معجزات علمية (1)
الكتاب: معجزات علمية
الوصف: حوارات علمية عقلية حول القرآن والحقائق العلمية
السلسلة: حقائق ورقائق
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1437 هـ
عدد الصفحات: 567 <
ISBN: 978-3-330-97412-8
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
معجزات علمية (2)
تحاول هذه الرواية - من خلال الأدلة الكثيرة - أن تبين بتفصيل علمي دقيق البراهين التي ينطوي عليها القرآن الكريم، والتي تدل على أن مصدره هو الله خالق هذا الكون، وما فيه، ذلك أنه يستحيل - من الناحية العقلية - أن تتنزل أمثال تلك الحقائق العلمية الكثيرة - التي قضت البشرية كل عمرها في البحث عنها - في تلك البيئة البدوية البسيطة من ذلك الزمان الذي عم فيه الجهل والخرافة والأساطير.
وهي تتوجه كذلك لأولئك الحمقى والمغفلين من المسلمين الذين لم تهضم عقولهم المقيدة بداء الجهل والكبر المكتشفات العلمية، ولم تستسغ أن تخالف ما ورثوه عن سلفهم من فهوم حول الآيات المرتبطة بالحقائق العلمية، فلذلك راحوا يحاربون هذا النوع من تدبر القرآن وتفعليه في الحياة، والاستفادة منه في نشر الهداية.
معجزات علمية (12)
هذا الكتاب من الكتب التي حاولت فيها – من خلال الأدلة الكثيرة - أن أبين البراهين التي ينطوي عليها القرآن الكريم، والتي تبين أن مصدره هو الله خالق هذا الكون، وما فيه، ذلك أنه يستحيل – من الناحية العقلية - أن تتنزل أمثال تلك الحقائق العلمية الكثيرة - التي قضت البشرية كل عمرها في البحث عنها - في تلك البيئة البدوية البسيطة من ذلك الزمان الذي عم فيه الجهل والخرافة والأساطير.
وهي تتوجه كذلك لأولئك الحمقى والمغفلين من المسلمين الذين لم تهضم عقولهم المقيدة بداء الجهل والكبر المكتشفات العلمية، ولم تستسغ أن تخالف ما ورثوه عن سلفهم من فهوم حول الآيات المرتبطة بالحقائق العلمية، فلذلك راحوا يحاربون هذا النوع من تدبر القرآن الكريم وتفعليه في الحياة، والاستفادة منه في نشر الهداية.
ولذلك اعتمدت في قالبها الروائي على هذه العقدة، والتي مثلها أبطال الرواية جميعا:
الشيخ صاحب القصة: وهو شخصية مسيحية من رجال الدين، وقد كلف بمهمة متابعة مؤتمر علمي في بعض البلاد الإسلامية تبناه مشايخ تقليديون يريدون من ورائه الرد على دعاة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، لكنه بعد أن عرف الحقيقة آمن بها، واهتدى، وهو الذي حكى القصة بأكملها للمؤلف.
علي: وهو يمثل دور العالم الذي جمع بين فهم القرآن الكريم وتدبره، والمعارف العلمية المختلفة، وهو يمثل في هذه الرواية دور الداعية الذي استطاع أن يوظف الإعجاز العلمي للقرآن الكريم ليبث الهداية في نفوس العلماء الأجانب، وقد نجح في الأخير في تحقيق ذلك.
حذيفة: وهو يمثل في بدايته دور المنكر للإعجاز العلمي للقرآن الكريم، والمتخوف منه، لكنه بعد صحبته لعلي في الأيام العشرة التي التقى بها العلماء من جميع التخصصات، اقتنع
معجزات علمية (13)
بمنهج علي واتبعه.
العلماء العشرة: وهم علماء من مختلف التخصصات، نفروا من الدين بسبب ما رأوه في الكتاب المقدس من أخطاء علمية كبيرة، لكنهم بعد أن اكتشفوا الحقائق العلمية الواردة في القرآن الكريم لم يجدوا إلا أن يسلموا لها في الأخير.
هؤلاء هم أبطال الرواية، أما الحقائق التي اهتمت هذه الرواية بذكرها، فهي كثيرة جدا، وقد قسمتها كالكثير من أمثال هذا النوع من الروايات إلى عشرة أقسام ابتدأت بالإعجاز العلمي الوارد في خلق السماء والتفاصيل الكثيرة المرتبطة بها.. ثم في خلق الأرض.. ثم في الحياة.. ثم في الماء.. ثم في النبات.. ثم في الحيوان.. ثم في الإنسان.. ثم في الغذاء.. ثم في الدواء.. ثم في الآثار.
وهي بذلك تعتبر موسوعة علمية لأهم ما اكتشف من نواحي الإعجاز العلمي في القرآن الكريم إلى الوقت الذي كتبت فيه هذه الرواية، وتتميز بأنها حاولت أن تجعل منها منظومة متكاملة، لأن الإعجاز لا يتم بالشاهد والشاهدين.. بل يحتاج إلى الأدلة الكثيرة، والشواهد المتعددة.
وقد حاولت أن أركز قدر الإمكان على القضايا الكبرى القطعية، سواء من الناحية العلمية، أو مما ورد للدلالة عليه من القرآن الكريم.
وتتميز هذه الطبعة الجديدة باختصارها مقارنة بالطبعة السابقة، فقد حذفت الكثير من التفاصيل العلمية التي قد تجهد القارئ العادي في فهمها أو الاستفادة منها.
وفي الأخير.. أشكر كل الذين نوهوا بالطبعة السابقة، أو دعوا إلى دراستها، أو قرروها في المحال التي يدرسون فيها، وهي بفضل الله جديرة بذلك، فهي لا تكتفي بعرض الحقائق، بل تبين كيفية إقناع الآخرين بها، والآداب المرتبطة بكل ذلك.
معجزات علمية (14)
في ذلك الصباح الممتلئ بالبركات خرجت خارج القرية.. حيث الطبيعة الجميلة العذراء التي لم تمتد إليها بعد أيادي الإنسان لتخربها.
ما إن وصلت إلى المحل الذي تعودت أن أجلس فيه حتى رأيت شيخا ممتلئا وقارا وهيبة وسكينة.. فانشغلت بالنظر إليه عن النظر إلى الطبيعة الجميلة التي تحيط به..
كان ينظر إلى الماء، وهو ينساب بعذوبة في الجداول التي حفرها في بطون الصخور.. وينظر إلى الأشجار التي تميد أوراقها على نغمات العنادل التي تعتليها.. كان النسيم عليلا.. والروائح الطيبة التي تنبعث من دفء الربيع تغمر المكان.
ولم يكن ذلك كله ليؤثر في، فقد تعودت على هذه المناظر، ولم يعد لها تأثير كبير على نفسي.. ولكني رأيت الشيخ يكاد يحتضن كل ذلك، بل يكاد يتوحد معه.. فاقتربت منه، ورحت أقول: أرى أن مناظر الطبيعة تستهويك.
قال: وما لها لا تستهويني.. وقد أمرنا الله بأن نعبده من خلال النظر إليها، ألم تسمع قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:99)؟
أحسست براحة كبيرة أثناء تلاوته للقرآن الكريم، وأحسست معها أن للشيخ أحاديث وأخبارا لابد أن أستفزه ليحدثني عنها، فقلت: صدق الله العظيم.. ما رأيت شيئا أضر على الإنسان من الألفة!؟
قال: المؤمن ينظر إلى الكون من خلال أسماء الله وتدبيرات الله، فلذلك يتجدد كل حين في نظره..
معجزات علمية (15)
لا تحسب أن ما أراه الآن جديد علي.. هذه المناظر وغيرها تمتلئ بها الأرض.. بل يمتلئ بها الكون.. فالكون كله يصيح معرفا بربه، داعيا إلى التوجه إليه.
أترى ذلك الماء.. أو تلك الأوراق.. أو تلك العنادل المغردة.. كل واحد منها حرف من الحروف تتشكل منه معارف عميقة توصلنا إلى حقائق الأزل.
قلت: هنيئا لك سيدي هذا الإيمان العظيم.. فقلما نجد من يتحدث بمثل هذه الأحاديث في هذا الزمان.. من أي البلاد أنت؟.. وما اسمك؟
ابتسم، وقال: أما البلاد.. فقد كنت أسكن أصغر دولة في الدنيا.. ولكني رحلت عنها لأسكن الكون جميعا.
تعجبت من كلامه هذا، وقلت: الذي أعرفه أن أصغر دولة في الدنيا هي الفاتيكان.. ولا أحسبك منها.. فتلك دولة المسيحيين والكاثوليك خصوصا.. ولا يسكنها في العادة إلا رجال الدين المسيحي.. وشتان بينك وبينهم..
قال: ولم؟
قلت: أنت مسلم وهم مسيحيون.
قال: ألا يمكن أن يتحول المسيحي إلى مسلم.. أم أن من يسكن الفاتيكان يختم على قلبه.. فلا يرى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تشرفت بطلعتها كل الكائنات؟
قلت: الله تعالى هو الهادي.. وليس هناك مكان يطبع فيه على قلوب الناس.. بل القلوب التي تعرض عن الله هي التي تختار ذلك.. وقد كان من سكان مكة والمدينة من اختار أن يطبع على قلبه، ويحرم نفسه من الهداية الإلهية المبثوثة في كل الكون.
قال: صدقت.. وقد كان من سكان الفاتيكان ورجال دينهم الكبار من فتح الله عليه بنور الهداية، وأشرق عليه بشمسها.
قلت: فهل أنت أحدهم؟
معجزات علمية (16)
قال: أجل.. بفضل الله ورحمته وهدايته.
قلت: فمن أنت منهم؟
قال: دعك من اسمي.. فهو لا ينفعك.. وقد يضرني أن تعرفه.
قلت: لا بأس.. لك ذلك.
قال: لا تنزعج.. فسأحدثك عما هو أهم من اسمي.. سأحدثك عن قصتي.. وقد جئت هنا لأجل أن أحدثك عنها.. فأنا أعلم أن لك قلما واعيا.
قلت: من أين عرفت ذلك؟
قال: دعك من البحث عما لا تطيقه.. واسمع قصتي.. وبشر بها.. فلعل الله أن تصيخ لها أسماع، وتخضع لها قلوب.. فتعود إلى بارئها، وتنعم بالاتصال به.
أصخت بسمعي إلى الشيخ الذي راح يحكي لي قصته بتفاصيلها الدقيقة، قال: جاءتني في ذلك اليوم رسالة مستعجلة من الإدارة العليا في الفاتيكان.. فأسرعت إليهم.. وبعد أن استقبلوني خير استقبال، وأكرموني بما شاء لهم كرمهم أن يكرموني به، أخبروني أنه سيقام في بعض البلاد الإسلامية مؤتمر علمي هام ينبغي لي أن أحضره..
قلت لهم: وما علاقتي بالمؤتمرات العلمية؟.. أنا رجل دين.. نذرت نفسي للكنيسة.. ولا علم لي بالفيزياء، ولا بالكيمياء.. ولا بشيء من هذه العلوم.
قال لي المكلف بإقناعي: لقد اخترناك لسببين:
الأول: أنك هادئ، كثير الصمت، قليل الجدال، لا يستفزك أحد، وهذا سينفعنا كثيرا، لأنك لن تفصح عن مقاصدك من هذا الحضور.
وأما الثاني، فما نعلمه عنك من علمك العميق بالعربية، وبالإسلام، وبالقرآن.. وهذا يجعلك أوعى لما يقولون.
قلت: أتريد أن تجعل مني جاسوسا؟
معجزات علمية (17)
ابتسم، وقال: ولم تقول هذا؟.. إن هذا المؤتمر يخدمنا نحن، ويخدم أغراضنا.. ولو أنا بذلنا الأموال الكثيرة لنقيمه ما استطعنا إقامته.
قلت: فكيف أوحيتم لهؤلاء المسلمين إقامته بدلا عنكم؟
قال: نحن لم نوحي لهم بشيء.. هم الذي أوحوا لأنفسهم به.. وقد اتفقت مصالحنا معهم فيه فقط.
قلت: أنا إلى الآن لم أفهم موضوع المؤتمر.. ولا علاقته بالإسلام، ولا علاقته بالكنيسة.. ولم أعرف إلى الآن دوري في كل ذلك.
قال: أنت تعلم أن هناك في بلاد المسلمين، وفي بلادنا، من ينعق بأن في القرآن سبقا علميا في أمور كثيرة.
قلت: أجل.. أسمع بذلك.. ولكني أسمع في نفس الوقت أن من يتولى كبر هذه الدعوة العلماء والخبراء، لا الفقهاء أو المفسرون.
قال: وهذا مصدر خطر هذه الدعوة.. فكلام الخبراء في هذا المجال أكثر حرمة من كلام الفقهاء والمفسرين.
ثم ابتسم وقال: وهو في نفس الوقت مصدر راحة لنا ومتعة.
قلت: كيف ذلك؟
قال: هذا المؤتمر دليل على هذه المتعة والراحة.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: أنت تعلم أن كثيرا من الفقهاء والمفسرين لا يقبلون من أحد أن ينافسهم في التراث المقدس الذي اختصوا فيه.. إنهم يكادون يحتكرونه احتكارا.. فلذلك إذا رأوا من الخبراء أي بحث في هذا الباب قد يؤلبون عليهم الخصومة، والناس في هذا تبع للفقهاء، لا للخبراء.
قلت: فهذا المؤتمر يقيمه الفقهاء والمفسرون إذن ليشنوا حربهم على الخبراء والعلماء الباحثين
معجزات علمية (18)
عن أسرار الإعجاز العلمي في التراث المقدس للمسلمين.
قال: أجل.. ولكن الذي يقيمه ليس كل الفقهاء.. بل بعضهم.. وهو بعض مرض لنا من هذه الناحية.. إنهم يقدمون لنا من الخدمات ما لم يستطع أحد في العالم أن يقدمه.
قلت: وكيف أمنتم من انقلابهم علينا؟
قال: عقولهم.. وطريقة تفكيرهم جعلتنا في مأمن منهم.. ألم تسمع المثل الذي يقول: (يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه)؟
قلت: أجل.. فهل هؤلاء جهلة؟
قال: لا.. هم علماء.. ولكنهم علماء لا يعلمون إلا ما في كتبهم العتيقة التي مرت عليها القرون الطوال.. وهم لذلك أعداء كل جديد.
وبما أن هذه العلوم والاكتشافات علوم جديدة، فهم أعداء لها.. بل إنهم في عداوتهم لها قد يستخدمون فهومهم للتراث المقدس لردها.
قلت: أوصل بهم الأمر إلى هذا الحد؟
قال: سأضرب لك مثالا عن بعض علمائهم ممن تبوؤوا المناصب الرفيعة.. فركنت لهم مهمة الفتوى ورئاسة العلماء والاهتمام بالدعوة.. ومناصب كثيرة تنقضي دون آحادها جهود الرجال الفحول.
قلت: ما به؟.. أكاد أعرف من تقصد؟
قال: لا يهم.. فهو فرد يمثل ثلة.. وهي تمثل نوعا من الفكر له تأثيره الواقعي الذي يمكن استثماره وخدمة التبشير به.
أنت تعلم أن أكبر منافس للمسيحية هو الإسلام.. وهؤلاء انتبدبتهم كنيسة بطرس من غير أن يشعروا ليخدموها، ويخدموا المسيح.
قلت: ما الذي فعله هذا الرجل ومن معه حتى يستحق كل هذا الثناء العطر؟
معجزات علمية (19)
قال: سأذكر لك فتوى من فتاواه، نحن ننشرها في كل مكان، ونبشر بها أكثر من تبشيرنا بالمسيح، ولو علمنا اليوم الذي خرج بها إلى الناس لاتخذناه عيدا.. ولولا أن في إظهار تكريمنا له ما يصرف الناس عنه لأعطيناه أسمى المراتب وأرفعها.
قلت: ما تلك الفتوى التي استحقت كل هذا التكريم؟
قال: لقد نشرت (....!؟} (1) في سنة (1402 هـ/1982 م) كتاباً من تأليف هذا العلامة الجليل يقول فيه: (أجمعت آراء السلف من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن القيم على ثبوت الأرض)
قلت: أولئك قوم قد أكل الثرى أجسادهم، ولا حرج عليهم في أن يجمعوا، فقد كان قومنا يجمعون على ما أجمعوا عليه.
قال: ليس الخطر في ذلك.. ولكن الخطر الذي هو نعمة لنا هو اعتبار إجماعهم تراثا مقدسا لا يمس كما لا يمس القرآن.
لقد استنتج هذا المفتي بإخلاصه لمن ينقل عنهم بأن (القول بأن الشمس ثابتة، وأن الأرض دائرة قولٌ شنيعٌ ومنكر)، واستنتج ما هو أخطر من ذلك حين قال: (ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل، ويجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين)
وقد أيد هذا العلامة الجليل فتواه بأنه كان من جملة الناس الذين شاهدوا بعيونهم وأبصارهم سير الشمس وجريانها في مطالعها ومغاربها قبل أن يذهب نور عينيه، وهو دون العشرين.
واستدل لها بأنه لو كانت الشمس ثابتة لما كان هناك فصول أربعة، ولكان الزمان في كل بلد
__________
(1) لقد ذكرنا في الأجزاء الماضية أنا نحاول جهدنا أن لا نجرح أحدا بذكر اسمه، مهما كان، سواء كان مسلما أو مسيحيا، إلا لضرورة شديدة تستدعي ذلك.. وهذا من هذا الباب.. وهذا الكلام مما تمتلئ به مواقع المبشرين الذين لا يفرحون بشيء كما يفرحون بمثل هذه الفتاوى.
معجزات علمية (20)
واحد لا يختلف.
وقد نصَّ في كتابه هذا على (أن كثيراً من مدرسي علوم الفلك ذهبوا إلى القول بثبوت الشمس ودوران الأرض، وهذا كفرٌ وضلال وتكذيبٌ للكتاب والسنة وأقوال السلف، وقد اجتمع في هذا الأمر العظيم النقل والفطرة وشاهد العيان فكيف لا يكون مثل هذا كافراً)
وقد حاجَّهم بقوله: (لو أن الأرض تتحرك لكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد، لذلك فالقول بهذه المعلومات الطبيعية وتدريسها للتلاميذ على أنها حقائق ثابتة يؤدي إلى أن يتذرع بها أولئك التلاميذ على الإلحاد حتى أصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن مثل هذا الأمر من المسلمات العلمية)
واستدل لهذا بأنَّه (لو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والأشجار والأنهار لا قرار لها، ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والبلدان المشرقية في المغرب، ولتغيرت القبلة على الناس، لأن دوران الأرض يقتضي تغيير الجهات بالنسبة للبلدان والقارات هذا إلى أنه لو كانت الأرض تدور فعلاً لأحسَّ الناس بحركة كما يحسون بحركة الباخرة والطائرة وغيرها من المركوبات الضخمة)
وقد وصف المسلمين الذين يؤمنون بكروية الأرض (1) بأنهم يتبعون كلَّ ناعق يريد أن يفسد عقيدة المسلمين بأنهم بعيدون عن استعمال عقولهم وأنهم أعطوا قيادهم لغيرهم، فأصبحوا كبيهمة الأنعام العجماء بعد أن فقدوا ميزة العقل.
وقد خلص في الأخير إلى أن (القائل بدوران الأرض ضال قد كفر وأضل كذَّب القرآن والسنة، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين).
أخرج كتابا من درج مكتبه، وقال: أنا لست أتجنى.. انظر الكتاب.. ها هو عنوانه الذي يدل
__________
(1) هذا ما هو موجود في المواقع التبشيرية، ولكن كل علماء المسلمين بما فيهم العلماء المعاصرين الذين يسمونهم يخالفون هذا، وينصون على كروية الأرض، وسنرى التفاصيل المرتبطة بذلك في الفصل الثاني من هذه الرواية.
معجزات علمية (21)
على محتواه.. (الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب)
فتح الكتاب، وقال: اسمع ما يقول..
راح يقرأ: (وكما أن هذا القول الباطل - يقصد ثبوت الشمس ودوران الأرض- مخالف للنصوص فهو مخالف للمشاهد المحسوس ومكابرة للمعقول والواقع لم يزل الناس مسلمهم وكافرهم يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة، ويشاهدون الأرض قارة ثابتة ويشاهدون كل بلد وكل جبل في جهته لم يتغير من ذلك شيء، ولو كانت الشمس تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال والأشجار والأنهار والبحار لا قرار لها ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والمشرقية في المغرب ولتغيرت القبلة على الناس حتى لا يقرّ لها قرار، وبالجملة فهذا القول فاسد من وجوه كثيرة يطول تعدادها)
قلب صفحات من الكتاب، ثم قال: واسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ: (ثم هذا القول مخالف للواقع المحسوس، فالناس يشاهدون الجبال في محلها لم تسيّر.. فهذا جبل النور في مكة في محله.. وهذا جبل أبي قبيس في محله.. وهذا أُحد في المدينة في محلّه.. وهكذا جبال الدنيا كلها لم تسيّر وكل من تصور هذا القول يعرف بطلانه وفساد قول صاحبه وأنه بعيد عن استعمال عقله وفكره قد أعطى القياد لغيره كبهيمة الأنعام فنعوذ بالله من القول عليه بغير علم ونعوذ بالله من التقليد الأعمى الذي يردي من اعتنقه وينقله من ميزة العقلاء إلى خلق البهيمة العجماء)
قلب صفحات أخرى، ثم قال: اسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ: (ثم الناس كلهم يشاهدون الشمس كل يوم تأتي من المشرق، ثم لا تزال في سير وصعود حتى تتوسط السماء، ثم لا تزال في سير، وانخفاض حتى تغرب في مدارات مختلفة بحسب اختلاف المنازل ويعلمون ذلك علما قطعيا بناء على مشاهدتهم وذلك مطابق لما دل عليه
معجزات علمية (22)
هذا الحديث الصريح –حديث سجود الشمس- والآيات القرآنية ولا ينكر هذا إلا مكابر للمشاهد المحسوس ومخالف لصريح المنقول.. وأنا من جملة الناس الذين شاهدوا سير الشمس وجريانها في مطالعها ومغاربها قبل أن يذهب بصري، وكان سني حين ذهاب بصري تسعة عشر عاما، وإنما نبهت على هذا ليعلم القراء أني ممن شاهد آيات السماء والأرض بعيني رأسه دهرا طويلا، والله المستعان وبالجملة، فالأدلة النقلية والحسية على بطلان قول من قال إن الشمس ثابتة أو قال إنها جارية حول نفسها كثيرة متوافرة، وقد سبق الكثير منها فراجعه ان شئت)
وقد خلص في الأخير إلى نتيجة.. اسمعها من فمه..
