والدين البشري – كما تصفه الرواية – هو الصراع.. فحيثما يكون الصراع تكون الشياطين.. وحيثما يكون السلام والطمأنينة يكون الدين الإلهي، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]

والرواية من عشرة فصول، ولكل فصل منها قصة مستقلة، يحكيها رجل من الرجال العشرة الذين ألقت عليهم القبض بعض الجماعات الإرهابية التي تمثل التزييف الذي أوقعه الشيطان في الدين الإلهي، ليصبغ مشروعه المدمر بصبغة الله.

وقد كان هؤلاء العشرة ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقهم.. لكنهم في نهاية الرواية ينجون بأعجوبة.. ويكتشفون العلاقة بين الإرهابيين والشياطين التي تدير الصراع في العالم.

ويمكن تقسيم الصراع والسلام في الرواية إلى قسمين:

سلام للعالمين (13)

الأول: الصراع والسلام الداخليان، وهما اللذان ينطلقان من الأنا وجميع القوى التي تشكلها من العقل والقلب والنفس.. وهي ما يتضمنه الجزء الأول من الرواية.

الثاني: الصراع والسلام الخارجيان، وهما اللذان يشملان جميع علاقات الإنسان الخارجية ابتداء من الأسرة، وانتهاء بالله.. وهي ما يتضمنه الجزء الثاني من الرواية.

ونحب أن ننبه هنا إلى ما يلي:

1 ـ أن الشخصيات التي نعتمدها في الرواية، والتي تمثل طوائف مختلفة، لا تعني أننا نقبلها في كل شيء أو نرفضها في كل شيء.. وإنما اخترناها لمناسبة بينها وبين ما نطرحه من رؤى وأفكار.. فنقبلها أو نرفضها من تلك الناحية، لا من غيرها من النواحي.

2 ـ أن مقصودنا بالدين الإلهي أو المشروع الإلهي هو الإسلام المحمدي الأصيل الذي يمثله القرآن الكريم النور الممتد من السماء إلى الأرض.. ويمثله رسول الله (عبر سنته الصحيحة التي تتوافق مع القيم القرآنية والفطرية.. لا السنة التي عبث بها الوضاعون والمتلاعبون الذين مزج بهم الشيطان مشروعه بدين الله.

3 ـ أننا في ذكرنا للصراع لا نبرئ هذه الأمة من كونها عاشت الصراع، ولا تزال تعيشه بسبب الدخن الذي ألبسه الشيطان بدينها الأصيل.. وبسبب بعدها عن التمسك بالصراط المستقيم الذي أوصى به رسول الله (أمته.. ولهذا فإن السلام الإسلامي الذي نشيد به في الرواية هو سلام الإسلام الإلهي، لا الإسلام التاريخي أو التراثي الذي امتزج فيه الإلهي بالشيطاني، كما أخبر رسول الله (عن ذلك في نبوءاته الكثيرة.

4 ـ أن المقصود في الرواية هو الأفكار التي تحملها، وليس الأحداث، فالأحداث ليست سوى رموز تحاول أن تصل إلى الحقيقة بطريقة سهلة لينة رقيقة، كما هو عنوان السلسلة [حقائق ورقائق]

سلام للعالمين (15)

البداية

في صباح ذلك اليوم، نهضت على أصوات ملأتني بالرعب.. فقد سمعت ضجة كبيرة في الحارة التي كنت أسكن فيها.. ولم ألبث بعدها حتى سمعت أصوات الرصاص ترتفع.. ثم لم ألبث حتى سمعت أصوات سيارات الشرطة، وهي تملأ الفضاء بصوتها المميز.

كانت الحادثة ـ بالنسبة لي وبالنسبة لمن يسكنون معي تلك الحارة ـ بسيطة عابرة.. فلم تصر تأخذ منا تلك المساحة التي كانت تأخذها في بداية عهدنا بمثلها.

لقد كانت ـ في بداية عهدنا بمثلها ـ تأخذ منا اهتماما كبيرا.. تعقد له المجالس الطويلة.. أو تغلق لأجله الأبواب، وتكمم الأفواه، ويفر كل امرئ بنفسه عن كل شيء.

هكذا بدأ تعاملنا مع مثل تلك الحوادث.. ولكنا بعد أن تعودنا عليها.. وبعد أن تعودت أسماعنا على تلك الأصوات المزعجة، واندمجت لها، صارت لنا كأي صوت نسمعه، ولا نبالي به.

لم ألبث بعد ذلك حتى سمعت جارا لنا، كان شابا نشيطا يدرس في الجامعة، وكانت تلك الأيام أيام امتحانات، فأخذت أسترق السمع لما يحفظ رغما عني، كما تعودت أن أسترق، فلم أسمع منه إلا ما تعودت أن أسمعه.. فقد كان يردد كل حين أسماء حفظها صبياننا كما حفظها شبابنا.. بل حتى عجائزنا سرت إليهن العدوى، فنسين أبا زيد الهلالي وعنترة بن شداد، ورحن يرددنها لنا..

لقد كان بين الحين والحين يذكر أوجست كونت، ودوركايم، وليني بريل، وديفيد هيوم، وآدم سميث، وهويز، وهربرت سبنسر، وفرويد، وماركس، وأنجلز، وبافلوف، وديوي، وبرتراند راسل، وهارولد لاسكي.. وغيرهم كثير.. وكان كل اسم من تلك الأسماء ينفجر في أذني كما تنفجر أعتى المتفجرات.

حمدت الله، فقد انخفض صوته، ثم تلاشى بعدها.. لكني لم ألبث حتى سمعت من بيت

سلام للعالمين (16)

جار آخر صوت فيلم بوليسي لم أسمع من كلماته غير كلمات الرصاص والتفجيرات وأصوات السيارات المزعجة.

بعدها ذهبت إلى النافذة لأطل على الشارع، فشاهدت صبية صغارا، وهم يلعبون لعبة الشرطي واللصوص، ويستعملون ما أبدعت هذه الحضارة الشقية في صناعته من أنواع المتفجرات التي لا تكاد تفرق بينها وبين المتفرجات الحقيقية.

أغلقت النافذة.. فما لبثت حتى سمعت صوت ولدي، وهو يبكي طالبا من أمه أن تشتري له نوعا جديدا من المتفجرات امتلأت به أسواقنا.. وكان يقول لها، وهو يبكي: (لقد اشترى كل الأولاد هذه المتفجرات، ولم نبق إلا نحن)، ثم أخذ يصيح: (صدق الناس عندما يعتبروننا بدوا متخلفين.. فنحن لسنا سوى ما ذكروا)

لم أدر كيف غضبت في ذلك الحين غضبا شديدا، ورحت أصيح في الولد وأمه بهستيرية، وأنا أقسم بأغلظ الأيمان بأن لا أشتري له أي لعبة..

بكى ولدي بكاء شديدا لم يحرك في ساكنا.. لكن أمه نهضت وأشغلت التلفاز.. فما إن رأى الولد فيلما من أفلام الرسوم المتحركة المليئ هو الآخر بالقنابل والمدافع والدبابات حتى راح ينشغل بالتفرج عليها عن المتفجرات التي كان يطلبها.

هكذا بدأ ذلك اليوم الذي سمعت فيه قصة ذلك الشيخ الممتلئ بالسلام، وهو يحكي رحلته إلى رسول الله (.. والتي سأرويها لكم..

ومع أن المشهد لم يكن يختلف كثيرا عن سائر الأيام.. لكني في ذلك اليوم خصوصا امتلأت بالألم.

لقد رأيت الصراع في صورة شيطان قد استوى على عرش البشرية، فراح يملي عليها من ألوان الصراع ما لم يعرفه البشر في تاريخهم جميعا.

لكني فجأة.. شعرت بروحانية عميقة، وأنا أسمع صوت الشيخ الصالح في زحمة تلك

سلام للعالمين (17)

الأصوات جميعا، وهو يردد بخشوع قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (يّس:58).. ثم يكررها مرات كثيرة.. ثم تختلط دموعه بصوته، فلا أكاد أميز صوته عن دموعه.

لست أدري كيف دب الأمل إلى نفسي، وذهب عني ذلك الإحباط الذي سببه لي ما رأيته وسمعته.

أسرعت إليه.. وقلبي يردد ما يردده من الآية الكريمة.. استأذنت عليه، فأذن لي، ودموعه لا تزال تفيض من آثار ما قرأه من القرآن الكريم.

قلت له: سيدي.. ألم تزعجك أصوات المتفجرات التي استيقظنا عليها هذا الصباح؟

قال: نعم.. انزعجت لها كثيرا.. بل كدت أشتعل من فرط انزعاجي.. فلذلك رحت أقرأ آيات السلام لأغسل بها أدران الصراع التي أنشأتها في نفسي أصوات المتفجرات.

قلت: اعذرني ـ سيدي ـ فأنت تعلم الحال التي صار إليها قومي.. لقد استبدلوا بأصوات القرآن العذبة هذه الأصوات.. وليتهم استبدلوها بنهيق الحمير، ولم يستبدلوها بهذه الأصوات.

قال: أنا لم أنزعج لأجل الأصوات.. وإنما انزعجت من قومي..

قلت: قومك!؟.. وما علاقة قومك بهذا؟

قال: ألا ترى أن قومك لم يتخلوا عن أصوات القرآن إلى هذه الأصوات إلا بعد أن تخلوا عن التلمذة على القرآن الكريم وعلى نبيهم (، وراحوا يتتلمذون على قومي؟

قلت: أراك تلصق بقومك كل مثلبة.. فهل أنت من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة (1)؟.. إن من يؤمن بها متخلف عندنا.

قال: ولم تعتبرونه متخلفا؟

قلت: لأنه لا دليل يدل عليها.. هي مجرد خرافات نسجها بعض الناس ليتهربوا من

__________

(1) ننبه إلى أننا بنينا أحداث هذه الرسالة على ما يسمى بنظرية المؤامرة بأبعادها المختلفة.. ونحن ـ كما تعودنا في هذه السلسلة ـ لا نقصد الأحداث، وإنما نقصد المعاني الرمزية التي تحملها.

سلام للعالمين (18)

مسؤوليتهم..

قال: ألم تسمع ذلك الشاب.. وهو يحفظ كل ما لقنه قومنا من دروس؟

قلت: هو شاب جامعي.. وهو شاب نشيط.. وقد تعودنا على سماع هذا منه.

قال: فخيرة شبابكم يتتلمذ على أساتذة الصراع الذين خرجناهم.. ألا تعتبر ذلك الشاب خاضعا لمؤامرة؟

قلت: كيف يكون خاضعا لمؤامرة.. هو لم يفعل إلا أن راجع دروسه؟

قال: أرأيت لو أن ذلك الشاب.. وبدل أن يحفظ أسماء أساتذة الصراع حفظ أسماء أساتذة السلام.. هل سينجح في دراسته؟

قلت: هو لن ينجح حتى يعيد لأساتذته بضاعتهم التي باعوه إياها.

قال: فهو مكره إذن على أن يتعلم كل ذلك.

قلت: ليس في العلم حرج.

قال: ولكن الحرج في أن يعلم شيئا واحدا.. ثم لا يكون ذلك الشيء الواحد إلا الصراع.

قلت: على العموم.. ليس ذلك الشاب سوى فرد من أفراد المجتمع.. ولا يمكن أن يتغير المجتمع بتغير فرد واحد فيه.

قال: وأولئك الصبية الذين شغلناهم باللهث وراء المتفجرات.. أليسوا ضحايا مؤامراتنا؟

قلت: وما علاقتكم بذلك؟

قال: ألسنا الذين صدرنا لكم تلك المتفجرات.. وكان في إمكاننا أن نصدر لكم بدلها أناشيد السلام؟

قلت: ولكن قومي هم الذين اختاروا أن يشتروا تلك المتفجرات.. ولو اختاروا أن يشتروا بدلها ورودا لفعلوا.. ولكنهم أبوا إلا أن يشتروا متفجرات..

قال: ومن أملى على قومك أن يشتروا ما اشتروا؟

سلام للعالمين (19)

قلت: نفوسهم.. نفوسهم هي التي أملت عليهم ذلك.. وربما كان لشياطينهم سبب في ذلك.. ولكن السبب الأكبر هو نفوسهم.

قال: النفوس كالشياه لا يتشكل لحمها إلا من العلف الذي تعلفه.

قلت: وما علاقة العلف الذي تعلفه نفوسنا بالمؤامرة؟

قال: ألا ترى قومي كيف وضعوا قومك.. بل البشرية جميعا.. في زريبة واحدة، ثم راحوا يعلفونهم بجميع أنواع السموم كما علفوا البقر الذي جن؟

قلت: لم أر البشرية في زريبة.. ولم أر أي علف يقدم لها.

قال: ألم تر أولئك الراكعين الساجدين أمام ما يصدر قومي من كل ما يسمونه تسلية؟

قلت: بلى.. ولكنها تسلية..

قال: بل هي العلف الذي علفت به نفوس العالم.. إنكم لا تجلسون لتتسلوا، وإنما تجلسون لتعلفوا كل قيم الصراع التي يصدرها قومي.. لتصبحوا حيوانات كحيوانات الغابة يفترس القوي منها الضعيف، ويأكل ذو الناب منها من لا ناب له.

قلت: أهذه أدلتك على نظرية المؤامرة؟

قال: أخطر المؤامرات هي التي لا يقصدها أصحابها.. لأنهم لو قصدوها قد يخطئون في تخطيطاتهم، فينحرفوا عن مقصدهم الذي قصدوه.

قلت: أتقصد أنها مؤامرة قصدوها أو لم يقصدوها؟

قال: أجل.. فلا يمكن لأحد يملأ بستانه ببذور الشوك أن يجني عنبا.

قلت: أقومك هم الزارعون؟

قال: عندما ركن قومك إلى الكسل استولى قومي على جميع حقول العالم، وراحوا يزرعون جميع أنواع الأشواك..

قال ذلك، ثم تنفس الصعداء، وراحت دموع غزيرة تنحدر بقوة، فقلت: هون عليك.

سلام للعالمين (20)

قال: كيف أهون علي.. وأنا أحس بمسؤوليتي عن كل هذه المتفجرات التي تملأ حياتكم ضجيجا؟

قلت: لا تقل ذلك يا ولي الله.. فأنت أرفع من أن تكون سببا.

قال: بلى.. لقد كنت في يوم من الأيام.. كما كان قومي.. سببا من الأسباب.

قلت: ما تقول؟

قال: للأسف.. لقد مدت الكنيسة يدها إلى المصارعين من أول ما ظهر المصارعون.. وراحت تشجعهم على كل ألوان الصراع.. وما تراه من قومك هو ثمار بذور كثيرة غرسها من تربوا في كنائسنا، وتعمدوا على أيدينا.

قلت: ولكن المسيح رسول السلام.. ألستم تروون كل حين قوله: (طوبى لصانعي السلام، لأنهم يدعون أبناء الله (1)) (متى 5/ 9

قال: بلى.. لقد صلبنا ذلك المسيح الذي قال تلك الكلمات.. صلبناه بكل حقد، ثم رميناه في جهنم بعد أن صببنا عليه كل ألوان اللعنات (2).

قلت: وأي مسيح بقي لكم؟

قال: مسيح لا علاقة له بكم.. إنه مسيح روماني.. يحمل كل بذور الصراع التي كانت تصدرها روما للعالم الذي تتهمه بالبربرية.

قلت: ما تقول؟.. إن ما تقوله خطير.

قال: ولكنه حقيقة.. حقيقة عشتها ورأيتها.. بل عاشتها جميع الأجيال التي تقلبت في أصلابها.

__________

(1) ذكرنا بتفصيل المعنى الصحيح لهذه العبارة على حسب الكتاب المقدس، وهو مرادفتها لمعنى (ولي الله) في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

(2) انظر (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (21)

قلت: لم أفهم ما الذي تقصد.

قال: لقد رحت أبحث فينا.. في جذورنا.. فلم أجد إلا الصراع..

في البدء.. كان هناك شعبان.. الرومان واليونان.. وكان هذان الشعبان هما الهواء الذي تنفسناه، والماء الذي شربناه..

وقد شربنا مع مياه الرومان واليونان جميع أنواع الصراع.. ولبسنا جميع أثواب الصراع.

لقد كان هذان الشعبان يوحيان إلينا كل حين أن هناك عدوا يهدد وجودنا.. فنصيح من حيث لا نشعر بإعلان الحرب بكافة صورها.. ثم نغرق البشرية بعدها في حمامات من الدماء.

ألا تعلم أن أهم أسباب الحروب الصليبية ـ كما يذكر مؤرخونا ـ هو إعادة توجيه طاقة البارونات الأوروبيين من النزاعات الدموية المحلية إلى غاية نبيلة تتمثل في استعادة الأرض المقدسة وقبر المسيح من أيدي المسلمين؟

وإمعانا من الكنيسة في تحميس الصليبين الذين وهنت دواعي النصر فيهم لكثرة ما سفكوا من دماء بعضهم البعض أصدر البابا (أوربان) صكّه للغفران، والذي عرض فيه إسقاط ذنوب وخطايا الذين يقاتلون المسلمين.. فدبَّت اليقظة في أوصال الجندي المرتبك أخلاقيا، واشتعل حماسا كأنما هو يستيقظ من سبات عميق.

وهكذا كنا دائما..

حتى نظام الفروسة الذي يفخر به قومنا لم يكن إلا مثلا من أمثلة هذا التكريس الديني للنزعات الحربية التي حاولت الكنيسة حتى ذلك الحين قمعها لأغراض مثالية ورغبات نبيلة.. فالحروب الصليبية من هذه الناحية كانت تعتبر المظهر الهجومي للفروسية، والفروسة تعتبر بذرة الحروب الصليبية كما تعتبر ربيبته.. والفارس الذي يشترك في الحروب الصليبية، إنما يشبع بذلك النزعة الحربية الكامنة فيه تحت إشراف الكنيسة وبأمرها، وينال بذلك الخلاص التام والتطهر من الذنوب وهو ما يسعى إليه بشدة.. وربما أمعن الفارس طوال يومه في القتل والتذبيح، فإذا جاء

سلام للعالمين (22)

الليل ركع أمام مذبح كنيسة القيامة، يهلل من فرط فرحه آملا أن يكون ما تخضب به من الدماء إنما جرى من أجل السيد المسيح.

قلت: ولكن أوربا طلقت الكنيسة من زمان..

قال: طلقتها.. ولكنها لم تطلق الصراع.. لقد ظلت نزعة الصراع تضرب على أوتار قلوبنا كما كانت تضرب في جميع فترات تاريخنا.

لقد ظهر الفكر الشيوعي.. ظهر كارل ماركس ثم لينن وظهر معهما الصراع الطبقي وكفاح العمال والفلاحين ضد الإقطاعية.. وظهر بعدهم جميع حملة فكر الصراع.. مكسيم جوركي ومايا كوفسكي وبوشكين وغيرهم في أدبهم الذي صار ترجمانا لإملاءات الشيوعية وشعاراتها المتطرفة.

ثم جاءت الوجودية التي قامت أساسا على إثبات حق الوجود ورأت أن قضيتها الأولى هي الصراع الذي بتحدي القوي الغيبية، وما لازمه من الشعور بالعبثية وفقدان الحكمة في الخلق.

وكانت مع هاتين الفلسفتين والنظامين (الرأسمالية) بمبادئها المتطرفة، تنهش عقولنا وحياتنا وتملأنا بالصراع.. لقد عمقت الرأسمالية فينا الأنانية.. لقد أعطت المال لطبقة رأسمالية تمسك بزمام المال والأعمال وتسوس الفكر مع وجود طبقة تعاني من الحرمان مما زاد من معدلات الجرائم واتساع الهوّة في المجتمع الواحد..

رأيت الألم باديا على وجهالشيخ الصالح، فأردت أن أغير الموضوع، فقلت: هون عليك.. فالله الرحمن الرحيم العدل الخبير لا يحاسب الأمم وهي أمم، بل يحاسبها أفرادا.. فلكل فرد ما جنت يداه، ولا يهم من أي أمة كان.

قال: صدقت.. وجزاك الله خيرا على هذه السلوى.. لقد قرأتها في قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا

سلام للعالمين (23)

يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} (النساء)

قلت: فأبشر إذن.. فأحسب أنك على خير كثير.

قال: بشرك الله بكل خير..

ثم عقب يقول: أنا لا أريد البشارة لنفسي وحدها.. بل أريدها لجميع أمم الأرض، وأفرادها، فلا يمكن أن تستظل بظل السلام إلا في ظل الإسلام.

قلت: ذكرتني بالسلام.. لقد وعدتني أن تحدثني عن رحلتك لسلام الإسلام.

قال: أجل.. فلا يمسح أحزان الصراع إلا تلك الأحاديث الجميلة التي امتلأت بها في رحلتي إلى سلام الإسلام.

-\--\-

اعتدل الشيخ الصالح في جلسته، وحمد الله وصلى وسلم على نبيه (مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: استدعاني أخي وتوأمي رجل الدين إلى مكتبه الضخم في الفاتيكان، وقال لي: لقد وردتني أنباء لم تصل بعد إلى وكالات الأنباء بأن طائفتين من المسلمين عظيمتين يهم بعضهما ببعض.. ولعل بعضهما يقضى على بعض، فنستريح منهما جميعا.

قلت: لم أسمع هذا في الأخبار.

قال: هناك أخبار يسمعها الناس جميعا.. وهناك أخبار لا يسمعها إلا نحن.

قلت: وكيف نسمعها من دون الناس؟

قال: لاشك أن الكاتب هو أول من يقرأ كتابه.. ولا يمكن لأحد في الدنيا أن يسبقه إلى قراءته.

قلت: الكاتب يحصل له ذلك لأنه هو الذي كتب الكتاب.

قال: ونحن حصل لنا ذلك.. لأنا بسلطان المسيح الذي وهبه لنا صرنا نحن الكتبة.. فنحن نملي على غيرنا.. وغيرنا لا يجد إلا أن يكتب ما نمليه عليهم.

سلام للعالمين (24)

قلت: فلم لا نملي عليهم الهداية التي حثنا المسيح على تعليمها؟

قال: إن هؤلاء الحمقى يقبلون منا كل شيء إلا الهداية التي جاء بها المسيح.. إنهم يزعمون أن الهداية التي جاء بها محمد أكمل وأشمل وأعلم وأوثق من التي جاءنا بها المسيح.

قال لي أخي ذلك، ثم طلب مني أن أسير معه إلى غرفة في بيتنا الجديد بالفاتيكان، وكانت غرفة أشبه ما تكون بغرف الأسرار.. وهناك دلني على تفاصيل السيناريو الذي سيمثله المسلمون بإملاء منا ومن كل المؤسسات العالمية التي اجتمعت على استئصال المسلمين من الوجود.

-\--\-

بعد أن امتلأت هما بما ذكره أخي.. وبعد أن أيقنت بالخطر الذي يحدق بالمسلمين.. لم يخطر على بالي شيء كما خطر على بالي أن أسرع إلى بلاد الإسلام لأتدارك الأمر قبل حصوله.

لكني.. وبعد أن فكرت طويلا.. وجدت أنه لا جدوى من ذلك.. فأولئك الذين يتربعون على عروش المسلمين الدينية أو الدنيوية لن يقبلوا مني ما أقول.. لأنهم تعودوا أن لا يقبلوا إلا لمن يملؤهم بالصراع والحقد والضغينة.

في ذلك المساء.. سرت إلى غابة قريبة من محل سكني لأنفس عن نفسي بعض ما تعانيه من صراع.. وما إن سرت على ثراها قليلا حتى رأيت رجلا كصفحة الماء التي لم تعبث بها التيارات، بل لو أن أعاصير الدنيا اجتمعت ما حركت منه ساكنا.

رأيته قد خط دائرة صغيرة كتب في وسطها (الأنا).. ثم خط بعدها دائرة أخرى مركزها هو نفس مركز الدائرة السابقة سماها (العقل).. ثم تلاها بدائرة أخرى سماها (القلب).. ثم بدائرة أخرى سماها (النفس).. ثم بأخرى سماها (الأسرة).. ثم بأخرى سماها (المجتمع).. ثم بأخرى سماها (الدولة).. ثم بأخرى سماها (العالم).. ثم بأخرى سماها (الكون).. ثم بأخرى سماها (الله)

كان يرسم الدوائر، ويكتب الأسماء المرتبطة بها بتركيز عجيب لا يشبه إلا تركيز القادة الذين يخططون لأعتى المعارك، وقد دعاني ذلك لأن أقول له ساخرا: مرحبا بحضرة القائد العظيم.. أي

سلام للعالمين (25)

معركة هذه التي تريد أن تخوضها اليوم؟

قال: معركة السلام.

قلت: أللسلام معركة؟

قال: لا يمكن للسلام أن يتحقق بغير المعارك.

قلت: أرى أن مظهرك لا يوحي إلا بالسلام.. بكيف تتحدث عن الحرب؟

قال: عن حرب أهل السلام، لا حرب أهل الصراع.

قلت: ألأهل السلام حرب؟

قال: أجل.. وهي تنطلق من هذه الدائرة..

أشار إلى الدائرة الأولى التي سماها (الأنا)، ثم قال: من هذه الدائرة يبدأ السلام.. ومن هذه الدائرة يبدأ الصراع.

قلت: كيف.. ألهذه الدائرة من السلطان ما يتيح لها أن تتصرف في كل شيء؟

قال: أجل.. هذه الدائرة هي المركز.. ولا دائرة إن خرب المركز.

قلت: فأي معركة هذه التي تريد أن تخوضها مع (الأنا)؟

قال: معركة التصحيح والتثبيت..

قلت: لم أفهم.

قال: تصحيح الأنا وتثبتها.. فلا يمكن للجندي الذي لم تصح نسبته للحندية، ولم يتثبت فيها أن ينتصر في أي معركة.

قلت: فبم تصحح الأنا، وبم تثبتها؟

قال: أنا الآن أبحث عن أقوم السبل لذلك..

قلت: فهل اهتديت لشيء؟

قال: أجل.. لقد عرفت أنه لا يمكن لعقلي أن يعرف مناهج التصحيح والتثبيت.. لابد من

سلام للعالمين (26)

جهة عليا.. عليا بالقدر الذي لا يمكن تصوره.. فهي الوحيدة العالمة بي.. وهي الوحيدة التي تستطيع أن تصححني وتثبتني.

قلت: ولم لا تثبت نفسك بنفسك؟

قال: وهل يستطيع الوتد أن يتثبت نفسه بنفسه؟

قلت: لابد للوتد من مطرقة ومن طارق.

قال: ولابد للأنا من النور الذي يملؤها بالهداية، فترسخ قدمها في السلام الجميل الذي لا تهزه الأعاصير.

قلت: أحسبني وعيبت بعض هذا.. فما الدوائر التالية لدائرة الأنا؟

قال: علاقات الأنا.. وقد وجدت أن الأنا إن كانت ثابتة راسخة صحيحة سيكون ما حولها من الدوائر ثابتا راسخا صحيحا.

قلت: وإن لم تكن كذلك؟

قال: ستهزها الأعاصير.. وستمتلئ بجميع أنواع الحروب التي تستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة.

قلت: لكأني بك تتحدث عن سفينة شراعية.

قال: الإنسان سفينة شراعية.

قلت: السفن الشراعية قد تغرق عند الأعاصير.

قال: ذلك عندما تكون أشرعتها ضعيفة.

قلت: فكيف تكون قوية؟

قال: هذا ما أبحث عنه.. وهذا ما ينبغي لكل عاقل أن يبحث عنه.. فكل من لم يبحث عنه سيغرق لا محالة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة العقل ـ: لقد جعلت العقل بعد أول دائرة من دوائر الأنا؟

سلام للعالمين (27)

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تصحب عقلا مشوشا متناقضا مضطربا غافلا ممتلئا بالجهل والخرافة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة القلب ـ: لقد جعلت القلب هو الدائرة الثالثة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تصحب قلبا مريضا سكرانا ضعيفا تهوي به الأهواء في كل المهالك.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة النفس ـ: لقد جعلت النفس هي الدائرة الرابعة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تصحب نفسا طماعة حريصة جشعة متكبرة ممتلئة بالشهوات، مستغرقة في الملذات، مدمنة على الغفلات.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الأسرة ـ: لقد جعلت الأسرة هو الدائرة الخامسة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في أسرة مفككة يحارب بعضها بعضا، ويعتدي بعضها على بعض.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة المجتمع ـ: لقد جعلت المجتمع هو الدائرة السادسة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في مجتمع تملؤه النزعات الخسيسة، والأهواء الخبيثة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الدولة ـ: لقد جعلت الدولة هي الدائرة السابعة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في دولة يحكمها الاستبداد والجور والظلم والطغيان والحريات الكاذبة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة العالم ـ: لقد جعلت العالم هو الدائرة الثامنة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في عالم قلق مضطرب متنازع.. القوي فيه يأكل الضعيف.. والمتكبر فيه يتسلط على المستضعف.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الكون ـ: لقد جعلت الكون هو الدائرة التاسعة؟

سلام للعالمين (28)

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في كون قد أغارت عليه جنود الإفساد، فحولته عن فطرته السليمة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الله ـ: لقد جعلت (الله) هو الدائرة العاشرة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تجحد الله، أو تحمل صورة مشوهة عنه، أو تحتقره، أو تعزله عن التصرف في وجوده الذي خلقه وأبدعه وصممه.

قال ذلك، ثم راح إلى دوائره مستغرقا فيها، وكأنه لم يكن يحدثني، ولم أكن أحدثه.

-\--\-

في تلك الأيام.. وبعد ذلك الحديث الذي حدثني به معلم السلام.. قررت أن أسير إلى تلك البلاد التي تعتزم الفتنة أن تستأصلها، ثم تستأصل بعدها سائر بلاد الإسلام، فاستأذنت أخي.. ففرح كثيرا.. وقال: إن ما تفعله سيرسخ قدمنا في الكنيسة إلى آخر الدهر.

قلت: كيف؟

قال: إن الكل يفر من تلك البلاد.. رجال الدين ورجال الدنيا.. وذهابك أنت تضحية لا تعدلها إلا تضحيات القديسين.. إنك ستعود إلينا إن عدت قديسا يتمسح الكل بك.

قلت: لم؟

قال: أنت هناك معرض للخطف في كل لحظة.. فليس هناك إلا من ملأناهم بالصراع.

قلت: ألا تخاف علي؟

قال: ما دمت قد أمنت عليك من أشعة محمد، فلن تضرك بعدها أي أشعة.

قلت: ولكن الذين سأذهب إليهم لهم حظ من أشعة محمد.

قال: إن الأشعة التي نالوها من محمد لن تزيدك إلا فرارا منه.. وهذا ما دعاني إلى السرور بقرارك، فإن الرحلة التي سترحلها هذه المرة ستغسل عنك كل تلك الشبهات التي علقت بقلبك من رحلاتك السابقة.

سلام للعالمين (29)

قلت: لم؟

قال: سترى من أولئك المصارعين الصورة الحقيقية لمحمد.. تلك الصورة التي ظلت تتزين لك لتملأك بالغواية.

-\--\-

كان أخي يدرك المخاطر التي يمكن أن أتعرض لها في كل لحظة في تلك البلاد التي قررت الذهاب إليها.. لذلك ودعني ـ كغير عهده ـ وداعا حارا، وكأنه قد تيقن أني لن أعود إليه من جديد.

امتطيت الطائرة.. وسرت إلى البلاد التي تموج بكل أنواع الصراع.

عندما دخلتها لم أشم إلا روائح الموت.. كان الموت في الطرقات والأزقة والبيوت كالهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه.

في المطار رأيت عشرة من الرجال.. فيهم الكهل، وفيهم الشاب، وفيهم الشيخ.. كلهم وقفوا في انتظار الحافلة التي سننتقل بها إلى المدينة التي لا يولد فيها إلا الموتى.

كان أهل المطار ينظرون إلينا بشفقة وحزن، وكأنهم يعلمون ما ينتظرنا من دواه.

لم نلبث إلا قليلا حتى جاءت حافلة خربة عضتها السنون بنابها.. وقد كان إطارها مخترقا برصاصات كثيرة تدل على المخاطر الكثيرة التي نريد أن نسير إليها.

ركبنا الحافلة.. ولم نسر إلا أميالا حتى استقبلنا من يسميهم الناس (صناع الموت).. أخذونا وكأننا معهم على ميعاد، ووضعونا في مغارة لا تختلف كثيرا عن القبور.

بعدها عرضونا على محكمة صورية كان الكل فيها ملثما، فلم نميز أحدا منهم، وفيها حكم علينا بالإعدام.. وقد منوا علينا فوهبونا عشرة أيام من الحياة، لنودع فيها الحياة، ونودع فيها ما استودعناه ذاكرتنا من ذكريات.

في المغارة.. جلسنا جميعا، لا ندري ما نفعل.. تفرست في وجوه الجالسين معي، فلم أجد

سلام للعالمين (30)

فيها من الحزن ما كنت أتصور أن يوجد، فقلت من دون أن أشعر: أراكم مطمئنين إلى الحكم الذي حكم علينا.. فهل ترونه حكما عادلا؟

قال أحدهم: لقد كنت نفذت في يوم من الأيام هذا الحكم على نفسي.. ولكني لم أنجح.. لقد وقف بعض المسلمين حائلا بيني وبين تحقيقه.. ومن عجائب الأقدار أن المسلمين الذين بسببهم مدت حياتي مدة طويلة هم أنفسهم الذين يريدون أن يضعوا حدا لحياتي.

قال آخر: إن ما حصل لك هو ما حصل لي.. لقد قدمت نفسي ذات يوم لمقصلة الموت.. فوقف مسلم دون ذلك.. وها هو أخوه ينفذ ما عجزت عنه.

قال آخر: لكأنكما تتحدثان عن نفسي.. أنا نفسي حصل لي ما حصل لكما.

قال آخر: وأنا كذلك.

نطقوا جميعا: إن هذا من العجائب.. كلنا حصل لنا ما تذكرون.

امتلأت عجبا بما سمعت.. فقلت لهم: إن ما تذكرونه عجيب.. فحدثونا بأحاديثكم، فلا أرى هؤلاء أخرونا هذه الأيام العشرة إلا ليسمع بعضنا حديث بعض.

-\--\-

التفت إلي الشيخ الصالح، وقال: في هذه الرحلة لن أحدثك إلا بأحاديث هؤلاء العشرة الذين تعلمت منهم من سلام الإسلام ما لم أتعلمه في حياتي جميعا.

لقد وصلت إلى قناعة كبيرة في هذه الرحلة بأنه لا سلام إلا في الإسلام.. وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جعله الله سلاما لكل العوالم.. العوالم التي هيئ لحواسنا أن تراها، والعوالم التي لم يهيأ لها أن تراها.

سلام للعالمين (31)

أولا ـ الأنأ

في اليوم الأول من تلك الأيام العشرة، نهض أحدنا، وكان أكبرنا سنا، وقال: سأبدا أنا بالحديث.. فأنا ـ على حسب ما يبدو ـ أكبركم سنا، ولعلي كنت أقربكم للموت، لولا أن القدر طرحنا في هذا المحل لنستوي جميعا في التهامنا للموت، أو التهام الموت لنا.

ليس هذا فقط ما يجعل لي الحق في التفرد بالبداية.. بل هناك أسباب أخرى ستعرفونها من خلال إيرادي لحكايتي.. فأنا الذي كتب له أن يتعلم على جمع من الأساتذة كانوا هم السبب في كل صراع عانيناه، وعانته الأجيال الطويلة من هذه البشرية..

قلنا: من أنت أولا؟

قال: لقد سماني أهلي أسماء كثيرة.. ولكني بعد أن التقيت النور طلقتها جميعا، ورحت أبحث عن اسم لي.. ولم أظفر بعد بذلك الاسم.. وإن شئتم الحقيقة، فقد جئت إلى هذه البلاد لأبحث عن اسم لي.. لكن القدر شاء أن أموت من غير اسم.. ولكن حسبي أني طلقت جميع الأسماء التي فرضت علي.

قلنا: من أي البلاد أنت؟

قال: أنا من كل تلك البلاد التي كان يسكنها الرومان واليونان وغيرهم من الشعوب.. أنا ابن لها جميعا، وعشت على ثراها جميعا، وتقلبت في أحضانها جميعا.. ولذلك أتيح لي أن أتتلمذ تلمذة مباشرة على أولئك الذين يسميهم الناس عباقرة.. فينصبون لهم التماثيل، ويجثون على ركبهم بين أيديهم يتتلمذون عليهم.

قلنا: نراك تحتقر أساتذتك.

قال: لقد أتيح لي بعد تلك الفترة الطويلة من التلمذة على أولئك الذين يتوهم قومنا أنهم عباقرة، أن ألتقي برجل واحد نال من أشعة شمس محمد (ما جعلني أحتقر جميع أساتذتي.. لقد كان رجلا عاميا بسيطا في مظهره.. لكن الأشعة التي تعرض لها من تلك الشمس جعلته

سلام للعالمين (32)

أستاذا يحمل من الحقائق ما لا يحمله أعظم أساتذتنا وأكبرهم شأنا.

قلنا: فحدثنا عن هذا الرجل.

قال: لن تعرفوا قيمة حديثه حتى تعرفوا أساتذتي.. فلا يمكن للشمس أن يعرف قيمتها من لم يلهب عينيه سياط الظلام.

قلنا: فحدثنا عن أساتذتك (1).

الصراع

غرق صاحبنا الأول في صمت عميق.. وكأنه يسترجع ماضيه البعيد، السحيق في بعده..

الرهبانية

وبعد فترة انتظار طويلة لم نشأ أن نحرجه فيها، قال: أول حكايتي تبدأ من الكنيسة.. لقد كنت سليل أسرة لها ارتباط مقدس بالكنيسة، كانت تخدمها بجوارحها ومشاعرها.. وكانت تعتبر رجال الدين هم المقدسون الذين لا ينطقون إلا بالحق، ولا يسلكون إلا سبل الحق.

وقد سرى إلي من إرث عائلتي ما جعلني تابعا ذليلا لكل المواعظ التي ينطق بها رجال الدين، لا أناقشها، ولا أفكر في مناقشتها.

وقد قدر لي أن يكون أول أساتذتي رجل لم يكن يدعو في ظاهره إلا للزهد.. كان اسمه (سان بونافنتور) (2).. لقد كان يردد على مسامعي كل حين ما ورد في الإنجيل من أنه (لا يدخل غني ملكوت السموات، حتى يدخل الجمل في سم الخياط..).. ويردد قول المسيح لشاب آمن به

__________

(1) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بالمذاهب النفسية الغربية من مقال طويل بعنوان (العقل المستعار: بحث في إشكالية المنهج في النقد الأدبي العربي الحديث ـ المنهج النفسي أنموذجاً) د. صالح بن سعيد الزهراني، الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى، من مجلة جامعة أم القرى.

(2) أحد رجال الكنيسة، وقد اخترناه لقوله الذي سنورده هنا: (إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشرياً، بل ولا كائنا حياً وحشياً، وإنما الذى ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صفير الثعبان)

سلام للعالمين (33)

ودخل في دينه: (ذا أردت أن تكون كاملا، فاذهب وبع ما تملك واعطه للفقراء، ثم تعال واتبعني)، وقوله لتلاميذه: (وأنتم فلا تبحثوا عما تأكلون وما تشربون ولا تهتموا لذلك، لأن هذه الأشياء إنما يبحث عنها غير المؤمنين)

وكان يردد لي أقوال القديس أمبروز ـ أسقف ميلانو فى القرن الرابع ـ الذي كان يعظ تلاميذه وغيرهم فى أمر الروح معتبرا أنها نقيض للجسد الذى هو شر.. وقد كانت تلك الفكرة مصدر إلهام لتلميذه الكبير القديس أوغسطين الذى أصبح فيما بعد أسقفاً لمدينة هبو فى شمال إفريقيا..

لا أزال أذكر من أقوال أمبروز قوله: (فكر فى الروح بعد أن تكون قد تحررت من الجسد، ونبذت الانغماس فى الشهوات ومتع اللذات الجسدية، وتخلصت من اهتمامها بهذه الحياة الدنيوية)

وكان يذكر لي صلاة القديس أوغسطين التي يقول فيها: (آه! خذ منى هذا الجسد، وعندئذ أبارك الرب)

وكان يذكر لي ما اعتاد فرانسيس الأسيزى أن ينادى به جسده من قوله: (أخى الحمار)! كما لو كان الجسد مجرد بهيمة غبية شهوانية، تستخدم لحمل الأثقال.

وكان يذكر لي ما كان القديسون يتعهدون به أجسادهم من اعتداء يومى من أجل إماتتها بالتعذيب الذاتى بطرق تقشعر من هولها الأبدان.

وقد سرى لي من تأثير هذه التعاليم ما جعلني أحتقر جسدي احتقارا شديدا.. لقد كنت أنظر إليه كما ينظر العدو إلى عدوه.. لذلك كان الصراع بين روحي وجسدي لا يكاد ينتهي حتى يبدأ.

لقد علمني أستاذي ـ الذي بدأت بالتعلم على يديه حياتي ـ أن نظام الرهبنة الذي ينتظرني يتطلب مني أربعة شروط لا يمكنني أن أكون راهبا مقدسا من دونها.

قلنا: فما أولها؟

سلام للعالمين (34)

قال: العزوبة.. فلا يمكن للراهب ولا لرجل الدين.. بل ولا للمسيحي المخلص.. أن يكون متزوجا.. ولهذا، فإن هذا الأستاذ ملأ مشاعري نفورا من المرأة حتى لو كانت زوجة، فقد كان يقول لي كل حين: (إذا رأيت امرأة فلا تحسب أنك ترى كائنا بشرياً، بل ولا كائنا حياً وحشياً، وإنما الذى ترى هو الشيطان بذاته والذى تسمع هو صفير الثعبان) (1)

وكان يردد علي كل حين قوله: (من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين غير الرهبان أو تسريهم.. لقد كانت الكنيسة منذ زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين، لأن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة)..

وكان يقول لي: (إن القس المتزوج سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه.. يضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله وبنى الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه) (2)

قلنا: هذا الشرط الأول للرهبانية، فما الشرط الثاني؟

قال: التجرد الكامل عن الدنيا.. فقد أقنعني هذا الأستاذ أن على الراهب ـ حتى يصير راهبا ـ أن يعتزل عزلة نهائية عن المجتمع، ويقطع النظر عن كل أمل في الحياة.

قلنا: فما الشرط الثالث؟

قال: عدم الاهتمام بالجسد.. بل تعذيب الجسد.. ألم أقل لكم: إنه كان يصور لي جسدي رماحا تحارب روحي وسيوفا تنهش حقيقتي؟

لقد حدثني عن الراهب ماكاريوس، وكيف أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد.

__________

(1) أشعة خاصة بنور الإسلام: 29.

(2) قصة الحضارة 14: 382.

سلام للعالمين (35)

وحدثني عن الراهب يوسيبيس، وكيف كان يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح...

وحدثني عن الراهب يوحنا الذي تعبد ثلاث سنوات قائما على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وحدثني عن القديس كولمبان الذي كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن.

وحدثني عن راهب اخترع درجة جديدة من الورع، بحيث يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق (1).

وحدثني عن بعض الرهبان.. نسيت أسماءهم.. كانوا لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.

وكان يحدثني ـ بشوق عظيم ـ عن الرهبان الذين كانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس.

لقد حدثني عما قاله الراهب اتهينس من أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره.. وعن الراهب أبراهام أنه لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً.. وعن الراهب الإسكندري الذي قال بعد زمان متلهفاً: وأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات (2).

قلنا: فما الشرط الرابع؟

__________

(1) معالم تاريخ الإنسانية: 732.

(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 168.

سلام للعالمين (36)

قال: تحمل العقوبات الشديدة في حال التفريط في الطقوس الكثيرة التي يتطلبها نظام الرهبانية.. لقد كان أستاذي يعلمي كل حين تعاليم القديس (كولمبان) الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا:

ومن العقوبات التي لا أزال أذكرها: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسى أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الربانى.. وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسى أن يدعو الله قبل الطعام وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع ومئتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة.

وأقام (كولمبان) نظام الحمد الذى لا ينقطع، فكانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين (1).

قلنا: فهل مارست كل هذه الشروط التي علمك إياها أستاذك؟

قال: أجل.. لقد مارستها بإخلاص وصدق إلى أن جاء اليوم الذي طلقتها فيه طلاقا بائنا، وطلقت معها أستاذي، وتخلصت من الاسم الذي سماني به.. ولم أندم على ذلك التطليق في أي يوم من أيام حياتي.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قال: لقد رأيت بعيني في الدير الذي كنت راهبا فيه ما ذكره رئيس دير كلونى من قوله: (إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التى أنشأها المؤمنين الخاشعون لكى تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى) (2)

__________

(1) قصة الحضارة 14: 365.

(2) قصة الحضارة: 145: 372.

سلام للعالمين (37)

قلنا: فقد انحرفوا عن المنهج الذي كانوا يدعون إليه؟

قال: ليتهم انحرفوا إلى الفطرة.. لقد انحرفوا إلى الشذوذ.. واستبدلوا الصراع بالصراع.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قال: لقد أدى كل ذلك التزمت والغلو ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تماماً.. لقد أصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق، تضرب بها الأمثلة في ذلك.

لن أحدثكم عن ذلك.. ولكني رأيت بعيني من الفضائح ما ملأني بالنفور التام من الدير ومن الرهبانية.. بل ومن الكنيسة نفسها (1).

الحيوانية

قلنا: فإلي أين التجأت؟

قال: بعد أن صارعت روحي جسدي زمنا طويلا.. وبعد أن اكتشفت السراب الذي أوقعتني فيه روحي.. عدت إلى جسدي أقبله وألتزمه ولا أرى في الوجود غيره.

قلنا: فهل وجدت من الأساتذة من أعانك على ذلك؟

قال: كثيرون هم.. كانوا يتبوأون أشرف المراتب.. ويسكنون أحسن القصور.. وينالون أعلى المرتبات..

قلنا: فحدثنا عنهم.

قال: أولهم رجل كان يدعوه الناس داروين (2).. لقد لقيته بعد أن عانيت الأمرين في دير

__________

(1) انظر (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

(2) أشير به إلى تشارلز روبرت داروين (1809 - 1882 م)، وهو باحث وعالم بريطاني عكف على دراسة علوم الطبيعة، واقترن اسمه بنظرية النشوء والارتقاء وبها اشتهر، وكان يقول: (إن كل الأنواع الحية من نباتات وحيوانات قد تطورت تدريجيًا من أصول مشتركة خلال الملايين من السنين التي مرت عليها)

ألف داروين عدة كتب كانت تزيد من حدّة مناقشة نظرياته عن التطور.. ومن بين هذه الكتب أصل الإنسان والانتخاب فيما يتعلق بالجنس (1871 م)؛ تعبير عن الانفعالات عند الرجل والحيوان (1872 م)، وأهم كتبه على الإطلاق (أصل الأنواع) (1859 م)، وهو الكتاب الذي ذكر فيه نظريته عن الانتخاب الطبيعي. (انظر: الموسوعة العربية العالمية، بتصرف)

وقد ذكرنا هذه النظرية والرد العلمي عليها في رسالة (معجزات علمية)، وذكرنا آثارها الخطيرة على المجتمعات البشرية في رسالة (ثمار من شجرة)، وسنذكر هنا باختصار بعض آثارها في تحديد حقيقة الإنسان.

سلام للعالمين (38)

الرهبان.. وقد كنت حينها مستعدا لاعتناق أي فكرة بشرط ألا يكون فيها رائحة للرهبانية.

في ذلك الوقت الذي كنت فيه مستعدا لأي شيء لقيته وهو يحمل جمجمة لست أدري لمن كانت.. هبته في البداية.. لكني سرعان ما انبهرت به.. ثم سرت تابعا له تبعية الظل لصاحبه.

ولم أكن لأتبعه لولا أنه.. وفي بداية لقائي به.. طلب مني أن أرمي الكتاب المقدس الذي كنت أحمله، وأعطاني بدله كتابا كان اسمه (أصل الأنواع) (1)

وقد أعجبت كثيرا بهذا الكتاب.. فهو كتاب لم يكن يتحدث عن ذلك الشعب المدلل المسمى (شعب إسرائيل).. وهو كتاب لم يكن يميز بين جنس وجنس.. فهو كتاب تستوي فيه البشرية جميعا العرق الإسرائيلي وغيره من الأعراق.. بل إنه فوق ذلك كله لم يكن يميز بين الإنسان والحيوان.. مهما كان ذلك الحيوان.

في أول لقاء لي به، قال لي: خذ هذا الكتاب.. فستجد فيه الحقيقة التي لا حقيقة فوقها..

قلت: أي حقيقة؟

قال: حقيقتك.. أنت.. الإنسان.

قلت: لقد دلني الكتاب المقدس على حقيقتي..

__________

(1) هو كتاب من تأليف داروين صدر عام 1859 يعتبر أحد الأعمال المؤثرة في العلم الحديث وإحدى ركائز علم الأحياء التطوري. عنوان الكتاب الكامل: (أصل الأنواع/ نشأة الانواع الحيّة عن طريق الانتقاء الطبيعي - أو الاحتفاظ بالاعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة).. قدم فيه داروين نظريته القائلة أن الكائنات تتطور على مر الأجيال.. وقد أثار الكتاب جدلا بسبب مناقضته الاعتقادات الدينية التي شكلت أساسا للنظريات البيولوجية حينئذ. شكل كتاب داروين هذا عرضا لنظريته التي اعتمد فيها على ما جمعه في رحلته البحرية في ثلاثينات القرن التاسع عشر وبحوثه وتجاربه منذ عودته من الرحلة..

سلام للعالمين (39)

قال: ليس في الدنيا كتاب مقدس.. الكل يمكن أن يقدس.. والكل يمكن أن يدنس.. انظر إلى كتابي هذا.. إني أراه أقدس كتاب في الدنيا.

قلت: فما الذي جعله مقدسا.. هل تراه أوحي إليك كما أوحي للأنبياء تلك الأسفار المقدسة.

قهقه قهقهة عالية، وقال: أي أنبياء؟ وأي أسفار؟.. هل ترى أن الله ـ إن كان هناك شيء اسمه الله ـ ينزل من كبريائه ليقول لنا: (سلم على برسكا وأكيلا، وعائلة أونيسيفورس. أراستس مازال في مدينة كورنثوس. أما تروفيموس، فقد تركته في ميليتس مريضا. اجتهد أن تجيء إلي قبل حلول الشتاء. يسلم عليك إيوبولس، وبوديس، ولينوس، وكلوديا، والإخوة جميعا ((تيموثاوس: 4: 19)

أو ترى الله ينزل من علياء عظمته ليقول لنا: (وكان في سنة الاربع مئة والثمانين لخروج بني اسرائيل من ارض مصر في السنة الرابعة لملك سليمان على اسرائيل في شهر زيو وهو الشهر الثاني انه بنى البيت للرب. والبيت الذي بناه الملك سليمان للرب طوله ستون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وسمكه ثلاثون ذراعا. والرواق قدام هيكل البيت طوله عشرون ذراعا حسب عرض البيت وعرضه عشر اذرع قدام البيت. وعمل للبيت كوى مسقوفة مشبّكة. وبنى مع حائط البيت طباقا حواليه مع حيطان البيت حول الهيكل والمحراب وعمل غرفات في مستديرها. فالطبقة السفلى عرضها خمس اذرع والوسطى عرضها ست اذرع والثالثة عرضها سبع اذرع لانه جعل للبيت حواليه من خارج اخصاما لئلا تتمكن الجوائز في حيطان البيت. والبيت في بنائه بني بحجارة صحيحة مقتلعة ولم يسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول ولا اداة من حديد. وكان باب الغرفة الوسطى في جانب البيت الايمن وكانوا يصعدون بدرج معطّف الى الوسطى ومن الوسطى الى الثالثة. فبنى البيت واكمله وسقف البيت بألواح وجوائز من الارز. وبنى الغرفات على البيت كله سمكها خمس اذرع وتمكنت في البيت بخشب أرز) (ملوك 6: 1 - 10).. إلى آخر

سلام للعالمين (40)

هذا الوصف الطويل الذي لا ينتهي حتى يبدأ غيره.

قلت: فما الذي جعل كتابك مقدسا؟

قال: العلم.. كتابي يعتمد على العلم والحقائق.. أما الكتاب الذي يسمونه مقدسا، فيعتمد على حكايات العجائز.. وأنا أتمتع بحكايات العجائز.. ولكني لا أتعلم على أيديهم.

قلت: فما دلك العلم والحقائق على حقيقة الإنسان؟

قال: لقد صورت فيلما رائعا عن ذلك.. فيلما يعتمد على الحقيقة وحدها..

قلت: فيلم واقعي، أم فيلم خيالي؟

قال: بل فيلم علمي واقعي.. فأنا أتمتع بالخيال، ولكني لا أثق فيه، ولا أعتمد عليه.

قلت: إن هذا لعجيب.. هل وجدت مركبة الزمن التي رحلت بك إلى بداية البشرية؟

أشار إلى الجمجمة التي كان يحملها، وقال: أجل.. هذه هي مركبتي.. في هذه الجمجة يخزن تاريخ الإنسان..

قلت: فحدثني عن هذه الجمجمة العجيبة.

قال: سأحدثك عما حصل قبلها.. فلن تفهم تاريخ هذه الجمجمة حتى تفهم ما حصل قبلها..

في البدء.. وبعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال (1).

وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.

__________

(1) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا وبهذه النظرية في (معجزات علمية) من هذه السلسلة، وقد نقلنا بعض الحوار الوارد فيها إلى هذه الرسالة لاقتضاء المقام لذلك.

سلام للعالمين (41)

ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.

ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية ـ أى التى لا ترى إلا بواسطة المجاهر المكبرة ـ تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.

أما فرع الحلايا المكونة للنباتات، فسرعان ما استحدثت طريقة عجيبة لتركيب مادة الكلوروفيل الخضراء في هيكلها لتكسب بها الطاقة من ضوء الشمس، وتستعين بها على استخلاص الكربون من غاز ثانى أكسيد الكربون الموجود في الجو، ثم تحويله إلى مواد سكرية ونشوية، وكان هذا بدء ممارسة عملية التمثيل الضوئى لنمو النبات.

ثم إن الخلايا أخذت تحيط أجسامها الدقيقة بجدران من هذه المواد الكربونية في هيئة السليولوز، وكانت تستعمل الطاقة التى تنبعث في أجسامها نتيجه التمثيل الضوئى داخل هذه الجدران في التحرك.

ثم إن هذه الخلايا كانت كائنات متناهية في الدقة تعيش في غير جلبة أو ضوضاء، ويأتيها رزقها رغدا من الهواء وماء البحر وأملاحه.

وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت في البحار كائنات كثيرة لا عدد لها.

وكانت هذه العضويات الأولى هي الأصل في جميع أعضاء مملكة النبات التى تكاثرت وغطت الارض بأعشابها وأشجارها وغاباتها الضخمة الكثيفة.

ومثل ذلك حصل لعالم الحيوان، فقد انقسمت الخلايا الحيوانية، وكونت الحيوانات التى عاشت على النبات وغيره، وصارت أنواعا مختلفة من الأحياء على الأرض.

قلت: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟

سلام للعالمين (42)

قال: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.

قلت: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟

سكت قليلا، وكأنه يتأمل سؤالي، ثم قال: إن شئت الحقيقة.. هناك أجوبة كثيرة عن هذا.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي منك أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.

ثم أضاف: ربما تكون الغرائز مجرد جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية.

قلت: وهل تؤمن بهذا؟

قال: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.

أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟

أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.

قلت: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟

قال: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة أخرى.

قلت: فما قالوا؟

قال: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..

سلام للعالمين (43)

قلت: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟

قال: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.

قلت: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل عقلك أيضا يسأله، أنا أشعر أن عقلك يحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.

إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..

من من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟

أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟

هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة: (ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة)؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.

إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي..

قال: أنت تريد إذن أن تعود إلى الدير.. لاشك في ذلك.. أنت بين أمرين: إما الدير، وإما الحقائق التي ذكرتها لك.. والتي ستجد تفاصيلها في هذا الكتاب.

امتلأت رعبا بعد أن ذكر لي الدير.. فلذلك ألزمت عقلي بأن يقتنع بما قال.. بل رحت أقرأ كتابه الذي أهداه لي.. بل رحت أحفظه عن ظهر قلب، وأردده في كل المجالس.

وقد وجدتني بعد حين أقتنع بما يقول.. بل وجدتني أنقلب إنسانا آخر.. بل وجدت نفسي قد انسلخت من إنسانيتي، لأرتدي كل مرة حلة من حلل البهائم والسباع.. فمرة أصير خنزيرا أرتع من لذات الدنيا ما كانت الرهبانية قد حرمتني منه.. ومرة كنت أسير في الشوارع كما تسير الأسود مكشرة عن أنيابها.. ومرة كنت ـ وتحت الضغوط الشديدة ـ أتحول إلى فرد من عائلة الخنافس والجعلان..

وهكذا انتقلت من حيوان إلى حيوان.. وقد وجدت الكثير من الأساتذة يستغلون حالي في

سلام للعالمين (44)

ذلك أبشع استغلال..

لقد عبر عن ذلك أحد أساتذتي الذين نبهوني إلى خطر هذه النظرية.. كان اسمه (ألكسس كاريل).. لقد قال لي ناصحا: (إن نظريات النشوء والارتقاء هي مصدر كل الهموم الإنسانية، وإنها ليست إلا حكايات خرافية وجدت من يحميها ومن يقدمها للجماهير بحلة خادعة لا يعرفها كثير من الناس) (1)

ورأيت بعد ذلك أن كل المخربين جعلوا من هذه النظريات فأسا يهدمون به كل القيم البشرية:

لقد قارن كارل ماركس الكفاح من أجل البقاء بين الكائنات العضوية مع الكفاح من أجل السيطرة السياسية بين الطبقات الاجتماعية.

واعتمد كُتّاب وباحثون آخرون على فكرة الانتخاب الطبيعي لكي يبرروا مفهوم تطور العنصر الإنساني الراقي للجنس البشري.

واستخدم بعض الدارسين الذين عرفوا باسم الداروينيين الاجتماعيين أفكارداروين لتأييد الفكرة التي تقول بأن على الناس في أي مجتمع، وعلى الجماعات أن تتنافس على البقاء حيثما كانت.

بل إن الاستعمار ـ وبدلاً من أن يشعر بتأنيب الضمير ـ صار يشعر، بل يعتقد من خلال هذه النظرية أنه يقوم برسالة حضارية عندما يزيل مواريث الأمم والبنى التحتية لها ومجتمعها المدني القائم بها والحرف والصناعات الخاصة بها، ويعتبر نفسه أنه يمدنها.. حتى أن ماركس اعتبر غزو فرنسا للجزائر من التمدن وإزالة الرجعية والتخلف وتحدث بنفس هذا المنطق عن الهند..

وفي الأخير.. وبعد معاناة طويلة، وصراع مرير.. لم أجد في هذا الأستاذ ما كنت أحلم به عن الإنسان.. فرحت أبحث عن أستاذ آخر.

__________

(1) الإنسان ذلك المجهول.

سلام للعالمين (45)

الغرائزية

قلنا: فأي أستاذ هذا الذي أنقذك من داروين؟

قال: هو لم ينقذني من داروين، وإنما أضاف إلى الركام الذي أنشأه داروين ركاما عجيبا جعلني أرى الحياة مرقصا للاشعور يتلاعب به كما يشاء.

قلنا: نراك تومئ إلى فرويد (1

قال: أجل.. لقد كان فرويد هو أستاذي الثالث الذي انحرف بي عن إنسانيتي انحرافا خطيرا، ظللت تحت أسره دهرا طويلا من الزمان.

قلنا: فكيف تعرفت عليه؟

قال: لقد كان أول ما دلني عليه اللاشعور نفسه.

قلنا: فقد آمنت بتأثير اللاشعور قبل أن تراه؟

قال: أجل.. ولا أرى أن أحدا من الناس يخالف في ذلك.. فكلنا يعرف تأثير باطن الإنسان وما يحمله من مشاعر وأفكار في حياته.. حتى الإسلام لا ينكر ذلك.. لقد ورد في القرآن الإشارة إلى هذا اللاشعور الذي لا يكاد صاحبه يعلمه.. ففي القرآن: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه:7).. فالخفي ليس إلا تلك المعاني الخفية التي يمتلئ بها باطن الإنسان.

قلنا: فقد تأثر فرويد بما جاء به من علم بالقرآن؟

قال: ليته فعل ذلك.. إذن لوقى نفسه، ووقى البشرية من مهالك تلك النظريات التي جاء بها، والتي لبست لباس العلم لترمي البشرية في أتون الرذيلة.

__________

(1) هو سيجموند فرويد (1856 - 1939 م)، طبيب نمساوي، ولد في فريبرج، مورافيا ـ بتشيكوسلوفكيا (السابقة) تخرج في كلية الطب، بجامعة فيينا عام 1881 م. وفيما بعد قرر التخصص في علم الأعصاب لدراسة وعلاج اضطرابات الجهاز العصبي.

كتب عدة أعمال أهمها تفسير الأحلام (1900 م)؛ مقدمة في التحليل النفسي (1920 م). وتعتبر نظرياته في السلوك والعقل ومنهجه في العلاج أساس علم النفس الحديث.

سلام للعالمين (46)

قلنا: فحدثنا عما لقنك هذا الأستاذ من علوم.

قال: لقد بدأ هذا الأستاذ، فعمق في نفسي الهوة التي كانت قد بدأت تتوسع بيني وبين الدين.. فقد كان أول لقاء لي به سنة 1927 م، وكنت حينها صحفيا.. وقد كلفتني الجريدة التي أعمل فيها بإجراء حوار معه.. وقد كان في ذلك اللقاء يستخف بالدين، ويحتقره احتقارا شديدا (1)..

أذكر أنه بعد نشر المقابلة كتب له أحد الأطباء الأمريكيين الشبان خطابا لامه فيه على عدم إيمانه هذا، وسرد له في خطابه قصة مؤثرة عن كيفية رجوعه للإيمان بعد شك في وجود الله جاء نتيجة لتأثره بوفاة مريضة عجوز بريئة ملامح الوجه؛ كما ذكر هذا الطبيب الشاب في خطابه لفرويد أنه بعد شكه في الله دخل في أزمة نفسية انتهت بسماع صوت من داخل نفسه مازال يحثه على الرجوع لإيمانه حتى رجع له يقينه بوجود الله.

لقد ضحك فرويد حينها كما لم يضحك في حياته جميعا، ثم رد عليه يقول: (إن الله لم يسمعني صوتا داخليا كالذي أسمعك إياه.. وإذا تباطأ الله في هذا الأمر رغم علمه بكبر سني، فإنه سوف لا يكون الخطأ خطئي لو بقيت إلى نهاية حياتي على اعتقادي الحالي.. يهوديا كافرا..)

ولم يكتف بذلك، بل راح يحلل خطاب الطبيب نفسيا وينشر ذلك كله في مقال بعنوان: A religious Experience.. في ذلك المقال يهوي فرويد بأحاسيس الرجل الإنسانية التي تجلت في ألمه لرؤية وجه السيدة الوقورة الميتة إلى حضيض التفسير الجنسي والعقدة الأوديبية بأسلوب متهافت ومنطق غريب.

__________

(1) وهذا لا ينفي كونه يهوديا متعصبا.. فاليهودية ـ كما هي في الواقع والتاريخ ـ دين قومي لا يهمه التوجه الديني بقدر ما يهمه الارتباط العنصري.. وقد ذكر المسيري الكثير من الأمثلة على علاقة فرويد باليهودية، ومن ذلك أن فرويد كان كثيراً ما يتباهى باليهودية وبانتمائه اليهودي، فكان يرى أن الشعب اليهودي قَدَّم التوراة للعالم، وأن اليهودية مصدر طاقة لكثير مما كتب.

وقد أكد أكثر من مرة أنه كان دائماً مخلصاً لشعبه (ولم أتظاهر بأنني شيء آخر: يهودي من مورافيا جاء أبواه من جاليشيا)، (انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري)، وقد أشرنا إلى هذا بتفصيل في (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (47)

ومما جاء في ذلك المقال: (إن رؤية جسد المرأة الميتة الذي ربما كان عاريا أو كان في طريقه لأن يتعرى من الملابس قد ذكَّر هذا الشاب الطبيب بأمه (لا شعوريا) وقد أثارت فيه هذه الذكرى شوقا لوالدته نبع من عقدته الأوديبية، وهذا الشعور سرعان ما أثار فيه البغض والغضب على والده، وبما أن أفكاره عن والده وعن الله لم تنفصل بعد بما فيه الكفاية فإن رغبته في تحطيم والده على المستوى اللاشعوري قد ظهر شعوريا في شكل شكه في وجود الله، وإنه لمن المعلوم لدينا أن الطفل يعتبر ما يفعل والده لأمه في صلته الجنسية بها نوعا من سوء المعاملة والقسوة)

سألته حينها متعجبا من هذا الموقف، وقلت: أهذا هو مصدر العقيدة في الله؟

رد علي بثقة عظيمة: أجل لقد وقفنا من خلال التحليل النفسي على هذا الرباط الوثيق بين عقدة الوالدية Complexe Parental - عقدة أوديب (1) - وبين نشوة الإيمان بالله لدى الأفراد بما لا يدع مجالا للشك في أن الإله ما هو إلا صورة بديلة عن الأب Pere transfigure...

ثم أضاف معقبا بطريقته التمثيلية التي كانت تجذبني بشدة في ذلك الوقت: إنه الصورة المكبرة عن تلك التي يكونها الطفل عن أبيه في طفولته كمصدر للحب والحماية والرعاية، فالتدين وثيق الصلة بالحاجة الدائمة للإنسان الطفل للحماية والمساعدة.

وكان يقول لي بعدها كل حين: (إن التحليل النفسي يمثل المرحلة الأخيرة من الثورة العلمية التي مازالت تعري للبشرية هذاءاتها المتمثلة في الدين)

وكان يقول لي ـ وهو يفسر نزعة التدين ـ: (إن هذه الاعتقادات التي تعرض في الدروس الدينية لا تنبع من الخبرات البشرية المتراكمة، وليست هي نتاج للتفكير المستقيم إنما هي نوع من الهذاءات؛ بل هي إشباع لأقدم وأقوى وأشد رغبات الجنس البشري إلحاحا.. إن الإحساس

__________

(1) عُقْدَةُ أودِيب: من أهم المصطلحات في التحليل النفسي، ويريدون به رغبة الطفل غير الواعية في الاستئثار بحب الطرف المضاد لجنسه من والديه (الولد للأم والبنت للأب). وتشتمل هذه الرغبة على الغيرة من الولد تجاه الأب أو البنت تجاه الأم والرغبة غير الواعية في موت الأم أو الأب.

سلام للعالمين (48)

بالتهديد والخوف والشعور بعدم الأمان لدى طفل لا يقدر على مواجهة ظروف الحياة أيقظ لديه الحاجة إلى الحماية والحب في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي يتولاه الأب عادة... ثم إن عجز الإنسان البدائي على مواجهة قوى الطبيعة وقلة حيلتة جعلته في حاجة إلى حماية دائمة من هذه الأخطار التي تتهدد حياته فتعلق بـ (أب) أكبر في هذه المرة، إنه الله.. لقد وجدت مشاعر القلق التي تنتاب الإنسان أمام عجزه على مواجهة أخطار الحياة هذه حلها في الدين في ظل الحماية الإلهية والتعاليم السماوية التي سنت القوانين الأخلاقية التي تنتظم العالم وتلبي حاجة الإنسان إلى العدل الأخروي الذي قلما تحقق في عالم الناس، وما يتبع ذلك من الإيمان بالحساب والإيمان بحياة أخرى هي في الحقيقة امتداد لحياة قلما استطاع الإنسان أن يشبع فيها كل رغباته)

قلنا: لقد كان الإلحاد واللاتدين منتشرا قبل فرويد، بل إنه في العصر الذي جاء فيه فرويد كان التدين غريبا بين رجال العلم.. فما الجديد الذي لقنك إياه؟

قال: لقد ذكرت لكم أني لم يكن يعنيني في الوجود إلا البحث عن أسرار الأنا.. فأنا لم يكن يهمني في هذا العالم إلا البحث عن أنا.

قلنا: فما الذي علمك فرويد عن الأنا؟

قال: لقد قال لي في أول لقاءاتي به: (الشخصية الإنسانية مثل كتلة الجليد العائمة في البحار القريبة من القطب لا يعلو منها فوق سطح البحر إلا جزء ضئيل، ويبقى معظمها مغموراً بالماء، وكذلك الشعور يؤلف جزءاً ضئيلاً من العقل، أما الباقي وهو ما يُعرف باللاشعور أو العقل الباطن فهو الجزء الأعظم، وليس ذلك فحسب بل إنه الجزء المهم من العقل)

قلنا: ما ذكره يحمل الكثير من المعاني الصحيحة، فما المستغرب فيه؟

قال: المستغرب فيه أنه ادعى أن له المقدرة على الغوص في أعماق تلك البحار لاكتشاف تلك المناطق المغمورة في البحار الجليدية.. لم يدع ذلك فقط على سبيل الإجمال، بل ادعاه على سبيل التفصيل، فعمم ما توهمه على جميع جبال الجليد في العالم، بل في الكون جميعا.

سلام للعالمين (49)

قلنا: دعك من التهكم، وحدثنا بما لقنك.

قال: لقد علمني (سيدي المبجل فرويد!!) أن اللاشعور الشخصي هو محور السلوك الإنساني.. ثم علمني أن هذا اللاشعور هو مجموعة العوامل النفسية والفسيولوجية غير المحسوسة التي توثر في السلوك الإنساني..

وعندما سألته عن التفسير، قال: في النفس الإنسانية ثلاث قوى.. لن تستطيع أن تفهم النفس إلا من خلالها: الهو، والأنا، والأنا الأعلى.

سألته عن (الهو)، فقال: هو كل موروث.. أو كل ما يظهر عند الميلاد.. أو كل ما هو مثبت في الجبلّة.

سألته عن (الأنا)، فذكر لي أنه المسيطر على الحركة الإرادية، والمكلف بحفظ الذات.

سألته عن (الأنا الأعلى)، فذكر لي أنه راسب من رواسب فترة الطفولة الطويلة التي يعيش فيها الإنسان الناشيء معتمداً على والديه.. ففي تلك الفترة تتكون في الأنا منظمة خاصة يمتد فيها تأثير الوالدين.

سألته عن الطاقة التي يتصرف من خلالها (الهو)، والتي كانت مخزنة في الأصل في جبلته، والتي على أساسها يمكن تفسير جميع حركاته.. لم يمهلني حتى أنتهي من سؤالي، بل أجاب على الفور: الجنس.. الطاقة الجنسية هي الطاقة الكبرى التي يمكن من خلالها تفسير جميع سلوكيات الإنسان..

قلت: ولكن هذه الطاقة تبدأ في مرحلة متقدمة من السن.. فكيف يفسر بها السلوك الإنساني، والإنسان لا يبدأ شابا، بل يبدأ طفلا صغيرا ممتلئا بالبراءة؟

أجانبي، وهو يبتسم بسخرية: ألا ترى الطفل، وهو يمص ثدي أمه بتلك اللهفة، وذلك الشوق؟

قلت: هو يتغذى بذلك..

سلام للعالمين (50)

قال: لا.. الأمر أخطر من أن يكون مرتبطا بالغذاء وحده.. إن الطفل في ذلك الحين يمر بمرحلة جنسية هي المرحلة الفمية..

ثم أضاف يقول: إن إلحاح الطفل في المص وتشبثه به في مرحلة مبكرة ينم بوضوح عن حاجة إلى الإشباع، على الرغم من أنها حاجة تنبعث عن تناول الغذاء وتتأثر به إلا أنها تسعى إلى الحصول على لذة مستقلة عن التغذية، وبالتالي يمكن ويجب أن توصف بأنها جنسية.

ثم أضاف يقول، وكأنه مجنون يخاطب نفسه: ثم تتطور طاقة (اللّبيدو) (1) مع الطفل إلى المرحلة السادية الشرجية والمرحلة القضيبية التي يتجلى فيها الشكل النهائي للحياة الجنسية.

ثم بعد ذلك يأتي دور الأنا.. تلك الذات الواعية.. التي تحاول الموازنة بين الرغبات الخاصة، والواقع الخارجي بكل ما فيه من سلطة وقيم اجتماعية.

قلت: فكيف يتشكل الأنا الأعلى؟

قال: يتشكل من تلبس الطفل بشخصية والده.. وحينئذ تنشأ (عقدة أوديب) كنتيجة طبيعية لحب الولد لأمه جنسياً.. وبما أن الأب يحول دون تحقيق مقتضيات هذا الحب فإنه يتكون في نفس الطفل نحو أبيه شعور مزدوج، طرفاه الحب والكراهية في آن واحد، ثم يتخلص الطفل من هذا الصراع.