راح يقرأ: (فمن زعم خلاف ذلك، وقال إن الشمس ثابتة لا جارية، فقد كذّب الله وكذّب كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
ثم يقول: (ومن قال هذا القول فقد قال كفرا وضلالا لأنه تكذيب لله، وتكذيب للقرآن وتكذيب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد صرح في الأحاديث الصحيحة أن الشمس جارية، وأنها إذا غربت تذهب وتسجد بين يدي ربها تحت العرش كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وكل من كذب الله سبحانه أو كذب كتابه الكريم أو كذب رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام فهو كافر ضال مضل يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، ويكون ماله فيئا لبيت مال المسلمين، كما نص على مثل هذا أهل العلم)
التفت إلي، وقال: وهكذا تم تكفير كل ما قال بدوران الأرض..
نظر إلي، فرآني متعجبا مما أسمع، فقال: لا تتعجب.. هذا واحد منهم.. وقد تبوأ المناصب الرفيعة.. وهناك غيره ممن يقولون بقوله.. هذا أحدهم كتب كتابا في ذلك سماه (هداية الحيران في مسألة الدوران)
أخرج الكتاب من الدرج، وقال: اسمع ما يقول سماحة المبشر (....!؟)
راح يقرأ: (العلوم العصرية عامة علومٌ عمَّت بها البلوى.. منها علوم مفسدة للإعتقاد
معجزات علمية (23)
كالقول بدوران الأرض، وغيره من علوم الملاحدة)
واسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ: (القول بدوران الأرض أعظم من اعتقاد تسلسل الإنسان من القرود بكثير)
أغلق الكتاب، وقال: إن هذا الكتاب أعظم من أن يساوي وزنه ذهبا.. إن قيمة هذا الكتاب لا تقدر بثمن..
تصور لو أنا نشرنا هذا الكتاب.. أو لو أن واحدا من أولئك المحسنين، أصحاب البطون الكبيرة، والعقول الفارغة، تطوع فنشر مثل هذا الكتب مجانا على المدارس والجامعات..
إنها أخطر من القنبلة النووية..
إن الطالب الذي يقرأ في مدرسته أو جامعته أن الأرض تتحرك في الفضاء، ومعها تابعها القمر في دورة بيضاوية حول الشمس.. وأنها تسبح خلال هذا الفلك بسرعة 106.000 كلم بالساعة.. وأنها بالإضافة إلى ذلك تدور مرة واحدة حول محورها كل 23.56 ساعة و4.1 ثانية طبقا للسنة الشمسية.. وأنها بالإضافة إلى ذلك لها ثلاث حركات إضافية دورية تحدث مرتين في العام.. وأنها بالإضافة إلى ذلك كله تتحرك بسرعة 20.1 كلم بالثانية، باتجاه مجموعة هرقل النجمية..
تصور طالبا يقرأ عن هذه الحركات النشيطة التي تقوم بها الأرض في المحاور المختلفة، ويبرهن له على ذلك بكل البراهين، ثم يأتي للمسجد ليسمع الإمام يحمل هذه الكتب، ويرددها على مسامعه.
إنه في ذلك الحين يتحول إلى أحد شخصين كلاهما حبيب لنا:
أما الأول.. فهو أن يخرج من المساجد كافرا بالإمام، وبما يقول الإمام، بل كافرا بالقرآن نفسه، وبكل تراث المسلمين المقدس.. وحينذاك نستقبله نحن، أو يستقبله غيرنا.. ولا يهمنا من يستقبله.
معجزات علمية (24)
وأما الثاني.. فأن يقبل ما يقوله الإمام، ويكفر بما يقوله الأستاذ والخبير.. وهو في هذه الحالة لا يقل عن حال الأول.. إنه يصير متطرفا يصدر لنا من المواقف ما تقر به أعيننا.. إن هذا النوع سيملأ هذه الرفوف التي تراها كتبا تقدم لنا أعظم الخدمات.. أنت تعلم بأن الصديق الجاهل أخطر من العدو العاقل..
قلت: وعيت ما ذكرت.. ولكن أجبني: هل ما يقوله هؤلاء هو الحقيقة التي جاء القرآن لتقريرها؟
قال: نحن لا يهمنا ذلك.. هذه فتوح فتح بها علينا.. ولا ينبغي للعاقل أن يفرط في استثمار غباء خصومه.
قلت: فلنعد إلى هذا المؤتمر المزمع انعقاده.. ما دوري أنا فيه؟
قال: أما المؤتمر، فيحمل عنوان (آيات الله في الآفاق والأنفس من خلال القرآن والعلم)، وهو يدوم عشرة أيام كاملة تعرض فيها المحاضرات المرتبطة بهذا الجانب، وكل من يلقي تلك المحاضرات من الصنف الذي حدثتك عنه.
قلت: ولكن.. كيف بدا لهم أن يدخلوا العلم في المسألة؟
قال: لقد رأوا اتهام الناس لهم بالتزمت والتطرف، فراحوا يتجملون بالعلم ليرضوهم.. ولكنهم مع ذلك حددوا مجالات معينة لهؤلاء العلماء حجروا عليهم أن يتجاوزوها.
وإن أردت الصراحة، فهم لم يريدوا منهم إلا كلمة واحدة يصفعون بها خصومهم.
قلت: وما تلك الكلمة؟
قال: أن يذكر هؤلاء الخبراء أنه لا صحة لما يزعمه من يرى أن في القرآن إعجازا علميا.
قلت: فهو خلاف داخلي إذن بينهم؟
قال: أجل.. ما أجمل هذا النوع من الخلاف.. إنه السبيل الوحيد لنصرة الحقيقة التي نؤمن بها.
معجزات علمية (25)
قلت: وما دوري أنا بالضبط في ذلك المؤتمر.. هل كلفتموني بإلقاء محاضرة فيه؟
قال: لا.. لم نكلفك إلا بدورين بسيطين، ولكنهما عميقين:
أما أحدهما.. فبسيط جدا لا يعدو استعمال أذنيك لتسمع كل ما يقال.. ثم تعود لنا بتقارير عما سمعت.. وإن رأيت أي بحث له قيمة علمية أو عملية، مثل البحوث التي أسمعتك إياها، فتقرب من صاحبه.. وأعطه ما شاء من الأموال لينشر بحثه، وليستمر في بحثه.
نحن نثق فيك.. ولذلك سنضع لك ميزانية خاصة.. اصرف منها ما تشاء.. فما تفعله لا يقل عما يفعله أي مبشر في الأدغال، أو على رؤوس الجبال.
قلت: والثاني؟
قال: هو دور مهم، ولعله أهم من الأول.. وهو يحتاج إلى يقظة عظيمة، فالخبراء الذين سيذهبون إلى المؤتمر من بلادنا، وهم من خيرة علماء بلادنا، ونحن نخشى أن يندس إليهم بعض أولئك الذين ينعقون بإعجاز القرآن.. فينحرفون بهم.. ويؤلبوهم علينا، كما حصل للكثيرين قبلهم.
قلت: فما دوري أنا معهم.. هل سأكون حارسهم الشخصي؟
قال: أمر حراستهم موكول للبلاد التي سيزورونها.. أما دورك أنت فلا يعدو أن تظل معهم، وبصحبتهم.. بعد انتهاء المحاضرات سر بهم حيث شئت، وأنفق عليهم من الأموال ما شئت.. المهم أن يظلوا في صحبتك حتى لا يتعرضوا لأي أشعة قد تحرقهم.. فشمس تلك البلاد تحرق كل من يدخل إليها.
قلت: متى سيبدأ هذا المؤتمر؟
قال: سيبدأ بعد شهر من اليوم، وقد استدعيناك، واستدعينا الأساتذة المختصين الذين سيذهبون بصحبتك لتقيم علاقتك بهم قبل الذهاب لتلك البلاد.
قال ذلك.. ثم أذن لي في الانصراف.
معجزات علمية (26)
بقيت بعدها شهرا كاملا ألتقي بهؤلاء المختصين، وقد استفدت منهم كثيرا، فقد كان أسلوبهم يناسب طريقة تفكيري.. بل قد نسخ كلامهم كثيرا من الاهتمام الذي كنت أبديه للإسلام وللقرآن.
لست أدري لم.. ولكن السبب ربما يكمن فيما ذكر لي من تلك الفتاوى التي تزعم اصطدام النصوص المقدسة مع العلم.
-\--\-
في مساء اليوم الذي سبق رحلتي إلى تلك البلاد التي أقيم فيها ذلك المؤتمر سرت خارج المدينة إلى حديقة تمتلئ بالجمال.. هي لا تقل عن الجمال الذي يمتلئ به هذا المكان.
لقد جلست أنظر في الإبداع العظيم الذي صمم به الكون.. كل شيء في منتهى الدقة والجمال والكمال.
وكل ذلك يستدعي أن يكون الخالق مبدعا عالما، بل عليما خبيرا لطيفا، بل لا يمكن للسان أن يعبر عن علم هذا الخالق ولا لطفه ولا خبرته.
بينما أنا غارق في تلك التأملات إذا برجل – لست أدري من أين جاء، ولا كيف جاء -يجلس بين يدي دون أن أشعر بجلوسه، ويدور بيننا هذا الحوار القصير الذي غير مسيرة رحلتي وأهدافها.
لا أكتمك بأني كنت متألما للدور الذي كلفت بالقيام به، ولكني بعد أن التقيت بذلك الرجل ارتحت كثيرا.. بل اعتبرت هذه الرحلة فتحا عظيما فتح به علي لأدرك به الحقيقة..
وقد كانت بالفعل ـ على عكس ما أريد منها ـ رحلة للتعرض لأشعة جديدة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سأذكر لك الحوار القصير الذي دار بيننا، والذي أسس لهدف نبيل لهذه الرحلة، حل بدل الهدف الدنيء الذي حاول صاحبي أن يقنعني به:
معجزات علمية (27)
قال الرجل: هل أعجبتك الشمس، وهي تنحني مودعة ابنتها الأرض؟
قلت: أجل.. هو منظر يوحي إلي بالكثير.. كل مرة أرى أشياء جديدة.. وأسمع أشياء جديد من همساتها لي، وهمسات ما تراه من جمال.
قال: ألم تهمس إليك هذه المناظر الجميلة الدقيقة المتقنة شيئا عن مبدعها؟
قلت: بلى.. لقد همست لي.. بل جهرت..
قال: ألم تذكر لك عن علم مبدعها ولطفه وخبرته؟
قلت: بلى.. وقد كانت الساعة تحدثني عن هذه المعاني.
قال: لقد سمعتها بحسك الشفاف تنطق بهذا.. ولكن هل غيرك يسمعها، وهي تتحدث؟
قلت: بعضهم يسمع.. والكثير ربما لا يسمع.
قال: ألا يحتاجون تنبيها ينبه أسماعهم إلى سماعها؟
قلت: من أي نوع هذا التنبيه؟
قال: ألا ترى الرسام المبدع الذي ظل الليالي الطوال مع ريشته ولوحاته، كيف يتعامل مع المتفرجين في معرض لوحاته؟
قلت: أجل.. إني أراهم يطوفون عليهم ليروهم ما في لوحاتهم من نواحي الجمال والرمزية التي قد لا ينتبهون لها.
قال: تلك لوحات بسيطة لم تستغرق منهم إلا تحريك فرشاتهم ليرسموا بعض ما حبى الله الطبيعة من جمال، فكيف لا ينبه مبدع الطبيعة المتفرجين على ما فيها من جمال؟
قلت: هو نبههم بما وضع في عقولهم وأذواقهم من حب للجمال.. وما وضع في مداركهم من وسائل للإحساس به.
قال: ولكن الغفلة قد تعتريهم.. أو أن مداركهم قد لا تمتد لبعض ما في الطبيعة من جمال.. فهم يحتاجون لتنيه خاص، كما يحتاج متفرجو اللوحات إلى الرسام المبدع ليوضح لهم أغراضه
معجزات علمية (28)
منها.
قلت: ذلك صحيح.. ولكني لا أرى هذا في الواقع.
قال: يستحيل أن لا يكون ذلك في الواقع.. إن الرب الذي أبدع كل هذا يستحيل أن لا يدل عليه.
قلت: الكتب المقدسة هي كلمات الله إلى عباده.. ولم أر من خلال مطالعتي لها أنها تحتوي على ما قصدت..
نعم.. فيها الذكر العام لخلق الأشياء، ولكن ليس فيها من التفاصيل ما يدل على العليم الخبير الذي تكلم بها.
بل إنا نرى ما في الكتب المقدسة ما قد يتنافى مع الحقائق العلمية التي يعلمها الصبيان، وذلك مما يجعلنا في تشتت بين ما يقتضيه الإيمان من تسليم، وما يقتضيه العقل من احترام.
قال: فما ذكرته ليس كلمات مقدسة إذن.
قلت: فلا توجد كلمات مقدسة في الدنيا إذن.
قال: هل اطلعت على جميع كتب الدنيا لتقول هذا؟.
قلت: في بعض رحلاتي لبلاد المسلمين دب لنفسي شعور خطير بأن كتاب المسلمين المقدس.. القرآن.. هو الكتاب المقدس، وأنه كلام الله الذي تكلم به إلى عباده.. ولكني، وقبل أسبوعين فقط، بدأ هذا الاعتقاد يتلاشى.
قال: وما الذي جعله يتلاشى؟
قلت: لقد سمعت أن في هذا الكتاب ما يدل على ثبات الأرض، وأنها لا تتحرك خلافا لما يقوله العلم.. بل فوق ذلك أخبرت بأن في القرآن الدلالة على أن الشمس تطوف بالأرض كل يوم.. وهذا ما يضحك عليه الصبيان عندنا.
قال: هل قرأت في القرآن كل هذا؟
معجزات علمية (29)
قلت: لم أقرأه بهذه التعابير.. ولكن مفسري المسلمين وعلمائهم ـ وهم أدرى مني بلغة كتابهم ـ ذكروا هذا.
قال: ألا يمكن أن يكون المفسر قد أقحم جهله في كتابه المقدس ليدنسه به؟
قلت: ما تقصد؟
قال: الفهوم السيئة ـ أحيانا كثيرة ـ تحرف مقاصد قائليها.
قلت: ذلك صحيح.
قال: فهل يلام المتكلم، أم يلام الفاهم؟
قلت: في هذه الحالة يلام الفاهم.
قال: لا تتسرع في لوم الفاهم، فربما وجد في نص المتكلم ما يدل على قصده.
قلت: ذلك صحيح أيضا.. وفي هذه الحالة ينبغي أن نلوم المتكلم.. لأنه حمل كلامه من الألفاظ ما يسيء إلى الحقيقة التي يريد التعبير عنها.
قال: أنت الآن في حيرة.. هل تلوم المتكلم، أم تلوم الفاهم؟
قلت: أجل.. فهل اللوم على القرآن.. أم اللوم على مفسريه؟
قال: أنت تحتاج إذن إلى بحث عميق عن الحقيقة التي تخلصك من هذا الإشكال الذي وقع فيه عقلك.
قلت: وعند من أجد الحقيقة؟
قال: عند المخالفين، وعند الموافقين.. عند الأعداء، وعند الأصدقاء.. الحقيقة لا تخفى سواء نطق بها المحبون، أو نطق بها المبغضون.
قلت: أنا الآن سائر إلى مؤتمر إسلامي ربما يسيء إلى الحقيقة القرآنية.
قال: وربما يريك وجهها الحقيقي.
قلت: فهل ترى أن أذهب لأمتلئ بالقناعة التي تبعدني عن القرآن.. كما امتلأت بالقناعات
معجزات علمية (30)
التي أبعدتني عن الكتاب المقدس؟
قال: نعم.. إن وجدت مثل هذه القناعة، واقتنعت بها فعلا، فخذ بها.. اذهب، واعلم بأن البرنامج الذي وضعه الله في عقلك لا يتنافى مع كلام الله الذي توجه به إلى وجدانك، فكلام الله لا يتناقض مع برنامج الله.
قلت ـ وقد هزني السرور ـ: أتعلم.. لقد كنت منذ طلب مني حضور هذا المؤتمر متألما كثيرا، لأني أحسست أي سأقوم بدور يتنافى مع دور رجل الدين.. ولكني الآن شعرت بجمال الدور الذي سأقوم به.. إنه محاولة للتعرف على الحقيقة من مصادرها.
قال: من كل مصادرها.. من كل مصادرها..
قلت: ما تقصد؟
قال: أنت الآن سائر لمصدر من المصادر.. فلذلك لا تغفل عن سائر المصادر.. فقد يفهم الفاهم من الكلام غير ما يقصد المتكلم.
قلت: صدقت.. ولكن المؤتمر من تنظيم جهة واحدة.. فكيف أصل إلى سائر الجهات؟
قال: اذهب.. وسترى الله الذي أبدع تقدير كل شيء.. سيبدع من المقادير ما يريك سائر المصادر.
قال ذلك، ثم انصرف.. ولست أدري أين انصرف.
-\--\-
في اليوم التالي.. وصلت المدينة التي سيقام فيها المؤتمر بصحبة أولئك العلماء الخبراء.. كانت مدينة جميلة مزهوة بكل التقنيات الحديثة..
عندما تسير فيها تشعر بأنك في مدينة غربية متطورة.. لا علاقة لها بمدن الشرق.
تعجبت أن تزهو هذه المدينة بكل هذه التقنيات، ومع ذلك يرضى أصحابها بذلك الجهل الذي يتصورون به الأشياء على غير حقائقها.
معجزات علمية (31)
وتعجبت أكثر من كون هؤلاء يقبلون تقنيات الغرب، ثم لا يقبلون علومه التي أسس عليها تقنياته.
لكني صرفت كل هذا التعجب، وعدت إلى طبيعتي الباحثة.. وقلت لنفسي: لا ينبغي أن يؤثر في طرف من الناس.. ذلك كلام صاحبي الذي دفعه إليه حرصه على دينه.. والواقع قد يكون خلاف ما قال.
سرنا إلى فندق ضخم أعد خصيصا لنا في ضاحية من ضواحي المدينة.. وما وضعت متاعي في غرفتي حتى ضاقت بي نفسي من كل تلك الخرسانات المسلحة التي تحيط بي، فاستأذنت رفاقي، وخرجت إلى منتزه لا يبعد كثيرا عن الفندق.. وعلى عشبه الحنون ارتميت أنظر إلى السماء المزهوة بأحلى ألوان الربيع.. ارتخيت لأسمع من همس جمال الطبيعة ما كنت أسمع قبل مجيئي.
لكن تلك الهمسات قطعت بجهر اثنين كانا يجلسان بجانبي، سمعتهمها يتحدثان عن المؤتمر المزمع انعقاده، كانا يتحدثان بانفعال شديد، فشدني كلامهما.. وهذا هو الحوار الذي تمكنت من سماعه:
قال الأول: لست أدري ما الذي يخطط له هؤلاء الأغبياء.
قال الثاني: لم تنعتهم بالأغبياء.. هم لا يقولون إلا ما أداه إليه اجتهادهم، والمجتهد له أجر، وإن أخطأ..
قال الأول: ولكن خطأهم عميق ومؤثر.. إنهم كمتهم أعطيت له أدلة براءته، فراح يقطعها، ويتهم من أعطاه تلك الأدلة.
قال الثاني: ولكنهم يستدلون لذلك بأدلة غاية في القوة:
إنهم ينقلون عن أبي اسحق الشاطبي (ت 790 هـ) قوله في كتابه الخطير (الموافقات): (إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين، أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون،
معجزات علمية (32)
من أهل الفنون، وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح.. } (1)
ثم يذكر أخطر دليل، فيقول: (وإضافة إلى هذا فإن السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن، وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شئ من هذا المدعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض، ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشئ، مما زعموا)
بل إن الشاطبي يرى فوق ذلك كله أن المعاني، التي لا عهد للعرب بها، غير معتبرة فيقول: (وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:8)، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38)، ونحو ذلك.. فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين: ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع تلك العلوم، النقلية، والعقلية.. فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه، إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه} (2)
قال الأول: ربما يكون الشاطبي قد قصد من كلامه غير ما فهموه.. ربما يكون قد رأى ثلة من الناس تؤول القرآن ليتوافق مع الخرافات التي نشرها العقل اليوناني أو الهندي.. فراح يحذر من ذلك.. ويأمرهم بالعودة إلى ظواهر اللغة كما فهمها العرب.. هو لا يقصد ما يفعله هؤلاء
__________
(1) الموافقات: 2/ 55 - 56.
(2) الموافقات: 2/ 55 - 56.
معجزات علمية (33)
الذين يجردون القرآن من أهم مزاياه.
قال الثاني: إن كلام الشاطبي واضح.. وهو لا يتعلق بعصر دون عصر.. إنه يضع القواعد التي تحمي القرآن من كل تحرف.
قال الأول: وهو سيبقى كلاما للشاطبي.. والشاطبي بشر.. وهو فوق ذلك يتحدث بناء عن ثقافة عصره.. والتي تبعد عنا القرون الطوال.
قال الثاني: هم ينقلون عن المعاصرين الذين رأوا العلوم في قمة عنفوانها.. فهذا محمد حسين الذهبي، وهو من المعاصرين يبرهن على إنكاره للتفسير العلمي للقرآن من جهات متعددة: من الناحية اللغوية.. ومن الناحية البلاغية.. ومن الناحية الاعتقادية:
أما الناحية اللغوية، فهي: أن كثيرا من الألفاظ القرآنية تغيرت وتوسعت دلالاتها بمرور الزمان.. وهذه المعاني كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به، وقت نزول القرآن، نظراً لحدوثه، وطروئه، على اللفظ، فهل يعقل أن نتوسع هذا التوسع العجيب، في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان، وجدت باصطلاح حادث؟
وأما الناحية البلاغية.. والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال.. فإن التفسير العلمي للقرآن يضر ببلاغة القرآن، لأن من خوطبوا بالقرآن في وقت نزوله: إن كانوا يجهلون هذه المعاني، وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب؟ وإن كانوا يعرفون هذه المعاني، فلم لم تظهر نهضة العرب العلمية، من لدن نزول القرآن، الذي حوى علوم الأولين والآخرين؟
وأما الناحية الاعتقادية.. فقد أنزل الله القرآن إلى الناس كافة حتى قيام الساعة، ولو ذهبنا مذهب من يحمل القرآن كل شئ، وجعلناه مصدراً للعلوم، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم، وذلك لأن قواعد العلوم، وما تقوم عليه من نظريات لا قرار لها ولا بقاء. ولو ذهبنا إلى تقصيد القرآن، ما لم يقصد، من نظريات، ثم ظهر بطلان هذه النظريات
معجزات علمية (34)
فسوف يتزلزل اعتقاد المسلمين في القرآن الكريم. لأنه لا يجوز للقرآن أن يكذب اليوم، ما صححه بالأمس (1).
ولكنه مع هذا يرى أن في القرآن إعجازا علميا هو في عدم مخالفته ما يذكره المعاصرون من علوم.. لقد قال في هذا: (وحسبهم أن لا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة) أليس كون القرآن لا يصادم حقائق علمية ثابتة معجزة علمية؟)
قال الأول: كل ما ذكرته أقوال اجتهادية، وفهوم بشرية، قد تحترم، وقد لا تحترم، وأنا شخصيا لا أحترمها، ولا أظن أن عاقلا يرى احترامها.
قال الثاني: كف عن غلوك وتطرفك.. كيف تقول هذا عن كلام علماء أعلام لهم جاههم وخدماتهم الكبيرة للدين!؟
قال الأول: أنا لا أنكر خدماتهم، ولكني أنكر سوء فهمهم.. وأنكر احتكارهم للقرآن.. هم يريدون منا أن نتعامل مع القرآن الكريم كما نتعامل مع المعلقات السبع..
هم ـ من حيث لا يشعرون ـ يجعلون الله كأولئك الشعراء الذين ضاقت بهم أجواء البيئة العربية، فراحوا ينفسون عن أنفسهم بالأشعار.. فلم تخرج أشعارهم عن بيئتهم.
البيئة العربية ـ يا صاحبي ـ أضيق من أن تحتوي الحقائق التي نطق بها كتاب الله الذي جاء رسالة للبشرية جميعا، وفي بيئاتها جميعا، وفي أزمنتها جميعا.
وقد كان من إعجاز القرآن أنه حوى الحقائق من غير أن يصادم القدرات العقلية للبيئة التي نزل فيها، وللعصور التي سبقت عصرنا.
إن هذا من دلائل الإعجاز.. لا من دلائل صرف الإعجاز، كما يدعي المقيدون بالقيود التي وضعتها عقول أسلافهم.
قال الثاني: ولكن الخوض في مثل هذا سيصرف الناس عن هداية القرآن ليحوله إلى كتاب
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي.
معجزات علمية (35)
علوم، لا كتاب هداية.
قال الأول: هو لن يكون كتاب هداية حتى يكون كتاب علوم.. الهداية ـ يا صاحبي ـ فرع عن العلم.. والجاهل لن يهديك إلا إلى جهله.
قال الثاني: العلوم مختلفة.. والعلوم التي جاء القرآن لتقريرها هي علوم الحقائق الأزلية، والوظائف التي كلف الله بها الإنسان.
قال الأول: أليس الله هو مبدع كل شيء؟
قال الثاني: أجل.. وهل في ذلك شك؟
قال الأول: فهل ترى أن الله الذي أبرز دلائل علمه في مكوناته لا يبرزها في كلامه؟
قال الثاني: هو يبرزها بما لا يصطدم مع البيئات المختلفة.. والعصور المتناقضة.
قال الأول: ذلك عندما يكون المتكلم هو نحن، أو شعراؤنا وبلغاؤنا.. أما عندما يكون المتكلم هو الله، فإن اللغة التي سيكتسي بها كلامه ستحمل من المعاني ما لا تختفي معه الحقائق، وما لا تتناقض معه العصور.
سكت قليلا، ثم قال: أليس القرآن الكريم معجزة ممتدة لكل العصور؟
قال الثاني: بلى..
قال الأول: وهي شاملة لكل أصناف الناس؟
قال الثاني: نعم.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً، أو حاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) (1)
وقد قال ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: (ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه، وفي بلاغته، وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار، إلا ويظهر
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
معجزات علمية (36)
فيه شئ مما أخبر به أنه سيكون؛ يدل على صحة دعواه... فعم نفعه من حضر، ومن غاب، ومن وجد، ومن سيوجد) (1)
قال الأول: صدق ابن حجر.. ولكن هل ترى النصوص التي تخبر عن إعجاز القرآن تخص ذلك بالبلاغة أو النظم أو التنبؤ بالأمور الغيبية.. أم أنها تطلق التحدي إطلاقا؟
قال الثاني: بل تطلقه إطلاقا.. فالله تعالى يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23)
قال الأول: فهو يتحداهم بسورة من مثله من غير أن يبين لهم أسرار الإعجاز التي تحتويها تلك السورة.
قال الثاني: ولكن هذا قد يفهم من سياق الكلام.. فالقرآن يتحدى البلغاء الفصحاء.. وهذا يعني أنه يتحداهم في ميدانهم.
قال الأول: فأنت ترى أن هذه الآية كانت خاصة بعصر النبوة، أو أنها كانت خاصة ببلاد العرب، ولا علاقة لها بسائر الأقطار، وسائر الأزمنة؟
قال الثاني: بل لها علاقة بكل ذلك.. فالقرآن الكريم كتاب كل العصور.
قال الأول: فكيف نثبت لهم أنه من عند الله؟
قال الثاني: بإخبارهم عن عجز الذين تحداهم من جهة، أو أن نعرض عليهم نفس التحدي من جهة أخرى.
قال الأول: نحن إلى الآن لم نتفق في محل الإعجاز.. فأنت تراه محدودا غير مطاق، وأنا أراه مطلقا غير مطاق.. ولكن رؤيتي أعمق من رؤيتك، ورؤية من يرى رؤيتك.
قال الثاني: كيف ذلك؟
قال الأول: أرأيت لو أن دولة كان لها أسلحة متطورة كثيرة لم تكشف عنها لأعدائها، فلم
__________
(1) فتح الباري لابن حجر: 9/ 7.
معجزات علمية (37)
يعرفوا أسرارها، ولا أنواعها، ولا أنواع القوة التي تحملها، فلذا كلما قدم أعداؤها سلاحا، كلما وجدوا عندها من الأسلحة ما يفوق ذلك السلاح.
أذلك خير أم دولة ليس لها من السلاح إلا ما تسلح به سلفها، وليس لها من القوة إلا ما ورثته، فأيهما أقوى قوة؟
قال الثاني: لا شك أنها الدولة الأولى.
قال الأول: فهكذا الأمر في القرآن الكريم بين من يقول بإطلاق الإعجاز فيه، وبين من يقول بتحديده.
من يقول بإطلاقه يجعل القرآن الكريم كلام الله كنزا من كنوز العجائب والمعجزات، ومن يقول بمحدوديته لا يراه إلا كما يراه ذلك البدوي البسيط.. يراه من خلاله عنزاته وناقته وخيمته.
قال الثاني: أنت تتحدث بالعقل.. والعقل لا يكفي وحده في هذا المجال.
قال الأول: ليس عقلي وحده الذي يتحدث.. إن القرآن يتحدث عن هذا.. إن الله تعالى يعد البشرية بأنه سيريها في مستقبل أيامها من الآيات في الآفاق والأنفس ما يرون به الحقائق رأي العين.. اسمع لهاتين الآيتين الكريمتين اللتين تتنبآن بهذه الحقيقة العظيمة، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} (فصلت)
إن هذه الآية الكريمة لا تتحدث فقط عن معجزات الآفاق والأنفس الدالة على الله، بل هي تتحدث أيضا ـ بحسب ما يدل السياق ـ على معجزات الله في الآفاق والأنفس الدالة على القرآن الكريم، وعلى صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. اقرأ الآية السابقة لها لتدرك ذلك قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (فصلت:52)
ليست هذه الآية فقط هي التي تعد البشرية بهذه الحقائق التي ينطوي عليها القرآن الكريم، اسمع لهذه الآيات: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}
معجزات علمية (38)
لقد قال الفراء (توفي عام 207 هـ)، وهو العالم اللغوي الجيل في تفسير الحين الذي ذكرته الآية: (بعد الموت وقبله، أي لتظهر لكم حقيقةما أقول (بعد حين) أي في المستأنف)
بل قال ابن جرير الطبري، وهو الإمام الكبير في التفسير، بعد ذكر الأقوال المتعددة، في تفسير الحين الذي ذكرته الآية: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين، من غير حد منه لذلك الحين بحد، ولا حد عند العرب للحين لا يجاوز ولا يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت) (1)
وفوق ذلك.. ألست ترى القرآن الكريم كلام الله المعرف بالله والدال على الله؟
قال الثاني: أجل.. وهل أنت في شك من ذلك؟
قال الأول: ألم يقل سلفنا الصالح: (إن الله تجلى لعباده في كتابه ليعرفوه)؟
قال الثاني: أجل.. لقد قالوا ذلك.. وصدقوا في ذلك.
قال الأول: ألا تتجلى رحمة الله بعباده في القرآن الكريم؟
قال الثاني: بلى.. بل تتجلى بأعمق صورها.. فالله يقول لعباده بكل رحمة ولطف: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)
وهو من رحمته بهم يأمرهم بأن يسألوه، ويعدهم بأن يجيبهم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)
بل هو يخبر عباده عن رحمته ليملأوا نفوسهم بها: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر:49)
ولو ظللت أقرأ عليك الآيات الدالة على الرحمن الرحيم ما انتهيت.
__________
(1) تفسير الطبري.
معجزات علمية (39)
قال الأول: وهل تتجلى حكمة الله في القرآن الكريم؟
قال الثاني: أجل.. وبنفس ما تتجلى به رحمة الله.. فالله الحكيم هو الذي شرع الشرائع التي تمتلئ بالحكمة.. وهو الذي وضع القوانين التي لا تنطق إلا بالحكمة.
قال الأول: لقد أخبر الله بأنه عليم.. بل أخبر بأن علمه وسع كل شيء، فقال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (طه:98)، وقال على لسان خليله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (الأنعام: 80)
قال الثاني: أجل.. القرآن أخبر بذلك.. بل أخبر أن القرآن الكريم أنزل بعلم الله، فقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء:166)، وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هود:14)
قال الأول: إن هاتين الآيتين الكريمتين هما الحكم بيننا، وبين الذين ينكرون أن يودع الله في كتابه أسرار العلوم التي لم يفطن لها غير المتأخرين.
قال الثاني: لا أرى في الآيتين أي دلالة.. فالقرآن كتاب هداية، لا كتاب علم.
قال الأول: أنا أوافقك في الشق الأول من أن القرآن كتاب هداية.. ولا أوافقك على الشق الثاني.. بل القرآن كتاب علم لأنه من عند الله العليم الخبير.
أجبني.. هل ورد في القرآن الكريم ذكر عدد ركعات الصلاة، أو مواقيتها، أو ما يفعل فيها؟
قال الثاني: لم يذكر كل ذلك.. بل ذكرته السنة.
قال الأول: وهل ذكر في القرآن الكريم تفاصيل الحديث عن الرياح والأمطار والسحب والجبال والسماء والأرض؟
قال الثاني: أجل.. لقد تحدث القرآن كثيرا عن ذلك..
قال الأول: بل القرآن يمتلئ بذلك.. القرآن يلي عناية كبرى لمخلوقات الله لأنه كلام الله
معجزات علمية (40)
الذي ينبه عباده إلى أسرار صنعته، كما ينبه الرسام المبدع المتفرجين على جمال لوحاته.
هزني هذا الكلام، وتذكرت ما قاله لي الرجل، فنهضت، واقتربت منهما، وقلت: هل تأذنان لي في الجلوس إليكما؟
قال الأول: اجلس..
ثم التفت إلى صاحبه، وقال: هذا أخي وصديقي حذيفة، وأنا أخوك علي، جلسنا هنا نتحدث عن هذا المؤتمر الذي أزمع بعض قومنا عقده.
قلت: وأنا أخوكم (....) من ألمانيا، أنا مسيحي، وقد جئت لحضور هذا المؤتمر.
حذيفة: عجبا.. ما الذي جعلهم يخصونك بالدعوة مع أن هذا الموضوع خاص بالمسلمين.
علي: ليس هناك موضوع خاص بالمسلمين، أو خاص بغيرهم.. الحقائق ملك الجميع.. والقرآن كتاب الجميع.. ولا ينبغي لأحد من الناس أن يحتكره.. ألم يقل القرآن: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)؟
لقد أمرنا الله في هذه الآية بأن نوفر الجو المناسب لكل الناس ليسمعوا القرآن، ثم نتركهم لقناعاتهم.
بل إن الآية تقدم بعض الأعذار للمشركين، فهي تعتبر شركهم بسبب أنهم لا يعلمون، فلذلك إذا ما علموا وعلموا زال عذرهم، وأقيمت الحجة عليهم.
بل إن الله تعالى دعا إلى الجهاد بكتابه، فقال: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان:52)
حذيفة: ولكن ألا ترى أن هناك بعض الاعوجاج في هذا؟
علي: أي اعوجاج؟
حذيفة: أنت العالم الخبير صاحب الشهادات العلمية الكثيرة لا يؤذن لك في مجرد الحضور
معجزات علمية (41)
مع كونك من أهل هذا البلد، بينما يستدعى هذا الألماني من بلده.
علي: ذلك شيء آخر.. نعم هم قصروا في حقي، لكنهم لم يقصروا في حقه.
التفت إلي، وقال: اعذرني.. فأنا وأخي هذا دائما هكذا.. لا أقول شيئا إلا ذكر ما يخالفني فيه.. خوفا علي من الأهواء.
ولا عجب في ذلك، فهو من نسل الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان.. لعلك لا تعرفه.. لقد كان هذا الصحابي شديد الحرص على الدين، فلذلك كان يغلب سد الذرائع.. وفي الوقت الذي كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير كان هو بدل ذلك يسأله عن الشر مخافة أن يدركه، وقد نال لذلك شرف أن يصير أمين سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
حذيفة: ولا عجب في أن يكون أخي علي من نسل علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان محبا للعلم.. بل أثر في خطبه الكثيرة الحديث عن السماء والأرض وبديع الصنعة الإلهية.. ولذلك فإن عليا يجمع بين العلمين.. علوم الكتاب، وعلوم الكون.
علي: بل قل: علوم الكتاب، وعلوم تأويل الكتاب.. فلا أرى علوم الكون إلا تأويلا للكتاب.. ولا أرى كل هذه المجلدت والموسوعات والمخابر إلا حروفا تفسر كلام ربنا، وتقربه إلينا.
حذيفة: اعذرنا.. فنحن دائما هكذا..
قلت: ولكني مع ذلك أراكما متحابين متصافيين.
علي: لأنا صادقين فيما ندافع عنه.. كل واحد منا يمثل اتجاها، ولكنا في الأخير نلتقي على هدف واحد.
قلت: أأنت متأثر لعدم الإذن لك بالحضور؟
علي: لا يمكنني أن أكذب، فأزعم بأني لست متأثرا لعدم حضوري.. لأني لا أرضى بالقمع مهما كان نوعه سياسيا، أو فكريا..
معجزات علمية (42)
لو لم يكن لدي علاقة بموضوع المؤتمر ما كنت مباليا، ولكن المؤتمر يصب في صلب اختصاصي.
لكن لا بأس.. فإن لم أحضر أنا، فسيحضر أخي.
قلت: لا عليك.. لقد قدمت بأجهزة متطورة ستسجل كل ما يذاع في المؤتمر، وسأستقبلك في غرفتي لتسمع كل ما يقال.
قال: أنا لا يعنيني مما يقال إلا شيء واحد هو المحاضرة العلمية التي تقدم في نهاية كل جلسة.. أما ما عدا ذلك من محاضرات، فلست متأسفا لعدم حضورها، فلدي من المراجع ما يكفي لذلك..
زيادة على أن أكثر تلك المحاضرات أو كلها كرر سابقا.. ليس هناك جديد ـ يا صاحبي ـ ما عدا ذلك الجديد الذي قدم به الخبراء من بلادهم البعيدة.
قلت: إذا كان الأمر كذلك.. فتعال عندي كل مساء، وسأسمعك ما تشاء من محاضرات.
قال: أشكرك على هذا الكرم الجزيل.. وأنا لم أتألم لعدم سماع المحاضرات فقط.. فهي مع أهميتها لا يضرني عدم سماعها.. زيادة على أن أخي سينقل لي بالتفصيل كل ما يقال.. ولكني متألم لأني ممنوع من مجرد الدخول إلى الفندق الذي يأوي إليه المحاضرون.
قلت: لم كل ذلك التشدد؟
قال: لقد خشوا أن أتصل بالمحاضرين، فأفسد أفكارهم التي جاءوا لطرحها.
قلت: فأنت ترغب في الالتقاء بالمحاضرين إذن؟
قال: بالمحاضرين من الخبراء فقط.. أما من عداهم، فأنا أسمعهم في كل حين، وأناقشهم كل حين.
احترت بيني وبين نفسي، هل أتركهم يسمعون هذا الرجل، فأخون ما ائتمنت عليه، وأفرط فيما كلفت فيه.. أو أطيع المبادئ التي أؤمن بها، والتي تجعلني محتكرا لعقلي لا أسمع لسواه.
معجزات علمية (43)
نازعني عقلي إلى الثاني، لكني خشيت أن يذكر هؤلاء الخبراء للمسؤولين ما فعلت بهم، فأفصل عن كل ذلك العز الذي أتنعم به، وتسلب مني كل تلك الثروة التي وضعت تحت يدي.
لكن عقلي عاد، فاحتال لي حيلة ترضيه، وترضي رغبات نفسي ورهباتها.
قلت: هؤلاء المحاضرون من بلادي.. وهم أساتذة بجامعاتنا.. ولدي علاقة طيبة بهم.. ويمكنني أن أحتال لك ليسمعوك أو تسمع منهم.. ولكن بشرط واحد.
قال: كل شروطك مجابة.. المهم أن تمكنني من الحوار معهم.
قلت: سأفعل ذلك.. ولكن لابد أن تظهر بمظهر لا يوحي بعلاقتك بي، ولا أن ما يحصل مدبر بيننا.
قال: ذلك علي.. أنا لا أطلب منك إلا شيئا واحدا هو أن تعلمني بالمكان الذي يذهبون إليه كل مساء بعد الانتهاء من المحاضرات.. وأنا سأحتال للتحدث إليهم بما أريد.
قلت: وأنا سأوفر لك من الجو ما تستطيع أن تتكلم فيه بكل صراحة عما تريد.. ولكن حاول أن تغير مظهرك كل مرة حتى لا يفطن لك.
قال: ذلك علي..
-\--\-
هذه هي مقدمة رحلتي هذه..
وقد جرت الأمور كما خططت، كنت أخرج كل يوم من أيام المؤتمر العشرة إلى محل من المحال، أو مركز من المراكز، أو منتزه من المنتزهات، وهناك ألتقي بصاحبي علي.. وهو يرتدي كل مرة حلة جديدة، أنا نفسي لا أكاد أفطن لها.
وقد قدم لنا صاحبه ـ حذيفة ـ كل الخدمات مع الخلاف الذي كان بينهما، لقد كان واسطة بيني وبينه، كان يحضر معنا لقاءاتنا، ويتدخل أحيانا إذا ما وجد فرصة للتدخل.
وقد وفى علي بما وعدني، فلم يفطن أحد من الخبراء بما أعددنا له، وإن كان العجب قد أخذ
معجزات علمية (44)
منهم كل مأخذ بعد أن رأوا أنهم في أمسية كل يوم من الأيام العشرة يصادفون من يناقشهم في نفس الموضوع.
أما في نهاية المؤتمر.. وفي اليوم الذي يجتمع فيه الجميع ليقدموا خلاصة أبحاثهم، فقد حصل عجب عجاب..
قلت: ما الذي حصل؟
قال: دعنا نبدأ الحكاية من أولها..
معجزات علمية (45)
في اليوم الأول.. بدأ المؤتمر باحتفال رسمي شارك فيه سلطات البلدة المحليين، بالإضافة إلى الوجهاء فيها، وخلالها قدم بعض المشايخ دروسا عن اهتمام القرآن الكريم بآيات الله في الآفاق والأنفس.. وكانت محاضرات رائعة لولا ما امتلأت به من أسانيد ونقول عن المفسرين المختلفين، جعلت أكثر كلامهم إطنابا لا حاجة له بالنسبة لي.. وإن كان الكثير استساغ ذلك الأسلوب.
بعدها قدم صاحبي الفلكي محاضرته.. وكانت محاضرة علمية بحتة.. لكنها جافة غاية الجفاف.. ولم أجد لها أي صلة بالقرآن.. فكل ما ذكره هو حديثه عن عظمة الكون وسعته وكثرة أجرامه.. وقد ضم كلامه أرقاما كثيرة لم أر الكثير يهتم لها، ولا بها.
كان يتحدث عن الكون، وكأنه يتحدث عن مصنع مهجور لا صاحب له.. يتحدث عن آلاته وعماله من غير أن يبرز أي صلة تجمع بين هذه المكونات جميعا.
كانت معلومات صاحبي ضخمة.. ولكنها مشوشة لعدم الرابط الذي يربط بين محتوياتها.
وقد أحسست بذلك التشويش على سمات وجهه..
لقد كان الرجل ملحدا في الحقيقة.. ولم تكن له من صلة بالكنيسة غير صلة الانتماء الوراثي.. وقد جره إلى الإلحاد ـ على حسب ما ذكر لي ـ سببان:
الأول: هو ما احتواه الكتاب المقدس من أمور تعتبر أخطاء في الموازين العلمية.. لقد قرأ علي في أول لقاء لي معه ما جاء في التوراة من شرح لأحداث أيام الخلق، ثم قال بكل حسرة: إن هذا النص الطويل هو السبب فيما حصل لي من ابتعاد عن الله، أنا أشعر بالله.. وأشعر أنه يستحيل أن ينبني هذا الكون من غير أن يكون له صانع يصنعه ويبدعه.. ولكني في نفس الوقت أشعر بأن الإله الذي قال هذا الكلام إله لا يستحق أي احترام.. لأنه يجهل أبسط المبادئ العلمية..