قلت: هذا الولد.. والبنت!؟

قال: تتخلص من العقدة (عقدة أليكترا) (2) بزيادة تلبسها بشخصية أمها.. وعند ذلك ينشأ

__________

(1) اللِّيبيدو مصطلح في التحليل النفسي، يتعلَّق بطاقة الغرائز الطبيعية، أو بإثارة ذلك السلوك الممتع. وكان فرويد أول من استعمل المصطلح.

(2) مصطلح في التحليل النفسي لوصف الشعور غير الواعي للبنت نحو أمها، وهو مستمد ـ كذلك ـ من أسطورة إغريقية.. فإلكترا شخصية أسطورية عُرفت في الأساطير الإغريقية بولائها التام لوالدها الزعيم الإغريقي أجاممنون، قامت كليتمنسترا أم إلكترا وعشيقها إجستوس بقتل أجاممنون. فأرسلت إلكترا شقيقها الأصغر أوريستيس بعيدًا عن القصر الملكي لتحميه من أمها. كرهت إلكترا أمها وعشيقها ولكنها عاشت معها، حتى بلغ أوريستيس الحلم. وحينئذ عاد أوريستيس من منفاه، لينتقم لمقتل والده بقتل أمه وعشيقها بمساعدة إلكترا. تزوجت إلكترا فيما بعد صديق شقيقها بيلاديس.

وقد ابتدع العالم النفسي السويسري كارل يونج مصطلح (عقدة إلكترا) ليصف به تعلق البنت الشديد بأبيها، وعداءها في نفس الوقت لأمها.

سلام للعالمين (51)

الضمير.. وتكون مهمته الكبت والقمع للشهوات الجنسية غير المرغوب فيها، وذلك لحماية الذات من عسف ذوي السلطان في الخارج الأب أو المجتمع أو الدين أو التقاليد.

قلت: فغريزة الجنس هي عاصمة الغرائز إذن؟

قال: أجل.. فالإنسان ينشأ حاملاً في أعماقه هذه البذرة التي تصبح المحرك الرئيس لطاقاته في الحياة، ويغدو همه الوحيد في حياته هو إفراغ هذه الطاقة، إلا أن ذلك لا يتحقق على الوجه الأكمل حفاظاً على قيم المجتمع، وخوفاً من تعاليم السلطة، وهنا يأتي الحلم الذي تتحقق فيه الرغبة حين يخلد الأنا الأعلى في سباته العميق.

قلت: الحلم!؟

قال: أجل.. وقد يكون الحلم صريحاً وواضحاً وربما لا يكون.. وإذ ذاك تصبح لصور الحلم دلالة رمزية، فالصور التي تظهر في الحلم رموز الحقائق في اللاشعور: فالطائر ليس طائراً حقيقة بل رمزاً لشيء آخر قد يكون أما أو أباً، والطيران شبق جنسي، والسير إلى الشمال رغبة في الزنا بالمحارم.. وهكذا.. فإن كل ما تتصور البشرية أنه أبدعته أو وصلت إليه هو في الحقيقة نوع من الشبق الجنسي.

قلت: والدين والأخلاق والفن!؟

ابتسم، وقال: كل هذه الأشياء ليست إلا تعويضاً عن الدوافع الغريزيّة لدى الإنسان.. فالدين يستقي أصوله من رغبتنا إلى الرعاية السماوية التي نتصورها في صورة الأب الحنون الذي يحل محل الأب الحقيقي، لأن هذا لا يلبث أن يخيب آمالنا كلما شببنا عن الطوق، وبلغنا مبلغ الرجولة.

سلام للعالمين (52)

والأخلاق ما هي إلا قواعد أوجدها الإنسان لتكون كالحاجز تصد غرائزه التي لو انطلقت من زمامها لجعلت النظام الاجتماعي أمراً مستحيلاً.

أما الفن فقيمته إنما تنبثق من حاجة الإنسان إلى أن يبتدع أنواعاً من الوهم تقيه من النظر إلى الأشياء كما هي في حقيقتها مما لا يسهل على الإنسان أن يحتمله.

سكت قليلا، ثم قال، وهو يرفع يديه إلى السماء، وكأنه يخاطب نفسه: هذا هو التسامي.. فالأنا ـ التي هي المسيطر على الحركات الإرادية ـ تتقبل الدافع الغريزي وتتسامى به، وذلك بأن تحيله من صورته التي هو عليها أو من وضعه إلى وضع آخر ذي قيمة.

ثم أضاف يقول بقوة: إن المنبهات القوية الصادرة عن المصادر الجنسية المختلفة تنصرف وتستخدم في ميادين أخرى بحيث تؤدي الميول التي كانت خطرة في البداية إلى زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة.. تلك إحدى مصادر الإنتاج الفني، وإن تحليل شخصية الأفراد ذوي المواهب الفنية ليدلنا على العلاقات المتغيرة القائمة بين الخلق الفني والانحراف والعصاب، بقدر ما كان التسامي كاملاً أم ناقصاً.. وإن الجانب الأكبر لما نسميه الطبع مركب من مادة المنبهات الجنسية ومؤلف من ميول ثبتت منذ الطفولة أو اكتسبت عن طريق التسامي أبنية الغاية منها كبت الاتجاهات المنحرفة التي استحال استخدامها.

كان في القاعة التي نجلس فيها لوحة كبيرة من رسم (ليوناردو دافنشي) (1)، أشار إليها، وقال: هذه اللوحة دليل لما أقول.. لقد درست هذه اللوحة دراسة متمعنة.. بل درست جميع الجبل الذي كان سطحه (ليوناردو دافنشي)، وسميت تلك الدراسة (ليوناردو دافنشي دراسة نفسية جنسية لذكريات طفولية)

__________

(1) يوناردو دافينشي (1452 - 1519 م)، يعد من أشهر فناني النهضة الإيطاليين على الإطلاق وهو مشهور كرسام، نحات، معماري، وعالم.. كانت مكتشفاته وفنونه نتيجة شغفه الدائم للمعرفة والبحث العملي، له آثار عديدة على مدراس الفن بإيطاليا امتد لأكثر من قرن بعد وفاته وإن أبحاثه العلمية خاصة في مجال علم التشريح البصريات وعلم الحركة والماء حاضرة ضمن العديد من اختراعات عصرنا الحالي..

سلام للعالمين (53)

لقد قمت في ذلك البحث العميق بتحليل شخصية دافنشي تحليلاً نفسياً متكئاً على ملاحظة وجدتها في إحدى أوراق الرسام العظيم.. وهي رؤيا طفولية، فقد روى أنه يذكر عندما كان في المهد أنه رأى نسراً ينزل عليه ويفتح له فمه ويضربه بذيله على شفتيه عدة مرات.

وفي ضوء هذه الرؤيا اكتشفت سر ذلك البطء الذي اشتهر به دافنشي، وهو ينجز أعماله العظيمة، واكتشفت سر تنقلاته الكثيرة، وسر غموض ابتسامة (الجوكندا) (1).. لقد اكتشفت أنه كان ضحية انحراف جنسي على مستوى اللاوعي، تأثرت به حياته، وتأثر به فنه.

أخرج من محفظته (رواية الإخوة كرامازوف) (2) للروائي الروسي (دستوفيسكي) (3).. ثم قال: لقد درست هذه الرواية دراسة تحليلية.. ووجدت في شخصية هذا الكاتب الروائي فناناً وأخلاقياً وعصابياً وآثماً، وبقدر ما يستحقه من مجد وخلود، فإنه سجان من سجاني الإنسانية، وهو سادي يعذب نفسه، ويعذب الآخرين، ومجرم يتعاطف مع الآثمين.

__________

(1) الجيوكاندا: هي لوحة رسمها الإيطالي ليوناردو دا فنشي، وقد بدأ برسم اللوحة في عام 1503 م، وانتهى منها بعد ذلك بثلاث أو أربع أعوام. ويقال أنها لسيدة إيطالية تدعى ليزا كانت زوجة للتاجر الفلورنسي فرانسيسكو جيوكوندو صديق دافنشى والذي طلب منه رسم اللوحة لزوجته.

(2) هي رواية للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي وعموما، وتعتبر تتويجا لعمل حياته.. وقد نشرت في فصول في مجلة (الرسول الروسي) عام 1880.. وقد عالجت كثيراً من القضايا التي تتعلق بالبشر، كالروابط العائلية وتربية الأطفال والعلاقة بين الدولة والكنيسة وفوق كل ذلك مسؤولية كل شخص تجاه الآخرين.. ومنذ إصدارها، هلل جميع أنحاء العالم من قبل المفكرين متنوعة مثل سيغموند فرويد، وأينشتاين، وبينيدكت السادس عشر باعتبار الأخوة كارامازوف واحده من الانجازات العليا في الأدب العالمي.. وهي تدور حول جريمة قتل يقترفها ولد (غير شرعي) في حق أبيه، ويستغرق الأمر فصولاً طويلة قبل أن يصل التحقيق إلى القاتل الحقيقي، بعدما كان هذا التحقيق قد وجه شكوكه في نواح أخرى عدة، ولا سيما في اتجاه الأبناء الآخرين (الشرعيين) للرجل القتيل.. وكان موقف دوستويفسكي من الجاني يبدو واضحا باتجاه المطالبة بالقصاص.

(3) هو (يودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي) (1821 - 1881) ولد في موسكو وتوفي في سان بطرسبرج، روسيا.. وهو واحد من أكبر الكتاب الروس، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين.. شخصياته دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية، ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت..

سلام للعالمين (54)

أخرج كتبا كثيرة.. وراح يحللها جميعا بمقاييسه التي وضعها، ثم قال: هكذا وجدت جميع المبدعين.. هم جميعا عصابيون، كثيرو الانطواء، على صدام دائم مع الواقع الذي لا يسمح لهم بإظهار دوافعهم الغريزية.. ولذلك يلجؤون لإشباعها إلى عالم الوهم حيث يجدون بديلاً عن الإرضاء المباشر لرغباتهم، ويستعينون للوصول إلى تحويل مطالبهم اللاواقعية إلى غايات قابلة للتحقيق من الوجهة الروحية على الأقل بما يمكن تسميته بالقدرة على التسامي.. وهذه إحدى آليات الدفاع التي تعفيهم من القصاص أو المرض، لكنها ـ مع ذلك ـ تجعلهم رهائن عالم وهمي لن يطول الأمد به حتى يصبح مرضاً عصابيا.

قلنا: أهكذا اختصر لك سيدك فرويد الإنسان؟

قال: أجل.. للأسف بهذه الصورة الباهتة الحقيرة اختصر الإنسان.. فكل سلوك يسلكه الإنسان ناتج عن تلك الدوافع الغريزية التي يمتلئ بها اللاشعور..

ومهمة المحلل النفسي ـ التي تدربت على يديه عليها ـ منحصره في أن يكشف دلالات هذه الرموز الجنسية التي يستحيل فيها الإبداع إلى استراتيجية من الدعارة المقنعة، والهوس الجنسي المراوغ؛ لأن كل قائم في صورة إنما يرمز إلى عضو الذكورة، وأن كل تجويف يعني أعضاء المرأة التناسلية، وأن العمود أو التمثال المنحوت لجسم إنسان منتصب لم يكن في الأصل غير رمز لعضو التناسل، وأن الجزء الداخلي من المبني يرمز إلى رحم المرأة.. وهكذا.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تتركه، هل هناك أستاذ آخر حذرك منه، أو نقد لك توجهه؟

قال: إن كان هناك أستاذ يمكن أن يكون سببا في تحذيري من فرويد.. فهو فرويد نفسه.

قلنا: هل بلغ به الورع أن حذرك من نفسه؟

قال: مثله لا يعرف الورع.. لقد كان سلوكه هو الذي جعلني أنفر منه.. لقد كان أنموذجا مشوها عن الإنسان، فلذلك لم أتصور أن في مقدرة رجل مثله أن يدعي كل تلك الدعاوى العريضة.

سلام للعالمين (55)

لقد رأيت فيه ـ بعد أن ذهبت تلك الهالة التي رسمت حوله ـ شخصية مضطربة مريضة جديرة بأن تبحث عمن يعالجها، لا أن تكون مصدرًا لرسم أسس لدراسة النفس البشرية.

لقد كان (فرويد) مجموعة من العقد النفسية والعادات الغريبة، ولم يستطع أن يشفي عقله الباطن من هذه العقد النفسية إلى آخر حياته.. كان يتبع أوراقه التي تدخل في ترجمة حياته فيحرقها.. وكان يؤمن بأنه سيموت في نهاية الحرب العالمية الأولى، فمات في بداية الحرب العالمية الثانية.. وكان يدخن عشرين سيجارًا في النهار ليهدئ من ثوراته العصبية (1).. وكان عرضة للإغماء على أثر المفاجآت.. وكانت مرارة الطبع خلة ملازمة له في علاقاته بغيره.. وكانت لأحلامه وجوه خفية ترمز إلى دلائلها في سريرته الباطنة.. وكانت له ضروب من القلق، تنم على باعث من بواعث الحيرة المكتومة.. وكان في أطهر أحواله يحارب التشبث بالعقائد الدينية والعادات الخلقية، ويتشبث بالتفسير الجنسي للعقائد والعادات تشبثًا يربو في إصراره وشدته على تعصب المتعصب اللدود لمذهبه ودينه.

وكان في طفولته ـ كما ذكر لي ـ ينسى نفسه ليلا في فراشه، وكان يخشى من السفر بالقطار، ويحضر إلى المحطة قبل موعد قيامه بنحو ساعة، وكان دائم العزلة، لا يسمح لأحد أن يصاحبه طويلا.

وفوق ذلك، فقد ذكر لي صديقي (أرنست جونس).. وقد ذكر ذلك في كتابه (حياة وأعمال فرويد) خطابه إلى صديق له يقول: (لست في الحقيقة رجلا من رجال العلم، ولا من رجال الملاحظة ولا التجربة، لست مفكرًا، أنا لست إلا مغامرًا بطبيعة مزاجي وتكويني، ولديَّ كل ما عند المغامر من فضول ومثابرة وجسارة)

__________

(1) عُرِفَ فرويد بإدمانه للسيجار، ومن العجيب أنه لم يتخلَّص من إدمانه هذا إلى أن أُصيب بسرطان الحَلْق عام 1923، وأجرى عدة عمليات لاستئصاله، إلا أن الألم وعدم الراحة لازماه إلى أن طلب من الطبيب إعطاءه جرعة مميتة من المورفين عام 1939 للتخلص من أوجاعه ومن حياته منتحراً.

سلام للعالمين (56)

قلنا: لا يمكن أن نحكم على أفكار الشخص من خلال سلوكه.. فالسلوك ـ مهما كان منحرفا ـ لا يدل بالضرورة على انحراف صاحبه.

قال: صدقتم.. فلذلك طالت صحبتي له مع ما أراه من سلوكه.. لقد كنت أقول لنفسي: (خذي الحكمة.. ولا يهمك من أي وعاء خرجت)

قلنا: فما الذي صرفك عنه بعد هذا؟

قال: الفطرة.. الفطرة وحدها دلتني على الأوهام التي وقع فيها فرويد عن قصد (1) أو عن غير قصد..

أولا.. لقد رأيت الخطر العظيم الذي تحمله أفكار فرويد عن الإنسان في السلوك الإنساني.. لقد ساهم ما طرحه من فكر في تحويل البشرية إلى غابة من الحيوانات لا هم لها إلا إرواء غرائزها..

ثم تأملت في الواقع، فرأيت أنه لا تكاد توجد نظرية واحدة قد أحدثت ما أحدثته من الانقلاب في سير المجتمعات إلا نظرية دارون من قبل، ونظرية كارل ماركس التي سبقت فرويد في الزمن ولكنها لحقته في التنفيذ.. لقد اعتنقت آراءه الجماهير، يظاهرها في ذلك كثير من العلماء، ولم يكتفوا بنصوص نظرياته، بل توسعوا في تفسيرها على هواهم، وآمنوا جميعاً بأن الأمر الطبيعي هو أن تنطلق الغرائز من معقلها، ولا تقف عند حد إلا حد الاكتفاء.

وقد بحثت في أسباب هذا الإقبال الجماهيري.. فوجدت أنه ليس نابعا من دواعي البحث والمعرفة والعقل.. وإنما هو نابع من دوافع نفسية لا علاقة لها بالعقل أو بالعلم:

لقد رأيت أن من أهم الأسباب هو تلك الثورة التي ظهرت بين قومنا على تعاليم الكنيسة

__________

(1) قلنا هذا، ونحن نشك في مدى صدقه بناء على ما ورد فيما يسمى (بروتوكولات حكماء صهيون) من قوله: (يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا.. إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه)

وشكنا في هذا لا ينفي اعتقادنا الجازم بأن أصل ما جاء به فرويد مستنبط من المعتقدات اليهودية، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في رسالة (ثمار من شجرة النبوة)

سلام للعالمين (57)

التي رأينا فيها حجراً على الحريات، وسبباً للعقد والانحرافات الخلقية.

ثم ذلك الانبهار غير الواعي بالعلم وبمنجزات العلم..

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، وما نتج عن ذلك الشباب المسجون في متاريس الحرب، والذي قضى شبابه في السجون والخنادق والمعتقلات، وتعرض لحروب الميكروبات، والغازات السامة، فخرج لا يفتش إلا على إشباع غرائزه الحيوانية، فكان فرويد هو الهادي، والداعي إلى هذه السنة، فلذلك كان في نظرهم أحد صناع الحضارة الحديثة في القرن العشرين.

قلنا: أنت لم تناقش أفكاره من الداخل.. بل اكتفيت بالنظر إلى آثارها؟

قال: لا.. لم أكتف بآثارها.. لقد تعمقت في المنهج الذي كان فرويد يفكر به.. فوجدت أنه منهج بعيد عن العلم والعقلانية.. فقد اعتمد فرويد في آرائه على الحالات المرضية الشاذة التي كان يعالجها، والتي من خلالها أخذ يفسر السلوك المتزن العادي لدى الأسوياء في ضوء ما عاينه من السلوك الشاذ عند المصابين.

لقد رأيته يستخلص نظريته من معالجة أفراد من الطبقة المتوسطة في مدينة فيينا، كانت هذه الطبقة تتعرض لعوامل الكبت الجنسي وأنواع المحرمات الاجتماعية بالنسبة للعلاقة بين الجنسين، فهم ليسوا بأسوياء، وفيهم ما فيهم من عُقد نفسية جعلت همهم الأكبر والدافع الأول لسلوكياتهم هو الدافع الجنسي.

ثم رأيت أنه يشكك في العقل.. بل يعتبره مجرد خادم للغريزة، وليس هادياً إلى الحقيقة، ووظيفته ليس الحدس بالحقيقة، بل الإقناع بما نعتقده غريزياً، ولهذا فنتائجه لا يمكن الوثوق بها لأنها تبرير لمتعقداتنا فهو أداة ضعيفة في مجال المعرفة.

ثم رأيت أن الإرادة في التحليل النفسي ليست ملكة تُمارس بحرية، إذ ليس بمقدور الإنسان أن يضبط نفسه، فأساليب الإنسان في الحياة نتاج رغبات لاشعورية في أعماق نفسه، وعلى هذا ليس هناك ما يسمى بحرية الإرادة، ولم ينتج عن هذا التصور سوى الانزلاق في الشهوات،

سلام للعالمين (58)

والاستغراق في الملذات.. بل إن فرويد كان يصيح بملء فيه: (إن كبح الدافع الغريزي مضر بالشخصية، ويورث الاضطرابات العصبية، والسخط من الحياة)

وفوق ذلك كله، فقد أثبتت الأبحاث التجريبية خطأ ما ذهب إليه فرويد حول الطفولة، وما يدور حولها، فقد أعلن فرويد بأن معارضة رغبات الطفل في صغره ومحاولة الأهل في أن يروضوه على النظام وأصول السلوك تؤثر في تصرفاته إذا كبر، ولذلك كان يرى أنه يجب أن يترك الطفل حرًا بدون توجيه حتى لا يكون ذلك مصدر عقد في حياته.

وقد روج علماء النفس والتربية لهذه النظرية على نحو اتخذ منها وسيلة لهدم أصول التربية وبناء الشباب تحت تهديد وهمي، غير أن العلماء الذين قاموا بإحصائيات وتجارب في البيئة نفسها، تبين لهم فساد هذه النظرية وعدم جدواها، وأن بعض العلماء الأمريكيين أعلن بعد دراسات طويلة بضرورة استخدام الضرب كوسيلة لتقويم الطفل، وقيد الضرب (1)، وقال: (إن مسلك الطفل لا يتأثر بعامل واحد كما ذكر فرويد، ولكنه يتأثر بعدد كبير من العوامل، منها: البيئة والوسط والحالة الاجتماعية، فلا سبيل لإخضاع الطفل إلى نسق واحد)

وقد أجرى الدكتور اسكندر توماس عددًا من البحوث بمعرفة فريق من الأطباء النفسيين، انتهى منها إلى أن نظرية فرويد لم تكن مطلقة، وأنهم درسوا في تجربتهم أحوال 158 طفلا غير منحرفين، منهم الفقراء والأغنياء، وقد نشأ الأولاد أصحاء مستقيمين بالرغم من القيود القاسية في تربيتهم، ودل ذلك على أن مسلك الطفل لا يتأثر بالتوجيه الأبوي، ولا بالزجر أو بالضرب.

كذلك أثبتت الدراسات العلمية بما لا يقبل الجدل أن الدافع الجنسي يأتي في مرتبة أدنى من

__________

(1) ليس المراد هنا تأييد هذا الرأي، وإنما القصد هو الرد على ما ذهب إليه فرويد.. أما الضرب في حد ذاته، فهو وسيلة من الوسائل التي يلجأ إليها بعد نفاذ كل الوسائل.. انظر (الأساليب الشرعية في تربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

سلام للعالمين (59)

كثير من الدوافع الأخرى كالدافع إلى الهواء أو الشراب أو المال (1)، ثم إن هذا الدافع الجنسي يخضع للتربية والتوجيه، بمعنى أننا نستطيع تربية الإنسان على العفة بحيث يضبط دافعه الجنسي، ويتحكم فيه.

وبذلك تكون العفة أمرًا ليس ممكنًا فحسب، بل ضروريًا، كذلك أثبتت الأبحاث أن هناك تنظيمًا طبيعيًا للشهوة في الإنسان بحيث يستطيع كثير من الوسائل كالرياضة الجسدية أو الروحية أو الشعر أو الموسيقى أن تستوعبه.

كذلك قال الباحثون: إن دعوى فرويد الأساسية هي أن المرض العصبي (العصاب) ينشأ عن أمور جنسية طفولية مكبوتة، ولكن البحث أثبت أن الأمور الجنسية الطفولية المكبوتة ليست وقفًا على الذين أصيبوا بعصاب في وقت ما في حياتهم، ولكنها موجودة عند كل إنسان، وتشكل عاملا هامًا في حياته.

وهكذا وجدت أن ما دعا إليه فرويد من أن الطفل يعاني مما أسماه كبت الميول الجنسية، ليس إلا أكذوبة، أراد بها تبرير الإباحة، وأثار بها الخوف في النفوس حتى يحول بين إعداد الشباب وتربيتهم وإعدادهم إعدادًا خلقيًا، وأن ما يرمي إليه من ترك الميول حرة تسلك سبيلها إلى ما تشاء، وأن ييسر لها هذا السبيل ليس إلا دعوة صريحة إلى الإباحية (2).

الشيطانية

قلنا: فعلى من تتملذت بعد فرويد؟

قال: على تلميذ من تلاميذ فرويد..

__________

(1) أثبتت التجارب أن الدافع الجنسي يأتي في المرتبة الرابعة بالنسبة للحيوان، يتقدمها دافع الأمومة بنسبة 22.8%، ثم العطش بنسبة 20.4، ثم الجوع بنسبة 18.2%، وأخيراً الدافع الجنسي بنسبة 13.8%!.

(2) انظر: سلسلة دراسات إسلامية معاصرة، الفرويدّية، أنور الجندي، منشورات المكتبة العصرية.

سلام للعالمين (60)

قلنا: عجبا.. أتترك الإسناد العالي وتنزل للنازل (1

قال: لقد كنت مقتنعا ذلك الحين اقتناعا تاما بتأثير اللاشعور في حياة الإنسان.. ولكني لم أقتنع بما طرحه فرويد من طروحات حول نوع اللاشعور المسيطر على الإنسان..

قلنا: فهل وجدت في هذا التلميذ ما دلك عليه؟

قال: أجل..

قلنا: من هو؟

قال: هم كثيرون.. كان أولهم رجل يقال له (إدلر) (2).. لقد جاءني في اللحظات التي بدأ الشك فيها يتسرب إلي من رؤى فرويد، وقال لي، وهو يهمس في أذني: أتدري.. لقد كان سيدنا فرويد مخطئا خطأ شديدا في إرجاعه السلوك الإنساني إلى الجنس (3).. لا.. ليس الأمر كما يقول..

__________

(1) يراد بالإسناد العالي ـ عند المحدثين ـ ما قَلَّ عدد رجاله بالنسبة إلى سند آخر يَردُ به ذلك الحديث بعدد أكثر.. وعكسه (الإسناد النازل)، هو الذي كثر عدد رجاله بالنسبة إلى سند آخر يَرِدُ به ذلك الحديث بعدد أقل.

(2) هو ألفرد أَدلَر (1870 - 1937 م)، وُلد أدلر في مدينة فيينا بالنمسا، وقد كان اختصاصيًا في العيون وطبيبًا للأعصاب قبل أن يُصبح طبيبًا نفسانيًّا.. عمل أدلر مع سيجموند فرويد في الفترة من عامي 1902 و1911 م. وفي الفترة ما بين عامي 1919 و1934 م، ثم أسّس مستوصفات توجيه الطفولة في فيينّا كما قام بتدريب المعلّمين، وعمل مع الآباء وأشرف على نشاطات المعلّمين الخاصّة بتعلم كيفيّة تمريض الأطفال الّذين يعانون الاضطرابات، وفي عام 1934 م انتقل أدلر إلى نيويورك.

وهو يرى أن القوة الرئيسية للنشاط البشري بوجه عام ما هي إلا نضال لتحقيق الرّفعة والكمال، وقد أشار أدلر في البداية إلى هذه القوة بوصفها دافعًا نحو الوصول إلى السلطة، ولكنه سمّاها مؤخرًا النّضال نحو الرفعة. وسمى مدرسته الفكريّة (علم النفس الفردي)، ويشار إلى هذه المدرسة في وقتنا الحاضر، أحيانًا، بـ (علم النفس الأدلري)

(3) لقد قدر الله أن يرى فرويد في حياته بداية انهيار نظرياته.. والذي استمر إلى اليوم.. فمع الجهود الكبيرة التي حاول بها أتباع فرويد السيطرة على مناهج التعليم والتربية والدوائر العلمية، غير أنها في سنوات تالية قليلة، انكشف عوارها، حتى إن الأطباء النفسانيين الذين اجتمعوا لإحياء ذكرى فرويد في مدينة شيكاغو عام 1956، وعدتهم نحو أربعة آلاف، فوجئوا بحملة عنيفة على فرويد ومذهبه، يتولاها رجل مسؤول عن مركزه العلمي هو الدكتور برسيفال بيلي مدير معهد النفسيات بولاية ألنيواز.

وخلاصة حملته: أن البقية الباقية من طب فرويد قليلة لا يؤبه بها، وأن آراءه لا تضيف شيئًا إلى القيم الإنسانية لأنه يرتد بالإنسان إلى أغوار الباطن، ويهمل جانبه المنطقي الشاعر، وأنه لم يكن يفهم المرأة، ولم يكن يتذوق الموسيقى، ولا يحس جلال العقيدة.

وقال باحث آخر: إن نظرية فرويد عن العقل الإنساني لا تقوم على أكثر من افتراضات خيالية، انتزعت مادتها من الأساطير والتخمينات التي سبق رفضها في مجال الدراسات المتعلقة بتاريخ الإنسان.

وقد كشفت الأبحاث التي نشرها الكتاب اليهود في السنوات الأخيرة عن علاقة جذرية وعميقة بين نظريات فرويد وبين نصوص التلمود، وقد ظلت هذه النظرية تخدع مئات العلماء ببريقها الزائف سنوات طويلة حتى أعلنت هذه الحقائق، ومن بين الذين كشفوا هذا السر الدكتور صبري جرجس في كتابه (التراث اليهودي الصهيوني في علم النفس ونظرية فرويد) حيث أشار إلى التركيز الخطير الذي قامت به القوى المسيطرة على الإعلام والآداب والفنون والجامعات في الغرب على نظرية فرويد واحتضانها على هذا النحو المريب، بالرغم من أنها لم تكن صحيحة علميًا، بينما أخفتت أصوات النظريات الأخرى الأكثر قربًا من الحقائق العلمية.

يقول الدكتور صبري جرجس: (لفت انتباهي حقيقة كبرى، تلك العلاقة الوثيقة بين فرويد رجل العلم والتحليل النفسي والفكر العالمي من ناحية، وبين التراث اليهودي الصهيوني والصهيونية، والعمل السياسي الديني العنصري من ناحية أخرى، وكما تبدي لي ليست علاقة مصادفة، ولكنها علاقة أصل ومسار وهدف، وأشار إلى أن فرويد وأصحابه الذين حملوا لواء فكرته من بعده كانوا جميعًا من الصهيونية (ساخس، رايك، سالزمان، زيلبورج، شويزي، وتيلز، فرانكل، كاتز، فينكل)

وأشار إلى عدة عبارات وردت في كتابات يهودية لفتت نظره إلى ما يراه الآن من علاقة بين الصهيونية وبين نظرية فرويد، وليس ذلك إلى ما أشار إليه باكان في بعض خفايا التراث اليهودي الصهيوني التي لها علاقة بالتحليل النفسي، بل إلى ما ذكرته صراحة الكتابة (ترود، وايز، مارين) عن: كيف تحتقر اليهودية العقل الغربي مزيفة في سبيل ذلك وقائع الماضي وأحداث الحاضر، آمنة بعد ذلك من الافتضاح، ومطمئنة آخر الأمر إلى التصديق. (انظر: سلسلة دراسات إسلامية معاصرة، الفرويدّية، أنور الجندي)

سلام للعالمين (61)

لقد بحثت وحللت.. فوجدت أن الموجه للسلوك الإنساني أمر أخطر بكثير من تلك النزوات الحقيرة الموقوتة..

نظرت إليه، والفرحة تملأ أسارير وجهي، وقلت: فما الذي اكتشفت؟

قال: الشعور بالنقص..

قلت: الشعور بالنقص!؟.. ما تقصد؟

قال: لقد رأيت أن كل نشاط يمكن تفسيره بهذه القوة الدافعة.. قوة الشعور بالنقص.. لقد

سلام للعالمين (62)

رأيت أنه قوة الدفع الأولى للسلوك.. لقد كتبت في ذلك كتابا أثبت فيه هذا.

ناولني كتابا كان بيده، وقال: هذا هو الكتاب.. لقد سميته.. (فهم الطبيعة البشرية).. اسمع ما أقول فيه: (إن كل طفل وهو يقف بمفرده أعزل عن معونة الآخرين لا يلبث أن يشعر إن عاجلاً، أو آجلاً بعجزه عن معالجة شؤون العالم الواقعي، وهذا الشعور بالعجز هو القوة الدافعة ونقطة الارتكاز الأولى التي يبدأ منها جهاد الإنسان، وهو يقرر الهدف الأقصى لوجوده)

أغلق الكتاب، ثم نظر إلي، وقال: الطفل حين يولد، يكون بحاجة إلى نوع من الرعاية والاهتمام، وهي رعاية سرعان ما تستحيل في نظر الطفل إلى نوع من التسلط على نفسيته؛ لأنها تشعره بعجزه، الأمر الذي يولِّد لديه شعوراً بالنقص، مما يفضي به إلى أن يبني لنفسه عالماً من الخيال يكون فيه سيداً مطاعاً، ويسعى إلى تقديم نفسه للآخرين على أنه مركز القوة، وسيد القرار.

قلت: أنت تقلد سيدنا فرويد في تركيزه في تحليله للسلوك الإنساني على سنوات الطفولة الأولى؟

قال: نعم.. لقد اكتشفت أنها الموجّه للسلوك في المستقبل، لأن الأساليب التي يتخذها الطفل للتعويض عن شعوره بالنقص تقرر طبيعة الهدف الذي يوجه نشاطه خلال حياته كلها.

قلت: ولكن.. هل أمكنك تفسير كل النشاط الإنساني بهذا الدافع؟

قال: أجل.. لقد وجدت أن كل النشاط الإنساني تعبير عن هذا الشعور.. فقط الناس يختلفون في طبيعة النقص، وطريقة التعبير عنه وتعويضه..

وقد وجدت أن هذا التعويض لا يتم إلا على أنقاض الآخرين من خلال قوة الإرادة، وفرضها على الجماعة، والتسلط على المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الأهداف من دون الكفاح، والاقتحام..

قلت: ألا يمكن تحقيق الأهداف عن طريق الألفة والتعاون مع المجتمع..

ضحك ضحكة عالية، وقال: لا.. لا يمكن للفرد النجاح في مساعيه، وهو يحمل هذه

سلام للعالمين (63)

القيم.. إن النجاح لا يعني عندي إلا شيئا واحدا.. هو الحيلولة بين الآخرين وبين تحقيق أهدافهم.

قلت: إن هذا يجر إلى الصراع؟

قال: لا يمكن للحياة أن تستقيم بلا صراع.. أليست المادية الجدلية عند لينين، والمادية التاريخية عند ماركس صراع على مطالب الإنسان في هذه الحياة؟

قلت: بلى..

قال: لا يمكن لنظرية من النظريات أن تنجح، وهي تستظل بظل السلام.

قلنا: فهل صحبت هذا المصارع؟

قال: أجل.. وتعلمت على يديه.. ولا أنكر أني استفدت الكثير من أفكاره.. لكني في الأخير تركته.

قلنا: لم؟

قال: لقد علمت بصحبتي له علم اليقين صدق ما قاله لي صديقي الفيلسوف الإنجليزي جود.. لقد قال لي: (بينما يذهب فرويد إلى الكشف عن جانب الوحش في الإنسان، فإن إدلر يذهب إلى الكشف عن جانب الشيطان المتمرد فيه)

الأسطورية

قلنا: فمن صحبت بعده؟

قال: لقد جاءني رجل يسمى (يونج) (1) بعد أن علم عزمي على ترك صداقة (إدلر)، وقال

__________

(1) هو كارل جوستاف يونج (1875 - 1961 م)، وهو عالم سويسري مختص في علم النفس والطبّ النفسي، قام بتطوير مجال علم النفس التحليلي، ولد في مدينة بازل لأب كان يعمل قسيسًا، ومنذ صغره كان لديه اهتمام دائم بالخرافات والأساطير والسحر.. استخدم يونج في وقت مبكر من حياته العملية نظريات التحليل النفسي التي استحدثها فرويد. وتقابل الاثنان في عام 1907 م، وتوثقت صلتهما، وشارك يونج في حركة التحليل النفسي. وفي وقت لاحق بدأ يونج يعتقد أن فرويد اهتم أكثر من اللازم بالغرائز الجنسية في سلوك الإنسان. وقد أدى عدم تركيز يونج على الجنس إلى تخليه عن فرويد وانتهاء صداقتهما في عام 1913 م. وأصبح أستاذًا في علم النفس الطبي في جامعة بازل عام 1943 م.

سلام للعالمين (64)

لي: هلم إلي؟

قلت: من أنت؟

قال: أنا الذي تجد عنده الحقيقة التي تهت في البحث عنها.

قلت: ما اسمك؟

قال: لا يهمك اسمي.. فاسمي هو اسم الجماعة.. فليس هناك اسم خاص لي.. كما أنه ليس هناك اسم خاص لكل من تراهم من الناس.

قلت: فما ترى في الإنسان.. أو ما ترى في الأعماق التي ينبني عليها سطح الإنسان؟

قال: أنا بسيط جدا.. وواقعي جدا.. فلذلك لن أسلك بك تلك المتاهات التي سلكها بك صديقي فرويد..

قلت: فأنت تنكر اللاشعور إذن؟

قال: لا.. أنا لا أنكره.. ولكني اكتشفت بديلا للاشعور الذي وضعه فرويد.. فإن كان اللاشعور الشخصي هو محور نظرية فرويد في بناء الشخصية ونموها، فإن اللاشعور الجمعي هو جوهرها عندي.. أنا يونج.. وهو عندي صور ابتدائية لا شعورية، أو رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية، لا تحصى، شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية، وقد ورثت في أنسجة الدماغ، بطريقة ما، فهي - إذن - نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية.

قلت: الوعي الإنساني عندك إذن ليس مقصوراً على علاقة الطفل بوالديه كما ذكر فرويد؟

قال: أجل.. الوعي الإنساني عندي.. أنا يونج.. إنما يتشكل في ظلال مخزون ثقافي موروث يمتد حتى تجربة الإنسان البدائي مع الكائنات والأشياء، وقوام هذا المخزون هو ما أسميه بـ (اللاشعور الجمعي) أو (الأنماط العُليا)

قلت: الأنماط العليا!؟

قال: أجل.. وهي تتشكل من تلك الأساطير التي يحركها نداء اللاوعي، فتبدو في أحلام

سلام للعالمين (65)

الأفراد ورؤى الفنانين العرافين، كي تعيد التوازن النفسي للعصر.

قلت: فمحور نظريتك ينطلق من الأنماط العليا إذن؟

قال: أجل.. ولها عندي.. أنا يونج.. مرتبتان:

أما المرتبة الأولى، فقد أسميتها (الأنماط العليا الشخصية) كنمط الظل، والقِران المقدس والأنيما، وهذه تبرز في شكل شخصي فترى مباشرة.. فالإنسان يلتقي أولاً مع ظله أو مع وجهه الذي يخفيه بواسطة الشخصية، ويلتقي بوالديه اللذين يشكلان له نمط القِران المقدس، ويواجه أحوال اللاشعور، وهي الأنيما أو النفس.

أما المرتبة الثانية، فقد أسميتها (أنماط التحول)، كنمط الأم، ونمط الطفل، ونمط البنت.. فنمط الأم يحمل صورة الأم الطبيعية، والأم الأرض، والأم الروح، ونمط الطفل يحمل صورة الطفل الإله أو الطفل البطل، ونمط البنت يحمل صورة العذراء، والأنثى المجهولة، والأنثى الخرافية، والأنثى الأضحية.

وعلى هذا تكون هذه الأنماط الشخصية، وأنماط التحول ميراثاً إنسانياً انبثق من تصور الإنسان البدائي للكون، وهو ما يسمى بالأساطير.

قلت: أراك تعطي مصداقية كبرى للأساطير مع أنه لا دليل عليها.

لست أدري كيف غضب غضبا شديدا، وقال: لا.. ليست الأساطير كما تزعم.. إن الأساطير هي تاريخ البشرية الأولى.. نعم تنوسيت ملامحه الدقيقة، وأضفى الخيال الإنساني عليه جواً فضفاضاً.. لكنه يظل مع ذلك هو تاريخ الإنسانية الأول.

قلت: وما تقول في الأساطير التي تؤرخ للآلهة؟

قال: لقد ذكرت لك أن العقل الإنساني أضفى خيالا على الحقائق التاريخية التي تحملها الأساطير، فلذلك، فإن الأساطير المرتبطة بالآلهة ليست في الحقيقة إلا تأريخا لعصر الأبطال، حين كان الإنسان يعجب بالقوة والجبروت، والبطولة في شتى ألوانها المادية والمعنوية، ويتطور هذا

سلام للعالمين (66)

الإعجاب عند الأجيال إلى نزعة من التقديس تتلاشى معها حيناً بعد حين الحدود الفاصلة بين المحدود المطلق، وبين حقائق الواقع الإنساني، وخفايا الوجود الغيبي، فتصل إلى حد عبادة الآباء، ثم تصل إلى تناسي هذه الأبوة، ودخولها في مرحلة تالية.

قلت: سلمت لك بهذا.. فما تقول في عبقرية الإبداع الفني.. هل تراها كامنة في هذه الصور الأسطورية؟

قال: أجل.. فالصور الأسطورية هي التي تشكل قاسماً مشتركاً بين الناس.. إنها هي التي تطلق قوى المخيلة للمبدع.. ومن هنا كانت الروائع في الأعمال الفنية خالدة ولا وطن لها.. ذلك لأنها إنما تنبع من اللاشعور الجمعي، حيث ينبسط التاريخ وتلتقي الأجيال، فإذا غاص الفنان إلى هذه الأعماق فقد بلغ قلب الإنسانية، وإذا عرض على الناس قبساً من هذا المنبع العظيم عرفوا أنه منهم ولهم.

قلت: لقد ذكر لي فرويد أن الإبداع يعتمد على التسامي..

قاطعني، وقال: أخطأ فرويد.. الإبداع لا يعتمد على التسامي.. بل يعتمد على الإسقاط.

قلت: ما الإسقاط؟

قال: هو العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية إلى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الأغيار.

قلت: كيف يتم هذا الإسقاط؟

قال: هذا الإسقاط لا يتم إلا من خلال الرمز الناتج عن إطلاع المبدع حدسياً على اللاشعور الجمعي، ولهذا كان إبداع الرمز أعظم وظائف اللاشعور؛ لأنه أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً.

السلوكية

سلام للعالمين (67)

بعد أن حدثني أستاذي (يونج) بتلك الأحاديث، بل أقنعني بها، لم يعد لي من هم في حياتي إلا البحث في الأساطير والخرافات القديمة لأحاول أن أجد من خلالها حقيقتي..

كان البحث مضنيا.. وكان فك الرموز أكثر صعوبة.. وفوق ذلك لم يكن لي من الدلائل ما يقنعني بصحة أي من التحليلات الكثيرة المتناقضة.

في غمرة تلك الجهود الشاقة جاءني أستاذي السادس، ليخرجني من تلك المتاهة، ويدخلني متاهة أخرى.

قلنا: من أستاذك السادس؟

قال: رجل يقال له (واطسون) (1).. شيخ (المدرسة السلوكية) (2).. كان يحمل بعض الآلات التي تعود علماء الطبيعة أن يحملوها.. وقد بدأني بقوله: دع عنك أحاديث العجائز، وتعال إلي، فلن تعرف (أنا) من دوني.

قلت: ولكني أرى عليك ملامح نيوتن (3) لا ملامح فرويد.

ضحك، وقال: ومتى استطاع ذلك الأبله المتعلق بأحاديث العجائز أن يفهم الإنسان؟

قلت: وهل استطاع نيوتن أن يفهم الإنسان؟

__________

(1) هو جون برودس واطسون، (1878 - 1958 م). عالم نفسي أمريكي هو زعيم المدرسة السلوكية في علم النفس، وكان عمله الأول في مجال بيولوجيا وطب وسلوك الكائنات الحية الدنيا، قد دفعه هذا إلى الشك في وجود العمليات العقلية التي يدعي علماء النفس دراستها، وأخذ على عاتقه مهمة تقديم تفسير لسلوك كل من البشر والحيوانات في إطار بدني وفسيولوجي خالص وذلك في كتابه (علم النفس من وجهة نظر عالم سلوكيات)

(2) المدرسة السلوكية عبارة عن مجموعة من النظريات الفرعية التي ترتكز على أساس مسلمات ومبادئ واحدة ومن النظريات السلوكية الرئيسية نظرية الاشراط الكلاسيكي بريادة بافلوف ونظرية الاشراط الإجرائي بزعامة سكنر ونظرية التعلم الاجتماعي بريادة باندورا ونظرية العلاج العقلاني الانفعالي لاليس ونظرية العلاج متعدد الوسائل لازورس.

(3) النظرية السلوكية متأثرة أساسا بنظرية نيوتن، مما أدى الى تسميتها بـ (النظرية الذرية) وهي قريبة، في تحليلها السلوك بالفعل ورد الفعل، من الشكل الميكانيكي، فلكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومختلف عنه في الاتجاه.

ولهذا انتقدت النظرية السلوكية من منطلق المقارنة بالنظرية الميكانيكية نفسه (نيوتن)، فهي تنطلق، في تحليل السلوك، من المثيرات والاستجابات من دون الاهتمام بجانب الادراك في تفسير السلوك.

سلام للعالمين (68)

قال: أجل.. نيوتن الذي استطاع أن يفسر الكون هو الوحيد المخول بأن يفسر الإنسان، لأنه الوحيد الذي يمكن أن يفهم الإنسان.

قلت: نيوتن يفهم الآلة.. لا الإنسان؟

قال: ليس الإنسان سوى آلة.. لا تختلف عن أي آلة..

قلت: والعقل!؟

ضحك ضحكة هستيرية، وقال: العقل.. ما العقل!؟.. هل رأيته؟

قلت: الكل يذكر العقل.. ويذكر الشعور.. بل ويذكر اللاشعور..

قال: ما الإنسان إلا ما تراه من جسمه.. أما ما تسميه الشعور فلا يعدو أن يكون حصيلة ثانوية لعمليات جسمية، يصاحبها أحياناً، وإن كان ذلك يحدث بصورة عرضية.

سكت قليلا، ثم استأنف يقول: لست وحدي الذي يقول هذا.. حتى ماركس.. ذلك الأحمق الشيوعي كان يقول: (في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محددة لا غنى عنها، وهي مستقلة عن إرادتهم، وعلاقات الإنتاج تطابق مرحلة محدودة من تطور قواهم المادية في الإنتاج، والمجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية والسياسية والتي تطابقها أشكال محدودة من الوعي الاجتماعي. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يعين الصفة العامة للعمليات الاجتماعية والسياسية والمعنوية في الحياة. ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم)

قلت: ولكنك بنزع العقل من الإنسان لن تبقي له أي شيء؟

قال: بل أعيده إلى ذاته.. فمن الخطر ومن الخطأ أن يظل الإنسان يبحث في الأساطير عن ذاته.. بينما ذاته أمامه يستطيع أن يشرحها كما يشاء.

قال ذلك، ثم نظر إلي ليتأمل تأثير كلامه علي، ثم قال: لقد ظلت المادية تعاني ضعفاً منذ أن

سلام للعالمين (69)

كانت تفتقد هذه الحلقة أي منذ كان الميكانزم العصبي مجهولاً، واستغل المثاليون هذا الضعف، واستفاد منه الرجعيون لنشر الجهل وتشويش الفكر وخلق أساطير عن الطبيعة البشرية..

قال ذلك، ثم نظر إلي، فوجدني لا أزال لا أنبس ببنت شفة، فقال: تعال معي.. لا يمكن أن تقتنع قبل أن ترى بعينك.. فليس الخبر كالعيان.

قلت: إلى أين تريد أن تأخذني؟

قال: ألست تبحث عن الإنسان؟.. تعال أريك الإنسان.

سرت معه في كثير من المتاهات إلى أن وصلنا حجرة سمعنا فيها صياح كلب.. فالتصقت به، وقلت: أنا أخاف من الكلاب.. هيا بنا نبتعد عنها.

قال: لن تفهم الإنسان حتى تفهم الكلاب.. تعال معي.

دخلنا حجرة استقبلنا فيها رجل اسمه (بافلوف) (1).. لم يطل به ترحيبه لنا.. بل قادنا إلى حيث يوجد الكلب الذي أفزعني نباحه.. ثم قرع جرسا، فإذا بالكلب يسيل لعابه بقوة.. قال لنا بافلوف: انظروا.. لقد عودت هذا الكلب على أن لا أقدم له الطعام إلا بعد أن أقرع الجرس.. انظروا تأثير ذلك عليه.. صار الجرس عنده مثيرا.. لقد استطعت أن أستبدل رائحة الطعام بصوت الجرس.

التفت إلى صاحبي، وقلت: لقد أخبرتني أنك ستدلني على الإنسان.. فأين هو الإنسان؟

__________

(1) هو بافلوف، إيفان بتروفيتش (1849 - 1936 م) عالم روسي من علماء علم وظائف الأعضاء، نال جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء عام 1904 م، عن بحثه في الهضم. فقد أوضح كيف أن العصب المعدي يتحكم في انسياب العصارات الهضمية للبطن وللبنكرياس.

ظل بافلوف ـ خلال الثلاثين سنة التي تلت تلك الفترة ـ يدرس عمل الدماغ، وقد اكتشف أنه يمكن لتكرار ترابط مثير صناعي، مثل الجرس، أن يقوم مقام المثير الطبيعي مثل الطعام في إحداث رد فعل فسيولوجي متمثل في سيلان اللّعاب. وأطلق على هذا اسم المنعكس الشرطي. وكان بافلوف يؤمن بأن كل العادات المكتسبة، بل حتى الأنشطة العقلية العليا للإنسان تعتمد على سلسلة من الانعكاسات المشروطة.

سلام للعالمين (70)

أشار إلى الكلب، وقال: هذا هو الإنسان.

قلت: هذا كلب.. وليس إنسانا.

ضحك مع صاحبه بافلوف ضحكة عالية، ثم قال: نعم.. هناك فروق بينهما.. لكن مع ذلك نستطيع أن ندرس الإنسان من خلال دراستنا للكلب.. بل للحشرات..

قلت: ما الجامع بينهما؟

قال: ألم يفسر نيوتن جميع حركات الكون من خلال تفاحة؟.. فكذلك نحن يمكننا أن نفسر كل الظواهر السلوكية للإنسان من خلال الظواهر السلوكية للكلاب.

قالا لي هذا.. ثم سارا بي في متاهات كثيرة.. ومدة طويلة من الزمان صرت أرى فيها نفسي كما أرى أي آلة.. وقد عذبتني هذه الرؤية كثيرا..

قلنا: فكيف استطعت أن تتخلص منها؟.. وكيف استطعت أن تتخلص من تأثير هذا الأستاذ، وهو يحمل معه ذلك السلاح الخطير.. سلاح العلم؟

قال: بالعلم استطعت أن أتخلص من ذلك الهذيان الذي كان يملأ رأسي به.

قلنا: العلم!؟

قال: أجل.. وقد بدأت بالفيزياء، ذلك العلم الذي استند إليه أستاذي في اختصار الإنسان في آلات الإنسان..

لقد وجدت أن التطور العلمي في الفيزياء أطاح بتلك النظريات الآلية التي كانت تفسر الكون، فلم تعد المادة واضحة متماسكة تشكّل حيّزاً من الفراغ، كما كان يُعتقد، لقد أصبحت عالماً من الطلاسم والألغاز، وصارت شبكة من الشحنات الكهربائية، وسلسلة من الأحداث المحتملة ترتفع وتنخفض حتى تتلاشى في العدم.. بل إنه لا يمكن مشاهدتها.

لقد أصبحت تلك الذرة الصغيرة في فيزياء القرن العشرين كأنها نموذج مصغر لمنظومة شمسية.. في مركزها عدد من الشحنات الكهربائية الموجبة تعرف بالبروتونات، وهذه تؤلف

سلام للعالمين (71)

النواة، ويدور حول النواة على مسافات مختلفة، وفي مدارات غير منتظمة عدد من الشحنات السالبة تسمى الالكترونات. والشحنة الموجبة في كل بروتون تساوي تماماً الشحنة السالبة من كل اليكترون غير أن عدد البروتونات التي تتألف منها النواة أكبر كثيراً في العادة من عدد الالكترونات، وإنما تحصل الموازنة بين الشحنات الموجبة للبروتونات، والشحنات السالبة للالكترونات التي تدور حول النواة، بوجود شحنات سالبة، الكترونات أخرى موجودة في النواة.

والذرة التي كانت صلبة في وضع مادي ثابت أصبحت بخلاف ذلك، فقد أخذ الفيزيائيون المحدثون يطاردونها - كما يقول أدنجتون - من السائل المتصل إلى الذرة، ومن الذرة إلى الالكترون، حتى أضاعوها في النهاية.

والذرة التي كان يُظن أن معرفتها لا يمكن الشك فيها أصبحت تلك المعرفة خادعة، لأنه ثبت حديثاً أنه إنما يستنتج وجودها من أحداث تقع خارجها، يظن أنها تُسببّها وتأتي عنها.

ونتيجة لهذا، فإن الإدراك الحسي في الفيزياء الحديثة، لم يعد في الوجود العيني للمادة، وإنما في الحادث النفسي الداخلي، فحقيقة الأشياء عقلية وليست مادية، فالظاهرة المادية ليس إلاّ أثراً للكيفية التي تتجلى فيها الحقيقة الروحية.

وهكذا.. لقد كانت الفيزياء القديمة تقول بالتمّاس بين ماديين عندما أضغط بأصبعي على طرف المنضدة مثلاً، أما الفيزياء الحديثة فتقول: إن الدفع ناشيء عن ذرات الأصبع وذرات المنضدة، وذلك الدفع يولد تياراً عصبياً يصل إلى الدماغ ينتج عنه شعور باللمس، فليس هناك علم بشيء يقع خارج الجسم، لأنه قد يحصل تنبيه للجهاز العصبي دون وجود منضدة.

فيزياء القرن العشرين بكشوفاتها الجديدة لم تكمل ما قام به (نيوتن) بل حطمت بنيانه، حيث هدم إنشتاين بنظرية النسبية فكرتي الزمان والمكان المطلقين، وأثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا يمكن تعريفها إلا بالمواقف الشخصية للمراقب، وليس بالحياد كما

سلام للعالمين (72)

ذهب إلى ذلك (نيوتن)

وجاءت ثورة فيزياء الجسيمات على يد (إيرنست رذرفورد) حيث أثبت أن الذرة عبارة عن نواة متناهية الصغر يحيط بها كم هائل من الإلكترونات أصبحت تفسيرات نيوتن لها تبعث على الإحباط، فانهارت إمبراطورية نيوتن وتطورت ميكانيكا الكم على يدي (نيلزبور) و(فيرنرها يزنبي)

وقد أدت كل هذه التطورات في الفيزياء إلى تطورات مماثلة في تصور علم الأحياء للحياة، فقد كانت النظرية الآلية ترى أن الحياة نتيجة عرضية لعمليات مادية، وأن العقل نشاط متولد من الدماغ.. لكن العلم الحديث أثبت ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أن أسلوب الكائن الحي ليس آلياً ولا يمكن تفسيره آلياً، فالحياة ظاهرة من صفتها التجدد والإبداع، واستحداث صور جديدة في الكائنات، ومنها ظهرت نظريات التطور المبدع، والتطور الناشيء، ونظرية الكائن الحي، والنظرية العضوية.

فالماء يتكون من الأوكسجين والهيدروجين بنسبة معينة، لكن في الماء خصائص ليست هي خصائص كل من الأوكسجين والهيدروجين.. وكذلك جسم الإنسان فهو دماغ ولحم وعظام وأعصاب، ولكل منها خاصية معينة، لكن له من اجتماع هذه الأجزاء خصائص ليست موجودة في تلك الأجزاء.

وبناءً على هذا فلم يعد كل مادي حقيقياً، وأصبح المعنوي كالدين، وقيم الحق والخير والجمال مما صح ثبوته، وعدّ باباً من أبواب الحقيقة، وبهذا تقوّض الأساس العلمي لهذه المدرسة، فالإنسان لم يعد شبيهاً بالآلة لا دخل للعقل في سلوكياته، فله عقل، وله غاية يسعى إلى تحقيقها، ومطالب يهدف إلى بلوغها هي أسمى من مطالب الجنس والغذاء والكساء.

فلم يعد التفسير الآلي أو الحيواني للسلوك الإنساني واعياً بأبعاد الإنسان، إن الإنسان يستجيب للمنبه، كما تستجيب الآلة، لكنه لا يعمل كما تعمل، فاستجابتها آلية أما استجابته فهي

سلام للعالمين (73)

استجابة فعالة ونشيطة، فهو يدرك الموقف الخارجي، ولذلك فاستجابته لا تعتمد على قوة ذلك المنبه بقدر ما تعتمد على الدافع النزوعي الذي لديه، وهو مؤثر بالغ في الاستجابة، وهذه الاستجابة موجهة إلى غاية يمكن استمرارها بعد زوال المثير بخلاف الآلة (1).

الربوبية

قلنا: إلى من لجأت بعد أن يئست من هذا الأستاذ؟

قال: أنا لم ألجأ.. لكن في ذلك اليوم هبت عاصفة هوجاء كادت تقتلعني من الأرض.. فلم أجد إلا أن ألجأ إلى بيت من البيوت أفر إليه من العاصفة.. فلقيت رجلا صلبا شديدا، قال لي بكل قوة: أنت الذي تبحث عن الإنسان؟

قلت: أجل..

قال: فادخل.. أنا (فريدرك نيتشة) (2)

قلت: ومن فريدرك نيتشة؟

قال: أنا العاصفة الهوجاء التي أطاحت بكل ما قيل حول الإنسان.. أنا الذي أحدث أكبر قطيعة مع كل الاتجاهات الفكرية والفلسفية سواء في الشكل أو المضمون أو اللغة.. أنا الذي اتهمت سقراط بأنه وراء الكارثة التي حلَّت بالحضارة الإنسانية، لاحتكامه إلى العقل وحده.. وأنا الذي اعتبرت التراجيديا الموسيقية وراء فقدان الإنسان سيادته على ذاته برضوخه واستسلامه لقيم وأخلاق وعقائد كبلته وأفقدته حريته.. وأنا العدو اللدود للمسيحية على الرغم من أنني ابن

__________

(1) انظر التفاصيل العلمية الكثيرة المرتبطة بهذا في (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

(2) هو فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900 م)، وهو فيلسوف ألماني، عالم نفس، وعالم لغويات، تميز بشخصية عدوانية جداً، وكونه ناقدا حادّا للمبادئ الأخلاقية، والنفعية، والفلسفة المعاصرة، المادية، المثالية الألمانية، الرومانسية الألمانية، والحداثة عُموماً..

وفي مجال الفلسفة والأدب، يعتبر نيتشه في أغلب الأحيان إلهام للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة. روج لأفكار اللاعقلانية والعدمية، واستخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل إيديولوجيي الفاشية.

سلام للعالمين (74)

قس بروتستانتي.. أنا الذي قلت بأن المسيحية عبارة عن مجموعة أساطير الشعب اليهودي.. بل قلت بأن المسيحية أذلت الإنسان بعد ما أقامت عقائدها على بقايا تصورات بالية ومتناقضة حول العالم.. وأنا الذي قلت في (هكذا تكلم زرادشت): (لقد مات الإله ونحن الذين قتلناه).. وأنا الذي قلت: (كل الأشياء خاضعة للتأويل، وأيا كان التأويل فهو عمل القوة لا الحقيقة).. وأنا الذي قلت: (كل المصداقية وكل الضمير وكل أدلة الحقيقة تأتي من الحواس فقط).. وأنا الذي قلت مخاطبا أختي: (إذا ما مت يا أختاه لا تجعلي أحد القساوسة يتلو علي بعض الترهات في لحظة لا أستطيع في الدفاع عن نفسي) (1).. وأنا الذي قلت: (أشعر أن علي أن أغسل يدي كلما سلمت على إنسان متدين)..

قلت له، وقد ملأني بالرعب: إلى أي عقل تحتكم في كل هذه الدعاوى.

ضحك ضحكة مدوية، ثم قال: عن أي عقل تتحدث.. العقل أعجز من أن يدرك حقيقة الوجود.

قلت: لا أقصد ما فهمت.. بل أقصد المنطق العقلي.. ومبادئ الفكر التي تتيح لنا أن نرسل بأحكامنا.

قال: لا وجود لشيء اسمه (مبادئ الفكر).. إنها ليست سوى سراب من الأوهام.. نعم هي قد تكون ضرورية لحياة الناس، ولكنّها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تعبّر عن الحقيقة، ولا أن تعبر إليها.

قلت: إذا لم نسلم لمبادئ الفكر.. فهذا يغني إلغاء العقل.

قال: العقل في حياة الإنسان لا حاجة إليه.. بل هو خطر.. والذي يمكن تصوّره عقلياً لا بد أن يكون وهماً لا حقيقة له.

قلت: هل ترى أن الحياة تسير من دون عقل؟

__________

(1) لكن أمنيته لم تتحقق، اذ تلى عليه القساوسة في ساعة دفنه.

سلام للعالمين (75)

قال: لاشك في ذلك..

قلت: فلا وجود لعالم الحقائق إذن في هذا الوجود؟

قال: كما لا وجود لعالم الظواهر.. كلاهما عوالم وهمية.

قلت: فما هو الوجود إذن؟

قال: الوجود الحقيقي كلّه ينحصر في (الصيرورة).. كله بتفاصيله ينحصر في (التغيّر الدائم).. التغير الدائم هو الحياة.. وهو الطبيعة.. الثلاثة واحد.. والواحد ثلاثة.

قلت: فما هذا التغير الدائم.. وما هذه الصيرورة؟

قال: (الصيرورة) هي الوجود.. وهي الواقع الآني الراهن.. وليس لها غاية تنتهي إليها.. بل هي في نفسها غاية.. وهي كلّ شيء.. ولا شيء وراءها.

قلت: فالمعرفة والوجود الحقيقي إذن يتنافيان ويتناقضان.

قال: لقد بدأت تفهمني.. فلا يمكن أن تكون المعرفة الإنسانية مطابقة للحقيقة بحال من الأحوال، إذ هما دائماً متنافيان متناقضان.

قلت: فما الفضيلة العظمى التي تحكم الوجود إذن؟

قال: هي القوة.. القوة هي الفضيلة العظمى التي تجكم الوجود.. بل هي الفضيلة الوحيدة.. ولذلك تراني لا أدعو إلا إلى القوة.. القوة وحدها دون الرحمة والشفقة هي محور الأخلاق.. ولذلك فأنا (فيلسوف القوة)

أقول دائما: (الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة، هو إرادة القوة، هو القوة نفسها.. والشر هو كل ما ينشأ عن الضعف، هو الضعف)

قلت: فأنت تنطلق من مذهب التطوّر إذن؟

قال: أجل.. ولكني لا أنظر إليه كما ينظر داروين المسكين.. فإن كان مذهب النشوء والارتقاء يذكر أن كل صنف يخلق صنفاً أرقى منه.. فأنا أدعو الإنسان لأن لا يتوقف عند

سلام للعالمين (76)

الإنسان.. أنا أدعوه ليضحي بالإنسان..

قلت: ليصل إلى ماذا؟

قال: ليصل إلى (السوبرمان).. ذلك الإنسان الأعلى والأرقى.. والذي يضحي بالإنسان البسيط كما نضحي بالغنم والماعز والخنازير.

قال ذلك، ثم التفت إلى العاصفة وراح يصيح فيها بقوة، وكأنه يخاطب جمعا لا أراه: إنني أدعوكم ـ يامن تسميتم باسم الإنسان ـ إلى أن تخلعوا الإنسان.. وتلبسوا الإنسان الأعلى.. فإن الإنسان شيء يجب أن يُعلى عليه.. فماذا عملتم من أجل العلاء عليه؟

إن كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئاً أعلى منها، فهل تريدون أنتم أن تكونوا جزراً لهذا المد العظيم، وتفضلوا الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟!

إن الغاية من الإنسانية عندي هي خلق هذا الإنسان الأعلى..

قلت: إن ما تدعو إليه ممتاز ورائع.. فما أجمل القوة.. فما الذي أعددته من نظم لتحصيلها؟

قال: ذلك لا يتم إلا بطرائق التربية التي ترفع الفرد وتسمو به.. وبتحسين النسل البشري.. وباختيار الممتازين من الرجال والنساء للتزواج.. وأن يكون الزواج أساسه اختيار الأرقى من النساء بشرياً، للأرقى من الرجال بشرياً، حتى يخلق الزوجان بإرادتيهما إنساناً أرقى منهما، وهكذا.

قلت: لكن الحب هو الذي يتصرف في الزواج؟

قال: فلنضح به.. فخير الرجال لخير النساء.. أما الحب فنتركه لحثالة البشر، إذ ليس الغرض من الزواج مجرّد النسل، بل يجب أن يكون وسيلة للتسامي والرقي.

إن غرض التزاوج هو إرادة اثنين ليخلقا إنساناً يسمو على خالقيه.

قلت: لقد ذكرت طرائق التربية التي ترفع الإنسان.. فما هي القيم التي تحكمها؟

قال: إنها تتلخص في أن يكون الإنسان حراً.. يحطم كل القيود.. ويبدد الأوهام الثقيلة

سلام للعالمين (77)

الخطيرة التي أتت بها المذاهب الأخلاقية، والدينية، والفلسفية... فالإنسان الأعلى فوق الناس.. وفوق الأخلاق.. وفوق القوانين.. وفوق التقويم التقليدي للأشياء.

قلت: إن هذا يقطع الإنسان عن كل شيء؟

قال: ذلك صحيح.. فالسوبرمان لا علاقة له بأي شخص.. ولا بأي وطن.. ولا بأي نوع من أنواع الشفقة والعطف.. هو فوق كل قيمة.. وفوق كل قانون.. وفوق كل ما يعتقده عامة الناس.. ولا يعنيه قال الناس عن هذا الشيء: إنه خير، أو قالوا عن الآخر: إنه شر.. لأن مهمته أن يكون هو خالقاً للقيم، يضع للأشياء من القيم ما يريد، مما يؤدي إلى تحقيق الغاية من الإنسانية.. فهو حرٌّ في أن يضع شرعة القيم التي يرتئيها في الأخلاق، والسياسة، والفلسفة، وغير ذلك.

ليس ذلك فقط.. بل إن هذا الإنسان الأعلى هو الذي يحدد معتقدات العصر بأكمله.. وهو الذي يعطي للحضارة صورتها.. وهو الذي يخلق القيم في حرية تامة، غير آبه لما يسمى بالخير والشر، أو الحق والباطل.. فهو كل شيء، يخلُق الأخلاق، ويحدّد الحق بإرادته، ويفرض على الناس ما يضع لهم من قيم فرضاً، وليس عليهم هم إلا أن يطيعوه، فالطاعة أولى فضائل الذين ليسوا هم من طبقة الإنسان الأعلى.

قلت: ألهذا أعلنت موت الإله؟

قال: أجل.. لقد وجدت أن الإله هو الوحيد الذي يحول بيننا وبين هذا الترقي.. ولذلك أردت أن أجعل من السوبرمان هو الإله.. لقد قلت على لسان (زرادشت): (إذا كان هنالك آلهة، فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً؟ وإذن فلا آلهة هناك).. وقلت: (لقد ماتت الآلهة جميعاً، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان).. وقلت: (إني أهيب بكم يا إخواني أن تخلصوا عهدكم للأرض، وأن لا تصدّقوا من يحدثونكم عن أملٍ سماوي، إنهم ينفثون فيكم السم بذلك، سواءٌ أعلموا بذلك أم لم يعلموا)

قلت: عرفت تصورك للوجود.. وللإنسان.. فما تصورك عن مصير الوجود والإنسان؟

سلام للعالمين (78)

قال: أما الوجود.. فإنه يسير في دورات متطابقة.. فهو يكرّر نفسه باستمرار.. والإنسان الأعلى (السوبرمان) هو نهاية دورة الوجود، ليعود بعد ذلك إلى نقطة البداية.. (إن التكرار الأبدي موعده بعد وجود الإنسان الأعلى، فسيعود كل شيء بالتفصيل الدقيق مرة ومرة، إلى ما لا نهاية له، حتى (نيتشه) سيعود، وهذه الأمة الألمانية التي يعيش بين ظهرانيها، والتي تمجّد الدم والحديد ستعود)

قلت: فأنت تقول بالوجود بعد الموت؟

ضحك بهستيرية، وقال: (ليس بعد الموت شيء.. وما بعد الموت لا يعنينا بعد)

إن القوة هي كل شيء.. ولذلك فإنا أدعو إلى الموت الإرادي.. وأنا من الداعين إلى الانتحار حينما يكون الوقت مناسباً لاختيار الموت.. فمتى وجد الإنسان أن الحياة لم يَعُد لها هدف لديه، فأحسن خيار له هو أن يسلم نفسه لرحى الموت..

لقد قلت على على لسان (زرادشت): (كثير من الناس يموتون في وقت متأخر جداً، وبعضهم يموتون في وقت مبكر جداً، ولا زال هذا القول: (مت في الوقت المناسب) يبدو غريباً)

-\--\-

لست أدري كيف ظللت في صحبة هذا الأستاذ الأرعن مدة طويلة من الزمن.. ربما كنت أنفس بها عن ذلك النقص الذي زرعه في نفسي الدير.. لقد كنت بقوة نيتشة أغطي النقص الذي زرعه في نفسي أول أستاذ لي (سان بونافنتور)

قلنا: فكيف بدا لك أن تتركه؟

قال: أنا لم أتركه.. ولكن عقله الذي كان يتيه به هو الذي تركه.

قلنا: ما تقصد؟

قال: لقد ظهر جنونه بعد أن كان خفيا.. فلذلك لم أجد في صحبته إلا ما يحولني كما يحول البشرية جميعا إلى قطيع من المجانين.. ويحول الأرض إلى مارستان كبير لا يحوي إلا المجانين.

سلام للعالمين (79)

قلنا: فكيف تخلصت من تأثير أفكاره؟

قال: لقد بدأ ذلك أولا بتخلصي من الإدمان على تلك الخمرة التي سقاني منها.

قلت: أي خمرة؟

قال: خمرة الغرور الذي يسميه قوة..

قلت: اكتشفت إذن بأن القوة التي يتحدث عنها ليست سوى غرور؟

قال: أجل.. ففرق كبير بين أن يسعى الإنسان لتحصيل القوة.. وبين أن يتيه بها.. ويمحو بها غيره.. إن القوة تستدعي الاستفادة من كل الطاقات والأفكار واحترامها..

وقد رأيت أن أول ما بدأ به أستاذي المجنون هو أنه رفع عني الثقة في كل الأفكار التي تطرح على الأرض..

قلت: فهل ناقشت أفكاره مناقشة عقلية؟

ابتسم، وقال: أجل.. لقد طبقت على الأفكار التي لقنني إياه المنهج الذي علمني إياه.. فمحوتها من ذاكرتي ومن التأثير في.

قلنا: كيف؟

قال: هو لا يثق في العقل.. ولا في الحقائق.. ولا في الظواهر.. هو يعتبرها كلها من الأوهام.. وبما أنه طرح آراءه كحقائق عقلية.. فقد اعتبرتها على حسب منهجه مجرد سراب من الأوهام.

السلام

قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق.. انتظرناه برهة.. فلما طال، سألناه: أهؤلاء فقط هم أساتذتك؟

قال: لا.. هناك أساتذة كثيرون.. أستحيي من ذكرهم.. أو ينعقد لساني دون ذكرهم.. لأني بعد أن لقيت النور والصفاء والسلام.. بعد أن لقيت الإنسان.. صرت أنظر إليهم باحتقار،

سلام للعالمين (80)

وأخجل من تلك الأيام التي كنت أجثو بين أيديهم فيها كما يجثو الصبي أمام معلمه.

قلنا: فحدثنا عن النور والصفاء والسلام.. حدثنا عن الإنسان.. حدثنا عن الأستاذ الذي نسخ جميع ما لقنه لك أساتذتك.

قال: لم يكن أستاذي هذا خريج أي جامعة.. ولا أستاذا بأي كلية.. ولم ينل أي جائزة من تلك الجوائز الضخمة التي تعود قومنا أن يسلموها للمتفوقين..

قلنا: أي أستاذ هذا!؟

قال: لقد كان بسيطا غاية البساطة.. وكان لذلك يمثل الفطرة في قمة قممها.

قلنا: من هو؟

قال: لا يمكن أن يعرف أحد من الناس من هو.. فقد كان له من القداسة والجمال والصفاء والنور ما تستحيي منه الأسماء والمسميات.. لكني سمعت بعضهم يناديه محمدا.. وحق له هذا الاسم فقد اجتمعت فيه أصناف المحامد، فلا يراه أحد من الناس إلا حمده.. وسمعت بعضهم يناديه الراعي.

قلنا: الراعي!؟

قال: أجل.. لقد كان هذا الأستاذ راعيا.. ولم ألقه إلا في مرعاه.. أمام جبل من الجبال..

قلنا: وما الذي حملك إلى الجبال.. ألم تكن ابن المدينة؟

قال: بعد أن لقنني أساتذتي كل تلك المعارف.. وبعد أن رأيت آثارها على نفسي وعلى الناس من حولي احتقرت الحياة.. واحتقرت الإنسان.. فلذلك لجأت إلى تلك الجبال ألتمس الخلاص.

قلنا: عند الراعي؟

قال: لا.. لقد ذهبت إلى تلك الجبال لأطعم جثتي للجوارح.. فلم أرض لجسدي أن يلطخ بنفايات تلك المدينة الملعونة..

لقد ذهبت إلى الجبال لأسلم جسدي للموت..