إن هذا النص القصير بموازين ما ورد في الكتاب المقدس من نصوص مطولة عن الأنساب
معجزات علمية (46)
والمطاعم والمشارب (1) يحوي أخطاء كثيرة جدا لا يمكن أن تغتفر (2):
لقد ذكر هذا النص أنه في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار، وفي اليوم الثاني خلق الله السماء، وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات، وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم، وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء، وفي اليوم السادس خلق الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان (3).
كل هذه المخلوقات موجودة.. ولا جدل في وجودها.. ولكن الجدل في الترتيب الذي رتبت به.. إنها كمن يرتب أحداث التاريخ، فيجعل عصرنا قبل العصور الوسطى، بل كمن يجعل عصرنا مقدمة للعصور الحجرية..
ألا ترى كيف يقدم خلق الليل والنهار على خلق الشمس مع أن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس.. بل إن النص ذاته أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال: (لِتَكُنْ
__________
(1) انظر فصل (الحق) من (الكلمات المقدسة)
(2) طبعا.. فإن هذا النقد الموجه هنا للتوراة ليس للتوراة التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام -، وإنما هو نقد للتوراة المحرفة، وإبراز للتحريف الذي نص القرآن الكريم على حصوله لها.
أما التوراة الحقيقية فقد ورد في فضلها النصوص الكثيرة كقوله تعالى: {) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة: من الآية 44)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة:66) انظر تفاصيل ذلك في (الكلمات المقدسة)
(3) ولا يصح ما روي من تأييد ذلك في كتب الحديث، من مثل حديث أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله (بيدي فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل) (تفسير ابن أبي حاتم (1/ 103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010)
وقد قال ابن كثير في هذا الحديث: (وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 215، وأنظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص 276)
معجزات علمية (47)
أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ)
ليس ذلك فقط.. وإن كان ذلك كافيا.. فالأخطاء لا تزال تتسلسل كما تتسلسل إجابة طالب بليد اختلطت عليه دروسه:
لقد ذكر ذلك النص تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.
ومن أشنع الأخطاء أن كاتب هذا النص الذي زعم لنفسه الإلهام افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.
ومن أشنعها ما ذكره من أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول.. وهذا ما لا يقبله العقل، فلا يمكن أن توجد الأرض بدون الشمس.
ومن أشنعها أن هذا النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية (فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.. ومثل ذلك اختلط عليه الأمر في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء.. حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء، وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض.. اسمع ما تقول التوراة: (وَقَالَ اللهُ: (لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ) فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا)
لم أجد حينها بما أجيبه، ولم أجد إلى الآن ما يمكن أن يجاب عن هذا..
لقد صارحني الرجل في خلوة بيني وبينه بما يعانيه من تشويش بسبب هذا النص الذي
معجزات علمية (48)
تكلف فيه كاتبه كل هذا التكلف.. وكأنه أراد أن يحطم الكتاب المقدس من أول إطلالة عليه (1).. أو كأنه أراد أن يصرف العلماء عن النظر في الكتاب المقدس، ليخلو الجو بعدها للأحبار والرهبان.
هذا هو السبب الأول..
أما الثاني فتاريخي يرجع إلى سلوك الكنيسة مع رجال العلم الذين تبنوا نظريات علمية تتناقض مع ما تبنته الكنيسة من معارف:
لقد ذكر لي بكل ألم ما حصل للمجتمع المسيحي بعد تسلط رجال الكنيسة عليه، وكان من أعظم أخطائهم ما دسوه في كتبهم من معلومات بشرية ومسلمات ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس، وذكره شراح الكتاب المقدس ومفسريه من معلومات، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية (Christian Topography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها (2).
لقد ذكر لي بكل ألم ما فعل رجال الدين عندما انفجر بركان العقلية في أوربا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات العلمية التي اشتملت عليها هذه الكتب، وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم، فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي.
__________
(1) من المعلوم أن ذلك الإصحاح هو أول ما يبدأ به الكتاب المقدس.
(2) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي.
معجزات علمية (49)
لقد قدر المؤرخون من عاقبت هذه المحاكم بهذه الأسباب وغيرها، فبلغ عددهم ثلثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء، كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وذلك ما حصل (1).
كان هذان السببان هما الأصلان اللذان اعتمدت عليهما العقيدة الإلحادية التي لجأ إليها صاحبي الفلكي.. لجأ إليها مكرها لا مختارا.
ولكني مع ذلك كنت أشعر أنه ـ في قرارة نفسه ـ يؤمن بالله، بل يحن للتعرف عليه والاتصال به.. ولولا اصطدامه بما في الكتاب المقدس، وبما مارسته الكنيسة لكان من أول المسارعين له، المؤمنين به.
بعد انتهاء المحاضرات أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنسير إلى مرصد فلكي موجود على جبل من جبال تلك المدينة، وأخبرته عن حال صديقي النفسية وموقفه من الدين، والتي ذكرتها لك، ونبهته إلى ما شرطته عليه.
وفي ذلك المساء امتطيت مع أصدقائي الخبراء سيارة خاصة حملتنا إلى ذلك المرصد، وكنا نقصد منه أن نستفيد من معلومات صديقنا الفلكي.
دخلنا قاعة المرصد المجهزة بأحدث الأجهزة.. كان هناك خلق كثير في القاعة، وفي المرصد جميعا، لكني لم أر من بينهم عليا، ولا حذيفة.. حتى خاب ظني في حضورهما.
لست أدري لماذا شعرت بأسف على عدم حضورهما..
لكني مع ذلك حاولت أن أستفيد من خبرة صديقي الفلكي، فرحت أسأله عن تلك الأرقام
__________
(1) انظر: المرجع السابق، وانظر تفاصيل وافية عن هذا في (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.
معجزات علمية (50)
التي ذكرها، فقال: لقد كنت أشرح نظرية هي من أحدث النظريات العلمية.. هي نظرية الانفجار العظيم.. أو (Big Bang} (1)
قلت: وما الانفجار العظيم؟.. ما (Big Bang)؟
قال: الانفجار العظيم.. أو الضربة الكبرى.. أو (Big bang) هي التعبير المعاصر عن حادثة بداية الكون.
قلت: ما معنى ذلك؟
قال: سأبدأ لك من الأول..
لقد كانت البشرية منذ أطوارها الأولى تتساءل عن بداية الكون، وعن كيفية حصول ذلك.. وكيف كان شكله حين بدأ؟ ومتى بدأ؟ وإلى أين يسير؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الإنسان منذ القديم، ولكنه أجاب عنها إجابات خاطئة كثيرة.. بل لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة، ما عدا الإجابة التي جاء بها العلم الحديث بأجهزته المتطورة.. وذلك منذ بداية القرن العشرين.
فمنذ نصف قرن تقريباً بدأ العلماء يرصدون الأمواج الكهرطيسية القادمة إلى الأرض، وقاموا بتحليل هذه الأمواج، وتبين أنها تعود لآلاف الملايين من السنين.
ومعظم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة أجمعوا على أن هذا النوع من الأشعة ناتج عن بقايا انفجار عظيم.. كان ذلك الانفجار هو بداية نشوء الكون وتوسُّعه.. لقد اكتشفوا أن الكون كله قد بدأ من نقطة واحدة.
__________
(1) انظر حقيقة هذه النظرية وأدلتها وعلاقتها بالقرآن الكريم في:
1. إنهم يرون فَتْق الرّتق حقا.. أفلا يؤمنون، بقلم: د. حسنى حمدان، أستاذ الجيولوجيا المساعد-جامعة المنصورة، عضو المجلس الأعلى للسئون الإسلامية، من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
2. خلق الكون من العدم والانفجار الكوني الكبير، بقلم الكاتب التركي هارون يحيى.
3. الانفجار الكبير بين العلم والقرآن، بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل.
معجزات علمية (51)
قلت: وكيف عرفوا ذلك.. هل هو مجرد استنتاج منطقي؟
قال: أولا.. هذا شيء منطقي في الأصل، فبما أن الكون اليوم يتوسع باستمرار، فلا بد أن حجمه كان أصغر حتى نعود لنقطة البداية.. ومن هنا برزت للوجود نظرية الانفجار العظيم التي تفسِّر نشوء الكون من كتلة ذات وزن عظيم جداً، انفجرت وشكلت هذه المجرات، ولا يزال الانفجار مستمراً حتى يومنا هذا.
قلت: ولكن لم لا نقول بأن الكون وجد هكذا، ثم أخذ في التوسع.. أليس هذا احتمالا ممكنا؟
قال: ما ذكرته لك هو الحقيقة العلمية التي أجمع عليها جميع الفلكيين بناء على أدلة كثيرة لا يمكن حصرها.. سأذكر لك منها ما قد يقنعك.
حاولت أن أجمع كل تركيزي في صديقي الفلكي الذي راح يذكر الأدلة على حصول الانفجار العظيم في بداية تشكل الكون.
قال: من أهم الأدلة على صحة نظرية الضربة الكونية الكبرى (Big bang) لنشأة الكون اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك.
فقد اكتشفت هذه الأشعة على هيئة إشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص، قادمة من كافة الاتجاهات في السماء، وفي كل الأوقات دون أدني توقف أو تغير.
ولم يتمكن العلماء من تفسير تلك الإشارات الراديوية، المنتظمة، السوية الخواص إلا بأنها بقية للإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم، وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة.
وانطلاقا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني، وقضاء مبرم على نظرية ثبات الكون واستقراره.
التفت إلي الفلكي، وقال: هل أقنعك هذا الدليل؟
قلت: هو دليل.. ولكن هذه مجرد ملاحظات فلكية ونظرية.. أريد دليلا ملموسا.
معجزات علمية (52)
ابتسم الفلكي، وقال: أنت مثلي.. لا يقنعك إلا الملموس..
نعم هناك ما يمكن أن يسمى ملموسا.. في سنة 1989 م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا (NASA) مركبة فضائية لدراسة الخلفية الإشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر حول الأرض، وقد قاست تلك المركبة درجة الخلفية الإشعاعية للكون وقدرتها بأقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة.
وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم، وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة بعد ذلك.
ومثل ذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون.. أي على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية.. وأثبتت هذه الصور أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق السماوات والأرض.
قلت: هذه أدلة قوية جدا..
قال: سأزيدك أدلة أخرى تنفي عنك كل شبهة.. هناك ما يسمى عملية الاندماج النووي وتأصل العناصر.. وهذه العملية زادت من تأكيد هذه الحقيقة العلمية.
قلت: ما ذا تعني هذه العملية؟
قال: بهذه العملية يحدث ما نراه من إشعاعات في الشمس والنجوم..
قلت: ماذا تعني بالضبط، وما وجه دلالتها؟
قال: تتم عملية الاندماج النووي داخل الشمس، داخل جميع نجوم السماء بين نوى ذرات الإيدروجين لتكوين نوى ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة، وقد أدت هذه الملاحظة إلى
معجزات علمية (53)
الاستنتاج الصحيح بتأصيل العناصر.
قلت: ما معنى هذا أيضا؟
قال: تأصيل العناصر يعني أن جميع العناصر المعروفة لنا، والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر، قد تخلقت كلها في الأصل من غاز الإيدروجين بعملية الاندماج النووي.
فإذا تحول لب النجم المستعر إلى حديد انفجر النجم وتناثرت أشلاؤه في صفحة السماء حيث يمكن لنوى الحديد تلقي اللبنات الأساسية للمادة من صفحة السماء فتتخلق العناصر الأعلى في وزنها الذري من الحديد.
وقد جمعت هذه الملاحظات الدقيقة من جزيئات الجسيمات الأولية للمادة، وعلم الكون، وأيدت نظرية الانفجار العظيم التي بدأت بتخلق المادة وأضدادها مع اتساع الكون وتخلق كل من المكان والزمان، ثم تخلق نوى كل من الإيدروجين والهيليوم والليثيوم، ثم تخلق بقية العناصر المعروفة لنا.
ولذا يعتقد الفلكيون في أن تخلق تلك العناصر قد تم على مرحلتين: نتج في المرحلة الأولى منهما العناصر الخفيفة.. وفي المرحلة الثانية العناصر الثقيلة.
قلت: وما دلالة هذا على الانفجار العظيم؟
قال: لقد رأى العلماء في التدرج في تخليق العناصر المختلفة بعملية الاندماج النووي ـ في داخل النجوم أو أثناء انفجارها على هيئة فوق المستعرات ـ صورة مبسطة لعملية الخلق الأول.
وهذا يدعم نظرية الانفجار العظيم، ويعين الإنسان على فهم آلياتها.
قلت: وهل تأكدوا حقيقة من هذه النظريات؟
قال: أجل.. فالحسابات النظرية لتخليق العناصر بعملية الاندماج النووي تدعمها التجارب المختبرية على معدلات تفاعل الجسيمات الأولية للمادة مع نوى بعض العناصر.
التفت الفلكي إلي، وقال: أرى أن كل هذه الأدلة تكفي لإقناعك بنظرية الانفجار الكوني
معجزات علمية (54)
العظيم.. أم تريد غيرها من الأدلة..
قلت: تكفيني هذه الأدلة.
الفلكي: إن هذه الأدلة هي التي جعلت هذه النظرية أكثر النظريات المفسرة لنشأة الكون قبولاً في الأوساط العلمية اليوم.
ما وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا صوت رقيقا يقرأ قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الانبياء:104)
انتفض صاحبي الفلكي من مكانه، وقال: من يقرأ هذا؟.. وما الذي يقرأ؟
التفت، فرأيت عليا واقفا قريبا منا، وأنه هو الذي يقرأ الآية.. أسرع إليه صاحبي، وقال: أعد ما كنت تقرأ.
أعاد علي قراءة الآية، فقال صاحبي: أليس هذا قرآنكم الذي تقرؤونه؟
علي: أجل.. وقد كنت أتأمل في هذه الآية ومعانيها العميقة.
الفلكي: وما الذي فهمته منها.. وأرجو أن لا تسرد علي ما سرده علينا صباحا إخوانك من المسلمين من النصوص الطويلة عن مفسريكم.
علي: ليس بالضرورة نرجع إلى مفسرينا.. نرجع فقط فيما يلتبس علينا من الألفاظ أو المعاني.. لقد أمرنا الله بتدبر القرآن، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82)
بل اعتبر من لم يتدبر القرآن مقفل القلب، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24)
الفلكي: فما الذي أداك إليه تفكيرك؟
معجزات علمية (55)
علي: هذه آية تحمل ألفاظا كثيرة.. وكل لفظ له تدبره الخاص، فما الذي تريده منها؟
الفلكي: ما تفهم من عموم الآية.
علي: إن الآية تتحدث عن نهاية الكون، وأنه سيطوى كما يطوى السجل.
الفلكي: ليس عن هذا أسألك.
علي: فعم تسألني؟
الفلكي: عما ورد في الآية.. عن قول قول القرآن: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}
علي: لقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين ذكره لنهاية الكون، وبدايته، فبدايته فتح للسجل، ونهايته إغلاق له.
الفلكي: أتعني ما تقول؟
علي: ما الذي تقصد؟
الفلكي: هل تقصد أن الكون كان مغلقا، ثم فتح؟
علي: أجل.. وقد بين القرآن ذلك بصراحة في موضع آخر..
قال الفلكي متعجبا: في القرآن نص آخر ينص على هذا أيضا؟
علي: أجل..
فتح المصحف، وراح يقرأ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)
الفلكي: أرني الآية.
علي: لقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية (أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصقا متراكما بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه)
الفلكي: أنا أعرف اللغة العربية، ولا أحتاج أن تفسرها لي.. إن هذه الآية آية عجيبة..
التفت إلي، وقال: إنها لم تذكر فقط ما فصلته لك من الانفجار العظيم.. بل أضافت إليه
معجزات علمية (56)
اختيار اللغة المناسبة، والتركيب المناسب..
إن كل كلمة في الآية التي قرأها هذا الرجل تحمل معاني عميقة لها دلالتها العلمية.
العلم الحديث يسمى بداية الكون (كتلة).. وهذه تسمية غير صحيحة علمياً، فالكتلة لا تشير إلى أي نوع من أنواع البناء أو الحركة.
وهم يعدون أن حدوث مثل هذه الحادثة كان أمراً واقعاً، إذ كانت المادة الموجودة حالياً في الكون مركزة بكثافة عالية جداً في هيئة بيضة كونية تتركز فيها كتلة الكون.
بينما هذه الآية تعطينا مصطلحاً دقيقاً، وهو (الرتق).. وفي هذه الكلمة إشارة إلى البنية النسيجية للكون.. وفيها إشارة إلى وجود النظام منذ بداية الخلق، وليس كما نذكر نحن بأن الكتلة الابتدائية التي خُلِق منها الكون كانت تعجّ بالفوضى.
وفي كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) يتجلّى كل النظام في عملية فتق الكون، وتشكيل هذه المجرات التي نراها.. العلم يسمي هذه العملية بالانفجار، وكلمة (انفجار) لا تفيد إلا الفوضى، فلا يمكن للانفجار أن يكون منظماً أبداً.. بينما الكلمات التي يستخدمها القرآن كلمات واقعية: (الرَّتق) و(الفتق} (1)، فالنسيج الكوني كان رتقاً ففتق.
بالإضافة إلى هذا، فإن كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) تعبر عن الطاقة والقدرة العظيمة التي بدأ بها خلق الكون..
التفت إلى علي، وقال: إن الكلمات التي يستخدمها العلماء لتعجز فعلاً عن وصف حقيقة الأمر..
سكت قليلا، ثم قال لعلي: أعد علي الآية.
أعادها علي عليه، فراح يكرر قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ثم قال: لكأني بهذه الآية تشير إلى أن هذا سيعرف.. بل سترى دلائله.. وأن الذي يكتشفه لا علاقة لهم بالقرآن.. إنها
__________
(1) حتى الجرس الموسيقي لكلا اللفظتين (رتق فتق) يشبه المصلح المختار للتعبير عن الانفجار العظيم (Big Bang)
معجزات علمية (57)
تسميهم {الَّذِينَ كَفَرُوا}.. وهي تعبر عن ذلك بالرؤية.. صدقت الآية، فقد رأينا ذلك فعلا.
ارتسمت سحابة ألم على وجه صاحبي الفلكي، وكأنه يتذكر ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يتدين، ففتح الكتاب المقدس على سفر التكوين، فوجد تلك الأخطاء، فأغلق الكتاب، ثم لم يعد إليه.
التفت إلي علي، وقال: لم ذكر القرآن هذه الحقيقة العلمية؟
علي: لقد سبق هذه الآية التي تقرر هذه الحقائق قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} (الأنبياء).. ثم جاءت هذه الآية.
الفلكي: فالآية ترد إذن على من يقولون بأن لله ولدا؟
علي: أجل.. فهي ترد على المسيحيين ومن يقول بقولهم.. وهي تخاطب في نفس الوقت المشركين الذي يعتقدون أن هناك آلهة مع الله.. وهي تخاطب في نفس الوقت الملحدين الذين ينكرون الإله.
الفلكي: هذا إعجاز آخر للآية.. إن توجيه مثل هذا الخطاب للملحدين إعجاز عظيم..
علي: كيف ذلك؟
الفلكي: لذلك قصة طويلة.. سأختصرها لك اختصارا (1).
قبل قرن مضى كان البحث في بداية خلق الكون شيئا مهملاً لدى الفلكيين، والسبب في ذلك هو قبول أكثرهم لفكرة كون الكون موجودا منذ زمن لا نهائي.
وهذه الفلسفة عاشت في أشكال مختلفة خلال الأزمنة الرومانية، لكن في فترة الإمبراطورية
__________
(1) اقتبسنا الكثير من المادة العلمية في هذا من كتاب (خلق الكون) لهارون يحيى.
معجزات علمية (58)
الرومانية القريبة والعصور الوسطى صارت المادية تنحدر نتيجة تأثير الكنيسة الكاثوليكية والفلسفة المسيحية علي يد رينايسانس، ثم بدأت تجد قبولاً واسعاً بين علماء أوروبا ومثقفيها، وكان سبب ذلك الاتساع هو الحب الشديد للفلسفة الإغريقية القديمة.
ثم ما لبث الفيلسوف (إيمانويل كانت) في عصر النهضة الأوربية أن أعاد مزاعم المادية ودافع عنها، وأعلن أن الكون موجود في كل الأزمان، وأن كل احتمالية (إن كانت موجودة) فسوف ينظر إليها على أنها ممكنة.
واستمر أتباع (كانت) في الدفاع عن فكرته في أن الكون لا نهائي ومتماشٍ مع النظرية المادية، ومع بداية القرن التاسع عشر صارت فكرة أزلية الكون وعدم وجود لحظة لبدايته مقبولة بشكل واسع، وتم نقل تلك الفكرة إلى القرن العشرين من خلال أعمال الماديين الجدليين من أمثال (كارل ماركس) و(فريدريك أنجلز)
علي: لم كل هذا الاهتمام بهذه الفكرة.. وما علاقتها بالمادية والإلحاد؟
الفلكي: هذه الفكرة عن الكون اللامتناهي تتلاءم تماماً مع الإلحاد.. وليس من الصعب معرفة السبب.. لأن فكرة أن للكون بداية تقتضي أنه مخلوق، وهذا يتطلب الإقرار بوجود خالق، لذلك كان من المريح جداً، ومن الأكثر سلامة بأن يدار العرض بطريقة خادعة، فتوضع أولاً فكرة أن (الكون موجود سرمدي) حتى ولو لم يكن هناك قاعدة علمية ولو كانت ضعيفة لتأكيد تلك الفكرة.
أعتنق (جورج بوليتزر) تلك الفكرة ودافع عنها في كتبة المنشورة في أوائل القرن العشرين، وكان النصير الغيور لكلا النظريتين الماركسية والمادية، وآمن بفكرة الكون اللامتناهي، وعارض بولتزر فكرة الخلق في كتابه (المبادئ الأساسية في الفلسفة)
كان بوليتزر يتصور أن العلم يقف إلى جانبه في رفضه لفكرة الخلق، ودفاعه عن فكرة الكون السرمدي، بيد أنه لم يمض زمن طويل حتى أثبت العلم الحقيقة التي افترضها بوليتزر بقوله: (..
معجزات علمية (59)
وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي القبول بفكرة الخالق..) بمعنى أنه أثبت حقيقة أن للكون بداية.
قلت: كيف وصل العلم إلى ذلك.. ومتى؟
قال: كانت الأعوام التي تلت 1920 هامة في تطور علم الفلك الحديث، ففي عام 1922 كشف الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان حسابات بين فيها أن تركيب الكون ليس ساكناً، حتى أن أصغر اندفاع فيه ربما كان كافياً ليسبب تمدد التركيب بأكمله أو لتقلصه، وذلك طبقاً لنظرية أينشتاين في النسبية.
وكان جورج لوميتر أول من أدرك أهمية الأعمال التي كان فريدمان يقوم بها وبناء على تلك الحسابات أعلن الفلكي البلجيكي لوميتر أن للكون بداية، وأنه في تمدد متواصل، وصرح أيضاً أن معدل الإشعاع يمكن استخدامه كمقياس عقب حدوث ذلك الشيء.
لم تحض التأملات النظرية لهذين العالمين في تلك الفترة باهتمام يذكر، غير أن الأدلة التي نتجت عن الملاحظات العلمية في عام 1929 كان لها وقع الصاعقة في دنيا العلم، ففي ذلك العام توصل الفكي الأمريكي الذي يعمل في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا إلى واحد من أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك.
فمن رصده لعدد من النجوم من خلال تلسكوبه العملاق اكتشف أن ضوءها كان منحرفاً نحو الطرف الأحمر من الطيف، وبشكل حاسم، وأن ذلك الانحراف كان مرتبطاً مباشرة مع بعد النجوم عن الأرض، وهذا الاكتشاف هز قواعد المفهوم الذي كان شائعاً للكون (1)..
وقد أظهرت أرصاد هابل وفق هذا المبدأ أن الأجرام السماوية تتحرك بعيداً عنا، وبعد فترة وجيزة توصل هابل إلى اكتشاف آخر مهم، وهو أن النجوم لم تكن تتباعد عن الأرض، بل كانت تتباعد عن بعضها البعض أيضاً، والاستنتاج الوحيد لتلك الظاهرة هو أن كل شيء في الكون يتحرك بعيداً عن كل شيء فيه، وبالتالي فالكون يتمدد بانتظام وتؤدة.
__________
(1) سنشرح هذا المعنى ودلالته العلمية عند ذكرنا لتوسع الكون.
معجزات علمية (60)
وهكذا تحققت استنتاجات فريدمان ولوميتر..
لقد قاد اكتشاف هابل لحقيقة الكون المتمدد لانبثاق نموذج آخر كان ضرورياً لكي لا يكون هناك عبث، ولكي يجعل نتائج معادلاته صحيحة، فإذا كان الكون يتضخم ويكبر مع مرور الوقت فهذا يعني أن العودة إلى الخلف تقودنا نحو كون أصغر، ثم إذا عدنا إلى الخلف أكثر لمدى بعيد، فإن كل شيء سوف ينكمش ويتقارب نحو نقطة واحدة، والنتيجة الممكن التوصل إليها من ذلك هو أنه في وقت ما كانت كل مادة الكون مضغوطة في كتلة نقطية واحدة لها حجم صفر بسبب قوة النقطية ذات الحجم الصفر، وهذا الانفجار هو الانفجار الكبير.
توجد حقيقة أخرى مهمة تكشفها نظرية الانفجار الكبير، فلكي نقول أن شيئاً ما له حجم صفر فهذا يكافئ القول بأنه لم يكن هناك شيء، وأن كل الكون خلق من ذلك اللاشيء، والأكثر من ذلك أن للكون بداية وهذا عكس ما ذهبت إليه المادية من أن الكون لا أول له ولا آخر.
علي: فقد قضت هذه النظرية إذن على النظريات التي كان يتبناها الملحدون؟
الفلكي: أجل.. لقد شكلت الأدلة على صحة نظرية (الانفتاق الكوني) ضربة قاصمة للإلحاد الذي يزعم أزلية مادة الكون.
فهذا (ستيفن هوكنج) العالم الفيزيائي الشهير، والذي يدعى نيوتن العصر الحديث، يقول: (لم تكن المادة هي وحدها التي خلقت أثناء الانفجار العظيم، بل إن الزمان والمكان أيضاً خلقا.. إن للمكان بداية، إذن: للزمان بداية} (1)
بعد ظهور نظرية الانفتاق الكوني ضاق الملحدون بها ذرعاً (2).. فحتى آينشتاين قال: (إن مسألة كون متمدد تقلقني) وفي رسالة بعَثها إلى صديقه (دي ستر) قال له: (فكرة الكون الذي
__________
(1) انظر: الكون، بوزلو، ص 46.
(2) انظر تفصيله في كتاب: الخالق والفلكيون، جاسترو، ص 15 وما بعدها.
معجزات علمية (61)
ينفجر تزعجني، لأن لازمها أن يكون للكون بداية} (1)
ويقول (وتكر): (ليس من أساس لافتراض أن المادة والطاقة كانت موجودة ثم أثيرت فجأة.. بل الأبسط من هذا أن نفترض الخلق من العدم، والإرادة الإلهية هي التي تفعل ذلك)
ويقول جون تيلر: (تقتضي نظرية الانفجار العظيم، أنه في وقت ما من الزمان الماضي، خلق الكون فجأة، ثم إنه تمدد بعد ذلك بطريقة يمكن استكشافها بالتفصيل، لكن قبل ذلك الوقت لم يكن هنالك وقت ولم يكن هنالك زمان. من الوسائل التي يمكن أن نتفادى بها المشكلات العظيمة التي يأتي بها هذا الانفجار العظيم، أن ندَّعي أنه لم يحدث قط} (2)
علي: فهل سكت الملحدون بعدها؟
الفلكي: مع ما اكتسبته نظرية الانفجار الكبير من قبول في الأوساط العلمية بسبب الدليل الواضح القاطع لها إلا أن الفلكيين الذين تشيعوا لفكرة الكون اللامتناهي صاروا يحملون على حقيقة الانفجار الكبير، ويناضلون ضدها ليدعموا العقيدة الأساسية لمذاهبهم الفكرية.
وقد أوضح الفلكي الإنكليزي آرثر أدينغتون سبب ذلك، فقال: (فلسفياً: إن فكرة البداية المفاجئة (المكتشفة) في النظام الحالي للطبيعة هي بغيضة لي)
علي: فهل هناك معارضات علمية تستند إلى أدلة علمية؟
الفلكي: حصل ذلك.. فقد عارض نظرية الانفجار الكبير فريد هويل.. وذلك في منتصف القرن العشرين.. فقد أتى هذا الفلكي ينموذج جديد، دعاه بالحالة الثابتة.
وهذه النظرية امتداد لحقيقة تمدد الكون، ومحاولة لتفسيرها بطريقة مخالفة تنسجم مع الفكر المادي..
لقد افترض هويل وفق هذا النموذج أن الكون كان لامتناهيا في البعد والزمن، وأثناء التمدد
__________
(1) الخالق والفلكيون، جاسترو،،ص 29.
(2) عندما دقت الساعة صفراً، جون تيلر، ص 103.
معجزات علمية (62)
تنبثق فيه مادة جديدة باستمرار من تلقاء نفسها بكمية مضبوطة تجعل الكون في حالة ثابتة.
علي: فهل لقيت هذه النظرية قبولا لدى العلماء؟
الفلكي: من الواضح أن هدف هذه النظرية لم يكن علميا.. فلم يكن نتيجة بحوث علمية دقيقة، وإنما كانت مجرد دعم لعقيدة وجود مادة سرمدية في زمن لامتناه، والتي هي أساس فلسفة الماديين.
ونظرية تنبني على هذا الأساس الهش لا يمكن أن يستمر لها وجود.. ذلك لأن الباحث العلمي ينطلق من المخبر، لا من الفلسفة.
علي: فكيف انتصرت نظرية الانفجار الكبير على غيرها؟
الفلكي: تطول تفاصيل ذلك.. وقد كنا نتحدث فيه عند ذكرنا لأدلة الانفجار الكبير.
علي: فهل اعترف القائلون بالحالة الثابتة بنظرية الانفجار الكبير بتلك الأدلة؟
الفلكي: لقد خلف (دنيس سياما} (فريد هويل) صاحب نظرية الحالة الثابتة، وظل مدافعا عنها أمدا طويلاً.. لكنه عندما واجه دليل الانفجار الكبير وصف الخطأ الذي وقع فيه صاحبه بقوله: (في البداية كان لي موقف مع هويل لكن عندما بدأ الدليل بالتعاظم كان يجب عليّ أن أقبل بأن المباراة انتهت، وأن نظرية الحالة الثابتة يجب أن تلغي)
علي: فقد كانت هذه النظرية إذن ضربة قاصمة على الإلحاد؟
الفلكي: بانتصار الانفجار الكبير، فإن دعوى الكون اللامتناهي الذي يشكل أساس العقيدة المادية أصبحت في مهب الريح.
لكن أصحاب الفكر المادي لم يسلموا.. لقد أثاروا سؤالين اثنين، هما: ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟.. وما هي القوة التي سببت الانفجار الأعظم الذي وقع في الكون ولم تكن موجودة قبلاً؟
هذه التساؤلات طبعا ستؤدي إلى قطع دابر الإلحاد لا محالة.. ولكنهم رفضوا أن يسلموا..
معجزات علمية (63)
لقد علق الفيلسوف الملحد (أنطوني فلو) على هذا بقوله: (الاعتراض جيد للروح، وهذا قول مشهور، لذلك سأبدأ بالاعتراف بأنه على الملحد مهما كانت طبقته أن يرتبك من هذا التوافق العلمي الكوني المعاصر، لأنه على ما يبدو أن علماء الكون اليوم يقدمون برهاناً علمياً لما ناضل من أجله (السير توماس) ولم يستطع البرهان عليه فلسفياً، وبالتحديد الاسمى هو أن للكون بداية، وطالماً أن الفكرية مريحة في عدم وجود بداية أو نهاية للكون.
فيبقى هذا الأمر بشكله الوحشي أسهل للمناقشة، ومهما كانت مظاهر الأساسية فيجب قبولها على أنها قمة التفسيرات، ومع اعتقادي بأن فكرة أن للكون بداية ستبقى صحيحة مع ذلك فهي ليست سهلة ولا مريحة، ونحن بالتأكيد سنحافظ على موقفنا في مواجهة قصة الانفجار الكبير)
علي: فهل ظهرت نظريات أخرى إلحادية تحاول تفسير الانفجار العظيم بما يتناسب مع إلحادها؟
الفلكي: أجل.. ظهرت نماذج تحاول أن تفسر ذلك ماديا.. منها نموذج (الكون ذو النموذج الكوانتي} (1).. ولكنها جميعا لم تقف أمام الحقائق التي يبشر بها الانفجار العظيم.. حقيقة احتياج الكون إلى مكون.
__________
(1) وقد بنى الداعمون لهذا النموذج محاولتهم تلك على المشاهدات الكوانتية للفيزياء ما دون الذرية، ففي الفيزياء الكوانتية تمت مشاهدة جسيمات ما دون ذرية، وهي تظهر وتختفي تلقائياً في الخلاء، وتعليل تلك المشاهدة هو أن المادة تنشأ عند سوية كوانتية مميزة تخص المادة وتلائمها.
وقد حاول بعض الفيزيائيين تفسير أصل المادة من العدم خلال خلق الكون بطريقة مماثلة وعلى أنها حالة مميزة وتخص المادة، وتمثيلها على أنها جزء من قوانين الطبيعة، ووفق هذا النموذج يفسر كوننا على أنه جسيم ما دون ذري لكنه أكبر حجماً على كل حال.
معجزات علمية (64)
انتهزت فرصة ساد فيها بعض الصمت، وقلت لصديقي الفلكي: أرى أن كل هذه الحقائق التي ذكرتها تعتمد على ما سميته تمدد الكون وتوسعه (1).. فهل ترى أن هذا الكون الذي نراه ثابتا يتمدد، ويتسع؟
قال: أجل.. فقد أعلن عالم الفلك المشهور (هابل) عام 1929 بأن المجرات تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، وأنها تخضع لعلاقة طردية مباشرة بين المسافة والزحزحة الطيفية نحو الأحمر، واستنتج وفقاً لظاهرة دوبلر أن الكون يتمدد.
بل قد تمكن هابل في عام 1930 من إيجاد هذه العلاقة وسميت باسمه وهي تنص بأن (سرعة ابتعاد المجرات الخارجية تتناسب طردياً مع بعدها عنا)
وقانون هابل يدل على أن الأجرام السماوية في الكون تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، أي أن الكون في حالة تمدد أينما كان موقعنا في الكون.
قلت: ألم أطلب منك سابقا أن تكف عن هذا الأسلوب الجاف.. أنت لا تتحدث مع زميل لك في العلم أو المهنة.. أنت تتحدث مع رجل دين ثقافته بسيطة من هذه الناحية.. فلذلك بسط لعقلي حتى يعي ما تقول.
قال: أعتذر لك.. إن انشغالي المفرط بتخصصي يجعلني لا أتحدث معك فقط بهذا الأسلوب.. بل إني أتحدث مع أهلي وأولادي به.. وكأني أتصور أن كل الناس يجب أن يتعلموا ما تعلمته، أويعلموا ما علمته.
قلت: فبسط لي كما تبسط لأصغر أولادك.
__________
(1) انظر في هذا الموضوع وعلاقته بالإعجاز القرآني:
اتساع السماء: حقيقة قرآنية وعلمية، لعبد الدائم الكحيل، من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة..
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، بقلم الدكتور: زغلول النجار، الأهرام: 41846 السنة 125 - 2 يوليو 2001.
معجزات علمية (65)
قال: لا بأس.. سأحاول أن أفعل ذلك.
كانت البشرية منذ القديم.. وحتى بداية القرن العشرين تعتقد أن هذا الكون ثابت لا يتغيَّر، وُجد هكذا وسيستمر إلى مالا نهاية على ما هو عليه.. فالشمس تطلع كل يوم من الشرق وتغيب من الغرب، والقمر أيضاً له منازل محددة طيلة الشهر، وفصول السنة من شتاء وصيف وربيع وخريف تتعاقب باستمرار، والنجوم كما هي.
لقد كان الكون في مخيلاتهم يشبه قصرا جميلا اكتمل بناؤه، ولم يبق إلا التمتع به والاستفادة من من مرافقه.
لم يكن هناك من كان يتخيَّل بأن حجم الكون يكبر ويتوسع باستمرار؟
قلت: فبأي منطق عقلي عرف ذلك.. مع أن الحس يرى سكونه وثباته؟
قال: بالطبع.. لا يمكن أن يعرف ذلك عن طريق المنطق العقلي.
قلت: فهل عرف ذلك عن طريق الكشف الوجداني؟
ضحك، وقال: ذلك أبعد من أن يعرف شيئا.. وإذا عرف شيئا، فهو لن يعرف غير الخرافة.
قلت: فكيف عرفتم ـ معشر الفلكيين ـ هذه الحقيقة.. ثم كيف اتفقتم عليها؟
قال: عرفناها بالحس.. أليست مدارك الحس مدارك معتبرة لدى العقول؟
قلت: أجل.. ولكن البصر قاصر على رؤية مثل هذه الأمور.. إنه لا يكاد يرى من حوله.. فكيف يدرك الكون.. ثم كيف يدرك توسع الكون؟
قال: لقد من على البشرية بفتوح تقنية خدمت البصر والسمع وجميع مدارك الإنسان، فصارت ترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع.
في النصف الأول من القرن العشرين تم اختراع أجهزة دقيقة قادرة على تحليل الضوء القادم من النجوم البعيدة، وكانت المفاجأة التي أذهلت العالم هي انحراف هذا الضوء نحو اللون الأحمر.
قلت: وما في ذلك؟
معجزات علمية (66)
قال: سأبسط لك هذه النظرية التي تعتمد عليها هذه الحقيقة العلمية:
أنت تعلم أن الضوء يتألف من سبعة ألوان رئيسة.
قلت: كيف أعلم ذلك؟
قال: عندما يخترق ضوء الشمس ـ وهي نجم كما تعلم ـ زجاجة مثلثة تسمى الموشور، يتحلل إلى سبعة ألوان مرئية تبدأ بالأحمر وتنتهي بالبنفجسي، فاللون الأحمر هو ضوء موجته طويلة، أما اللون البنفسجي فهو ضوء موجته قصيرة.
وفي عالم الضوء كلما كان طول الموجة أقصر كلما كانت الأشعة أكثر خطراً، ولذلك نسمع بالأشعة فوق البنفسجية وهي أشعة غير مرئية، وخطيرة.. ولكننا نحتمي منها بالغلاف الجوي الذي يمتص كثيرا من هذه الأشعة القادمة من الشمس.
أما الأشعة تحت الحمراء فهي أشعة غير مرئية أيضاً، وقليلة الخطر لأن موجتها طويلة.
قلت: أعلم كل هذا.. ولكن ما علاقته بتمدد الكون؟
قال: عندما نحلل ضوء أي نجم كان يجب في الأصل أن يبدو كضوء الشمس، أي سبعة ألوان.
قلت: فهل وجدتم غير ذلك؟
قال: أجل لقد رأينا أن الطيف الضوئي للمجرات ظهر مختلفاً، أي أن عرض اللون الأحمر كان أكبر مما هو عليه، وهذه الظاهرة تتكرر مع معظم المجرات.
قلت: فما يعني ذلك؟
قال: هذا يعني أن الطيف الضوئي للمجرة لا ينحرف إلا في حالة واحدة وهي الحركة.
قلت: فكيف عرفتم اتجاه الحركة؟ ألا يمكن أن يكون الكون ينقبض؟
قال: إذا نظرنا إلى نجم عبر التلسكوب المكبِّر، وقمنا بتحليل الطيف الضوئي الصادر عنه، فإنا نجد ثلاثة احتمالات:
معجزات علمية (67)
أما الأول، فهو أنه إذا كانت المسافة التي تفصلنا عن نجم ما ثابتة، فإنا نرى ألوان الطيف الضوئي القادم منه كما هي.
وأما الثاني، فهو أنه إذا كان النجم يقترب منا فإن الطيف الضوئي في هذه الحالة يعاني انحرافاً نحو اللون الأزرق باتجاه الأمواج القصيرة للضوء، وكأن هذه الأمواج تنضغط.
وأما الثالث، فهو أنه إذا كان النجم يبتعد عنا، فإن طيفه الضوئي ينحرف نحو اللون الأحمر باتجاه الأمواج الطويلة للضوء، وكأن هذه الأمواج تتمدد.
قلت: فهمت الآن.. لقد رأيتم إذن أن ضوء المجرات والنجوم ينحرف نحو اللون الأحمر.. واستدللتم بذلك على ابتعادها عنا.
قال: تماماً مثل صوت صفارة القطار أثناء حركته بعيداً عن الرصد، فإن ذلك الصوت يكون خشناً غليظاً، أما إذا كان القطار مقترباً، فإن الصوت المسموع يكون حاداً ورفيعاً.
قلت: أهذا ما رأيتموه إذن؟
قال: أجل.. لقد رأى علماء الفلك أن معظم المجرات البعيدة عنا تهرب مبتعدة بسرعات كبيرة قد تبلغ آلاف الكيلومترات في الثانية الواحدة.. لذلك نرى ضوءها منحرفاً نحو اللون الأحمر.
قلت: ألا يمكن أن يكون ذلك بسبب خداع بصري؟
ابتسم، وقال: وهل تتصور أننا نرى كل ذلك بأبصارنا.. إننا نستعمل أجهزة قياس وتحليل وبرامج كمبيوتر غاية في الدقة.. ولذلك تم تأكيد هذه الحقيقة العلمية، حتى إننا نجد اليوم أي بحث كوني ينطلق من هذه الحقيقة اليقينية.
ما وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى راح علي يقرأ بصوته الخاشع الجميل قوله تعالى: {
معجزات علمية (68)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذريات:47} (1)
انتفض صاحبي الفلكي من مكانه، وقال لعلي: أهذا أيضا من القرآن؟
علي: أجل..
الفلكي: فما فهمتم ـ معشر المسلمين ـ من هذه الآية؟
علي: هذه آية تحمل ألفاظا كثيرة.. وكل لفظ له تدبره الخاص، فما الذي تريده منها؟
الفلكي: اذكر لي ما وعيته من قولك: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذريات:47)
علي: كلمة (لموسعون) واضحة، وهي من (وسَّعه توسيعاً) ضدّ ضيَّقه، وهذا يدل على توسع الكون وتمدده باستمرار.. لأن الجملة الإسمية تفيد الاستمرار.
الفلكي: أفي القرآن هذه الآية؟
علي: أجل.. وها هو المصحف.. خذ، واقرأها فيه.
الفلكي: في أي سنة طبع هذا المصحف؟
كان علي يحمل مخطوطا قديما، فابتسم، وقال: ما بك يا صاحبي.. أنت تراني أحمل مصحفا مخطوطا، لا مصحفا مطبوعا.
هذا مصحف توراثته عائلتنا كابرا عن كابرا.. هذا مصحف عمره عشرة قرون.. حمله أجدادي واحدا واحدا.
الفلكي: ألم تضف هذه الآية فيه؟
__________
(1) في هذه الآية الكريمة معجزتان علميتان، سنشير إلى إحداهما، وهي توسع السماء في هذا المبحث، أما المعجزة الثانية، وهي حقيقة البناء الكوني المذكورة في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} (الذاريات: 47)، فسنشير إليها في المبحث التالي لهذا المبحث.
والمذكورة في آيات أخرى، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءًوَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (غافر: 64) وغيرها من الآيات.. فسنتحدث عنها في مبحث لاحق من هذا الفصل.
معجزات علمية (69)
علي: لو أضيف حرف واحدا في المصحف لما بقيت، ولما بقي واحد من أجدادي.. لاشك أنك لا تعرف حرص المسملين على قرآنهم.
الفلكي: أتعلم.. لقد كنت أنتقد المصطلح الذي اختاره زملائي لهذه الظاهرة، لقد سموا هذه الظاهرة (تمدد الكون) مع أن الكون في الحقيقة لا يتمدد.
قلت: ما تقول يا رجل.. لقد ظللت تقنعني بذلك حتى اقتنعت.