سلام للعالمين (81)

قلنا: تنتحر!؟

قال: لقد صارت الحياة ـ على ضوء تلك التعاليم القاسية التي تعلمتها ـ لا تساوي أن أعيش من أجلها.. فلذلك رأيت الانتحار هو الوسيلة الوحيدة التي أتخلص بها من الحياة التي لا معنى لها.

قلنا: فكيف لم تمت.. ها أنت بيننا؟

قال: لقد أنقذني ذلك الراعي.. ثم لقنني من التعاليم ما حبب إلي الحياة.. بل ما جعلني بعد ذلك أرحل إلى هذه البلاد لأبحث عنه.

قلنا: هل رحل هو الآخر إلى هذه البلاد؟

قال: أجل.. بعد أن بلغته أخبار تلك الفتنة العظيمة التي تريد أن تجتث أمة محمد ترك غنيماته، ثم سار إلى هذه البلاد ليطفئ نيران الفتنة.. ومنذ رحل، وقلبي مشتعل شوقا إليه.. وسأموت بحسرتي، لأني أموت، ولم أره، ولم أزدد من معرفته.

قلنا: فحدثنا عن التعاليم التي غيرتك كل هذا التغير.

قال: بعد أن لقنت كل تلك التناقضات عن الإنسان.. وبعد أن كاد يصيبني الجنون الذي أصاب أستاذي السابع قررت قرارا جازما بأنه لا خلاص لي إلا بالموت..

ومع أني أذعت نبأ هذا العزم في تلك المدينة الممتلئة بالصراع إلا أنه لم يأتني أحد ليثنيني عن عزمي.. بل رأيت الكل.. حتى أساتذتي.. يأتون إلي، ويباركون هذا القرار، بل ويعتبرونه أصوب قرار أتخذه في حياتي.. بل إن بعضهم أحضر وسائل التصوير.. وطلب مني ـ مقابل مبلغ من المال أغراني به ـ أن يأخذ لي صورة وأنا أنتحر على شرط أن أرمي نفسي من شاهق ناطحة سحاب.. لكني رفضت.. فلم أرد لجسدي أن يتلطخ بتراب تلك المدينة المتعفن.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تختار الجبال والمراعي؟

قال: في ذلك الحين الذي كنت أبحث فيه عن الموتة الراضية بعد أن يئست من الحياة الراضية

سلام للعالمين (82)

رأيت صورة جميلة لطبيعة بكر لم تغر عليها جحافل الإنسان.. فقلت في نفسي: لن يصلح قبرا لك إلا هذه الأرض.. وتلك المراعي.. وتلك السماء التي لم تتلطخ بعد بمزابل المصانع.

فسرت.. وبقلبي من السرور بالموت ما لم أجده في لحطة من لحظات حياتي..

لا أنكر أن بعض التردد أصابني في تلك اللحظة الصعبة التي وقفت فيها بين الحياة والموت.. لكني قهرت ذلك التردد.. وصممت.. ولم يبق بيني وبين الموت إلا نصف خطوة.. لكن يدا لم أكن أنتبه لها أمسكتني بقوة.. التفت فرأيت ما كنت أبحث عنه..

قلنا: ما رأيت؟

قال: لقد رأيت الإنسان.. لقد كان ذلك الراعي يمثل الإنسان خير تمثيل.. فلذلك شعرت بانشراح عظيم في صدري.. وشعرت من حيث لا أدري بأن في الحياة من الجمال والسلام والنور والصفاء ما تستحق من أجله أن نعيشها.. بل أن نضحي من أجل أن نعيشها.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تجلس بين يديه مجلس التلمذة، وأنت الأستاذ الذي تلقى من كبار أساتذة البشرية؟

قال: لقد رأيت من سمته وتواضعه وأدبه وسلامه وعلمه ما جعلني ـ رغما عني ـ أجلس معه ذلك المجلس الذي لم أجلس مثله في حياتي.

قلنا: لقد شوقتنا إليه، فحدثنا عنه.

قال: لقد كانت أول كلمة قالها لي، وهو يربت على كتفي بحنان وقوة: (لا تهدم بنيان الله) (1)

التفت إليه، وقلت: أي بنيان لله؟

قال: أنت.

قلت: من أنا؟

__________

(1) ورد في الحديث: (إن هذا الإنسان بنيان الله فملعون من هدم بنيانه)، قال فيه الزيلعي: (غريب جدا)، (تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري:1/ 346)

سلام للعالمين (83)

قال: الذي تبحث عنه.. أنت.. أنت هو الإنسان..

قلت: لكني لم أجد الإنسان.

قال: لأنك كنت تسأل الشياطين عن الإنسان، والشياطين لن يدلوك إلا على الشياطين.

قلت: فهل عندك من علم الإنسان ما يدلني عليه؟

قال بقوة وثقة: أجل.. فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه؟

قلت: لكني أراك بسيطا.. وفوق ذلك لا أرى معك أي آلة من آلات العلم التي كان يحملها أساتذتي.

قال: أنا أحمل النور.. والنور هو الآلة الوحيدة التي تحميك من ظلمات الجهل.

قلت: أي نور؟

قال: رسالة ربي..

قلت: رسالة ربك!؟

قال: أجل.. لقد بحثت عن الإنسان مثلما بحثت أنت.. ووجدت من الشياطين من وجدت.. ولكني لم أستسلم كما استسلمت.. بل سارعت إلى ربي.. وصحت على هذا الجبل.. وفي المحل الذي أردت أن تسلم نفسك فيه للموت، وقلت بمنتهى العجز والضراعة والفقر: يا رب.. أنا عاجز أن أعلم حقيقتي وأعلم وظيفتي.. فدلني.

قلت: فهل نزل عليك الملاك الذي نزل على الأنبياء يدلك؟

قال: لا.. لقد وجدت راعيا في هذه المراعي.. كان اسمه محمدا.. وكان أشبه الناس بتلك الشمس العظيمة التي أضاءت الوجود، ولا تزال تضيئة، لولا تلك الغيوم التي يرسلها قومي وقومك.. ومن ذلك اليوم طلقت جميع أسمائي، وتسميت باسم محمد.

قلت: فهل دلك محمد على الإنسان.. وحقيقة الإنسان؟

قال: أجل.. وقد شعرت في كلامه من الصدق والحقيقة ما ملأني بالأمل والبشارة

سلام للعالمين (84)

والسلام.. لقد شعرت بالكرامة العظيمة التي يحملها هذا الإنسان.. وتذوقت قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)

لقد شعرت أني مخلوق مفضل.. له كرامة.. وله قرب وعناية عند بارئه.. وفوق ذلك شعرت أني أنتمي إلى الله، فأنا عبده، وهو ربي الذي يكلؤني ويحفظني ويعتني بي ويربيني..

ثم قرأ علي محمد قوله تعالى وهو يصف القرار الإلهي بخلق الإنسان وبداية خلقه وما حصل في تلك البداية من أنواع التكريم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} (البقرة)

لقد شعرت.. وهو يقرأ هذه الآيات بخشوع ورقة.. ببداية تاريخي.. فأنا لم أكن في يوم من الأيام حيوانا ولا خلية عصفت بها الرياح لتتحول بعد ذلك إلى هذا الخلق المستقيم.. بل شعرت بأني إنسان خلق قصدا.. ولغاية.. وأني لن يهنأ بي عيش حتى أتحقق بغايتي ووظيفتي التي أناطها الله بفطرتي.

قلت: إن ما تقوله يريد أن يعصف بكل تلك الأكوام من المعارف العلمية التي حصلتها..

سلام للعالمين (85)

قال: لم تكن تلك الأكوام معارف.. بل كانت ركاما اختلطت فيه الحقائق بالأوهام.. وتشكل من ذلك الاختلاط ما عشته من صراع..

قلت: أكان في تلك الأكوام أوهاما؟

قال: لو كانت أوهاما وحدها لسهل التمييز ولاستطاع أي عاقل أن يردها بسهولة.. ولكن مصدر خطورتها أنها كانت ركاما من الأوهام زين ببعض مساحيق الحقائق.. فصار الناس يرون الصورة ولا يرون ما بداخلها، فيصيبهم من الغرر في ذلك ما يملؤهم بالصراع.

قلت: فهل في إمكانك أن تميز بين الأوهام والحقائق؟

قال: أجل.. لقد ذكرت لك أن معي النور.. والنور هو الوسيلة الوحيدة التي نميز بها الحقيقة من الوهم.

قلت: كيف؟

قال: أرأيت لو أنا كنا في ظلمة، ووضع أحدنا يده على شيء، فوصفه بوصف، أو سماه باسم، ووصفه الآخر بوصف مختلف، وأعطاه اسما مختلفا.. وهكذا.. ما هو المنهج السليم الذي تراه للخروج من مأزق الخلاف مع أن الكل وصف ما رأى؟

قلت: ذلك بسيط.. نأتي بمصباح نسلطه على ذلك الذي اختلفنا فيه، فنتعرف عليه من غير عناء.

قال: فإن معي مثل هذا المصباح.

قلت: من وهبه لك؟

قال: الله.. ربي.. هل تتصور أن الذي خلق كل هذا الكون.. بهذه الدقة العجيبة.. وبهذه الحكمة الراقية.. وبهذه الرحمة التي لا نظير لها.. يغفل عن مثل هذا؟

سكت، فقال: لقد أرسل الله لنا محمدا (، فعرفنا بحقيقتنا.. وبالفطرة السليمة التي خلقنا عليه.. حتى إذا ما تاهت بنا السبل عدنا إليها لنصحح ما وقعنا فيه من أخطاء.

سلام للعالمين (86)

قلت: لقد صحبت قوما يعزلون الله عن التدخل في مثل هذا؟

ابتسم، وقال: هل يمكن لمثقفيكم وباحثيكم أن يقولوا لأديسون (1) لا تتحدث عن المصباح الكهربائي، أو عن مُشَغِّل الأسطوانات.. أو عن كل تلك الاختراعات التي خدم بها البشرية؟

قلت: لا.. ولو قالوا ذلك لكانوا مجانين.. فأولى الناس بالحديث عن هذه المخترعات من اخترعها.

قال: ولهذا لا يصح لأحد أن يتحدث عنا سوى خالقنا ومخترعنا.. فالله الخالق هو الذي يعرف الإنسان وطبيعة الإنسان وأصل الإنسان ومركبات الإنسان.. والبداية التي بدأ بها تاريخ الإنسان.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك)، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ((غافر:19)، وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ((التغابن:4)

قلت، وقد شعرت بالبشارة تغمر قلبي: هل يمكنك أن تسلط هذا المصباح الذي ذكرته على ما لقنه لي أساتذتي لتخلصني من الصراع؟

قال: أجل.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا.. فالقرآن شفاء لما في الصدور.. يخلصها من الصراع، ويملؤها بالسلام.. لقد قال الله تعالى يذكر هذا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)

قلت: أأحدثك عما ذكر أساتذتي لتميز لي بين حقائقهم وأوهامهم؟

قال: لا داعي لذلك.. فما سأذكره لك يكفيك لأن تميز بين الحقيقة والوهم.. سأذكر لك

__________

(1) هو تُومَاس أَلْفَا أَدِيسُون (1847 - 1931 م) أشهر مخترع أمريكي، من اختراعاته: المصباح الكهربائي ومُشَغِّل الأسطوانات. وسجل ما مجموعه 1093 اختراعًا، وأجرى تجارب في حقل الطب، وكاد يخترع المذياع، وتنبأ باستعمال الطاقة الذرية.. إضافة إلى ذلك حَسَّنَ اختراعات الآخرين، ومنها الهاتف، والآلة الكاتبة، والمولِّد الكهربائي، والقطار الكهربائي.

سلام للعالمين (87)

الصورة التي ذكرها المصباح الهادي والنور المبين الذي أرسله الله لنا، وأنزله علينا لتقتبس الحقيقة من مصدرها.. ولا عليك بعدها أن تعرض منها ما تشاء على ما تشاء.

قلت: ما أول الإنسان؟

الجسد

قال: هذه الطين التي يتكون منها قالبه الأرضي.. لقد ذكر الله ذلك، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ((الروم:20)، وقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ((آل عمران:59)

قلت: أرى أن كتابكم يولي اهتماما كبيرا بالتراب (1) الذي خلق منه الإنسان؟

قال: أنت تعلم أن الصانع الحكيم إذا صنع آلة لا يضع فيها شيئا إلا لحكمة تقتضيها

__________

(1) كون الإنسان من تراب لا شك فيه من الناحية العلمية، فلو أرجعنا الإنسان إلى عناصره الأولية، لوجدناه أشبه بمنجم صغير، يشترك في تركيبه حوالي (21) عنصراً، تتوزع بشكل رئيسي على:

1 ـ أكسجين ـ هيدروجين على شكل ماء بنسبة 65 بالمائة ـ 70 بالمائة من وزن الجسم

2 ـ كربون، وهيدروجين (H) وأكسجين (O) وتشكل أساس المركبات العضوية من سكريات ودسم، وبروتينات وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.

3 ـ مواد جافة يمكن تقسيمها إلى:

آ ـ ست مواد هي: الكلور (CL)، الكبريت (S)، الفسفور (P)، والمنغنزيوم (MG) والبوتسيوم (K)، والصوديوم (Na)، وهي تشكل 60 ـ 80 بالمائة من المواد الجافة.

ب. ست مواد بنسبة أقل هي: الحديد (Fe)، والنحاس (Cu) واليود (I) والمنغنزيوم (MN) والكوبالت (Co)، والتوتياء (Zn) والمولبيديوم (Mo).

جـ ـ ستة عناصر بشكل زهيد هي: الفلور (F)، والألمنيوم (AL)، والبور (B)، والسيلينيوم (Se)، الكادميوم (Cd) والكروم (Cr).

وكل هذه العناصر موجودة في تراب الأرض، ولا يشترط أن تكون كل مكونات التراب داخلة في تركيب جسم الإنسان، فهناك أكثر من مئة عنصر في الأرض بينما لم يكتشف سوى (22) عنصراً في تركيب جسم الإنسان، وذلك كله يوافق ما جاء به القرآن تمام الموافقة. (مع الطب في القرآن الكريم تأليف الدكتور عبد الحميد دياب الدكتور أحمد قرقوز مؤسسة علوم القرآن)

سلام للعالمين (88)

الصنعة.. ولذلك، فقد ذكر الله أصل هذه الخلقة الترابية للإنسان لنحترمها ونراعيها ونراعي مقتضياتها حتى لا نصطدم معها، فيحصل باصطدامنا بها الصراع.

ألا ترى كيف يوضع في صناديق السلع التحذيرات المختلفة؟

قلت: أجل.. وقد أبدع قومنا في النصح في ذلك إبداعا.

قال: أترى قومك أكثر نصحا من الله؟

سكت، فقال: إذا كان الصانع البسيط الضعيف الحقير يذكر لنا مركبات صنعته لنعرف كيف نستفيد منها، ونعرف في نفس الوقت كيف نجنبها المضار ونقيها المهلكات، فإن الله الحكيم اللطيف الخبير أولى بذلك، وأجدر.

قلت: ما تقوله صحيح.. ولكن ألا ترى أن الاهتمام بالتراب الإنساني سيوقعكم في المتاهات التي أوقعني فيها أستاذي (واطسون).. شيخ (المدرسة السلوكية)؟

قال: لا.. لقد أبصر واطسون بعض الحق.. فراح يبشر به بعد أن مزج به باطلا كثيرا..

قلت: أي حق أبصره؟.. وأي باطل مزجه بالحق؟

قال: لقد أبصر أستاذك عظم الآلة البشرية التي خلقها الله للإنسان ليمتطيها، ويستغلها، ويسخرها لأداء وظيفته، فتصور أن الإنسان ليس إلا الآلة.. ولو أنه دقق بصره جيدا لرأى في أعماق أعماق تلك الآلة اللطائف التي حجبته عنها مجاهره ومباضعه.

خطأ صاحبك ليس في رؤيته للآلة أو اكتشافه لما فيها من عجائب الصنعة.. وإنما في اختصاره الإنسان فيما رآه..

ومثل ذلك الخطأ وقع فيه قبله من رأوا الظواهر الكونية، ودقتها، فتصوروا الكون حركة من غير محرك، وصاحوا مع جاليلو ونيوتن قائلين، وقد استفزهم الغرور لما اكتشفوه: (الكون آلة ضخمة).. أو (من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها)

سلام للعالمين (89)

أو صاحوا بما صاح به من بعدهم ومن تتلمذ عليهم حين عرفوا المادة التي هي هيولى الكون بأنها (ما شغلت حيزاً من الفراغ، وهي صلبة وبسيطة وواضحة للعيان.. وأن حركتها محكومة بنظام آلي لا يختل، فتركيب المادة، وترتيب أجزائها المكونة لها هما مصدر فهم الحركة وتفسيرها.. فما نحس به، وما يفوح عن الزهر من العطر، أو ينبثق عن الشمس الغاربة من اللون، أو ما نشعر به من المخاوف والآمال.. جميع هذه الظواهر مردها إلى حركات أجزاء صغيرة من المادة، تنطلق في الفضاء طبقاً لقوانين حتمية حاسمة، هذه الأجزاء الصغيرة هي التي يتولد عنها علمنا بها، فليس العقل بعبارة أخرى إلا شعور هذه الأجزاء الصغيرة بذاتها)

بهذا صاح الكل.. كل من بهرهم عظم الآلات الربانية.. لقد اكتفوا بالانبهار بها عن النظر إلى الحقائق التي تحيط بها.. والتي لا يمكن أن تتحرك الآلة من دونها..

وقد أدى هذا الانبهار إلى تلك الأوهام الكثيرة حول الكون وحول الحياة وحول الإنسان..

وأخطر ما نتج عن ذلك ما كانوا يرددونه كل حين من قولهم: (ما من شيء يمكن أن يكون حقيقياً إلا وهو قابل من الناحية النظرية؛ لأن يدرك بالحواس، ومن هنا فإن البحث في طبيعة الأشياء المحسوسة وتحليلها إلى عناصرها وذراتها؛ إنما هو معالجة للحقيقة بصورة مباشرة، أما تصور القيم الأخلاقية، وتأمل الخبرات الدينية والاستمتاع بها مثلاً، فليس إلا خبط عشواء وجرياً وراء السراب)

وأخطر ما نتج عن ذلك كله هو سلب الإرادة من الإنسان بعد أن سلب عقله.. فلا يمكن للعقل أن يمارس وظيفته إن لم تكن له إرادة..

قلت: ذكرت الحق الذي ذهب إليه واطسون.. والوهم الذي تسرب إليه.. فهل ترى أن لداروين بعض الحق فيما ذكره من خلق الإنسان؟

قال: داروين مختلف تماما.. داروين لم يدرس الإنسان كشيء موجود أمامه.. وإنما راح

سلام للعالمين (90)

يبحث في الجماجم عن تاريخ الإنسان.. فلم تهده الجماجم إلى شيء (1).. فراح يتكهن ويرجم بالغيب.. إنه مثل مؤرخ أراد أن يخرج للعالم بتاريخ حضارة من الحضارات، فبحث في آثارها، فلم يجد.. وبحث في المخطوطات، فلم يجد.. فراح يتكهن.. ويطلق لخياله العنان.

قلت: ألا يمكن أن يكون آدم الذي ذكر القرآن أنه أول البشر كان في أصله سلالة من السلالات التي ذكرها داروين؟

قال: لا.. لقد أكد القرآن الكريم أن الله خلق آدم ابتداء (2).. وفوق ذلك أخبرنا أن الإنسان

__________

(1) ذكرنا الرد العلمي على نظرية التطور في (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

(2) للأسف.. فإن بعض المسلمين ممن توهموا أن لنظرية التطور مصداقية علمية راح يحاول التوفيق بينها وبين ما جاء في القرآن.. ومن ذلك الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)، فقد حاول في دراسته التوفيقية هذه أن يميز بين كلمتي (البشر)، و(الإنسان).. حيث افترض أن كلمة (بشر) تطلق على الأطوار القديمة التي كان عليها الإنسان قبل استصفاء الله لآدم من بين بقية المخلوقات التي يطلق عليها (بشر)، والبشر بذلك هو اسم ذلك المخلوق الذي أبدعه الله من الطين.

فبين (البشر والإنسان) عموما وخصوصا مطلقا، فـ (البشر) لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح الأرض، يسير على قدمين، منتصب القامة، و(الإنسان) لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفا بمعرفة الله وعبادته، فكل إنسان بشر، وليس كل بشر إنسانا.

ومن الردود التي رد بها الباحثون على هذا أن كلمة (بشر) في القرآن الكريم ـ الذي انطلق منه ـ مرادفة لكلمة (إنسان) بشكل لا لبس فيه، ويدل لذلك أن كلمة (بشر) في القرآن الكريم أطلقت على المعاني التالية:

على الرجال: ومن الشواهد على هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى: {قالت رب أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} (آل عمران: 47)، وهو المعنى الذي نجده في قوله تعالى: {وقلن حاشا لله ما هذا بشرا} (يوسف:31) وقوله تعالى: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل 103)، وقوله تعالى: {فتمثل لها بشرا سويا} (مريم 17) وغيرها.

على الإنسان: ومن ذلك قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} (مريم:26) فقد وردت هذه الكلمة هنا مرادفة للإنسان.

على الأنبياء.. كما قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (آل عمران: 79)، وهذا هو المعنى الذي نجده كذلك في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام:91)، وقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (ابراهيم:10)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)

أما تفسيره لكلمة (سلالة) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12)، والتي تصور أن المراد منها (سلسلة آباء خلقوا من طين.. وكأن الآية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين (خلق البشر وخلق الإنسان) في عملية واحدة، فالإنسان خلق من (سلالة) نسلت من (طين)، أي: إنه لم يخلق مباشرة من الطين، فأما ابن الطين مباشرة فهو (أول البشر)، وكان ذلك منذ ملايين السنين) (ص 90 من كتابه) ويقول: (فخلق الإنسان (بدأ من طين)، أي: في شكل مشروع بشري، ثم استخرج الله منه نسلا (من سلالة من ماء مهين)، ثم كانت التسوية ونفخ الروح، فكان (الإنسان) هو الثمرة في نهاية المطاف عبر تلكم الأطوار التاريخية السحيقة العتيقة) (ص 91 منه)

فقد رد عليه الباحثون بأن السلالة في اللغة (انظر المعجم الوسيط، ومعجم ألفاظ القران) تعني (ما استُل من الشيء وانتُزع.. كما تعني خلاصة الشيء.. ومعنى الآية بهذا هو: (ولقد خلقنا الإنسان من خلاصة من الطين) (انظر: غزو معاقل الداروينية، ونسف نظرية التطور، تأليف: أبو صلاح)

سلام للعالمين (91)

صور بهذه الصورة ابتداءا.. بل هو يمن علينا بذلك، ويعتبره من فضل الله علنيا.. قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ((التين:4) وقال: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:8)، وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ((غافر:64)، وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ((التغابن:3)

قلت: لقد بدأت في تلمذتي على أساتذة يحتقرون التراب.. فما الحق الذي أبصروه في ذلك؟.. وما الوهم الذي تسرب إليهم؟

قال: أما الحق الذي أبصروه فهو أن أنوار الروح التي نفخها الله في جسد الإنسان شغلتهم عن الجسد والطين.. فتصوروا الصراع بين الروح والجسد.. وهو موضع الوهم.. فالنور الذي

سلام للعالمين (92)

نرى به الأشياء لا يزاحم الأشياء وجودها.. بل إنه يزيدها جمالا.. ألا ترى الشمس كيف تشرق، فتشرق الألوان بإشراقها؟

فهكذا الروح عندما أشرقت على جسد الإنسان زينته ولم تزاحمه.. فلذلك أولى القرآن الكريم للجسد قيمة لا تقل عن قيمة الروح.. فهو يعتبره من نعم الله على عباده.. قال تعالى: {قالَ لَهُ صاحِبهُ وَهوَ يُحاورهُ أكفرتَ بالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً} (الكهف: 37)، وقال: {هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذلولاً فامشُوا فِي مناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ} (الملك: 15)، وقال: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقناكُمْ وَلا تَطْغَوا فِيهِ فَيُحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (طه:81)

فهذه الآيات القرآنية تحمل بين طيّاتها معاني تشريعية كثيرة تبين قيمة الجسد وأهمية المحافظة عليه (1).. فهي تبين أن الإنسان بتكوينه الجسماني، وبطبيعته البدنية، جزء من عالم الطبيعة، وأنّ الأرض هي مصدر نشوئه وتكوينه.. فهو ابن الأرض، ونتاجها الحي المترقي في تكوينه وأجهزته الجسمية المختلفة: {أكفرتَ بالَّذي خلقكَ مِن تُراب}

وهي تبين أن هذا الجسد الذي نشأ من الأرض لا يستغني بطبيعته عن إمداد الأرض لوجوده، من الطعام والشراب واللباس والسكن.. {وَما جَعَلناهُمْ جَسداً لا يأكُلون الطَّعامَ} (الأنبياء: 8).

وهي تبين أن التوافق في التكوين الطبيعي بين الإنسان والطبيعة تام ومتناسق، فكلّ ما يحتاجه الإنسان لاستمرار الحياة متوفر في عالم الطبيعة ومتنام فيها.. {وَباركَ فيها وقدّرَ فيها أقواتَها في أربعةِ أيّام سواءً للسّائلينَ} (فصّلت: 10).. {جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولاً} (الملك: 15)

وهي تبين أن كلّ ما في الأرض، من خيرات وطيّبات، حلال طيّب ومباح لكافة بني الإنسان، دون تفريق أو تمييز، فحكمة الله، وعدله تقضيان بأن تتوفر لكلّ إنسان حاجته وحقّه

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: كيف تعامل الإسلام مع الجسد؟ من موقع (البلاغ) الموسوعة الإسلامية.

سلام للعالمين (93)

المقرر له في الحياة: {يا أَيُّها النّاس كُلُوا مِمّا فِي الأَرضِ حَلالاً طَيِّباً} (البقرة: 168)

وقد استنكر القرآن الكريم على هؤلاء المنحرفين موقفهم هذا من المتع الجسديّة، والطيّبات التي أنعم الله بها على عباده، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتي أخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزق} (الأعراف: 32)

واعتبر الرهبانية بدعة خطيرة في الدين، ففي القرآن الكريم عند ذكر التحريف الذي حصل للمسيحية: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:27)

الروح

قلت: لا أرى أن الطين وحدها كافية لأن تحول من الإنسان إنسانا؟

قال: صدقت.. فالفطرة تدل على أن الإنسان أعمق من أن ينحصر في هذا القالب الطيني مع احترامنا العظيم له.. وقد أخبرنا القرآن الكريم بهذه الحقيقة الفطرية، وأكدها لنا، بل بين لنا منشأها وأصلها، فقال تعالى ـ مبينا أن لها من السمو والرفعة ما لا يمكن تصوره.. ولذلك نسبها إليه ـ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ((الحجر:29)

قلت: فهل ذكر القرآن حقيقة هذه الروح وماهيتها؟

قال: لقد ظلت البشرية في دهورها جميعا تأكل الفواكه والخضر واللحوم، وهي لا تعرف عناصرها ومركباتها، ومع ذلك ظلت تستفيد منها، بل لا تستطيع أن تعيش من دونها.

وظلت البشرية منذ سالف الدهور متثاقلة إلى الأرض منجذبة إليها مع أنها لا تعلم قوانين الجاذبية.

وظلت البشرية منذ سالف الدهور والأحقاب تستفيد من الآلات التي جهزت بها من

سلام للعالمين (94)

القلب والمعدة والرئتين وغيرها.. من غير أن تعلم من تفاصيل ذلك شيئا.

قلت: ما تقصد بكل هذا؟

قال: أقصد أن الإنسان عندما لا تكون له الوسائل الكافية التي يبحث بها عن الحقائق والماهيات يكتفي بالاستفادة منها وبالاعتراف بها دون أن يحاول بعقله المحدود أو بوسائله المحدودة تخيلها.

قلت: وما المانع من ذلك؟

قال: حتى لا يقع في الوهم.. فالوهم يحول من الحقائق أساطير.. ومن العلوم خرافات.

قلت: ولكن ما المانع من معرفتها؟

قال: نحن لا نرى إلا الألوان والأحجام والأشكال.. فلذلك لا نستطيع أن نرى ما لم تكن له من هذه الجسوم ما تستطيع مداركنا البسيطة أن تدركه.. ولذلك من العبث أن نبحث فيه.. ولهذا قطع الله عنا الجدل الذي يمكن أن نقع فيه إذا ما أردنا أن نبحث عن حقيقة الروح (1)، فقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ((الاسراء:85)

__________

(1) هذا هو السر الذي عزا إليه المحققون من العارفين سر عدم إمكان معرفة الجماهير للروح، وقد تحدث الغزالي عن ذلك عند ذكره للأسرار التي يختص بها المقربون ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم، فقال القسم الأول: أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك. وإخفاء سر الروح وكف رسول الله (عن بيانه من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه. ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفاً لرسول الله (فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه فكيف يعرف ربه سبحانه؟ ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفاً لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله (منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة. ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه) (انظر: الإحياء: 1/ 100)

سلام للعالمين (95)

ولذلك أمرنا بدل البحث عن الماهية أن نستثمر الطاقات الكبرى التي تتمتع بها أرواحنا في أداء الأمانة التي كلفنا بها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ((الأحزاب:72)

لم أدر بما أجيبه، فقال: لعلك في رحلتك في البحث عن الإنسان مررت بذلك الركام من التيه في التعرف على روح الإنسان..

قلت: لقد مررت على الماديين.. فرأيت أنهم فقد قطعوا عن أنفسهم هذا الجدل حين اعتقدوا أن الإنسان مجرد كيان مادي مكوَّن من مجموعة من الأجهزة والفعاليات المادية، وعندما يفقد الحياة سينحل ويستهلك في تراب الأرض وتنتهي دورة وجوده في عالم الطبيعة إلى الأبد.

وقد ذكر هؤلاء أن الروح ـ إن صح أن يكون هناك روح ـ ما هي إلا خواص الجسد، فهي لذلك تخضع لجميع القوانين التي تحكمه.

وذكروا أن مجموع ظواهر الشعور والعقل والارادة والفكر، ما هي إلاّ وظائف عضوية مثلها كمثل جميع الوظائف البدنية الاُخرى، وكذا الآثار الفكرية والمعرفية عندهم ماهي إلاّ نتائج وآثار فيزيائية وكيميائية للخلايا العصبية والعقلية، وجميع تلك الآثار والنشاطات الروحة تظهر بعد ظهور العقل والجهاز العصبي، وتموت بموت الجسد، فإذا مات الانسان بطلت شخصيته، واندثر بدنه، وزال معه كلّ ما بلغه من محصول عقلي وارتقاء نفسي وكمال روحي.

قال: لقد ذكر الله تعالى هذا الصنف، فقال: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ((الأنعام:29)، وقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ((المؤمنون:37)

قلت: فكيف يرد على هؤلاء؟

قال: إن أول ما يرد به على هؤلاء هو الفطرة.. فالفطرة البشرية تقول بوجود الروح.. والدليل على ذلك اتفاق جميع أمم الأرض على ذلك، ولا يمكن لجميع أهل الأرض أن يتفقوا

سلام للعالمين (96)

على شيء واحد في مثل هذه الخطورة (1).

قلت: إن قومنا لا يؤمنون إلا بالمخابر.

قال: فليبحثوا في المخابر.. فسيجدون كل الأدلة التي تبرهن لهم على أنه لا يمكن للإنسان أن يكون إنسانا حتى ينفخ فيه من الروح السامية ما يتحول به إلى إنسان (2).

قلت: دعنا من قومنا.. فقد يئست منهم.. ولا يهمني أن يقبلوا أو يرفضوا.. فقد تعودوا أن يقبلوا ما يشاءون قبوله، ويرفضوا ما يشاءون رفضه سواء قبلته المخابر أو رفضته.

قال: فما تريد مني أن أحدثك؟

قلت: عن سر الروح..

__________

(1) فقد كان سقراط وأفلاطون يعتقدان أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل، وعندما يكتمل الجنين في بطن اُمّه تتعلق به الروح، ثمّ تعود بعد الموت إلى محلّها الأول، ويرى إفلاطون أن هناك روحين: إحداهما الروح العاقلة وهي الخالدة ومحلها الدماغ، والاُخرى غير خالدة ولا عاقلة، وهي قسمان: غضبية ومستقرها الصدر، وشهوية ومكانها البطن.

وذهب أرسطو إلى الاعتقاد بحدوث الروح مع حدوث البدن، فعندما يتكامل البدن توجد الروح دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها، وعدّ ثلاثة صنوف من الأرواح منبثّة في مجموع البدن، وهي: الروح العاقلة ـ أو النفس الناطقة ـ وهو يقول بتجردها، والروح الحاسة أو الحيوانية، والروح الغاذية، ولا يقول بتجرد الأخيرتين.

واهتم ديكارت (ت 1560) بتمييز الروح عن الجسم، وتحديد خصائص كلّ منهما، فاعتبر الروح جوهراً أخصّ صفاته الفكر، ولا يتصوّر فيه إمكان التجزّي والانقسام وعدم التجانس في أجزائه، واعتبر الجسم جوهراً أخص صفاته الامتداد، ومن أحواله الصورة والحركة، ويقبل الانقسام والتجزّي والتغير بطبيعته.

وغيرهم من الهنود والصينيون.. اتفقوا على أن حقيقة الإنسان هو كيان روحي مجرَّد عن صفات المادة وخصائصها، وهو غير البدن العضوي والجهاز المادي الذي يؤدي الفعاليات والنشاطات المادية. وهو الذي ينطق عنها الإنسان فيقول (أنا)، فليس (الأنا) الذات الإنسانية هي ذلك الكيان الجسدي، بل هي ذلك الكيان الروحي المستقل.

والكيان الإنساني (الروح) هو القوة المدركة، وهو القوة التي تشعر بالألم واللذّة والخوف والسرور والحزن، وهو القوة الناطقة، وما الجسم إلاّ آلة لتنفيذ مآرب النفس، وليست الأجهزة الحسّية والدماغ إلاّ أدوات يستخدمها الإنسان (الكيان الروحي) لفهم العالم المادي والتعامل معه.

(2) ذكرنا الكثير من الأدلة العلمية المرتبطة بإثبات وجود الروح في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة، وسنرى تفاصيل أخرى لها علاقة بهذا في رسالة (الباحثون عن الله)

سلام للعالمين (97)

قال: الروح هي السر الرباني الذي تحول به الطين إلى إنسان.. وبها تحمل الأمانة العظيمة التي أبت السموات والأرض أن تحملها.. وبها تحمل الخلافة.. وبها استطاع أن يعبد الله عبودية التكليف.. وبها يحب.. وبها يبغض.. وبها يسعد.. وبها يشقى.. وبها يرى ما وراء الحجب.. وبها تتجلى له حقائق الأشياء.. وهي (فهرس الغرائب التي تخص الاسماء الإلهية الحسنى.. ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الالهية وصفاتها الجليلة.. وميزان للعوالم التي في الكون.. ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير.. وخريطة لهذا الكون الواسع.. وفذلكة لكتاب الكون الكبير.. ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية.. وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الأوقات والأزمان) (1)

قلت: لو كان الأمر كذلك.. لكان الناس كلهم نسخة واحدة.. لكانوا كلهم علماء قديسين.

قال: هناك سر في الروح يجعل الناس مختلفين.

قلت: ما هو؟

قال: الإرادة.. والكسب.. والاختيار.. سأقرأ عليك شيئا من القرآن الكريم ربما يجيبك عن سؤالك.. فلا طاقة لعباراتي أن تضاهي عبارات القرآن.. لقد قال الله تعالى يحلل الإنسان ويذكر أسراره: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)} (البلد)

قرأ محمد هذه الآيات بخشوع عظيم، ثم نظر إلي، وقال: إن هذه الآيات تخبرك عن سر

__________

(1) ما بين قوسين من كلام الإمام النورسي، وسنرى شرح هذه المعاني الجليلة في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (98)

الإنسان.. ومن خلاله تعرف سر الروح.

لقد خلق الله الإنسان في وضع يكابد فيه البحث عن الحياة التي يختارها.. الحياة المادية والحياة المعنوية..

وهو في هذه الحياة وضعت أمامه جميع الأشكال والقوالب ليختار منها ما يتناسب مع هواه وإرادته..

ثم كان من رحمة الله أن بين له النجدين.. نجدي الخير والشر.. ونجدي الحق والباطل.. ليختار من كل ذلك ما يتناسب مع رضاه وإرادته وكسبه.. من غير أن يجبر في ذلك على شيء.

ثم كان من رحمة الله أن هداه إلى السلوك الصحيح الذي ينجيه ويسعده في هذه المحال الصعبة من الاختيار.

قلت: لم كان الأمر كذلك؟

قال: لقد ذكر الله ذلك، فبين أن البشر سيتميزون.. وسيكون هناك أهل يمين، وسيكون في مقابلهم أهل شمال..

قلت: لم كان الأمر كذلك (1

قال: لقد ذكر الله ذلك، فقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} (الأنفال)

قلت: لكن الناس لو تركوا لأنفسهم فسينحازون لا محالة لأهل الشمال؟

قال: لا.. لقد كان من رحمة الله.. أن عرف الإنسان به قبل أن يعرفه بالأشياء.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ

__________

(1) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (أسرار الأقدار) من سلسلة (عيون الحقائق)

سلام للعالمين (99)

الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} (الأعراف)

ولذلك أخبرنا نبينا (أن دور الدين الذي يتدارك الله به عباده عن طريق رسله وكلماته هو إعادة البشر إلى الفطرة الأصلية التي فطروا عليها.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30)

ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الفطرة الأصلية مستعدة للخير استعدادا جبليا، وأن التغيير الطارئ عليها ليس ناشئا من طبيعتها الخلقية، وإنما نشأ من مؤثرات خارجية اقتضاها التكليف.

وفطرة الإنسان في ذلك تشبه فطر الأشياء المختلفة، فالله تعالى خلق الماء طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلقه الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يزل طاهراً، ولكنه بمخالطة المؤثرات الخارجية من الأنجاس والأقذار تتغير أوصافه ويخرج عن الخلقة التى خلق عليها.

وقد بينت لنا كلمات الله التي أنزلها على خاتم رسله هذه المؤثرات الخارجية لتفاديها، أو لإصلاح ما أفسدته هذه المؤثرات من الفطرة الأصلة.

وأول هذه المؤثرات كما يخبر رسول الله (هي المهد الذي ربي فيه الإنسان، كما قال (: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء؟) (1)

ومن هذه المؤثرات الشياطين، وهي أخطر المؤثرات، ولذلك اشتد التحذير منه في القرآن الكريم، وإلى هذا المؤثر يشير قوله تعالى حكاية لقول الشيطان: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (النساء: من الآية 118 ـ 119)

فالشيطان في هاتين الآيتين يتوعد بتغيير الفطرة الأصلية التي فطر عليها البشر، والتي تشمل

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

سلام للعالمين (100)

كل شيء حتى ما يتعلق منها بالجانب الخلقي.

وإلى هذا المؤثر ـ أيضا ـ يشير قوله (في الحديث القدسي: (قال اللّه عزّ وجلَّ: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) (1)

وليس من المؤثرات الخارجية ـ كما قد يتوهم ـ أن الله تعالى يملي عليه الشر، ويزينه له، فذلك محال على الله تعالى.. فالرحمن الرحيم أرحم بعباده من أن يملي عليهم الشر، أو يدعوهم إليه.

النفس

قلت: لقد ذكر أساتذتي الدوافع الغريزية التي تسيطر على الإنسان شعر أو لم يشعر؟

قال: نحن نسمي ذلك نفسا.

قلت: فما النفس؟

قال: لقد ذكرت لك أن في الإنسان ركنين أساسين: أما أولهما.. فذلك الطين البسيط المتواضع الذي لا يقدر على شيء.. وأما الثاني، فتلك الروح العلوية الطاهرة.. وقد شاء الله أن تنزل تلك الروح العلوية إلى هذه الأرض.. وأن تمتطي هذا الجسد الترابي.. والتراب ـ بحسب سنن الله ـ يحتاج إلى المدد الغذائي الذي يحفظ توازنه.. ولأجل هذه الحاجة ولدت النفس..

قلت: فالنفس هي الجهاز الذي يخدم وجود الإنسان على الأرض إذن؟

قال: أجل..

قلت: قرب لي ذلك لأفهمه.

قال: هل يمكن للسيارة أن تسير بلا وقود؟

قلت: لا.. لا يمكن ذلك.

قال: فالنفس هي التي تخبرك عن حاجتك للوقود، وتدلك عليها.. وهي التي تملأ فمك

__________

(1) رواه الطبراني في الكبير.

سلام للعالمين (101)

منها.

قلت: لم أفهم هذا.

قال: لقد خلق الله لجسدك حاجات كثيرة، ولا يتولى هذه الحاجات إلا النفس.

قلت: فكيف تتولاها؟

قال: بأخلاق جبلت عليها تسمونها الغرائز.

قلت: فأنت تتفق إذن مع من يقول بتأثير الدوافع الغريزية..

قال: لقد ذكرت لك أنهم جميعا أبصروا حقائق.. ولكنهم لم يكتفوا بها، بل راحوا يخلطونها بالأوهام والخرافات حتى ملأوها تحريفا.. لعلك تعرف ما يقوله فرويد عن غريزة الجنس؟

قلت: لقد تتلمذت عليه زمنا.. وهو يعتبر غريزة الجنس عاصمة الغرائز..

قال: لا حرج عليه في أن يعتبرها عاصمة الغرائز أو مدينة من مدنها.. ولكن الحرج في أن يفسر كل الدوافع الإنسانية على أساسها.. ألم يبلغ به الشطط أن فسر الدوافع الداعية إلى البحث عن الدين بهذا التفسير؟

قلت: بلى..

قال: فهذه هي المتاهة التي وقع فيها.. لقد خلط بين الروح والنفس..

قلت: لقد ذكرت لي أن الروح عندما تمتطي الجسد تتحول إلى نفس؟

قال: لا.. لم أقل إنها تتحول.. وإنما قلت لك: إنها تحتاج إلى جهاز اسمه النفس لتمارس به حياتها على هذه الأرض.. إن حاجتها إلى النفس تعدل حاجتنا إلى استعمال أجهزة خاصة إذا أردنا أن نصعد في الفضاء أو نغوص في أعماق الماء.

قلت: والروح؟

قال: الروح هي الإنسان.. وليس لها في الأصل إلا وجهة واحده هي الوجهة التي صدرت منها.. فهي لا تزال تحن إليها.

سلام للعالمين (102)

قلت: فكيف تستعمل النفس الغرائز لتحفظ به وجودها؟

قال: يمكن للعقل المجرد المتخلي عن الهوى أن يكتشف هذا.. فالنفس ليست بعيدة عنا.. ولذلك يمكن تحليلها لمعرفة الغرائز المرتبطة بها.

سأذكر لك ما قاله علماء المسلمين في هذا.. ولعلهم استفادوا الكثير منه من حكماء الأمم المختلفة:

لقد ذكروا أن الوجود الدنيوي للإنسان يتطلب وسائل خاصة يتمكن بها الإنسان من السكن على هذه الأرض، كما يتطلب رائد الفضاء لباس خاصا يتناسب مع جو القمر، أو أي جو يريد أن يتعامل معه.

واللباس الذي يتناسب مع هذه الأرض، هو هذا الجسد الترابي، وخصائصه هي نفس خصائص المكونات الحية الموجودة على هذه الأرض، فلذلك صار يفتقر إلى ما يحفظه، وما يدفع عنه الهلاك.

وهذا الحفظ والتعهد يتطلب أعضاء تجلب الغذاء وغيره، وأعضاء تدفع عن النفس الهلاك.

وكل هذه الأعضاء التي سلح بها بدن الإنسان هي الوسائل الأساسية لتحقيق متطلبات الوجود من الغذاء والدفاع، بل ليس هناك جزء من جسد الإنسان لا يقوم بهذا الأمر.

ومع أن أكثر هذه الأعضاء يقوم بهذه الوظائف تلقائيا إلا أن أصل الغذاء والدفاع ركب في الجهاز الإرادي للإنسان فتنة وابتلاء.

فركب في الإنسان جهاز الشهوة الدافع إلى الغذاء والحفاظ على النسل.

كما ركب فيه جهاز الغضب الدافع إلى الحمية والحفاظ على الوجود.

وهذان الجهازان ينتظم تحتهما كل ما تتطلبه النفس من غرائز الوجود، وهما المستعملان لأعضاء البدن في تحقيق متطلبات هذه الغرائز.

قال الغزالي يشرح ضرورة هذه الغرائز: (فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن، وهو

سلام للعالمين (103)

الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء. وظاهر، وهو اليد والرجل اللتين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها) (1)

والأمر إلى هذا المحل تتفق فيه النفس البشرية مع النفس الحيوانية، وليس هناك أي خصوصية للإنسان في هذه الجوانب، وليس هناك أي مجال للمدح أو الذم لما يتعلق بمتطلبات هذه الغرائز.

وإنما يبدأ التكليف، وينشأ المدح والذم من غريزة أخرى لها علاقة بهذه الغرائز من جهة، ولها علاقة بسر وجود الإنسان من جهة أخرى، فهي بين بين، وعلى أساس هذه الغريزة تتحدد علاقة الإنسان بنفسه.

وهذه الغريزة هي غريزة الإدراك المزودة بأدوات التعرف على العالم الذي نزلت روح الإنسان إليه.

قال الغزالي مبينا وجه الحاجة إلى هذه الغريزة وعلاقتها بما سبقها من غرائز: (ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق، وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها)

وزود بالإضافة إلى هذه الحواس بوسائل التعامل مع المعلومات والمدركات، ويمكن إدراكها بسهوله (فإنّ الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ

__________

(1) الإحياء:3/ 5.

سلام للعالمين (104)

)

فهذه هي الغرائز التي يحفظ بها الإنسان وجوده على هذه الأرض ـ والتي ذكرها علماء المسلمين بناء على دراستهم التحليلية للإنسان ـ وربما استفادوا في ذلك من غيرهم.. ولا حرج عليهم في ذلك.

قلت: ما دام الأمر مفتوحا.. فلم ينكر على العلماء الذين حاولوا البحث في هذه الغرائز (1

قال: لأن هذه الغرائز قد تشتط وتنحرف، ويتولد عن انحرافها غرائز شاذة تنحرف بحقيقة الإنسان.. فيأتي هؤلاء، فيتصورون أن الشذوذ أصل، وأن الانحراف استقامة..

قلت: فالإنسان مطالب بكبت غرائزه إذن؟

قال: لا.. الإنسان مطالب بالحفاظ على استقامة غرائزه حتى لا تخرج به عن الفطرة التي فطر عليها..

لقد ذكر الغزالي أمثلة ربما تقرب لك هذا..

لقد ضرب مثالا عن حقيقة الإنسان ـ التي هي روحه وسر وجوده ـ في بدنه كمثل ملك في مدينته ومملكته، فالبدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، والجوارح وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد يجلب

__________

(1) وضع مكدوغل 14 غريزة، أضاف إليها غرائز أخرى، ومن أهمها غريزة المقاتلة، البحث عن الطعام، التملك، الجنس، الابوة، الراحة، النوم، وقد كان مكدوغل يعبر عن هذه الغرائز بالغرائز الفطرية. إلا أن آراءه هذه لقيت بعض النقد، ومن أهم ما وجه اليها من نقد:

1. تنافي اتجاه الغرائز الفطرية مع الاتجاه العلمي للبحث، وكونها خارجة عن إطار السيطرة والتحكم، اذ أن الغريزة من الأمور الانفعالية.

2. التشكيك في عدد الغرائز المطروحة (بين 14 و36) ويصل العدد، في رأي وليم جيمس، الى مئة غريزة.

3. يرى علماء الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع أن الاختلاف، في سلوك الإنسان، يعود إلى الاختلاف في الثقافة بين مجتمع وآخر، فتنتفي بعض الغرائز عند بعض المجتمعات، كغريزة المقاتلة، مثلا، إذ أن بعض المجتمعات، كالهنود الحمر، في كندا، يتنازلون عن الممتلكات تعبيرا عن الفوز بالمعركة، كان تحدي الانسان لدافع التملك دليل على الفوز.

سلام للعالمين (105)

الطعام إلى المدينة، والغضب والحمية كالحرس والشرطة.

أما العبد الجالب للطعام، والذي يمثل الشهوة، فهو كذاب ماكر مخادع، يتمثل بصورة الناصح، وهو في علاقة عداء تام مع الوزير الناصح حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة.

فإذا كان الوالي في مملكته مستغنياً في تدبيراته بوزيره معرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، أدبه صاحب شرطته، وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يصير العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبَراً لا أميراً مدبِراً.

وفي هذه الحالة يستقيم أمر البلد، وينتظم العدل بسببه.

وهكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها.

وينطبق عل من هذا حاله مع نفسه قوله تعالى فيمن لم يخضع لغرائزه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} (النازعات)

أما إن كان خلاف ذلك، وأصبح الحكم في الإنسان هواه وغرائزه، فإنه ينطبق عليه حينها قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} (الجاثية)

إن هذا المثل ينطبق تماما على هذا المثل القرآني الجليل، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف).. فقد اعتبر الله من خضع لغرائزه لتسيره كما تشاء

سلام للعالمين (106)

كلبا.. أو لا يختلف عن الكلب..

وكذلك هؤلاء الذين يقولون للناس: (إن هذه هي غرائزكم.. فلا تكبتوها..) هم في الحقيقة يرمونهم كل مرة في هاوية من البهيمية يصعب عليهم الخروج منها.

قلت: لم؟

قال: لأن النفس إذا تعودت شيئا أدمنت عليه.. فإذا أدمنت بان لها أنه الأصل.. ثم يأتي هؤلاء المحللون ليضموه إلى غرائز الإنسان.

سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى المدمنين على المخدرات كيف يشق عليهم تركها.. ولو خيرتهم بين تلبية غريزة الطعام وغريزة الأفيون لاختاروا الأفيون.. فهل نترك لهؤلاء المحللين المجال ليفرضوا على الإنسان صاحب الفطرة الأصلية ما يقع فيه ضحايا الغرائز الشاذة؟

سكت، فقال: إن هذه النظرة من الأصول التي تجعل المسلم يشعر بأنه صاحب إرادة.. فلذلك لا يستسلم لغرائزه.. وإنما يهذبها لتستقيم مع الفطرة السليمة..

لقد ذكر القرآن الكريم أصناف الناس، وتعاملهم مع غرائزهم.. فذكر الغافلين عن أنفسهم الذين توحد الأنا فيهم بالنفس، فلم يدركوا من وظائف وجودهم غير إرضاء الشهوات والغرائز التي وضعت في الأصل لخدمة المطية التي تحملهم، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ((الحشر:19)

والفاسق هو الخارج عن حقيقته المستغرق في شهواته الغافل عن وظيفة وجوده، والآية تنبه إلى أن سر فسوقه هو نسيانه وغفلته عن الله، وفي ذلك إشارة إلى أن معرفة الله هي الأساس والمنطلق الذي ينطلق منه من يريد أن يترقى عن حجاب النفس.

وقد سمى القرآن الكريم هذه النفس بالنفس الأمارة بالسوء، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء) (يوسف: من الآية 53)

وهي نفس مطمئنة من جهة اطمئنان صاحبها لما هو فيه، فلا تحدثه نفسه بملامة أو عتاب،

سلام للعالمين (107)

فهو راض عن حاله، قد كفى الشيطان هم الوسوسة، وكفى نفسه هموم الصراع، فنفسه مستقرة مطمئنة، والقلب مغلف مطبوع.

وفي مقابل هذه النفس نفس أخرى، وهي كذلك نفس مطمئنة، لأنها استسلمت بعد جموحها، وذلت بعد كبريائها، فصاحبها في راحة منها، والشيطان لا يجد مجالا ليدخل إليها، وقد عبر القرآن الكريم عنها بالنفس المطمئنة، فقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:29 ـ 30)

وهذه هي نفوس الخلاصة من عباد الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، وهي المرحلة الأخيرة التي تنتهي إليها المجاهدات، وهي المرحلة الأولى التي تبدأ منها المواهب.

ومثل هذه النفس كالتربة الطيبة التي هذبت وصفيت وأصلحت، ثم بذرت فيها البذور الطيبة، ولا يبقى لها إلا المطر الذي ينزل عليها، فتبسق أشجارها وتطيب ثمارها.

وبين هاتين النفسين ما يسميه القرآن الكريم بالنفس اللوامة، قال تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ((القيامة:2)

وهذه النفس هي التي تتعامل مع صاحبها، أو يتعامل معها صاحبها كما يتعامل مع شخص أجنبي، فهو يلومها ويعاتبها، وقد يضطر لمعاقبتها ومجاهدتها.

لقد ذكر الإمام بديع الزمان النورسي مثالا مقربا لهذا، فذكر أنه كان في الحرب العالمية الأولى، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه، والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه.

فكان الأول يهتم الاهتمام كله باوامر التدريب وشؤون الجهاد، ولم يكن يفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، لإدراكه أن رعاية شؤونه وتزويده بالعتاد، بل حتى مداواته اذا مرض إنما هو من واجب الدولة، وأما واجبه هو فالتدّرب على امور الجهاد ليس إلاّ.

وهو مع هذا لا يمتنع من ان يقوم بشؤون التجهيز وبعض الأعمال التي تتطلبها حياته وفي هذه الاثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما اقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعاً، ولا يجيب: انني

سلام للعالمين (108)

اسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، وهو الجاهل بواجباته فلم يكن يبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب، بل كان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بامور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها.

قال النورسي معقبا على هذا المثال شارحا له: (أمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الانسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والأنس، إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين)

العقل

قلت: عرفت الروح والجسد.. وما يتولد عنهما من النفس.. فما العقل (1

قال: هو النافذة التي تطل بها على حقائق الوجود.. وهو النور الذي تتعرف به على واهب النور.. وهو العقال الذي ينظم نفسك لتنسجم مع الكون وتتخلق بأخلاق حقيقتها؟

قلت: هل تقصد ذلك الذي يسكن الجمجمة؟

قال: الجمجمة يسكنها الدماغ.. لا العقل.. العقل أشرف من أن ينحصر في قفص الجمجمة (2).

__________

(1) سنتحدث بتفصيل عن العقل في الفصل الخاص به.. وإنما نذكر هنا علاقته بأركان الإنسان.

(2) من أحسن الأبحاث العلمية الحديثة الدالة على هذا ما ذكره أصحاب (العلم في منظوره الجديد) من أن (ويلدر بنفيلد) (1891 - 1976 م)، وخلال عمليات جراحية أجراها على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى، لاحظ ملاحظات مهمة حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الأدلة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات، ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين.

لقد كان بنفيلد، والذى يعود له الفضل الأول فى إدماج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب، قد شرع فى بحوثه الرائدة فى الثلاثينات من هذا القرن غير أن الآثار الكاملة المترتبة على اكتشافه لم تتضح إلا حين نشر كتابه المسمى (لغز العقل) (the mystery of the mind)

لقد اكتشف بنفيلد عام 1993 بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى.

لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر، ثم أخذته الدهشة، فعندما لامس القطب الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة (بيسبول) فى مدينة صغيرة، ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج، ليلحق بجمهور المتفرجين، وهناك مريضة أخرى سمعت آلات موسيقية تعزف لحنا من الألحان.. قال بنفليد: (أعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها، وأمليت كل استجابة على كاتبه الاختزال، وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد، وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه، ويستمر من اللازمة إلى مقطع الأغنية، وعندما دندنت، مصاحبة الموسيقا، كان إيقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له)

لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية، ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه، وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجاربه الماضية، وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه.

وكان بنفيلد من وقت لآخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه، ولكنه لا يفعل ذلك، وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا.

ثم إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان مؤقت للقدرة على الكلام عند المريض، ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ، فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسة إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام، فيعجز عن ذلك، وقد روى بنفيلد ما حدث، فقال: (أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت القطب الكهربائى حيث كنت أفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق، فظل المريض صامتا للحظات، ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضبا، ثم سحبت القطب، فتكلم فى الحال، وقال: الآن أقدر على الكلام، إنها فراشة لم أكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكلمة (عثة)

لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة، وطلب عقله من مركز الكلام فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائل فى ذهنه، وهذا يعنى أن آلية الكلام ليست متماثلة مع العقل، وإن كانت موجهة منه، فالكلمات هى أدوات تعبير عن الأفكار، ولكنها ليست الأفكار ذاتها، وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب، وأمر بالبحث عن اسم شئ مشابه هو (العثه) وعندما فشل في ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا (إذ إن هذا العمل الحركى لا يخضع لمركز الكلام)، وأخيرا عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره، وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من آلية الكلام عندما عرض مفاهيم، ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملا آليا)

وهكذا توصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات، قال: (عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع القطب على القشرة الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أسأله مرارا عن ذلك، وكان جوابه على الدوام (أنا لم أحرك يدى ولكنك أنت الذى حركتها) وعندما أنطقته قال: (أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى)

لقد لخص بنفيلد ذلك بقوله: (إن القطب الكهربائي يمكن أن يخلق عند المريض أحاسيس بسيطة متنوعة، كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه أو يحرك أعضاءه أو يخرج أصواتا، وقد يعيد إلى الذاكرة إحساسا حيا بتجارب ماضية، أو يوهمه بأن التجربة الحاضرة هى تجربة مألوفة، أو أن الأشياء التى يراها تكبر وتدنو منه، ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك، وهو يصدر أحكاما على كل هذه الأمور وربما قال: إن الأشياء تكبر) ولكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى، ويقاوم هذه الحركة.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا آخر يختلف كليا عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أن مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على النشاط، فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

وباستخدام هذه الأساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسئولية عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة في أي جزء من الدماغ، فالدماغ هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه ليس مقر العقل أو الإرادة.

لقد أعلن بنفيلد عن نتائج أبحاثه قائلا: (ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا، والقطب الكهربائي يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر، بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقي، والقطب الكهربائي يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه، إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة، فواضح أذا أن العقل البشرى والإرادة البشرية ليس لها أعضاء جسدية) (انظر: العلم في منظوره الجديد)

سلام للعالمين (109)

سلام للعالمين (110)

قلت: فما علاقته بالدماغ؟

قال: العقل يستخدم الدماغ كما يستخدم جميع وسائل الإدراك.. أما هو في ذاته فهو الروح نفسها.. ولا يعرفه إلا من يعرف سر الروح.

قلت: هل تستطيع أن تقرب لي علاقة الروح بالعقل.. وعلاقتهما جميعا بالجسد؟

قال: لن تفهم هذا إلا إذا فهمت أدوار العقل.

قلت: فما أدوار العقل؟

سلام للعالمين (111)

قال: دوران.. أما أولهما، فهو خدمة الإنسان في هذا الوجود المؤقت الذي يعيشه.. ودور العقل في هذا أن يستنبط من صنوف الحيل ما تيسر به الحياة.. وهو في ذلك يشبه دور النفس.

وأما الثاني، فأن يطل على الوجود ليتعرف من خلاله على رب الوجود.. وحقائق الوجود.. وهذا هو الدور الأصلي للعقل.. ولهذا ينفي القرآن الكريم العقل على الذي لم يستعمله في هذا الدور الخطير.. قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ((البقرة:171)، وقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ((المائدة:58)، وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ((لأنفال:22)، وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ((الحج:46)

وفي المقابل يثني على من استعملوا عقولهم في رحلة التعرف على ربهم.. فيسميهم ذوي الألباب.. فيقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ((آل عمران:190)، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ((الزمر:21)، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ((يوسف:111)، وقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ((الرعد:19)، وقال: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ((ابراهيم:52)، وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ((الزمر:9)

قلت: وعيت هذا.. فما علاقة العقل بالروح.. وما علاقتهما بالجسد؟

قال: أما الدور الأول.. فله علاقة كبرى بالجسد.. لأنه مثل النفس لا يستخدم إلا طاقات

سلام للعالمين (112)

الجسد.

وأما الثاني، فله علاقة كبرى بالروح السامية.. فلذلك تجده يشف.. فيرى من الحقائق ما لا يستطيع العقل النفساني أن يفهمه.

قلت: والدماغ؟

قال: الدماغ وجميع وسائل الإدراك وسائل للعقل يستخدمها كما تستخدم النفس المعدة في هضم الطعام.. والفم لأكله..

القلب

قلت: عرفت أن النفس هي البرامج التي تضعها الروح لحفظ البدن.. وأن العقل هو الوسيلة التي تدرك بها الروح العالم.. فما القلب؟

قال: هو الوسيلة التي تتفاعل بها الروح مع العالم تفاعلا وجدانيا.

قلت: لم أفهم.

قال: للإنسان مجموعة علاقات بالعالم.. ولكل علاقة اللطائف الخاصة بها.. فعلاقة العقل مع جميع وسائل الإدراك هي التعرف على هذا العالم.. ثم إن هذا التعرف يحدث آثارا من القبول أو الرفض، ومن الحب والبغض، ومن الإذعان ومن الإباق.. والمحل الذي خص بهذا هو ما يسمى (القلب)

قلت: لا نعرف القلب إلا تلك الجارحة التي تضخ الدم إلى الجسم.

قال: لعلها تضخ مع الدم تلك المشاعر.. وليس لعقولنا ولا لأجهزتنا الآن القدرة على إنكار شيء من هذا.. فلا يمكن للعقل أن ينكر ما لم يستطع أن يعرفه (1)..

__________

(1) نرى أن العلم بدأ يقترب نحو إثبات علاقة الوعي والمشاعر بالقلب.. ومن أجمل ما قرأنا في هذا البحث مقالا علميا في مجلة اليمامة (العدد 1607).. وهو عبارة عن تحقيق طبي عن آخر اكتشافات العلم الحديث حول وجود عقل في القلب كتبه الدكتور فهد العريفي..

قال الدكتور: (تشير بعض البحوث الرائدة التي أجراها بعض العلماء إلى أنه يوجد (مخ آخر) داخل الأمعاء والقلب يعرف بالجهاز العصبي الداخلي وهو مستقل عن المخ بيد أنه يتصل به في الجمجمة وذلك حسب رأي (مايكل فيرشون) رئيس قسم التشريح وعلم الأحياء الخلوية بكولمبيا.

إن المكان الذي تذهب إليه كل تجربة أو خبرة هو القلب لا المخ. في التسعينات اكتشف علماء (علم القلب العصبي) الحقل الجديد الآخذ في الظهور، اكتشفوا عقلاً في القلب يتكون من 400.000 خلية عصبية من مختلف الأنواع إضافة إلى شبكة معقدة من المرسلات العصبية، البروتينات، الخلايا المساعدة وتؤدي عملاً مستقلاً عن الدماغ أو العقل.

وهذا (المخ القلبي) كبير ومتسع تماماً كاتساع المناطق الرئيسية في المخ (الدماغ المفكر) ومعقد بالقدر الذي يجعله كالمخ تماماً) إلى آخر المقال.

سلام للعالمين (113)

أما نحن.. فموقنون تماما بما قال لنا ربنا.. لقد قال لنا: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ((الحج:46)، وبما قال رسول الله (: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) (1)

قلت: فما العملية التي يتم بها هذا التفاعل؟

قال: العقل ـ بوسائل إدراكه ـ يعطي معلوماته للقلب لينظر فيها ويتأملها من زاوية نوع التفاعل الذي يقابلها به.. والقلب هو الذي يتفاعل مع المعلومات بحسب توجه صاحبه.

قلت: أليست هذه عملية آلية حتمية؟

قال: لا.. لتوجه صاحبه الذي اختاره دور كبير في تحديد نوع الأثر الذي يحصل للقلب.. إنه مثل الماء الذي يجمعه صاحبه من محال مختلفة.. ثم يفكر في السبيل لصرفه.. فلكل طريقته في ذلك الصرف.

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ((النمل:14).. ففي هذه الآية الإشارة إلى أن هناك ما يمكن إدراكه إدراكا تاما ومع ذلك يقابل بالجحود.

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

سلام للعالمين (114)

قلت: كيف تسمي آلة هذه العملية قلبا.. مع أن القرآن ـ من خلال ما قرأت علي من آيات ـ لا يسميه كذلك.

قال: هذه مصطلحات دلت عليها الحقائق القرآنية.. ولا حرج في المصطلحات.. فنحن نقول في تعابيرنا: (رأيت).. ونقول (رأت عيناي).. فنعبر عن الرؤية بمحلها.. ونعبر عنها بالمجموع.. فالمحل ليس إلا خادما للمجموع.

قلت: أللقلب كذلك توجهان؟

قال: أجل.. وجهة دنيا.. وهي تشبه دور النفس.. ووجهة عليا.. وهي تمثل دور الروح من جهة تعاملة مع حقائق الوجود.

فالذي يمتلئ قلبه عشقا للدنيا وما في الدنيا في الحقيقة لم يستعمل إلا الجزء الأدنى من قلبه.. أما الذي استغرقته الحقائق فمال إليها بقلبه ميلا كليا فإنه قد استعمل جهته العليا.

قلت: هل يمكن الجمع بينهما، بحيث يستعمل الإنسان كلا الوجهتين من غير تناقض ولا صراع؟

قال: أجل.. وذلك هو الكمال.. وقد كان من أدعية رسول الله (: (اللهم انى أسالك حبك وحب من يحبك والعمل الذى يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب الي من نفسي وأهلي والماء البارد) (1)

قلت: لم قال ذلك؟

قال: حتى لا يسيطر الحب الأدنى على الإنسان، فيشغله عن الحب الأعلى.

الخلافة

قلت: أهناك لطائف أخرى للإنسان؟

__________

(1) رواه أبو نعيم في الحلية.

سلام للعالمين (115)

قال: أجل.. هناك لطائف كثيرة.. وهي تبرز كل حين.. إن روح الإنسان منجم ضخم.. ولكنه لا يبرز لآلئه وأصدافه إلا لمن صدق في البحث عنها.

قلت: فما البحر الذي يغوصه الإنسان حتى يخرج لآلئ روحه؟

قال: الخلافة.

قلت: ما الخلافة؟.. وما علاقتها بإبراز القدرات؟

قال: روح الإنسان بطاقاتها جميعا مثل البذرة التي توضع في التربة.. فهل يكفيها أن توضع، ثم لا تتعهد بالسقي؟

قلت: إنها بذلك لن تنتج شيئا.. ستبقى بذرة وتموت بذرة.

قال: فالسقي هو الذي يخرج ما تختزنه من الطاقات؟

قلت: أجل.. بالسقي والتعهد تصنع تلك البذرة جذورا راسخة في الأرض.. وهامة عالية في السماء.. وفوق ذلك قد تعطينا من الثمار ما نظل ننعم به.

قال: فهكذا روح الإنسان.. هي بذرة.. وتبقى بذرة إن لم تتعهد بالسقي.

قلت: فما السقي الذي يؤهلها للبروز؟

قال: أصناف الاختبارات والابتلاءات التي يواجه بها الإنسان.. فتبرز من طاقاته في مواجهتها ما يبين أصل بذرته.. هل هي بذرة طيبة أم بذرة خبيثة..

قلت: فما الخلافة؟

قال: هذه هي الخلافة.. إنها السلوك الذي يمارسه الإنسان تجاه ما يواجه به من أنواع الابتلاءات والمسؤوليات (1)، ولهذا لما قال الله تعالى للملائكة ـ عليهم السلام ـ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30) قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة: من الآية 30)

__________

(1) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بأنواع الابتلاء وكيفية مواجهتها في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (116)

قلت: لم قالوا ذلك؟

قال: لأن الإنسان وضع في موضع حرج يمكنه من أن يصعد إلى أعلى الدرجات.. ويمكنه في نفس الوقت أن ينحط إلى أسفل الدركات.

قلت: لا أزال حائرا في معنى الخلافة.. وفي علاقة حقيقة الإنسان بها.

قال: الإنسان مخلوق كريم لغاية رفيعة.. هو لم يخلق كما تتوهم الفلسفات ليأكل ويشرب ويسيطر.. ويمارس من أنواع المتع ما يغذي الفراغ الذي تعاني منه روحه، وإنما خلق ليكون خليفة.. يتولى إدارة الأرض وعمارتها وتطويرها.. وبما أنه خليفة، فإن ذلك يقتضي أمورا (1):

أولها.. انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد هو الله، بدلاً من كل الانتماءات الأخرى، والايمان بسيد واحد للكون.. وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام عليه الإسلام.

والثاني.. إقامة العلاقة الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبوديات الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.

والثالث.. تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلط، فما دام الله تعالى واحداً ولا سيادة إلاّ له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا إخوة متكافئين في الكرامة الإنسانيّة والحقوق.

والرابع.. الخلافة استئمان، والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، اذ بدون ادراك الكائن أنّه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الامانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.

والإنسان بهذا المفهوم الذي جاء به الإسلام للخلافة خارج عن أي نوع من أنواع التبعية لأي قوّة اجتماعية أياً كانت، بل هو خاضع لله وحده.. فلا قمية لنسب ولا لون ولا وطن ولا قومية.. ولا أي شيء من هذه الأشياء التي قام عليها التناحر بها بين البشر.

والخلافة بهذا الشكل حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة.. حركة لا توقف فيها لأنها

__________

(1) انظر: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، الشهيد آية الله الصدر، ص 11 ـ 12.

سلام للعالمين (117)

متجهة نحو المطلق، وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو.

قلت: فما الفرق بين هذا الفهم الذي جاء به الإسلام.. وبين سائر المذاهب والأفكار؟

قال: الفروق عظيمة لا يمكن حصرها.. سأضرب لك أمثلة عنها لتدرك سمو التصور الإسلامي، وانحطاط سائر التصورات.

الإسلام يعتبر الإنسان.. كل إنسان.. خليفة لله.. أي انتماء الإنسان الأول لله، فهو الذي خلقه.. ومنه يستمد وجوده، ورزقه، وإليه يتوجه بالعبادة والدعاء.

وهذا الانتماء يجعله يمحو من خاطره وسلوكه كل تلك الانتماءات الضيقة التي تمليها عليها حدود المكان والزمان والمصالح.

ولهذا.. فهو يشعر بأخوة تنتظم جميع الكون.. ولا تنحصر في البقع الضيقة التي ولد فيها، أو انتسب إليها.

قارن هذا المفهوم الذي ينطلق من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} (الحجرات) بجميع المفاهيم العنصرية التي تفوح من الأديان والمذاهب والحضارات..

إن القوميات والشعوب والقبائل والآباء والأنساب التي ابتعد بها الإنسان عن الانتماء لله.. كما يعنيه مفهوم الخلاقة.. هو الذي صدر مع صداه الضارب في أحقاب التاريخ أكثر الحروب، وأبشع العصبيات، وأرذل الجرائم الإنسانية.

قلت: أللخلافة كذلك جهتان؟

قال: أجل.. جهة إلى الله تستدعي التسليم له ومحبته وطاعته المطلقة، وجهة إلى الخق تستدعي التعامل معهم وفق ما يقتضيه العدل والرحمة، وقد ذكر القرآن الجهة الثانية، فقال عن داود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ

سلام للعالمين (118)

عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ:26)

قلت: لقد كان داود حاكما، وليس كل الناس كذلك؟

قال: كل إنسان له حكم يرتبط به.. لقد ذكر رسول الله (ذلك فقال: (كلكم مسئول عن رعيته، فالامام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (1)

العبودية

قلت: وعيت كل هذا.. وأدركت مدى تناسقه.. لكني لم أفهم إلى الآن الغاية العليا للإنسان.

قال: لقد عبر القرآن الكريم عن هذه الغاية، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)

قلت: فما العبودية؟

قال: هي استعمال كل اللطائف في التوجه إلى الله ومعرفته ومحبته..

قلت: لم أفهم.

قال: لكل ما عرفنا من لطائف الإنسان عبوديته الخاصة به.. فللجسد عبوديته.. وللنفس كذلك.. وهكذا.. ولهذا تجد عبادات المسلمين عبادات تجمع كل ذلك.. فهي جسدية نفسية عقلية قلبية روحية..

قلت: أهذه هي الغاية عندكم.. أن يصير الإنسان عبدا.. إن الغاية التي وصل إليها قومي هي أن يتحرر الإنسان من كل القيود.. ابتداء من قيود الإله.. ألم تسمع بما صاح به نيتشة؟

__________

(1) البخاري ومسلم.

سلام للعالمين (119)

ابتسم، وقال: لقد أوقعهم غرورهم هذا في عبودية كل شيء.. عبدوا بطونهم.. وعبدوا جاههم.. وعبدوا سلطانهم وشهواتهم.. لقد صاروا عبيد لكل شيء.