الفلكي: يستخدم العلماء اليوم مصطلح (اتساع الكون) أي أنهم يقررون حقيقة علمية وهي أن الكون يتوسع Universe Expanding، ولكن الحقيقة عكس ذلك.
فالكون لا يتوسع بأكمله، بل الذي يتوسع هو المكان بين المجرات، فالمجرات عندما تتباعد بسرعات مذهلة لا يتوسع حجمها، ولا تكبر النجوم فيها، بل هذه المجرات تسير موسِّعة المكان من حولها (1).
لهذا قلت لزملائي: لابد أن نستخدم مصطلحاً جديداً بدل (اتساع الكون)، هو (اتساع المكان)، ولكن هذا المصطلح أيضا غير دقيق، ذلك لأنه لا يوجد فضاء كما كان يُظن في الماضي! بل إن كل جزء من أجزاء الكون مملوء بالمادة والطاقة، وهذا ما كشفه العلماء حديثاً وقرروه بعد اكتشافهم المادة المظلمة منذ سنوات قليلة.
التفت إلى علي، وقال: لقد ظللت أحتار في المصطلح الذي يعبر عن هذه الظاهرة حتى نطقت به الآن.. إن الذي يتمدد هو السماء.. لذلك، فالمصطلح المعبر عن الظاهرة هو (اتساع السماء)، فالسماء تعني المكان بين النجوم والمجرات، وهي تحيط بها من كل جانب، وهذا المكان الذي سمَّاه القرآن (السماء) ليس فارغاً بل هو مملوء بالمادة والطاقة والمادة المظلمة والطاقة المظلمة.
__________
(1) هذه الفكرة نبه إليها الدكتور حسني حمدان أستاذ علوم الأرض في جامعة المنصورة، وملخصها أن الذي يتمدد هو السماء وليس الكون، لأن الكون يتألف من مجرات ونجوم وغير ذلك، وهذه لا تتمدد، لذلك الكلمة القرآنية هي الأدق. انظر موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (70)
وهذا المكان الذي يعبر عنه القرآن بمصطلح (السماء) هو الذي يتمدد ويتّسع باستمرار.
قال ذلك، ثم تساءل بينه وبين نفسه: لكن من أخبر محمدا بهذه الحقيقة العظيمة؟.. وكيف عبر عنها بهذه الدقة؟
لكنه عاد، فقال: أحيانا تأتي المصادفات بالعجائب..
تركه علي يقول ما يقول دون أن يناقشه، بل راح يقول له: لاشك أنك عالم فلكي.
الفلكي: أجل.. وقد استدعيت لحضور مؤتمر علمي أقامته بلادكم.
علي: مرحبا بك في بلدنا.. ويشرفني أن أجلس معك لأسألك عن بعض الأمور.. فإن لي اهتماما بهذا العلم الجليل دعاني إليه حرصي على فهم كتاب ربي.
الفلكي: تفضل.. اجلس.. لاشك أنك متدين.
علي: متدين تدينا عاقلا.. عقلي هو الذي هداني إلى الدين.
قال الفلكي بينه وبين نفسه: عجبا.. كيف يهدي العقل إلى الدين.. العقل يفر من الدين؟
لم يجبه علي، بل قال له: دعنا من هذه الأحاديث.. وحدثني عن اختصاصك..
الفلكي: ما الذي تريد منه؟
علي: لقد ذكرت أن الكون يتوسع.. فهل سيتوسع الكون إلى ما لا نهاية؟
الفلكي: تؤكد الأبحاث الجديدة في علم الفلك أن الكون يتوسع بسرعة أكبر مما نتوقع، وهذا التوسع سيستمر إلى مرحلة لن يعود الكون قادراً على التوسع بعدها، لأن هذا التوسع يحتاج إلى طاقة محركة، وطاقة الكون محدودة حسب قانون مصونية المادة والطاقة، والذي يقضي بأن الطاقة لا تفنى، وإنما تتحول من شكل لآخر.
علي: وفي هذه الحالة ماذا سيحصل للكون.. عندما تنفذ طاقته بعد نهاية توسعه؟
الفلكي: عندما يصل الكون إلى نقطة حرجة في توسعه، وتنفذ طاقته يبدأ بالانطواء على نفسه، ويعود من حيث بدأ.
معجزات علمية (71)
هذا ليس مجرد تخمين نظري.. بل لدينا شواهد عليه.. فهناك مجرات تبعد عنا بلايين السنين.. حصل لها التفاف وانطواء على نفسها.. وهذا الانطواء صورة مصغرة لانطواء الكون على نفسه.
علي: تقصد انكماشه بعد توسعه، وطيه بعد انتشاره.
الفلكي: أجل.. كل الدلائل تدل على هذا.
علي: لقد ذكرتني بآيات من القرآن تشير إلى هذا.
الفلكي: أفي القرآن أيضا إشارة إلى هذا؟
علي: سأقرأ عليك من هذا المصحف العتيق لتحكم بنفسك.
فتح علي المصحف، وراح يقرأ بخشوع قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)
الفلكي: ما معنى هذه الآية؟
علي: الله تعالى يخاطب عباده في هذه الآية، ويقول لهم: انتظروا يوماً ينطوي فيه الكون بسماواته وأرضه تماماً كما يطوي الكاتب الصحف والكتب ليعود الكون بالانسحاق العظيم إلى حيث بدأ.
انتفض الفلكي من مكانه، وقال: أرني محل هذه الآية من المصحف.
أراه علي إياها، فتأمل فيها جيدا، وقال: هذه آية عظيمة.. تحوي حقائق كثيرة جدا لم نكتشفها إلا بعد أن شابت رؤوس الأجيال، وهي تبحث عنها.
أولا في هذه الآية دقة عظيمة في التعبير.. بل دقة محيرة.. إنها دقة فائقة في تحديد نهاية الكون.. إن القرآن يستعمل مصطلحات علمية دقيقة.
إنها فعلاً عملية طيّ لأجزاء الكون، هذا ما تقوله آخر الأبحاث الكونية.
جميع علماء الكون يصرِّحون بأن الخطوط المستقيمة لا وجود لها في هذا الكون، بل كل شيء منحنٍ.. جميع أجزاء الكون من كواكب ونجوم ومجرات ونيازك ومذنبات وإشعاعات وثقوب
معجزات علمية (72)
سوداء..
جميعها تتحرك بأفلاك منحنية.. لذلك من المنطقي أن تكون نهاية الكون منحنية تماماً كما تُطوى الورقة.
علي: كنت أتصور أن الكون كروي..
الفلكي: إن العلماء اليوم يتصورون الكون على أنه مسطح وليس كروياً، والسبب في هذا التصور الظواهر الكونية التي يشاهدونها، والتي تدل على ذلك.. فالمجرة التي نعيش فيها، والتي تُعتبر الشمس أحد نجومها، ليست كروية الشكل، بل هي على شكل قرص قطره أكثر من مئة ألف سنة ضوئية، وسماكته بحدود ثلاثين ألف سنة ضوئية.
وهكذا جميع المجرات تأخذ أشكالاً حلزونية أو إهليليجية.. ولكنها تبقى قريبة من الشكل المسطَّح.
ثم قال بينه وبين نفسه: عجبا.. كيف يصرح القرآن بهذا.. فالسِّجِلّ هو الورقة المكتوب عليها، وعندما تُطوى هذه الورقة، فإنها تطوي بداخلها الكلمات المكتوبة وتلفّها لفّاً.
وهذا ما سيحدث فعلاً للمجرات عند نهاية الكون، حيث ستلتفّ حول بعضها كما تُلَفّ الورقة.
علي: سمعتك تتحدث عن الدخان الكوني (1).
الفلكي: أجل.. فهو حقيقة علمية لا جدال فيها.. وهي مبنية على ما سبق ذكره من توسع الكون والانفجار العظيم..
الدخان الكوني هو مرحلة من مراحل الكون تلت مرحلة الانفجار العظيم.. حيث تشير
__________
(1) انظر: مقالة للدكتور زغلول النجار حول هذا الموضوع نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 4/ 6/2001 م.
معجزات علمية (73)
دراسات الفيزياء النظرية في أواخر القرن العشرين إلى أن جرما بمواصفات الجرم الابتدائي للكون عندما ينفجر سيتحول لا محالة إلى غلالة من الدخان.. وذلك الدخان هو الذي تخلقت منه الأرض، وكل أجرام السماء.
ولم يكتف العلماء بهذه الاستدلالات النظرية، بل حصل في الثامن من نوفمبر سنة 1989 م أن أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية مركبة باسم مكتشف الخلفية الإشعاعية للكون كما ذكرت لك سابقا.. وقد ارتفعت هذه المركبة إلى مدار حول الأرض يبلغ ارتفاعه ستمائة كيلومتر فوق مستوي سطح البحر، وذلك لقياس درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون، وقياس كل من الكثافة المادية والضوئية والموجات الدقيقة في الكون المدرك، بعيدا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض.
وقام هذا القمر الصناعي المستكشف بإرسال قدر هائل من المعلومات وملايين الصور لآثار الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون، من علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية.
وقد أثبتت تلك الصور أن هذا الدخان الكوني في حالة معتمة تماما تمثل حالة الإظلام التي سادت الكون في مراحله الأولى.. وقد قدر العلماء كتلة هذا الدخان المعتم بحوالي 90 بالمائة من كتلة المادة في الكون المنظور.
علي: لقد شوقتني بهذا الحديث عن معرفة التفاصيل المرتبطة بهذا الدخان، كيف كان، وكيف تحول؟
الفلكي: بعد الانفجار العظيم تحول الكون الى غلالة من الدخان الذى تشكلت منه النجوم والكواكب، وكل ما يتركب منه الكون.
وتشير الحسابات الفيزيائية إلى أن حجم الكون قبل الانفجار العظيم كاد يقترب من الصفر، وكان في حالة غريبة من تكدس كل من المادة والطاقة، وتلاشي كل من المكان والزمان، تتوقف
معجزات علمية (74)
عندها كل قوانين الفيزياء المعروفة.
ثم انفجر هذا الجرم الابتدائي الأولي ـ كما ذكرنا سابقا ـ وبانفجاره تحول إلى كرة من الإشعاع والجسيمات الأولية أخذت في التمدد والتبرد بسرعات فائقة حتي تحولت إلى غلالة من الدخان.
فبعد ثانية واحدة من واقعة الانفجار العظيم تقدر الحسابات الفيزيائية انخفاض درجة حرارة الكون من تريليونات الدرجات المطلقة إلى عشرة بلايين من الدرجات المطلقة.
وقد كان التمدد عند بدء الانفجار بمعدلات فائقة التصور أدت إلى زيادة قطر الكون بمعدل 2910 مرة في جزء من الثانية.
وعندها تحول الكون إلى غلالة من الدخان المكون من الفوتونات والإلكترونات والنيوترينوات وأضداد هذه الجسيمات مع قليل من البروتونات والنيوترونات..
علي: نعلم أنه في مثل ذلك الوضع من الحرارة والضغط يمكن أن تفني الجسيمات الأولية للمادة وأضدادها بعضها بعضا، وينتهي بذلك الكون.. فكيف حفظ الكون؟
الفلكي: إن استمرار الكون في التوسع والتبرد بمعدلات منضبطة بدقة فائقة هو الذي حفظ الكون من قضاء بعضه على بعض..
علي: لقد ذكرت لي علمك باللغة العربية..
ابتسم الفلكي، وقال: ولكن لا تسألني عن نحوها وصرفها.
علي: سأسألك عن الاصطلاح الذي استعملته في التعبير عن الدخان الكوني.. هل هو مصطلح صحيح ودال؟
الفلكي: ما تقصد؟
علي: سأشرح لك المسألة.. في القرآن الكريم ذكر لحالة تلبس بها الكون قبل حالته هذه سماها القرآن الدخان..
انتفض الفلكي من مكانه، وقال: أهذا صحيح؟
معجزات علمية (75)
فتح علي المصحف، وراح يقرأ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)
قام الفلكي، وأخذ يصيح به: أرني محل الآية من المصحف.
أراه علي الآية، فبقي يتأملها واجما، فقال له علي: أجبني عن سؤالي..
الفلكي: عم تسأل.. إن هذه الآية تحيرني.. من أعلم محمدا بكل هذه العلوم؟
علي: إن نفرا من الناس ذكروا أن القرآن أخطأ حين عبر عن تلك الحالة للكون بهذه كلمة (دخان} (1)
الفلكي: وبم يجب أن يعبر عنها؟
علي: ذكروا أن التعريف العلمي للدخان لا يتطابق مع الحالة السائدة في بداية الكون، حيث كان الكون وقتها يتألف من عنصرين هما غاز الهيدروجين وغاز الهليوم..
ولذلك فإن التعبير الأنسب في رأي هؤلاء كلمة (غاز).. ويذكر هؤلاء أن محمداً هو من كتب هذه الآية وأخطأ في وصفه للكون المبكر بكلمة (دخان)!
ضحك الفلكي ملء فيه، وقال: من المجنون الذي ذكر هذا؟
أولا.. هؤلاء حمقى ومغفلون.. وكان الأجدر بابن الجوزي الذي ألف كتابا عن الحمقى والمغفلين أن يذكر حكايتهم هذه.
علي: لم؟
الفلكي: ألا يعلمون أن الغاز لم يكن معروفا في ذلك الوقت.. وكان أقرب ما يدل عليه هو كلمة (الدخان)؟
ثم ألم يكفهم أن يشير القرآن هذه الإشارة المعجزة حتى يطالبوه بتفاصيلها؟
__________
(1) انظر في الرد على هذه الشبهة مقالا بعنوان (السماء كانت دخاناً ـ حقائق جديدة تؤكد صدق القرآن الكريم) بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل، موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (76)
إن هؤلاء الأغبياء لا ينقصهم إلا أن يطلبوا منه أن يسمي لهم تلك الغازات، وأن يذكر لهم بروتوناتها ونيوتروناتها، بل يبعث لهم صورا عنها.
علي: فكلمة (دخان) كلمة مقربة للمعنى إذن.. وليست تامة الدلالة على المراد.
الفلكي: لقد ذكرت ذلك فقط لأولئك الحمقى الذين انتقدوا مثل هذا النقد.
أما الحقيقة التي تدل عليها كل الدلائل فهي أن كلمة (الدخان) هي أنسب كلمة تعبر عن تلك الفترة التي مر بها الكون بعد الانفجار العظيم.
علي: كيف ذلك؟
الفلكي: لقد اكتشف العلماء أن الكون في مراحله الأولى امتلأ بالغاز، وخاصة غاز الهيدروجين وغاز الهيليوم، ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك غباراً كونياً cosmic dust ينتشر بين النجوم، ويقولون إنه من مخلفات الإنفجارات النجمية.
علي: الغاز يختلف عن الغبار.. وكلاهما يختلف عن الدخان، فكيف يمكن التوفيق بين العلم والقرآن في هذا؟
الفلكي: هذه مجرد تعبيرات.. ولكن الحقيقة هي ما ذكره القرآن.. فقد أتى بالمصطلح الصالح الدال على المعنى.. فالعلماء الآن يعترفون بأن ما كشفوه من غبار كوني لا يمتُّ بصلة للغبار الذي نعرفه ولا يشبهه أبداً، وأن هذا الغبار أشبه ما يكون بدخان السيجارة..
ذكر ذلك الدكتور دوغلاس بيرس الذي قال في مقالة له: (الغبار الكوني ـ والذي لايشبه الغبار المنزلي ـ في الحقيقة يتألف من حبيبات صلبة دقيقة (وغالباً من الكربون والسيليكون) تسبح في الفضاء بين النجوم، وحجمها مشابه لحجم دخان السيجارة)
ولو رجعت إلى الأبحاث الصادرة حديثاً لوجدتها كلها تؤكد على هذه التسمية، بل هنالك من العلماء من يصرح بأن أفضل وصف لحقيقة الكون المبكر هي كلمة (دخان).
فهذا بعضهم يقول: (ذرات الغبار الممزوج بالغاز دقيقة، وحجمها يساوي جزء من
معجزات علمية (77)
الميكرون (1) فقط، ولذلك فإن أفضل وصف لها (دخان)
علي: ولكن كيف تأكد العلماء من كونه دخانا لا غازا أو غبارا؟
الفلكي: لقد استطاع العلماء مؤخرا التقاط بعض ذرات الدخان الكوني من الفضاء، وتحديداً على حدود كوكب المشتري.. وقاموا بتحليله بأجهزتهم ورؤيته وتصويره ومعرفة كل شيء عنه بدقة مذهلة.
وقد جاء في نتيجة التحليل المخبري لهذا الغبار: (حبيبات الغبار بين النجوم والكواكب يتراوح حجمها بين 0،6 ميكرون و1،4 ميكرون، وهي ملتقطة من الغلاف الجوي للمشتري، أو من منطقة التأثير المغناطيسي وفقاً للدراسة. حبيبات كهذه أصغر من قطر شعرة الإنسان، وهي بحجم ذرات الدخان)
قال ذلك، ثم عاد إلى المصحف يتأمل الآية، ويستغرق فيها، ثم فجأة انتفض، وقال: إن في الآية إعجازا آخر لا يقل عن هذا الإعجاز.. من أعلم محمدا بكل هذا؟
علي: ما هو هذا الإعجاز الجديد الذي تراه؟
الفلكي: إن هذه الآية تتحدث عن حديث السماء والأرض في حالتهما الدخانية..: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)
علي: وما في ذلك؟.. إن البعض يعتبر هذا على سبيل المجاز.
الفلكي: لا.. لا تدعهم يدخلوا عقولهم في القرآن.. وفي هذه الآية بالذات.. إنها تتحدث عن حقيقة علمية عظمى وجميلة.
__________
(1) الميكرون هو واحد من الألف من الميليمتر، أي هو جزء من مليون من المتر.
معجزات علمية (78)
علي: وما تلك الحقيقة؟
نظر الفلكي إلى السماء، وقال: كلام السماء.. كلام ذلك الدخان الذي مرت عليه السماء..
علي: عجبا.. هل اكتشف العلم حديث الدخان (1)؟
الفلكي: أجل.. صاحب هذا الاكتشاف الجديد هو أحد علماء الفضاء، وهو البروفيسور (مارك ويتل) من جامعة فيرجينيا.
وقد تحدث هذا العالم عن الأمواج الصوتية التي أطلقها الكون عندما كان عمره 380 ألف سنة، واستمر هذا الصوت الناتج عن تمدد وتوسع الكون حتى أصبح عمر الكون مليون سنة، عندها بدأت النجوم الأولى بالتشكل.
وقد ساعد على انتشار هذه الأمواج وجود الغاز الكثيف الذي يملأ الكون، والذي عمل كوسط مناسب لانتشار هذه الأصوات.
وهذا الاكتشاف هو نتيجة لدراسة الإشعاع الميكرويفي لخلفية الكون في مراحله الأولى بعد الانفجار الكبير.
علي: أأنت متأكد من هذا؟
الفلكي: أتعرف مع من تتكلم.. أنا خبير فلكي.. لي بحوثي واكتشافاتي الكثيرة.. وإن لم تصدقني فسأقرأ عليك هذا الخبر العلمي الذي نشرته العديد من المجلات المتخصصة والمواقع العلمية والذي يقول بالحرف الواحد: (لقد توسّع الكون بسرعة بعد الانفجار الكبير، خلال فترة تدعى التضخم. فيما بعد، تابع الكون توسُّعه بشكل أبطأ مما أدى إلى تبرد الغاز وتكثفه وتشكيله للنجوم. كل هذا الوقت، ساهمت تغيرات الكثافة في تشكيل خصائص الصوت المحدد من قبل فريق ويتل)
__________
(1) انظر: السماء تتكلّم! حقائق كونية حديثة جداً تتجلّى في القرآن، بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل، من موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (79)
ونرى من خلال تصريحات العلماء واكتشافهم أن الكون في مراحله المبكرة أي عندما كان في مرحلة الغاز الحار، وعندما بدأت النجوم بالتشكل من هذا الغاز الكوني، أصدر الكون صوتاً استمرّ حتى أصبح عمر الكون مليون سنة، وقد أمكن تحديد مواصفات هذا الصوت واتضح بأنه هادئ ومطيع، وبعد ذلك بدأت النجوم بالتشكل.
علي: أرجو أن تتثبت حضرة الأستاذ المحترم من هذا الذي تقولونه، فنحن المسلمين نخشى أن نفسر كتابنا بما لا تدل عليه الحقائق..
إن هذا الكتاب لا يفسر بالظنون، بل يفسر بالحقائق.
الفلكي: أنا متأكد منها كتأكدي من وجودك أمامي.. وهي حقيقة ثابتة ليس بالمقالات الصحفية.. ولا بما ذكرته وسائل الإعلام الغربية التي تناولت هذا الخبر، ولم يعارضه أحد من العلماء، وإنما هي مدعومه قبل ذلك وبعده بالمنطق العلمي والعملي.
علي: أفي إمكان المنطق العلمي والعملي أن يتنبأ بمثل هذا؟
الفلكي: أجل.. فمن يتأمل القوانين الرياضية المودعة في الدخان أو الغاز يجد ـ ومن خلال ما يسمى بهندسة ميكانيك السوائل ـ أن أي غاز عندما يتمدد ويكبر حجمه يصدر عن هذا التمدد موجات قد تكون صوتية.. وذلك بسبب التغير في كثافة الغاز وحركة جزيئاته واحتكاكها ببعض مما يولد هذه الأمواج.
وهذا ما حدث فعلاً في بداية نشوء الكون عندما كان دخاناً، فالتوسع والتمدد أدى إلى احتكاك وتصادم مكونات هذا الحساء الكوني الحار، وإطلاق هذه الأصوات التي تشبه حفيف الشجر.
حتى إن بعض العلماء رسموا خطاً بيانياً يمثل هذه الذبذبات الكونية.. وقد كانت هادئة غير عنيفة.. بل كانت أشبه بالفحيح.
إنها تكاد تعبر عن إعلان الطاعة الذي ذكرته الآية.
معجزات علمية (80)
نظر الفلكي إلى السماء، وكأنه ينظر إلى كائن جديد لم يره من قبل، ثم قال: عد بنا إلى الآية التي تتحدث عن توسع السماء.
علي: تقصد قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذريات:47)
الفلكي: أجل.. فهذه آية عظيمة.. إنها تتحدث عن الكون المبني، لا الكون الخاوي الذي نسميه فضاء..
علي: لها نظيرات في القرآن الكريم.. فهذه حقيقة من الحقائق القرآنية التي كثر ورودها فيه (1)..
لقد جاءت في سورة الشمس القسم ببناء السماء، فقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)} (الشمس)
انتفض الفلكي، وقال: أرني المصحف..
تأمل سورة الشمس جيدا، ثم قال: عجبا.. كل حرف من حروف هذه الآيات يحمل إعجازا.. هذه حقائق كبرى تحملها هذه السورة تنقضي الأنفاس دون شرحها.
من أدرى محمدا بكل هذا!؟
علي: عد بنا إلى بناء الكون.. لقد ورد في القرآن الكثير عنه.. فالله تعالى يقول في آية أخرى: {
__________
(1) انظر: مقالة للدكتور زغلول النجار منشورة على العديد من المواقع ومنها موقع جريدة الأهرام في العدد الصادر بتاريخ 3 سبتمبر 2001 بعنوان: من أسرار القرآن - الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ). انظر النص الكامل على موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
وانظر: النسيج الكوني بين العلم والقرآن، أحدث الحقائق الكونية تتجلى في كتاب الله تعالى، بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (81)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (قّ:6)
انتفض الفلكي، وقال: أرني المصحف..
تأمل الآية.. ثم قال: لا يمكنني أن أمر على هذه الآية مرور الكرام.. هذه الآية تلخيص لحقائق كونية كبرى.
علي: فهلا تفضلت.. فشرحتها لي.
الفلكي: بكل سرور.. ولك الشكر الجزيل على أن أتحت لي سماع مثل هذه النصوص العجيبة.
علي: أرجو أن تبسط لي في شرحك قدر ما استطعت، فليس لي من الخبرة في الفلك ما يمكنني من فهم كل المصطلحات التي تطرحها.
الفلكي: علي ذلك.. فالقرآن قد تناول هذه الحقائق الكبرى بكل بساطة.. أنا أذهب هذا المذهب مع طلابي.. لا أحب التعقيد.. ولا أحب المعقدين.
في البداية أحب أن أبشرك بأن علماء الفلك حديثاً بدأوا باستخدام كلمة (بناء) building بدلا عن كلمة (فضاء) أي space.
علي: ما الفرق بينهما؟
الفلكي: عندما بدأ العلماء اكتشاف الكون أطلقوا عليه كلمة (فضاء)، وذلك لظنّهم بأن الكون مليء بالفراغ.. ولكن بعدما تطورت معرفتهم بالكون واستطاعوا رؤية بنيته بدقة مذهلة، ورأوا نسيجاً كونياً cosmic web محكماً ومترابطاً، بدأوا بإطلاق هذا المصطلح القرآني (بناء) أي building.
لقد رأوا بالفعل بناء هندسيا مُحكما.. تشكل المجرات وتجمعاتها لبنات هذا البناء.. بل إنهم أصبحوا يتحدثون عن هندسة بناء الكون، ويطلقون مصطلحات جديدة لها علاقة بذلك، مثل الجسور الكونية، والجدران الكونية، وأن هنالك مادة غير مرئية سمّوها بالمادة المظلمة dark
معجزات علمية (82)
matter، وهذه المادة تملأ الكون، وتسيطر على توزع المجرات فيه، وتشكل جسوراً تربط هذه المجرات بعضها ببعض (1).
وفي أحد الأبحاث التي أطلقها المرصد الأوروبي الجنوبي يصرح مجموعة من العلماء بأنهم يفضلون استخدام كلمة (لبنات بناء من المجرات) بدلاً من كلمة (المجرات)، ويؤكدون أن الكون مزيَّن بهذه الأبنية تماماً كالخرز المصفوفة على العقد أو الخيط.
في هذا البحث يقول بول ميلر وزملاؤه: (إن المجرات الأولى، أو بالأحرى لبنات البناء الأولى من المجرات، سوف تتشكل في خيوط النسيج. وعندما تبدأ ببث الضوء، سوف تُرى وهي تحدّد مختلف الخيوط غير المرئية، وتشبه إلى حد كبير الخرز على العقد} (2)
ليس هؤلاء وحدهم من قال هذا، بل جميع العلماء يؤكدون حقيقة البناء الكوني، ولا تكاد تخلو مقالة أو بحث من استخدام مصطلح بنية الكون structure of universe.
وهذا يدل على أن العلماء متفقون اليوم على هذه الحقيقة العلمية، أي حقيقة البناء.
فالسماء بناء متكامل.. هذا أحسن وأدق وصف علمي لها.
علي: لقد وردت آيات من القرآن الكريم تصف الكون بهذه الصفات.
فتح المصحف، وراح يقرأ قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:22).. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
__________
(1) المادة المظلمة هي مادة تملأ أكثر من 95 % من الكون، وهي لا تُرى أبداً ولكن هنالك دلائل كثيرة تؤكد وجودها. لمزيد من الاطلاع هنالك مئات المقالات العلمية والاكتشافات حول هذه المادة، انظر مقالة بعنوان (المادة المظلمة في قلب المجرّات) على موقع الكون اليوم:
http://www.universetoday.com/am/publish/dark_matter_concentrated.html
(2) انظر في هذا مقالة بعنوان (لمحة عن النسيج الكوني) لثلاثة من علماء الغرب الأكثر شهرة في هذا المجال وهم: عالم الفلك بول ميلر من معهد الفيزياء الفلكية بألمانيا، وجون فينبو من نفس المعهد، وبارن تومسون من معهد الفيزياء والفلك بالدانمارك.
معجزات علمية (83)
صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (غافر:64)
ازداد عجب الفلكي.. وقال: هذه كلمات غريبة.. كل كلمة منها معجزة من المعجزات.. بل كل حرف منها معجزة من المعجزات.. من أدرى محمدا بكل هذا؟
علي: والقرآن يصف بالسماء بالإضافة إلى هذا إلى تزيينها، فهي بناء مزين.. فالله تعالى يقول: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} (الحجر:16)، وهو يقول: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (قّ:6)
الفلكي: هذه آيات عجيبة.. إن العلم انقطعت أنفاسه قبل أن يتعرف عليها.. فكيف وصل محمد إلى كل ذلك؟.. ولم اهتم محمد كل ذلك الاهتمام بالسماء مع أن الكتاب المقدس لا يكاد يذكرها!؟
علي: لقد ذكر الله تعالى السماء في القرآن الكريم في ثلاثمائة وعشرة موضعا.. وهو يقصد بالسماء كل ما يحيط بالأرض بدءا من نهاية نطاق المناخ إلى نهاية الكون التي لا يعلمها إلا الله.
ويشير القرآن الكريم إلى أن الله تعالى قد قسم السماء إلى سبع سماوات، كما قسم الأرض إلى سبع أرضين فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق:12)، وقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (الملك:3)، وقال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} (نوح:15)
ويشير القرآن الكريم إلى أن النجوم والكواكب هي من خصائص السماء الدنيا، فيقول: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات:6)، ويقول: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت:12)، ويقول: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (الملك:5)
معجزات علمية (84)
الفلكي: هذه حقائق عظيمة عن البناء الكوني.. إن القرآن يذكر طوابق الكون، ويصفها كما نصف نحن البروج والعمارات.
علي: لقد وصف القرآن السماء بكونها ذات البروج، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج:1)
الفلكي: مع أنا لم نصل بعد إلى كثير مما ذكرت هذه الآيات.. فإن المنطق السليم.. وما توصلنا إليه من العلوم في هذا الميدان لا يؤدي إلا إلى هذا..
التفت إلى المصحف، وقال: إن العلم يحتاج إلى أن تنقطع أنفاسه ليعلم ما يورده الكتاب الذي تحمله.
علي: إن هناك من يسخر منا إذا ذكرنا أن في القرآن الكريم حقائق فلكية.
الفلكي: ليست هذه حقائق فلكية فقط.. إنها علم الفلك نفسه.. إن كل تلك المجلدات الضخمة التي لهثت البشرية خلفها آلاف السنين لا تعدل آية واحدة يقولها هذا الكتاب.
علي: هم ينظرون إلى حجم تلك الكتب.. ويقارنوه بحجم القرآن، فيمتلئون سخرية.
الفلكي: سأضرب لك مثالا يرد كيدهم في نحورهم..
أرأيت لو أن محققين تتبعوا خيوطا كثيرة، واستشهدوا آلاف الشهود، وكتبوا في القضية ألف كتاب.. أيعدل كل هذا الجهد.. وهذه الكتب إقرار المتهم بتهمته؟
علي: لا.. فالإقرار سيد الأدلة.. وكل تلك الكتب يمكن أن تملأ بسخف كثير لا حقيقة فيه.. وقد رأينا ذلك كثيرا.
الفلكي: فالعبرة إذن بالحقيقة.. لا بالطريق إلى الحقيقة؟
علي: أجل..
الفلكي: وهذا ما فعله القرآن في هذه الآيات التي ذكرتها.. إنه يصف لك الحقيقة كما هي، بينما نحن نتيه في التفاصيل الباحثة عنها.
معجزات علمية (85)
ثم التفت إلى علي، وقال: هل تعلم التصورات الهزيلة التي كان يعتقدها أهل عصر محمد نحو السماء؟
علي: وما كانوا يعتقدون؟
ابتسم الفلكي، وقال: في القرن السابع الميلادي، أي في العصر الذي وجد فيه محمد، كان الاعتقاد السائد عند الناس أن الأرض هي مركز الكون، وأن النجوم والكواكب تدور حولها.. لم يكن لأحد في ذلك الوقت يعلم بنية الكون، أو نشوءه أو تطوره.. لم يكن أحد يتخيل الأعداد الضخمة للمجرات.. بل لم يكن أحد يعرف شيئاً عن المجرات.
وبقي الوضع كما هو حتى جاءت النهضة العلمية الحديثة، عندما بدأ العلماء بالنظر إلى السماء عبر التليسكوبات المكبرة.. وتطور علم الفضاء أكثر عندما استخدم العلماء وسائل التحليل الطيفي لضوء المجرات البعيدة.. ثم بدأ عصر جديد عندما بدأ هؤلاء الباحثين استخدام تقنيات المعالجة بالحاسوب للحصول على المعلومات الكونية.
وفي مطلع الألفية الثالثة، دخل علم الفضاء عصراً جديداً باستخدام السوبر كومبيوتر، عندما قام العلماء برسم مخطط للكون ثلاثي الأبعاد، وقد كانت النتيجة اليقينية التي توصل إليها العلماء هي حقيقة أن كل شيء في هذه الكون يمثل بناءً محكماً.
سكت قليلا، ثم قال: كيف استطاع محمد أن يعرف كل هذا، مع أنه لم يكن له مرقاب واحد.
ثم التفت إلى علي، وقال: أتدري قدرات السوبر كومبيوتر الذي استطاع أن يرسم صورة لبعض الكون المرئي؟
علي: لا.. إلا أني أعلم أنه قد طور حديثاً في العام 2000.. وأنه يسمى الكمبيوتر العملاق supercomputer وذلك لاستخدامه في عمليات المحاكاة.
الفلكي: لقد بلغت سرعة هذا الجهاز أكثر من 12 تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة، ويزن هذا الجهاز أكثر من مئة ألف كيلو غرام، ويستهلك من الطاقة الكهربائية 1.2 ميغا واط،
معجزات علمية (86)
ويبلغ حجمه حجم ملعبي تنس، وكان حجم ذاكرة هذا الجهاز 6 مليون مليون بايت.
ويقول مدير الشركة IBM الصانعة للجهاز: (إن العمليات التي ينجزها هذا الجهاز في ثانية واحدة، يحتاج الإنسان لإنجازها بواسطة الآلة الحاسبة العادية لمدة 10 مليون سنة)
وقد قام بعض العلماء من بريطانيا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة قريبة بأضخم عملية حاسوبية لرسم صورة مصغرة للكون، وتم إدخال عشرة آلاف مليون معلومة في السوبر كمبيوتر، حول عدد ضخم من المجرات يزيد على 20 مليون مجرة! وعلى الرغم من السرعة الفائقة لهذا الجهاز إلا أنه بقي يعمل في معالجة هذه البيانات مدة 28 يوماً حتى تمكن من رسم صورة مصغرة للكون.
لقد تم إدخال معلومات عن توسع الكون، وعن سلوك النجوم والتجمعات المجرية، وعن المادة المظلمة في الكون، وكذلك تم إدخال معلومات عن الغاز والغبار الكوني، بهدف تقليد الكون في توسعه، وتحديد الطرق التي تسلكها المجرات والنجوم.
وقد قال البروفسور Carlos Frenk من جامعة درهام ببريطانيا ومدير هذا البرنامج: (إنه أعظم شيء قمنا به حتى الآن، ربما يكون الأكبر على الإطلاق في الفيزياء الحاسوبية. إننا وللمرة الأولى نملك نسخة طبق الأصل عن الكون، والتي تبدو تماماً كالكون الحقيقي، ولذلك يمكننا، وللمرة الأولى أن نبدأ التجارب على الكون)
التفت إلى علي، وقال: هذا تصريح من عالم ومكتشف كبير بأنها المرة الأولى في التاريخ التي يستطيع فيها العلماء رؤية حقائق يقينية عن شكل الكون، وتوزع المجرات فيه.
أتدري.. لقد كانت الصورة التي رسمها الكمبيوتر للكون تشبه إلى حد كبير نسيج العنكبوت، ولذلك فقد أطلق عليها العلماء مصطلح (النسيج الكوني)
لقد تبين أن كل خيط من خيوط هذا النسيج يتألف من آلاف المجرات، وهذه المجرات قد رصفت بطريقة شديدة الإحكام، أي أن هذا النسيج محكم إحكاماً شديداً. ولذلك قال عنه هذا
معجزات علمية (87)
العالم: (هذه المجموعات من آلاف المجرات شديدة اللمعان قد رُصّت بإحكام شديد)
علي: لماذا اختاروا هذه التسمية؟
الفلكي: إن مصطلح (النسيج الكوني) هو مصطلح حديث جداً، وقد أطلقه العلماء للتعبير عن بنية الكون لأنهم رأوا المجرات تصطف على خيوط دقيقة.
فلو تأملنا أي خيط كوني، فسوف نجده خيطاً دقيقاً جداً بالمقاييس الكونية، فإذا علمنا بأن النجم الواحد يمتد في الفضاء لمسافة تساوي عدة ثوان ضوئية، فإن الخيط الكوني يمتد لعدة بلايين من السنوات الضوئية!
ولو قمنا مثلاً بتصغير خيط كوني حتى يصبح قطره ميليمتراً واحداً، فإن طول هذا الخيط سيبلغ عدة مئات من الأمتار.. فتأمل دقة هذا الخيط الكوني، فهو رفيع جداً وطويل جداً، وعلى الرغم من ذلك نجده محكماً ومشدوداً بقوى كونية عظيمة.
ألا يدلك هذا على عظمة هذه الخيوط ودقة صنعها وإتقانها؟
علي: لقد ذكرتني بآية من القرآن تستعمل مصطلحا له علاقة بالنسيج.. فيها قسم بالسماء ذات الحبك..
انتفض الفلكي، وقال: أهناك آية تتحدث عن هذا.. اقرأها علي.
علي: هي آية قصيرة.. هي قسم.. والله لا يقسم إلا بما له قيمة وعظمة.. تقول هذه الآية: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} (الذريات:7)
الفلكي: هذه آية عظيمة تصور حقائق فلكية كثيرة.. إنها لا تعبر عن هذا فقط.. إنها تعبر عن أشياء كثيرة.. لقد عرف القرآن كيف يختار المصطلحات الفلكية.. إنه ينتقيها انتقاء (1).
علي: لقد احترت في معنى الحبك لأني وجدت خلافا فيها.. ففي اللغة لها دلالات كثيرة..
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، والسماء ذات الحبك، الدكتور: زغلول النجار، الأهرام: 41909 السنة 126 - 3 سبتمبر 2001.
معجزات علمية (88)
الفلكي: وهذا ما جعلني أتعجب من هذه الدقة العجيبة في اختيار المصطلحات.. فكل المعاني التي قيلت في اللغة عن (الحبك) تصلح لوصف السماء.
أورد لي ما قال اللغويون في الكلمة.. وسأورد لك ما قال الفلكيون عنها.
علي: لفظة (الحبك) مستمدة من الفعل (حبك)، بمعني شد وأحكم.
ويقال: (حبك) النساج الثوب، أي أجاد نسجه، و(حبك) الحائك الثوب أي أجاد صنعه، وضبط أبعاده، فالأمر (المحبوك) المحكم الصنعة.
ويقال في اللغة: (حبك) الأمر (يحبكه} (تحبيكا)، أي وثقه وشدده.
الفلكي: من الاستعراض اللغوي الذي ذكرته، ومن ربط السماء بالحبك نجد المعاني التالية:
1 ـ السماء ذات الصنع المحكم والإبداع في الخلق.
2 ـ السماء ذات الروابط الشديدة والنسيج المحكم.
3 ـ السماء ذات التباين الواضح في كثافة المادة المكونة لها.
4 ـ السماء ذات المدارات المحددة لجميع الأجرام الجارية فيها.
علي: فهل علم الفلك يدل على هذه جميعا؟
الفلكي: أجل.. كلها حقائق نطق بها العلم.. ونطق بها قبله القرآن.
علي: فلنرجع إلى بناء الكون.. لقد عرفنا أن الكون منسوج نسجا محكما، وكل نسج يحتاج إلى خيوط، أو هو مبنيا بناء دقيقا، وكل بناء يحتاج إلى لبنات.. فما لبنات الكون؟
الفلكي: بعد إطلاق القمر الصناعي المعروف باسم مستكشف الخلفية الإشعاعية للكون في سنة 1989 م تمكن العلماء من إدراك ستة نطق متمركزة حول ما يعتقد بأنه مركز الانفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون: أولها ما يسمى بنطاق الانفجار العظيم، أو نطاق كرة النار الأولي، ويمتد بقطر يقدر بحوالي بليون سنة ضوئية حول نقطة يعتقد بأنها مركز الانفجار الكوني العظيم.
يليه النطاق الغامض، وهو يضم سحبا بيضاء كثيفة تحيط نطاق الانفجار العظيم بسمك
معجزات علمية (89)
يصل إلى بليوني سنة ضوئية.
يلي ذلك النطاق بعد النطاق الغامض، وهو يضم سحبا من دخان السماء تغلف النطاق الغامض بسمك يتراوح بين بليونين إلى ثلاثة بلايين من السنين الضوئية.
يلي ذلك نطاق أشباه النجوم السحيقة، وهو يضم أكثر أشباه النجوم بعدا عنا، ويمتد بسمك يقدر بحوالي خمسة بلايين من السنين الضوئية حول النطاق السابق.
يلي ذلك نطاق أشباه النجوم القديمة، وهو يضم أقرب أشباه النجوم إلينا، ويمتد بسمك يقدر بحوالي سبعة بلايين من السنين الضوئية حول نطاق أشباه النجوم السحيقة.
يلي ذلك كله نطاق المجرات، وهو يحيط النطق السابقة كلها بسمك يقدر بحوالي أربعة بلايين من السنين الضوئية.
ونتيجة لهذا.. فإن قطر الجزء المدرك من السماء يقدر بحوالي 23 بليون سنة ضوئية علي الأقل.
علي: هذه السماء.. فحدثني عن العالم الذي ننتمي إليه.. حدثني عن المجرات (1)؟
الفلكي: المجرات هي نظم كونية شاسعة الاتساع تتكون من التجمعات النجمية والغازات والغبار الكونيين (الدخان الكوني) بتركيز يتفاوت من موقع لآخر في داخل المجرة، وقد تضم المجرة الواحدة عشرات البلايين إلى بلايين البلايين من النجوم.
وقد أحصى علماء الفلك في الجزء المدرك وحده من السماء مائتي ألف مليون مجرة ــ علي الأقل ــ بعضها أكبر من مجرتنا كثيرا، وبعضها أصغر قليلا.
علي: فهل تتشابه هذه المجرات؟
الفلكي: ألم تعرف أن معاني الحبك التباين والاختلاف؟
علي: أجل..
__________
(1) ذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي أن الإشارة للمجرات هي في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (البروج:1)، فكل مجرة من المجرات برج من البروج التي تتشكل منها السماء.. وسنتحدث عن هذه الآية في المبحث التالي لهذا المبحث.
معجزات علمية (90)
الفلكي: فكذلك هذه المجرات تتباين في أشكالها كما تتباين في أحجامها، وفي شدة إضاءتها، فمنها الحلزوني، والإهليلجي، وما هو غير محدد الشكل، ومنها ما هو شديد الاضاءة، وما يبدو علي هيئة نقاط باهتة لا تكاد تدرك بأكبر المناظير المقربة.
علي: فحدثني عن المجموعة التي تنتمي إليها مجرتنا.
الفلكي: مجرتنا (درب اللبانة) تنتمي إلى مجموعة فيها أكثر من عشرين مجرة في تجمع يعرف باسم المجموعة المحلية للمجرات، يبلغ قطرها مليون فرسخ فلكي.. وذلك يساوي 3،261،500 سنة ضوئية.
وتحتوي المجموعة المحلية التي تتبعها مجرتنا علي ثلاث مجرات حلزونية، وأربع مجرات غير محددة الشكل، وأعداد من المجرات البيضانية العملاقة والقزمة، وقد تحتوي علي عدد أكبر من المجرات الواقعة في ظل مجرتنا، ومن هنا تصعب رؤيتها.
علي: إن المجموعة التي تنتمي إليها مجرتنا مجموعة عملاقة إذن؟
الفلكي: هناك حشود للمجرات أكبر من المجموعة المحلية من مثل حشد مجرات برج العذراء، فهو يضم مئات المجرات من مختلف الأنواع، ويبلغ طول قطره مليوني فرسخ فلكي أي أكثر من ستة ملايين ونصف من السنين الضوئية، ويبعد عنا عشرة أضعاف تلك المسافة (أي عشرين مليون فرسخ فلكي)
علي: فحدثني عن مجرتنا.
الفلكي: مجرتنا تسمى سكة التبانة، أو درب اللبانة، أو الطريق اللبني، وهي تعتبر في هذا الحشد هباءة منثورة في السماء.
علي: لقد ذكرت أن المجرات تتكون من النجوم.. فحدثني عنها.