قلت: وعابد الله؟

قال: عبادة الله هي العبادة التي تحررك من كل الأشياء لتجعلك متنعما بالتوجه إلى ربك، والاستغراق في مشاهدته والتعرف عليه.

قلت: كلامك جميل.. لكنه يصعب علي إدراكه.. ولست أدري ما سبب ذلك؟

قال: هذه المعاني الجليلة تحتاج نوعا من الرياضة.. ولن يفهمها إلا من مارس تلك الرياضة..

قلت: فهل تأذن لي بصحبتك لتعلمني كيف أمارس هذه الأنواع من الرياضة (1

قال: ليتني كنت أستطيع ذلك.

قلت: ولم لا تستطيع.. ها أنت بين غنيماتك.. لا تخف.. لن أشغلك كثيرا عنها؟

قال: أنا لا أخاف على هذه الغنيمات.. بل أخاف على غنيمات أخرى تريد نيران الفتنة أن تستأصلها.. فأنا أفكر فيها صباح مساء.

قلت: هل تريد أن ترحل إليها؟

قال: لست أدري.. لكن إذا أتيت إلى هنا مرة أخرى، ولم تجدني فهذا يعني أني قد ذهبت إلى تلك الغنيمات.

قلت: وهذه الغنيمات لمن تتركها؟

قال: لا تخف على هذه الغنيمات.. فما أسهل أن تجد لها راعيا.

-\--\-

قال ذلك، ثم استغرق في صمت عميق، فسألناه: ما الذي حصل بعد ذلك.. هل عدت

__________

(1) ذكرنا تفاصيل الرياضات السلوكية وأنواعها والتوفيق بينها في رسالة (أسرار الإنسان).. وسنرى بعض ذلك في هذه الرسالة في فصل (النفس)

سلام للعالمين (120)

فزرته في اليوم الثاني؟

قال: في تلك الليلة بت ممتلئا بالأشواق لتلك الرياضات التي تصفي لطائفي مما علق بها من أدران.. وفي الصباح الباكر لم يكن لي هم إلا أن أصعد للجبل لأبحث عن ذلك الراعي الذي كشف لي من حقائق ذاتي ما عجر عنه جميع أساتذة العالم.

قلنا: فهل وجدته؟

قال: لا.. ولو وجدته ما كنت الآن بينكم.

قلنا: فأين ذهب؟

قال: بعد أن سألت الكل.. ويئست من أن يدلني أحد.. تذكرت ما قال لي عن شأن الغنيمات، والفتنة التي تريد أن تستأصلها.. فرحت أبحث في المحال المختلفة عن هذا، فأطبق الكل على دلالتي على هذه البلاد، فجئت إليها، وها أنا الآن بينكم.. وقد قدر الله أن يكون سبب نجاتي هم أنفسهم سبب هلاكي.. وهذا ما ملأني بالحيرة والعجب.

سلام للعالمين (121)

الثاني ـ القلب

في اليوم الثاني، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. اعذروني، لقد كنت مثل من سبقني أحمل أسماء كثيرة مستعارة، كنت أحاول بها أن أغطي حقيقتي التي كانت تعذبني كل حين.. لكن حقيقتي أبت إلا أن تتمرد علي، وتذيقني في تمردها من الهوان ما لم أكن أحسب له أي حساب.

ليست بهذه المأساوية تنتهي قصتي.. هناك جوانت مشرقة ممتلئة بالنور والسلام والصفاء، لعل حياتي كلها كانت تسير نحوها.. ولعلي لم أسر نحو هذه البلاد إلا بحثا عنها.

قلنا: من أي البلاد أنت؟

قال: أنا من بلاد العرب.. ومن قبيلة فيها يقال لها (بنو عذرة).. وهم قوم لم يعيشوا إلا بقلوبهم ولقلوبهم.. ولكني لم يستقر بي المقام بها إلا قليلا، فقد جبت المشرق والمغرب.

قلنا: لم؟

قال: ألم أقل لكم إني من قوم لا يعيشون إلا بقلوبهم ولقلوبهم؟

قلنا: كلنا كذلك.. بل كل البشر كذلك.. فلا يمكن لأحد أن يعيش بدون قلب.

قال: ما أكثر من يهيل على قلبه التراب.. وما أكثر من يسجن قلبه.. وما أكثر من يضيع قلبه، فيصير عضوا ضامرا.. حيا كميت.. أو ميتا كحي.

قلنا: وأنتم؟

قال: أما نحن، فقد اعتبرنا قلوبنا، والتي هي محل عواطفنا، أساس وجودنا، فلذلك لم ننشغل عنها بأي شاغل.

قلنا: فحدثنا حديثك.

سلام للعالمين (122)

الصراع

نظر إلى الأفق البعيد، وهو مشدوه، وراح يقول: في تلك الأيام التي ولدت فيها ببني عذرة لم أكن أسمع إلا أحاديث الحب.. كانت المجالس تردد كل حين:

هل العيش إلا أن تروح وتغتدي... وأنت بكأس العشق في الناس نشوان

وكان أساتذتنا الذين تربينا على أيديهم يحفظوننا قول الشاعر:

وما طابت الدنيا بغير محبة... وأي نعيم لامرئ غير عاشق

بل كانوا يقولون لمن رأوه مجادلا في هذا:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فأنت وعير في الفلاة سواء

ويقولون له:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

بل كان الأمر يصل أحيانا إلى سبه ببذيء الكلام، فيقولون:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار

بل كانوا فوق ذلك كله يعتبرون الحب هو الدين الذي يغني عن كل دين، ولا يغني عنه أي دين، ويقولون في ذلك متغنين:

ما دنت بالحب إلا... والحب دين الكرام

ولذلك، فإن الأخلاق عندهم تنطلق من الحب، وقد قال في ذلك شاعرهم:

وما أحببتها فحشا ولكن... رأيت الحب أخلاق الكرام

وهم يعتبرونه مع ذلك الدنيا التي لا تغني عنها أي دنيا، ويقولون:

إن الغواني جنة ريحانها... نضر الحياة فأين عنها نعزف

لولا ملاحتهن ما كانت لنا... دنيا نلذ بها ولا نتصرف

أما علماء النفس والاجتماع، فكانوا يصفون لنا في محاضراتهم العلمية المملوءة بالأرقام والمصطلحات الحب على أنه (فضيلة تنتج الحيلة، وتشجع الجبان، وتسخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتطلق بالشعر لسان العجم، وتبعث حزم العاجز وهو عزيز يدل له عز الملوك، وتضرع له صولة الشجاع، وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن، وتستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم، يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب) (1)

ويذكرون لنا أن (أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم ضعيفة، وأرواحهم بطيئة الانقياد لمن قادها، حاشي سكنها الذي سكنت إليه، وعقدت حبها عليه.. وكلام العشاق ومنادمتهم تزيد في العقول، وتحرك النفوس، وتطرب الأرواح، وتجلب الأفراح، وتشوق إلى مسامع أخبارهم الملوك فمن دونهم.. ويكفي العاشق المسكين الذي لم يذكر مع الملوك ومع الشجعان الأبطال أنه يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء فمن دونهم، تدور أخباره، وتروى أشعاره، ويبقى له العشق ذكراً مخلداً، ولولا العشق لم يذكر له اسم، ولا جرى له رسم، ولا رفع له رأس، ولا ذكر مع الناس)

ويذكرون أن أبا نوفل سئل: هل سلم أحد من العشق؟ فقال: (نعم.. الجلف الجافي الذي ليس له فضل، ولا عنده فهم، فأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دمائة أهل الحجاز، وظرف أهل العراق، فلا يسلم منه)

ويذكرون عن بعضهم قوله: (لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة، ناقصاً، أو منقوص البنية، أو على خلاف تركيب الاعتدال)

ويذكرون عن بعض العلماء أنه قيل له: إن ابنك قد عشق، فقال: (الحمد لله، الآن وقت

__________

(1) هذه النصوص منقولة من ديوان الصبابة، لابن أبي حجلة.

سلام للعالمين (123)

حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشاراته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وجلت شمائله، فواظب على المليح، واجتنب القبيح)

أما رواتهم وقصاصوهم، فكانوا يذكرون لنا القصص والأساطير التي تؤيد هذه الرؤى، وتعمق هذه الأفكار، فيحكون لنا عن شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور، أنه قال لسليمان بن عمرو ومن معه: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم حداء ونغم فهل فيكم عاشق؟ قال: لا قال: اعشقوا.. فإن العشق يطلق اللسان، ويفتح جبلة البليد والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشريف الهمة.

ويروون لنا من كرامات المحبين أن ليلى الأخيليلة مرت مع زوجها بقبر توبة بن الحمير، فقال لها: هذا قبر الكذاب الذي قال:

ولو أن ليلى الأخليلية سلمت... علي ودوني جندل وصفائح...

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا... إليها صدى من جانب القبر صائح

فقالت: دعه، فقال: أقسمت عليك إلا ما دنوت منه، فسلمت عليه، فأبت فكرر عليها ذلك، فلما تقدمت إلى القبر، وقالت: السلام عليك يا توبة.. فطار من جانب القبر طائر كان هناك، وزقا، ونفر منه جمل ليلى، فوقعت من أعلاه، فاندقت عنقها، وماتت من وقتها، ودفنت إلى جانب توبة.

ويحكون لنا من أمر بهرام جور ما جعله نبينا الذي نتلقى منه كل الحقائق.

قلنا: من بهرام جور؟

قال: رجل كان له ابن قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء الأدب، فغم ذلك أباه فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيرنا إلى الرجاء في فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها، فغلبت عليه فهو لا يهدأ إلا بها ولا

سلام للعالمين (124)

يتشاغل إلا بها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه، ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سرا، فلا يعدوك فضمن له ستره، فأعلمه ان ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وهجرته، فإن استعلمها علمته أنها لا تصلح إلا لملك، ثم لتعلمني خبرها وخبره ولا تطلعهما على ما أسره إليك، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب والموكل بأدبه حضه وشجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك وفعلت المرأة كما أمرها أبوها، فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك، ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء وما أشبه ذلك، فسر الملك بذلك وأمر له بما طلب، ثم دعا مؤدبه فقال له: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من خبر هذه المرأة لا يدري به فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إلي ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل المؤدب ذلك، فرفع الفتى ذلك لأبيه فدعا بأبيها وزوجه إياها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يضعن قدرها عندك مراسلتها إياك وليست في خبائك فإني أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسرورا بالجارية وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها ورفع منزلته لصيانه سره وأحسن جائزة المؤدب لامتثال ما أمر به.

قلنا: فما كان تأثير هذه التوجيهات عليكم؟

قال: لقد صار كل من في تلك القبيلة يصيح بقول الشاعر:

تشكى المحبون الصبابة ليتني... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي...

فكانت لقلبي لذة الحب كلها... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي

سلام للعالمين (125)

وبقول الآخر:

وددت بأن الحب يجمع كله... فيقذف في قلبي وينفلق الصدر...

لا ينقضي ما في فؤادي من الهوى... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر

وبقول الآخر:

وما سرني أني خلى من الهوى... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب

قلنا: نرى أن كل ما ذكرته يكاد يكون سليما لا حرج فيه.. فلم نر مثل الحب عاطفة نبيلة؟

قال: صدقتم.. ولكن القبلة التي وجهنا إليها قومنا ملأتنا بالصراع.. فلم نكن نشعر في لحظة من حياتنا بالسلام الذي عمر الله به كونه.. لقد كانت حياة كل منا في يد محبوبه الذي سلم إليه أمره يجرعه من الهوان ما لا يذيقه أعتى الطغاة لأعتى المجرمين.

قلنا: أكنتم تتألمون؟

قال: كلنا كان يتألم.. ومنا من مات بسبب ألمه.. لقد قال المتنبي يذكر ذلك:

وعذلت أهل العشق حتى ذقته... فعجبت كيف يموت من لا يعشق

ليس الموت وحده ما يلقاه العاشقون.. فالموت يستوي فيه كل الناس.. إن الأمر أخطر من ذلك بكثير.

لقد قال لي بعض من بلي بهذه البلية منشدا:

وما عاقل في الناس يحمد أمره ويذكر... إلا وهو في الحب أحمق...

وما من فتى ذاق بؤس معيشة... من الناس إلا ذاقها حين يعشق

وسمعت بعضهم ينشد بلوعة دونها كل لوعة:

فيبكي إن نأوا شوقا إليهم... ويبكي إن دنوا حذر الفراق...

وما في الأرض أشقى من محب... وإن وجد الهوى حلو المذاق...

تراه باكيا في كل حين... مخافة فرقة أو لاشتياق

سلام للعالمين (126)

وسمعت آخر ينشد، وأنا في أول رحلتي للبحث عن حبيب يملأ قلبي:

شكوتُ فقالتْ: كل هذا تبرماً... بحبي أراحَ اللّه قلبكَ من حبي...

فلما كَتَمْتُ الحبَّ قالَتْ لشَدَّ ما... ضرتَ وما هذا بفعلِ شَجَى القَلْبِ...

فأدنو فتقصيني فأُبعد طالباً... رضاها فتَعْتَدُّ التباعدَ من ذنبي...

فشَكْوايَ تُؤْذيها وصَبْري يسوؤها... وتجزعُ من بُعدي وتنفرُ من قربي...

فيا قومي هل من حيلةٍ تعرفونها... أشيروا بها واستوجِبوا الشكرَ من ربي

وسمعت آخر ينشد، وهو يتمرغ في التراب والقمامات:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم... العشق أعظم مما بالمجانين...

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه... وإنما يصرع المجنون في الحين

وسمعت آخر ينشد، وهو كالذي أعماه السكر، فصار لا يفرق بين السماء والأرض:

ويح المحبين ما أشقى نفوسهم... إن كان مثل الذي بي بالمحبينا...

يشقون في هذه الدنيا بعشقهم... لا يرزقون به دنيا ولا دينا

وسمعت آخر ينشد:

قرين الحب يأنس بالهموم... ويكثر فكرة القلب السقيم...

وأعظم ما يكون به اغتباطا... على خطر ومطلع عظيم

وسمعت آخر ينشد:

أما الهوى فهو العذاب فإن جرت... فيه النوى فأليم كل عذاب

قلنا: فهل صرفك هذا عن رحلة القلب التي أردت القيام بها؟

قال: لا.. لقد جاء من ينسخ لي كل هذا.. لقد وجدت رجلا كان صديقا لي، وكان اسمه (جميل)، وقد قال لي يرد على من يريد أن يصرفني عن رحلتي:

وقالَ أناسٌ إِن في الحبِّ ذلةً... تنقِّصُ من قَدْرِ الفتى وتخفضُ...

فقلتُ صدقتمْ غير أن أخا الهوى... لذلِ الهوى مستعذبٌ ليس يبغضُ

لكن رجلا كان ممتلئا بالحكمة ناداني، وقال لي: (يا بني.. أنت تريد أن تقوم برحلة لن تورثك إلا الهم الدائم، والفكر اللازم، والوسواس والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر، ثم تتسلط على جوارحك فتنشأ الصفرة في البدن، والرعدة في الأطراف، واللجلجة في اللسان، والنحول في الجسد، فالرأي عاطل، والقلب غائب عن تدبير مصلحته، والدموع هواطل، والحسرات تتابع، والزفرت تتوالى، والأنفاس لا تمتد، والأحشاء تضطرم، فإذا غشى على القلب إغشاء تاما، أخرجت إلى الجنون، وما أقربه حينئذ من التلف)

قلنا: فهل انتصحت لنصيحته؟

قال: لو انتصحت لنصيحته لانتهت قصتي هنا.. ولما ذقت ما ذقت من الذلة والهوان والجنون وكل أصناف الصراع..

قلنا: فحدثنا عن رحلتك.

قال: لقد كان أول من مررت به في رحلتي رجل يقال له عروة بن حزام.. كان معي حينها رفيق يقال له ابن مكحول، وكان عراف اليمامة، فرأينا عروة.. وهو أحد زملائي الذين تلقوا ما تلقينا من تربية وتوجيه.. جلسنا عنده؛ وسألناه عما به؛ وهل هو خبل أو جنون؟ فقال لابن مكحول: ألك علم بالأوجاع؟. قال: نعم؛ فأنشأ يقول:

وما بي من خبل ولا بي جنة... ولكن عمي يا أخي كذوب...

أقول لعراف اليمامة داوني... فإنك إن داويتني لطبيب...

فوا كبدا أمست رفاتاً كأنما... يلذعها بالموقدات طبيب...

عشية لا عفراء منك بعيدة... فتسلو ولا عفراء منك قريب...

عشية لا خلفي مكر ولا الهوى... أمامي ولا يهوى هواي غريب

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا... وما عقبتها في الرياح جنوب...

وإني لتغشاني لذكراك هزة... لها بين جلدي والعظام دبيب...

ثم أخذ يهيل التراب على جسده، وهو ينشد، والدموع تملأ مقلته:

خليلي من عليا هلال بن عامر... بصنعاء عوجاء اليوم واتنظراني...

ولا تزهدا في الذخر عندي وأجملا... فإنكما بي اليوم مبتليان...

ألما على عفراء إنكما غداً... بوشك النوى والبين معترفان...

فيا واشيا عفراء ويحكما بمن... وما وإلى من جئتما تشيان...

بمن لو أراه عانياً لفديته... ومن لو رآني عانياً لفداني...

متى تكشفان عني القميص تبينا... بي الضر من عفراء يا فتيان...

إذن تريا لحماً قليلاً وأعظماً... بلين وقلباً دائم الخفقان...

وقد تركتني لا أعي لمحدث... حديثاً وإن ناجيته ونجاني...

جعلت لعراف اليمامة حكمه... وعراف حجر إن هما شفياني...

فما تركا من حيلة يعرفانها... ولا شربة إلا وقد سقياني...

ورشا على وجهي من الماء ساعة... وقاما مع الواد يبتدران...

وقالا: شفاك الله والله مالنا... بما ضمنت منك الضلوع يدان...

فويلي على عفراء ويلاً كأنه... على الصدر والأحشاء حد سنان...

أحب ابنة العذري حباً وإن نأت... ودانيت فيها غير ما متداني...

إذا رام قلبي هجرها حال دونه... شفيعان من قلبي لها جدلان...

إذا قلت: لا، قالا: بلى، ثم أصبحا... جميعاً على الرأي الذي يريان...

تحملت من عفراء ما ليس لي به... ولا للجبال الراسيات يدان

فيا رب أنت المستعان على الذي... تحملت من عفراء منذ زمان...

كأن قطاة علقت بجناحها... على كبدي من شدة الخفقان

قال ذلك.. ثم انخفض صوته بعدها بأبيات لم نتبينها، ثم مات بعدها، وفي قلبه من الغصص ما لا يعلمه إلا الله..

وقد مكثنا مدة في ذلك المحل نرقب ما يحصل.. ثم سرنا، وبينما نحن في بعض الطريق إذ رأينا عفراء تسرع إلينا، وهي تردد:

ألا أيها الركب المخبون ويحكم... بحق نعيتم عروة بن حزام...

فلا تهنأ الفتيان بعدك لذة... ولا رجعوا من غيبة بسلام...

وقل للحبالى: لا ترجين غائباً... ولا فرحات بعده بغلام

ولم تزل تردد هذه الأبيات وتندبه بها، حتى ماتت.. فدفناها، وسرنا..

ما سرنا إلا قليلا حتى رأينا رجلا على فراش الموت، وهو ينشد:

عند قيس من حب لبنى ولبنى... داء قيس والحب صعب شديد...

فإذا عادني العوائد يوماً... قالت العين لا أرى من أريد...

ليت لبنى تعودني ثم أقضي... أنها لا تعود فيمن يعود...

ويح قيس لقد تضمن منها... داء خبل فالقلب منه عميد

فقال له صاحبي الطبيب: منذ كم هذه العلة بك؟ ومنذ كم وجدت بهذه المرأة؟ ما وجدت؟ فقال منشدا بصوت تنفطر له القلوب:

تعلق روحي روحها قبل خلقنا... وليس إذا متنا بمنفصم العقد...

فزاد كما زدنا وأصبح نامياً... وليس إذا متنا بمنصم المهد...

ولكنه باق على كل حادث... وزائرتي في ظلمة القبر واللحد

سلام للعالمين (127)

فقال له صاحبي: إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساوي والمعايب وما تعافه النفس، فنظر إليه نظرة اللائم المؤنب، ثم أعرض عنه، وهو ينشد:

إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً... وحسبك من عيب لها شبه البدر...

لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما... على ألف شهر فضلت ليلة القدر...

إذا ما شئت شبراً من الأرض أرجفت... من البهر حتى ما تزيد على شبر

وبقي هكذا يردد الأشعار، ويبكي إلى أن فاضت روحه، فواريناه التراب..

-\--\-

ثم سرنا في تلك البرية الممتلئة بضحايا الحب المدنس.. وفي الطريق رأينا مجنونا يهيل التراب على رأسه، والصبية مجتمعون حوله يضحكون، وهو يردد:

قالت جننت على أيشٍ فقلت لها... الحب أعظم مما بالمجانين...

الحب ليس يفيق الدهر صاحبه... وإنما يصرع المجنون في الحين

ثم يردد، وهو يبكي:

وبي من هوى ليلى الذي لو أبثه... جماعة أعدائي بكت لي عيونها...

أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني... فقد جن من وجدي بليلى جنونها

ثم يردد، وهو يضحك:

يقول أناسٌ عل مجنون عامرٍ... يروم سلواً قلت أنى لما بيا...

وقد لامني في حب ليلى أقاربي... أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا...

يقولون ليلى أهل بيت عداوةٍ... بنفسي ليلى من عدو وماليا...

ولو كان في ليلى شذاً من خصومةٍ... للويت أعناق المطي الملاويا

بينما نحن كذلك إذ جاء رجل، وصاح بقوة (ليلى)، فرأينا المجنون يفطن، ويعود إليه من

سلام للعالمين (128)

عقله ما زال عنه، فسألنا الرجل عن سر ذلك، فقال: هكذا المحبون.. لا يرون من الدنيا إلا من سلموا قلوبهم له.. فإذا غاب عنهم، ذهبت عقولهم (1).

قلنا: أين؟

__________

(1) ربما يتوهم أن هذه حوداث نادرة، وأنها كانت مرتبطة بذلك الزمان دون هذا الزمان، وهذا خطأ كبير، وقد سئل أحد الأطباء النفسانيين – ضمن تحقيق أجراه بعض الصحفيين -: هل من الممكن أن للحبّ مجانين في نهاية القرن العشرين؟

فأجاب: هذا سؤال طريف، ولكنه على طرافته – سؤال مطروح في كل زمان ومكان، ففي عصرنا الحالي، الموصوف بأنه عصر المادية، يمكن أن تؤدي الصدمة العاطفية إلي العيادة النفسية، ولقد عُرِضتْ علي حالات مرضية كثيرة، كان الحبّ هو السبب الرئيس لها، والعامل الأكثر تأثيراً فيها)

وقد قام بعض الصحفيين بزيارة لإحدى المصحات النفسية، ووقفوا على بعض الحالات من ضحايا الحبّ الموهوم، منها حالة شاب كانت ابنة عمه هي السبب في تدهور عقله، ووصوله إلى حافة الجنون، ولما سُئل طبيبه المعالج عن سبب وصوله إلى تلك الحالة، أجاب بأنها قصة طويلة ومعقدة، خلاصتها أن هذا الشاب (أحبّ) ابنة عمه الذي كان على خلاف مع أخيه والد هذا الشاب، وكانت الفتاة على علم بهذا الخلاف، فأرادت الانتقام لأبيها في شخص ابن عمها، فأوهمته بحبها له، حتى إذا ما جاء اليوم الموعود للزواج، رفضته، وتزوجت بغيره، فصُدم هذا الشاب، ووقع فيما يشبه الفصام العصبي.

ومثل ذلك ما حدثت به بعضهن قالت: (في يوم من الأيام جاءني اتصال من صديقة لي، تخبرني فيه بأن صديقة لنا في العناية المركزة بالمستشفي، فهرعتُ إليها وأنا لا أعلم السبب، وحينما وصلت إليها، وجدتها ممددة على السرير دون حراك، وقد أصابتها حالة تشنج عنيفة، تركتْ بصمات زرقاء وسوداء حول عينيها، وفي جميع أجزاء وجهها، وعندما سألت شقيقتها عن السبب، أخذتني بعيداً عن والدتها المنهارة، وقالت لي: لقد اكتشفتْ أن خالداً متزوج، ولديه ولد! أما عن خالد هذا، فهو شاب قد تعرفتْ عليه عن طريق الهاتف! وبعد عدة لقاءات وعدها بالزواج!، وها هي تدخل المستشفى من أجله، ولو علم هذان الأبوان المنهاران أمام غرفة ابنتهما سبب دخولها المستشفى لقتلاها بدلاً من أن يبكيا عليها!)

وأغرب من ذلك، ما نُشر في بعض الصحف من قصّة تلك المرأة المصرية التي فوجئت وهي تفتح دولاب ملابسها بعد أن عادت إلى بيتها، بشاب يخرج من ذلك الدولاب، فتعالت صرخاتها مستغيثة بالجيران، وقد حاول الشاب إقناعها بأنه إنما جاء لخطبة ابنتها التي تربطه بها علاقة حب! ولكن المرأة أصرت على استدعاء الشرطة، وكانت المفاجأة، أن سقط ميتاً بالسكتة القلبية قبل أن ينقل إلى قسم الشرطة في أغرب حادث حبّ غرامي مجنون)

وقد سئل الأستاذ الدكتور مصطفى محمود عن الحبّ قبل الزواج فأجاب: (الحبّ هو اتحاد شديد العمق، يؤدي التفريق فيه إلى سلسلة من انفجارات العذاب والألم، قد تستمر حتى الموت، وقد تنتهي بتغير الشخصية تماماً، وتحولها كما يتحول الراديوم بعد تفجر الإشعاع إلى رصاص، أما الحبّ بعد الزواج، فهو الحبّ الحقيقي الذي ينمو ويعيش، ويتحدى النسيان، ويضفي النبل والإخلاص والجلال على أبطاله) (انظر: وهم الحب، للمسند)

سلام للعالمين (129)

قال: إلى حيث ذهبت قلوبهم..

بينما نحن كذلك إذ سمعنا المجنون يردد:

أيا ويح من أمسى تخلس عقله... فأصبح مذهوباً به كل مذهب...

خليعاً من الخلان إلا مجاملا... يساعدني من كان يهوى تجنبي...

إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت... عوزاب قلبي من هوىً متشعب

ثم ينشد:

وشغلت عن فهم الحديث سوى... ما كان فيك فإنه شغلي...

وأديم لحظ محدثي ليرى... أن قد فهمت وعندكم عقلي

-\--\-

ثم سرنا في تلك البرية.. فرأينا قوما يحملون خيامهم، ويرحلون بها، ثم ما فتئنا حتى رأينا رجلا عليه سيما الحب المدنس يصيح في الآثار، وبقلبه من الأحزان لا تطيق أشعاره التعبير عنه:

أيا حرجات الحي حيث تحملوا... بذي سلمٍ لا جادكن ربيع...

وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى... بلين بلىً لم تبلن ربوع...

ندمت على ما كان مني ندامةً... كما يندم المغبون حين يبيع...

فقدتك من نفسٍ شعاعٍ فإنني... نهيتك عن هذا وأنت جميع...

فقربت لي غير القريب وأشرفت... إليك ثنايا ما لهن طلوع

ثم رأيناه يحفر حفرة في تلك الآثار، ثم ينزل فيها ويرقد، فأسرعنا إليه، فوجدناه قد سلم نفسه للموت.. فلم نجد إلا أن نهيل التراب عليه، ثم نستأنف رحلتنا.

ما سرنا إلا قليلا حتى وجدنا رجالا اشتعلت رؤوسهم شيبا، لكن عقولهم لم تزل تترنح في متاهات الصبا:

سلام للعالمين (130)

قال أحدهم، والحزن قد خط على وجهه علامات سوداء زاد في سوادها ذلك الشحوب الذي امتلأت به قسمات وجهه:

وكنت حبيبا إلى الغانيات... فألبسني الشيب هجر الشبيب...

وكنت سراجا بليل الشباب... فأطفأ نوري نهار المشيب

قال له صاحبه، وهو يحاوره:

فإن تسألوني بالنساء فإنني... خيرٌ بأدواء النساء طبيب...

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله... فليس له في ودهن نصيب...

يردن ثراء المال حيث علمنه... وشرخ الشباب عندهن عجيب

قال آخر، وهو لا يقل عن إخوانه حزنا:

أَراهنَّ لا يُحْببْنَ من قَلَّ مالُه... ولا من رأينَ الشَيْبَ فيه وقوَّسا

قال آخر، وكأنه يخاطب من لا يراه أصحابه:

لاتحسبي أن الشبابَ وشرَخهُ... يبقى ولا أن الجمالُ يخلدُ...

عشرٌ ويخلقُ شطرُ حسنِكَ كُلَّه... ويذمُّ ما قد كان منهُ يحمدُ

قال آخر:

وما يَرْجُو الكبيرُ من الغواني... إِذا ذهبَتْ شبيبتُهُ وشابا

ما سرنا قليلا حتى رأينا شابا ممتلئا شبابا، لكنه كان يصيح بغناء أقرب إلى النواح منه إلى الطرب:

جننا بليلى وهيَ جُنتْ بغيرِنا... وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدُها

وكان بجانبه شيخ حكيم يبدو أنه ذاق ما ذاق إخوانه من كأس الحب المسمومة، كان يقول له:

لا تأمنِ الأنثى زمانَك كلَّه... يوماً ولو حلفَتْ يميناً تكذبُ...

تغري بطيبِ حد يثِها وكلامِها... وإِذا سَطَتْ فهي الثقيلُ الأشطبُ...

وتوقَّ من غدرِ النساءِ خيانةً... فجميعُهن مكائدٌ لكَ تنصبُ

-\--\-

ما سرنا إلا قليلا حتى رأينا نفرا من الناس قد عقدوا حلقة كحلقات الذكر في تلك الفلاة.. وعلى كل منهم سيما الجنون التي يسمها الحب بأهله:

قال أحدهم:

ذكرتك والخطى يخطر بيننا... وقد نهلت مني المثقفة السمر...

فوالله ما أدري وإني لصادق... أداء عراني من خيالك أم سحر

وقال الآخر:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل... مني وبيض الهند تقطر من دمي...

فوددت تقبيل السيوف... لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم

وقال آخر:

ذكرت سلمى وحر الوغا... كقلبي ساعة فارقتها...

فشبهت سمر القنا قدها... وقد ملن نحوي فعانقتها

وقال الآخر:

ولقد ذكرتك والصوارم لمع... من حولنا والسمهرية شرع...

وعلى مكافحة العدو ففي الحشا... شوق إليك تضيق عنه الأضلع...

ومن الصبا وهلم جرا شيمتي... حفظ الوداد وكيف عنه أرجع

وقال الآخر:

ولقد ذكرتك والطبيب معبس... والجرح منغمس به المسبار...

وأديم وجهي قد فراه حديده... ويمينه حذراً على يسار...

فشغلتني عما لقيت وأنه... لتضيق منه برحبها الأقطار

وقال الآخر:

ولقد ذكرتك في الشفينة والردى... متلاطم متوقع الأمواج...

والجو يهطل ةالرياح عواصف... والليل مسود الذوائب داجي...

وعلى السواحل للأعادي عسكر... يتوقعون لغارة وهياج...

وعلت لأصحاب السفينة ضجة... وأنا وذكرك في ألذ تناجي

وقال آخر:

ولقد ذكرتك والسيوف لوامع... والموت يرقب تحت حصن المرقب...

والحسن في شفق الدروع تخاله... حسناء ترفل في رداء مذهب...

والموت يلعب بالنفوس وخاطري... يلهو بطيب ذكرك المستعذب

وقال آخر:

ولقد ذكرتك والعجاج كأنه... مطل الغنى وسوء عيش المعسر...

والسوس بين مجتدل في جندل... منا وبين مغفر في مغفر...

ظننت أني في صباح مسفر... بضياء وجهك أو مساء مقمر...

تعطرت أرض الكفاح كأنها... فتقت لنا أرض الجلاد بعنبر

وقال آخر:

لقد ذكرتك والجماجم وقع... تحت السنابك والأكف تطير...

الهام في أفق العجاجة حوم... فكأنها فوق النسور نسور

فاعتادني من طيب ذكرك نشوة... وبدت علي بشاشة وسرور...

فظننت أني في مجالس لذتي... والراح تجلى والكؤوس تدور

وقال آخر:

ولقد ذكرتك والرماح تنوشني... عند الإمام وساعدي مغلول...

ولقد ذكرتك والذي أنا عبده... والسيف فوق ذؤابتي مسلول

وقال آخر:

ولقد ذكرتك والبحر الخضم طغت... أمواجه والورى منه على سفر...

في ليلة أسدلت جلبابة ظلمتها... وغار كوكبها عن أعين البشر...

والفلك في وسط الأمواج يحسبها... عيناً وقد أطبقت شفراً على شفر...

والروح من حزن راحت وقد وردت... صدري فيا لك من ورد بلا صدر...

هذا وشخصك لا ينفك في خلدي... وفي فؤادي وفي سمعي وفي بصري

وقال آخر:

ولقد ذكرتكم برمل روعه... في قلب كل مشرق ومغرب...

وبنو بياضة كالدبي من حولنا... بسوأدهم سدوا فسيح السبب...

والقضيب تبري هام كل مدجج... من كف أشوس بالحروب مهذب...

وأسنة الرماح تلمع في الدجى... كوميض برق في الدجى متلهب...

وعلى العوالي كل نسر واقع... يفري أديم الليث منه بمخلب...

والرعد للأرماج رعد قاصف... والبحر يهدر كالهزبر الأغلب...

والبر بحر بالدما والبحر بر... بالفرنج وكل كلب أجرب...

وعلى السواحل غارة شعواء ما... فيها لمن يرجو النجا من مهرب

وأنا باوتار القسى كأنني... فيه أغني بالرباب وزينب...

وأقول ليت أحبتي يدرون ما... أنا فيه من لهو وعيش طيب

وقال آخر:

ذكرتك والحجيج له ضجيج... بمكة والقلوب لها وجيب...

فقلت ونحن في بلد حرام... به لله أخلصت القلوب...

أتوب إليك يا رحمن مما... جنيت فقد تكاثرت الذنوب...

فأما عن هوى ليلى وتركي... زيارتها فإني لا أتوب

وقال آخر:

ولقد ذكرتك والظلام معبس... وأنا قعيد في البيوت وحيدتي...

والجو يصفر من قعودي في الهوا... ما فيه خل يكون عنيدتي...

والبق والناموس حولي عسكر... يتفاتلون على شريب دميمتي...

والفار يلعب في الزوايا دائماً... وينط كالقعقاع فوق كويرتي...

والعنكبوت يحوك حلة خيمة... يصطاد ذبابا تجوز كويتي...

والأكل خبز مثل رأسي يابس... والشرب مر من دخيل بليدتي...

وسماع نغماتي طنين بعوضة... وصرير صرصرة وصفر بويمة...

فوددت تعنيق الفويرة كلما... نطت لأنك مثلها في الخفة...

وحسدت أيدي لعنكبوت لشبهها... بأصابع لك شبهها في الرقة...

وطربت من صوت الصراصر نغمة... إذ اشبهت نغمات صوت حبيبتي...

فبكيت شوقاً حيث لا أنت معي... تتنعمين تنعمي في غرفتي

وقال آخر:

أرى كل معشوقين غيري وغيرها... يلدان في الدنيا ويغتبطان...

وأمشي وتمشي في البلاد كأننا... أسيران للأعداء مرتهنان...

أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها... لي الويل مما يكتب الملكان...

ضمنت لها أن لا أهيم بغيرها... وقد وثقت مني بغير ضمان...

ألا يا عباد اللّه قوموا لتسمعوا... خصومة معشوقين يختصمان...

وفي كل عام يستجدان مرة... عتاباً وهجراً ثم يصطلحان...

يعيشان في الدنيا غريبين أينما... أقاما وفي الأعوام يلتقيان

نهض رجل، وقام في وسط الحلقة يصيح بتواجد (1):ظظظ

ملك أنا.. لو تصبحين حبيبتي

لا تخجلي مني.. فهذي فرصتي

أغزو الشموس مراكباً وخيولا

لأكون رباً، أو أكون رسولا.

كان هؤلاء العاشقون منشغلين تماما عن كل ما حولهم، فلذلك لم يلتفتوا إلينا، ولم يلتفتوا إلى ما حولهم من مراعي مجذبة، وحيوانات هالكة، وديار قد تحولت قفرا ليس فيها سكن لأحد.

-\--\-

بعد أن يئست أن أجد قلبا منسجما مع العقل ومتصالحا معه في تلك البوادي سرت نحو بلاد أكثر تحضرا.. وقلت لنفسي: إن هؤلاء البدو الذين مرغوا قلوبهم في رمال الصحراء أقل شأنا من أن أسلم قلبي لما سلموا له قلوبهم.

وقلت لنفسي: ما أحقر أن تعيشي أمة عند من يسومك سوء العذاب، ثم لا تنالين بعد ذلك

__________

(1) هذه الأبيات لنزار قباني.

سلام للعالمين (131)

إلا الجنون.

كان أول من التقيت به في تلك البلاد المتحضرة امرأة بين الشباب والكهولة، رأيتها تبكي بحرقة لا تقل عن حرقة عروة وقيس وكل من مررت بهم من أهل الهوى.. اقتربت منها، وسألتها عن عدوها الذي أجرى دموعها، فقالت: ومن غيره.. إنه الحب.. أو هو الوهم الذي سكن قلبي، فدمره، ودمر معه كل حياتي.

قلت: لقد مررت بقوم من الناس يستلذون الحب، فكيف نفرت منه؟

قالت: وكيف لا أنفر من السراب الذي يحسبه ظمآن ماء، فإذا جاءه لم يجده شيئا؟

قلت: حدثيني عن شأنك.. فإن لي قلبا خاويا، وأنا أبحث عمن يملؤه.

قالت (1): أنا ـ كما تراني ـ فتاة في التاسعة والعشرين من عمري، تعرفت على شاب أثناء دراستي الجامعية.. وكانت الظروف كلها تدعونا لكي نكون معاً رغم أنّه ليس من بلدي.. تفاهمنا منذ الوهلة الأولى.. ومع مرور الأيام توطدت العلاقة بحيث أصبحنا لا نطيق فراقاً.

قلت: هو الحب إذن؟

قالت: بل هو الوهم..

قلت: كيف ذلك؟

قالت: بعد انتهاء الدراسة عاد إلى بلده، وعدت إلى أسرتي، واستمر اتصالنا عبر الهاتف والرسائل، ووعدني بأنه سيأتي لطلب يدي عندما يحصل على عمل، وبالطبع وعدته بالانتظار.. لم أفكر أبداً بالتخلي عنه رغم توفر فرص كثيرة لبدء حياة جديدة مع آخر.

عندما حصل على عمل اتصل بي ليخبرني أنه آت لطلب يدي، وفاتحت أهلي بالموضوع، وأنا خائفة من رفضهم، ولكنهم لم يرفضوا.. سألني أبي فقط إن كان أحد من أهله سيأتي معه، ولمّا سألته عن ذلك تغير صوته، وقال: إنه قادم في زيارة مبدئية.. شيء ما بداخلي أقنعني بأنه لم يكن

__________

(1) ما سنذكره هنا من حكايات (بتصرف) من كتاب (وهم الحب)، لمحمد بن عبد العزيز المسند.

سلام للعالمين (132)

صادقاً.. وأتي بالفعل، وليته لم يأت، لأنه عاد إلى بلده وانقطعت اتصالاته، وكلّما اتصلت به تهرب منّي، إلى أن كتبت له خطاباً، وطلبت منه تفسيراً، وجاءني الردّ الذي صدمني، قال: (لم أعد أحبك، ولا أعرف كيف تغيّر شعوري نحوك، ولذلك أريد إنهاء العلاقة)

أدركت كم كنت مغفلة وساذجة لأنني تعلقت بالوهم ستّ سنوات.. ماذا أقول لأهلي؟ أشعر بوحدة قاتلة، وليست لدي رغبة في عمل أي شيء.

قالت ذلك، ثم انصرفت إلى دموعها.. وكأنني لم أحدثها، ولم تحدثني..

-\--\-

لم أسر إلا قليلا حتى رأيت أختا لها، ولكنها أقل منها عمرا، سألتها عن نفسها، فقالت: أنا فتاة في العشرين من عمري، لم أكن أؤمن بشيء اسمه الحبّ – وما زلت – ولا أثق مطلقاً بأي شاب، بل كثيراً ما كنت أنصح صديقاتي وأحذرهن من فخاخ الحبّ الزائف الذي لم أستطع أن أمنع نفسي من الوقوع فيه.. نعم، وقعت فيه..

كان ذلك في مكان عام.. شاب يلاحقني بنظراته، ويحاول أن يعطيني رقم هاتفه، فخفق قلبي له بشدة، وشعرت بانجذاب إليه، وأنه الفارس الذي ارتسمت صورته في خيالي ورأيته في أحلامي.. وكأنه قد لاحظ مدى خجلي وتردّدي، فأعطى الرقم لصديقتي، وأخذته منها والدنيا لا تكاد تسعني، واتصلت به، وتعارفنا، وتحدثنا طويلاً.. فكان مهذّباً جداً، وكنت صريحة وصادقة معه.

وشيئاً فشيئاً صارحني بحبه، وطلب مني الخروج معه.. رفضت في البداية، وأفهمته أني لست مستعدة لفقد ثقة أهلي، والتنازل عن مبادئي وأخلاقي التي تمنعني من تجاوز الحدود التي رسمتها لنفسي.. لكنه استطاع إقناعي، ويبدو أن الحبّ أعماني فلم أميّز الصحّ من الخطأ.. وخرجت معه، فكانت المرّة الأولى في حياتي، وصارحته برأيي فيه وفي أمثاله من الشباب، فلم يعجبه كلامي، وسخر مني، بل اتهمني بتمثيل دور الفتاة الشريفة، وأشبعني تجريحاً، وكان اللقاء

سلام للعالمين (133)

الأول والأخير، فقد قررت التضحية بحبّي من أجل كرامتي، ولكنه احتفظ بكتاب يتضمن أشعاراً ومذكرات لي كتبتها بخطي، ووقعتها باسمي، وقد رفض إعادتها لي..

قالت ذلك، ثم انصرفت إلى بكائها..

-\--\-

تركتها، وسرت حتى التقيت ثالثة سمعتها تحدث نفسها، وتقول: (الأحلام تبقى أمامي، والأوهام تنبت في قلبي، والكلمات التي اخترتها لا تُكتب، لكنها توجد في فكري وأحاسيسي، حكاية فيها كل المعاناة التي أعيشها اليوم، منذ أن افتقدت الثقة، ومنذ أن أصبح الحبّ وهماً ومأساة أهرب منها أو أتجاهلها.. الحبّ لا يعترف بالحذر أو الخوف منه، فإما أن تطرق أبواب الحبّ وتوهم نفسك أنك تحبّ، وإما أن تهرب منه أو تتجاهله)

-\--\-

تركتها، وسرت حتى التقيت رابعة، سمعتها تقول لصاحبتها بلوعة وحزن: إياك أن تغتري بهذا الوهم، فهو لم يجلب للقلوب إلا الدمار، ولم يجلب للبيوت إلا الخراب.

قالت صاحبتها: أراك تذمين ما أجمع الكل على حمده.

قالت: كلهم يحمده في البداية، ولكنه سرعان ما يبدو لهم عواره.. اسأليني أنا.. لقد كتب لقلبي أن يقع أسيرا في شباكه، وكتب أن ينال في ذلك الأسر من الألم ما لم يذقه أعتى عدو لعدوه.

سأقص عليك قصتي لتكون عبرة لك.. في ذلك اليوم المشأوم اتصلت بالهاتف بإحدى صديقاتي، ورد علي أخوها، وجذبني إليه رقّة حديثه، بعدها وجدتُ نفسي مشدودة للتفكير فيه، والتعلق به.. وتكرر الاتصال، وتعمدت اختيار الأوقات التي لا تكون صديقتي موجودة فيها.. وتواعدنا على الزواج.

وفجأة.. لاحظت تهربه من الحديث معي، وانقطعت اتصالاته بي.. حاولت بأسلوب غير مباشر التعرف على أسباب هذا التحول، دون فائدة.. وأخيراً وبطريق الصدفة أخبرتني صديقتي

سلام للعالمين (134)

أن أخاها قد وقع اختياره على إحدى القريبات، وسيتم زفافهما قريباً..

أصابتني دهشة أفقدتني توازني وقدرتي على الرد عليه.. وفقدت بعدها الثقة في نفسي وفي كل من حولي.. تقدم لي الكثيرون ولكنني رفضتهم جميعاً دون أي مبرر..

العمر يتقدم بي، لكني عاجزة عن نسيان هذا الجرح القديم، الذي تمكن مني لدرجة كبيرة بدأت تثير شكوك أهلي تجاهي، ولا أدري كيف أتخلص مما أنا فيه.

-\--\-

لم أسر إلا قليلا حتى وجدت رجلا يحادث آخر، يشكو إليه بمرارة، ويقول في شكواه: (.. بسبب ظروف عملي سكنت بعيداً عن زوجتي وأولادي، وكنت أسافر إلى بيتي يومين في الأسبوع، وأحياناً يوماً واحداً.. كنت أحبّ زوجتي كثيراً، وكانت هي كذلك، إلا أن ضعف مرتبي حال بيني وبين إحضارها للإقامة عندي..

وفي ليلة من الليالي اتصلت فتاة تريد التعرف بي، فرفضت ذلك، وأفهمتها بأني متزوج ولدي أطفال، وقمت بإقفال السماعة في وجهها، وما كان منها إلا أن أصرت على محادثتي والتعرف علي، ومن تلك اللحظة أصابني صداع لم يفارقني تلك الليلة، وفي اليوم التالي اتصلت بي، فرد عليها أحد زملائي فلم تكلمه، ثم ردّ عليها الثاني والثالث، فلم ترد إلا أنا، وفي ساعة متأخرة من الليل اتصلت، ولم يكن غيري، فرفعتُ سماعة الهاتف، وزيّن لي الشيطان محادثتها، وتعرفت عليها، ويا ليتني لم أفعل، فلقد زلزلت كياني، وزرعت طريقي أشواكاً، بل لقد فرقتني عن زوجتي وأولادي، فلم يعد لهم في قلبي من الحبّ مثل ما كان قبل ذلك، كان فكري في ذلك الشيطان الذي تمثل لي في صورة تلك الفتاة، فقدت أعصابي مع زوجتي وأولادي، أثور عليهم لأدنى سبب، بسبب تلك الفتاة التي زرعت المرض والخوف في أعماقي.. حاولت أن أقاطعها فلم أقدر.. كانت تلعب بأعصابي كثيراً.. نسيتُ حتى عملي من كثرة السهر، ومع ذلك أصابني الاكتئاب النفسي، وذهبت إلى عيادة الأمراض النفسية، وأعطوني أقراصاً فلم ينفع معي أي علاج)

سلام للعالمين (135)

-\--\-

تركته، فلم أسر إلا قليلا حتى سمعت شابة صغيرة تقول لصاحبتها: (لقد كنت متفوقة في دراستي، لكني أحببت أحد المشاهير بشكل جنوني، فملأت بصوره الكبيرة حجرتي، ودسست صوره الصغيرة في كل كتبي، وكنت أحلم دائماً بلقائه، وأثور إذا تحدثت عنه زميلاتي.. بدأ مستواي الدراسي في الانحدار بسبب هذا الحبّ الجنوني، لدرجة أني أخشى من الاستمرار في الانحدار، وفي نفس الوقت لا أستطيع التغلب على مشاعري، وأشعر بأنني وحدي في مشكلة تهدد مستقبلي، ولا أستطيع مصارحة أحد بها..

-\--\-

تركتها تهذي بهذا الهذيان، وسرت نحو بلاد أخرى أكثر تحضرا، بحثا عن القلب الذي ينسجم مع العقل ومع كل اللطائف التي أودعها الله في.. وهناك فرحت كثيرا.. لقد تصورت أني قد وجدت غايتي، فقد وصلت في يوم يقال له (يوم الحب) (1)، وقد رأيت فيه الورود المتناثرة،

__________

(1) أو (عيد الحب)، أو (عيد العشاق)، أو (الفالنتاين)، وقد تعود الغرب على الاحتقال به في في الرابع عشر من شهر فبراير (شباط) من كل عام.. وفي هذا اليوم عادة ما يتبادلون التهاني والورود الحمراء ويرتدون الملابس ذات اللون الأحمر، وتقام الحفلات الراقصة الماجنة..

ويرجع أصل هذا العيد إلى الرومان الوثنيين، فقد كان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالا كبيرا، وكان من مراسيمه أن يذبح فيه كلب وعنزة، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة، ثم يغسلان الدم باللبن، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات، ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما، وكان النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطمات مرحبات، لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه.

بالإضافة إلى هذا، فقد ارتبط عيد الحب بالقديس فالنتين، والذي توفي في روما إثر تعذيب القائد القوطي (كلوديوس) له حوالي عام 296 م، وبنيت كنيسة في روما في المكان الذي توفي فيه عام 350 م تخليدا لذكره.

ولما اعتنق الرومان المسيحية أبقوا على الاحتفال بعيد الحب السابق ذكره، لكن نقلوه من مفهومه الوثني (الحب الإلهي) إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلا في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي استشهد في سبيل ذلك حسب زعمهم. وسمي أيضا (عيد العشاق) واعتبر (القديس فالنتين) شفيع العشاق وراعيهم.

وكان من اعتقاداتهم في هذا العيد أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق، وتوضع في طبق على منضدة، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر، ثم يتزوجان، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضا

وقد ثار رجال الدين المسيحيين على هذا التقليد، واعتبروه مفسدا لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا التي كان مشهورا فيها، لأنها مدينة الرومان المقدسة، ولا يعلم على وجه التحديد متى تم إحياؤه من جديد. فالروايات النصرانية في ذلك مختلفة، لكن تذكر بعض المصادر أن الإنجليز كانوا يحتفلون به منذ القرن الخامس عشر الميلادي. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين انتشرت في بعض البلاد الغربية محلات تبيع كتبا صغيرة تسمى (كتاب الفالنتين) فيها بعض الأشعار الغرامية ليختار منها من أراد أن يرسل إلى محبوبته بطاقة تهنئة وفيها مقترحات حول كيفية كتابة الرسائل الغرامية والعاطفية. (انظر: الموسوعة الحرة، وغيرها)

وللأسف، فقد غزا هذا العيد ديار المسلمين ليصدق ما ورد في الحديث من قوله (: (لتتبعن سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) (رواه البخاري ومسلم)

سلام للعالمين (136)

والقلوب المتضامة، ولم أر فيه قطرة دمع واحدة، ولا مجنونا واحدا، فقلت لقلبي: في هذه البلاد سوف تقيم.. وفي هذه البلاد ـ التي لا تمتلئ بغير الورود ـ سوف تمتلئ بالهوى الممتلئ بالسلام والسكينة والسعادة.

لقد بقيت أحمل هذه الفكرة الجميلة إلى المساء.. لم تعش معي هذه الفكرة إلا تلك السويعات من الصباح إلى المساء.. ثم عدت بعدها إلى آلامي.

قلنا: كيف كان ذلك؟ ولم كان ذلك؟

قال: في المساء.. وعندما ذبلت تلك الورود، وذهب عنها عطرها الذي كانت تختال به، وذهب عنها بريق جمالها الذي كانت تحل بسببه أشرف المواقع.. وبعدما رميت تلك الورود وديست بالأقدام رأيت من دلني على ما كان يحمله ذلك الحب أو ذلك السراب من قنابل الصراع.

كان أول من التقيت امرأة، لا تبكي بدموعها، ولكن قلبها يكاد يحترق.. عندما رأيتها رحمتها، فقد رأيت جميع أحزان العالم تختزن في مقلتيها اللتين شحتا بالدموع، فاقتربت منها،

سلام للعالمين (137)

وسألتها عن سرها، فقالت: إنني فتاة لا تستحق الرحمة أو الشفقة.. لقد أسأت إلى والدتي وأخواتي، وجعلت أعينهم دوماً إلى الأرض، لا يستطيعون رفعها خجلاً من نظرات الآخرين.

كل ذلك كان بسببي.. لقد خنت الثقة التي أعطوني إياها بسبب ذلك الحب اللعين.

بسبب ذلك الإنسان المجرد من الضمير، الذي أغراني بكلامه المعسول، فلعب بعواطفي وأحاسيسي حتى أسير معه في الطريق السيء..

وبالتدريج جعلني أتمادى في علاقتي معه إلى أسوأ منحدر.. كل ذلك بسبب الحب الوهمي الذي أعمى عيني عن الحقيقة، وأدى بي في النهاية إلى فقدان أعز ما تفخر به الفتاة، ويفخر به أبواها، عندما يزفانها إلى الشاب الذي يأتي إلى منزلها بالطريق الحلال..

لقد أضعت هذا الشرف مع إنسان عديم الشرف، إنسان باع ضميره وإنسانيته بعد أن أخذ مني كل شيء، فتركني أعاني وأقاسي بعد لحظات قصيرة قضيتها معه..

لقد تركني في محنة كبيرة بعد أن أصبحت حاملاً.. وآنذاك لم يكن أحد يعلم بمصيبتي سوى الله.. وعندما حاولت البحث عنه كان يتهرب مني، على عكس ما كان يفعله معي من قبل أن يأخذ ما يريد.. لقد مكثت في نار وعذاب طوال أربعة أشهر، ولا يعلم إلا الله ما قاسيته من آلام نفسية بسبب عصياني لربي، واقترافي لهذا الذنب.. ولأن الحمل أثقل نفسيتي وأتعبها.. كنت أفكر كيف أقابل أهلي بهذه المصيبة التي تتحرك في أحشائي؟.. فوالدي رجل ضعيف، يشقى ويكد من أجلنا، ولا يكاد الراتب يكفيه.. ووالدتي امرأة عفيفة، وفرت كل شيء لي من أجل أن أتم دراستي لأصل إلى أعلى المراتب.

لقد خيبت ظنها، وأسأت إليها إساءة كبيرة لا تغتفر، لا زلت أتجرع مرارتها حتى الآن..

إن قلب ذلك الوحش رقّ لي أخيراً حيث ردّ على مكالمتي الهاتفية بعد أن طاردته.. وعندما علم بحملي، عرض على مساعدتي في الإجهاض وإسقاط الجنين الذي يتحرك داخل أحشائي..

سلام للعالمين (138)

كدت أجنّ.. لم يفكر أن يتقدم للزواج مني لإصلاح ما أفسده (1).. بل وضعني أمام خيارين: إما أن يتركني في محنتي، أو أسقط هذا الحمل للنجاة من الفضيحة والعار..

ولمّا مرت الأيام دون أن يتقدم لخطبتي، ذهبت إلى الشرطة لأخبرهم بما حدث من جانبه، وبعد أن بحثوا عنه في كل مكان وجدوه بعد شهرين من بلاغي، لأنه أعطاني اسماً غير اسمه الحقيقي.. لكنه في النهاية وقع في أيدي الشرطة، واتضح أنه متزوج ولديه أربعة من الأولاد، ووضع في السجن.

وعندما علمت أنه متزوج أدركت كم كنت غبية عندما سرت وراءه كالعمياء..

ولكن ماذا يفيد ذلك بعد أن وقعت في الهوة السحيقة التي جعلتني أتردى داخلها؟!

لقد ظن أنني ما زلت تلك الفتاة التي أعماها كذبه، فأرسل إلي من سجنه امرأة تخبرني بأنني إذا أنكرت أمام القاضي أنه انتهك عرضي فسوف يتزوجني بعد خروجي من السجن.. لكني رفضت عرضه الرخيص.

قلت: فماذا تفعلين الآن؟

قالت: لقد رجعت إلى بيتي، واتخذتها سجني.. وها أنا قابعة فيه لا أكلم أحداً، ولا يراني أحد، بسبب تلك الفضيحة التي سببتها لأسرتي، فأهدرت كرامتها، ولوثت سمعتها النقية..

لقد أصبح والدي كالشبح يمشي متهالكاً يكاد يسقط من الإعياء.. بينما أصبحت أمي هزيلة ضعيفة، تهذي باستمرار، وسجنت نفسها بإرادتها داخل المنزل خشية كلام الناس ونظراتهم.

-\--\-

تركتها لأسمع أخرى، وهي تقول: أنا فتاة جامعية.. أحببت شاباً بكل معنى الكلمة.. واخترته حبيباً لقلبي ورفيقاً لدربي بموافقة ومباركة الأهل، وفيما كنا نقوم بالاستعداد للزواج فوجئنا باعتراضات رسمية، وعقبات وهمية، حالت دون إتمام فرحتنا، لكننا لم نستسلم، فحاولنا

__________

(1) ذكرنا الحلول الشرعية المرتبطة بهذه الحالة في سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

سلام للعالمين (139)

التغلب عليها، وضحينا بالكثير دون جدوى، ولم نفقد الأمل رغم وصولنا إلى طريق مسدود.

واستمرت اللقاءات والاتصالات بيننا، وفي ذات يوم نسينا أنفسنا في غمرة الحب، فكان الشيطان ثالثنا..

ومن هنا بدأت المشكلة أو المأساة الكبرى، فبدلاً من تصحيح غلطته أو غلطتنا، فوجئت به يتهمني زوراً وظلماً بأبشع التهم، ويزعم ويدعي بأني لم أكن عذراء، واتخذ من ذلك حيلة للتهرب من المسؤولية، وتصحيح غلطة فظيعة ارتكبناها في لحظة طيش.

كيف يمكن أن يحدث لي هذا، ولم يمسسني أحد غيره، وقد أقسمت له أني لم أعرف رجلاً قبله ولا بعده، وبكيت أمامه، وتوسلت إليه ألا يتخلى عني، فواعدني خيراً، وعاد يؤكد حبه لي.

وكثرت اللقاءات بيننا، وكنت أحرص خلالها على عدم إغضابه، وكان هو الآمر الناهي، والقاضي والجلاد، ثم بدأ يتهرب مني، وينتحل الأعذار، وأخيراً طال غيابه وانقطعت أخباره، فأدركت أنني كنت الجانية على شرفي والضحية، وأنني قد حكمت على نفسي بالإعدام.

لقد صبرت، وانتظرت بما فيه الكفاية، ورفضت عشرات الشبان خوفاً من افتضاح أمري فتكون نهايتي.

قالت ذلك، ثم غرقت في دموعها، ولم أتبين منها سوى ما ذكرته لكم.

-\--\-

سرت إلى بلاد أخرى.. فصادف دخولي إليها رؤيتي لمنظر بشع لا زال يلح كل حين على ذاكرتي.

قلنا: وما رأيت؟

قال: لقد رأيت فتاة صبت على نفسها البنزين، ثم أسرعت إلى رجل كان قريبا منها، ثم عانقته، ثم أشعلت عود الثقاب، فاحترقا جميعا، ولم يستطع الجمع المحيطين بهما أن يفعلوا شييئا.

قلنا: عجبا.. لم فعلت هذا؟

سلام للعالمين (140)

قال: لقد سألت المحيطين بها، وقد أخبروني أن سبب ذلك هو الحب.. فقد تخلى حبيبها عنها، وارتبط بأخرى.. وكانت قبل ذلك قد حبست نفسها في غرفتها بمنزلها مدة ثلاثة أيام متتالية..

وقد قالت لي إحدى جاراتها: إن هذه الشابة المسكينة لم تتوقف عن البكاء طيلة تلك الفترة، وقد حاولت مواساتها، لكنها ردت علي بأنها قد رتبت لقاءً أخيراً مع حبيبها الذي ألحق بها ضرراً بالغاً.. وتم اللقاء الأخير الذي تحول إلى مواجهة عنيفة بينهما، ثم دخلا في مشادة كلامية حادة، وعندها توجهت الفتاة إلى مكان قريب، وتناولت وعاء مليئاً بالبنزين، فصبته على جسدها أمام حشد من الناس، وأشعلت النار، وقد حاول (الحبيب) منعها، لكنها انقضت عليه وهي تشتعل ناراً، واحتضنته بكل ما أوتيت من قوة ليحترقا جميعاً..

-\--\-

ما سرت إلا قليلا حتى رأيت شابا يطلق الرصاص على امرأة كانت بجانبه، ثم يطلق النار على نفسه بعدها، فسألت عنهما، فقالوا: لقد عاش هذا الشاب في السنوات الأخيرة قصة عاطفية لم تُكتب لها نهاية سعيدة بعد أن اصطدمت ببعض المعوقات، بحسب رسالة تركها المنتحران بخط يديهما، قالا فيها: إنهما أقدما على الانتحار بكامل إرادتهما وقواهما العقلية.

ثم سمعت بعدها بطيار فضل الانتحار ومعه جميع الركاب، حين علم بوجود رجل على متن الطائرة التي يقودها كان قد انتزع منه فتاة يحبها على الرغم من اعتراضه سلفاً على وجوده في الطائرة، فما كان منه إلا أن قاد حفلة موت جماعية ذهب ضحيتها جميع الركاب.

ثم سمعت بامرأة وضعت السم لزوجها قبل زفافهما بيوم واحد حتى تتمكن من الزواج بشاب آخر تحبه منذ فترة طويلة.. وكان العريس قد توجه إلى منزل عروسه ليعرض عليهم كروت الدعوة لحفل الزفاف، فقدمت له العروس كوب شاي مسموم، وفور خروجه من المنزل سقط على الأرض، واكتشف الأطباء أنه مات مسموماً.

-\--\-

سلام للعالمين (141)

بعدها سرت إلى إيطاليا، وبالضبط إلى مدينة فيها يقال لها (فيرونا)، وهناك قدر الله لي أن أعيش أحداث مأساة روميو وجولييت.. لعلكم سمعتم بها.

قلنا: حدثنا عنها.

قال: قصتهما طويلة.. لقد حاول شكسبير بما أوتي من قوة قريحة أن يعبر عنها.. لكنه في الحقيقة لم يعبر إلا عن الظواهر التي رآها أو التي حاول أن يراها.. أما الحقيقة.. والتي ذقت مثلها.. فأعظم من أن يعبر عنها.

لقد كان روميو وجوليت مثالا عن الصراع الذي يعانيه أصحاب القلوب.. أصحاب القلوب الذين غمسوا قلوبهم في الطين المدنس..

قلنا: لقد شوقتنا، فحدثنا.

قال: لقد كانا شابين من فيرونا في إيطاليا، وقد وقعا ضحية عداء مرير بين عائلتيهما، عائلة مونتاجيو وعائلة كابيوليت.. وقد التقى روميو، وهو من عائلة مونتاجيو، بجولييت وهي من عائلة كابيوليت، في حفلة تنكرية أقامتها عائلة كابيوليت.. وحضر روميو تلك الحفلة بالرغم من أنه لم يُدْعَ هو ورفاقه إليها.. وفي تلك الحفلة صلي روميو بنار جولييت، وصليت جولييت بنار روميو.

وقد تزوج العاشقان في اليوم التالي سرًا بمساعدة الراهب لورانس، ولدى عودة روميو من حفل زواجه التقى بابن عم جولييت، واسمه تايبولت.. وقد تحرش هذا بروميو محاولاً الدخول في قتال معه، لكن روميو رفض قتاله، وهب صديق روميو واسمه ميركوشيو، وقبل التحدي دفاعًا عن شرف عائلة مونتاجيو، وعندما حاول روميو التدخل لفض النزاع، قام تايبولت بطعن ميركوشيو حتى الموت، مما يدفع روميو إلى قتل تايبولت، وأسفر ذلك عن إبعاد روميو عن فيرونا.

وفي أثناء ذلك حاول والد جولييت إجبارها على قبول الزواج من ابن عمها باريس، دون أن يدري بأنها متزوجة من روميو، لكن الراهب لورانس قام بإعطائها عقارًا يجعلها في حالة نوم

سلام للعالمين (142)

تشبه الموت لمدة أربع وعشرين ساعة من أجل مساعدتها على التخلص من ضغوط والدها عليها بالزواج، ثم أرسل الراهب إلى روميو رسالة في منفاه يوضح له فيها ما فعل، لكن رسالته وصلت متأخرة حيث سارع روميو إلى قبر جولييت، وتجرع سمًا واستلقى إلى جانبها في القبر، وعندما استيقظت جولييت ووجدت زوجها ميتًا إلى جانبها، طعنت نفسها وماتت هي الأخرى.

هذه هي قصة روميو وجولييت الظاهرة.. أما قصتهما الباطنة، فلا يطيق التعبير عنها إلا من ذاق من ذلك الحب ما ذقت، وما ذاقه كل العشاق.

السلام

قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق.. انتظرناه برهة، فلما لم يستأنف حديثه قلنا له: لقد حدثتنا عما رأيت، فحدثنا عما حصل لك.

قال: كل ما رأيتم من آلام حصل لي.. لقد كان الكل معبرا عني..

بعد أن قطعت كل تلك المفاوز شاء الله لقلبي أن يمتلئ بحب غانية من الغواني أذاقته من الهوان، ومن المراراة، ومن ذلة الاستعباد، ما لم أر مثله في حياتي..

قلنا: فهل ظفرت بها؟

قال: وهل يمكن لأحد أن يظفر بالسراب؟.. لقد صدق من نصحني.. ولكني لم أنتصح.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تفارقها بعد كل تلك المحبة التي وصفت؟

قال: لم أفارقها أنا.. بل هي التي فارقتني.. لقد باعتني بثمن زهيد من متاع الدنيا.. فارقتني لتترك قلبي مملوء بحسرات لا يمكن لأحد في الدنيا أن يتحملها.

قلنا: فماذا فعلت؟

قال: لقد رحت أفعل ما فعل كل العشاق.

قلنا: تقصد الانتحار؟

سلام للعالمين (143)

قال: لم يعد للحياة معنى بعدها.. لقد كنت أصبح متألما، وأمسي متألما.. إلى أن عجز جسدي عن تحمل الألم، فراح يطالبني بالخلاص.

قلنا: فماذا فعلت؟

قال: لقد حفرت قبرا.. ورقدت فيه.. وهممت بشرب ما استحضرت من أدوية الموت.. لكني ما إن هممت حتى سمعت صوتا في المقبرة يردد بلحن عذب، فيه من ألحان العشق ما تعودت سماعه، لكنه يختلف عنها جميعا.. لقد كان مملوءا بالقوة والعزة والجمال.. وفوق ذلك كله بالسلام الذي لم أر له وجودا مع أي حب عشته أو رأيته.. لقد كان ذلك الصوت يقول:

كانت لقلبي أهواء مفرقةٌ...

فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي...

فصار يحسدني من كنت أحسده...

وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي...

تركت للناس دنياهم ودينهم...

شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي

ثم يقول بعدها متغنيا بصوت شجي متحدثا عن تأثير تلك المحبة العميقة العظيمة:

وإنْ خَطَرَتْ يَوماً على خاطِرِ امرِئٍ...

أقامَتْ بهِ الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ...

ولو نَضَحوا مِنها ثَرى قَبْرِ مَيتٍ،...

لعادَتْ إليهِ الرُّوحُ، وانْتَعَشَ الجسْم...

ولو طَرَحوا في فيءِ حائِطِ كَرْمِها،...

عليلاً، وقد أشْفى، لفارَقَهُ السّقَمُ

ولو قَرَّبوا، من حانِها، مُقْعَداً مَشى...

وتِنْطِقُ مِن ذِكرِى مَذاقَتِها البُكْمُ...

ولو عَبِقَت في الشَّرْقِ أنْفاسُ طيبها،...

وفي الغَرْبِ مَزْكومٌ، لَعادَ لهُ الشم...

ولو خُضِبتْ، مِنْ كأسِها، كفّ لامِسٍ...

لَما ضَلّ في ليلٍ، وفي يَدِهِ النَّجمِ...

ولو جُلِيَتْ، سِرّاً، على أكمَهٍ غَدا بَصيراً،...

ومِن رَاوَوقِها تَسمعُ الصّمّ...

ولو أنّ ركْباً يَمّمَوا تُرْبَ أرْضِها،...

وفي الرَّكبِ مَلْسوعٌ، لما ضَرّهُ السّمُ...

ولو رَسَمَ الرّاقي حُرُوفَ اسمِها،...

على جَبينِ مُصابٍ جُنَّ، أبْرَأَهُ الرَّسمُ

رميت ما كان معي من أدوية الموت، ورحت أسرع إلى مصدر الصوت، وأنا أصيح: هذا ما أبحث عنه، فأين أجده؟

قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ((البقرة:115)

قلت: ما تقصد؟

قال: كل من غاب عنه حبيبه اهتم، وكل من فارقه حبيبه تألم، وكل من قاطعه حبيبه انقطع.

قلت: أعرف ذلك.. وقد صليت بناره.. ولم آت إلى هنا إلا بسببه.

قال: فابحث عن الحبيب الذي لا يغيب ولا يفارق ولا يقاطع.. وابحث عن المحبة التي لا تورثك إلا العزة والخلود والكمال والجمال.

سلام للعالمين (144)

قلت: وأين أجدها؟

قال: لقد قلت لك: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ((البقرة:115)

قلت: وما علاقة ذلك بهذا؟.. إن ما قرأته يتحدث عن الله.

قال: وهل هناك أحد يمكن أن يتشرف القلب ويتقدس بمحبته غير الله؟

قلت: الله يعبد.

قال: أعظم عبودية توجه لله هي محبته.. فلا خير في الحركات التي لا تصحبها المحبة.. إنها لا تكاد تختلف عن النفاق والرياء والخداع.

قلت: لقد جربت الحب، وذقت من آلامه ما رماني في هذه المقبرة.. ولولا تلك الأبيات التي سمعتها منك لكنت الآن في الموتى.

قال: ذلك هو الحب المدنس.. إنه لا يرميك إلا للمقابر أو مارستانات المجانين.. لأنه حب يبدأ بالصراع، وينتهي بالصراع.

قلت: الصراع!؟

قال: أجل.. كل محب يريد أن يستولي على قلب محبوبه، ويستأثر به.. فإذا ظفر به سامه من ألوان العذاب ما لعلك رأيت بعضه.

قلت: وهل هناك حب مقدس؟

قال: أجل.. وهو حب واحد.

قلت: حب من؟

قال: حب الواحد.. فحب كل ما عداه داء وألم..

قلت: إني أشعر بجمال ما تقول.. لكن ذهني لا يزال كليلا دون فهمه.

قال: يحق لك أن لا تفهم هذا.. فمن الصعب على من ارتمى في دنس الأدناس أن يترقى إلى

سلام للعالمين (145)

قدس الأقداس.

قلت: أنت تعيدني إلى اليأس إذن؟

قال: لا.. بل أنا أنشر فيك الهمة.. فلا يمكن لمنحط الهمة أن يطمع في مثل هذا الحب.

قلت: وما علاقة الهمة بهذا؟

قال: صاحب الهمة العالية يترفع أن يسلم قلبه لأي كان.. إنه يبحث عن المحل المناسب له.. لقد حدث بعض العارفين، وكان اسمه بشر بن الحارث قال: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد، ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال: فزعق زعقة خرّ ميتاً..

قلت: لكني تعودت أن لا أحب إلا من أرى.

قال: والله لا يغيب عن المحبين أبدا.. إن لم يروه بالأبصار المدنسة بدنس التبشبيه، رأوه بالبصائر المقدسة بأنوار التنزيه..

قلت: لقد ذكرت لك أني أشعر بجمال كلماتك.. ولكن عقلي لا يزال كليلا دون فهمه.. فهلا انتقلت من الترقيق إلى التحقيق.

قال: لك ذلك.. فهذا هو الحب الوحيد الذي ينسجم فيه العقل مع القلب مع النفس.. ومع جميع اللطائف التي يتكون منها بنيان الإنسان.

قلت: من السهل عليك أن تقول هذا.

قال: ومن السهل علي أن أثبته لك.

قلت: إنك أن أثبته لي لم تخلصني أنا فقط.. بل ستخلص العالم أجمع.. هذا العالم الأسير لقلبه.

قال: لاشك أنك مررت في برية الحب المدنس بالمرضى والمجانين والحزانى والغافلين والمتوهمين والمنحرفين والقتلة..

سلام للعالمين (146)

قلت: لكأنك كنت معي في رحلتي.

قال: لم أكن معك بجسدي.. ولكن حقيقتي كانت معك.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد كنت أنا كل أولئك.. لقد صليت بجميع نيران الحب المدنس.. إلى أن جاء اليوم الذي حفرت فيه قبرا.. وكدت أسلم نفسي للموت.. ولولا أن الله خلصني بشمس الهداية لكنت الآن في حفرة من هذه الحفر.

قلت: لكأنك تحدثني عن نفسي.

قال: الإنسان واحد.. وسنن الله واحدة.. لقد أبى الله إلا أن يعذب من رغب عنه إلى غيره..

قلت: فما الذي رغبك في هذا الحب الذي تسميه مقدسا؟

قال: أشياء كثيرة.. لا يمكن حصرها.. ولكني سأكتفي بسبعة تقابل تلك السبعة التي صليت بنارها.

قلت: فما هي؟

قال: الصحة.. والعقل.. والفرح.. والحضور.. والحقيقة.. والاستقامة.. والحياة.

الصحة

قلت: فحدثني عن الصحة.. فإن أول ما ينشره الحب في أهله هو تلك الأدواء التي لا يجد صاحبها لها ترياقا.

ابتسم، وقال: لقد عبر شعراؤكم من بني عذرة على ذلك، فقال أحدكم:

الحب داء عضال لا دواء له... يحار فيه الأطباء النحارير...

قد كنت أحسب أن العاشقين غلوا... في وصفه فإذا بالقوم تقصير

قلت: بل منهم من زاد على ذلك، فراح يصيح:

ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا... يذل به طوع اللسان فيوصف...

ولكنه شيء قضى الله أنه... هو الموت أو شيء من الموت أعنف...

فأوله سقم وآخره ضنى... وأوسطه شوق يشف ويتلف...

وروع وتسهيد وهم وحسرة... ووجد على وجد يزيد ويضعف

قال: صدق الشاعر، فالحب في مقياس الحقيقة موت حقيقي، فالروح المسلوبة، الغائبة عن نفسها، الفانية عن وجودها، المستسلمة لهواها روح ميتة.. ولذلك يعتبر العارفون هذه الحال مرضا نفسيا لا يقع فيه إلا ضعاف العقول، قال الغزالي: (ما العشق إلا سعة إفراط الشهوة، وهو مرض قلب فارغ لا هم له)

قلت: سلمت لك بهذا.. فهل يخلو الحب الذي تدعو إليه من هذا؟

قال: أجل..

قلت: أثبت لي ذلك.

قال: ما أول ما ينشر المرض في المحبين؟

قلت: أشياء كثيرة.. منها فراق المحبوب أو إعراضه أو غيابه أو بغضه..

قال: ولذلك كان ذلك الحب مدنسا.. فمن الجنون أن تحب من يفارقك أو يعرض عنك أو يغيب أو يبغض..

قلت: لقد عرفت هذا الجنون في الحب المدنس.. فكيف يخلو المقدس من هذا الدنس؟

قال: أما الفراق.. فإن محب الله لا يعرفه.. فالله لا يغيب أبدا.. بل هو أقرب إلينا من أنفسنا.. لقد قال الله تعالى يذكر قربه من عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة: من الآية 186)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود: من الآية 61)، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ

سلام للعالمين (147)

مُبِينٍ ((يونس:61)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ((قّ:16)، وقال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة:85)، وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: من الآية 7)

وقد روي أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي (، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية 186) (1)

وسأل أصحاب رسول الله (النبي (: أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية 186 ((2)

وعن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله (في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: (يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله) (3)

سكت قليلا، ثم قال: لقد قال العارفون الذين ذاقوا لذة هذا القرب يعبرون عن هذا:

ومن عجب أني أحن إليهم...

وأسأل عنهم من أرى وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها...

ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

وقال الشبلي: رأيت جارية حبشية فقلت: من أين؟ قالت: من عند الحبيب قلت: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب قلت: ما تريدين من الحبيب؟ قالت: الحبيب.

قلت: والإعراض!؟

فمن البليةِ أن تح... بَ ولا يحبكَ من تحبهْ...

ويصدَّ عنكَ بوجهِه... وتلح أنتَ فلا تغبه

قال: كلهم قد يعرض عنك إلا الله.. فالله الكريم لا يعرض عن عباده، بل يقبلهم، بل إنه يدعوهم بكل الأساليب ليقبلوا عليه، رحمة منه وتفضلا ومودة.. لقد ورد في الأخبار أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: إلهي إني أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فسمع قائلاً يقول ولا يرى شخصاً: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأهملناك وإن رجعت إلينا قبلناك.

وفي الأثر الإلهي من خطاب الله لعباده:

(متى جئتني قبلتك..

إن أتيتني ليلا قبلتك.. وإن أتيتني نهارا قبلتك..

إن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا.. وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا.. وإن مشيت إلى هرولت إليك.

لا تحجبك الخطايا عني، فلو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة.. ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك.

__________

(1) رواه ابن مَرْدُويه، وأبو الشيخ الأصبهاني.

(2) رواه عبد الرزاق.

(3) رواه البخاري ومسلم.

سلام للعالمين (148)

هل هناك من هو أعظم مني جودا وكرما..

عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم.

إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري وأرزق، ويشكر سواي خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي.

من أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن أعرض عني ناديته من قريب ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن أراد رضاي أردت ما يريد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.

أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.

من آثرني على سواي آثرته على سواه الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة عندي بواحدة فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.

أشكر اليسير من العمل وأغفر الكثير من الزلل.

رحمتي سبقت غضبي وحلمي سبق مؤاخذتي وعفوي سبق عقوبتي أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها) (1)

بهذا الحديث الودود وغيره يخاطبنا ربنا، وبهذه العذوبة والجمال يدعونا إليه، ليرفع الحجب التي تحول بيننا وبينه، ويزيل الأعذار التي تعتذر بها عن التقرب إليه.

قلت: والبغض!؟.. إن أخوف ما يخاف المحب أن يبغضه محبه.

قال: لن تلقى من الله إلا المحبة.. فالله هو الودود الذي غمر الأكوان بوده.. ولذلك لا يعرض الله إلا على من أعرض عنه.. ولا يبغض إلا من أبغضه أو أبغض التقرب إليه.

__________

(1) مقتبس من جملة أحاديث بتصرف.

سلام للعالمين (149)

العقل

قلت: عرفت الأول.. فحدثني عن الثاني..

قال: لقد رأيت في برية الحب المدنس المجانين، وهم يهيلون على رؤوسهم التراب، ورأيت الأطفال، وهم يرمونهم بالحجارة.

قلت: أجل.. لقد رأيت ذلك.. وقد أصابني بعض ذلك.

قال: أتدري لم؟

قلت: لم أتعود البحث في أسرار الحب.. كنت أكتفي بالتعجب.. أو كنت أكتفي بأن أصلى بناره دون أن أبحث عن كيفية الخروج منه.

قال: لقد خلق الله لكل لطيفة من لطائف الإنسان محلها الذي لا تكمل إلا به.. ولا تستقر إلا به.. ولا تسكن إلا به.. فإن تحقق لها ذلك نعمت وسعدت وسلمت.. وإن لم يتحقق ثارت.. وقد يكون الجنون ثورة من ثوراتها.

قلت: قرب لي هذا.

قال: لقد خلق الله للمعدة طعاما هيأه لها في مطابخ القدرة يتناسب معها تناسبا تاما، فإن أقبلت عليه سلمت، وإن أعرضت عنه إلى ما لا يصلح لها أصابها من الجنون ما يملأ صاحبها بالألم.. ومثل ذلك خلق للرئتين هواء معينا تتنفسه.. فإن أعرضت عنه إلى غيره أصابها صاحبها من الضيق والألم ما قد يسلمه إلى الموت.

قلت: ما تقوله صحيح.. ولا يمكن لأحد أن يشك فيه.

قال: وهكذا عالم اللطائف.. لقد خلق الله قلب الإنسان.. والذي هو محل المواجيد محلا متوجها توجها كليا إلى الجمال الخالد الثابت الكامل.. فلذلك تجده يطلبه في كل محل، ويبحث عنه في كل مرآة..

قلت: ولكن لم يرضى بالجمال الزائل المتزعزع الناقص؟

سلام للعالمين (150)

قال: الغفلة ووساوس الشياطين.. وما يلقنه إياه رجال بني عذرة.

قلت: تقصد قومي؟

قال: أجل.. وفي البشر مثلهم كثير.. إنهم رجال صرفوا تلك اللطيفة من عالم القدس إلى عالم الدنس.. فصار الإنسان عبدا للإنسان.. وتمرغ عقل الإنسان السماوي وكرامة الإنسان السماوي في أوحال الطين.

قلت: ولكن القلب يجد بعض اللذة في ذلك؟

قال: إنها لذة لا تختلف عن لذة الخمرة (1).. ألم تسمع شعراءكم وهم يرددون:

سكران سكر هوى وسكر مدامة... ومتى إفاقة من به سكران

__________

(1) نجد بعض العارفين يعبرون عن المحبة بالسكر، وهو من باب المشاكلة لا من باب الحقيقة، والأولى ترك مثل هذه التعابير لما توحي به من معان قد تفهم فهما خاطئا.. وقد اشتد ابن القيم في رده لمثل هذا، فقال: (وهذا المعنى (أي سقوط التمالك في الطرب الناشئ عن المحبة) لم يعبر عنه في القرآن ولا في السنة ولا العارفون من السلف بالسكر أصلا، وإنما ذلك من اصطلاح المتأخرين، وهو بئس الاصطلاح، فإن لفظ السكر والمسكر من الألفاظ المذمومة شرعا وعقلا، وعامة ما يستعمل في السكر المذموم الذي يمقته الله ورسوله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: من الآية 43)، وعبر به سبحانه عن الهول الشديد الذي يحصل للناس عند قيام الساعة فقال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج:2)، ويقال: فلان أسكره حب الدنيا، وكذلك يستعمل في سكر الهوى المذموم.. فأين أطلق الله سبحانه أو رسوله أو الصحابة أو أئمة الطريق المتقدمون على هذا المعنى الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبيه وعابديه اسم السكر المستعمل في سكر الخمر وسكر الفواحش كما قال عن قوم لوط لعمرك: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر:72)، فوصف بالسكر أرباب الفواحش وأرباب الشراب المسكر، فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات ولا سيما في قسم الحقائق ولا يطلق على كليم الرحمن اسما يسمى سكرا)

ثم أشار إلى أن الإنكار متوجه للألفاظ دون المعاني، فقال: (ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا الاسم، وإنما المنكر تسميته بهذا الاسم، ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك اسم الشراب، أو تسمية المعارف بالخمر، والواردات بالكؤوس، والله جل جلاله بالساقي فهذه الاستعارات والتسمية هي التي فتحت هذا الباب) (انظر: مدارج السالكين:3/ 306)

ونحن مع تسليمنا لما ذكره ابن القيم، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في إنكار ما ذكره الصالحون بسبب هذه الألفاظ، فهو لم يذكر إلا على سبيل المشاكلة.. وكأنهم يقولون للمنتشي بنشوة الخمر، أو نشوة الحب الموهوم: دع عنك ما أنت فيه، وتعال للخمر الحقيقية التي لا تعدل نشوتها أي نشوة، ولا لذتها أي لذة.

سلام للعالمين (151)

وعبر الآخر عن ذلك بقوله:

تسقيك من عينها خمرا ومن يدها خمرا... فما لك من سكرين من بد...

لي سكرتان وللندمان واحدة... شيء خصصت به من بينهم وحدي

وعبر صفي الدين الحلي عن ذلك بقوله:

للعشقِ سكرٌ كالمدا... مِ (كالمدام) إِذا تمكنَ في العقولِ...

يبقى اليسيرُ من الكث... رِ (الكثر) فكيفَ ظنُّكَ بالقليلِ

وعبر الشريف المرتضى عن ذلك، فقال:

صحا الذي يشربُ الصهباءَ مترعةً... وشاربُ الحُبِ أعيا أن يقالَ صَحا

لقد أشار (إلى هذا المعنى الذي هو حقيقة الحب وأثره، بقوله (: (حبك الشيء يعمي ويصم) (1

أي أن هذا النوع من الحب يجعل المحب مثل السكران لا يرى الأشياء على حقيقتها، فيعمى عن رؤية عيوب المحبوب، ويصم عن سماع العذال والناصحين، بل قد يلتذ بملامتهم ونصحهم لذكرهم محبوبه، كما قال شاعركم:

وقف الهوى بي حيث أنت... فليس لي متأخر عنه ولا متقدم...

وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا... ما من يهون عليك ممن يكرم...

أشهبت أعدائي فصرت أحبهم... إذ كان حظي منك حظي منهم...

أجد الملامة في هواك لذيذة... حبا لذكرك فليلمني اللوم

ولهذا نهت الملائكة لوطا - عليه السلام - عن خطاب قومه ودعوتهم، وجعلت سبب ذلك ما يقعون فيه من سكر الهوى، قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر:72)

__________

(1) رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء والوقف أشبه، وقد بالغ الصغاني فحكم بوضعه ولهذا تعقبه العراقي قال: وابن أبي مريم لم يتهم بكذب بل ولا شديد الضعف فهو حسن. (تذكرة الموضوعات:199)

سلام للعالمين (152)

فلذة السكر يغيب معها العقل الذي يعلم به القول ويحصل معه التمييز، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: من الآية 43)

فالآية الكريمة اعتبرت الغاية التي يزول بها حكم السكر أن يعلم السكران ما يقول، فمتى لم يعلم ما يقول فهو في السكر، فإذا علم ما يقول خرج عن حكمه.

قلت: أكل ذلك الحب الذي تغنى به قومي من بني عذرة لم يكن إلا نشوة لا تختلف عن نشوة الخمر؟

قال: أجل.. وليس من فرق بينهما إلا فارق زمني بسيط.. فنشوة الخمر تأثيرها يمتد ساعات، بينما نشوة الحب الموهوم قد تمتد إلى سنوات.

قلت: وإلام تنتهي؟

قال: إلى ما تنتهي إليه نشوة الخمر.. صداع في الرأس، وتهتك في الجسد، وانتكاسة في الروح، وجنون في العقل..

قلت: فهذا الحب الذي يتغنى به كل أولئك لا يعدوا أن يكون نوعا راقيا من أنواع المسكرات، أو صنفا ممتازا من أصناف المخدارت!؟

قال: أجل.. فأي سكير أو مدمن خمر يجد ما يجده المحب العاشق، فكلاهما قد يظفر باللذة، وكلاهما يعيش عالم اللاوعي واللاعقل، وكلاهما في الأخير يزول عنه ذلك السكر بانتهاء مدة تأثيره.

الفرح

قلت: عرفت هذا.. فحدثني عن الفرح.. عهدي بالمحبين يفرحون سويعات اللقاء، ثم يتحولون إلى الحزن الدائم المقيم.

قال: وحق لهم أن يحزنوا.. ألم تعلم أن القلب لا يجد سعادته، ولا لذته، ولا فرحه إلا بلقاء

سلام للعالمين (153)

حبيبه؟

قلت: بلى.. وقد جربته..

قال: وتعلم أنك إن فرحت بشيء، ثم ضاع منك، أو غاب عنك، حزنت عليه بقدر فرحك به؟

قلت: أعلم ذلك.. وأحسب أن الكل يعلمه.

قال: وتعلم أنه إن كان في حبيبك ما يسوء وما يسر، فرحت بما سرك منه، واستأت بما ساءك منه؟

قلت: ذلك صحيح.. فما غرضك من كل هذا؟

قال: من الجنون أن تطلب الفرح واللذة والسعادة فيمن هذا حال حبه.

قلت: فما البديل لذلك؟

قال: الحب الذي لا يأتيك منه إلا الفرح والسعادة والرضى.. ذلك الحب الكامل الذي تجتمع فيه جميع لذات المحبين، وتموت عنده جميع هموم العاشقين..

ذلك الحب الذي يملأ جميع أركان القلب، ويستغرق جميع زوايا الوجدان..

ذلك الحب الذي يتوحد فيه الإنسان، فبشارك فيه العقل القلب، وتنسجم النفس فيه مع الجسد.

قلت: أين هذا الحب؟.. لقد نذرت حياتي جميعا للحب، فلم أجد حبا بهذا الوصف.

قال: ذلك الحب لا يتحقق إلا في الحب المقدس.. فهو الحب الوحيد الذي تجتمع عنده كل هذه الخصائص.. لقد عبر عن تلك الكمالات اللذيذة من ذاقه، فقال:

كان يسبى القلب فى كل ليله ثمانون... بل تسعون نفساً وأَرجح...

يهيم بهذا ثم يأْلف غيره... ويسلوهم من فوره حين يصبح...

وقد كان قلبى ضائعاً قبل حبكم... فكان بحب الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبى هواك أَجابه... فلست أَراه عن خبائك يبرح...

حرمت الأَمانى منك إِن كنت كاذباً... وإِن كنت فى الدنيا بغيرك أَفرح...

وإِن كان شيء فى الوجود سواكم... يقرَّ به القلب الجريح ويفرح...

إِذا لعبت أَيدى الهوى بمحبكم... فليس له عن بابكم متزحزح...

فإِن أَدركته غربة عن دياركم... فحبكم بين الحشا ليس يبرح...

وكم مشتر فى الخلق قد سام قلبه... فلم يره إِلا لحبك يصلح...

هوى غيركم نار تلظى ومحبس... وحبكم الفردوس أَو هو أَفسح...

فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم... ويا رحمة مما يجول ويكدح

وقال آخر يذكر توحد لطائفه على محبة الله:

أروح وقد ختمت على فؤادي... بحبك أن يحل به سواكا...

فلو أني استطعت غضضت طرفي... فلم أبصر به حتى أراكا...

أحبك لا ببعضي بل بكلي... وإن لم يبق حبك لي حراكا...

وفي الأحباب مختص بوجد... وآخر يدعي معه اشتراكا...

إذا اشتبكت دموع في خدود... تبين من بكى ممن تباكى...

فأما من بكى فيذوب شوقا... وينطق بالهوى من قد تباكى

وقد عجز العارفون الذين رزقهم الله هذا الحب الكامل عن التعبير عن مقداره، فذكروا بعض النسب للدلالة عليه، كما فعل أبو سليمان الداراني حين أخبر عن همة العارفيين، فقال: (إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟)

أو عندما سئل معروف الكرخي عن الهمة التي دفعته إلى الإرادة والمجاهدة والتبتل، فسكت معروف، ليترك للسائل مجالا للتخمين، قال السائل: ذكر الموت، فقال معروف: وأي شيء

سلام للعالمين (154)

الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.

أو عندما سأل الثوري رابعة: ما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه، وقالت:

أحبك حبين حب الهوى... وحباً لأنك أهْلٌ لذاكا...

فأما الذي هو حب الهوى... فشغلي بذكرك عمن سواكا...

وأما الذي أنت أهلٌ له... فكشفك لي الحجب حتى أراكا...

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

قلت: حدثتني حديث المواجيد، فحدثني حديث العقل.. ألم تزعم انسجام هذا الحب مع العقل؟

قال: صدقت.. أجبني.. ما الذي جعل قلبك ينجذب كل الانجذاب لكل من أحببت؟

قلت: أشياء كثيرة لا أكاد أحصيها.. بل لا أكاد أعرفها.

قال: لكن العارفين الخبراء الذين أطلعهم الله على أسرار القلوب عرفوها، وحاولوا إحصاءها، وقد وجدوا أنها مهما تشعبت لا تعدو ثلاثة.

قلت: فما هي؟

قال: أولها حب الإنسان لنفسه، فالمحبوب الأوّل عند كل حي: نفسه وذاته.. هذه سنة الله.. و{لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية 43)

قلت: ما تعني بحب الإنسان لنفسه؟

قال: كل إنسان فطر على حبه لدوام وجوده، وعلى النفور من عدمه وهلاكه، (فلذلك يحب الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل، لا لمجرّد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرّد الحذر من

سلام للعالمين (155)

سكرات الموت، بل لو اختطف من غير ألم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارهاً لذلك، ولا يحب الموت والعدم المحض إلا لمقاساة ألم في الحياة، ومهما كان مبتلى ببلاء فمحبوبه زوال البلاء، فإن أحب العدم لم يحبه لأنه عدم بل لأنّ فيه زوال البلاء، فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب) (1)

وكما أن الإنسان يحب أصل وجوده ودوامه، فإنه كذلك يحب كمال وجوده، لأن الناقص فاقد للكمال، والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود وهو هلاك بالنسبة إليه.

وهو لذلك يحب كل ما يكمل هذا الوجود، فهو يحب سلامة أعضائه، ويحب ماله وولده وعشيرته وأصدقاءه، وكل ذلك لتوقف كمال وجوده عليها.

فحبه لولده ـ مثلا ـ وإن كان لا يناله منه أي حظ، بل قد يتحمل المشاق لأجله يرجع لاعتقاده بأنه سيخلفه في الوجود بعد عدمه، (فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له، فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبداً)

ومثل ذلك حبه لأقاربه وعشيرته، (فإنه يرى نفسه كثيراً بهم قوياً بسببهم متجملاً بكمالهم، فإنّ العشيرة والمال والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للإنسان، وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا محالة)

قلت: عرفت هذا.. وأحسب أن الكل يعرفه.. فلا أحد من الناس يجادل في حبه لنفسه.. بل إن الكثير يجمح به حبه لنفسه إلى الأنانية المقيتة، والأثرة البغيضة.. ولكن كيف ينسجم الحب المقدس مع هذا.. بل كيف يكون مقدسا، وهو يرعى مثل هذا؟

قال: الحب المقدس هو الحب الذي يراعي الفطرة، وسلامة الفطرة.. فلا ينكسها ولا يعكسها.. وهو لذلك يرعى هذه الناحية ويهذبها ويعطيها البديل الذي تكف به عن كل شطط أو جموح.

__________

(1) الإحياء:4/ 297.

سلام للعالمين (156)

قلت: كيف يجتمع له كل هذا؟

قال: لأن من عرف نفسه وعرف ربه علم (أنه لا وجود له من ذاته، وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله، فهو المخترع الموجد له وهو المبقي له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد) (1)

ثم هو بعد هذا الوجود المستفاد من الله هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، ثم هو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل، فليس في الوجود من يقوم بنفسه إلا الله الذي هو قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به.

فلهذا إذا أحب العاقل ذاته أحب من يقوم بها، فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، فالمحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوّتها.

ومثال هذا المبتلى بحرّ الشمس، فإنه لما كان يحب الظل، فإنه بالضرورة يحب الأشجار التي بها قوام الظل، (وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإنّ الكل من آثار قدرته، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر ((2)

قلت: عرفت الأول، ووعيته، فما الثاني؟

قال: حب الإنسان لمن أحسن إليه.

قلت: صحيح هذا، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وقد قال في ذلك شاعرنا:

وَقّيَّدْتُ نفسي في ذراك محبةً... ومن وجدَ الإِحسانَ قيداً تقيدا

وقال الآخر:

أحسنْ إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ... فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ...

من جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطبةً... إليه والمالُ للإنسانِ فتانُ

قال: لقد قال نبينا (مشيرا إلى هذا السبب: (إن استطعت أن لا يكون لفاجر عندك يدا فافعل) (3)

وكان مما يقوله (في دعائه: (اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المجادلة: من الآية 22) (4)، ففي هذا إشارة إلى أن حب القلب للمحسن حب اضطراري لا يستطاع دفعه، وهو جبلة وفطرة لا سبيل إلى تغييرها.

قلت: ألا ترى أن هذا السبب هو عين السبب السابق؟

قال: ذلك صحيح، فالإحسان سبب إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود.. لكن بينهما ـ مع ذلك ـ فرقا.. فالحب في السبب الأول ذاتي، بينما هو تبعي في هذا السبب، (ففرق كبير بين حب الصحة وبين حب الطبيب الذي هو سبب للصحة، إذ الصحة مطلوبة لذاتها والطبيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب للصحة، وكذلك العلم محبوب والأستاذ محبوب، ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب، وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة، لكن الطعام محبوب لذاته والدنانير محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام) (5)

__________

(1) الإحياء: 4/ 301.

(2) الإحياء: 4/ 301.

(3) الفردوس بمأثور الخطاب.

(4) رواه أبو أحمد العسكري.

(5) الإحياء: 4/ 298.

سلام للعالمين (157)

فالفرق بين هذه المحبوبات راجع إلى الدرجة التي تحلها من القلب، وكلها من حيث مصدرها ترجع إلى حب الإنسان لنفسه، (فكل من أحب المحسن لإحسانه فما أحب ذاته تحقيقاً بل أحب إحسانه، وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقاً، ولو نقص نقص الحب ولو زاد زاد، ويتطرّق إليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه)

قلت: وعيت هذا.. ولا أحسب أني أخالفك فيه.. فكيف اكتمل هذا السبب في الحب المقدس؟

قال: بل لم يكتمل هذا السبب، بل لم يوجد إلا في الحب المقدس.. فليس هناك من نعمة في الوجود إلا والله سببها الأول والمباشر.. فالله هو المحسن الوحيد، وكل من عداه محسن إليه.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل:53)، وأخبرنا عن استحالة عده لنعمه علينا، فقال: {َآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (ابراهيم:34)

قلت: كيف يكون الله هو المحسن الوحيد.. ونحن نرى الكل يمارس هذه الوظيفة؟

قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك أمر بعض خدمه بأن يهبك ما تشاء من الأموال والقصور وأنواع المتاع.. أكنت ترى تلك النعم من الملك، أم من ذلك الخادم البسيط الذي لم يقم إلا بما أمره به الملك؟

قلت: بل أرى كل تلك النعم من الملك.. أما الخادم فليس إلا عبد مأمور.. ولو أن الملك أمره بقتلي لفعل؟

قال: فهكذا كل الخلائق التي تراها منعمة عليك.. هي في الحقيقة وسائط الجود لا عين الجود.

قلت: عرفت الثاني، ووعيته، فما الثالث؟

قال: الجمال.

سلام للعالمين (158)

قلت: لن يجادلك أحد في هذا.. فلولا الجمال ما سقطت القلوب في أودية الهوى..

قال: لقد ذكر الله تعالى هذا، فذكر عن امرأة العزيز أن قلبها قد امتلأ بحب يوسف حتى صارت لا تملك من أمرها شيئا، ثم ذكر جماله وتأثيره في النسوة، فقال: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف:31)

قلت: فالقرآن يقر به، فكيف تنكره أنت؟

قال: أنا لا أنكره.. ولكني أنكر أن يرضى الإنسان بحبس قلبه في قفص العيون النجل، أو الخدود المتوردة، أو يرضى أن يشنق بالشعر الأشقر المبسوط..

قلت: فما المخرج من ذلك؟

قال: الحب المقدس.. الحب المقدس هو الوحيد الذي لا يصلح القلب إلا به، ولا تكمل مطامح الإنسان في الفرح الخالد إلا به.

قلت: وما عداه؟

قال: أنت ترى وأنت تسمع.. ولا شك أنك ذقت..

ثم أخذ ينشد:

أيا رُبَّ وجهٍ في الترابِ عتيقِ... ويا ربَّ حُسْنٍ في الترابِ رقيقِ...

وياربَّ حزمٍ في الترابِ ونجدةٍ... ويا ربَّ رأىٍ في الترابِ وثيقِ...

أرى كُلَّ حيٍّ هالكاً وابنُ هالكٍ... وذا نسبٍ في الهالكينَ عريقِ...

فقلْ لقريبِ الدارِ: إِنكَ ظاعنٌ... إِلى منزلٍ نائي المحلِّ سحيقِ

قلت: أنت تشير إلى الهلاك؟

قال: وأشير قبله إلى الذبول.. ألم تر تلك الورود التي امتلأت بها الساحات في عيد الحب.. كيف تحولت في المساء إلى هشيم لا ترضاه العين، ولا يقبل عليه القلب؟

سلام للعالمين (159)

قلت: بلى..

قال: ولهذا، فإن القرآن الكريم ينهى عقولنا وقلوبنا أن تتعلق بالفاني والذابل والهالك.. لقد قال الله تعالى يشير إلى الدنيا بكل ما فيها من الحسناوات: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ((الكهف:45)

قلت: فما الذابل، وما الهالك، وما الفاني؟

قال: كل ما أسر المحبين من ذلك الجمال المغشوش.. الذي هو أقرب إلى السراب منه إلى الماء..

سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنك مررت في رحلتك بجميل وعروة وقيس وكثير.. وغيرهم كثير.

قلت: أجل.. لكأنك كنت معي في رحلتي..

قال: لقد كنت معك.. وكنت جميع أولئك.. لكني سألت نفسي، وقلت: أرأيت لو أن المجنون لم ير ليلى إلا بعد أن عمرت، وصارت عجوزا شمطاء.. أكان يكن لها كل ذلك الحب، أو كان يمكن أن يجن بسببها.. أو كان يمكن أن يرضى بها زوجا؟

ابتسمت، وقلت: حينذاك سيجن أيضا.. لكن لا بسبب حبه لها، بل بسبب بغضه لها.. ألم تسمع قول الشاعر:

إِن العجوزَ فاركٌ ضجيعَها... تسيلُ من غير بكىً دموعُها...

تمدِّدُ الوجهَ فلا يطيعُها... كأن من يضيفُها يضيعها

وقول الآخر:

لا تنكحَنَّ عجوزاً إِن أتيتَ بها... واخلعْ ثيابكَ منها ممنعاً هربا...

وإِن أَتَوْكَ فقالوُا إِنها نَصفٌ... فإِن أمثلَ نصفَيها الذي ذَهَبا

سلام للعالمين (160)

قلت: سلمت لك بهذا، فكل جمال سيذبل لا محالة.

قال: ومن الغبن أن تحب ما يذبل.. لأن قلبك سيذبل مثل ما يذبل من تحبه.

قلت: وهل هناك شيء لا يذبل؟

قال: الجمال المقدس عن الدنس.. الجمال الذي لا تغير عليه الأيام والليالي.. ولا تكر عليه جحافل المرض والهرم.

قلت: ولكنا تعودنا على أن لا نرى الجمال إلا في تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون، وكون البياض مشرباً بالحمرة وامتداد القامة وغير ذلك..

قال: لا.. هذا لا يقوله إلا المحبوس في سجن الخيالات.

قلت: كلنا سجين الخيالات..

قال: ومع ذلك فإن عقولنا تتحرر في أحيان كثيرة من هذه السجون.. بل ترانا نذم ما أطبقت العيون على حسنه.

ألم تسمع شاعركم، وهو يقول:

لا خَيْرَ في أوجهٍ صِباحٍ... تسفرُ عن أنفسٍ قباحِ...

كالجُرْحِ يُبْنى على فَسادٍ... بظاهرٍ ظاهرِ الصَّلاحِ...

فقُلْ لمن مالُه مصونٌ... أُصِيْتَ في عِرْضِكَ المباحِ

قلت: بلى.. وقد سمعت قول الآخر:

على وَجْهِ ميٍ مسحةً من ملامحةٍ... وتحتَ الثيابِ الشينُ لو كان باديا...

ألم ترَ أن الماءَ يخبثُ طعمُهُ... وإِن كانَ لونُ الماءِ أبيضَ صافيا

وقول الآخر:

لا تغتررْ بهوى الملاحِ فربما... ظهرتْ خلائقُ للملاحِ قباحِ...

وكذا السيوفُ يرون حِسنَ صِقالها... وبَحدِّها تتخطف الأرواحُ

سلام للعالمين (161)

قال: فالجمال أعمق إذن من أن ينحصر في مضيق الخيالات.

قلت: ذلك صحيح.. ولكن ما الذي جعلنا نحصره في مضيق الخيالات؟

قال: أشياء كثيرة.. لا يمكننا حصرها.. لعل أهمها هو الفراغ الذي يجده القلب، فيعشق أول من يصادفه.. إنه يفعل نفس ما تفعله المعدة الجائعة حين تبحث عن أي طعام يقابلها لتملأ نهمها به.

قلت: أهكذا الحب؟

قال: هكذا الحب المدنس.

قلت: والحب المقدس؟

قال: إن القلب المترفع الذي هو محل الحب المقدس يترفع أن يستسلم لأي إغراء من أي جهة من الجهات.. إنه لا يقبل إلا بالجمال الذي لا يذبل، والصفاء الذي لا يكدر.

قلت: فأين نجد هذا؟

قال: الله.. الله هو البديع والجميل الذي لا يسكن القلب ولا يستقر إلا في محبته.

قلت: ولكنا لم نر الله.

قال: لم نره بأبصارنا القاصرة.. ولكنا يمكن أن نراه بكل لطائفنا.. بل يمكننا أن نصحبه.. ويكفي ذلك لأن نمتلئ عشقا لجماله.

قلت: لا يزل ذهني كليلا دون فهم هذا.

قال: ألسنا نقول في أحاديثنا: (هذا خلق حسن.. وهذا علم حسن.. وهذه سيرة حسنة.. وهذه أخلاق جميلة)؟

قلت: بلى.. وصدقنا في ذلك.. فنحن نستشعر جمال هذه الأشياء.

قال: ألسنا نشعر بجاذبية تربطنا ببعض الناس ممن التهم أجسادهم التراب؟

قلت: بلى.. فنحن نحب الكرماء والرحماء والعلماء والأدباء.. الذين لا تحلو المجالس إلا

سلام للعالمين (162)

بذكرهم، ولا المصنفات إلا بأخبارهم، ولا الحياة إلا بعطر أزهارهم.

قال: فكيف بمن جمع كرم الكرماء وحلم الحلماء وعلم العلماء.. ولم تكن في هذا الكون مكرمة ولا فضل ولا جمال إلا منه وبه وله؟

قلت: أيوجد مثل هذا؟

قال: بل إن وجود هذا هو الوجود الحقيقي الواجب.. وما عداه ظلال.

قلت: أين؟

قال: الله.. فالله هو الجميل الذي حوى كل جمال، والكريم الذي حوى كل كرم، واللطيف الذي حوى كل لطف، والبديع الذي حوى كل بديع.. ولو ظللنا على مقدار الأنفاس تعدد كمالات الله ما انتهينا.. لقد قال الشاعر الصالح يذكر ذلك:

ومع تفنن واصفيه بمدحه... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

الحضور

قلت: وعيت هذا، فحدثني عن الحضور.. ما مرادك منه؟

قال: ألم تر أولئك الذين شربوا من خمرة الحب المدنس كيف انشغلوا عن لطائفهم وعن حياتهم وعن جميع ما وكل إليهم من مسؤوليات؟

قلت: بلى.. لقد رأيتهم منشغلين بذكر من أحبوهم.. فهم غائبون بهم عمن سواهم.

قال: الحياة لا تستقيم بذلك.. الحياة لا تستقيم إلا بالحضور.

قلت: لم أفهم مرادك من الحضور.

قال: لقد خلق الله الموازين.. فقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} (النجم)، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ

سلام للعالمين (163)

وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} (الحديد)

قلت: ما علاقة الموازين بالحضور؟

قال: لقد خلق الله الحياة وكل ما في الحياة لرسالة معينة.. ولا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بأداء تلك الرسالة.. فلذلك كان كل شاغل عنها حجابا خطيرا يتدنس به الإنسان، وتتدنس به الحياة.

قلت: ولكن المحب لا يمكن أن يحب إلا بعد أن يغيب في جمال محبوبه عن كل حضور.

قال: إلا محب الله.. فإن الله لا يغيب.. وفي كل حركة من حركات العبد.. وفي كل سكنة من سكناته رسالة من الله إليه.. والعبد المحب هو الذي يفك رموزها.. ليسير من خلالها إلى الله.

لقد قالت رابعة تذكر هذا:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي... وأبحت حسمي من أراد جلوسي...

فالجسم مني للجليس مؤانس... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

الحقيقة

قلت: وعيت هذا، فحدثني عن الحقيقة.. فقد سئمت من أوهام الحب.

قال: لا حقيقة إلا في الحب المقدس.. أما ما عداه، فوهم وسراب.. ألم يقل شاعركم:

الحبُّ يَذْهَبُ بالفوارقِ كُلِّها... ويجيبُ الشقراءَ والسمراءَ...

ويجمِلُ الشوهاءَ حتى لا ترى... عينُ المحبِ حبيبةً شوهاءَ

قلت: بلى.. وقد رأيت قبله بديارنا ببني عذرة المجنون، وهو يمر على ديار ليلى يقبل جدرانها، ويقول:

أمرُّ على الديارِ ديارِ ليلى... أقبلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا...

وما حبُّ الديارِ شَغَفْنَ قلبي... ولكن حبُّ من سَكَنَ الديارا

سلام للعالمين (164)

بل سألته مرة، فقلت له: أي شيء رأيته أحب إليك؟ قال: ليلى.. قلت له: دع ليلى، فقد عرفنا ما لها عندك، ولكن سواها، قال: والله ما أعجبني شيء قط فذكرت ليلى إلا سقط من عيني، وأذهب ذكرها بشاشته عندي، غير أني رأيت ظبياً مرة فتأملته وذكرت ليلى فجعل يزداد في عيني حسناً، ثم إنه عارضه ذئبٌ وهرب منه فتبعته حتى خفيا عني فوجدت الذئب قد صرعه وأكل بعضه، فرميته بسهم فما أخطأت مقتله، وبقرت بطنه فأخرجت ما أكل منه، ثم جمعته إلى بقية شلوه، ودفنته وأحرقت الذئب، وقلت في ذلك:

أبى الله أن تبقى لحي بشاشةٌ... فصبراً على ما شاء الله لي صبرا...

رأيت غزالاً يرعتي وسط روضةٍ... فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا...

فيا ظبي كل رغدا هنيئاً ولا تخف... فإنك لي جارٌ ولا ترهب الدهرا...

وعندي لكم حصنٌ حصينٌ وصارمٌ... حسامٌ إذا أعملته أحسن الهبرا...

ما راعني إلا وذئبٌ قد انتحى... فأعلق في أحشائه الناب والظفرا...

ففوقت سهمي في كتوم غمزتها... فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا...

فأذهب غيظي قتله وشفى جوىً... بقلبي إن الحر قد يدرك الوترا

ثم رأيت بعدها آخر، وهو يقول:

وإني ليرضيني الممر ببابها... وأقنع منها بالشتيمة والزجر...

بل رأيت بعدها آخر، وقد بلغ به الجنون عتوه، وهو يصيح:

لو حز بالسيف رأسي في محبتها... لطار يهوي سريعا نحوها رأسي

قال: لقد كنت أقول مثل هؤلاء إلى أن عرفت الحقيقة، فمسحت عن عيني كل وهم..

قلت: وما عرفت؟

قال: عندما امتلأ قلبي بحب الغواني قرأت كلمة في القرآن الكريم رفعت عني كل ذلك

سلام للعالمين (165)

الوهم.

قلت: كلمة واحدة!؟

قال: أجل.. كلمة واحدة رفعت كل تلك الزخارف التي زينت بها أوهام الحب.

قلت: فما هي؟

قال: (زُيِّنَ).. فهذه اللفظة القصيرة في مبناها العظيمة في معناها دلتني على الحقيقة..

قلت: أي حقيقة؟

قال: إن كلمة (زُيِّنَ) تشير إلى أن ذلك المزين قد كسي من الأثواب، ووضع عليه من المساحيق ما أحاله حسنا وجميلا، وإن كان في أصله قبيحا ودميما، فالمزين ليس جميلا بالضرورة.

ولهذا يبين القرآن الكريم كثيرا من مظاهر التزيين التي لا تتناسب مع كل الأذواق، ولكن القلوب المستعدة لذلك التزيين تتناسب معها وتفرح بها وتتعجب ممن لا يتذوق حلاوتها.

ومنها تلك القلوب التي أودعت فلذات أكبادها جوف الثرى مخافة أن تقتسم معها لقمة العيش أو مخافة السبة والعار، وهي تبتسم فرحا، وكأنها تخلصت من وزر ثقيل ينوء به ظهرها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:137)

ومنها التي استحلت ألسنتها الطافحة بألوان الخبث سب الله تعالى وكأنه حلوى لذيذة أو فاكهة شهية، وقد نهي المسلمون عن سبهم أو مناقشتهم في ذلك لأن حلاوة الكفر قد تشربتها قلوبهم وذاقت لذتها وتمكنت منها، وفرق كبير بين مجرد الكفر وبين الكفر المزين في القلب، ولهذا يكون أبعد الناس عن اتباع الرسل رجال الدين الذين استحلوا صناعة التدين وتمكنت من قلوبهم، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108)

ومنها القلوب المصرة العنيدة التي تحملت لأواء الشدائد وهي تقبض ألسنتها بشدة عن دعاء

سلام للعالمين (166)

الله استغناء عن الله وترفعا عنه كما يقبض اللئيم يده عن الكريم حسدا وتعاظما واستنكافا، قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:43)

ومنها القلوب التي ينقل القرآن الكريم عجب الهدهد منها، وهو الحيوان الصغير الضعيف صاحب الجمجمة الصغيرة والطاقة الفكرية الضعيفة حين رآها تعفر الثرى لمخلوق مثلها، لم يخطر على باله قط وهو الحيوان أن هناك من يبيع الله بأشعته الحارقة أو الدافئة، قال تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (النمل:24)

والخلاصة التي يعطيها القرآن الكريم في ذلك هي أن كل الانحرافات التي وقعت فيها الديانات والمذاهب والنفوس مزينة وليست زينة، فهي محسنة بأنواع الحلي والمساحيق والحلل، بينما تبرز الدمامة بكل مظاهرها والبشاعة بكل صورها لكل من انشغل بالحقيقة عن المظهر، ولم تنسه نشوة الفرح الكاذب ما تخفيه الصور.

قلت: ما دام الأمر هكذا، فكيف نميز بين الزينة الحقيقية والزينة المزيفة؟

قال: كل زينة أسرتك، أو ألهتك عن حقيقتك، أو أبعدتك عن الوجود، أو وضعت الحجب بينك وبين ربك زينة مزيفة..

قلت: فكيف أميز بين الحقيقة والوهم؟

قال: بالبصيرة الإيمانية النافذة التي كانت مركبة في عقول الذين آمنوا عندما مر بهم قارون، وهو في موكب الزينة يسلب الألباب وينشر الحسد والغبطة.

لقد نقل لنا القرآن الكريم بدقة صورة ذلك الموكب، وصورة النفوس التي كانت تلتف به، قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا

سلام للعالمين (167)

إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص:80)

والخلاف الذي وقع بين هذين الفريقين ـ كما ينقله القرآن الكريم ـ ليس في أصل الزينة، فكلا من المؤمنين والذين يريدون الحياة الدنيا يبصرونها وتشتهيها أنفسهم، لكن الفرق بينهما حصل فيما بعد الزينة وما خلفها، فالمؤمنون كانوا يشاهدون بعيونهم آثار تلك الزينة المؤقتة الملطخة بآلاف العيوب، ولعل أقلها فرح صاحبها بها وانشغاله بها عن ربه، بينما الذين يريدون الحياة الدنيا كانت أعينهم عميا عن إبصار المدى البعيد الذي يبصره المؤمنون.

ولهذا يصور القرآن الكريم الذين لا يؤمنون بالآخرة بصورة الأعمه المتردد الحائر بين نوازع نفسه الكثيرة المتناقضة، قال تعالى يصور هذه الحيرة: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} (النمل:4)

الاستقامة

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الاستقامة.. فقد رأيت من ضحايا انحرافات الحب ما ملأني بغضا له.

قال: ذلك الحب المدنس.. فالقلب الذي دنس بالأوهام، واكتحلت عينه بها، لا يمكنه أن يبصر الطريق، فكيف يمكنه أن يستقيم عليها.

قلت: والحب المقدس!؟

قال: ليس هناك في الوجود من يحرك القلوب والعقول والجوارح وجميع اللطائف مثل هذا الحب.. لقد أشار إلى هذا أولياء الله وورثة النبوة.. فعن صادق آل محمد (أنه قال: (حبّ اللّه إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى اللّه، والمحبّ أخلص الناس سرّا للَّه وأصدقهم قولا وأوفاهم عهدا وأزكاهم عملا وأصفاهم ذكرا وأعبدهم نفسا يتباهى به الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته، وبه يعمر اللّه تعالى بلاده وبكرامته يكرم اللّه عباده، يعطيهم إذا سألوه

سلام للعالمين (168)

بحقّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخلق ما محلّه عند اللّه ومنزلته لديه لما تقرّبوا إلى اللّه إلّا بتراب قدميه)

قلت: كيف يكون لحب الله كل هذه السطوة.. وأين ذهبت النفس الأمارة بالسوء؟ وأين ذهب الشيطان الرجيم المشغوف بالوسوسة؟

قال: أليس المحب مطيعا لمحبوبه؟

قلت: بلى.. بل إن كل المحبين يزعمون أنهم على دين من أحبوا.. وقد قال في ذلك رجل منا:

إنَّ هَوَاكَ الَّذِى بِقَلبى... صَيَّرَنِى سَامِعاً مُطِيعَا

وقال آخر:

كنْ إِذا أحبَبْتَ عبداً... للذي تَهوى مطيعا...

لن تنالَ الوصلَ حتى... تلزم النفسَ الخضوعا

وقال آخر:

اخضع وذل لمن تحب فليس في... شرع الهوى أنف يشال ويعقد

وقال آخر:

مساكين أهل العشق حتى قبورهم... عليها تراب الذل بين المقابر

وقال آخر:

قالوا عهدناك ذا عز فقلت لهم... لا يعجب الناس من ذل المحبينا...

لا تنكروا ذلة العشاق إنهم... مستعبدون برق الحب راضونا

قال: وبما أن من أحبوا لا دين له لم يكن لهم دين.. ومن لم يكن له دين لم يكن له خلق.. ومن لم يكن له خلق لم تكن له استقامة.

قلت: والحب المقدس!؟

قال: ذلك عين الاستقامة.. فلا يحرك الاستقامة مثل الحب.. فالله لا يحبه إلا المستقيمون..

سلام للعالمين (169)

ومحبة الله لا تورث في أصحابها إلا الاستقامة.. لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة: من الآية 54)

قلت: فما الذي يحرك فيهم الاستقامة؟

قال: لقد عرفت أن المحب هو الذي يسعى في مرضاة محبوبه، حتى لا يراه إلا في أحسن أحواله.

قلت: بلى.. وقد ذقته.

قال: لقد ذكر لنا ربنا ما يحبه، وما يبغضه، وأعلمنا أننا لن نظفر بمحبته ـ التي هي غاية الغايات ـ إلا إذا فنى حبنا في حبه، ورضانا في رضاه.

فلذلك صرنا نحب الإحسان، لأن الله يحب المحسنين: قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ((البقرة:195)

وصرنا نحب التوبة والطهارة، لأن الله الذي امتلأت قلوبنا بحبه قال لنا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: من الآية 222)

وصرنا نحب التقوى الحاجزة عن معصية الله، لأن الله قال لنا: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ((آل عمران:76)

وصرنا نحب الصبر، ونتحمله، لأن الله قال لنا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ((آل عمران:146)

وصرنا نحب التوكل على الله، لأن الله قال لنا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ((آل عمران:159)

وصرنا نحب العدل، لأن الله قال لنا: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

سلام للعالمين (170)

الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: من الآية 42)

وهكذا امتلأت قلوبنا وجوارحنا بكل خير.. لأن محبوبنا لا يحب إلا الخير، ولا يبغض إلا الشر.

الحياة

قلت: وعيت كل هذا.. فحدثني عن الحياة.. فلم آت إلى هذه المقبرة إلا لأسلم نفسي إلى مشنفة الحب.

قال: الحب المدنس يسلمك إلى مشنقة الموت، أما الحب المقدس، فينفخ فيك من روح الحياة ما يملأك بالحياة.

قلت: لقد عرفت الشق الأول.. فحدثني عن الشق الثاني.

قال: أتدري ما سر الموت الذي يحمله الحب المدنس؟

قلت: لا.. لقد كنت غارقا إلى أذقاني في أوحاله.. ولعل ذلك ما أقعدني عن البحث في أسراره.

قال: هل تعرف دراكولا (1

قلت: عندما تركت قومي من بني عذرة، وأتيت إلى هذه البلاد سمعت به.. وقد امتلأت خوفا من مهابته.. فهو من مصاصي الدماء.

قال: الحب المدنس هو دراكولا.. وهو جميع مصاصي الدماء.. ذلك أنه يريد أن يقضي على حياتك ليمد بها حياة من يحب..

قلت: ألم تكفه حياته حتى يمد أنيابه إلى حياتي؟

__________

(1) دراكولا دراكيولا (بالإنكليزية: Dracula أو Drakula) رواية ألفها الكاتب البريطاني الإيرلندي برام ستوكر في 1897، وسميت باسم الشخصية الرئيسية فيها، مصاص الدماء الكونت دراكولا.

سلام للعالمين (171)

قال: وكيف تكفيه حياته، والموت يتهدده كل حين؟

قلت: فمن الغبن إذن محبة من يموت؟

قال: ومن الغبن التوكل على من يموت.. لقد قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان: من الآية 58)

قلت: إن ما تقوله خطير.

قال: ما خطره؟

قلت: إن هناك أنواعا كثيرة من الحب الشريف.. وكلها تتعلق بموتى.

قال: كل حب لا يتصل بحي أو لا ينبع من حي لا يمكن أن ينشر الحياة، أو تنتشر به الحياة.

قلت: أنتم تذكرون حب نبيكم وحب الأولياء وحب المؤمنين.. بل تفرطون فتزعمون أنكم تحبون كل الكون، وتذكرون عن نبيكم قوله عن جبل أحد: (هذا جبل يحبنا ونحبه) (1)

قال: كل ذلك الحب فيض من حب الله.. فمن أحب الله أحب لا محالة من يحبه الله.. ألستم تروون:

رأى المجنون في البيداء كلبا... فجر له من الإحسان ذيلا...

فلاموه لذاك وعنفوه... وقالوا: لم أنلت الكلب نيلا؟...

فقال: دعوا الملامة إن عيني... رأته مرة في حي ليلى

قلت: بلى.. ولكن ذلك المجنون.

قال: جنونه هو أنه صرف طاقة الحب فيه إلى ليلى.. وليلى لم تكن إلا ليلا من الوهم.. ولو أنه صرفها إلى النور لتجلى له كل شيء.. وامتلأ قلبه بالحياة التي لا حياة تضاهيها.

-\--\-

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

سلام للعالمين (172)

ما وصل صاحبي من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعت صائحا يصيح: يا سمنون (1)..

__________

(1) نشير به إلى سمنون بن حمزة، والذي يطلق عليه (سمنون المحب)، وقد كان من كبار العارفين المتحدثين في المحبة الإلهية، ومن أقواله: (أول وصال العبد للحق هجرانه لنفسه، وأول هجران العبد الحق مواصلته لنفسه)

وقال أبو الطيب العكي: ذكر لي أن سمنونا كان جالسا على شط دجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه حتى تبدد لحمه وهو يقول:

كان لي قلب اعيش به... ضاع مني في تقلبه...

رب فاردده علي فقد... ضاق صدري في تطلبه...

واغث ما دام بي رمق... يا غياث المستغيث به

وعن محمد بن حمادن قال: رأيت سمنونا وقد أدخل راسه في زرمانقته، ثم أخرج رأسه بعد ساعة وزفر وقال:

تركت الفؤاد عليلا يعاد... وشردت نومي فما لي رقاد

ومن أشعاره في المحبة الإلهية قوله:

وكان فؤادي خالي قبل حبكم... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح...

لفما دعا قلبي هواك أجابه... فلست اراه عن فنائك يبرح...

رميت ببين منك إن كنت كاذبا... وإن كنت في الدنيا بغيرك افرح...

وإن كان شيء في البلاد بأسرها... إذا غبت عن عيني لعيني يملح...

فان شئت واصلني وان شئت لا تصل... فلست ارى قلبي لغيرك يصلح

ومنها قوله:

ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر...

أديرت كؤوس للمنايا عليهم... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر...

همومهم جوالة بمعسكر... به أهل ود الله كالأنجم الزهر...

فأجسادهم في الأرض قتلى بحبه... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسرى

سلام للعالمين (173)

أين كنت؟.. لقد ظللنا طول النهار نبحث عنك؟

لست أدري كيف رميت ما كان معي من أدوية الموت.. ثم صحبته.. وقد رأيت فيه القلب الكبير الذي امتلأ بالمحبة الخالصة الصادقة الخالدة.. وقد أزحت بصحبته كل ما امتلأ به قلبي من أدران الدنس الذي علق بي من آثار الحب المدنس.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تفارقه؟

قال: أنا لم أفارقه.. لكنه هو الذي فارقني.. وما أتيت إلى هذه البلاد إلا لأبحث عنه.

قلنا: ما الذي تقصد؟

قال: لقد سمعنا في تلك الأيام بأنباء فتنة تريد أن تجتث أصول الشجرة التي غرسها محمد.. وأن بداية الاستئصال ستكون من هذه البلاد.. فلذلك رحل سمنون إليها، وقدمت هنا لأبحث عنه، فلم تعد لي حياة إلا بصحبته.

قلنا: فقد أسلمت إذن؟

قال: لقد كنت أقرب الناس إلى الإسلام.. ولكن جبالا من الحديد والزنك والرصاص لا تزال تحول بيني وبين إعلان إسلامي.. ولست أدري لم، ولا كيف.

قال ذلك، ثم طأطأ رأسه، واستغرق في صمت عميق، لم نشأ أن نخرجه عنه.

سلام للعالمين (174)

ثالثا ـ العقل

في اليوم الثالث، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. اعذروني، لقد كنت أحمل أسماء كثيرة مستعارة مثل من سبقني، كنت أحاول بها أن أغطي حقيقتي التي كانت تعذبني كل حين.. لكن حقيقتي أبت إلا أن تتمرد علي، وتذيقني في تمردها من الهوان ما لم أكن أحسب له أي حساب.

هناك جوانت مشرقة في قصتي ممتلئة بالنور والسلام والصفاء.. سأحدثكم عنها (1)..

ولكني لن أحدثكم عنها حتى تبصروا الصراع الذي كنت أعانيه.. وكانت جميع لطائفي تعانيه معي.

قلنا: حدثنا أولا عن الأسماء التي تسميت بها.. فلا يمكن أن نعرفك من دون أن نعرف اسمك؟

قال: لقد تسميت بأسماء كثيرة لا تكاد تحصى.. منها ما تعرفون.. ومنها ما لا تعرفون.. منها سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وايبيكوروس، وسيكستوس ايمبيريكوس، وأوغسطين، وبويتيوس، وأنسيلم كانتربوري، ووليام أوكام، وجون سكوت، وتوماس الأكويني، وميتشل دي مونتان، وفرانسيس بيكون، ورينيه ديكارت، وسبينوزا، ونيكولاس ماليبرانش، وغوتفريد لايبنتز، وجورج بيركيلي، وجون لوك، وديفيد هيوم، وتوماس ريد، وجان جاك روسو، وإمانويل كانت، وجورج ويلهيلم فريدريك هيغل، وآرثر شوبنهاور، وكيرغيكارد، وفريدريك نيتشه، وكارل ماركس، وفريجه، وألفريد وايتهيد، وبيرتراند رسل، وهنري بيرغسون، وإدموند هوسرل، ولودفيج فيتغينشتاين، ومارتن هايدجر، وهانز جورج غادامير، وجون بول سارتر،

__________

(1) استفدنا الكثير من المعلومات عن المدارس الفلسفية الواردة في هذا الفصل ونقدها من كتب العلامة (آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي) ككتاب (الفكر الإسلامي مواجهة حضارية).. وكتاب (المنطق الإسلامي: أصوله ومناهجه).. بالإضافة إلى الكتب التي أرخت للفلسفة ومدارسها.. بالإضافة للموسوعة العربية العالمية، والموسوعة اليهودية.

سلام للعالمين (175)

وألبرت كامو وكوين..

ومنها دونالد ديفيدسن، ودانيال دينيت، وجيري فودور، ويورجن هابرماس، وساول كريبكي، وتوماس كون، وتوماس نايجل، ومارثا نوسباوم، وريتشارد رورتي، وهيلاري بوتنم، وجون راولز، ووجون سيرل.. وغيرها كثير.

قلنا: من أي البلاد أنت؟

قال: من كل البلاد التي حنت إلى العقل.. وامتلأت به.. وطلقت كل شيء من أجله.. لكنها في أوج غرورها لم تكتسب إلا الأوهام.. ولم تظفر بغير السراب.

قلنا: كثيرة هي البلاد التي تحمل هذه الصفات..

قال: كلها بلادي التي نشأت فيها وترعرعت.. ومن أفكارها تغذيت.. من سمومها صليت.

قلنا: نقصد البلاد التي ولد فيها جسدك.

قال: لقد ذكر لي أبي أني ولدت بأثينة..

الصراع

السفسطة

في تلك الأيام تتلمذت على أول عقل عرفته.. كان اسمه (السفسطة).. وكان زملائي من التلاميذ يسمون (سفسطائية)

قلنا: فحدثنا عنهم.

قال: هم ثلاثة طوائف.. وهم ينتشرون في كل مكان وزمان (1)..

__________

(1) هكذا صنفهم ابن حزم (384 - 456 هـ)، فقد قسمهم إلى ثلاثة أصناف:1 - صنف نفى الحقائق جملة.2 - صنف شكُّوا فيها.3 - صنف قالوا هى حق عند مَنْ عنده حق، وهى باطل عند مَنْ هى عنده باطل.

سلام للعالمين (176)

أما أولاهم.. فيمكن أن نسميها (العنادية).. وهم المعاندون الذين لا يقرون بالحق لأهله مع علمهم به.. لقد عرف قرآن المسلمين منهجهم العقلي خير تعريف حين قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ((النمل: من الآية 14)

وأما الثانية.. فيمكن أن نسميها (العِندية).. وهي طائفة ترى أن الحق كل الحق عندها وحدها.. وأن الباطل كل الباطل عند غيرها.

وأما الثالثة.. فاختارت أن تسمى (اللا أدرية).. وهي التي تفر من الحقيقة ومن البحث عنها ومن الإقرار لها بقولها كل حين (لا أدري)

قلنا: فكيف بدا لهذه الطوائف أن تظهر للوجود؟

قال: لقد ظهرت هذه الطوائف لترد بكسلها على الأهواء الكثيرة التي حاولت أن تفسر الوجود وحقائق الوجود..

لقد ظهرت عندما رأت عجز الأفكار عن تفسير النشأة الأولى هل هى من ماء أو من تراب.. أو من هواء أو من نار.. وظهرت عندما عجز الدين الوثنى السائد فى بلادنا حينذاك عن تلبية الفطرة الإنسانية.. فقد كان لكل ظاهرة كونية أو إنسانية إله يعبد ويقدس.. وظهرت عندما عجزت السياسة، فسلمت أمرها للحروب والمنازعات.

في هذه الأجواء ظهرت السفسطة كعجوز كسولة تقول للجميع: ليس هناك شيء اسمه الحقيقة.. أو تقول لهم: كلكم تحملون الحقيقة.

أذكر في ذلك الحين أستاذا لي كان اسمه (بروتاجوراس) (480 ق م- 410 ق م)، كانت فلسفته تدور حول اعتبار الإنسان مقياسا لكل شيء.. فهو الذى يقرر وجود الأشياء.. وهو الذي يقرر عدم وجودها.. لقد كان يردد كل حين: (إن الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا)

وكان يردد كل حين ما ذكره في مقدمة كتابه (الآلهة): (عندما نأتي إلى الآلهة فإني لا أستطيع معرفة هل هي موجودة أم لا؟ أو حتى ماذا يشبه الآلهة في شكلهم، أو هنالك أسباب عديدة تقف

سلام للعالمين (177)

في طريق هذه المعرفة، منها غموض المشكلة وقصر حياة الإنسان)

انظروا إلى التناقض الذي وقع فيه (بورتاجوراس) المسكين.. إنه لم يربط معرفة الآلهة بالإنسان كما قال في نظريته في المعرفة.. لقد كان الواجب عليه تقرير موقف من الآلهة متناسب مع نظريته.. لكنه لم يفعل فهو لم يقل بأن الآلهة موجودون بالإضافة إلى من يؤمنون بهم، وغير موجودين بالإضافة إلى من ينكرهم.

لقد كانت هذه المقولة هي التي دفعت أفلاطون (1) على أن يرد عليه في كتابه (القوانين) حين أعلن (أن الإله – ليس الإنسان- هو مقياس الأشياء جميعا بحس أعلى من أي حس إنساني)

في الصف الثاني في مدرسة السفسطة درسنا أستاذ اسمه (جورجياس).. لقد حاول المسكين بكل جهوده العقلية أن يثبت لنا ثلاث قضايا خطيرة.. أولها أن لاشيء في الوجود موجود.. واستدل على ذلك بأن كل شيء خاضع للتغير..

والثانية.. أنه إن وجد شيء، فإنه لا يمكن أن يعلم.. واستدل على ذلك بأن الحواس مختلفة.

والثالثة.. أنه إذا أمكن أن يعرف، فإنه لا يمكن إيصال معرفته للغير.. واستدل على ذلك بأن طريق الحواس ذاتى.

الحوارية

بعد أن امتلأت بالمنهج الذي علمني إياه أساتذتي في السفسطة مدة من الزمان (2) كنت حينها أتلاعب بالكلمات وبالخطب.. لأبرهن على وجود العدم وعدم الوجود.. مللت هذا المنهج الذي

__________

(1) سنتحدث عن منهجه العقلي في هذا المبحث.

(2) ظهرت السفسطائية أول مرة إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد، ثم ظهرت فى عصور تالية، وعرفت باسم حركة الشكاك، ووقف الفيلسوف الفرنسى مونتانى (1532 - 1592 م) على أعتاب الفلسفة الأوروبية الحديثة ليعلن أن العلم القديم قد سقط، فلِمَ لا يسقط العلم الجديد كذلك وإذا كان الجهل المطبق بداية العلم فإن جهل العالم هو النهاية، وأن آلات العلم عاجزة عن توفير اليقين، وستظل كذلك.

سلام للعالمين (178)

يحتال على الحقائق ويصارعها.. ورحت أبحث عن أساتذة جدد.. لألقن عقلي المنهج الصحيح الذي يدرك به الحقائق.

قلنا: إلى أي مدرسة ذهبت؟

قال: لقد سمعت أن هناك جمعية عقلية تسمى (جمعية محبي الحكمة) (1).. وقد قصدتها.. وقد كان أول من لاقاني فيها شيخ جليل وقور.. كان اسمه (سقراط) (2)

لقد استطاع بمنهجه الفريد في الإقناع (3) أن يعيد لعقلي توازنه، وينفي عنه ذلك العقم

__________

(1) أقصد بها الفلسفة.. فكلمة (فلسفة) مشتقة من اللغة اليونانية القديمة، وقَدْ تُترجمُ بـ (حبّ الحكمة).. والفلاسفة في العادة يكونون متشوّقين لمعرفة العالم، والإنسان، والوجود، والقيم..

(2) سقراط (469 ـ 399 ق. م). فيلسوف ومعلم يوناني جعلت منه حياته وآراؤه وطريقة موته الشجاعة، أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ. صرف سقراط حياته تمامًا للبحث عن الحقيقة والخير. لم يترك أي أثر مكتوب رغم أنه كان دائمًا ينهمك في المناقشات الفلسفية، وقد وصلتنا أفكاره ومناهجه عن طريق مجالس الحوار، التي كتبها تلميذه أفلاطون، حيث برز سقراط شخصًا رئيسيًا يشرف على الحوار، ويشرح عملية البحث عن الحقيقة، وعُرِفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ زينفون والفيلسوف أفلاطون، بالإضافة إلى ما كتبه عنه أريسطو فانيس وأرسطو.

وُلد سقراط وعاش في أثينا، وكان ملبسه بسيطًا، وعُرف عنه تواضعه في المأكل والمشرب.. وكان يعلم الناس في الشوارع والأسواق والملاعب، وكان أسلوب تدريسه يعتمد على توجيه أسئلة إلى مستمعيه، ثم يُبين لهم مدى عدم كفاية أجوبتهم.

قُدّمَ للمحاكمة وُوجهت إليه تهمة إفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد الدينية.. وكان يُلمحُ إلى أن الحكام يجب أن يكونوا من أولئك الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون، وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم، وقد قضت هيئة المحلَّفين بثبوت التهمة على سقراط وأصدرت حكمها عليه بإلإعدام. ونفذ الحكم بكلِّ هدوء متناولاً كوبًا من سم الشوكران.

كان سقراط يؤمن بأن الأسلوب السليم لاكتشاف الخصائص العامة هو الطريقة الاستقرائية المسماة بالجدلية؛ أي مناقشة الحقائق الخاصة للوصول إلى فكرة عامة.. وقد أخذت هذه العملية شكل الحوار الجدلي الذي عرف فيما بعد باسم الطريقة السقراطية.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن حياة سقراط التي وصلت لنا تشير إلى أن له علاقة بالصالحين.. ولعل هذا ما جعل بعض علماء المسلمين يضع احتمالا لكونه نبيا من الأنبياء.. وهو ليس بمستبعد.. وما يروى عنه من خلاف منهج الأنبياء هو من التحريف الذي أصاب الديانات ورجالها.

(3) وذلك عن طريق أسئلة محكمة صارمة متلاحقة، من نوع: ماذا تعني؟ كيف عرفت ذلك؟ إن هذا الإجراء الذي يسمى الطريقة السقراطية مالبث أن أصبح من الطرائق الفلسفية النموذجية التي تُعنى بالمناقشة والحوار.

سلام للعالمين (179)

والكسل الذي بذره فيه السفسطائيون.. لكن الأيام لم تمهله.. فقد استطاع السفسطائيون أن يجرعوه السم الذي قضى على حياته قبل أن أكمل مشوار تلمذتي عليه.

لقد كان رجلا شجاعا ومتواضعا.. استطاع أن يستبدل بالآراء الغامضة أفكارًا واضحة.. وكثيرًا ما كان يجادل بعض أعيان أثينا، ويفضح ادعاءهم الفارغ للمعرفة والحكمة، مما سبب له العداوة بينهم، فحُكم عليه بالموت بدعوى أنه يشكل خطرًا على الدولة، وبذلك أصبح رمزًا للفيلسوف الذي يواصل باستمرار بحثه عن الحقيقة مهما كان الثمن..

بعد وفاته.. أو استشهاده.. بحثت في دفاتره عما يروي عقلي من مياه الحقيقة.. فلم أجد في دفاتره ما يكفيني.. فرحت أبحث عن تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه..

الاستذكارية

في أثينا سمعت بمدرسة كانت تتواجد بحدائق (أكاديموس).. كان اسمها (أكاديمية أفلاطون).. أسرعت أحث خطاي إليها.. فوجدت بها رجلا ضخما كان الناس يطلقون عليه لقب (أفلاطون الإلهي) (1).. وكان هو أستاذي الثاني بعد سقراط..

__________

(1) أفلاطون (427؟ - 347؟ ق. م) هو فيلسوف ومعلم يوناني قديم، يُعَدُّ واحدًا من أهم المفكرين في تاريخ الثقافة الغربية.. وُلد في واحدة من أعرق العائلات في أثينا، وتنحدر أمه من نسل المشرع الأثيني الكبير سولون، وكلمة أفلاطون كنية تعني ذا الكتفين العريضتين، أما اسمه الحقيقي فهو أرستوكليس.

كان يرغب في شبابه أن يكون رجل سياسة، وفي عام 404 ق. م، نصَّب مجموعة من الأثرياء أنفسهم حكامًا مستبدين على أثينا، ودعوه للانضمام إليهم إلا أنه رفض لاشمئزازه من ممارساتهم القاسية اللاأخلاقية. وعندما أطاح الأثينيون بالحكام المستبدين في عام 403 ق. م. وأقاموا حكومة ديمقراطية أعاد أفلاطون النظر في الدخول إلى ميدان السياسة، لكنه تراجع عن ذلك بعد الحكم بإعدام صديقه سقراط في عام 399 ق. م. وبعدها غادر أثينا في أسفار امتدت عدة سنين.

عاد أفلاطون إلى أثينا عام 387 ق. م حيث أسس مدرسة للفلسفة والعلوم عُرِفَت باسم الأكاديمية، وكان الفيلسوف الشهير أرسطو أبرز تلاميذه.

من أشهر مؤلفاته (المحاورات)، وقد اهتمت محاورات أفلاطون باستعراض ونقد الآراء الفلسفية، حيث كانت شخصيات محاوراته تتناول المسائل الفلسفية وتتجادل حول الجوانب المتعارضة لموضوع ما. وقد تميزت المحاورات بقيمة أدبية عالية إلى الحد الذي جعل الكثيرين من العلماء يعدون أفلاطون أعظم من كتب بالنثر في اللغة اليونانية وواحدًا من أعظمهم في أي لغة أخرى.. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

سلام للعالمين (180)

لقد ذكر لي عندما سألته عنه أنه ـ مثلي ـ تتلمذ في بداياته على السفسطائيين وعلى كراتيلِس تلميذ هراقليطس، قبل أن يرتبط بمعلِّمه سقراط في العشرين من عمره.. وأخبرني أنه تأثر كثيرًا بالحُكم الجائر الذي صدر بحقِّ سقراط وأدى إلى موته؛ الأمر الذي جعله يعي أن الدول محكومة بشكل سيئ، وأنه من أجل استتباب النظام والعدالة ينبغي أن تصبح الفلسفة أساسًا للسياسة.. وهذا ما دفعه للسفر إلى مصر.. ثم إلى جنوب إيطاليا، التي كانت تُعتبَر جزءًا من بلاد اليونان.. وهناك التقى بالفيثاغوريين.. ثم انتقل إلى صقلية حيث قابل (ديونيسوس) ملك (سيراكوسا) المستبد، على أمل أن يجعل من هذه المدينة دولة تحكمها الفلسفة.. لكنها كانت تجربة فاشلة، سرعان ما دفعته إلى العودة إلى أثينا.. حيث أسَّس أكاديميته (1).

لقد كان أول ما تعلمته من هذا الأستاذ ردوده على السوفسطائية.. وقرأت عليه فيها مجموعة محاوراته.. كمحاورة بروتاجوراس، ومحاورة جورجياس، ومحاورة هيبياس، ومحاورة السوفسطائي.. وغيرها.. وقد انتفعت منها في انتشال عقلي من الهاوية التي أوقعه فيها السوفسطائية.

لكن ذلك.. مع ذلك.. لم يكفني.. فرحت أطالبه بالمنهج البديل لمنهج السفسطائية.. فقال لي ـ وقد كنا بجنب مرآة ـ: أترى صورتنا التي تنعكس على المرآة؟

قلت: أجل.. وكيف لا أراها؟

قال: أترى لها حدودا وجرما وكثافة؟

قلت: أما الحدود.. فأراها.. وأما الجرم والكثافة.. فلا يمكن أن أراها.

قال: لم؟

__________

(1) لكن هذا لم يمنعه من معاودة الكرة مرات أخرى لتأسيس مدينته الفاضلة في سيراكوسا في ظلِّ حكم مليكها الجديد ديونيسوس الشاب، ففشل أيضًا في محاولاته؛ الأمر الذي أقنعه بالاستقرار نهائيًّا في أثينا حيث أنهى حياته محاطًا بتلاميذه.

سلام للعالمين (181)

قلت: لأنها صورة لا حقيقة.. هي صورة تمثل الواقع ببعض أبعاده لا بكل أبعاده.

قال: كمثل هذه الصورة هناك عالم يدعى (عالَم المُثُل).. كل حقائقه ذات حدود.. ولكنها دون كثافة.

في هذا العالم تتجلى صور الحقائق الأرضية جميعا، فالإنسان ـ مثلا ـ يعيش أفراده على الأرض، أما هو فإنه واحد يعيش في عالم المُثُل، وهو (أي حقيقة الإنسان) شبح هناك يمثل كل الناس في كل العصور.

قلت: وعيت هذا رغم صعوبته.. فما بعده؟.. وما علاقته بمنهج التفكير؟

قال: كان الإنسان قبل ينزل إلى الأرض يسرح في ذلك العالم.. عالم المثل..

قلت: فأنت تذهب إلى أن للإنسان وجودا قبل هذا الوجود؟

قال: أجل.. لقد كان الإنسان.. أو روح الإنسان موجودة في ذلك الحين.. وكانت قد أحاطت علما بكل الصور (أو المثل) التي كانت موجودة فيه.. ولكنها نسيتها بعد أن تقولبت في هذه المادة، وهبطت إلى عالم الجسد.

قلت: فكيف يمكن للإنسان أن يستعيد ذكرياته السعيدة في تلك العوالم الجميلة؟

قال: هذا هو منهجي الذي خصصت به.. وأسست هذه الأكاديمية من أجله.

قلت: لم أفهم.

قال: لقد وجدت من خلال حواراتي أن أقل تنبه يكفي الإنسان لتذكر ما كان قد نسيه، فيعود لمعرفة الحقائق التي عرفها في عالم المثل.. يمكنك أن تسمي هذه النظرية (النظرية الاستذكارية).. لأن الفكر، فيها، ليس سوى استعادة المعلومات، والعلم ليس الا استعادة المحفوظات المنسية (1).

__________

(1) شرح أفلاطون في كتابه (فيدروس) عملية سقوط النفس البشرية التي هَوَتْ إلى عالم المحسوسات – بعد أن عاشت في العالم العلوي - من خلال اتحادها مع الجسم.. لكن هذه النفس، وعن طريق تلمُّسها لذلك المحسوس، تصبح قادرة على دخول أعماق ذاتها لتكتشف، كالذاكرة المنسية، الماهية الجلية التي سبق أن تأمَّلتها في حياتها الماضية.

وقد عبر عن نظريته (نظرية التذكُّر) بشكل رئيسي في كتابه (مينون) من خلال استجواب العبد الشاب وملاحظات سقراط الذي توصل لأن يجد في نفس ذلك العبد مبدأً هندسيًّا لم يتعلَّمه هذا الأخير في حياته.

سلام للعالمين (182)

قلت: فأنت ترى أن العلم صفة ذاتية في روح الإنسان؟

قال: أجل.. وأرى أن العقل البشري أسمى من أن يعرف الحقائق الجزئية، بل إنه يعرف الكليات؛ أي المثل العامة فقط.. فهو يعرف من الأشياء حقائقها لا أعيانها.

قلت: قد أسلم لك بأن للأرواح وجودا قبل وجود الأجسام (1).. ولكن كيف تعتبر العلم صفة أصيلة في ذات الإنسان، ولسيت صفة طارئة عليه؟

قال: وما الذي يمنع من اعتباره كذلك؟

قلت: أشياء كثيرة.. منها أنه لو كان العلم صفة للذات لم يجز أن يتخلف لحظة عن الذات، ذلك أن الذات لا تفقد نفسها إلا ساعة انعدامها.. كما أن النور لا يمكنه ان يتخلف عن الحركة والإشراق.. ذلك أن ذاته هي الحركة والإشراق؟

قال: فما الذي يمنع من اعتبار استحالة تخلف العلم عن الذات؟

قلت: أشياء كثيرة تراها وتشعر بها.. أنت تعلم أن الإنسان يبدأ جاهلا لا يعلم شيئا (2).. ثم يعلم.. ثم ينسى ما علم (3).. وفوق هذا نحن نعلم من أنفسنا صفة الجهل الذاتية، لأن العلم لا يحصل لنا إلا بتعب وإرهاق.. ثم يزول بسرعة مع هبوب عاصفة النسيان التي تتناوب على أنفسنا

__________

(1) ويدل لهذا من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (لأعراف:172)

ويروي الإمامية في هذا حديثا يقول فيه رسول الله (: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام) (بحار الانوار، ج 58،ص 132)

(2) كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)

(3) كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل:70)

سلام للعالمين (183)

فتكنس معها معلوماتنا.

وفوق هذا كله، فإن ذاتي الشيء لا يمكن أن يحدد.. فالجهل والعدم والعجز من ذاتنا، ولذلك فهي غير محدودة، لأنها إذا كانت محدودة لم تكن ذاتية لنا.. أما العلم والإرادة والوجود والقوة فهي مواهب أو مكاسب، ولذلك فهي محدودة.

وبتعبير آخر: إن التحديد يعني العدم في بعض الجوانب.. فلو حددنا علم رجل ببلده مثلا، فذلك يعني أنه لا يعلم عن البلاد الأخرى شيئا، وإذا كان ذات الرجل عالما فكيف لا يعلم شيئا عن البلاد الأخرى؟ أفلا يعني ذلك أن هذا الرجل عالم وجاهل في لحظة؟ وهو تناقض مرفوض.

وهل يصح ان نقول: ان ذات الحرارة هي الحركة.. أي لا يمكن أن توجد حرارة ولا توجد حركة أو العكس بأن توجد حركة ولا توجد حرارة.. ثم نقول إن الحرارة يمكنها أن لا توجد في وقت أو في حالة مع وجود الحركة؟!

قلنا: كلامك منطقي.. فبم أجابك؟

قال: لقد أجابني بابتسامة عذبة لا تزال صورتها منطبعة في خيالي.

قلنا: نقصد إجابته لعقلك.

قال: لقد فهمت من ابتسامته ما يريد أن يقول.

قلنا: فما فهمت؟

قال: لقد سلم لي ما ذكرت له.. كما سلمت له ما ذكر لي (1)..

الصورية

قلنا: فهل اقتنعت بما علمك هذا الأستاذ الفاضل؟

__________

(1) قال تقي المدرسي بعد نقده لنظرية أفلاطون الاستذكارية: (هي مرفوضة بسبب واحد وهو أنها تدَّعي أن العلم من ذات الإنسان.. ولو فسرنا هذه النقطة منها، إذا لاستطعنا القبول بها فيما يخص العلم، فسرناها بالقول: ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل، ولكن هذا العقل محتجب بالنسيان وأن التذكر به يرجعه إليه)

سلام للعالمين (184)

قلت: لا.. لقد كان لعقلي من الشوق للمعارف ما لم يجد معه منهج أستاذي شيئا.. لذلك رحت أبحث عن أستاذ جديد.

قلنا: فبمن ظفرت؟

قال: لقد ظفرت بأرسطو (1).. ذلك الذي كان يسمى (المعلم الأول).. ذلك الذي اعتبره توما الأكويني (الفيلسوف بحق).. وكان دانتي يسميه (سيد العارفين)..

قلنا: كيف التقيت به؟

قال: لقد كنت حينها أسير خارج أسوار أثينا بالقرب من أيكة مخصصة لعبادة الإله أبولو ليكيوس.. وهو ما كان الناس يسمونه (اللِّيسيوم) (2).. هناك وجدته مع تلاميذه يسير، وهو يتحدث.. وسرعان ما جذبني الحوار، فانضممت إليهم.

قلنا: فما أفادتك صحبته؟

__________

(1) أَرسْطو (384 - 322 ق. م) لد في ستاجرا، وهي مستعمرة يونانية وميناء على ساحل تراقيا، وكان أبوه نيقوماخوس طبيب بلاط الملك امينتاس المقدوني، ومن هنا جاء ارتباط أرسطو الشديد ببلاط مقدونيا، الذي أثر إلى حد كبير في حياته ومصيره فكان مربي الإسكندر.. دخل أكاديمية أفلاطون للدراسة فيها وبقي فيها عشرين عاما، ولم يتركها الا بعد وفاة أفلاطون..

بعد موت الإسكندر الأكبر في عام 323 ق. م. رماه الأثينيون بتهمة عدم احترام الآلهة، وخوفًا من مصير سقراط، هرب أرسطو إلى مدينة كلسيس (اسمها حاليًا كلكيس)، حيث مات هناك بعد عام ٍ واحد.

كان من أعظم فلاسفة عصره وأكثرهم علما ومعرفة ويقدر ما اصدر من كتابات بـ 400 مؤلف ما بين كتاب وفصول صغيرة.. وتنقسم مؤلفاته إلى ثلاث مجموعات: 1 - المؤلفات الشعبية، وقد كانت لعامة الجمهور خارج مدرسته.. 2 - المذكرات، وهي تصنيفات من مواد البحوث والسجلات التاريخية أعدَّها بمساعدة تلاميذه؛ لتكون مصدرًا للمعلومات التي يحتاجها العلماء الدارسون.. 3 - المقالات.. وهي تمثل تقريبًا كلَّ مؤلفات أرسطو التي سَلمت من الضياع وبقيت حتى الآن.. وقد كانت المقالات مؤلفةً للطلاب داخل المدرسة فقط.

(2) اللِّيسيوم كان مبنىً رياضيًا في أثينا، يتلقى فيه الصبية والشبان تدريبات بدنية، ويستمعون لمحاضرات يلقيها مشاهير المعلمين.. والمبنى مقام خارج أسوار أثينا بالقرب من أيكة مخصصة لعبادة الإله أبولو ليكيوس، إله الشعر في أساطير الإغريق. أسس أرسطو مدرسة شهيرة هناك حوالي عام 335 ق. م.

سلام للعالمين (185)

قال: أنا لم يكن يهمني من كل تلك الثروة التي حظي بها أستاذي أرسطو إلا ما كان يسميه (الأورجانون)

قلنا: ما (الأورجانون)؟

قال: لقد كان يطلقه على جميع مؤلفاته في المنطق.. والكلمة تعني الأداة.. لأنَّ تلك المؤلفات كانت تبحث عن موضوع الفكر الذي هو الأداة أو الوسيلة للمعرفة.

قلنا: فما المنهج العقلي الذي استفدته منه؟

قال: يمكنكم أن تسموه (منطق الانتزاع).. أو (منهج الانتزاع).. وخلاصته باختصار أن للذهن البشري نوعين من التصورات..

أما أولاها، فهي تصورات أولية، كتصور اللون والحجم والطعم والرائحة، وغيرها مما يتصوره الذهن عن طريق الحواس..

وأما الثانية، فهي تصورات ثانوية، وهي التصورات التي يولدها الذهن البشري منتزعة إياها عن التصورات الأولية، وذلك مثل الكليات المجردة، وتصور العلة والمعلول وما أشبه ذلك.

ومنهجه يعتمد على اعتبار التصورات الأولية أساسا للتصورات الثانوية.. ولذلك، فإنه يستحيل على الذهن القيام بأي تصور ثانوي بدون التصورات الأولية..

وبذلك، فإنه يعتبر الإحساس أساسا للعلم.. وهو يعتبر أن الذهن لا يقوم بنمو ذاتي إلا عندما يدخل حريمه تصور أولي، فيتمخض عن تصور ثانوي.. وذلك مثل الأرض الصالحة التي تنمي أشجارا كثيرة بعد أن تزرع فيها النواة.

قلنا: فهل روى هذا المنهج عقلك الباحث عن الحقائق.

ابتسم، وقال: وكيف يرويه.. وهو منطق شكلي، يهتم بشكل التفكير، ويغفل البحث عن مادة التفكير وموضوعه.. ولذلك فقد تناسي دور السلبيات البشرية التي تدعو إلى الضلالة، كما تناسى دور العقل في تحدي هذه السلبيات.. ولذلك لم يوفق هذا المنطق في إعطائي مزيدا من

سلام للعالمين (186)

التقدم الفكري.

لقد رأيت الكثير من رفاقي ـ المتأثرين بمنطقه الشكلي ـ على مدى أجيال طويلة ينطبع تفكيرهم بطابع الإطلاق وسرعة انتزاع الكلي من جزئيات صغيرة.. فكان يكفي الواحد منهم أن يلاحظ عدة أحداث جزئية حتى يحكم بكلي يشمل ملايين من أمثال تلك الأحداث.

ثم تحول المفكرون إلى الاعتقاد بأن المنطق الأرسطي طريق الوصول إلى الحقائق، غافلين عن أنه منهج للتفكير.. والتفكير هو الطريق.. فأخذوا يركبون القياسات بعضها فوق بعض لعلهم يقفون عليها ليروا الحقائق جميعا.

وقد رأيت أن القوالب الفكرية تحولت عند هذا الفريق، إلى أفكار استغنوا بها عن التجربة، بل زعموا أنها تغنيهم حتى عن عقولهم.. وهكذا لفهم الجمود.

وفوق ذلك، فهو منهج يعتمد على الحس، فيجعله سلطانا على العقل.. مع أن الإنسان لا يمكنه الإيمان بالحس دون وجود عقل يحكم بصدق الإحساس.

قلنا: وما الذي جعلك تعتقد هذا؟

قال: لقد اكتشفت ذلك بأدلة كثيرة (1).. منها ـ مثلا ـ أن المصاب بالدوار لا يشك في أن حسه هو مبعث الإحساس بحركة العالم.. وعند مقارنة حسه بحس الآخرين يكتشف أن الذي يحس به وحده لابد ان يكون خاطئا، فالواقع يجب أن يحس به كل أحد.. وهكذا كل إحساس خاطئ ينكشف زيفه فور مقارنته بإحساس الآخرين، أو بإحساس الرجل ذاته في سائر الأوقات.

وهكذا قد تصاب العين بالمرض فترى الأشياء مقلوبة، ولكن اليد تكشف زيف هذا الإحساس، حين تلمس الأشياء لتجدها سالمة.. وهكذا يحكم العقل بين الأحاسيس المختلفة بمقارنتها ببعضها.

وقد تبصر العين رجلا قزما فلا يتردد العقل من الحكم بأنه طويل القامة، لأنه يقارن المسافة

__________

(1) سنقتصر هنا على بعضها، وسنرى المزيد منها في الفقرات التالية.

سلام للعالمين (187)

بينه وبين الرجل، فيقول: إذا كانت الرؤية من بعد ميل تظهر الشخص بهذا الطول ـ نصف متر ـ فلابد انه إذا اقترب يظهر ذو طول قد يتجاوز المترين.. وهكذا يقدر العقل دور المسافة في العين والأذن وسائر الأعضاء، بل هكذا يقدر سائر القوانين الفيزيائية كوزن الشيء في الماء، فإن الإحساس البسيط يزعم أنه خفيف مثل ما يتصور، إلا أن العقل سرعان ما يحكم بخلاف ذلك.

وعند مقارنة سائر العوارض الداخلية قد تشعر جميع أعضاء الجسم بالبرودة أو بالحرارة الشديدة، ولكن العقل لا يتردد في أن ذلك احساس باطل لأنه يتقارن مع عوارض المرض، مما يدل على زيف الإحساس.

وهكذا رأيت أن كل مقارنة تنطوي على مجموعة من الأحكام العقلية التي لم نعد نلتفت اليها لسرعة تحققها وشدة وضوحها.. فبالمقارنة ـ مثلا ـ بين ما نحس به وأحاسيس الآخرين نرى أنها تنطوي على الحكم الواضح الذي لا نرتاب فيه، وهو أن ما أحس به إن كان هو الواقع وجب ألا يختلف فيه حس الآخرين لأنهما من طبيعة واحدة، وتكشفان عن حقيقة واحدة. فلابد أن يكون الاختلاف بسبب آخر هو المرض والخطأ وما أشبه ذلك.. وبدون العقل من أين نعرف ان الحقيقة واحدة، أو ان الحقيقة الواحدة لا تبث الا لونا واحدا من الإحساس عندي وعند الآخرين، أو ان للإختلاف سببا خارجيا. فلماذا لا يكون الشيء بلا سبب؟

قلنا: أهذا فقط ما جعلك لا تكتفي بما علمك إياه أستاذك أرسطو؟

قال: ليس هذا فقط.. هناك شيء آخر.. لقد رأيت أن أرسطو ينزع منزع أستاذه أفلاطون في اعتبار النفس تسير في نمو ذاتي حتى تصل إلى العلم.. وبذلك يكون العقل وليدا طبيعيا للنفس ضمن حركة جوهرية تكاملية.

وهذا ليس بصحيح.. فإنه إذا كانت حركة النفس إلى أعلى بصورة مستمرة، فكيف تنتكس حتى لا تعلم بعد علم شيئا، وكيف ينسى الإنسان أشياء عرفها، وكيف لا يعلم أشياء يجهلها

سلام للعالمين (188)

بصورة طبيعية، بل كيف يكون محتاجا إلى المعلم (1

وفوق ذلك كله.. فقد رأيت أن المنطق الذي دعاني إلى تعلمه لا يكاد يغني عني شيئا.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد رأيت أنه يرى بأن التصورات لا تنال إلا بالحدود.. وأن الحد هو المركب من الجنس والفصل.. وهذا مبنى على التفريق بين الوجود والماهية، وأن الماهية أسبق على الوجود، وأنها ثابتة فى المادة، مع أنها لا توجد إلا فى الأذهان، وليس فى الخارج سوى الأعيان.. وقد وجدت أن في ذلك تقديرا لحقيقة ليست ثابتة فى الوجود.

على أن التصورات لا تنال بالحدود أصلاً، فاللفظ لا يدل السامع على معناه إن لم يكن قد تصور المعنى، وعلم أن هذا اللفظ موضوع له، فلو استفيد التصور منه لزم الدور، وبطل القول بأنه العبارة الكاشفة.

والحدود إذا كانت مبينة أو مفصلة لمجمل فليس ذلك من إدراك الحقيقة فى شئ وليس لها فائدة زائدة عما للأسماء (2).

هذا على مستوى التصورات.. أما على مستوى التصديقات.. فقد رأيت أن العلم بالقضية الجزئية سابق على العلم بالقضية الكلية، وليس من طريق يعلم به صدق الكلية إلا والعلم بذلك يمكن من العيان بطريق الأولى، فحيث لا يستدل بقياس التمثيل لا يمكن الاستدلال بقياس الشمول.

والبرهان عنده قائم على القضية الكلية، والكلى لا يكون إلا فى الأذهان، وعليه فلا يفيد العلم بشئ موجود (3)..

__________

(1) سنرى المزيد من الردود في خلال هذا الفصل.

(2) انظر الرد على المنطقيين ص 10.

(3) انظر صون المنطق 2/ 135.

سلام للعالمين (189)

فلم يبق من المنطق إذن إلا صورته، وهذا لا يحتاج إليه سائر العقلاء، وليس طلب العلم موقوفًا عليه، فالمعانى العقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص.

الإشراقية

قلنا: فإلى من لجأت؟

قال: لقد سمعت بأستاذ كبير التقيت به في مصر.. كان اسمه (أفلوطين) (1).. فرح بي كثيرا عندما عرف أنني تتلمذت على أفلاطون.. سألته حينها عن العالم، فقال: إن ما تراه من هذا العالم المادي مجرد أوهام لا حقيقة لها..

سألته عن السياسة، فقال: هي أمر تافه لا قيمه له.

سألته عن الجسم، فقال: هو سجن مؤقت للروح.

سألته عن الحياة، فقال: هي رحلة خلال صورة من الأوهام.. أما الحقيقة، فتقع بعيدًا في كائن وحيد كامل، هو مصدر كل الحقيقة والخير والجمال.. أما الأرواح النقية، فيمكنها أن تأمل بالعودة إلى هناك..

قلت: أنا أبحث عن المعرفة في الدنيا.

قال: في الدنيا يمكن أن يتحقق ذلك في بعض الأحيان على صورة كشف روحي.. لقد جرّبت هذا الكشف الروحي.. وأنا أعتبره منهجا من مناهج البحث عن الحقيقة.

قلت: لقد تتملذت على أفلاطون.. لكنه لم يذكر لي ما ذكرته لي.

__________

(1) أفلوطين (205؟ - 270؟ م) هو مؤسس المدرسة اليونانية الفلسفية التي تُعرف باسم (الأفلاطونية المحدثة)، قيل أنه وُلِدَ في مصر، والتحق بحملة حربية إلى الشرق ليتعلم المزيد عن الفلسفة الهندية.. وقضى سنوات حياته الأخيرة في التدريس بروما.. كان يكره الكتابة لكنه ألقى 54 محاضرة في ست وحدات، كل وحدة تسع محاضرات تُسمَّى التُّساعيَّات.. يعكس تشاؤم أفلوطين فقط جانبًا واحدًا من فلسفة أفلاطون حيث ينظر إلى الفلسفة كعزاء أو هروب من العالم.. وكان هذا هو الجانب الذي كان يحبه الرومانيون في عهد أفلوطين.

سلام للعالمين (190)

قال: ربما لم تفهمه.. أنا أفهم أفلاطون جيدا.. بل أعتبر نفسي الوريث الوحيد لأفلاطون..

قلت: لكني أسمع الناس يسمون منهجك (الأفلاطونية المحدثة) (1).. فهل أحدثت فيها ما لم يكن؟

قال: لا.. لقد صغتها فقط صياغة تقربها لأهل عصرنا.. لقد رأيت أن روح الإنسان متشوقة للالتقاء بالله، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق التجربة الروحانية، لذلك كانت فلسفتي جسرًا بين الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية في عهدها الأول..

لقد أثبت أن الحقائق الكبرى لا تنكشف إلا عن طريق الإيمان بالله والفضل الإلهي، وليس عن طريق العقل.

انتفضت قائلا: ليس عن طريق العقل!؟

قال: أجل.. فالعقل حجاب عن الحقائق لا دليل عليها.

قلت: فاشرح لي كيف نصل إلى الحقائق من دون عقل.

قال: للحقيقة مستويات مختلفة.. ويعتمد كل مستوى على حقيقة تلك المستويات التي تعلوه.. وتجاوز الحقيقة بأكملها هو الواحد، والذي هو في حد ذاته غير معروف، ولايستطيع أحد أن يقول إن الواحد هو، لأن الواحد هو ما وراء الوجود.. ولكن الواحد يتمدد أو يفيض إلى المستويات التي دونه، كما يسطع الضوء خلال الظلام، ويصبح أكثر ظلمة كلما مضى أبعد..

والمستوى الأعلى للحقيقة هو ذلك (العقلي) الذي توجد فيه الأشكال كأفكار فيما وراء الوقت والفراغ. والمستوى التالي أكثر ظلمة وأقل حقيقة، وهو الروح.. والمستوى التالي هو الطبيعة، العالم المظلم لأجساد المادة.

__________

(1) الأفلاطونية المحدثة: هي مذهب فلسفي تطوّر عن فلسفة أفلاطون، وأخذت أيضًا عناصر من أفكار فيثاغوروس، وأرسطو والرواقيين.. وقد أسس أفلوطين الأفلاطونية المحدثة. أما رواد الأفلاطونية الآخرون فهم أتباع أفلوطين بورفيري وبروكلس.

سلام للعالمين (191)

وتحت هذه المستويات المادة التي ليس لها وجود حقيقي..

قلت: فهل يمكن رقي الأدنى إلى الأعلى؟

قال: أجل.. فنحن نسكن المستويات الدنيا.. ومع ذلك ترانا نشتاق للصعود والعودة إلى المستويات الأعلى.. بل يمكن لأرواحنا أن تترك أجسامنا، وتسبح في عالم الفكر حيث تستقر الأشكال كأفكار في العقل الإلهيّ.

الثالوثية

بقيت مدة في صحبة أفلوطين.. ومن معه كجُوهانْس سكوتَسْ أريجِينا (1).. وبورفيري (2).. وبروكلس.. وغيرهم كثير.. ومع أني وجدت لذة كبيرة في تلك الأجواء التي كنت أعيشها معهم إلا أن عقلي مع ذلك ثار علي، فلم أكن أدري هل ما كنت أعيش فيه حقائق عليا ينبغي التسليم لها.. أم أنها مجرد أوهام وخرافات وأحلام يقظة، وليس لها أي علاقة بالحقيقة.

في تلك الأيام زارنا رجل مسيحي كان يحمل مبادئ بسيطة.. ولكنها جميلة.. ولكنه لم يكن مقتنعا بها.. فقد كانت له أشواق روحية مع عقل فلسفي، ولم يستطع أن يمزج بينهما، فجاءنا يطلب منا أن نعلمه من مبادئنا ما يستطيع به أن يحول المسيحية إلى ديانة ممتلئة بالأشواق الروحية السامية.. والإشراقات النوارنية الفائضة.. والعقل الفلسفي الحكيم..

__________

(1) هو أريجِينا، جُوهانْس سكوتَسْ (810 - 877 م)، هو فيلسوف ولاهوتي أيرلندي عرف بثقافته الواسعة، وقد بدأ أولى المحاولات لتحقيق فلسفة نصرانية منظمة.. ومن أشهر كتبه تقسيمات الطبيعة. أقر نظرية تعتمد على مبادئ الأفلاطونية المحدثة، وكان يقول إن الفكر والوجود يبدآن وينتهيان بالله، وهو فوق الوجود والفكر، واعتُبِر أريجينا على أثر هذه المبادئ صاحب بدعة، وشجبت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كتاباته.

(2) هو بورفيري (233 - 304 م). فيلسوف ينتمي إلى الأفلاطونية المحدثة، وصف كيف أن جميع الخصائص التي ينسبها الناس إلى الأشياء يمكن تصنيفها. وكان لهذا الموضوع الذي عرضه في كتابه مقدمة للمقولات تأثير كبير في الفلسفة في القرون الوسطى، كما أثار مسألة وضع القضايا الكلية التي شغلت أذهان علماء المنطق لمئات السنين. وهو من مواليد صور، ودرس في أثينا ثم سافر إلى روما حيث انضم إلى أفلوطين.

سلام للعالمين (192)

كان اسم هذا الرجل الذي تحول قديسا فيما بعد هو (أوغسطين) (1).. وقد استطاع بذكائه..

__________

(1) أشير به إلى القديس أوغسطين (354 - 430).. وهو أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية.. بل تعتبره الكنيستان الكاثوليكية والأنغليكانية قديسا، وأحد آباء الكنيسة البارزين، وشفيع المسلك الرهباني الأوغسطيني.. كما يعتبره العديد من البروتستانت، وخاصة الكالفنيون أحد المنابع اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي حول النعمة والخلاص.. وتعتبره بعض الكنائس الأورثوذكسية مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قديسا.

وهو يتحدّر من أصول أمازيغية على الأغلب.. ولد في تغسات عام 354 (حاليا سوق أهراس، بالجزائر) التي كانت مدينة تقع في إحدى مقاطعات مملكة روما في شمال أفريقيا.. وعندما بلغ الحادية عشرة من عمره أرسلته أسرته إلى (مداورش)، مدينة نوميدية تقع 30 كلم جنوبي تغسات. وفي عمر السابعة عشرة ذهب إلى قرطاج لإتمام دراسة علم البيان.

كانت أمه مونيكا أمازيغية ومسيحية مؤمنة، أما والده فكان وثنيا.. ورغم نشأته المسيحية إلا أنه ترك الكنيسة ليتبع الديانة المانوية خاذلا أمه، وفي شبابه عاش أوغسطين حياة متعية وفي قرطاج، كانت له علاقة مع امرأة صارت خليلته لمدة 15 عاما.. وخلالها ولدت له خليلته ابنا حمل اسم أديودادتوس..

كان تعليمه في موضوعي الفلسفة وعلم البيان، علم الإقناع والخطابة.. وبعد أن عمل في التدريس في تغسات وقرطاج انتقل عام 383 إلى روما لظنّه أنها موطن خيرة علماء البيان، إلا أنه سرعان ما خاب ظنه من مدارس روما وعندما حان الموعد لتلاميذه أن يدفعوا ثمن أتعابه قام هؤلاء بالتهرب من ذلك. بعد أن قام أصدقاءه المانويين بتقديمه لوالي روما، الذي كان يبحث عن أستاذ لعلم البيان في جامعة ميلانو، تم تعيينه أستاذا هناك واستلم منصبه في أواخر عام 384.

في ميلانو بدأت حياة أوغسطين بالتحول. من خلال بحثه عن معنى الحياة بدأ يبتعد عن المانوية منذ أن كان في قرطاج، خاصة بعد لقاء مخيب مع أحد أقطابها. وقد استمرت هذه التوجهات في ميلانو إذ ذهبت توجهت أمه إليها لإقناعه باعتناق المسيحية كما كان للقائه بأمبروزيوس، أسقف ميلانو، أثرا كبيرا على هذا التحول.

وقد أعجب أوغسطين بشخصية أمبروزيوس وبلاغته وتأثر من موعظاته فقرر ترك المانوية إلا أنه لم يعتنق المسيحية فورا بل جرّب عدة مذاهب وأصبح متحمسا للأفلاطونية المحدثة.

وفي صيف 386، بعد قراءته سيرة القديس أنطونيوس الكبير وتأثره بها قرر اعتناق المسيحية، وترك علم البيان ومنصبه في جامعة ميلانو والدخول في سلك الكهنوت، فقام أمبروزيوس بتعميده وتعميد ابنه في عام 387 في ميلانو. وفي عام 388 عاد إلى إفريقيا وقد توفيت أمه وابنه في طريق العودة تاركين اياه دون عائلة.

بعيد عودته إلى تغسات قام بتأسيس دير.. وفي عام 391 تمت تسميته كاهنا في إقليم هيبو (اليوم عنابة في الجزائر)، وأصبح واعظا شهيرا (وقد تم حفظ أكثر من 350 موعظة تنسب إليه يعتقد أنها أصيلة)، وقد عُرِف عنه محاربته المانوية التي كان قد اعتنقها في الماضي.

وفي عام 396 تم تعيينه أسقفا مساعدا في هيبو وبقي أسقف خيبو حتى وفاته عام 430 رغم تركه الدير إلا أنه تابع حياته الزاهدة في بيت الأسقفية الأنظمة الرهبانية التي حددها في ديره أهلته أن يكون شفيع الكهنة.

توفي أوغسطين وعمره 75 بينما كان الفاندال يحاصرون هيبو، ويُزعم أنه شجع أهل المدينة على مقاومة الفاندال وذلك لاعتناقهم الاريوسية.. ويُقال أيضا أن توفي في اللحظات التي كان الوندال يقتحمون أسوار المدينة.

وقد تحدثنا عنه وعن فلسفته وعلاقتها بالمسيحية في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (193)

وبعد فترة قصيرة.. أن يحول من المسيحية البسيطة إلى ديانة فلسفية عميقة، لأنه كان يعتقد أن الديانة التي ينبغي أن يبشر بها في العالم لا يصح إلا أن تكون من هذا النوع (1).

لقد مزج بساطتها أولا بـ (الأفلوطونية)، وهي مدرسة غربية في الأمة الإغريقية اليونانية.

ومزجها ثانيا بـ (الأفلوطونية الحديثة)، وهي مدرسة في الشرق بالإسكندرية، هيئ لها جو من أساتذة الفكر الروماني اليوناني، كما هيئ لشيخها أن ينقل عديدا من ثقافات الهند وفارس ويصهرها كلها في بوتقة واحدة.

ومزجها ثالثا بالتنظيم الثالوثي في الوثنية القديمة لدولة الرومان (2).

لست أدري كيف بدا لي أن أسافر إلى (تاجاست) حيث يتواجد (أوغسطين).. وهناك انضممت إلى جماعة من الرهبان الذين كان القديس أوغسطين يشملهم برعايته..

في صحبته علمت الأثر الكبير الذي أحدثته الأفلاطونية المحدثة في هذا القديس.. وقد أعجبني من تعاليمه دعوته إلى الاشتغال بالله وعدم الانشغال باهتمامات الدنيا ومتاعها.

ولكن الذي لم يعجبني وظللت فترة طويلة تحت أسره هو تلك الصور المشوهة عن الله.. والتي لم يكن عقلي يستطيع أن يتقبلها.. فكنت بين نارين: نار الأشواق الجميلة التي تصبها في نفسي تلك المواعظ والأشعار.. ونار عقلي الذي يحترق لأنه لم يجد حقيقة منطقية مقبولة يستطيع أن يسلم لها.

المدرسية

__________

(1) ما نذكره هنا ليس بالضرورة آراء أوغسطين وحده.. بل نشير من خلاله إلى المسيحية المتأثرة بالفسلفات والمذاهب المختلفة.

(2) رأينا الأدلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (194)

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: ذهبت إلى (نابولي).. وهناك وجدت مدرسة دومينيكانيه (1).. وفيها التقيت بأستاذ حاول أن يجمع بين أفكار أرسطو الرئيسية مع التوراة والعقيدة المسيحية.. كان اسمه (القديس توما الأكويني) (2)

وقد رأيت من خلال صحبتي له أنه لم يأل جهدا في المزج بين فكر أرسطو، والفكر اللاهوتي.. وقد رأيت كثرة أتباعه.. بل رأيت أن فلسفته تحولت إلى الفلسفة الرسمية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية.. وكانت تسمى عندها (الفلسفة المدرسة) (3) أو (فلسفة المدرسيين)

__________

(1) نسبة إلى تنظيم ديني روماني كاثوليكي أسسه القديس الأسباني (دومينيك) في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي.. وقد اشتهر الدومينيكانيون بأنهم وعاظ ومدرسون ومنصرون.. وكان تنظيم الدومينيكانيين أول تنظيم يؤكد العمل الذهني، إذ أن الأنظمة السابقة قد ركزت على الأعمال اليدوية، وخلال جيل من قيام التنظيم، ترأس الدومينيكانيون الأقسام اللاهوتية في كثير من الجامعات الكبيرة، ومن بين الأعضاء ذوي الشهرة في التنظيم القديس ألبرتوس ماجنوس والقديسة كاثرين السيناوية، والقديس توما الأكويني.

(2) هو القديس توما الأكويني (1225؟ - 1274 م).. كان أحد أشهر الفلاسفة وعلماء اللاهوت الذين عرفتهم العصور الوسطى في الغرب بتأثيره البالغ على الفكر النصراني، وبصفة خاصة على مذهب الروم الكاثوليك.

نشأ ببلدة روكاسيكا قرب كاسينو بإيطاليا، وتلقى تعليمه بجامعة نابولي، وانضم إلى سلك الرهبنة الدومينيكاني. عين قسيسًا على يد القديس ألبرت الكبير عالم اللاهوت الألماني، ثم صار توما أستاذًا للاهوت في جامعة باريس، حيث اشتهر بتميزه في الجمع بين ورعه الديني، وذاكرته الموسوعية وفرط تركيزه.

وفي عام 1258 م بدأ في تأليف كتابه (الدعوة إلى دحض المنكرين للعقيدة)، يدافع فيه عن عقلانية العقيدة المسيحية، موجهًا خطابه إلي غير المسيحيين. وفي الفترة مابين الأعوام 1259 و1268 م خصَّص كتاباته للتعليق على كتابات الفيلسوف اليوناني أرسطو. وفي عام 1265 م بدأ في تأليف أشهر أعماله المسمى بحث لاهوتي شامل. وقد اهتم فيه بشرح العقيدة النصرانية بتصنيف وترتيب متقن. ولكنه مالبث أن توقف عن التأليف، إذ أعلن عن دخوله في تجربة وجدانية تركته يوقن أن مجمل ما فعله حتى ذلك الحين لايرقى إلى ماتبدَّى له إثر ذلك الفيض الروحاني. وقد قام البابا يوحنا الثاني والعشرون بإعلانه قديسًا في العام 1323 م. ويُحتفل بعيده في السابع من مارس من كل عام..

(3) سادت هذه المنظومة الفكرية بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر الميلاديين، وهي تُشير إلى منهج فلسفي للاستقصاء، استعمله أساتذة الفلسفة واللاهوت في الجامعات الأولى التي ظهرت في أوروبا الغربية. وكانوا يُسمّون المدرسيين.

ويعتمد المنهج المدرسي على التحليل الدقيق للمفاهيم، مع التمييز البارع بين المدلولات المختلفة لتلك المفاهيم. وقد استعمل المدرسيون المحاكمة الاستنتاجية انطلاقًا من المبادئ التي وضعوها بمنهجهم، بقصد إيجاد الحلول للمشكلات العارضة.

نشأت المدرسية نتيجة لترجمة أعمال أرسطو إلى اللاتينية التي هي لغة الكنيسة النصرانية في العصر الوسيط. فهذه الأعمال حثت المفكرين آنذاك على التوفيق بين

قدّم المدرسيون مساهمات قيمة في تطور الفلسفة، منها ما قدّموه من أعمال في مجال فلسفة اللغة. حيث بينوا كيف يمكن لخصائص اللغة أن تؤثر في تصورنا للعالم. كما أنهم ركزوا على أهمية المنطق في البحوث الفلسفية.

سلام للعالمين (195)

عندما دخلت عليه في مدرسته سمعته يتحدث إلى تلاميذه الذين كانوا يسجلون كل ما يقوله.. كان يقول لهم (1): مثلما تجسد الابن فإنه من الممكن لكل من الأب أو روح القدس أن يتجسد.. تماماً مثلما فعل الابن..

ثم يستغرق في صمت عميق، وكأنه يتلقى وحيا من السماء، ثم يقول: إن الابن، الكلمة الأزلية، قادر تماماً على أن يتجسد مرة أخرى، في روح وجسد فرد إنساني آخر مختلف، مولود من أم أخرى أو مولود من أم وأب، من جنس مختلف وعرق مختلف وفي بلد آخر وزمن آخر متكلماً لغة أخرى ومستخدماً نموذجاً من الصورة البشرية مختلفة تماماً عن المسيح ليبشّر برسالته ويشرح العلاقة بين الله والعائلة البشرية.

ثم يستغرق مرة أخرى، ثم يقول بعدها: إن الله لم يصر إنساناً لأجل أن يكون يهودياً ذكراً من أهل القرن الأول الميلادي ذا طول وعرض.. بل الله اختار الإنسان لأجل أن تكون لِلَّه طبيعة جنس الإنسان ككل.. ولذلك فإنه من الممكن للأب والابن وروح القدس أن يتجسدوا ثلاثتهم جميعاً مع بعض وفي وقت واحد في إنسان فرد واحد فقط، أو في عدة أفراد..

لم أكن أدري الأسس المنطقية التي ينطلق منها هذا المدرس.. فقد قرأت الكتاب المقدس، ولم أجد فيه ما يذكره.. سألته عن المنطق العقلي الذي يبرر أقواله هذه.. فنظر إلي كالحزين، وقال: إن الحقائق التي يقدمها الإيمان لا يقوى العقل على التدليل عليها، ففي استطاعة العقل أن يتصور

__________

(1) ما نذكره هنا ذكره القديس توما في كتابه (Summa) (الجزء 3 / المسألة 3، الفقرات 5 ـ 8 والمسألة 4، الفقرات 4 ـ 6)

سلام للعالمين (196)

ماهية الله، ولكنه لا يستطيع أن يدرك تثليث الأقانيم، ومن دلل على عقيدة التثليث في الأقانيم حقر من شأن الإيمان (1).

ثم أضاف يقول، وتلاميذه يكتبون: حتى الكنائس الشرقية تقول هذا، فالقس باسيلوس يقول: (إن هذا التعليم عن التلثيث فوق إدراكنا، ولكن عدم إدراكه لا يبطله).. ووزميله توفيق جيد يقول: (إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس تعتبر أعماقاً إلهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نتفلسف في تفكيكها أو تحليلها أو أن نلصق بها أفكاراً من عندياتنا) (2)

التجريبية

قلنا: فهل ظللت في صحبته بعد أن سمعت منه هذا الموقف من العقل؟

قال: لا.. لم أستطع أن أستمر طويلا في صحبته.. فقد كان مع احترامه الشديد لأرسطو وللمنطق أبعد الناس عن أرسطو وعن المنطق.. وما كان لعقلي أن يرضى بصحبة من هذا حاله.

قلنا: فإلى من لجأت؟

قال: في ذلك الحين بدأت في أوروبا حركة ثقافية كبرى، تسمى النهضة، أعقبت نهاية العصور الوسطى.. وصار لكثير من الناس شغف كبير بالعلوم.. كل العلوم..

وقد أصابني من عدوى ذلك الشغف ما أصابني.. فلذلك رحت أبحث عمن يلبي أشواق عقلي للمعارف وأسباب المعارف ومناهجها.

وقد دلني بعضهم على رجل يقال له (فرنسيس بيكون) (3) رأيته قصد أخا له يقال له (روجر

__________

(1) قصة النزاع بين الدين والفلسفة، توفيق الطويل: 83.

(2) الله واحد أم ثالوث: مجدى مرجان: (11)

(3) هو (فرانسيس بيكون) Bacon، Francis (1561 ـ 1626 م)، وهو فيلسوف ورجل دولة إنجليزي، كان من المؤيدين الأوائل الأساسييّن والأكثر نفوذًا للمذهب التجريبي ومن المؤيدين لاستعمال الطرق العلمية لحل المشكلات.

من أهم كتبه الفلسفية: التقدم في التعليم (1605 م)؛ الأورغانون الجديد (1620 م) وهما الكتابان الوحيدان اللذان أتم كتابتهما ضمن مشروع في ستة أجزاء يُسمَّى التجديد الكبير. وهو في طرق بحث ونظريات وإنجازات العلوم التجريبية. وكتب بيكون أيضًا مقالات ذات طابع هزلي ومقالات مبتكرة.

سلام للعالمين (197)

بيكون) (1).. كان قد نقل إلى سجن بدير الراهبات بباريس.. ذهبت معه إلى الدير.. وتوسلنا إلى الراهبات بكل ما أمكننا أن نتوسل به.. فأذن لنا.. وهناك صحبناه مدة من الزمان.

كان أول ما بدأنا به أن قال لنا (2): لن يعقل عقلك حتى تحطم الأصنام التي تحيط به.. والتي تمنعه من التفكير السليم.

سألته عنها، فقال لي: هي أربعة..

__________

(1) روجر بيكون (1214؟ - 1292 م؟). كان فيلسوفًا وعالمًا إنجليزيًا. وهو يعد واحدًا من الشخصيات الرائدة في تطوير العلوم في القرون الوسطى.. عُرف بصفته مؤسسًا للعلوم التجريبية وأحد الباحثين الأوائل في دراسة علم البصريات، وقد ساعد على إرساء القواعد للثورة العلمية التي ظهرت في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.

وُلدَ في سومرست في إنجلترا ودرس الفنون الحرة والفلسفة في جامعة أكسفورد، ثم ترك أكسفورد في ثلاثينيات القرن الثالث عشر الميلادي وبدأ يدَرِّس في جامعة باريس.. عاد إلى أكسفورد وأمضى السنوات العشر التالية من حياته في دراسة مكثفة للرياضيات، والتقنية وخصوصًا علم البصريات.. انضم بعدها إلى جماعة الفرنسيسكان الدينية وعاد إلى باريس ليحث على الإصلاح الثقافي داخل الكنيسة وليكرس نفسه لاكتشاف ونشر نظام لكل المعرفة.

وفي هذا الوقت، قام نزاع في داخل الجماعة الفرنسيسكانية، ونتج عنه وضع رقابة على الكتب. وسمح رؤساء بيكون له بالاستمرار في الكتابة ولكنهم منعوه من نشر أعماله.

وتنفيذًا لرغبة طلب البابا كليمنت الرابع، جمع بيكون ملخصًا لنظام المعرفة وأرسل الملخص المسمى أبوس مايوس (العمل الأطول)، إلى البابا في عام 1267 م، وأصبح هذا الملخص من أبرز وأهم أعمال بيكون.

خلال السبعينيات من القرن الثالث عشر الميلادي، كتب بيكون في علم الفلك والرياضيات وعلم الفيزياء. وفي عام 1278 م انتقدت الكنيسة بعض مؤلفاته وسجن في باريس في دير الراهبات حتى عام 1292 م. وقبل فترة وجيزة من وفاته، أتم بيكون كتابه: ملخص لدراسات علم اللاهوت، وفيه أعلن ماكان يعتبره من شرور العالم النصراني.

كانت أهم الأعمال التي كتبها بيكون في العلوم ولكنه كتب أيضًا في الفلسفة وعلم اللاهوت. وتوضح هذه الأعمال تأثر بيكون بالفيلسوف الإغريقي أرسطو، وعالم اللاهوت النصراني القديس أوغسطين وابن سينا.

(2) ما ذكرناه هنا هو في الأصل لفرنسيس بيكون لا لروجر بيكون.. مع التنبيه إلى أنهما لم يعيشا في عصر واحد كما ذكرنا في ترجمتهما.

سلام للعالمين (198)

أولها.. صنم الطائفة.. إنه صنم ينحرف بمرآة العقل، فيعكس الحقائق بغير صورتها الأصلية.

وثانيها.. صنم الفرد ذاته.. وهو صنم تفرضه طبيعة الميول الخاصة بكل واحد منا، حيث تسبب هذه الميول الشخصية انحرافات بعيدة في فكر الإنسان.

وثالثها.. صنم السوق.. سوق المعرفة.. وهي الأفكار الخاطئة التي تتسرب إلى أذهاننا بسبب العبارات الغامضة، فعلينا تنقية العبارات حتى نستطيع الوصول إلى الحقائق.

ورابعها صنم المعرض (معرض الأفكار القديمة) التي تحتوي أفكار الفلاسفة السابقين، وتسبب ضغطا شديدا على أذهاننا، وبالتالي أخطاءا جسيمة.

قلت: أنت تحتقر الأفكار القديمة إذن؟

قال: أنا لا أحتقرها.. ولكني أرى أن منهجهم في التفكير لن يوصلهم إلى شيء.. ولن تتطور الإنسانية ما دامت تتمسك به.. والمنطق الذين يعتمدون عليه، ويستقون منه أفكارهم هو منطق صوري لا يفيد علما جديدا، انما هو ترسيخ للمعلومات السابقة وإلزام الخصم بها.

قلت: فما منطقك البديل؟

قال: منطقي البديل هو الذي ينهض بالعلم.. إنه ينطلق من القياس والتعقل، واستخراج الكليات من الجزئيات، بعد الاستقراء فيها، وتنويعها، والتعقل فيها، وبدون ذلك يظل الاستدلال عقيما، وبدون أساس ثابت.

الرياضية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل جمع بين الفلسفة والرياضيات.. ولذلك كان له من العقل ما أرضى به بعض

سلام للعالمين (199)

عقلي.. كان اسمه (رينيه ديكارت) (1).. ولكني ـ للأسف ـ لم ألقه إلا قبل فترة وجيزة من وفاته.. كان خارجا حينها من قصر الملكة كريستينا.. ملكة السويد..

قال لي أول ما التقيته: لاشك أنك تبحث عن منهج يستطيع به عقلك أن يصل إلى الحقائق من أقرب طريق، وأوثق طريق.

قلت: لقد قرأت ما في عقلي.. وأحسب ذلك كافيا لأن يجعل عقلي يعقد صحبة مع عقلك.

قال: لن يتيح عقلي لعقلك صحبته إلا إذا تخلق بأربع خلال.

قلت: فما أولها؟

قال: الاستقلال الفكري..

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: يجب ألا يعتقد عقلك إلا بما يكون واضحا لديه مقبولا لا ريب فيه..

قلت: فكيف يتسنى لي هذا؟

قال: بأربعة أركان:

أولها.. أن ترفض أفكار السابقين إذا خالفت العلم.. إذ أن اتباع الآخرين في العلم يشبه

__________

(1) رينيه ديكارْتْ (1596 - 1650 م)، ويعرف أيضا بكارتيسيوس Cartesius فيلسوف فرنسي ورياضياتي وعالم يعتبر من مؤسسي الفلسفة الحديثة ومؤسس الرياضيات الحديثة.. والكثير من الأفكار والفلسفات الغربية اللاحقة هي نتاج وتفاعل مع كتاباته التي لا تزال تدرّس إلى اليوم..

ولد في لاهاييه قرب شاتيليرو. وتعلَّم في إِحدى الكُلِّيَّات اليسوعيَّة، وخدم في جيوش بَلَدَيْن، كما سافر كثيرًا، وقد مكَّنته الأَموال التي ورثها والتي جاءته ممن تولوه بالرِّعاية من تكريس معظم وقته للدِّراسة.. وفي الفترة بين 1628 و1649 م، عاش ديكارت حياة علميَّة هادئة في هولندا، وأنتج معظم مؤلفاته الفلسفيَّة.. وفي أواخر عام 1649 م، قَبِلَ دعوة من الملكة كريستينا لزيارة السّويد حيث أُصيب بمرض عُضال وتوفي هناك.

له ثلاثة مؤلَّفات رئيسية هي: رسالة في منهج التَّصرُّف العقلي السليم للمرء والبحث عن الحقيقة في العلوم (عام 1637 م) ويُعرف هذا الكتاب باسم شائع وهو رسالة في المَنْهَج.. أَمَّا الكتابان الآخران فهما: تأمُّلات في الفلسفة الأُولى (عام 1641 م) ولعلَّه أَهمّ عمل لديكارت، ومبادئ الفلسفة (عام 1644 م). وأَصبحت فلسفته تُعْرَفُ بالديكارْتيَّة.

سلام للعالمين (200)

الأعمى الذي يقوده العميان.. ولهذا، فكلما كان واضحا عند النفس وضوحا شديدا كان معلوما، حتى ولو لم يكن واضحا عند القدماء.

وثانيها.. يجب ألا تتسرع في الحكم بشيء.

وثالثها.. يجب التخلص من الأهواء الداخلية.. فكما أن أفكار القدماء تأسر قلب المتعلم حتى يكاد لا يبصر الحقائق، كذلك أهواء النفس قد تأسر القلب ولا تدعه يكتشف الحقائق.

ورابعها.. اجعل وجدانك حكما على الأشياء، بحيث لا تقبل أي شيء إلا إذا كان واضحا ماثلا أمام وجدانك تماما.

قلت: عرفت أولها.. فما ثانيها؟

قال: التحليل.

قلت: ما تريد به؟

قال: بما أن علم الإنسان أوضح بالبسائط منه بالمركبات، فلا بد أن تحلل الحقيقة إلى أكبر قدر ممكن من البسائط.. فالمسائل كما تعلم قد يتضح جزء منها ولا يتضح جزء آخر.. ولذلك فإن التحليل هو الذي ينقذ الفكر من من التردد، ويضع لكل جزء من المسألة ما يناسبه، دون اختلاطه بالجزء الآخر.

قلت: فما ثالثها؟

قال: التدرج..

قلت: ما تريد بالتدرج؟

قال: بما أن التحليل يؤدي إلى تعقيد الروابط بين الأجزاء.. فإن ترتيب الفكر والتدرج في البحث عن الواقع الأبسط فالأبسط هو الذي يحمي التحليل من ذلك.

قلت: فما رابعها؟

قال: الاستقراء..

سلام للعالمين (201)

قلت: ما تريد به؟

قال: هو الاستقصاء عن كل ما يكشف أي جزء من المسألة حتى تشبعه بحثا وتنقيبا فلا نتحول إلى الجزء الثاني الا بعد ان ننتهي من الجزء الأول في البحث.

قلت: عرفت أصول منهجك.. فما فروعه؟

قال: لقد وجدت أن مقدار العقل واحدا عند الناس جميعا.. وذلك جعلني أعتقد أن المنهج الذي يبنغي للعقل أن يتبعه ويسير فيه واحد أيضا.. ولذلك يجب ألا يكون هناك أي فرق بين العلوم المختلفة في المنهج.

قلت: فأي منهج موحد يجب أن تسير فيه العلوم جميعا؟

قال، وبقوة: إنه منهج الرياضيات الذي يبحث عن الكم.. إنه منهج محدد وواضح.. لذلك يجب بحث جميع العلوم حتى الطبيعيات في ضوء هذا المنهج.

نستطيع على ضوء هذا المنهج أن ندخل القياسات الكمية في العلوم الطبيعية.. بل نستطيع أن نحول المرض والقوة والحرارة وما أشبه ذلك إلى أمور مقاسة بالكم.

إن الطريقة الرياضية ـ وخصوصا طريقة الجبر ـ هي الطريقة الوحيدة لمعرفة جميع العلوم.

قلت: فهلا شرحت لي ما تريد بهذا المنهج؟

قال: افترض ـ أولا ـ حلا مسبقا لمشكلتك.. ثم عدد النتائج التي قد تترتب على هذا الحل على افتراض صحته.. ثم فتش عن هذه النتائج لترى هل هي موجودة فعلا أم لا..

مثلا، لو طرحت عليك مسألة تقول: هل الحديد يتمدد بالحرارة؟.. فإن الجواب السليم لذلك هو أن تفترض أولا حلا للمسألة بأنه (نعم الحديد يتمدد بالحرارة) ثم تبحث عن النتائج المترتبة على ذلك؟.. وأولى النتائج أنه من تمدد الحديد لا بد أن يعوج الحديد أو يكسر أيام الحر لأنه حديد ممتد.. أو لا بد أن يكون بين قطع الحديد فواصل تظهر أيام الشتاء، وتختفي أيام الصيف.. فهذه هي النتيجة المترتبة على الحل المفترض.

سلام للعالمين (202)

وهذه النتائج تجعلك تلاحظ الواقع الخارجي لترى صحة النتيجة خارجا، فتعرف مدى صحة الفرضية.

ثم التفت إلي، وقال: أليس هذا خيرا من منهج أستاذك أرسطو.. ذلك المنهج العقيم الذي لا يزيدك إلا جهلا.. (ان النتيجة في منطقه ليست سوى صيغة أخرى للمقدمة.. فإن كانت المقدمة صحيحة فإن النتيجة معلومة بصورة آلية.. وإن كانت إحدى المقدمات باطلة، فإن المنطق ليس سوى وبال)

قال لي ذلك، ثم سار، وسرت معه مدة من الزمان أتتلمذ على يديه كما تتلمذت الأجيال الكثيرة.. لكن عقلي مع ذلك ومع احترامي لاكتشافاته العلمية التي تمت على ضوء منهجه الجديد كنت أرى في منهجه مجموعة نواقص..

منها أنه لم يركز في منهجه على دور التجربة في فهم الحقائق، مما صبغ منهجه بالصبغة الصورية.. وهو بذلك وقع فيما وقع فيه أرسطو من قبل.

ومنها أني رأيت أن تبسيط العلوم يفيد في كثير من الأحيان.. ولكنه بالرغم من ذلك قد يوصلنا إلى طرق مسدودة.. فمثلا، لو أردنا البحث عن حقيقة الوجود أو العدم، لا نصل إلى نتيجة.. فليس الأمر كما ذكر ديكارت دائما، بأنه في سبيل البحث عن الحقائق لا بد من تبسيطها إلى آخر درجة ممكنة، لأن العلم بالبسائط أسهل من العلم بالمركبات.. كلا فبعض البسائط، العلم بها لا يختلف عن المركبات في صعوبته.

ومنها أن العلوم في لحظة وحدتها في جهة تختلف في جهات عديدة، وليس من الصحيح وضع منهج واحد لجميع العلوم، كما حاول ذلك ديكارت.. وقد تنبه المتأخرون إلى مدى فرق العلوم عن بعضها، فوضعوا لكل واحد منها منهجا بعد الإشارة إلى المنهج العام الذي يشمل جميع العلوم.

بالإضافة إلى نواقص أخرى كثيرة اكتشفتها بعد أن صحبت العقل الذي اجتمعت فيه

سلام للعالمين (203)

العقول.. والذي لم أرحل لهذه البلاد إلا لأجل البحث عنه.

-\--\-

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: لقد لقيت في طريقي رجلا لم تتح لي معرفته بالتفصيل.. كان اسمه (مابرانش) (16081715).. كان على ما يبدو تلميذا من تلاميذ ديكارت.. رآني مهتما، فقال: أنت تبحث عن المستحيل.. فلذلك لك أن تهتم.

سألته: ما تعني؟

قال: أنت تريد أن تعلم حقائق الأمور.. وهذا ما لا يكون.

قلت: لم؟.. وما الحائل بيني وبينها؟

قال: ما دام عقلك يصحب جسمك، ويندمج معه، فيستحيل أن تعرف الحقائق.. لأن حواسك وخيالك الفارغ ورغباتك النفسية ستحول بينك وبين الحقائق.

قلت: كيف تتسبب الحواس في حجب العقل عن الحقيقة؟

قال: تعليل ذلك البسيط.. إن الهدف الفطري من الحواس يختلف عن الهدف الذي ينشده الإنسان، ولذلك يتورط الإنسان في الخطأ.. إن الغاية من الحواس بالأصل هي ايجاد علاقة مناسبة بين الجسم والعالم المحيط به، حتى يبقى الجسم مصونا من الأخطار.. بينما يستخدم البشر حواسهم فيما هو وراء هذه الغاية، وهو البحث عن العلم بحقائق الأمور، جهلا بأنها إنما تنقل المظاهر الساذجة والآثار السطحية إلى ضمير الإنسان، حتى يتجنبها لأنها هي غايته الطبيعية.

إن حواسنا ـ مثلا ـ تشعر بالألم إزاء بعض الإثارات الخارجية.. فهل الألم أثر من آثار تلك الأمور الخارجية كما نتصور وكما نقول ظاهرا بأن الضرب مؤلم، فننسب الألم إلى الضرب، ونجعله صفة من صفاته؟.. كلا إنما هو من مقتضيات ذواتنا نحن، فهي التي تتأثر بالضرب، ولا دخل له بصورة الحياة الخارجية، ونحن إنما نعبر عن الضرب أنه مؤلم لبيان نوعية العلاقة التي تربطه

سلام للعالمين (204)

بأجسامنا.

أضف إلى هذا أخطر داء يحول بيننا وبين العلم بالحقائق.. إنه (التوهم).. إنه الداء الذي يجعلنا نزعم صحة أفكار الآخرين، فنتبعهم بينما هي باطلة وانما تخيلنا خيالا.

أضف إلى هذا كله الرغبات النفسية فإنها تولد الحب والبغض في الإنسان.. وهما بدورهما يحجبان نور العقل ويوقعان الإنسان في الخطأ..

أضف إلى هذا الصفات النفسية.. فهي أشد أثرا في القلب من الرغبات النفسية، لأن الصفة المنحرفة بذاتها تسبب الخطأ، دون واسطة الحب والبغض.

ليس ذلك فقط.. بل إن طاقة الفهم (العقل) قد تتسبب في الخطأ، ذلك لأنها بطبيعتها محدودة بينما يزعم الإنسان أنها قادرة على كشف الأشياء جميعا.. وهذا الغرور سبب خطير من أسباب الخطأ البشري.

قلت: عرفت الأدواء.. فما الدواء؟

قال: يجب ـ أولا ـ أن تطرح أي مسألة بصورة مبسطة.. ثم تبحث عن الوسائط المشتركة.. ثم تحذف الزوائد.. ثم تلخص المعلومات بقدر الإمكان.. ثم تتدبر في نوعية ترتيب المعلومات مع بعضها بدقة تامة.. ثم تقابل المعلومات المركبة مع بعضها لحذف المكررات عنها.. ثم تحذف الأمور غير المفيدة.. وهكذا إلى أن تصل إلى ما قد يتاح لك من الحقائق.

العقلانية المادية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل من هولندا كان اسمه (اسبينوزا) (1).. لقيته في أمستردام بين أعضاء جماعته

__________

(1) هو باروك سبينوزا (1632 - 1677 م)، فيلسوف عقلاني مادي، من أهم فلاسفة الحضارة الغربية الحديثة، بل هو ـ مع نيتشه ودريدا ـ فيلسوف العلمانية الأكبر.. عاش في هولندا، ولكنه من أصل ماراني. أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا من قادة الجماعة اليهودية ومن كبار التجار فيها، وكانا يعملان بالاستيراد أساساً.

ولد في أمستردام لأبوين يهوديين. اكتسب في بدء حياته سمعة المفكر الحر، ولذلك طرد من المجتمع اليهودي في عام 1656 م. ثم عاش في عدة مدن في هولندا صانعًا للعدسات.

كان سبينوزا طوال حياته داعيًا للتحرر الديني والسياسي.. وكان يعتز باستقلاله، ورفض عروضًا لمعاش من الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وأستاذية جامعية في ألمانيا. وبالرغم من أن سبينوزا وجد الاحترام من الجميع فإنه كان مثيرًا للجدل بسبب آرائه الشاطحة في الدين والفلسفة والسياسة.

تأثرت فلسفة سبينوزا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وتبنى آراء ديكارت في أن الفكر والمادة هما النظامان الأساسيان للواقع، وأن العالم المادي ليس سوى أجزاء من المادة تتحرك وتتفاعل وفق قوانين سببية. إلا أنه في كتابه الأخلاق (نُشر بعد موته بقليل)، طور أفكار ديكارت بطرق غير تقليدية تمامًا. ادعى سبينوزا بأن الإله أو الطبيعة هي المادة الحقيقية، وزعم أنّ الفكر والمادة هما من الصفات المتناهية للإله، وأن كل الأشياء الفانية (مثل عقول البشر وأجسامهم) مجرد أشكال أو حالات من صفات الإله.. لم يترك سبينوزا مجالاً لأي استثناءات للسببية، منكرًا الإرادة الحرة للبشرية والإله.. إلا أنه رأى، أن حرية العقل يمكن أن تحقق بالفهم العقلاني لمكاننا في الطبيعة وخضوعنا لقوانينها خاصة قانون الانفعالات.

وقد تعددت روافد فلسفة سبينوزا فكانت من بينها روافد يهودية، ولكنه كان يرفض صحة القول بدقة أسفار العهد القديم ـ وقد ذكرنا رأيه في هذا في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة ـ وهو يرفض دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار.. وقد تأثر كثيرًا بفلاسفة العصور الوسطى من اليهود مثل موسى بن ميمون وابن جبرول وهذان كانا متأثرين بالفلاسفة الإسلاميين الذين جمعوا في تصوراتهم، لله والخلق والكون، بين الإسلام والمشائية والأفلاطونية المحدثة.

سلام للعالمين (205)

اليهودية.. وقد كان حينها مطرودا مهانا بينهم بسبب ادعائه بأن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية ليست سوى استعارات ومجازات غايتها أن تعرّف بطبيعة الله.

لم يكن يهمني منه إلا البحث عن منهجه العقلي.. فقد سمعت أنه من تلاميذ ديكارت.. وأنه من الذين حاولوا أن يطوروا أفكار ديكارت ومنهجه.

عندما التقيت به أول مرة قال لي: لقد رأيت بعد بحث طويل ومعاناة قاسية أن طرق معرفة الأشياء أربعة لا خامس لها..

أما أولها.. وأدناها فهي ما نتلقاه من أفواه الناس.. كمعرفتنا مثلا بيوم ميلادنا..

وأما ثانيها.. فالتجربة المجملة.. كمعرفة الناس ـ بعد التجربة ـ أن النفط مما يحترق.

وأما ثالثها.. فمعرفة الرابطة بين الجزئيات والكليات.. كما نعلم بالحرارة بعد العلم بوجود النار.. وهذا الطريق أفضل من الطرق التي سبقته.

سلام للعالمين (206)

وأما رابعها.. وأعلاها.. فهو الوجدان الذاتي والشهود الشخصي.. وهو طريق لا يأتيه الخطأ، لأنه منطبق مع المعلوم، ويأتي بعلاقة مباشرة بين الفرد والمعلوم، ولذلك فهو موجب لليقين، وهو يتعلق بالبسائط والمبادئ الأولية، وموارده قليلة جدا (1).

قلت: لم كان كذلك؟

قال: لأن العلم بالبسائط.. أي بالطريق الوجداني.. واضح ومحدد وموافق مع المعلوم الخارجي، ولسنا بحاجة إلى حجة تدل على صحته.. ولهذا فلسنا بحاجة إلى البحث عن منهج صحيح للمعرفة.. فالمعرفة هي بذاتها دليل على صحتها، وعلى صحة الطريق المؤدي إليها، لا العكس... وبالتالي فإن العلم هو طريق العلم.. العلم بالواقع طريق العلم بذلك المنهج الذي يوصلنا اليه، أي على ضوئه نستطيع معرفة المنهج المؤدي إليه وإلى غيره.

قلت: إن هذا يستدعي البحث عن حقيقة واضحة جدا ومتميزة تماما عن الباطل.

قال: أجل.. فلا يمكن أن تؤسس الحقائق إلا على الحقائق.. وكلما كانت الحقيقية واضحة أكثر وضوحا، وأشد تمييزا عن الباطل كانت أفضل.. لأن أساس العلم آنئذ يكون أكثر رسوخا، ويكون العلم النابع منه أشمل إحاطة بالحياة.

قلت، وقد هزني الفرح: فما هو ذلك العلم الأول الذي يتعلق بأوسع الأشياء إحاطة وأسماها رتبة؟

قال: إنه العلم بالله الذي يهدي إلى كل علم.. فعلى ضوئه نتعرف على المنهج الصحيح ونبلغ به جميع الأشياء.

قلت: ومن هو الله؟.. وكيف نصل إليه؟

__________

(1) أنشأ سبينوزا منظومة فلسفية على منوال الهندسة، إذ حاول أن يستخلص الاستنتاجات الفلسفية من عدد محدود من البديهيات المركزية؛ أي التي تفترض أنها من الحقائق المسلم بها، وكذلك من التعاريف.. وهو يُعد من دعاة الفلسفة الآلية لأنه يرى أن كل شيء في الكون مقدر حتمًا، وكان هدفه الأساسي ذا طابع أخلاقي، حيث أراد أن يشرح كيف يمكن للإنسان أن يكون حرًا عاقلاً راضيًا مرضيًا في هذا العالم الذي تسيِّره الحتمية.

سلام للعالمين (207)

قال: ليس الإله كائنًا فوق البشر.. وليس هو الذي خلق الكون.. وليس هو الذي تذهب إليه الديانات.. وليس هو الذي ينشغل بمصير البشر، ويرسل لهم العلامات والرسائل.

قلت: فمن هو إذن؟

قال لي بلغته اللاتينية: ديوس سيفي ناتورا (Deus sive natura)

قلت: تقصد (الإله أي الطبيعة)

قال: أجل.. فبما أن الطبيعة هي النظام الكلي للأشياء.. فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء (1).

الحسية التجريبية

اكتفيت بقوله هذا.. والذي رفضه عقلي أيما رفض (2).. ورحت أبحث عن أستاذ آخر.

__________

(1) ذكر المسيري أن إسبينوزا استخدم للتفرقة بين تصوري الإله والطبيعة تعبيرين لاتينيين (ناتورا ناتورانز natura naturans)، أي (الطبيعة الطابعة)، و(ناتورا ناتوراتا natura naturata)، أي (الطبيعة المطبوعة)، والطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء من حيث هو ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتم تصوُّره بغيره لأن شيئاً لا يخرج عنه، كما أن العلة كامنة فيه باطنة، أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة، فهي الأوجه الجزئية أو المكوِّنات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن صفات الجوهر الشاملة. ويمكن القول بأن (الطبيعة الطابعة) هي الإله/الطبيعة في حالة اكتمال، أما الطبيعة/المطبوعة فهي الإله/الطبيعة في حالة صيرورة آخذاً في التحقق في المادة (وهذا يقابل العقل المطلق عند هيجل ثم تحقُّقه من خلال الجدل داخل الطبيعة إلى أن يكتمل في نهاية التاريخ) (انظر: الموسوعة اليهودية)

وبهذا، ردَّ إسبينوزا العالم بأسره، في ثباته وحركته، إلى مبدأ واحد، وهذا المبدأ هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام، الكامنة فيها، والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. ويُسمي دعاة وحدة الوجود الروحية هذا المبدأ (الإله) ويسميه دعاة وحدة الوجود المادية (الطبيعة)، ويكتشف إسبينوزا التقابل بين شكلي وحدة الوجود ويؤكد هذه الحقيقة الأساسية بالنسبة لمنظومته الفلسفية في عبارته اللاتينية الشهيرة (ديوس سيفي ناتورا Deus sive natura) وهي عبارة تعني (الإله أي الطبيعة) والطبيعة هي النظام الكلي للأشياء، ومن ثم فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء.. (انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)

(2) من الملاحظات التي وجهها المدرسي لمنهج اسبينوزا:

1 - أنه قسّم طرق العلم بالحقيقة إلى أربعة وجعل منها الوجدان كما جعل منها أقول الناس.. ومن حقنا أن نتساءل عن معنى العلم؟ أليس هو وجدان الأشياء وكشفها الوصول مباشرة إليها، كما يقول اسبينوزا ذاته.. فإذا كان كذلك، وهو كذلك، فلا فرق بين أن يأتي هذا الوجدان عن طريق التفكير أو الإحساس أو العلم بالعلة والمعلول، بل إنما يأتي الوجدان بعد هذه الطرق أو بعد غيرها مما يسبب حالة العلم في النفس، إذ الوجدان هو العلم ذاته.. إذا فليس من الصحيح جعل النتيجة من أقسام الطرق المؤدية إليها وجعلها أفضل منها.

2 - بالرغم من أنه تفطن إلى أن حقيقة العلم نور وكشف وظهور إلا أنه لم يتفطن، أو لم يذكر، كيف نستطيع الوصول إلى منهج صحيح بعد العلم بحقيقة واضحة.

سلام للعالمين (208)

قلنا: إلى من لجأت؟

قال: إلى رجل حاول أن يجمع بين الفلسفة والسياسة.. كان اسمه (جون لوك) (1).. لقيته عند خروجه من بلاط الأمير وليم بهولندا.. أراني أول ما لقيته مقالا له عن الفهم الإنساني شرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم.

وقد رأيته فيه يعترض على المذاهب التي ترجع الأفكار إلى الفطرة والتلقائية.. أو التي ترى أن الأفكار تكون جزءاً من العقل عند الميلاد، ولا يتم تعلمها أو اكتسابها فيما بعد من المصادر الخارجية.

ورأيته يذكر بدل ذلك أن الأفكار جميعها تأخذ مكانها في العقل من خلال الخبرة.. وأن هناك نوعين من الخبرة: الخبرة الخارجية، والخبرة الداخلية.

أما الخبرة الخارجية، فتُكتسب من حواس البصر والتذوق والسمع والشم واللمس، وهي الحواس التي تمد المرء بمعلومات عن العالم الخارجي.

__________

(1) هو جون لوك (1632 م - 1704 م)، وهو فيلسوف إنجليزي أثَّرت كتاباته في علم السياسة والفسلفة، كان لكتابه رسالتان للحكومة (1690 م) تأثير قويّ على توماس جيفرسون وهو يكتب إعلان استقلال أمريكا.

وُلد في رينجتون بمقاطعة سومرست بإنجلترا، ودَرَس بجامعة أكسفورد.. وفي عام 1666 م التقى بأنطوني أشلي كُوبر الذي صار فيما بعد أول إيرل لشافتسبري، وربطت بين الرجلين صداقة حميمة.. وفي عام 1679 م تورط الإيرل في مؤامرات ضد الملك، وثارت الشكوك حول لوك أيضاً، فقرر أن يرحل عن إنجلترا، وانتقل إلى هولندا عام 1683 م، حيث التقى بالأمير وليم والأميرة ماري، أميرة أورانج.. وفي عام 1689، صار وليم وماري حاكمي إنجلترا، فعاد لوك إليها بوصفه أحد المقربين إلى البلاط الملكي.. وقد ظل لوك حتى وفاته يكتب بقدرٍ كبير من الحرية في موضوعات مثل الإصلاح التعليمي، وحرية الصحافة، والتسامح الديني.

سلام للعالمين (209)

وأما الخبرة الداخلية، فتُكتسب من خلال التفكير في العمليات العقلية التي تتم لتمحيص هذه البيانات، وهي التي تمد المرء بمعلومات حول العقل.

ورأيته يذكر فيه أن في الكون ثلاثة أنواع من الأشياء: العقول، وأنماط مختلفة من الأجساد، والإله.. ويذكر أن للأجساد نوعان من الخواص: نوع يمكن قياسه حسابياً مثل: الطول والوزن، وهي أشياء توجد في الأجساد ذاتها؛ ونوع آخر كيفي مثل الصوت واللون، لا يوجد في الأجساد ذاتها ولكنه، باختصار، قوى تمتلكها الأجساد لتعريف العقل بمفاهيم الألوان والأصوات.

ورأيته يذكر فيه أن الحياة الصالحة هي حياة المتعة.. وأن المتعة والألم مفهومان مجردان يصاحبان تقريباً كل التجارب الإنسانية.. ويستلزم التصرف على نحو أخلاقي تحديد أي الأفعال يمكن أن يؤدي إلى أكبر قدر من المتعة في موقف معين، وذلك قبل ممارسته..

ورأيته يذكر فيه أن الله قد وضع قانوناً إلهياً، يمكن التعرف عليه بالعقل، يكون الخروج عليه خطأ أخلاقياً.. وكان يرى أن هناك توافقاً بين القانون الإلهي ومبدأ المتعة.

ورأيته يذكر فيه أن للناس بطبيعتهم حقوقاً وواجبات معينة، مثل: الحرية والحياة وحق الملكية.. ورأيته يقصد بالحرية المساواة السياسية..

لم يكن يهمني من آرائه إلى ما يتعلق منها بالمنهج العقلي، فلذلك رحت أسأله عنه، فقال: أنا صاحب (النظرية الحسية).. أنا الذي أسستها.. وهي مدرسة تعيد كل العلوم إلى مبدأ واحد هو الحس..

قلت: والعقل!؟

قال: أنا لا أنكره.. ولكني أرى أنه ناشئ من الحس.. أو بالأحرى كان بروزه متأخرا عن الحس.. ولذلك فأنا أرى الإنسان لا يمكنه أن يعرف حقيقة إلا بتجربتها مباشرة، فليست هناك حقيقة استنباطية يسير فيها الفكر من الحقائق العامة إلى الحقائق الجزئية.

قلت: ولكن الحس يعتمد على العقل.. ألا ترى أنا نقول: إن كل فلز يمتد بالحرارة.. والحديد

سلام للعالمين (210)

فلز.. فلابد ان يمتد بالحرارة؟

قال: من أين عرفت هذا العموم؟.. هل من التجربة على الحديد التي كانت بين التجارب التي أجريت على كل فلز؟.. أم أنه مجرد تخمين؟

قلت: بل هو حكم عقلي.

قال: لا يكفي ذلك لثبت ما تريد أن تثبته.. بل يجب أن تجرب الامتداد على الحديد بالذات حتى يمكنك أن تقول ذلك.. فالعلم لا يحصل بدون التجربة.

قلت: على ما تعتمد هذه النظرية؟

قال: على ثلاث قواعد..

قلت: فما أولها؟

قال: قوى الادراك.. لقد وجدت أن في الإنسان عدة قوى متدرجة.. هي التي توفر له المعرفة.. وتبدأ هذه القوى بقوة الإدراك، وهي أولى مراحل المعرفة.. تليها قوة الحفظ، وهي القوة التي تدخر المعلومات الناتجة من الإدراك.. تليها قوة التمييز، وهي التي تفصل بين المعلومات المدخرة.. تليها قوة التقييم، وهي التي تبين نسبة المعلومات إلى بعضها.. تليها قوة التركيب، وهي التي تكلف بجمع المعاني البسيطة وتركيبها.. تليها قوة التجريد أو الانتزاع وهي مسؤولة عن استنباط معنى كلي من الخصائص الجزئية التي تلاحظها في منظر واحد.

قلت: فما القاعدة الثانية؟

قال: التقسيم..

قلت: ما تريد به؟

قال: لقد رأيت أن التصورات.. جميع التصورات.. إما أن تكون بسيطة منشأها حس واحد، وذلك مثل تصور الحرارة.. وإما مركبة منشأها عدة أحاسيس.. وذلك مثل تصور الجسمية، لأنه إنما يأتي من تصور الحجم والوزن وغيرها.

سلام للعالمين (211)

ورأيت أن التصور قد يكون مثبتا، يكشف عن وجود شيء، وذلك مثل تصور النور والحرارة.. وقد يكون منفيا يكشف عن عدمه، وذلك مثل تصورنا للظلام والبرودة.

ورأيت أن الفكرة التي يستوعبها الذهن بسبب التصور تدعى بـ (المفهوم)، بينما ارتباط هذا التصور بمنشئه يسمى بـ (الخاصية).. فمثلا الحرارة، مفهوم ذهني، ولكنها من جانب آخر خاصية للنار.

والتصور أيضا قد يكون تصور لذات شيء، وقد يكون تصورا لحاله، وقد يكون تصورا لعلاقته بسائر الأشياء.

قلت: فما القاعدة الثالثة؟

قال: فقه اللغة..

قلت: وما علاقته بهذا؟

قال: لا يمكن فهم العمليات العقلية من دون فقه اللغة.. لأن اللغة هي التي تكشف بقدر ما عن التصورات، وتكون مقياسا أمينا لمعرفة طبيعتها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: بما أن تصور الإنسان يعتمد على الإحساس في البداية، فإن الرجل البدائي يعبر عنه أولا، فالطفل مثال للفرد البدائي وهو لا يعبر أول ما ينطق إلا عن الأمور المحسوسة.. كذلك الأمم المتوحشة، مثال للجماعة البدائية، فلا نجد في لغتهم تعابير تخص الأمور العقلية، وكلما تقدمت الأمة باتجاه الحضارة، كلما زادت تعابير لغتها التي تكشف عن أمور عقلية.

قلت: عرفت منهجك العقلي، فما حقيقة العلم؟

قال: يقسم العلم إلى ذاتي وتعقلي وحسي.. فالذاتي، هو معرفة نسبة التصورات الذاتية إلى بعضها معرفة مباشرة.. والتعقلي، هو المعرفة التي تحتاج إلى استدلال وتفكر.. والحسي، هو المعرفة الناشئة من الإحساس، وهو بالرغم من قلة قيمته الفلسفية لعدم إفادته اليقين فإنه ذات قيمة

سلام للعالمين (212)

عملية لأننا نعتمد على الحس في كل شؤوننا، وخاصة في العلوم الطبيعية التي مرد تصوراتها فيها تكون خارج الذهن.

بعد أن سمعت منه هذا صحبته مدة من الزمن أتدرب على يديه.. لكني سرعان ما انصرفت عنه، فقد لاحظت تعلقه الشديد.. بل تطرفه الشديد باتجاه تقييم الحس.. وقد نتج عن تطرفه هذا أمران..

أما أولهما.. فتناسي دور العقل والسابقيات الفكرية، التي يكشفها العقل، في بناء صرح المعرفة، وهذا مخالف للواقع المشهود (1).

وثانيهما.. أنه جعل المنهج العلمي خاضعا للتجربة المادية، تتشابه مع سائر التجارب التي تجري على المادة.. وهذا مخالف للرأي العلمي السديد الذي يفصل بين أنواع التجربة حسب اختلاف المواد (2).

وبالتالي فإن عقلي رفض نظريته، لأني رأيت أنه من دون وجود عقل يكشف عن صحة أو

__________

(1) سنرى تفاصيل هذا في المبحث الثاني من هذا الفصل عند حديثنا عن النظرية الإسلامية الشاملة.

(2) ومن هنا قال جون ديوي عن لوك: (إن كلمة (خبرة) حين استعملت عند بدء ظهورها استعمالا يضفي عليها الوقار بولغ ـ بغير شك ـ في جانبها المتصل بالملاحظة، كما نرى مثلا عند (بيكن ولوك) ونستطيع أن نلتمس لهذه المبالغة تعليلا سريعا في كونها حدثت في الظروف التاريخية التي حدثت فيها (أي إنها كانت من وحي الظروف الخارجية) ذلك لأن الفكر الفلسفي كان قد تدهور حتى بلغ صورة استبيح معها الظن بأن اعتقاداتنا عن أمور الواقع يمكن، بل ينبغي أن نحصلها بالتدليل العقلي وحده الا إذا كانت مستندة إلى أقوال النقاد، فتولدت عن معارضة هذه النظرة المتطرفة نظرة أخرى تساويها في قصر نفسها على جانب واحد، وهي إن الإدراك الحسي وحده يمكن أن يقرر لنا على نحو مرض ما عسانا نريد أن نعتقده عن أمور الواقع، فأدت هذه الفكرة عند (بيكن) وبعد ذلك عند (لوك) إلى اهمال الدور الذي تؤديه الرياضة في البحث العلمي كما أدت عند لوك إلى تقسيم يوشك أن يكون فاصلا بين معرفتنا لأمور الواقع ومعرفتنا لما يقوم بين أفكارنا من علاقات، على أن هذه المعرفة الأخيرة ـ بناءاً على مذهبه ـ تعود فترتكز في نهاية الأمر على الملاحظة الخالصة سواء كانت تلك الملاحظة داخلية أم خارجية نتج عن ذلك مذهب يرد الخبرة إلى إحساسات هي المقومات التي تتألف منها كل ملاحظة كما يرد الفكر إلى روابط خارجية تصل هذه المقومات على أن المفروض في الاحساسات وفي روابطها معا أن تكون عقلية فقط أي أن تكون نفسية خالصة) (المنطق نظرية البحث).

سلام للعالمين (213)

زيف الاحساس لا يمكننا أن نثق به ونستثمره في سبيل تحصيل العلم..

وقد رأيت أن لوك ذاته تنبه إلى هذه الملاحظة فجعل العلم الناشئ من الإحساس في الدرجة الثالثة من الأهمية بعد العلم الذي يحصل بالوجدان والعلم الذي ينشأ من الاستدلال.

المثالية الفلسفية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل دين كان مطرانا إنجليكانيا.. وكان في نفس الوقت فيلسوفا.. كان يقال له (جورج بارْكلي) (1).. لقيته بمسقط رأسه أيرلندا..

قال لي أول ما لقيته: لاشك أنك كنت عند ذلك الأعمى الذي يقال له (جون لوك)

قلت: أجل.. ولكنه لم يكن أعمى.

قال: ما دام لا يرى إلا الحس فهو أعمى.

قلت: وما ترى أنت؟

قال: أنا لا أرى إلا المعنى..

قلت: ولكن هناك أشياء محسوسة.. بل كل ما يحيط بنا محسوس.

قال: كل ما نراه من أشياء مادية ليس إلا أفكار أو أحاسيس نشعر بها تجاهها..

قلت: فأنت ـ بهذا الاعتبار ـ لا تعد التفاحة شيئاً سوى لونها، وشكلها، وملمسها، ووزنها، وطعمها، وخواصها الأخرى على النحو الذي ندركه بأحاسيسنا.

قال: أجل.. كما أن الخصائص أو الأفكار التي نشعر بها لا توجد إلا في مخيلتنا.. وهي تتغير بتغير الشخص الذي يتلقاها.. فالمياه الدافئة نفسها تبدو ساخنة لليد الباردة، وتبدو باردة لليد

__________

(1) هو جورج بارْكلي (1685 - 1753 م) هو مطران إنجليكاني وفيلسوف، وُلد فى أيرلندا.. وقد حاول ربط العلم السائد في عصره بالمسيحية.

سلام للعالمين (214)

الساخنة.. وهكذا فإن الخصائص التي نشعر بها ماهي إلا أفكار تعتمد على العقل الذي يتلقاها، وليس لها وجود مستقل.

قلت: ما الذي جعلك تعتقد هذا مع أن الكل يعتقد أن الأشياء المادية المحسوسة تتكون من مادة، والمادة هي الشيء الذي توجد فيه الخصائص المختلفة، ومن المفترض أن المادة توجد خارج العقل، ومستقلة عنه.

قال: إن كل ما يدركه البشر يرتكز على الحس، وإذا اختبرنا الحس وجدناه مليئا بالمتناقضات.. فالبصر يرى الشيء القريب كبيرا، وإذا ابتعد عنه حسبه صغيرا.. والأذن تسمع الصوت ضعيفا إذا كان بعيدا عنها، وإذا اقترب اليها سمعته عاليا ـ أو بالأحرى تعتقد أنها تسمعه عاليا ـ وهكذا..

فإذا كان الإحساس يتناقض فكيف نطمئن إليه؟

ثم لدى تحليل الإحساس نجده ليس سوى التصور، والتصور لا يعدو أن يكون فكرة تعيش داخل الشعور، ولكن لدى التعمق نجد أن هذه الفكرة قد لا تكون وليدة واقع موضوعي.. بل وليدة هاجسة نفسية أو قوة علوية تبعثها في نفوسنا.. أليس أولئك الواقعيون يعترفون بوجود أفكار لا واقع لها.. فلماذا لا يجعلون كل الأفكار بعيدة عن الواقع؟

سكت قليلا، ثم قال: لندع التصورات الساذجة.. ولندرس المعارف البشرية، هل هي ذات قيمة بعد التناقض الذي نجده بينها؟ فهي لا تقوم إلا لكي تنهار.. فكم من قضية كانت من المسلمات، أصبحت من الخرافات، وكم من فكرة أجمع عليها المفكرون، ولم تمض عليها فترة حتى اصبحت مهجورة.

فالواقعيون لا يتمكنون من ادعاء الصحة في أي جزء من معلوماتهم ما دامت سائر الاجزاء قد تبخرت مع حرارة الزمن!

قلت: ألا ترى أن ما تقوله مثالية؟

سلام للعالمين (215)

قال: إن كانت المثالية تعني أن الوجود لا يعني سوى التصور، فأنا مثالي، وفلسفتي مثالية.

قلت: فأنت تنكر بقولك هذا العالم..

قال: أنا لا أنكر العالم، ولا أي حقيقة موضوعية فيه.. ولكني أنكر أن تكون حقيقة الأشياء هي الوجودات المستقلة عنا، القائمة بذاتها.. إن هذا وهم كبير.. إن حقيقتها لا تعدو أن تكون مجموعة تصورات تتفاعل داخل شعور كل منا، وكل ما يقوله الناس عن العلم والصناعة والتاريخ والاكتشافات والنشاطات المادية حقيقة لا ريب فيها، ولكنا نسأل عن معنى الحقيقة؟ انهم يحسبون أن معناها الوجود المادي الكثيف، ولكني أقول إن معناها الوجود الذهني اللطيف.

قال ذلك، ثم استغرق في صمت عميق قال بعده: كل ما يقوله العلماء والفلاسفة والناس جميعا صحيح، ولكنه لا يعني وجود واقع خارج الشعور.. بل إن كل ما يذكرونه تصورات شعورية محضة.

لم تطل صحبتي له طويلا.. فقد رأيت أن ما ذهب إليه من منهج يكاد يقضي على كل العلوم.. بل يكاد يحولني إلى السفسطة..

أما ما ذكره من أدلة فهي مجرد التباسات.. فمعرفة أخطاء الحس وتناقضاته بسيطة لمن أوتي نور العقل.. وما دمنا آمنا بدور العقل الذي لا يخضع للحس وإنما بالعكس يخضع الحس له، فإن بمقدورنا كشف تناقضات الحس ببساطة متناهية (1).

أما استدلاله بإمكانية خطأ المعارف البشرية، فإنه نوع من الخلط بين المعرفة والجهل، لأن المعارف لن تخطئ لأنها مشاهدات مباشرة للواقع.. وهناك فرق كبير بين تبين خطأ عقيدة، وبين تبين خطأ علم.. العلم لا يخطئ، بينما تخطئ العقيدة إذ أن الثانية تخضع للشهوات والتطورات المادية بيد أن العلم النابع من العقل ليس كذلك.

ويكفينا حجة: تلك المجموعة الضخمة من المعلومات التي لا يتردد أحد فيها ولا يحتمل

__________

(1) سنرى الأدلة المثبتة لهذا عند عرضنا للنظرية الإسلامية.

سلام للعالمين (216)

أنها قد تخطئ في يوم ما إطلاقا مثل الإيمان بوجود حقيقة الكون والسنن العامة فيه، والقوانين الرياضية التي تحكمه، لا يمكن ولا نحتمل ان تخطئ في يوم من الأيام.

الشكوكية التجريبية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى فيلسوف أسكتلندي أثر وتأثر بالشكوكية والتجريبية.. فصار شكوكيا تجريبيا.. كان يقال له (ديفيد هيوم) (1).. سألني أول ما التقيته قائلا: إذا كان كلّ ما يعرفه الإنسان مجرد فكرة عن شيء ما، فكيف السبيل إلى التأكد من وجود شيء في العالم يتطابق مع تلك الفكرة؟

لم أجد بما أجيبه، فقال: إن الوجود يحدث بحصول إدراكه.. فالشيء لا وجود له إلا عندما يدركه عقل الإنسان.

قلت: تقصد أن الأشياء المادية ليست سوى أفكار مرسومة في العقل، وليس لها وجود مستقل.

قال: أجل.. هذا ما فهمته من نظريات لوك وباركلي.. لقد رأيت من خلال الجمع بين فلسفتهما أن جميع محتويات العقل إنما هي انطباعات وأفكار.. وقد تخطر بالبال فكرة يمكن الاهتداء إلى أصلها المتمثل في انطباع سابق.

ولهذا يجدر بالإنسان أن يحدد الانطباع الذي أنتج الفكرة وأعطاها معنى معينًا، فالفكرة التي تخطر بالبال من غير أن نستدل على أصلها لابد أنها عديمة المعنى.

__________

(1) هو ديفيد هيوم (1711 - 1776 م) فيلسوف أسكتلندي.. وُلد في أدنبره وقضى غالبية سني حياته في الكتابة، ومن وقت لآخر، كان يقدّم خدماته في بعثات دبلوماسية في فرنسا وأقطار أخرى. وأعظم أعماله: رسالة في الطبيعة البشرية في الفترة بين 1739، 1740 م، ولم تجذب إليها إلا اهتمامًا ضئيلاً، عندما نُشرت. ولكن شهرة هيوم طبقت الآفاق وبخاصة في فرنسا، بعد أن نشر عددًا أكبر من أعماله في الفلسفة، والدين والتاريخ. وكانت هذه الأعمال تضم بين دفتيها: موضوعات فلسفية عن الفهم الإنساني (1748 م). وبحث فيما يتعلق بمبادئ السلوك الأخلاقي (1751 م)، وكتاب هيوم عن تاريخ بريطانيا (1754، 1756 م)؛ تاريخ إنجلترا (1759، 1762 م)

سلام للعالمين (217)

سكت قليلا، ثم قال: كيف يمكن التأكد من أن المستقبل سوف يكون مثل الماضي؟

قلت: ما تقصد؟

قال: هل ستمارس قوانين الطبيعة عملها على المنوال السابق نفسه؟

قلت: هذا هو الظاهر.

قال: لا نستطيع أن نؤكد أنها جميعا سوف تستمر في السير على المنوال نفسه..

قال ذلك، ثم انصرف عني.. فانصرفت إلى مؤلفاته أدرسها لأبحث عن الأساس الذي انطلق منه في أفكاره تلك.. فوجدته عديم الثقة بالتأمل الفلسفي.. ولكنه يؤمن أن كل معرفة جديدة تأتي نتيجة للخبرة، وأن كل الخبرات لا توجد إلا في العقل على شكل وحدات فردية من الخبرة.. ووجدته يعتقد أنّ كل ما مَرّ به الفرد مباشرةً من خبرة لم يكن أكثر من محتويات شعوره الخاص، أو ما يتضمنه عقله الخاص.. ووجدته يعتقد بوجود عالم ما خارج منطقة الشعور الإنساني، ولكن لم يطرأ على ذهنه أنّ هذا الاعتقاد كان من الممكن إثباته.

وقد وجدته يطلق على وحدات الخبرة الحيوية الفعّالة اسم المدركات الحسِّية، أما وحدات الخبرة الأقل حيوية وفعالية فقد أطلق عليها اسم المعتقدات أو الأفكار.. فالكلمات والمدركات لها معانيها عند الشخص إذا كانت لها علاقة مباشرة بوحدات هذه الخبرة.. وكانت كل وحدة من الخبرة منفصلة متميزة عن بقية الوحدات الأخرى جميعها، على الرغم من أن الوحدات عادة ما تُمارس وتُجرب على أنها مرتبطة بعضها ببعض.

وقد وجدته يرى أن هناك ثلاثة مبادئ تربط الأفكار المتحدة بعضها ببعض..

أولها التشابه.. فإذا ما تشابهت وحدتان من الخبرة، فإن التفكير في واحدة قد يؤدي إلى التفكير في الأخرى.

وثانيها التّماس أو التجاور.. فإذا ما تلازمت وتجاورت وحدتان الواحدة مع الأخرى، فإن التفكير في واحدة قد يثير التفكير عن الأخرى.

سلام للعالمين (218)

وثالثها السبب والنتيجة (الأثر).. فإذا ما سبقت وحدة واحدة باستمرار وحدة أخرى، فإن فكرة الوحدة الأولى ستظهر في فكرة الوحدة الثانية.

وقد وجدته يهجم على مبدأ السببية الذي يقرر أنه لا يمكن أن يحدث أو يظهر إلى عالم الوجود شيء من غير سبب.. وقد كان هيوم يعتقد بدل ذلك أنه بالرغم من أن حدثًا واحدًا يسبق دائمًا حدثًا آخر، إلا أن هذا لا يثبت أن الحدث الأول سبّب الحدث الثاني.

ووجدته يرى أن التزامن المتواصل بين حدثين، ينشئ توقعًا بأن الحدث الثاني سوف يتم حدوثه بعد الأول.. ولكن لم يكن هذا شيئًا أكثر من اعتقاد راسخ، أو عادة عقلية علمتنا إياها الخبرة، ولم يستطع أحد أن يبرهن أن هناك ارتباطات سببية بين الانطباعات.

وقد بنى هيوم نظريته عن الأخلاقيات على الخبرة، رافضًا الرأي القائل بأن العقل في استطاعته التمييز بين الفضيلة والرذيلة.. وقد فحص الظروف التي كان فيها الناس يتحدثون عن الأخلاقيات، وختم أقواله بأن الميزات الفاضلة عند الناس هي تلك التي كانت سائغة أو نافعة لهم.

النسبية الذاتية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

سلام للعالمين (219)

قال: إلى فيلسوف ألماني، كتب في (نقد العقل الخالص) (1).. كان اسمه (إيمانويل كَانْط) (2) لقيته ببروسيا الشرقية.. والتي تُعرف الآن بكالينينغراد في روسيا..

لقيته في في جامعة كونجزبيرج، وهو يصيح في طلبته ومن حضر معهم من سائر الناس قائلا: اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب.. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر.. فالله زودكم بعقول وينبغي أن تستخدموها.

سأله بعضهم حينها عن التنوير، فأجاب: إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد.

سأله آخر عن علاقة التنوير بالإيمان، فأجاب: عند حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان.. لكن

__________

(1) حوى كتاب (نقد العقل الخالص) خلاصة تجربة إيمانويل كانط الفلسفية.. بل أدى إلى تغيير خارطة أوروبا الفكرية والفلسفية.

وقد أدى هذا الكتاب بفلاسفة مشهورين كانوا قد سلموا بمطلقية العقل النظري وسيادة أحكامه إلى تغيير آرائهم بصورة تامة بعد قراءته، إذ سلم نيتشه بكل ما في ثنايا الكتاب واعتبرما جاء به من ثورة عقلية قضية مسلماً بها، أما شوبنهور فقد اعتبر الكتاب على أنه أعظم ما أنتجه الأدب الألماني وأكثره شهرة، وكان له رأي مشهور مفاده أن الإنسان يبقى طفلاً في معرفته حتى يقرأ كانط ويفهمه، وأتى هيجل بعدهم ليربط الفلسفة كلها بمعرفة كانط إذ قال (لكي يكون المرء فيلسوفاً فلا بد من أن يدرس كانط)

(2) هو إيمانويل كَانْط (1724 - 1804 م)، فيلسوف ألماني، وُلد وعاش في كونجزبيرج في بروسيا الشرقية (تُعرف الآن بكالينينغراد في روسيا).. وقد عمل بالتدريس بالقرب من كونجزبيرج من عام 1746 م حتى عام 1755 م، وبعد ذلك عمل بالتدريس في جامعة كونجزبيرج نحو 50 عامًا حتي وفاته.. وقد كان عمله فاتحة لعهد جديد، لأنه أنشأ الخطوط الأساسية للتطورات الفلسفية منذ ذلك الحين.

إضافة لعمله نقد العقل الخالص، كتب في علم الجمال وعلم الأخلاق. وفي علم الأخلاق، حاول إيضاح: 1 - أن أداء الفرد لواجبه أكثر أهمية من إسعاد نفسه أو الآخرين. 2 - إذا افترضنا أن بوسع العلماء التنبؤ بما سنفعله، فإن التنبؤات لا تتعارض مع ميلنا نحو حرية الإرادة. لذا فإن تنبؤات العلماء ليس لها أي تأثير على وجوب أن نعيش متحلّين بالأخلاق.

كان عمله الرئيسي في مجال الأخلاق هو كتابه نقد العقل العملي (1788 م). ثم نشر تعليقات إضافية حول عَمَلَيْه الرئيسيين تحت عنوان نقد الحكم (1790 م)

سلام للعالمين (220)

احذروا من الطاعة العمياء للقادة أو لرجال الدين.

سأله آخر عن القصور العقلي، فأجاب: إنه التبعية للآخرين، وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا.

اقتربت منه أنا، وسألت سؤالي المعتاد الذي تعودت أن أسأل به العقول، قلت له: كيف يتسنى للعقل أن يبلغ حقائق الأشياء بلوغا لا شك معه.

ابتسم، وقال: أنت لا تعرفني..

قلت: رأيتك.. ولكني لا أزال لا أعرفك.

قال: ولذلك وجهت لي هذا السؤال.. ولو أنك عرفتني لما سألت هذا السؤال.

قلت: لم؟

قال: لأن منهجي العقلي ينطلق من إلغاء هذا السؤال.

قلت: فسر لي ما تريد قوله.

قال: حينما رأيت مشاكل عديدة تمنع عن بلوغ حقيقة المعرفة، فعلت ما فعل غاليلو بالنسبة إلى الهيئة؛ فبدلا من ان يقول الأرض مركز العالم والشمس تدور حولها، قال: ان الشمس هي المركز والأرض تدور حولها، فنجح وحلت مشاكله العلمية.. وكذلك نجحت حين قلت: الناس حتى اللحظة كانوا يحسبون ان الحقائق هي المركز والفكر يدور حولها. ولكن بدأت أقول: الفكر هو المركز والحقائق تدور حوله، وأبسط الحقائق هو الإحساس.. فما يزعمه الناس حول الإحساس انه انعكاس الحقيقة على الذهن، ولكن أقول بل هو صبغة الذهن للحقائق.. أنا أقول: صحيح أن هناك حقائق نحس بها، ولكن لم يكن من الممكن الإحساس بها الا في حدود الزمان والمكان.. ولدى التعمق أكثر من هذا، نرى أن الزمان لا يعني سوى نسبة الإنسان إلى الأحداث.. وأما المكان فهو نسبة الإنسان.. أي الفكر.. إلى الأشياء.

فاليوم يعني: تقارن إحساسي مع دورة الشمس، والمكان القريب يعني: قربي إليه.. ونستطيع

سلام للعالمين (221)

تشبيه الزمان والمكان بظرف بلور نضع فيه الماء فيصطبغ الماء بلون الظرف، فنعتقد نحن أن اللون من الماء، ولكن الظرف فقط واهب اللون، وكذلك نحن نزعم الحقيقة في الزمان والمكان، والواقع هو أننا نحن نعيش عبر المحدودية الزمانية والمكانية، لا أن الحقائق هي التي تعيش.

قلت: فأنت تعتبر الحقيقة هي الإحساس مصبوغا بصبغة ذاتية هي صبغة الزمان والمكان.

قال: أجل.. فالحقيقة كما هي في واقعها - أو كما هي في ذاتها - لا يمكن أن تعرف، لأننا لا نملك إلا أداة محدودة للمعرفة، وهي أداة الذهن التي تعيش ضمن وقت ومحل محدودين.. فالحقيقة إنما تعرف بنسبة معينة.

تأمل في وجهي قليلا، ثم قال: ولذلك فإن بحوث الميتافيزيقيا (الغيب) بعيدة عن إحاطة الإنسان، لأنها مجردة عن الزمان والمكان.. أما بحوث الرياضيات فإنها أيضا لا تعكس الحقائق، ولكنها صحيحة حسب أفكارنا إذ أنها تكرير لحقيقتي الزمان والمكان.. فالحساب مجموعة أعداد، والعدد ليس إلا انعكاس الذهن على شاشة الأشياء.. وكذلك الهندسة، فهي تحديد للأماكن القريبة والبعيدة ونوع قربها وبعدها عني.

قلت: فأنت تفرق بين العلوم في علاقتها بالحقيقة المجردة؟

قال: أجل.. لقد وجدت أن الطبيعيات.. كل الطبيعيات.. تحتوي على مادة هي الإحساسات وصورة هي الزمان والمكان.. وأن الرياضيات تحتوي على صورة ـ وهي الزمان والمكان ـ ولكن بدون مادة.. أما (الميتافيزيقيا) فلا تحتوي موضوعاتها على صورة ولا على مادة.

ولذلك، فإن معارفنا عن الطبيعيات مزيجة من الذاتية والموضوعية، وهي لذلك لا تمثل إلا بعض الحقيقة.. أما معارفنا عن الرياضيات، فهي ذاتية بحتة.. فرغم أننا نعتقد بها لأنها جزء من تركيب أذهاننا لكنها مع ذلك لا تعكس حقيقة وراءها.. وأما معارفنا عن الغيب (ميتافيزيقيا) فإنها لا ذاتية ولا موضوعية.

لم تطل صحبتي له طويلا، فقد انصرفت عنه بعد مدة قصيرة.. فلم أجد عنده ما يسد حاجة

سلام للعالمين (222)

عقلي..

نعم.. النظرية النسبية التي تعتبر أساس منهجه، صحيحة علميا، إذا أريد منها: أن العلم بكل الأشياء غير ممكن لنا، وكذلك العلم بكنه الأشياء.. ولكن إذا أريد بها التشكيك في صحة علمنا بظواهر بعض الأشياء، فإن ذات العلم ينفي هذا النوع من التشكيك إذ أنه حين يكشف لنا عن شيء يعطينا اطمئنانا بالغ الشدة به، بحيث ينقطع التشكيك فيه.

ومن هنا كان خطأ كانط الكبير، حين اعتبر الزمان والمكان من متصورات النفس البشرية ومن إضافاتها النهائية التي تضفيها على الأشياء لا لأمر إلا لتعرفها.. ذلك أن الزمان والمكان بدورهما حقائق يكشف عنهما العقل البشري.. ويثق بوجودهما في الخارج كما يثق بوجود أي شيء آخر.. وما هو الفرق بينهما وبين مواد التصورات وكيف جاز لكانط أن يعتقد أن تصور الحرارة من نتائج الخارج ولكن تصور مكانها وزمانها من نتائج الذهن.

هذا بالإضافة إلى أن الذهن البشري يتصور إلى جانب الزمان والمكان أمورا أخرى كالشدة والضعف والنوع والكيف، فالذهن يتصور مكان وزمان الحرارة ويتصور أيضا الفرق بين الحرارة والبرودة، وبين الحرارة الشديدة والضعيفة.. وهكذا.

صحيح أن التصور الزمكاني شرط أساسي للإحساس، إذ الإحساس مشروط بالتنظيم؛ وهو مشروط بتصور الزمكان فهو ينبئ عن قدرة الذهن على الفهم قدرة قبلية.. ولكن ليس من الصحيح أن هذا التصور مجرد إضافة ذاتية يضيفها الذهن على الأشياء، بل هو كشف قبلي يجده الذهن ويجد الأشياء به (1).

__________

(1) بالإضافة إلى هذا هناك اعتراضان وجها إلى منطق كانط، أحدهما من زاوية علم (اجتماع المعرفة) والثاني من زاوية علم (نفس المعرفة).. وبالرغم من عدم صحة هذين الاعتراضين بصفة تامة، فإن فيهما قيمة اعتراضية نسبية.

1 - أنها ليست الا قائمة لمقولات الفكر الأوروبي التي تمخض عنها العصر الكانتي.. وأنه لم يكن واقعيا في نظرته إلى المعرفة إذ أحال المعرفة إلى (تصورية تركيبية) ونظر إلى العقل على أنه (عقل خالص)، والى الإنسان على أنه (كائن مجرد) ـ بلا تاريخ.. على حين أننا لا نجد إنسانا مجردا على الإطلاق كما يستحيل علينا أن نجد عقلا خالصا.. فلا يوجد في الواقع الا الإنسان المتحضر، أو التاريخ الذي نشاهده وندرسه من خلال احتكاكه بالآخرين، والذي يتأثر عقله بمختلف المعايير الاجتماعية وتصاغ شخصيته في قالب ثقافي، أو في صورة اجتماعية.

2 - لقد ثبت في الفيزياء الحديثة أن في وسعنا اكتساب معرفة خارج إطار المبادئ الكانطية، وأن الذهن البشري ليس قائمة منحصرة من المقولات يكدس العقل في داخلها كل التجارب، بل إن مبادئ المعرفة تتغير بتغير مضمونها ويمكن تكييفها مع عالم أعقد بكثير من عالم ميكانيكا نيوتن. (انظر: المنطق الإسلامي: أصوله ومناهجه، للمدرسي)

سلام للعالمين (223)

الجدلية المثالية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى فيلسوف ألماني.. هو أحد أكثر الفلاسفة الألمان تأثيرًا في المذاهب الفلسفية الحديثة.. كان اسمه (جورج ويلهلم فريدريك هيغل) (1).. كانت أول كلمة سمعتها منه هي

__________

(1) هو جورج ويلهلم فريدريك هيغل (1770 - 1831 م) ولد في عائلة بروسية تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، كان والده موظفاً في الدولة البروسية.. بعد أن أنهى دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت دخل إلى كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين. وهناك درس التاريخ وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين الذي سيصبح شاعراً كبيراً فيما بعد، وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة.

أتم تعليمَه في توبينغر شتيفت (كلية الكنيسة البروتستانتية في فورتيمبيرغ)، حيث ربطته صداقة مَع فلاسفة المستقبل فريدريك شيلنغ وفريدريك هولدرلين. بعد ذلك جذبته وسحرته أعمالِ سبينوزا، كانت، وروسو، والثورة الفرنسية.

وبدأ سلك التدريس الجامعي عام 1801 م، في جينا. وقد عمل أستاذًا للفلسفة في جامعة برلين منذ عام 1818 م حتى وفاته.

تناول في أول كتاب نشر له، ظواهر الروح (1807 م) مع تطور صيغ الوعي، وتشمل صِيَغُ الوعي هذه اختلافات ثرية ومحيرة لحالات العقل، ومناظرَ للعالم، ومواقف أخلاقية، ونظراتٍ دينية نصرانية، وأنواعًا للنشاط الطبيعي، وصيغًا لتنظيمات اجتماعية.

وقد حاول أن يوضح كيف تم التقدم فيما اعتبره تسلسلاً ضروريًا وتاريخيًا تحرك خلال تناقض وحل لمستويات نضج أكبر.

وحاول في كتابه الثاني، علم المنطق (1812 - 1816 م)، أن يبين نوع الجدل نفسه في تطوير النظريات الفلسفية عن الحقيقة. واحتوت موسوعة العلوم الفلسفية (1817 م)، نظامه الفلسفي في صورة مكثفة. وتشتمل على ثلاثة أقسام: صيغة قصيرة للكتابة عن المنطق، وفلسفة الطبيعة وفلسفة الروح. وحلل كتابه الأخير فلسفة الحق (1821 م)، التطور الجدلي للنظم الاجتماعية، والأخلاقية، والقانونية. وبعد وفاة هيجل، نشر تلاميذه محاضراته عن فلسفة التاريخ، والدين، والفن، وعن تاريخ الفلسفة. وقد أعادوا كتابة المحاضرات بصورة أساسية، من مذكراتهم.

سلام للعالمين (224)

(ديالكتيك) (1).. سألته عنها، فقال: أنت تبحث عن العقل الذي يدرك حقائق الأشياء.. وضالتك عندي..

استبشرت كثيرا لقوله هذا، وطلبت منه أن يبين لي الآلية التي أدرك بها الحقائق، فقال: لتفهم تلك الآلية تحتاج إلى معرفة ثلاثة معانٍ كبرى.. هي الفكرة، والروح، والطبيعة.. وهذه المعاني الثلاثة ترجع إلى معنى واحد هو المطلق.. والمطلق هو الذات الكلية التي تنتظم كل شيء، وكل الأشياء إنما هي تطور ونمو ديالكتيكي لهذه الذات الكلية.

قلت: فكيف نصل إلى هذه الذات الكلية؟

قال: لن تصل إليها حتى تعرف أن حركة التغير والتطور تسير وفق دورات لولبية صاعدة، كل دورة منها ذات ثلاث مراحل، أما أولاها، فسميتها (الطريحة) أو (أطروحة).. وأما الثانية، فسميتها (النقيضة) أو (النفي).. وأما الثالثة، فسميتها (الجميعة) أو (نفي النفي)، أو

__________

(1) كلمة (ديالكتيك) مأخوذة من الكلمة اليونانية (دياليغو) ومعناها المحادثة، أو المجادلة والمناظرة.

ثم صارت مصطلحاً علمياً عند فلاسفة الإغريق، يدلّ على حركة التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، سواءٌ منهم من أخضع ذلك لعلل وقوى خارجة عن الكون، أو تصور أنها ناتجة عن دوافع ذاتية كامنة في ضمن هذه الأشياء، كأن عناصر الكون تتجادل فيما بينها في حركة دائمة.

والديالكتيك عند سقراط هو الأسلوب الجدلي بين فريقين متعارضين متناظرين في موضوع ما.

واستغله أفلاطونأسلوباً للوصول إلى الحقيقة، من خلال بيانين متعارضين، يكشف كلٌّ منهما ما يراه في الآخر محلاً لتوجيه النقد إليه، أو الاعتراض عليه.

وارتقت المجادلة أو المناظرة عند المسلمين فصارت لها أصول وقواعد وآداب، واقتصرت على ما يكون بين فريقين يتجادلان ويتناظران حول موضوع ما.

ثم جاء الفيلسوف الألماني (هيجل) فأخذ كلمة (ديالكتيك) وفق مصطلح فلاسفة الإغريق الدالة فيه على حركة التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، وقام في ذهنه تصور خاص لهذه الحركة الدائمة في الكون، حتى ظن هذا التصور قانوناً ثابتاً، تخضع له العمليات المنطقية الفكرية، وعلميات الكون، وحركة التاريخ الإنساني، لكنه اعتبر هذا القانون نظاماً للقوة الغيبية غير المادية، المهيمنة على الكون والمتصرفة فيه.

سلام للعالمين (225)

(التركيب) (1)

والحركة الجدلية في هذا المطلق الذي هو الذات الكلية، تنطوي على ثلاث مراحل في ثلاث لحظات، هي الوضع الأول، ثم انقلابه إلى نقيضه، ثم مركب الوضع ونقيضه بعد توحدهما بسقوط التناقض بينهما، وارتفاعهما بهذا التوحد إلى ما هو أسمى من الوضع ونقيضه.

وهكذا دواليك تتكرر حركة الجدلية، فيكون في الأشياء كلها تطور ونمو.

أي أن الحالة الأولى التي يكون عليها المطلق، أو تكون عليها الفكرة، أو الروح، أو الطبيعة، أو الكائن الطبيعي، أو المجتمع الإنساني.. وهي الحالة التي أسميها (الطريحة) تتفاعل مع أضدادها ونقائضها، فتنقلب إلى الطرف الآخر الذي تقع فيه أضدادها أو نقائضها، وبذلك يتم التحول إلى الحالة الثانية، وهي الحالة التي أسميها (النقيضة).. ثم تتفاعل الحالة الثانية مع أضدادها أو نقائضها، فينشأ من ردود الأفعال تغير لها، ولكن لا إلى ذات الطرف الذي سبق أن تركته في التغير الأول، بل إلى تغير صاعد يجمع بين الطريحة والنقيضة جمعاً توفيقياً، وبهذا الجمع تسقط صفات وعناصر دنيا خسيسة، وبذلك يحصل الارتقاء، وهذه هي الحالة التي أسميها (الجميعة).. ويُحذفُ التناقض في هذه الحالة إذ يتم امتصاصه في شمولٍ أعلى.

ثم تغدو الحالة الثالثة (الجميعة) من جديد (طريحة) تتغير إلى (نقيضة) جديدة، ثم إلى (جَمِعيةٍ) جديدةٍ صاعدة.. وهكذا دواليك تذهب الدورات صاعدة.

التفت إلي، وقال: هذا هو طريق الحقيقة.. وهذا هو (الديالكتيك)..

قال ذلك، ثم التفت إلى برعم شجرة أمامه، وقال: هذا (البرعم) مثلا أعتبره (طريحة).. تأتي الزهرة، فتنفيه، وتصبح الزهرة بالتالي (نقيضة).. ثم تأتي (الثمرة) التي هي الجميعة، وهي أسمى من البرعم والزهرة.

__________

(1) قد تختلف الألفاظ المعبرة عن هذه المراحل عن المعرفين بجدلية (هيجل) مثل التعبير التالي: (الوضع، ونفيه، ومؤتلف الوضع ونفيه)

سلام للعالمين (226)

قلت: فهمت الديالكتيك الذي يعرف به منهجك.. فما المثالية؟

قال: أنا من فئة المثاليين، الذين يؤمنون بالغيبي المجرد من الحسيات، لا من فئة الماديين، فأنا أؤمن بإلهٍ.. والله في تصوري هو الوجود غير المتناهي، وهو المطلق، وهو الحقيقة الكاملة.

بقيت في صحبته مدة.. إلى أن بان لي أن ما يذكره قد يوصلني إلى بعض الحقائق.. ولكنه قد يوصلني في نفس الوقت إلى كثير من السراب والأوهام..

فقد رأيته أن مذهبه من الناحية العقلية المنطقية مبني على اجتماع الأضداد أو المتناقضات سواء في حالة اصطراعها أو في حالة ائتلافها في الجميعة، ومنطق العقل يحكم جازماً باستحالة اجتماع الأضداد أو المتناقضات في شيء واحد وزمن واحد (1).

__________

(1) من الأصول العقلية البدهية المقررة لدى الفلاسفة والمناطقة وسائر العقلاء والمفكرين أن النقيضين كالوجود والعدم، وكإيجاب الشيء وسلبه، لا يجتمعان في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما مستحيل عقلاً. ولا يرتفعان معاً من شيء واحد في وقت واحد، وارتفاعهما معاً مستحيل عقلاً.. فلا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد موجوداً ومعدوماً معاً، ولا موجباً وسالباً معاً من الجهة التي يكون فيها موجباً.. ولا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد غير موجود وغير معدوم معاً، أو غير موجب وغير سالب معاً.

أما الضدان كالأبيض والأسود، فلا يجتمعان معاً في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما معاً مستحيل عقلاً. فلا يكون الشيء الواحد بالذات أبيض وأسود معاً من الجهة نفسها في وقت واحد.. لكن الضدين قد يرتفعان معاً في وقت واحد، فيكون الجسم لا أبيض ولا أسود معاً في وقت واحد، إذ قد يكون أحمر أو أصفر أو غير ذلك من ألوان.

ومن الملاحظ أن الجدلية قد نسفت هذا الأصل العقلي المنطقي نسفاً كلياً، فأقامت الوجود كله على فكرة اجتماع الأضداد أو المتناقضات واتحادها.

وفي ادعاء اتحاد الأضداد والمتناقضات استهانة بالغة بالعقل البشري، وإقامة مذهب كامل لبني الإنسان، على أمر باطل واضح البطلان.

إن اللحظة التي يكون فيها الشيء متحركاً، لا يمكن أن يكون فيها ساكنا، واللحظة التي يكون فيها ساكناً لا يمكن أن يكون فيها متحركاً.

ولكن الشيء الواحد قد تتداول عليه الحركة والسكون بلحظات متتابعات مهما صغرت ودقت هذه اللحظات، وقد ينخدع بذلك بعض أهل الفلسفة، فيظن أن السكون كامن في الحركة، فيعتبر ذلك من اجتماع النقيضين، وليس الأمر كذلك.

وقد يمثل مدعو اجتماع الضدين أو النقيضين بتماس السالب والموجب في الكهرباء، الذي ينجم عنه الظواهر الضوئية والحركية، لكن التمثيل بهذا تمثيل باطل، فالسالب والموجب في الكهرباء ليسا ضدين ولا نقيضين منطقيين.

إن السالب المنطقي للكهرباء هو لا كهرباء، ويصدق ذلك بأي شيء غير كهرباء في الوجود، فالخشب والحجر والتراب والثلج والملح والحلاوة والملاسة والخشونة وغير ذلك كلها ليست بكهرباء.

أما السلك السالب في الكهرباء، فليس هو السالب المنطقي للكهرباء، إنما هو مشتمل على قوة أخرى منافرة للقوة الكهربائية.

فالموجب والسالب في الكهرباء قوتان متنافرتان متقابلتان، إذا تماسا تفاعلا، فأنتجا بحسب قوانين إنتاجهما ظواهر ضوئية أو حركية، كالذكر والأنثى، وما ينتج عنهما.

إن القوى المتنافرة والمتآلفة والمتفاوتة كلها إذا تلاقت أو تماست أو اجتمعت كانت ذات آثارٍ ما، وآثارها تخضع لقوانين خاصة بكل منها. (انظر: كواشف زيوف، لحبنكة)

سلام للعالمين (227)

ورأيه يشتمل على أن التغيرات تذهب صاعدةً مرتقية باستمرار إلى ما هو أسمى، ولكن الواقع لا يُصدِّق هذا الادعاء، فهو إن صدق بمثالٍ أو بعددٍ من الأمثلة، لا يصدق بأمثلة كثيرة لا تحصى، فهو إذن لا يصلح لأن يكون قانوناً شاملاً.

ولئن سلمنا في تغيرات المجتمع البشري، بأن التطرف في (الديكتاتورية) الفردية في المجتمع قد ينشأ عنه نقمة في المجتمع، ويتولد عنه – دون حتمية- رد فعلٍ عنيف، يدفع بالمجتمع إلى حرية اجتماعية سمتها الفوضى، ثم يتولد عن هذه الفوضى الاجتماعية رجعة توفيقية بين الديكتاتورية والحرية المسرفة، وهي أفضل منهما.. فمن الطريحة والنقيضة تولدت الجميعة.. ولكن ذلك لم يتم إلا من خلال وعي الناس، ودون أن تكون ضرورة حتمية.

فكيف نطبق الحركة التغيرية الصاعدة حينما تسوء حالة الجميعة التوفيقية هذه في المجتمع، فترجع إليه الديكتاتورية المتطرفة مرة أخرى، ثم الحرية الاجتماعية المسرفة، ثم الديمقراطية المعتدلة؟!

أليست هذه دورات متناظرة، وليست بصاعدة كما زعم الادعاء (1

__________

(1) استشهد (برنال) بنظرية الرغبات المكبوتة لفرويد في رد هذا الديالكتيك، فقال: إننا نجد الدول الديالكتيكية أبعد ما تكون عن الحتمية فيها، فالغريزة هي الطريحة والكبت هو النقيضة والتسامي هو الجميعة، ثم يقول برنال: هذا جميل، ولكن افرض أن المريض أصيب بالجنون بدلاً عن كونه قد استطاع أن يتسامى. افرض أنه قتل نفسه، أين تكون إذن هذه المواءمة بين الأضداد بين الجميعة؟! أين يكون التقدم من الأدنى إلى الأعلى في هذه الحالة؟! (انظر: كواشف زيوف، لحبنكة)

سلام للعالمين (228)

الجدلية المادية

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل تعرفونه جميعا.. استعمل جدلية هيجل بعد أن نزع عنها المثالية.. فحولها إلى مادية.

قلنا: تقصد (كارل ماركس) (1)

قال: أجل.. لقد أخذ هذا الرجل من هيجل آراءه في الجدلية بعد أن حذف منها نظرتها المثالية، المرتبطة بالله، وأضاف إليها نظرته المادية، فصار مذهبه الفلسفي الجذري (المادية الجدلية)

وبناء على ذلك جعل الدين، والقانون، والسياسة، والأخلاق، والنظم الاجتماعية، والفلسفة، والفن، آثاراً في الوعي الإنساني للجدلية في حركة المادة وتطورها، وجعل هذه كلها صناعة إنسانية، وجعل الإنسان نتاج المادة في حركتها الجدلية، وجعل الفكر فيه نتاجها الأعلى.

وقد أخبرني أنه بعمله هذا قد أوقف آراء هيجل على قدميها، بعد أن كانت عنده واقفة على رأسها.. قال لي: إن هيجل لما اعتبر جدليته منطلقة من الله إلى كل الأكوان، فإنه بذلك قد عكس حقيقة الأمر، إذ حقيقة الأمر في ادعائي هو أن الله من اختراع الفكر الإنساني، ومن ابتكاراته التي لا تنطبق على الحقيقة والواقع.

وقد رأيت (ماركس) يعتبر نظام الجدلية أساساً لكل التغيرات في الطبيعة وفي التاريخ الإنساني بصفةٍ عامة، ويعتبره أساساً تتغير على وفقه المجتمعات الإنسانية، من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع بورجوازي إلى مجتمع اشتراكي وأخيراً إلى مجتمع شيوعي تنتهي فيه كل الطبقات، ولا حاجة فيه إلى سلطة حاكمة.

ورأيته يعطي هذه التغييرات التي ذكرها صفة القانون الاجتماعي الحتمي، ليقنع قطعان

__________

(1) سبق التعريف به.. وقد ذكرنا بتفصيل الرد على جدليته في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (229)

الجند من الشيوعيين بأن النهاية مضمونة لهم، فهم الذين سيقبضون على ناصية الأمر في كل المجتمعات.

ورأيته يطلق عليها وصف (المادية) لأن نظرتها مادية صرفة، أي: لا ترى الوجود كله إلا مادة فقط، وتعلل حوادث الكون تعليلاً مادياً، وترفض أي مؤثر غيبي، أو خارج عن حدود المؤثرات المادية.. وهذا الرفض قد جعل الماركسيين يلتزمون تلقائياً عدم حاجة الكون لعلم سابقٍ وحكمة واختيار وقدرة، رغم كل ظواهر الإبداع والإتقان والعناية، ورغم كل روائع الحكمة البادية فيه لكل متدبر مفكر، ورغم نظام الوحدة المسيطر عليه، والدالة على وحده المنظَّم، ورغم تصاريفه الهادفة إلى غاية مثالية عظيمة، والتي لا يلاحظ فيها أية عشوائية، أو أي تخبط على غير هدى، بخلاف حال المصادفات.

قلنا: فكيف فسر الكون بجدليته هذه؟

قال: لقد ذكر لي أن مادة الكون الأولى قد تطورت تطوراً ذاتياً، ضمن نظام (جدلية هيجل) حتى تكامل للكون نظامه الرائع.. ثم ظهرت في الأرض الحياة نتيجة لحركة التطور وفق الجدلية.. ثم ظهر الإنسان بالتطور الذاتي، وتدرج في كماله حتى بلغ وضعه الحالي المشاهد..

وذكر لي أن تطور المادة يخضع لعوامل ونظم من المادة نفسها، يفهمها الإنسان منها بعد وقوعها.. وأن تطورات الكون لا تخضع مطلقاً لخطة فرضت عليها من خارجها مسير لها، مدبر لأمرها، بل تخضع لقوانين حركة المادة.

السلام

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: لم ألجأ إلى أحد.. لقد جرفني تيار الدياليكتيكية بسياطه.. إلى أن أسلمني اليأس إلى ما أسلمكم إليه.

سلام للعالمين (230)

قلنا: الانتحار!؟

قال: أجل.. فقد وجد عقلي ـ الذي لا أستطيع العيش من دونه ـ نفسه خاويا.. فراح يطالبني بالخلاص.. ولم أجد الخلاص إلا في الموت.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قال: في تلك الأيام كنت في باريس منشغلا بالتفرج على مسرحيات (صمويل بيكيت) الأيرلندي و(أوجين يونسكو) الروماني زعيمي حركة اللامعقول.. وفجأة.. وبعد أن رأيت ما رأيت من حقارة حياة العقل.. وبعد أن ذقت من شراب اللامعقول ما ذقت.. أصابتني إغماءة الموت.. التي أعقبت صيحة شديدة تعالت أصداؤها في كل مكان.. ولم ينقذني منها إلا ذلك النور والسلام الذي حدثتكم عنه.. والذي جئت إلى هذه البلاد باحثا عنه.

قلنا: كيف تم ذلك؟

قال: في المسرح الذي أهين فيه العقل.. والذي أصابتني فيه إغماءة الموت التي كادت تقضي علي.. هرع الكل لإنقاذي مستعملين كل وسائلهم وأساليبهم وأسبابهم.. لكنهم جميعا لم يرتدوا إلا بالفشل الذريع.

لكن رجلا ظهر في ذلك الحين.. لست أدري هل كان معنا في المسرح يتفرج على ما نتفرج عليه.. أم أنه سمع صيحتي القوية.. فأسرع لإنقاذي..

اقترب مني.. ثم راح يرتل هذه الآية من القرآن (1): {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ((الاسراء:36)

ثم يعقبها بآية أخرى تقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ((النحل:78)

__________

(1) ذكرنا هنا بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن العقل.. والتي سنحاول استنباط المعاني الواردة فيها في هذا البحث.. ولا يخفى وجه الرمزية فيما نذكره هنا.

سلام للعالمين (231)

ثم يعقبها بهذه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفلك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَلأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164)

ثم يعقبها بهذه: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} (الرعد)

ثم يعقبها بهذه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} (النحل)

ثم يعقبها بهذه: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

سلام للعالمين (232)

(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُللا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)} (النحل)

ثم يعقبها بهذه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} (الحج)

ثم يعقبها بهذه: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} (الروم)

ثم يعقبها بهذه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ إيمانكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} (الروم)

ثم يعقبها بهذه: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} (الجاثية)

ثم يعقبها بهذه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44 ((البقرة)

ثم يعقبها بهذه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2 ((يوسف)

ثم يعقبها بهذه: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10 ((الأنبياء)

ثم يعقبها بهذه: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (80 ((المؤمنون)

ثم يعقبها بهذه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ

سلام للعالمين (233)

تَعْقِلُونَ (67 ((غافر)

ثم يعقبها بهذه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (170 ((البقرة)

ثم يعقبها بهذه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171 ((البقرة)

ثم يعقبها بهذه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22 ((الأنفال)

ثم يعقبها بهذه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179 ((الأعراف)

ثم يعقبها بهذه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42 ((يونس)

ثم يعقبها بهذه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)} (العنكبوت)

ثم يعقبها بهذه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)} (الحشر)

فانتبهت.. أو بالأحرى انتبه عقلي الذي صار يشعر بأن له وجودا وحياة وحقيقة ووظيفة..

التفت إلى القارئ أبحث عنه.. فإذا به رجل في منتهى النور والسلام والصفاء.. سألته: من أنت؟

قال: أنا مسلم.

قلت: لا أريد دينك.. أريد اسمك.

قال: لقد انمحى اسمي في اسم ديني.. فصرت لا أعرف إلا به.

سلام للعالمين (234)

قلت: بم سماك أبواك؟

قال: لقد سميت أسماء كثيرة.. منها (ابن الهيثم).. ومنها (ابن خلدون).. وأنا الآن أسمى بين قومي (تقي المدرسي) (1)

قلت: لقد سمعتك تقرأ كلاما يمجد العقل.

قال: ذاك كلام ربي.. الذي خلق لنا العقول.. وعلمنا كيف نستعملها لنصل بها إلى الحقائق.

انتفضت من مكاني، وقلت: هل حقا ما تقول؟.. هل يمكن للعقل أن يصل إلى الحقائق؟

قال: أجل.. لقد دلنا ربنا على المنهج الذي يصل بنا إلى ذلك.

قلت: لقد صحبت الكثير.. ولكني لم أجد عندهم ما يرضي عقلي أو ما يوصله إلى الحقائق.

قال: ذلك لأن عندهم بعض العقل.. لا كل العقل.. ويستحيل على بعض العقل أن يصل إلى الحقائق الكاملة.. إنه في أحسن أحواله يصل إلى حقائق وقتية أو حقائق مشوهة قد ينتفع بها بعض الانتفاع، لا كل الانتفاع.

قلت: هلا قربت لي هذا؟

قال: بأسلوب أهل هذا العصر.. أم بأسلوب غيرهم؟

قلت: ما دمنا في هذا العصر.. فلا يصح أن نستعمل أسلوب غيره من العصور.

قال: إن مثل كل من لقيت من المفكرين والباحثين مثل قوم ضلت بهم الطرق.. وكان لديهم سيارة مجهزة بكل الآلات التي تستطيع أن تقطع بهم الطريق.. لكنهم انشغلوا عن قيادتها بالبحث عن أجزائها.. فانشغل كل طرف منهم بجزء من الأجزاء.. وراح يستغرق فيه ناسيا المقصد الذي صممت السيارة من أجله.

ذهب بعضهم إلى المرائي.. وذهب آخرون إلى العجلات.. وراح آخرون يقيسون.. وراح

__________

(1) أشير به إلى العلامة الجليل آية الله محمد تقي الدين المدرسي، والذي استفدنا من كتبه المتخصصة في هذا المجال كثيرا في هذا الفصل.

سلام للعالمين (235)

آخرون يجربون.. وراح آخرون يوجهون أبصارهم إلى غير الجهة التي كانت السيارة قابعة فيها.. ثم يصيحون بملء أفهم: يا قوم ليس هناك سيارة.. فلماذا تبحثون عنها؟..

وكل هؤلاء لم يتعب أحد منهم نفسه ليتساءل عن مقر القيادة الكامل الذي لا تسير السيارة السير الصحيح إلا به.

نهضت من مكاني قائما، وقلت: ها أنا بين يديك.. فدلني.. فقد انقطعت بي السبل.

قال: أول الطريق هو أن تعرف أن لك عقلا.. وأن هذا العقل قد زود بالنور الذي يهيئه لإدراك الحقائق..

إن مثل ذلك مثل من يدخل بيتا تكتنفه الظلمات.. فإن أول شيء يفعله هو أن يتحسس عن المصباح.. فإذا وجده استضاء به في اكتشاف سائر الأشياء..

ولهذا، فإن الإسلام ـ بمصادره المقدسة ـ يذكر الإنسان ـ كل حين ـ بعقله، ليتخذه مصباحا يكشف به حقائق الوجود.

قلت: لقد سمعتك تقرأ علي النصوص الكثيرة التي تذكر فضل العقل وأهميته.

قال: تلك نصوص القرآن الكريم.. إنه الكتاب الذي يدلنا على النور وعلى مصادر النور.. وهو يدلنا على ذواتنا وطاقاتنا كما يدلنا على الكون وكيفية الاتصال به.

قلت: فهل اهتديتم بتلك الآيات إلى العقل؟

قال: لم نهتد لعقل واحد.. بل اهتدينا إلى عقول كثيرة..

قاطعته قائلا: عقول كثيرة!؟.. كيف ذلك؟.. لا أعرف إلا أن للإنسان عقلا واحدا.

قال: نعم هو عقل واحد من حيث الماهية.. ولكن الأدوار والمناهج التي قد يستعملها تختلف اختلافا يجعل من العقل عقولا كثيرة.

قلت: ألا يحدث الصراع بينها؟

قال: يحدث الصراع لو كان منشئها متعددا.. وبما أن منشئها واحد، فإنها تمتلئ بالسلام الذي

سلام للعالمين (236)

يمتلئ به كل ركن من أركان الوجود.

قلت: فهلا وضحت لي هذا، فإني أرى عقلي كليلا دون فهمه.

قال: سر معي إلى (أكاديمية العقل المسلم).. ففيها تسمع العقول المغذاة بعقل الإسلام.. وفيها ترى السلام الجميل الذي يغمرها جميعا.

قلت: أكاديمية العقل المسلم!؟.. لم أسمع بها من قبل.

قال: هي أكاديمية أسسها محمد رسول الله (.. ولكن الإعلام في جميع فترات التاريخ بذل كل جهده ليهيل تراب النسيان عليها، فلا يبصرها أحد.. فلذلك تراهم يمرون على كل الأكاديميات عداها.

قلت: صدقت.. لقد كتب لي أن أتتلمذ على الكثير من العقول، وفي الكثير من الأكاديميات.. لكني لم أسمع أحدا منهم يذكرها.

قال: سر معي إليها.. وسترى فيها ما يرضيك.. أنا متيقن تماما.

قلت: ما الذي جعلك تتيقن؟

قال: لقد مر علي الكثير من أمثالك.. وهم الآن بحمد الله أساتذة في هذه الأكاديمية.

المدارك الحسية

سرنا إلى أول قسم في (أكاديمية العقل المسلم).. وكان اسمه (المدارك الحسية).. سألت المدرسي عنه، فقال: في هذا القسم يتعلم الطلبة كيف يستفيدون من مداركهم الحسية في تغذية عقولهم بالمعارف.

قوة الحس

قلت: ألا ترى أن الحس أضعف من أن أصل به إلى الحقائق؟

قال: لا.. بل الحس هو أول المدارك التي نصل بها إلى الحقائق، ولهذا فإن القرآن الكريم يحث

سلام للعالمين (237)

على استعماله.. لا لنقف عنده، وإنما لنعبر منه إلى غيره.

اسمع إليه، وهو يقول موجها العتاب الشديد للذين لم يستعملوا مداركهم في العبور بها إلى الحقائق: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} (القصص).. ويقول: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} (الذاريات).. ويقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)} (السجدة).. ويقول: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} (الغاشية).. ويقول: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} (الأنعام)

ويبين عاقبة من لم يستعمل وسائل إدراكه في العبور إلى الحقائق، فيقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} (الأعراف).. ويقول: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)} (هود)

قلت: فالعقل المسلم إذن يؤمن بالحس ويستسلم له.

سلام للعالمين (238)

قال: فرق كبير بين إيمانه بما يقوله الحس، وبين استسلامه له.

قلت: ما الفرق بينهما؟

قال: الإيمان بمدارك الحس فطرة بشرية.. فكل الناس في معظم أحوالهم يؤمنون بشهادة الحس، يؤمنون بأن ما رأوه بأعينهم أو سمعوه بآذانهم، أو أحسوه بجلودهم أو شموه بأنوفهم أو ذاقوه بألسنتهم هو كما شهدت به هذه الحواس.

ولكن الاستسلام شيء آخر.. لأن الحس قد يعرض له من الأوهام ما ينصرف به عن الحقيقة.. ولذلك فإن العاقل هو الذي يجعل إحساسه تبعا لعقله.. لا عقله تبعا لإحساسه.

قلت: لم أفهم.. ماذا تقصد؟

قال: إن العاقل هو الذي يعترف بأن حواسنا لا تعطينا علماً محيطاً بما نشاهد، إنما تعطينا جانباً منه.. وهذا الذي تعطيناه وإن كان جزئياً إلا أنه حق وهو كافٍ لنا في معاملاتنا الدينية والدنيوية.

مثال دلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات كبيرة.. ومثل ذلك ما نراه سائلاً.. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت ذلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب.. بل يذكرون أن كثيراً مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد مند آلاف السنين، ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا، وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.

لكننا في معلاملاتنا اليومية وفي ديننا إنما نتعامل مع الأشياء بحسب ما تبدو لنا؛ فأوقات الصلاة والصيام والحج لا تعتمد على الحقائق الفلكية التي يتحدث عنها علماء الفلك وإنما تعتمد

سلام للعالمين (239)

على ما يظهر لنا منها (1).

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، وبين مغزاه وفائدته، فقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} (الأنفال).. وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} (آل عمران)

قلت: فهمت هذا.. ولكن كيف يكون الحس تابعا للعقل؟

قال: الاسلام بنصوصه المقدسة أولى جانب الحس أهمية كبرى، حيث دعا إلى النظر والسير والتحرك والتثبت، ولكنه مع ذلك أولى اهتماما أكبر لدور العقل الذي يوجه الحس ويمحص نتائجه، والذي لولاه يصاب الفكر بالشلل الكامل.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لنفترض أننا أبعدنا العقل عن مجال الحس، وأصبحنا مثل أولئك الحسيين الذين لم يعترفوا بدور العقل في توجيه الحس، فسوف نرى كيف نتخبط في الضلالات حتى لا نستطيع كشف أي حقيقة مهما ضؤلت بواسطة الحس. بل إن نكران العقل يدعونا إلى التشكيك في وجود أية حقيقة وراء الحس، وينتهي بالإنسان إلى المثالية أو التشكيك التام.. أفليس من الممكن أن تكون رؤيتنا للأمور أشبه شيء برؤية الحالم في منامه، أوليس من الممكن أن يكون الإحساس نابعا من

__________

(1) ذكر المدرسي أن بعض الشباب في أحد المؤتمرات ببريطانيا ذكر أن رجلاً زعم أن في الإسلام ما يخالف الحقائق العلمية وضرب لذلك مثلاً بافتراضنا أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة؛ لأننا نقول مثلاً: إن وقت الظهر يحين عندما تصير الشمس في كبد السماء، قال: فقلت له: ألستَ تجد في جرائدكم اليومية مواقيت طلوع الشمس وغروبها؟ فلو أن الناس التزموا بالحقائق الفلكية وحدها لما جاز لهم الحديث عن شروق وغروب؟ لأنه إذا كانت الشمس ثابتة بالنسبة للأرض؟ فكيف يقال إنها شرقت أو غربت؟ فالعلماء أنفسهم يسمون هذا بالحركة الظاهرية للشمس، وهي الحركة التي نعتمدها في حياتنا اليومية.

سلام للعالمين (240)

ذات الأعصاب وليس من الحقائق الخارجية؟ فإن لم يكن هناك نور لدى النفس يحكم بأن مصدر الإحساس حقيقة خارجية بصور جازمة، لو لم يكن هذا فأي حجة تقدر على إثبات الحقائق وراء الإحساس؟

قلت: لقد رأيت بعض الفلاسفة والعامة يتعلل في عدم إيمانه يوجود الله بمدارك الحس.. فهو يرى أنه لا ينبغي أن يؤمن إلا بما يرى (1).

ابتسم، وقال: لقد أشار القرآن الكريم إلى هؤلاء الأغبياء الذي جعلوا عقولهم سجينة حواسهم، فقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} (البقرة)

قلت: لكن هؤلاء يدعون أن هذا أمر يقتضيه المنهح العلمي.

قال: لقد كذبوا في ذلك.. فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم.. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه أعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟

ضعف الحس

رأيت في القاعة امرأة تخاطب امرأة بفخر واعتزاز قائلة: لا شك أنك لا تعرفيني.. أنا زرقاء اليمامة.. أنا المرأة التي ضربت بها العرب الأمثال في قوة بصرها، فقالت: (أبصر من زرقاء اليمامة).. أنا التي قال في النابغة:

واحْكم كحكم فَتَاة الحيِّ إذا نَظَرتْ... إلى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَد

يَحُفُّهُ جَانِباَ نِيقٍ وَتُتْبِعُهُ... مِثْلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ...

قالَتْ أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا... إلى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفَهُ فَقَدِ...

فَحَسبُوهُ فألفَوْهُ كَمَا ذكَرَتْ... تسعا وتسعين لَمْ ينقص ولم يَزِدِ

قالت لها صاحبتها، وهي تحاورها: كفي عن غرورك يا أختي.. فالعين مهما قدرت على الرؤية، فهي مخلوق عاجز خلق الله له مجالا محدودا لا يمكنها أن تجاوزه.

قالت: أنت تقولين ذلك لما ترين من ضعف بصرك.. ولو أن بصرك كان أقوى ما قلت هذا.

ابتسمت صاحبتها، وقالت: لاشك أنك لم تخفظي الدروس التي لقنها لنا أساتذتنا في هذه الكلية.

قالت زرقاء: أي درس منها؟

قالت صاحبتها: درس (ضعف المدارك الحسية)

قالت زرقاء: لقد درست عظمة هذه المدارك التي من الله بها علينا.. فلم أحتج لإدراك ضعفها.. فلا يمكنني أن أحمد الله على الضعف.

قالت صاحبتها: ولا يمكنك أن تستفيدي من شيء، وأنت لا تعرفين ضعفه.

قالت زرقاء: كيف ذلك؟

قالت صاحبتها: لأنك قد تقعين في فخاخ الجهل التي ينصبها لك ضعفه.

قالت زرقاء: فلنفرض أني سلمت لك بما ذكرت.. فاذكري لي من ضعف بصري ما يكفني عن الاغترار به.

قالت: سأذكر لك سبعا من أنواع النقصان التي لقننا إياها علماؤنا وأساتذتنا ليحفظوا بها عقولنا من أن تقع ضحية لأخطاء مداركنا الحسية.

قالت زرقاء: فما هي؟

__________

(1) انظر الرد المفصل على هذه الشبهة في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (241)

قالت (1): لقد قال الغزالي، وهو يلقننا ضعف حاسة البصر مقارنة بالعقل: (اعلموا أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بعد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب.. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها.. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيرا في إبصاره: فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا)

ثم قال متسائلا: (فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة.. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هو أولى باسم النور أم لا؟)

ثم أجاب: (اعلموا أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني.. ودع عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهمت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني، فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه (عقلا) متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع)

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الأول.

قالت: القصور الأول هو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه.. إذ يدرك نفسه عالما وقادرا.. ويدرك علم نفسه.. ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية.. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الثاني.

قالت: القصور الثاني هو أن العين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب منها قربا مفرطا، بينما العقل يستوي عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هربا.. بل إذا حقت الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معاني

__________

(1) ما نذكره هنا مستفاد بتصرف من رسالة (مشكاة الأنوار) لأبي حامد الغزالي.

سلام للعالمين (242)

القرب والبعد الذي يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الثالث.

قالت: القصور الثالث هو أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السموات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعني بدنه الخاص.. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل، وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الرابع.

قالت: القصور الرابع هو أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حقائقها، بينم يتغلغل العقل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها من خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معنى جمع وركب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الخامس.

قالت: القصور الخامس هو أن العين تبصر بعض الموجودات فقط دون جميع المعقولات، بل دون كثير من المحسوسات، فهي لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة من السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال

سلام للعالمين (243)

من أخس أعراضها.

بينما الموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعدها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا.. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها لكنها ظلمة بالإضافة إليه.. بل هي جاسوس من جواسيسه وكله بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور السادس.

قالت: القصور السادس هو أن العين لاتبصر ما لا نهاية له، فإنها تبصر صفات الأجسام، والأجسام لاتتصور إلا متناهية، والعقل يدرك المعلومات، والمعلومات لا يتصور أن تكون متناهيه.. فهو ـ مثلا ـ يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الإثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية، ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهي عليها: بل يدرك علمه بالشئ وعلمه بعلمه بالشيء، وعلمه بعلمه بعلمه.. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور السابع.

قالت: القصور السابع هو أن العين تبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مجن، والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق، بينما يدرك العقل الكواكب وأن الشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة كثيرة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما، والكواكب تتحرك في كل لحظ أميالا كثيرة، وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها.

سلام للعالمين (244)

القوانين المنطقية

بعد أن تعرفت في القسم الأول في (أكاديمية العقل المسلم) على المدارك الحسية، والضوابط التي تحكمها، سرت مع المدرسي إلى قاعة أخرى كتب على بابها (قاعة القوانين المنطقية) فسألته: أهذه هي القاعة التي يدرس فيها منطق أرسطو؟

قال: ليس هناك في الدنيا شيء اسمه (منطق أرسطو)

قلت: كيف تقول ذلك؟.. لقد رأيت أرسطو وتتملذت على يديه.. بل حفظت على يديه (الأورجانون)

قال: فهل ابتدع منطقه ابتداعا.. أم أنه اكتشفه اكتشافا.. أم أنه وصفه وصفا؟

قلت: ربما أليق الألفاظ أن تعتبره واصفا أو ضابطا.

قال: فهل يمكن أن ننسب العربية للخليل أو لسيبويه.. فنقول (عربية الخليل) أو (عربية سيبويه)؟

قلت: العربية أوسع من أن تنحصر في هذين الرجلين.

قال: فكذلك المنطق.. لقد جبل الله عليه العقول.. فلا يصح أن يوصف به فرد دون فرد.. ولا أمة دون أمة.

قلت: فما الحاجة إلى تدريسه إذن؟

قال: لأن العقول قد تنحرف بها الأهواء عن الحقائق.. كما ينحرف اللحن بالألسن عن الإعراب.. فتحتاج إلى ما يقومها.. سأضرب لك مثالا على ذلك من القرآن الكريم..

لقد كان من مجادلات اليهود لرسول الله (قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية 91).. وقد أمر الله رسوله (أن يرد عليهم، فقال: {قل مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: من الآية 91)

سلام للعالمين (245)

انظر (1).. كيف استعمل القرآن الكريم المنطق هنا للرد عليهم.. فالذي يلزم من قولهم ذلك هو أن الله لم ينزل التوراة على موسى.. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالاً استنكارياً، فقال: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (الأنعام: من الآية 91)

ولهذا نزه الله تعالى القرآن الكريم من التناقض، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82).. فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقُض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلاً على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتاباً في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون فيما قال تناقض.

-\--\-

دخلنا القاعة، فرأيت طلابا مجتمعين حول أستاذين، فتعجبت من ذلك، وقلت: عهدي بالحلقات أن لا يكون لها إلا شيخ واحد.

قال: أحيانا تحتاج إلى شيخين أو أكثر.. ليكمل أحدهما ما يقصر فيه الآخر.. ألا ترى غرف العمليات كيف يجتمع فيها جموع الأطباء من كل التخصصات؟

قلت: بلى.. لكن ذلك في الأجساد.

قال: والعقول أولى من الأجساد.. فلا تصح الأجساد إلا بصحة العقول.. ألم تسمع الحكمة التي تقول (الجسم السليم لا يكون إلا لصاحب العقل السليم)؟

قلت: هم يقولون (العقل السليم في الجسم السليم)

قال: لقد قالوا ذلك احتقارا للعقل.. فقدموا عليه الجسد.. ولو أنهم فطنوا لقدموا العقول.. فلا يحفظ الأجساد مثل العقول.

__________

(1) انظر في هذا مقالا بعنوان (معايير العقلاء)، أ. د. جعفر شيخ إدريس رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.

سلام للعالمين (246)

قلت: فمن هما هذان الشيخان؟

قال: أما أولهما، فرجل من علماء المسلمين يقال له (ابن حزم).. وأما الثاني، فيقال له (أبو حامد الغزالي)

-\--\-

تقدمت من الحلقة، فسمعت شيخها الأول (ابن حزم) يقول (1): الحمد لله رب العالمين، بديع السماوات والأرض وما بينهما، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله إلى عباده من الأنفس الحية القابلة للموت، من الإنس والجن، بالدين الذي اجتبرهم به، ليسكن الجنة التي هي دار النعيم السرمدي من أطاعه ويدخل النار التي هي محل العذاب الأبدي من عصاه؛ وما توفيقنا إلا بالله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عز وجل.. أما بعد:

فإن الأول الواحد الحق الخالق لجميع الموجودات دونه، يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ((الزمر:62)

وقال مثنيا على عباده من أولي الألباب: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191)

وقال ممتنا على عباده: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4 ((الرحمن)

وقال آمرا عباده: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ

__________

(1) هذه مقدمة (التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية) لابن حزم، تحقيق: إحسان عباس (بتصرف).. وقد ذكرناها لما فيها من الأدلة على شرعية تعلم هذا العلم ووجه الحاجة إليه.

سلام للعالمين (247)

الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5 ((العلق)

تدبروا هذه الآيات، فإنها جامعة لوجوه البيان الذي امتن به الله تعالى على الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان، فضلا منه تعالى يؤتيه من يشاء.. والله ذو الفضل العظيم.

وقد وجدنا أن الله عز وجل عدد في عظيم نعمه على من ابتدأ اختراعه من النوع الإنسى تعلمه أسماء الأشياء؛ فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة: من الآية 31).. وهو الذي بانت به الملائكة والإنس والجن من سائر النفوس الحية، وهو البيان عن جميع الموجودات، على اختلاف وجوهها، وبيان معانيها، التي من أجل اختلافها وجب أن تختلف أسماؤها، ومعرفة وقوع المسميات تحت الأسماء فمن جهل مقدار هذه النعمة عند نفسه، وسائر نوعه، ولم يعرف موقعها لديه، لم يكن يفضل البهائم إلا في الصورة؛ فلله الحمد على ما علم وآتى، لا إله إلا هو.

ومن لم يعلم صفات الأشياء المسميات، الموجبة لافتراق أسمائها، ويحد كل ذلك بحدودها، فقد جهل مقدار هذه النعمة النفيسة، ومر عليها غافلا عن معرفتها، معرضا عنها، ولم يخب خيبة يسيرة بل جليلة جدا.

قال بعض التلاميذ: كيف تقول هذا، ولم نر أحدا من السلف الصالح تكلم فيه؟

قال ابن حزم: إن هذا العلم مستقر في نفس كل ذي لب.. فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من الفهم، إلى فوائد هذا العلم.. والجاهل كالأعمى يحتاج إلى أن ينبه عليه.. وهكذا سائر العلوم.. فما تكلم أحد من السلف الصالح، رضى الله عنهم، في مسائل النحو، لكن لما فشا جهل الناس، باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالا عظيمة، وكان ذلك معينا على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه (، وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه تعالى، فكان هذا من فعل العلماء حسنا وموجبا لهم أجرا.. وكذلك القول في تواليف كتب العلماء في اللغة والفقه؛ فإن السلف الصالح غنوا عن ذلك كله بما آتاهم الله به من الفضل ومشاهدة النبوة، وكان من بعدهم فقراء إلى ذلك كله، يرى ذلك

سلام للعالمين (248)

حسا ويعلم نقص من لم يطالع هذه العلوم ولم يقرأ هذه الكتب وأنه قريب النسبة من البهائم، وكذلك هذا العلم فان من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه (، وجاز عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدا، والتقليد مذموم، وبالحرى إن سلم من الحيرة، نعوذ بالله منها.

قال آخر: لقد ذكرت بأن هذا العلم موجود في ذهن كل إنسان، فهل هو كسب اكتسبه، أم أنه معرفة ولد بها وفطر عليها.

قال ابن حزم: بل هو من العلم الذي اكتسبه.. لقد قال الله تعالى يشير إلى هذا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ((النحل:78)

قال التلميذ: فكيف تسنى للعقل أن يصل إليها؟

قال ابن حزم (1): العقل هو الوسيلة التي تدرك بها الحقائق.. أو هو النور الذي إذا سلط على الحقائق ظهرت له وتجلت.. ولذلك فإن تلك الحقائق يكشفها نور العقل للنفس كما يكشف ضوء الشمس ألوان الحقول..

وقد كان خطأ الإنسان الأكبر غفلته عن مصدر النور وتوجهه إلى الأحكام زاعما أنها هي حقيقة النور، فراح يبحث عن مصدر يقيِّم به تلك الأحكام.. ولو كان الإنسان قد تذكر بأن الذي يساعده على البحث ليس الا هذا النور، وانه لو افتقده أصبح كالمجنون والنائم حيث لا يفهمان أمرا ولا يعلمان شيئا، وأنه أشبه شيء بنور الإرادة ونور الحرية الذين تملكهما النفس البشرية، وتملك بهما القدرة على الاختيار وهي بذاتها قدرة ذاتية لا تعلل..

لو فعل الإنسان ذلك إذا لتخلص عن سلسلة لا تنتهي من المشاكل العلمية التي أحاطت بنظرية المعرفة.

__________

(1) ما نذكره هنا من التعليلات للمدرسي، وليس لابن حزم كما هو ظاهر.

سلام للعالمين (249)

ذلك لأنه حينذاك يجد أن البحث عنه ضرب من الإسراف والترف الفكري.. إذ ما من بحث الا وهو يؤكد على وجود قوة للإنسان تساعده على البحث، وهي بالتالي تنير طريقه إلى الحقيقة، وتلك القوة هي العقل، وهو نور مقدس عن الإحاطة به من لدن الذات..

التفت إلي، وقال: ومن هنا كانت عملية (كانط) النقدية ـ والتي استهدفت نقد العقل ـ عملية موغلة في الجهل إذ أن الغفلة عن نور العقل، ذلك النور الذي لم يستطع (كانط) ذاته القيام بعملية النقد بدون وجوده لديه.. إن الغفلة عنه فقط كانت السبب في التوجه إلى السابقيات الذهنية، كتصور الزمان والمكان والعلة و.. و.. لينقدها وينتهي بالتالي إلى نظرية النسبية ومنطقه الوضعي.

ولو أن (كانط) كان يتذكر بوجود نور يجعله يقيم الأشياء ويعتمد على تقييمه هذا، وأن ذلك النور هو الذي يكشف له عن الزمان والمكان والعلة والسبب، إذا لنقد الأشياء به، ولم يزعم انه استطاع نقده هو، غافلا عن أن العقل لا يمكن الإحاطة به، فكيف يتاح له نقده، وبأي شيء ينقد الإنسان عقله؟ أبعقله أم بجهله؟ والعقل لا يشكك في ذاته والجهل لا يمكنه نقد العقل..

ومن هنا ـ أيضا ـ أصاب (ديكارت) دوار عنيف في مسيرته عبر العقول إذ أنه شكك نفسه في معلوماته النظرية.. وحين زعم أنه تخلص منها قام ليبني صرح العلم على قواعد جديدة، فلم ير تحت رجليه حجرا ثابتا، وجر إليه انتقادات كبيرة من لدن معارضيه من الحسيين.. ورغم ان (ديكارت) عقلي التفكير فإنه أيضا مخطئ في منهجه، وينشأ خطئه من أمرين:

أولهما: تشكيكه في أن تكون سابقياته الفطرية ناشئة من النفس أو من قوة شيطانية داخلها.. ولم يعلم أن تشكيكه إنما هو في التصورات الغامضة التي لم تتنور بعلم الإنسان.. أما الحقائق الواضحة التي أحاط بها علم البشر فلم يمكن التشكيك فيها أبدا.. ولهذا عاد (ديكارت) نفسه فاعترف بالنفس، وعلل اعترافه بأنه يجدها ظاهرة مميزة أمامه بحيث لا يمكنه إلا الاعتراف بها.

وثانيهما: غفلته عن حقيقة النور الذي كان معه في لحظة تشكيكه في العقل، وإلا فكيف استطاع أن يبلغ بالتشكيك مرحلة متقدمة منه بترتيب النتائج على الأسباب.. كيف استطاع أن

سلام للعالمين (250)

يقول: يمكن أن يكون هناك شيطان مضلل للفكر؟.. مع أن علمه باستلزام سبب للأفكار الخاطئة إنما هو ناشيء من حكم عقلي مسبق وهو: (لا بدية السبب لكل شيء) وأن علمه بأن الشيطان يقوم بالإضلال، يقوم على أساس وجود ضلالة وهداية، وقبح الضلالة وحسن الهداية، وكل هذه الأحكام عقلية.

إن مثل (ديكارت) في ذلك مثل الذي يشكك في وجود الشمس، ثم يرينا الحقول والواحات المضاءة بالشمس، ويقول لو كانت الشمس موجودة لما كانت لها ظلال وارفة.. إن مجرد رؤية الحقول والواحات دليل على وجود الشمس، وإن ذات الظلال الوارفة لهي دليل على وجودها.. فكيف يستدل بهما على عدم وجود الشمس؟ وهكذا القدرة على التشكيك نوع من إثبات نور العقل.

والواقع: إن (ديكارت) لم يحاول التشكيك في عقله، إنما شكك في ركام الجهل الذي تجمع فوق النفس البشرية وزعم الإنسان أنها علم وعقل.. لذلك فإن تصوره للعقل يختلف عن العقل الذي أرشد إليه الدين، فإنه زعم أن العقل إنما هو كل ما في النفس البشرية من تصورات، أما الإسلام فيرى ان التصورات ليست الا معقولات يكتشفها نور العقل وينقدها.

وهكذا ترون كيف اضطربت وتناقضت مقاييس البشر حين زعمت أن المسبقات ذاتها العقل، بينما العقل هو: ما ينور للنفس تلك المسبقات العلمية.

قال تلميذ آخر: وعينا هذا.. فحدثنا عن خصائص هذه الأحكام التي نجدها في عقولنا.. فقد رأينا من الأساتذة من يبث من الشبهات حولها ما يرفع الثقة عنها.

قال: للأحكام العقلية السليمة أربعة خصائص كبرى ترفع كل شبهة.

قالوا: فما أولها؟

قال: الجزم.. فجميع الحقائق المنطقية ثابتة جازمة لا تقبل الريب.. إذ أن ذاتها الكشف، والكشف يعني ملامسة الواقع وشهوده.. فكيف يجد الانسان الواقع ثم يشكك فيه؟ ومن هنا

سلام للعالمين (251)

فإن الحكم بقبح الظلم، وحسن التضحية، وجمال الآداب ليست أحكاما تقبل الريب، والذي يرتاب فيها يحاول الفرار عنها بتغيير موضوعاتها بحيث تصبح الأحكام ليست هي التي تغيرت، بل موضوعاتها فقط تبدلت، فمثلا: الذي يقول: ان الظلم حسن يغير معنى الظلم حتى يجعله يساوي معنى العدل ثم يقول بأنه حسن (1).

قالوا: فما الثانية؟

قال: الشمول.. فالأحكام العقل شاملة لا تخصص، فإذا كانت الرذيلة قبيحة، فليس هناك فرق بين أن تكون صادرة من كبير أو صغير، وفي أي عصر وأي زمان.. وإذا كانت الحادثة بحاجة إلى علة محدثة وسبب موجد، فلا فرق بين أن تكون الحادثة رمي كرة القدم أم وجود كرة الأرض.. واذا كانت الصدفة محالة في وجود ساعة يد، فإنها محالة أيضا في صنع مخ الإنسان.. وإذا كانت معادلة 5×5=25 صحيحة، فلا فرق ان تكون في أي وقت وأي مكان.

قالوا: فما الثالثة؟

قال: العموم.. فأحكام العقل تتفق عليها عقول البشر، فالعقل هو العقل في أي إنسان كان.. وما هو فضيلة أو رذيلة هنا فهي في كل مكان ولدى كل إنسان فضيلة أو رذيلة.. اذهبوا إلى من شئتم فسوف لا تجدون الفضيلة في الخيانة والنفاق وبيع الأوطان وإيثار النفس على الآخرين.. وسوف لا تجدون معاني التضحية والفداء والشجاعة والإباء من معاني الرذيلة.. ومن هنا فإن الأمم تتبارى بهذه القيم، وتجعل منها مقياسا يحتجون به وينتهون إليه، وترتكز أجهزة إعلامهم على الادعاء بأنهم يمثلون الفضيلة والعدل، وأن أعداءهم يمثلون الزيف والباطل.. وهكذا أصبح العقل حجة بين الأفراد ومقياسا لكل أحكامهم، فلا يمكن أن نتصور رجلا عاقلا في الأرض يحكم عقله بإمكان الصدفة أو صحة التناقض والتشكيك في وجود الذات وغيرها.

قالوا: فما الرابعة؟

__________

(1) انظر رسالة (أسرار الأقدار) من (رسائل السلام) عند الكلام عن الحسن والقبح.

سلام للعالمين (252)

قال: الثبات.. فأحكام العقل لا تتطور حسب تطور الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفسيولوجية.. لأنها تكشف عن الحقائق الخارجية تماما كما لا تتغير المرآة وهي تعكس صور الحياة الناشطة الحركات..

وهنا تختلف الرؤية الإسلامية في المعرفة عن النظريات الذاتية والديالكتيكية.. ذلك أن تلك النظريات حسبت العقل وليدا لنفس المادة المتطورة، فادعت انها تتطور أيضا، ولم تستطع تلك الفلسفات اكتشاف حقيقة العقل التي لا تعدو أن تكون طاقة من نور زودت بها النفس للكشف عن الحقائق بصورة مباشرة.. ولذلك فإن حكمه مشهود متيقن ثابت وان أي حكم يتغير أو يتصور فيه التغيير لهو ليس بحكم العقل.. ومن هنا لا يمكن القول: بأن 2×2=4 انما هو صحيح اليوم ويمكن ان يتطور غدا حسب تطور الاوضاع السياسية فيصبح 2×2=5 إذ هذا القول مضحك بذاته لدى كل نفس عاقلة.

وأيضا كان الزعم بأن القول (أن الحادث بحاجة إلى سبب) صحيح اليوم، أما غدا فحيث يحكم البلاد نظم جديدة في الاقتصاد، فإن الحادث يمكن ان يحدث بلا سبب، كان هذا الزعم قولا مرفوضا بذاته، وهكذا.

قال تلميذ من التلاميذ: نراك تعاتب كانت وديكارت.. مع أن المنطق الذي تدرسنا إياه ليس إلا وليد البيئة التي ولد فيها هذان الرجلان.. أليس هو من تأليف أرسطو اليوناني؟

قال ابن حزم: وما الحرج في ذلك.. إن المنطق من المعارف الإنسانية العامة، كعلم الحساب والهندسة، فإن كنا نجيز لأنفسنا أن نستفيد من علم الحساب فى الفرائض فلماذا لا نستفيد من المنطق؟

قال آخر: ولكن علماء المسلمين نظروا في تلك الكتب التي تشرحها لنا، فرأوا فيها أموارا عظاما؟

قال ابن حزم: لقد وجدت أن مواقف المطالعين لتلك الكتب أربع طوائف.. وقد اخترت

سلام للعالمين (253)

لنفسي ولكم أشرفها وأعلاها.

قالوا: فمن الطائفة الأولى؟

قال: هم قوم حكموا على تلك الكتب بانها محتوية على الكفر وناصرة للإلحاد، دون ان يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة.. وهؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ((الاسراء:36).. وهم المقصودون بقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ((آل عمران:66).. وهم المقصودون بقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: من الآية 111)

ونحن ـ في مجلسنا هذا ـ نطلب من هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبيت، القابلة دون علم، القاطعة دون برهان..

قالوا: فمن الطائفة الثانية؟

قال: هم قوم يعدون هذه الكتب هذيانا من المنطق، وهذرا من القول.. وهؤلاء ـ كأكثر الناس ـ سراع إلى معاداة ما جهلوه، وذم ما لم يعلموه.. ولا يصدق عليهم إلا قوله (: (الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة) (1)

قالوا: فمن الطائفة الثالثة؟

قال: هم قوم قرأوا هذه الكتب بعقول مدخولة، وأهواء مشوبة، وبصائر غير سليمة.. وقد أشربت قلوبهم لذلك حب الاستخفاف، واستلانوا مركب العجز، واستوبأوا نقل الشرع، وقبلوا قول الجهال، فوسموا أنفسهم بفهمها، وهم أبعد الناس عنها وعن درايتها..

ونحن ـ في مجلسنا هذا ـ نصحح ما أخطأوا فيه.. عسى أن يكون ذلك سببا في هداية من سبقت له الهداية في علم الله عز وجل، فيفوز بالحظ الأعلى، ويحوز القسم الأسنى.

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

سلام للعالمين (254)

قالوا: فمن الطائفة الرابعة؟

قال: هم قوم نظروا بأذهان صافية، وأفكار نقية من الميل، وعقول سليمة، فاستناروا بها، ووقفوا على أغراضها فاهتدوا بمنارها، وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، وشاهدوا انقسام المخلوقات وتأثير الخالق فيها وتدبيره إياها، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالفريق الصالح والخدين الناصح والصديق المخلص الذي لا يسلم عند شدة، ولا يفتقده صاحبه في ضيق إلا وجده معه.. فلم يسلكوا شعبا من شعاب العلوم إلا وجدوا منفعة الكتب أمامهم ومعهم، ولا طلعوا ثنية من ثنايا المعارف إلا أحسوا بفائدتها غير مفارقة لهم، بل ألفوها لهم كل مستغلق، وتليح لهم كل غامض في جميع العلوم.

وهؤلاء هم أنتم.. وقد قصدنا في مجلسنا هذا ـ أنا وأخي الغزالي ـ أن نبسط لكم ما تعقد.. ونكشف لكم ما غمض..

وقد كان منهجي في ذلك التبسيط والتيسير.. وقد رأيت تعقيد الترجمة في تلك الكتب، لأنها وردت بألفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة.. فلذلك رأيت أن أورد هذه المعاني بألفاظ سهلة بسيطة يستوي في فهمها العامي والخاصي، والعالم والجاهل.

وهذا بناء على مذهبي في أن العالم هو الذي يسهل العلم جهده، ويقربه بقدر طاقته، ويخففه ما أمكن.. بل لو أمكن أن يهتف به على قوارع طرق المارة، ويدعو إليه في شوارع السابلة، وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه، ويجزي الأجور لمقتنيه، ويعظم الأجعال عليه للباحثين عنه، ويسني مراتب أهله، صابرا في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظا جزيلا، وعملا جيدا، وسعيا مشكورا كريما وإحياء للعلم.

بالإضافة إلى هذا.. فقد رأيت أن هذه الكتب كالدواء القوي، إن تناوله ذو الصحة والمستحكمة، والطبيعة السالمة، والتركيب الوثيق، والمزاج الجيد، انتفع به وصفى بنيته وأذهب

سلام للعالمين (255)

اخلاطه وقوى حواسه، وعدل كيفياته؛ وإن تناوله العليل المضطرب المزاج، الواهي التركيب، أتى عليه، وزاده بلاء، وربما أهلكه وقتله.. ولذلك فإن منهجي في تدريسها هو ربطها بالدين بمصادره المقدسة.. حتى لا يضل من شاءت له نفسه الضلالة، وهو يرى من أمثلتها ما يتناسب مع هواه.

قالوا: هذا منهجك.. ونحن نقدره.. فما منهج أخيك (الغزالي)؟

قال ابن حزم: ها هو أمامكم.. وسيحدثكم.. فخير من تحدث عن الإنسان لسانه.

-\--\-

قال ذلك، ثم التفت إلى الغزالي، وقال: لقد جاء دورك.. فهلم حدثهم عن منهجك.

قال الغزالي: قبل أن أذكر لكم منهجي أحب أن أبين لكم سر اهتمامي بالمنطق.. والذي ألفت فيه كما تعلمون مجموعة كتب.. منها (محك النظر).. ومنها (معيار العلم) وغيرها..

لقد بلغ اهتمامي بهذا العلم أن ذكرت بأن الحقائق لا يمكن أن تعرف في أي علم من العلوم على وجهها إلا إذا كان المنطق ميزانها.. وقد قلت في مقدمة كتابي (المستصفي) التي شرحت فيها علم المنطق إجمالاً.. وجعلته مقدمة لأصول الفقه: (نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي، وشرط البرهان الحقيقي، وأقسامها على منهاج أو جزء مما ذكرناه في كتاب محك النظر، وكتاب معيار العلم، وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلاً) (1)

قال بعض التلاميذ: نحن نعرف كل ذلك.. وقد رأينا من يرميك بسببه بالعظائم.. فهذا الإمام العلامة المحدث أبو عمرو بن الصلاح الشهرزوري يقول - فيما جمعهُ من طبقات أصحاب الشافعي وقرَّرهُ الشيخ أبو زكريا النووي – في فصل عقده بعنوان: (فصلٌ في بيان أشياء مهمةٍ

__________

(1) مقدمة المستصفي:1/ 10.

سلام للعالمين (256)

أُنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته، ولم يرتضيها أهل مذهبهِ من الشذوذ في مصنفاته).. ومما ذكره فيه قوله عنك: (فكيف غَفَلَ الغزالي عن شيخه إمام الحرمين ومِن قبلهِ مِن كلِّ إمام هو لهُ مُقدِّم، ولمحله في تحقيق الحقائقِ رافعٌ ومُعظِّم، ثم لم يرفع أحدٌ منهم بالمنطقِ رأساً، ولا بنى عليه أُسَّاً، ولقد أتى بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعةً عظُمَ شؤمها على المتفقهة، حتى كثُرَ فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان)

وقال العلامة أبو بكر بن العربي المالكي: (شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر).. وقال في موضع آخر: (يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يُحرفون كلام الله ورسوله (عن مواضعه كما فعلت طائفة القرامطة والباطنية)

قاطعه الغزالي، وقال، وهو يبتسم: بل قال في صديقي وحبيبي ابن رشد: (إنه ـ أي أنا ـ لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنه كما قيل:

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن... وإن لقيت معديا فعدناني

قال التلميذ: أجل.. وقد قال غيره مثل ما قال، أو قريبا مما قال، أو أعظم مما قال.

قال الغزالي: لا ينبغي للعالم أن يخاف من آراء الرجال فيه أو نقدهم له.. لقد كنت في موقف لو وقفوا فيه لفعلوا ما فعلت.

قال التلميذ: كيف ذلك؟

لقد انتشر في ذلك الحين ما يسمى بالفلسفة، أو علوم الأوائل.. وكان الناس حولها مختلفين إلى ثلاث طوائف.

قالوا: فما الطائفة الأولى؟

قال: هم المحافظون المتشددون الذين راحوا يقابلون تلك العلوم بالرفض الكلي.. بل بتأليب

سلام للعالمين (257)

الرأي العام عليها، وتكفير أو تبديع كل من يبحث أو يخوض فيها.. ولم تكن علاقة هؤلاء بتلك الثقافات إلا علاقة الحكم المسبق في معظم الأحيان، ولهذا لم يكن نقدهم لها إلا نقدا ظاهريا لا يعتمد البرهان العلمي، ولا الحجة المنطقية، لأن المنطق نفسه من الفلسفة.

وأنا شخصيا أعتبر هذا التيار سببا لانتشار الأفكار المضللة.. فهم كالصديق الجاهل يضر صاحبه أكثر مما ينفعه.

انظروا ـ مثلا ـ إن هؤلاء أنكروا كون خسوف القمر عبارة عن انمحاق ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس.. بل أنكروا الهندسة والحساب والمنطق والفلك وغيرها.. وكان دافعهم إلى ذلك جميعا هو كون مصدر ذلك هو كونها من الثقافات الأجنبية، مع أنها لا تصادم النصوص الشرعية.

لقد قلت في بعض كتبي أقررهذا: (وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع)، مع أن الشرع لم يتعرض لهذه العلوم نفيا ولا إثباتا، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الشرعية.

وقد انجر عن هذا المنهج نوع من الشعور بالتصادم بين العقل والدين، فإن تلك القضايا من الوضوح والدقة، وبراهينها من الوضوح والقوة بحيث لا يمكن رفضها؛ ورفض العلماء لها بحجة منافاتها للدين كذب عليه، وخدمة للملحدين والمشككين، وهو ما حصل في أوروبا عندما أنكرت الكنيسة الكثير من الكشوف العلمية التي تتنافى مع موروثاتها اليونانية وغيرها، مما أدى إلى النفور من الكنيسة، والتمكين للإلحاد.

قالوا: هذه الطائفة الأولى.. ولا يزال ـ للأسف ـ لها وجود واقعي خطير.. فما الطائفة الثانية؟

قال: هم طائفة عكس الأولى.. فهم يرون القبول الكلي لما ورد في تلك الفلسفات والثقافات.. بل يرون طرح الدين بسببها والانخداع بمظاهرها.. لقد قلت واصفا هذه الطائفة في مقدمة كتابي (تهافت الفلاسفة): (أما بعد، فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن

سلام للعالمين (258)

الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء قد رفضوا وظائف الإسلام، واستحقروا شعائر الدين، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا)

وقد رأيت أن ذوبان هذا التيار في تلك الثقافات لا يرجع إلى تحكيم الموازين العقلية بقدر رجوعه إلى أوهام وخيالات وأسباب النفسية.. منها إطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم ودقة علومهم، وأنهم مع كل ذلك الذكاء منكرون للشرع متنصلون من تكاليفه.

ومنها مصادرتهم العامة على مطالبهم المعرفية استدراجا لهم.. فقد كانوا إذا ما أوردوا عليهم إشكالا تذرعوا بأن هذه العلوم غامضة، وأنها أعصى العلوم على الأفهام الذكية، ولا يمكن التوصل إلى فهمها إلا بتقديم الرياضيات والمنطق، وهذا كله استدراج نفسي للوصول بهم إلى حالة الانبهار التام المؤدي إلى ا لخضوع الكلي.

ومنها الخلط بين العلوم الطبيعية والهندسية والمنطقية مع الآراء الميتافيزيقية، حتى ظن من ينظر في منطقهم فيراه مستحسنا أن سائر علومهم مؤيدة بتلك البراهين.

ومنها ما مزجه (إخوان الصفا) بتصانيفهم المستمدة من الفلسفة اليونانية من الحكم النبوية والكلمات الصوفية استدراجا للعامة إلى مقاصدهم، مع العلم أن انتشار آراء تلك الجمعية في ذلك الحين كان واسعا شاملا كل فئات المجتمع، كما تشير إليه رسائلهم.

وقد رأيت ـ كما ترون معي ـ أن جميع هذه الأسباب لا ترجع إلى براهين عقلية، أو حجج منطقية، وإنما هو حالة من الانبهار الساذج، والتأثر العاطفي الذي لا يحكمه العقل، ولا يستند إلى الحجة.

قالوا: فما الطائفة الثالثة؟

قال: هي الطائفة التي اخترت أن أنتسب إليها.

قالوا: وما تقول هذه الطائفة؟

سلام للعالمين (259)

قال: هذه الطائفة تريد أن تكون وسطا بين الطائفتين.. فتسد المفسدة، وتجلب المصلحة.

قالوا: أي مفسدة؟

قال: مفسدة الطائفة الأولى التي تحرم المسلمين علوما لم يحرمها الشرع.. ومفسدة الطائفة الثانية التي تريد أن تستغل العقل لتضرب الدين.. مع أن الدين عين العقل.. بل لا عقل بلا دين.. ولا دين بلا عقل.

قالوا: وأي مصلحة؟

قال: لقد رأيت في تلك العلوم مصالح كثيرة يمكننا أن نستفيد منها فيها.. فمن علومهم الرياضيات.. وهي تتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، ولا يتعلق شيء منها بالأمور الدينية، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجا حدتها بعد فهمها.. بل إنها من الفروض الكفائية ما دام يحتاج إليها.

ومنها العلوم الطبيعية.. وهي تشمل الطب والكيمياء والفلك وغيرها.. وهي لا تتعرض للدين.. ولذلك لا ينبغي مخالفتهم في شيء منها إلا بما هدى إليه الدليل العلمي.

ومنها العلوم السياسية.. وهي تبحث عن الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية ولا علاقة لذلك بالدين.. بل يمكن الاستفادة من أبحاثهم فيها باعتبارها مستمدة ـ كما أرى ـ من كتب الله المنزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء.

ومنها العلوم الأخلاقية.. وكلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وأجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها.. وأنا لا أرى ردها باعتبارها لا تناقض الشرع، بل إن كلامهم فيها مأخوذ من كلام الصوفية والمتألهين الذين لم يخلو من وجودهم أي عصر من العصور، ولذلك فإن الاستفادة منهم تلق لمزيد من التجارب والفوائد التي لم تمنعنا الشريعة من الأخذ بها.

ومنها العلوم الإلهية.. وأكثر أغاليطهم فيها.. وأنتم تعلمون أني ناظرتهم في هذه العلوم

سلام للعالمين (260)

معتمدا المنطق الذي وضعوه هم بأنفسهم.. وفي ذلك تمام الحجة عليهم ببيان تناقضهم.. لقد قلت في مقدمة الكتاب الذي وضعته لهذ الغرض: (ونناظرهم في هذا الكتاب بلغتهم، أعني بعباراتهم في المنطق، ونوضح أن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق، وما شرطوه في صورته في كتاب القياس.. لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية)

ومنها العلوم المنطقية.. والتي وجه إليك اللوم لي بسببها.. وهي تتعلق بالنظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، ولا يتعلق شيء منها بالدين إلا ما حشيت به من أمثلة تتناقض وتتعارض مع الأصول الدينية، ولأجل ذلك ألفت كتبي المنطقية، كمعيار العلم وغيره، وحشوتها بدلا من ذلك بالأمثلة الفقهية.

قال بعض التلاميذ: ولكن لم ذلك؟.. ألم يكن عندنا ما يكفي؟

ابتسم الغزالي، وقال: ولكن ما المانع من قبولها؟

قال: لأن الذي كتبها وقالها ليس مسلما.

ابتسم الغزالي، وقال: ألم تعلم ـ يا ولدي ـ أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها..

قال التلميذ: ولكنهم فلاسفة.. وليسوا حكماء؟

قال الغزالي: إن مثل من ينكر على هؤلاء بسبب كونهم فلاسفة كمن يسمع من النصراني قوله: (لا إله إلا الله عيسى رسول الله)، فينكره، ويقول: هذا كلام نصراني، ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكار نبوة محمد (.

قال بعض التلاميذ: وعينا هذا.. وبورك فيك.. فحدثنا عن المنهج الذي تريد أن نتعلم من خلاله هذا العلم.

قال: لقد رأيت ـ كما وضح لكم زميلي ابن حزم ـ أن الأحكام العقلية إذا تجردت من سلطة حكم الحس والوهم لا تكاد تخطئ، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها.. قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ((الروم: من الآية 30).. انظروا كيف سمى الله العقل دينا..

سلام للعالمين (261)

ولكون أحكام العقل المجرد دينا، فإن التناقض بين أحكام العقل وأحكام الشرع مستحيلة.. بل إن أساس الشرع العقل.. فالعقل كالأس والشرع كالبناء.. ولن يغني أ س ما لم يكن بناء.. ولن يثبت بناء ما لم يكن أ س.

والشرع ـ بسبب مراعاته الضرورية للأحكام العقلية ـ عقل.. فالشرع عقل من الخارج، والعقل شرع من الداخل.. وهما متعاضدان بل متحدان.

و بسبب هذا الاتحاد بين أحكام العقل وأحكام الشرع، فإن تمجيد العقل تمجيد للشرع، وإعماله أعمال للشرع، ونبذه نبذ للشرع.. لأن كليهما من وضع الله.. أما ذم من ذمه فسببه إلى أن الناس نقلوا اسم العقل إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات، فاستخدموا العقل في غير ما خلق له، فلذلك كان الذم منصبا على الاستخدام السيئ لا على المحل فإن (نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى، ويعرف صدق رسله، لا يتصور ذمه؟،وقد أثنى الله تعالى عليه؛ وإن ذم فما الذي بعده يحمد؟)

قال بعض التلاميذ: وعينا هذا.. فما المنهج الذي تريد أن تعلمنا إياه؟

قال: لقد وفقني الله بعد أن كتبت في المنطق ما تعرفون.. فكتبت كتابا حاولت فيه أن أكتب المنطق بأسلوب يفهمه الجميع.. ولن يعترض عليه أحد من الناس.. إنه كتابي (القسطاس المستقيم).. وقد جعلته ـ بتوفيق الله ـ الميزان الذي ينفي الخلاف عن الخلق.

قال بعض التلاميذ: لقد رأيت الكتاب.. ولكني رأيت أن تلك الموازين التي وضعتها فيه مطابقة للموازين المنطقية اليونانية.

ابتسم الغزالي، وقال: لا يمكن لأحد في هذا الباب أن يأتي بالجديد المجرد.. إن تلك الموازين تتفق فيها العقول جميعا، ولو خالفتها لكنت مجنونا.

قال التلميذ: فما فعلت إذن؟

قال: تقريب الصياغة وربطها بمصادرنا المقدسة.. لقد فعلت ذلك لصنفين من الناس..

سلام للعالمين (262)

أما أولهما.. فالذين استهوتهم الفلسفة بما فيها من علوم عقلية، فخلطوا بين حقها وباطلها، وظنوا التناقض بين العلوم النقلية والأحكام العقلية.

وأما ثانيهما، فالعلماء الحرفيين الذين رفضوا المنطق باعتباره فلسفة وعلما غريبين عن الدين.

لقد قلت في مقدمة كتابي هذا: (لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه أهل التعليم لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه، ولا يخالف فيه أهل المنطق، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق غير مخالف له، ولا يخالف فيه المتكلم، لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات، وبه يعرف الحق في الكلاميات)

قلت: لقد شوقتنا إلى هذه الموازين.. فما هي؟

قال: هي ثلاثة موازين: ميزان التعادل.. وميزان التلازم.. وميزان التعاند.

قلت: فما ميزان التعادل؟

قال: له ثلاثة أشكال (1)..

أما أولهما، فالميزان الأكبر.. وومثاله قوله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام -: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) (البقرة: من الآية 258)، وصياغة هذا الميزان هي: كل من يقدر على إطلاع الشمس فهو الإله، فهذا أصل؛ وإلهي هو القادر على الإطلاع، وهذا أصل آخر؛ فلزم من مجموعهما بالضرورة أن إلهي هو الإله، ويمكن صياغته رمزيا هكذا: أ هي ب، وب هي ج، إذن: أ هي ج.

وأما الثاني، فالميزان الأوسط.. ومثاله قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (الأنعام: من الآية 76)، وصياغة هذا الميزان هي: أن القمر آفل، والإله ليس بآفل؛ فالقمر ليس بإله.. ويمكن صياغته رمزيا هكذا: أ هي ب، وج ليست ب، إذن: أ ليست ج.

قلت: فما الفرق بين هذا الميزان والميزان الأكبر؟

__________

(1) هذه الموازين الثلاثة المشكلة لميزان التعادل تشبه ما يعبر عنه في المنطق بأشكال قياس أرسطو الاقتراني الثلاثة.

سلام للعالمين (263)

قال: الفرق بينهما واضح.. فالصفة في الميزان الأكبر عامة تشمل جزئيات الموصوف كلها، بخلاف ما هي عليه في الميزان الأوسط حيث تنحصر في شيئين متباينين كل التباين بحيث ينفي عن أحدهما ما يثبت للآخر.

قلت: فما الشكل الثالث من أشكل ميزان التعادل؟

قال: الميزان الأصغر.. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ت) (الأنعام: من الآية 91)، ووجه الوزن بهذا الميزان هو أن موسى - عليه السلام - بشر، وقد أنزل عليه الكتاب، إذن بعض البشر أنزل عليهم الكتاب.. وصياغته الرمزية هي: ب هي أ، وب هي ج، إذن بعض أهي ج.

والفرق بين هذا الميزان وما قبله أته يستخدم في التخصيص والتمييز بين الصفات الذاتية التي تشترك فيها عموم جزئيات الجنس والصفات العرضية التي لا يشترك فيها إلا قسم من هذه الجزئيات.

قلت: فما الميزان الثاني؟

قال: ميزان التلازم (1).. وهو ـ كما عرفه الغزالي ـ أن كل ما هو لازم للشيء تابع له في كل حال، فنفي اللازم يوجب بالضرورة نفي الملزوم، ووجود الملزوم يوجب بالضرورة وجود اللازم، أما نفي الملزوم ووجود اللازم فلا نتيجة لهما.

وقد ضرب له مثالا بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الانبياء: من الآية 22)، وصياغة هذا الميزان هي أنه لو كان في السموات والأرض إلهان لفسدتا، فهذا أصل، ومعلوم أنهما لم تفسدا، وهذا أصل آخر؛ فيلزم منهما ضرورة نفي الإلهين، وإثبات الإله الواحد.

قلت: فما الميزان الثالث؟

__________

(1) وهذا الميزان هو المسمى في المنطق بالقياس الشرطي المتصل.

سلام للعالمين (264)

قال: ميزان التعاند.. وهو ـ كما يعرفه الغزالي ـ بأن (كل ما انحصر في قسمين، فيلزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر، ومن نفي أحدهما ثبوت الآخر بشرط أن تكون القسمة منحصرة، لا منتشرة)

وقد ضرب له مثالا من القرآن الكريم بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ((سبأ:24)، ووجه الاستدلال به هو: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ومعلوم أننا لسنا في ضلال، والنتيجة هي: أنتم ضالون)

قال بعض التلاميذ: إن ما ذكرته من الموازين العقلية هي نفس المقاييس المنطقية..

قال: لقد ذكرت لكم ذلك.. لقد ذكرت في كتابي (القسطاس المستقيم): (أما هذه الأسامي فأنا ابتدعتها، وما عندي أني سبقت إلى استخراجها من القرآن؛ وأما أصل الموازين فقد سبقت إلى استخراجها، ولها عند مستخرجيها من المتأخرين أسام سوى ما ذكرتها، وعند بعض الأمم الخالية السابقة على بعثة محمد وعيسى ـ صلوات الله عليهما ـ أسام أخر كانوا قد تعلموها من صحف إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام ـ)

قال التلميذ: فهل سندرس في هذا الفرع هذه الموازين؟

قال: في هذا الفرع ستتدربون على هذه الموازين وغيرها.. فلا يمكن للمحاور أن يحاور، وعقله لا يعرف كيف يزن، وكيف يتثبت مما يزن.

التجارب الميدانية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. كان اسمه (قسم التجارب الميدانية).. عندما رأيت هذا القسم، قلت للمدرسي: لاشك أن هذا القسم من تأسيس فرنسيس بيكون الذي عاش ما بين (1561 - 1626 م).. فهو الذي يعزى إليه فضل نشوء طريقة البحث العلمي الحديث

سلام للعالمين (265)

المعتمدة على المنهج التجريبي (1).

لست أدري كيف جذبني بعضهم جذبا شديدا، وقال: كيف تقول هذا.. إن ما تقوله يخالف جميع الحقائق، وجميع الأدلة.

قلت: من أنت؟

قال: أنا رجال كثيرون كلهم يشهدون بأن المنهج التجريبي أعمق وأخطر من أن يختص بمن ذكرت.. فالتجربة في الأمور الخاضعة للتجربة فطرة أصلية في العقل الإنساني، والإنسان يلجأ إليها بشكل تلقائي إذا أمكنه ذلك ليتأكد من صحة أحكامه، أو ليختبر بعض القضايا، وربما يفعل ذلك دون الاعتماد على قواعد معينة لذلك.. لقد قال كلود برنارد يؤكد هذا: (إنني أعتقد أن كبار المجربين قد ظهروا قبل أن توجد القواعد العامة لفن التجريب، ومن ثم يبدو لي أنه لا يحق لأحد أن يقول في حديثه عن بيكون إنه اخترع المنهج التجريبي، ذلك المنهج الذي استخدمه جاليلو وتورشيلي على نحو جدير بالإعجاب عجز عنه بيكون) (2)

وقالت زيغريد هونكه: (إن الإغريق تقيدوا دائماً بسيطرة الآراء النظرية، ولم يبدأ البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجربة إلا عند العرب) (3).. وقالت: (لم يكن مستوى روجر بيكون العلمي في الكيمياء أرفع من معاصريه ألا أنه رأى في التجربة التي أخذها عن العرب السبيل الحقيقي للوصول إلى نتائج حاسمة في العلوم الطبيعية وخاصة في الكيمياء، وهكذا كان روجر علماً متوهجاً سطع في سماء القرون الوسطى المظلمة وفي حناياه روح الشاعر الأندلسي ابن الخطيب الذي قال: مبدئياً يجب أن يكون كل برهان متوارث قابلاً للتعديل إذا ما اتضح لحواسنا عكسه)

__________

(1) استفدنا من بعض المادة العلمية هنا من مقال بعنوان (شبهة سبق الغرب للمسلمين في وضع مناهج البحث العلمي)، للأستاذ عبد الرحيم الشريف، من موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)

(2) المنطق الحديث ومناهج البحث د. محمود قاسم ص 38.

(3) (شمس الله تسطع على الغرب) ص 401 – ترجمة فاروق بيضون – دار الجيل – بيروت –

سلام للعالمين (266)

وقد اضطر (فون كريمر) للاعتراف بدور المسلمين في حقل المعرفة التجريبية (1)، فقال: (إن أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جلياً في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم، فإنهم كانوا يُبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يُلاحظون ويمحصون، وحين يَجمعون ويُرتبون ما تعلموه من التجربة، أو أخذوه من الرواية والتقليد، ولذلك فإن أسلوبهم في البحث أكبر ما يكون تأثيراً عندما يكون الأمر في نطاق الرواية والوصف) (2)

ويؤكد (الدكتور فرانتز روزنتال) أن المسلمين كانوا ينظرون إلى التجربة والملاحظة على أنها ذات قيمة فريدة في البحث العلمي، وأننا نجد أمثلة هائلة لذلك في الحضارة الإسلامية في حقول المعرفة المتنوعة، وينقل هذه العبارة عن ابن أبي أصيبعة عن الرازي (متى كان اقتصار الطبيب على التجارب دون القياس وقراءة الكتب خُذل) مما يدل على أن التجربة كانت عند الأطباء منتشرة بشكل كبير، وأنه كان يحمد للطبيب أن يضم إلى تجاربه العلمية القراءة النظرية والقياس العقلي.

قال ذلك، ثم انصرف، ليتركني لصاحبي المدرسي الذي سار بي في فروع كثيرة في ذلك القسم، شد انتباهي منها رجل يقال له (ابن الهيثم) (3)

كان هذا الرجل محل إعجاب الكثيرين، منهم (زيغريد هونكه)، التي قالت، وهي تتحدث عنه: (لقد علّم إقليدس وبطليموس بأن العين المجردة ترسل أشعةً إلى الأشياء التي تريد رؤيتها فجاء ابن الهيثم وأعلن أن هذا الادعاء خاطئ لأنه ليس هناك أشعةً تنطلق من العين ليتحقق النظر

__________

(1) وإن كان هذا الإنصاف منه مقدمة لما يريد أن يصل إليه من إقناعٍ للقارئ بتفوق الجنس الآراي واليوناني على غيره.

(2) مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي فرانتز روزنتال ص 15.

(3) أشير به إلى محمد بن الحسن بن الهيثم، وهو مهندس من أهل البصرة ولد عام 354 هـ سكن في مصر واستوطن فيها على باب الجامع الأزهر فانقطع للتصنيف والإفادة إلى أن توفي عام 430 هـ له تصانيف في الهندسة وترجمت بعض مصنفاته إلى الألمانية مثل كيفية الإظلال والمرايا المحرقة.. انظر الأعلام 3/ 83، 84.

سلام للعالمين (267)

بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة على العين فتبصرها هذه بواسطة عدستها)

وقد سمعت من ابن الهيثم قوله ـ وهو يجمع في إيجاز بين الاستقراء والقياس، ويقدم الاستقراء على القياس، ويحدد فيه الشرط الأساسي في البحوث العلمية الصحيحة وهو أن يكون الغرض طلب الحقيقة ـ: ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المُبْصَرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدرج والتدريب مع انتقاء المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل، لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نجيزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء.

قال لي صاحبي المدرسي، وهو يحدثني عنه، وقد رآني شديد الإعجاب بمنهجه (1): ليس ذلك فقط.. بل إن ابن الهيثم قد عمق تفكيره إلى ما هو أبعد غوراً مما يظن أول وهلة فأدرك ما قال به من بعده (ماك) و(كارل بيرسون) وغيرهما من فلاسفة العلم المحدثين في القرن العشرين.

ومن مميزاته أنه كان يشرح الجهاز، ويبين وظيفة أجزائه المختلفة، ويستعمل أجهزة مبتكرة لشرح الانعكاس والانعطاف، وتدل تجاربه وحساباته أنه استطاع أن يجمع بين مقدرته الرياضية، وكفايته العلمية الممتازة، يدل على ذلك صنعه للأجهزة، واستعمالها في أغراضٍ مختلفة.

كما أنه اعتني بالقياس كما في كتابه (المناظر).. فهو ينتقل من التجربة إلى القياس، ويستنبط من ذلك قضايا مهمة، ويشرح ظواهر خطيرة في الضوء.

-\--\-

رأيت في تلك القاعة الكثير من الشخصيات المسلمة الكبيرة التي كان لها الفضل العظيم على الحضارة الإنسانية، وقد رأيتها جميعا تستعمل هذا النوع من المدارك من غير أن تشعر بأي تناقض

__________

(1) انظر: مناهج البحث في العلوم الإسلامية مصطفى حلمي ص 76.

سلام للعالمين (268)

بينه وبين معرفتها بالله وإيمانها به، وقد دعاني الفضول في بعض المجالس، فسألت بعض أولئك العلماء عن سر عدم استعمالهم هذا المنهج في التعرف على الله (1)، فابتسم، وقال: هل يمكن لأذنك أن تدرك المبصرات، أو يمكن لذوقك أن يدرك المشمومات؟

قلت: كلا.. فلكل منها ميدانه الذي لا يمكنه أن يتجاوزه.

قال: فكيف تريد من عيوننا القاصرة، وقدراتنا المحدودة، وتجاربنا الحقيرة أن تتطلع لمعرفة الذي ليس كمثله شيء.

إن التجربة تقتضي التكرار.. وليس ربك إلا واحد.

قال ذلك، ثم انصرف عني بهمة عجيبة إلى تجاربه.

الخواطر النفسانية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. فوجدت رجلا منشغلا عن كل شيء، فقصدته، وقلت له: ما الهم الذي جعلك تنعزل عن الكل؟.. اذكره لي لعل في طاقتي أن أملأ قلبك بأنواع السلوى.

قال: أنا لم أجلس هنا مهتما ولا حزينا، بل جلست متعلما.

قلت: على من؟.. لا أرى أمامك أي أستاذ.

قال: على نفسي.. إن من لم يتتلمذ على نفسه لا يصلح له أن يتتلمذ على أي أستاذ.

قلت: نفسك إن تتلمذت عليها ساقتك إلى أنواع الشرور.

قال: تلك النفس الأمارة.. أما النفس المطمئنة، فإنها لا تسوقك إلا إلى الخير الذي لا خير بعده.

قلت: لن تطيق النفس ذلك حتى يكون لها من المدارك ما تستطيع أن تصل به إلى الحقائق.

__________

(1) انظر الرد المفصل على هذه الشبهة في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

سلام للعالمين (269)

قال: صدقت.. وقد وهب الله النفس من المدارك ما يمكنها أن تصل به إلى الحقائق.

قلت: لم أسمع من يقول بهذا.

قال: نفسك تقوله.

قلت: نفسي!.. كيف؟

قال: ألا ترى في نفسك أشياء كثيرة توقن بها مع أن هناك الكثير ممن يخالفك فيها؟

قلت: ذلك صحيح.

قال: فلمن تخضع؟.. ألم تقوله نفسك، أم لما يقوله غيرك؟

قلت: بل أخضع لنفسي.. ولكني أعتبر نفسي أحيانا مخطئة في ذلك.

قال: خطأ نفسك في شيء من الأشياء لا يدل على خطئها مطلقا.

قلت: ذلك صحيح.

قال: فكيف تنفي أن تكون النفس مدركا من مدارك العقل؟

قلت: لأنها تخطئ.

قال: وحواسك كذلك تخطئ.. ومع ذلك تعتبرها مدركا صحيحا.

قلت: لقد ألزمتني الحجة.. لكن كيف أتقي الخطأ؟

قال: في هذا القسم من (أكاديمية العقل المسلم) ندرس هذا.. فنضع الضوابط التي تحمي النفس من الأخطاء التي يمكن أن تسربها للعقول.

قلت: فهلا ذكرت لي بعضها.

قال: أهمها هو حماية النفس من الأهواء.. لأن هذا هو الذي يدع الإنسان يخضع للظروف ويتطور حسبها.. فمتى ما أحب الإنسان شيئا تأثر به بقدر حبه له، ووجب عليه أن يعطي من ذاته تنازلاً له، فطبيعة الحب تختلف عن المعرفة، لأنهما يمثلان جانبين مختلفين في النفس.

صحيح أن الإنسان لا يقدر على تمييز ذلك في كل وقت، وصحيح أن ذلك بحاجة إلى أنواع

سلام للعالمين (270)

من التجرد الموضوعي والنقد الذاتي، كما أنه بحاجة إلى التفكر الممنهج. إلا أنه لدى ممارسة التمييز فترة طويلة يسهل ذلك على النفس حتى يبدو العلم والحب بعيدين عن أحدهما، مميزين عن بعضهما..

قلت: فهلا ضربت لي مثالا يقرب لي هذا؟

قال: سأضرب لك أمثلة عن افتراق المعرفة عن الحب..

فمن أمثلة ذلك أن المعرفة تفترق عن الحب في أننا نحب كثيرا من الأشياء ونعلم أنها غير موجودة فعلا.. إننا نحب الخلود حتى أنه قد يطغى علينا هذا الحب فينسينا العلم بالموت، ونعمل كما أننا نعلم بالخلود.. وأننا نحب السيطرة ونعمل في كثير من الحالات مدفوعين بهذا الحب، بل زاعمين أننا نملك السيطرة فعلا، ولكن العلم الحقيقي يكشف لنا خلاف هذا الواقع.

وتفترق المعرفة عن الحب أيضا حينما نحب أن تكون كل معارفنا صحيحة وكل عقائدنا موافقة للحق.. بيد أنا نواجه في كثير من الأوقات حقائق تكرهنا على إعاة النظر في معارفنا وعقائدنا والاعتراف بخطئها كليا أو جزئيا.

وتفترق المعرفة عن الحب، عندما نحب أن تكون كل أمم الأرض تخدم مصالحنا الخاصة في حين نعلم أن طائفة كبيرة منها تخالفها تماما!..

إن هذه الأمثلة توضح الفارق الكبير بين الحب والمعرفة، إلا أنه رغم وجود هذا الفارق يواجه الفرد غموضا بالغا في التمييز بينهما.. فمثلا حين يحب الإنسان ذاته يخادع نفسه عن نقائصها، ويحاول ايجاد تبريرات لأخطائها ويريد أن يوقع مسؤولية ما تصدر عنها على الآخرين.. وحين يحب المرء أبناءه يغمض عينا عن كل ما فيهم من سيئات حتى يصبحوا مجموعة حسنات في عينيه!.. وهكذا حينما يحب الإنسان مبدأ يركز نظره إلى محاسنه حتى يحذف دور عقله كليا في نقد المبدأ أو حتى في تطويره وينقلب إلى إنسان ممسوخ.. ونعرف من ذلك كله: أن الإنسان يستطيع أن يميز الفكرة النابعة من كشف الواقع، والفكرة النابعة من حب النفس وهواها، لأن

سلام للعالمين (271)

الأولى تمثل جانب القوة والثانية جانب الضعف في الإنسان.

قلت: ولكن الإرادة قد تقهر الحب.. وتعيد للنفس توازنها.

قال: ولكن الإرادة مع ذلك قد تقهرها الأهواء.. فتضلل النفس..

إن العقل بمثابة مصباح منير تملكه النفس، وتنصرف فيه لرؤية الحقائق وكشفها؛ متى ما تريد وكيف ما تريد؟ فإذا لم يرد الإنسان رؤية جمال العدل، وحسن الآداب، واستحالة التناقض يمكنه ألا يعرف ذلك فعلا، بأن لا يستعمل المصباح الذي أوتيه أو يدسه تحت التراب.

وهذه حقيقة قد تخفى علينا، إلاّ أنه من المؤكد عمليا أننا لسنا في كل لحظة نعلم جميع أحكام العقل، وأننا في أي لحظة نريد التعرف عليها فهي لا تعصى علينا، وهذه حجة كافية على أن العقل يدخل ضمن حرية الفرد واختياره فيستخدمه حينا لمعرفة الحقائق ويدعه عاطلا حينا آخر..

ألست ترى أنك قادر في كل لحظة وفي كل مكان أن تفكر فيما حولك من الأشياء والأشخاص بصورة منهجية، وتستعمل في تفكيرك مقاييسك العقلية الثابتة؟ كما أن بإمكانك أن تتوجه إلى أمور أخرى ولا تفكر منهجيا وعقلانيا في أي شيء.. نعم، إن هناك لحظات لا يمكننا إلا أن نعرف أحكام العقل، كتلك اللحظات التي نقع فيها تحت تأثير موجِّه روحي قوي، أو نشاهد تجربة عملية حادة، إلا أننا سرعان ما نعود إلى حالتنا السابقة حيث يخضع العقل لتصرفنا وإرادتنا من جديد.

قلت: وعيت هذا الضابط وأدركت أهميته.. فهل هناك غيره؟

قال: هناك الكثير.. إن هذا يستدعي دراسة مفصلة للنفس للتعرف على نواحي ضعفها وقوتها..

قلت: فهل أشار قرآنكم إلى هذا؟

قال: أجل.. أشار إلى مجامعه، ونحن ندرسها هنا..

قلت: هلا ضربت لي مثالا على ذلك.

سلام للعالمين (272)

قال: من ذلك مثلا قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} (يوسف).. وقال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)} (طه).. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)} (محمد)

فهذه النصوص وغيرها تشير إلى أن للنفس البشرية مقدرة تمويهية كبيرة، فهي تقوم ـ مثلا ـ بتهدئة النفس وتسكينها حين تهجم عليها المصائب.. وهي تحاول التخفيف عن النفس بما يدعى في علم النفس (بأحلام اليقظة) فتسليها بآمال مستحيلة وأماني غير ممكنة الوقوع.. وحين يحب الإنسان شيئا حبا جما تحاول هذه الطاقة تبرير كل الوسائل المؤدية إليه، حتى تخترع النفس معلومات ليست واقعية، أو تفسير المعلومات التي لا تلائم بلوغ ما أحب بما يلائمها، وهكذا..

الخبرات البشرية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. فرأيت شيوخا كثيرين يلتف بهم شباب وصبية، فسألت المدرسي عنهم، فقال: هذا قسم (الخبرات البشرية)

قلت: فما علاقة هذا القسم بالعقل؟

قال: إن هذا القسم يجعل من العقل الواحد عقولا كثيرة.

قلت: كيف؟

قال: لا يمكن للعقل الواحد أن يصل إلا إلى بعض الحقائق.. ولذلك فإن الله جعل له من العقول المعينة ما ينوب عنه في البحث عن غيرها..

قلت: ولكن الأوهام قد تتسرب من هذا الطريق.. بل لا تكاد تتسرب الأوهام من غير هذا الطريق.

سلام للعالمين (273)

قال: لقد جعل الله في العقول القدرة على التمييز بين الحقائق والأوهام.. ولذلك فإن العاقل هو الذي يستقبل كل الخبرات، ثم يصفيها في غربال عقله ليميز الصادق منها من الكاذب، والحق منها من الباطل.

قلت: ألا يمكن أن نستغني عن هذا النوع من المدارك؟

قال: لو استغنينا عنه لم نصل إلى أي حضارة؟

قلت: وما علاقة الحضارة بهذا؟

قال: الحضارة تتأسس على الخبرات المختلفة.. فكل عالم يبدأ بما انتهى إليه غيره.. بالإضافة إلى أن العلوم يخدم بعضها بعضا.. ولا يمكن لشخص واحد أن يتخصص في العلوم جميعا.

قلت: إن هذا يستدعي البحث عن الخبراء.

قال: صدقت.. ولهذا أمرنا الله بالبحث عنهم وسؤالهم.. فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} (الفرقان).. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} (النحل)

قلت: فكيف يميز الدجال عن الخبير؟

قال: في هذا القسم نبحث عن هذا.. فنميز بين الدجال والخبير.. بل نميز بين أقوال الخبير نفسها.. فقد يدخل فيها الدجل من حيث يشعر، ومن حيث لا يشعر.

قلت: إن هذا يستدعي الشك في الخبراء.

قال: الأصل في هذا وغيره الشك.. فلا يمكن أن نتيقن إلا بما تثبت الأدلة صدقه.

الفيوضات الربانية

بعد أن استفدت الكثير من الخبرات والمعارف في قسم (الخبرات البشرية) سرت مع

سلام للعالمين (274)

صاحبي المدرسي إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. كان اسمه (قسم الفيوضات الربانية)، وقد رأيت فيه جموعا كثيرة ترفع أبصارها نحو شيء لا أراه.. سألت المدرسي عنه، فقال: هذا القسم هو أشرف الأقسام وأعلاها وأقدسها.

قلت: ما العقل الذي يحكمه؟

قال: هو فوق العقول.. ولذلك لا تجد العقول إلا التسليم له.

قلت: أهناك شيء فوق العقول؟

قال: أجل.. هناك من الحقائق ما تعجز العقول عن إدراكه، فلذلك تداركها الله بلطفه، وأفاض عليها عبر وسائط هدايته ما يدلها على ذلك.

قلت: مثل ماذا؟

قال: خالق الكون مثلا..

قلت: لكن العقل يدل عليه؟

قال: العقل يدل عليه.. لكنه لا يستطيع أن يعرف به.. وفرق كبير بين أن تؤمن بوجود الشيء، وبين أن تعرفه.

قلت: لم أفهم.

قال: إذا طرق بابك طارق.. قد يعرف عقلك بأن هذا الطارق إنسان عاقل مريد حي..

قلت: ذلك صحيح..

قال: ولكنه يقف عند هذا الحد.. فلا يستطيع أن يعرف من هذا الطارق.. وهل هو صديق أو عدو.. وهل يريد بطرقه أن يكرمك أو يهينك..

قلت: ذلك صحيح أيضا.

قال: فكيف تتعرف عليه؟

قلت: لذلك وسيلتان.. أما إحداهما، فأن أفتح له الباب، فأراه.. وأما الثانية فأن أنصب

سلام للعالمين (275)

أجهزة تخبر عنه.

قال: أجهزة وسيطة تعرفك به.

قلت: أجل.. مثل الكاميرات وغيرها.

قال: فقد فعل الله هذا بنا.. لقد أرسل لنا عبر أنبيائه ورسله من يعرفنا به وبحقائق الوجود الكبرى التي تضعف عقولنا عن الوصول إليها.

قلت: لكن ما أسهل الدعاوى في هذا الباب.

قال: وما أسهل أن تميز العقول هذه الدعاوى.

قلت: كيف تميز بينها؟

قال: لقد جعل الله لوسائط هدايته ما يدل عليهم.. فلذلك يسلك العقل معهم مسلك التمحيص والشك إلى أن يتيقن صدقهم.. فإذا تيقن صدقهم استطاع أن يستفيد من المعارف التي لا يمكن أن يصل إليها من غير طريقهم.

قلت: ولكن لم لم تتح هذه المعارف لجميع الناس؟

قال: إذا كان جميع الناس قد عجزت مداركهم عن أبسط الأشياء، فكيف تصل مداركهم المحدودة إلى هذه الأمور الخطيرة؟

قلت: فما يدرس في هذا القسم؟

قال: تدرس الضوابط التي يمكن للعقول أن تستفيد بها من هذه الفيوضات.

قلت: أرى جموعا كثيرة تلتفت حول هذه الفيوضات..

قال: وحق لها.. أرأيت لو أن قادما قدم الأرض من كوكب آخر.. ألا ترى أن الناس سيلتفون حوله يسألونه؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فإذا كان هذا القادم يعلم سر الأزل والأبد.. ويعلم ما سيحل بالأرض والكون

سلام للعالمين (276)

والإنسان.

قلت: إن الاهتمام بهذا سيشتد.

قال: فلنفرض أن هذا القادم رجل رحل من الأرض وسار في الكون، ثم جاء بأخباره.

قلت: الأمر لا يختلف.. ونحن نرى البشر يصرفون أموالا كثيرة لأجل بعض هذا.

قال: فهؤلاء الذين تراهم يلتفون حول مصدر النور والهداية يفعلون هذا.. لقد علموا أن الله اختار رجلا هو أفضلهم وأكملهم لينوب عنهم في هذه الرحلة العظيمة التي تعرف البشر بحقائق الوجود.

الإشراقات الروحية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. لست أدري كيف خطر على بالي عندما وطئت أول عتبة هذا القسم (أفلوطين).. سألت صاحبي المدرسي عنه، فقال: هو كغيره فقه أمورا، وغفل عن أمور، أو اختلطت عليه أمور (1).

قلت: فما فقه؟

قال: لقد عرف أن من مدارك العقول مدارك خفية لا يفطن لها كثير من الناس بسبب كثافتهم.

قلت: فما أخطأ؟

قال: لم يكن للمسكين ما يعصم به تلك المدارك من الخطأ الذي يعتري هذا النوع من العقل.

قلت: فهل في الإسلام ما يعصم هذا العقل؟

قال: أجل.. ففي الإسلام تتكامل العقول ولا تتناقض.

__________

(1) هذا بحسب ما وصل إلينا لا بحسب حقيقة الحال، لأن ما وصل إلينا من تراث المدارس القديمة لا يمكن الجزم بصحته.. فقد يكون التحريف أو الدس قد دخله.

سلام للعالمين (277)

قلت: فأين أجد فقه هذا؟

قال: في هذا القسم.. في هذا القسم يلقن الأساتذة من يريد هذا النوع من العقل كيفية تحصيله.. ويعلموهم في نفس الوقت كيفية تحصينه من الخطأ الذي قد يقع فيه.

دخلنا إلى القسم، فرأينا حلقة تربع على عرشها رجل ممتلئ بالأنوار، سألت صاحبي عنه، فقال: هذا رجل من أهل الله، راض نفسه في ذات الله، وقد وهبه الله لذلك من العلوم التي تحار فيها العقول ما لا يمكن إدراكه إلا بالعقل الذي أدرك به.

قلت: وما العقل الذي أدرك به؟

قال: هو لب لباب العقول.. ولا يصل إليه إلا من حصل التقوى التي نص عليها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: من الآية 282)

قلت: فما علاقة التقوى بهذا النوع من العقول؟

قال: تعال بنا لنستمع لهذا الرجل المنور بنور الإيمان، فلن تفهم حقيقة هذا العقل، ولا علاقته بالتقوى إلا بالاستماع إليه، والاستفادة منه.

قلت: من هو أولا؟

قال: هو رجال كثيرون، امتلأت بهم هذه الأمة المباركة.. والكثير هنا يسميه (المتوسم)، وبعضهم يسميه (الخضر)

قلت: لم؟

قال: أما المتوسم، فلقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر:75)، وقد ورد في تفسير هذا قوله (: (إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم) (1)

وأما الخضر، فهو رجل آتاه الله من العلم اللدني ما رأى به الحقائق، وقد ذكر الله هذا العلم

__________

(1) رواه الطبري والقضاعي في مسند الشهاب والطبراني في المعجم الأوسط، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 268): إسناده حسن.

سلام للعالمين (278)

الذي آتاه، فقال: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ((الكهف:65)

اقتربنا من الرجل، فسمعناه يقول (1): اعلموا أن القلب مثل المرآة، واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضا؛ لأن فيه صورة كل موجود، وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغا من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولا بها كان عالم الملكوت محجوبا عنه، وإن كان في حال النوم فارغا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت؛ فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ.

وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال؛ لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر، وليس كالحق الصريح مكشوفا فإذا مات - أي القلب - بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس.. وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال، ويقال له: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ((قّ:22)

قال له بعض التلاميذ: فمتى يحجب القلب عن مطالعة عالم الملكوت؟

التفت إليه، وقال: اعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم، وبيان الحق على سبيل الإلهام.. وذلك لا يدخل من طريق الحواس، بل يدخل في القلب، لا يعرف من أين جاء؛ لأن القلب من عالم الملكوت، والحواس مخلوقة لهذا العالم (عالم الملك)، فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغا من شغل الحواس.

قال تلميذ آخر: فمتى يطالع القلب عالم الملكوت؟

التفت إليه مبتسما، وقال: لا تظنن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال

__________

(1) ما نذكره من حقيقة العلم اللدني والاستدلال له مستفاد من مراجع مختلفة للغزالي منها (الإحياء)، و(كيمياء السعادة)، و(معارج القدس في معرفة النفس)

سلام للعالمين (279)

الرديئة.

فإذا جلس في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال دائما: (الله - الله – الله) بقلبه إلى أن يصير لا خير معه من نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم؛ فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجملية، وانكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبي (: (زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغربها)، وقال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ((الأنعام:75)، لأن علوم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كلها كانت من هذا الطريق، لا من طريق الحواس، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ((المزمل:8)، ومعناه: الانقطاع عن كل شيء، وتطهير القلب من كل شيء، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية.

قال له تلميذ آخر: أليس هذا خاصا بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

قال: هي في الأصل مختصة بالأنبياء.. ولكن لورثة الأنبياء حظ منها.. ولذلك لا يفتح لهم في هذا الباب إلا ما يؤيد النبوة ويؤكدها..

قال له التلميذ: فكيف نعرف هذه الطريق، ونتأكد من وجودها؟

قال: هذه الطريق لا تفهم إلا بالتجربة، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم.. والواجب التصديق بها حتى لا تحرم منها.. ومن لم يبصر لم يصدق، كما قال سبحانه وتعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ((يونس:39)، وقال: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (الاحقاف: من الآية 11)

قال تلميذ آخر: ألا يمكن أن تبسط لنا هذا حتى نفهمه أولا.

التفت إليه، وقال: اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية - وإنما تحصل في القلب في بعض

سلام للعالمين (280)

الأحول - تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم.

فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاماً، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً واستبصاراً.

ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما يدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب.

أما الأول، فيسمى إلهاماً ونفثاً في الروع.. وأما الثاني، فيسمى وحياً، ولا يختص به إلا الأنبياء.. بينما يختص بالأول الأولياء والأصفياء.. والذي قبله - وهو المكتسب بطريق الاستدلال - يختص به العلماء.

قال التلميذ: ألا يمكن أن تفرق لنا بين منهج الأولياء ومنهج العلماء بمثال محسوس؟

التفت إليه، وقال: سأضرب لك مثالين قد يقربان لك هذا:

أما أولهما، فهو: أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض، فإنه يحتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر.. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار.. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.

قال التلميذ: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه؟

قال: كما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك

سلام للعالمين (281)

النسخة، فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ، ثم أخرج إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء والأرض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ.

فكأن للعالم أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي - أي وجود صورته في الخيال - ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي - أي وجود صورته في القلب - وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية، والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض.

وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبع صورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب فإنك أبداً لا تدرك إلا ما هو واصل إليك، فلو لم يجعل للعالم كله مثالاً في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك، فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار، حتى صارت قلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها.

قال التلميذ: وعينا هذا.. فاذكر لنا المثال الثاني.

قال: المثال الثاني يتجلى من خلال هذه الحكاية.. فقد روي أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة

سلام للعالمين (282)

لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياً ويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك من قولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ؟ فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التقصيل.

فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم.

قال تلميذ آخر: كل ما ذكرته نجد من نفوسنا قبوله.. ولكن الاعتراض الذي قد يوجه لكل ذلك هو أن الأمر لو كان كما ذكر الأولياء لاستوى الناس في التعرف على الحقائق.. ذلك أن لكل إنسان المرآة التي يبصر بها الحقائق.

التفت إليه، وقال: إن هذا يستدعي البحث عن الحجب التي تحول بين مرائي الناس والحقائق.. وإدراك ذلك بسيط لا يستدعي إلا التأمل في سر عدم انكشاف الأشياء للمرآة الحسية مع وجودها، ووجود الأشياء حولها.. فأخبرني عما تراه من أسباب ذلك.

قال التلميذ: لقد بحثت في هذا.. ووجدت أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور.. أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل.. والثاني لخبثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل.. والثالث لكونه معدولاً به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة.. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة.. والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.

سلام للعالمين (283)

قال: فهكذا مرآة القلب.. فهي تحجب عن الحقائق بالأسباب الخمسة التي ذكرتها..

أما أولها، فهو نقصانها في ذاتها كقلب الصبي فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه.

وأما الثاني، فلكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه.

وأما الثالث، فأن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب. بل يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف جليه الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي؟.

وأما الرابع، فالحجاب.. فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد.. وهذا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجاباً بينهم وبين درك الحقيقة.

وأما الخامس، فالجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب، فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار، فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم

سلام للعالمين (284)

الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث.

التفت إلى التلميذ، وقال: هذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور.. وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف.

-\--\-

في نهاية هذه القاعة وجدنا شرطة تحمل بعض الناس إلى سجونها، فسألت المدرسي عنه، فقال: هؤلاء قوم استغلوا قدرات العقل.. فراحوا يستعملونها في غير ما خلقت له..

قلت: ولكن لم يسجنون؟

قال: هم أولى بالسجن من اللصوص.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو أن رجلا جاء لصبي صغير صاحب فطرة سليمة وراح يعلمه فنون التلصص.. على من تقع تبعة سرقة الصبي؟

قلت: لاشك أنها تقع على معلمه.

قال: فهكذا الأمر مع من يحتال للعقول ويحتال عليها.

-\--\-

سألنا صاحبنا عن سر فراقه لصاحبه المدرسي، ولأكاديمية العقل المسلم، فقال: في ذلك اليوم الذي أزحت فيه كل الكدورات التي تحول بيني وبين الإسلام.. جئت إلى أكاديمية العقل المسلم فوجدتها مغلقة، فسألت عنها، وعن أساتذتها، فأخبرني بعض الثقات أنهم ساروا إلى هذه البلاد ليدرؤوا الفتنة التي تريد أن تستأصل الإسلام والمسلمين.

وقد حضرت إلى هذه البلاد بمجرد أن سمعت ذلك.. وها أنتم ترون المصير الذي صرنا

سلام للعالمين (285)

إليه.

سلام للعالمين (286)

رابعا ـ النفس

في اليوم الرابع، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. لا لتتألموا ببعض ما أصابني من آلام.. ولكن لتعلموا من نحن.. وما هي النفوس التي كنا نهتدي بهديها، ونتحرك تحت أوامرها، ونصارع كل شيء من أجل تلبية شهواتها.

لقد كان اسمي في تلك الأيام (سارتر) (1) لا شك أنكم تعرفونه.. إنه اسم ذلك الرجل الذي ارتبط بما يسمونها (الوجودية) (2).. نعم.. هي تلك التي تختصر الوجود في الإنسان.. وأحيانا كثيرة في شهوات الإنسان.

كنت كما كان سائر أساتذتي: (سُورِين كيركيجارد) ذلك الفيلسوف الدنماركي اللاهوتي البروتستانتي الذي يُعدّه أصحابنا مؤسس حركتنا، و(فريدريك نيتشه)، الذي لا شك أنكم تعرفونه، ذلك الذي صاح بموت الإله.

وكنت كما كان سائر أصدقائي من المفكرين الوجوديين كألبير كامو، وجابرييل مارسيل،

__________

(1) أشير به إلى (جان بول سار تر) ولد عام (1905 م) ومارس التدريس في (الهافر) ثم في المعهد الفرنسي بـ (برلين)، واعتقل عام (1940) ولبث سنة كاملة في السجن، ثم تخلى عن مهنة التدريس وقد تأثر في فلسفته بمؤلفات (هوسرل) و(هيجدر)... وقد كان شيوعياً في ابتداء أمره، ثم عدل عن ذلك إلى (الوجودية) التي تزعمها، وصار على طرفي نقيض مع الشيوعية، ولذا كل من الفريقين يحارب الآخر ويهاجمه أشد مهاجمة، لكنه كان يعتقد بأن المستقبل للاشتراكية، لأن ظروفها باقية، ولسارتر مكان خاص في (باريس) يرتاده مريدوه، ولهم أشكال غريبة وهيئات خاصة من حيث الملبس وغيره، ولسارتر آراء خاصة حول (الكون) و(الإنسان) و(النظام) و(الأخلاق) وغيرها، وكثيراً ما يميل إلى صب آرائه في القوالب القصصية، مما يجعل فهم آرائه أصعب، والوجودية ليست مبدءاً اخترعه هو بل كانت من ذي قبل وإنما نفخ فيها وجعل لها قوالب جديدة. (انظر: الموسوعة العربية العالمية.. وغيرها)

(2) الوجودية: حركة فلسفية ظهرت في أوروبا أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وسميت الوجودية لأن معظم أعضائها اهتموا مبدئيًا بطبيعة الوجود أو الكينونة، فقصدوا بمصطلح الوجود الوجود البشري.

وقد نشأت الوجودية من جهود اثنين من مفكري القرن التاسع عشر هما سُورِين كيركيجارد، الفيلسوف الدنماركي اللاهوتي البروتستانتي الذي يُعدّ مؤسس الحركة، وفريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني. (انظر: الموسوعة العربية العالمية.. وغيرها)

سلام للعالمين (287)

وكارل ياسبر، ومارتين ه