معجزات علمية (91)
الفلكي: النجوم هي أجرام سماوية منتشرة بالسماء الدنيا، كروية أو شبه كروية، غازية، ملتهبة، مضيئة بذاتها، متماسكة بقوة الجاذبية على الرغم من بنائها الغازي، هائلة الكتلة، عظيمة الحجم، عالية الحرارة بدرجة مذهلة، وتشع كلاً من الضوء المرئي وغير المرئي بجميع موجاته.
علي: أنا محتار في كيفية تعرف الفلكيين على خصائص النجوم بالرغم من بعدها الساحق عنا.
الفلكي: إن ضوء النجم الواصل إلينا يمكننا من التعرف على العديد من صفات النجم الطبيعية والكيميائية من مثل درجة لمعانه، وشدة إضاءته، ودرجة حرارته، وحجمه، وكتلته، وموقعه منا، وسرعة دورانه حول محوره، وسرعة جريه في مداره، وتركيبه الكيميائي، ومستوي التفاعلات النووية فيه.. إلى غير ذلك من صفات.
علي: أسمع العلماء يصنفون النجوم كما يصنفون المجرات.
الفلكي: أجل.. وقد أمكن تصنيف النجوم العادية على أساس من درجة حرارة سطحها إلى نجوم حمراء (3200 درجة مطلقة) وهي أقلها حرارة، وإلى نجوم برتقالية، وصفراء، وبيضاء مائلة إلى الصفرة، وبيضاء، وبيضاء مائلة إلى الزرقة، وزرقاء (30،000 درجة مطلقة) وهي أشدها حرارة، وشمسنا من النجوم الصفراء متوسطة الحرارة إذ تبلغ درجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة.
والغالبية الساحقة من النجوم (90 بالمائة) تتبع هذه الأنواع من النجوم العادية التي تعرف باسم نجوم النسق الأساسي، والباقي هي نجوم في مراحل الانكدار أو الطمس أو في مراحل الانفجار والتلاشي، من مثل الأقزام البيضاء، والنجوم النيوترونية (النابضة وغير النابضة)، والثقوب السود في المجموعة الأولي، والعمالقة الحمر، والعمالقة العظام، والنجوم المستعرة، وفوق المستعرات في المجموعة الثانية.
علي: أرى من خلال حديثك أن النجوم تمر بمراحل مختلفة من الميلاد والشباب
معجزات علمية (92)
والشيخوخة.
الفلكي: أجل.. فهي تمر بجميع هذه المراحل قبل أن تنفجر أو تتكدس على ذاتها فتطمس طمساً كاملا، فهي تولد من الدخان الكوني بتكدس هذا الدخان على ذاته، وبفعل الجاذبية فتتكون نجوم ابتدائية، ثم تتحول هذه النجوم الابتدائية إلى النجوم العادية، ثم تنتفخ متحولة إلى العماليق الحمر، فإذا فقدت العماليق الحمر هالاتها الغازية تحولت إلى ما يعرف باسم السدم الكوكبية، ثم تنكمش على هيئة ما يعرف باسم الأقزام البيض، وقد تتكرر عملية انتفاخ القزم الأبيض إلى عملاق أحمر، ثم العودة إلى القزم الأبيض عدة مرات، وتنتهي هذه الدورة بالانفجار على هيئة فوق مستعر من الطراز الأول.
أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم العادي كبيرة (عدة مرات قدر كتلة الشمس) فإنه ينتفخ في آخر عمره على هيئة العمالقة الكبار، ثم ينفجر على هيئة فوق مستعر من الطراز الثاني، فينتج عن هذا الانفجار النجوم النيوترونية النابضة، وغير النابضة، أو الثقوب السود، وذلك حسب الكتلة الابتدائية للنجم.
علي: لقد ذكرني حديثك هذا عن النجوم وعظمتها بآية من القرآن.. هي قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} (الواقعة)
الفلكي: هذه آية عظيمة.. إنها تبين أن الإنسان بنظرته القاصرة لا يمكن أن يعرف حقيقة عظمة النجوم (1)..
وفوق ذلك ذكرت مواقع النجوم بدل النجوم.. وفي ذلك إشارات جليلة.. سأذكر لك بعض ما توصلنا إليه منها:
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، فلا أقسم بمواقع النجوم، الدكتور: زغلول النجارن الأهرام: 41860 السنة 125 - 16 يوليو 2001.
معجزات علمية (93)
الإشارة الأولى التي تشير إليها تلك الكلمة القرآنية.. وهي إشارة لها أهميتها العظمى.. هي أنه نظرا للأبعاد الشاسعة التي تفصل نجوم السماء عنا، فإننا لا يمكن لنا رؤية النجوم من على سطح الأرض أبدا، ولا بأية وسيلة مادية، وكل الذي نراه من نجوم السماء هو مواقعها التي مرت بها، ثم غادرتها، إما بالجري في الفضاء الكوني بسرعات مذهلة، أو بالانفجار والاندثار، أو بالانكدار والطمس.
فالشمس وهي أقرب نجوم السماء إلينا تبعد عنا بمسافة مائة وخمسين مليون كيلومتر، فإذا أنبثق منها الضوء بسرعته المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية من موقع معين مرت به الشمس فإن ضوءها يصل إلى الأرض بعد ثماني دقائق وثلث دقيقة تقريبا، بينما تجري الشمس بسرعة تقدر بحوالي 19 كيلومترا في الثانية في اتجاه نجم النسر، فتكون الشمس قد تحركت لمسافة لا تقل عن عشرة آلاف كيلومتر عن الموقع الذي انبثق منه الضوء.
وأقرب النجوم إلينا بعد الشمس، وهو المعروف باسم الأقرب القنطوري يصل إلينا ضوؤه بعد 4،3 سنة من انطلاقه من النجم، أي بعد أكثر من خمسين شهرا يكون النجم قد تحرك خلالها ملايين عديدة من الكيلومترات، بعيدا عن الموقع الذي صدر منه الضوء، وهكذا فنحن من على سطح الأرض لا نري النجوم أبدا، ولكننا نري صورا قديمة للنجوم انطلقت من مواقع مرت بها، وتتغير هذه المواقع من لحظة إلى أخري بسرعات تتناسب مع سرعة تحرك النجم في مداره، ومعدلات توسع الكون، وتباعد المجرات عنا، والتي يتحرك بعضها بسرعات تقترب أحيانا من سرعة الضوء.
وأبعد نجوم مجرتنا عنا يصلنا ضوؤه بعد ثمانين ألف سنة من لحظة انبثاقه من النجم، بينما يصلنا ضوء بعض النجوم البعيدة عنا بعد بلايين السنين.
وهذه المسافات الشاسعة مستمرة في الزيادة مع الزمن نظرا لاستمرار تباعد المجرات عن بعضها البعض في ضوء ظاهرة اتساع الكون، ومن النجوم التي تتلألأ أضواؤها في سماء ليل
معجزات علمية (94)
الأرض ما قد انفجر وتلاشي أو طمس واختفي منذ ملايين السنين، لأن آخر شعاع انبثق منها قبل انفجارها أو طمسها لم يصل إلينا بعد، والضوء القادم منها اليوم يعبر عن ماض قد يقدر بملايين السنين.
علي: هذه إشارة مهمة.. فالقرآن يخاطب البشر.. وهم لا يرون إلا المواقع، فلذلك حدثهم بما يرون.
الفلكي: هناك إشارة أخرى.. وهي أنه ثبت علميا أن الضوء مثل المادة ينحني أثناء مروره في مجال تجاذبي مثل الكون، وعليه فإن موجات الضوء تتحرك في صفحة السماء في خطوط منحنية.
وحينما ينعطف الضوء الصادر من النجم في مساره إلى الأرض، فإن الناظر من الأرض يري موقعا للنجم على استقامة بصره، وهو موقع يغاير موقعه الذي صدر منه الضوء، مما يؤكد مرة أخري أن الإنسان من فوق سطح الأرض لا يمكنه أن يري النجوم أبدا.
علي: هذه إشارة جليلة، وهي تذكرني بآيات قرآنية يذكر الله تعالى فيها المعارج.. والمعارج هي الخطوط المنحنية.. {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (المعارج:3)
بل يصف الحركة ذاتها بالعروج، وهو الانعطاف والخروج عن الخط المستقيم، كما يمكن أن يفيد الصعود في خط منعطف، كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج:4)
ولهذا كان وصف رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السماوات العلا بالعروج، وسميت الليلة باسم المعراج.
الفلكي: وهناك إشارة ثالثة.. وهي أن النجوم في داخل المجرة الواحدة مرتبطة مع بعضها بالجاذبية المتبادلة بينها، والتي تحكم مواقع النجوم وكتلها.
فمواقع النجوم على مسافات تتناسب تناسبا طرديا مع كتلها، ومرتبطة ارتباطا وثيقا بقوي
معجزات علمية (95)
الجاذبية التي تمسك بها في تلك المواقع وتحفظ السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله ومن هنا كانت قيمة مواقع النجوم التي كانت من وراء هذا القسم القرآني العظيم.
علي: هذه إشارة جليلة، تؤكد ما ورد في القرآن من تماسك الكون (1).
الفلكي: وهناك إشارة رابعة لاختيار القرآن لكلمة المواقع.. فقد أثبتت دراسات الفلك، ودراسات كل من الفيزياء الفلكية والنظرية أن الزمان والمكان شيئان متواصلان، ومن هنا كانت مواقع النجوم المترامية الأبعاد تعكس أعمارها الموغلة في القدم، والتي تؤكد أن الكون الذي نحيا فيه ليس أزليا، بل كانت له بداية يحددها الدارسون باثني عشر بليونا من السنين على أقل تقدير.
ومن هنا كان في القسم بمواقع النجوم إشارة إلى قدم الكون مع حدوثه، وهي حقائق لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا بنهاية القرن العشرين.
فقد كان اليونانيون القدامى يصرون على أن الأرض هي مركز الكون، أو أن الشمس هي مركز الكون، وأن كليهما ثابت لا يتحرك، غير متصورين وجود أية بنية سماوية إلا حول الشمس.
وكان غيرهم من أصحاب المدنيات السابقة واللاحقة يؤمنون بديمومة الأرض والنجوم، وما بها من صور المادة والطاقة، بل ظل الغربيون إلى أوائل القرن الثامن عشر الميلادي يؤمنون بأن النجوم مثبتات بالسماء، وأن السماء بنجومها تتحرك كقطعة واحدة حول الأرض، وأن الكون في مركزه ثابت غير متحرك، ومكون من عناصر أربعة هي التراب، والماء، والهواء والنار وحول تلك الكرات الأربع الثابتة تتحرك السماوات.
سكت الفلكي قليلا، ثم قال: أنا إلى الآن لا أزال محتارا فيمن علم محمدا كل هذه العلوم.. إن هذه العلوم لا يطيق بشر أن يعرفها.. فليست هي بالحدس العقلي، ولا العرفان الوجداني، ولا المدارك الحسية.. إنها من مصدر يعرف الكون حق المعرفة.. فهل استطاع محمد أن يتصل بذلك المصدر؟
__________
(1) سنتحدث عن تماسك الكون في مبحث لاحق.
معجزات علمية (96)
سكت علي.. فلم يجبه.. لقد كان يكتفي بإيصال الحقائق، ثم يترك الآخرين يصلون إلى النتائج المرتبطة بها..
علي: في القرآن آية أخرى تتعلق بالنجوم.. احتار المفسرون في تحديد الفهم المناسب لها.
الفلكي: اقرأها علي.
أخذ علي يقرأ من سورة الطارق: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} (الطارق)
الفلكي: أعد علي قراءة الآيات.. أو أرني المصحف لأقرأها بنفسي.
أراه علي الآية، فراح يتأمل فيها.. وفجأة صاح: نعم.. هو ذلك.. الآية تقصد ذلك بدليل جواب القسم {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطارق:4)
علي: ما تقصد بذلك؟
الفلكي: هذه الآية تشير إلى أنواع من النجوم تتناسب مع وصفها، كما تتناسب مع جواب القسم الذي جاء بعدها (1).
علي: وضح لي ذلك.. وأرجو أن لا يكون إلا بحقائق العلم.. فالقرآن لا يفسر بظنيه.
الفلكي: بل بحقائقه.. ولن تجد عند صاحبك إلا الحقائق.. أنا مثلك كثير الشك.. ولا يقنعني إلا اليقين الصرف.
علي: فما هذا اليقين العلمي الذي تشرف بالارتباط بهذه الآية؟
الفلكي: من الواضح من هذه الآيات أن القسم جاء فيها بنجم خاص بذاته سمي بالطارق، ووصف بكونه النجم الثاقب.
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، والسماء والطارق، د. زغلول النجار، الأهرام: 41895 السنة 126 - 20 أغسطس 2001.
معجزات علمية (97)
علي: هذا متفق عليه.. لكن الخلاف في حقيقة هذا النجم وتحديده.
الفلكي: أجل.. هذا هو سر الإعجاز في الآية.. فالقسم في العادة لا يكون إلا تنبيها على أهمية الأمر المقسوم به.
علي: أجل.. فالقسم في القرآن لا يذكر إلا لضرورة المقسم به، لاستقامة الكون ومكوناته، أو لاستقامة الحياة فيه، أو لكليهما معا.. ذلك لأن الله تعالى غني عن القسم لعباده.
الفلكي: ولهذا، فإن معني الطارق الذي هو النجم الثاقب لا يتحدد إلا بمعرفة دقيقة لطبيعة النجوم وأنواعها ومراحل تكونها.
علي: ولذلك قصدتك بهذا السؤال.. فهذه قضية علمية صرفة، ولابد من توظيف المعارف العلمية لفهم دلالاتها.. فلا يمكن لتلك الدلالات أن تتضح في الإطار اللغوي وحده.
الفلكي: ولكن الدلالات اللغوية هي التي تحدد لنا خصائص المذكور لنعرف من خلالها من تنطبق عليه تلك الخصائص.
علي: أجل.. وسأوضح لك ذلك.. فكلمة (الطارق) اسم فاعل من الطرق بمعني الضرب بشدة، وأصل الطرق الدق، ومنه سميت المطرقة التي يطرق بها، وهذا هو الأصل، ولكن الكلمة مع ذلك استخدمت من باب المجاز لتدل على الطريق، أي السبيل، لأن السابلة تطرقها بأقدامها، ثم صارت اسما لسالك الطريق، باعتبار أنه يطرقها بقدميه.
واستخدم لفظ الطارق كذلك علي سبيل المجاز للتعبير عن كل ما جاء بليل، فسمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلي طرق الأبواب المغلقة.
ثم اتسع هذا الاستعمال المجازي ليشمل كل ما ظهر بليل، ثم زيد في توسيعه حتي أطلق علي الصور الخيالية البادية لبعض الناس بالليل.
أما الثاقب الذي هو وصف للنجم.. فلم يرد إلا في هذا الموضع من القرآن الكريم.. مع أن النجوم قد ورد ذكرها في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة، أربع منها بالإفراد (النجم)، وتسع
معجزات علمية (98)
بالجمع (النجوم)
ولم يوصف أي منها بالطارق النجم الثاقب، إلا في هذه الآيات، والتي حملت اسم الطارق تأكيدا على أن الطارق نجم محدد بذاته.
الفلكي: إن ما ذكرته الآيات من الأوصاف ينطبق تماما على مجموعة من النجوم في مراحل معينة من عمرها.. هذه النجوم هي مصادر الإشعاع الراديوي المميز بالسماء، ومن أهمها النجوم النيوترونية شديدة التضاغط والمعروفة باسم النجوم النابضة أو النابضات أو النوابض..
علي: ما الذي جعلك ترى أن هذه الأنواع من النجوم هي المقصودة في القسم في الآيات الكريمة (1)؟
الفلكي: أولا هذه النجوم تطرق صفحة السماء، وتثقب صمتها بنبضاتها السريعة التردد، وموجاتها الراديوية الخاطفة.. وثانيا، هذه النوابض خطيرة جدا.. وهي تتناسب مع جواب القسم، فقد ربط ذكر هذا النوع من النجوم بالحفظ.. وقد حصل هذا بالفعل، فأقرب النوابض الراديوية إلينا يبعد عنا بمسافة خمسة آلاف من السنين الضوئية.. ولولا هذا البعد لكان لنبضاتها المتسارعة أثر مدمر لكل حياة علي الأرض.
علي: في القرآن آية أخرى استعصت على المفسرين (2)، فأرجو أن تبين لي كيف يفهمها العلم الحديث.
__________
(1) هناك من ذهب إلى أن المقصود بالطارق النجم الثاقب (الثقوب السوداء)، والقولان متقاربان، لأن النجم النيوتروني هو الذي يتحول إلى ثقب أسود، ولا يستغرق ذلك منه سوى فترة زمنية قصيرة.. فهو يحتاج إلى أقل من ثانية واحدة، فقد ترى نجماً نابضاً، وفجأة تراه وكأنه قد انطفأ، وحقيقة أمره أنه يمكن أن يكون قد تحول إلى ثقب أسود.. انظر: تأملات فى سورة الطارق، د. سلامه عبد الهادي، أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
(2) انظر الخلاف الوارد فيها في تفسير ابن كثير: 7/ 443.
معجزات علمية (99)
الفلكي: اقرأها علي.. لقد أصبحت موقنا الآن أن كل ما ذكره القرآن صحيح.. فيستحيل على من يلم بكل تلك المعارف أن يقع في أي خطأ.
علي: هي الآية التي أقسم الله تعالى فيها بالنجم إذا هوى، فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (لنجم:1)
الفلكي: هذا يحتاج إلى معرفة أطوار الحياة التي يمر بها النجم (1).. وقد سبق لي أن تحدثت عنها باختصار.. ولو تأملت في طريقة تطور النجم، فإنك سترى أن الميكانيكية الأساسية التي تلعب دوراً مهما في تطور النجم من مرحلة إلى أخرى هي عملية انكماشه نحو مركزه.. فالنجم يبدأ حياته من انكماش سحابة نحو مركزها، وبعد استقراره فترة طويلة من حياته ينتفخ ليصبح عملاقاً أحمر، ولكنه يعاني من انكماش يستمر في لبه ينقله من مرحلة لأخرى في التفاعلات النووية.. ثم إنه بعد ذلك يعاني من انكماش رهيب قبل موته يؤدي إلى طمسه وتكويره على بعضه، وقبل أن ينفجر النجم الكبير (كسوبرنوفا هائلة)، فإنه يكون قد مر بانكماش رهيب لمادته نحو مركزه.
وهكذا فإن تهاوي مادة النجم وانكماشه نحو مركزه تعد بحق ميكانيكية أساسية يتحرك بها النجم من مرحلة إلى أخرى.
ولعل هذا الذي ذكرته لك مظهر من المظاهر المفسرة لهذه الآية..، فهذا قسم بآية عظيمة تصور حدثاً مهما في حياة النجوم، وهي إشارة ميكانيكية أساسية تتكرر مرات ومرات في حياة النجوم.
__________
(1) انظر: حياة النجوم بين العلم والقرآن الكريم، د /محمد صالح النواوي، الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم جامعة القاهرة، رئيس مجلس إدارة جمعية الإعجاز العلمي في القرآن، موقع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (100)
علي: سمعتك تذكر الثقوب السوداء (1)، وأنها جزء من بناء السماء، فما خبرها؟
الفلكي: خبرها عظيم، وشأنها جليل، ودورها خطير.
علي: من هي التي استحقت كل هذا التعظيم؟
الفلكي: هي بعبارة مختصرة عبارة عن نجوم ثقيلة جداً، وهي آخر مرحلة من عمر النجم.
أنت تعلم أن النجوم تمر بمرحلة الولادة، ثم تكبر وتتطور، ثم تأتي مرحلة الانهيار والموت، والثقب الأسود يمثل المرحلة الأخيرة.. فعندما يكبر حجم النجم لدرجة هائلة تزداد الجاذبية لحدود عظيمة جداً، فيجذب إليه كل شيء حتى الضوء لا يستطيع الإفلات من حقل جاذبيته الفائقة.
ولكي نأخذ فكرة عن ضخامة أوزان هذه الثقوب، فإن ثقباً أسود بوزن الأرض يكون قطره أقل من سنتمتر واحد فقط، وثقبا أسود بوزن الشمس سيكون قطره 3 كيلو متراً.
هذه الثقوب السوداء في الحالة العادية.. أما الثقوب السوداء الضخمة، فتتواجد في قلب مجرتنا والمجرات الأخرى، ويزن الواحد منها مليون مرة وزن الشمس.
علي: لقد ذكرت أن الضوء لا يستطيع الإفلات من حقل جاذبية الثقوب السوداء.
الفلكي: أجل.. نتجة لسرعتها الهائلة، وكثافتها العالية.
علي: فلا يمكن رؤيتها في السماء إذن كما نرى سائر النجوم؟
الفلكي: أجل.. لا يمكن رؤية هذه الأجسام أبداً، لأنها شديدة الاختفاء، وهذا سبب تسميتها بالثقوب السوداء.. زيادة على ذلك فهذه الأجسام تسير، بل تجري في الكون بسرعات عالية، وتجذب إليها كل جسم يقترب منها.
علي: فكيف استطاع العلماء رؤية هذه الأجسام مع اختفائها وسرعتها؟
__________
(1) انظر حول الثقوب السوداء والقرآن الكريم المراجع التالية: بحث للدكتور زغلول النجار حول الثقوب السوداء، الثقوب السوداء والقرآن الكريم، بقلم المهندس: عبد الدائم الكحيل.
معجزات علمية (101)
الفلكي: أثناء مراقبة العلماء الطويلة لمجموعة من النجوم، إذا بهم يرون بعض هذه النجوم يختفي ضوؤه فجأة ثم يظهر بعد ذلك، وعندما عرضت هذه الصورة على علماء الفلك أجمعوا على أن ضوء هذه النجوم قد اختفى بسبب مرور ثقب أسود مما أدّى إلى حجب الأشعة الضوئية الصادرة من ذلك النجم، وذلك لفترة من الزمن ثم عودة النجم للظهور من جديد.
إن ذلك يشبه ما يحدث أثناء مرور القمر أمام الشمس، فيحجب عنا ضوءها.
هذا ما يمكنني أن أشرحه لك.. وهناك أمور قد لا تطيق فهمها.. المهم أن العلماء الآن كلهم متفقون على وجود الثقوب السوداء.
علي: لقد فهمت من خلال شرحك لهذا أن الثقوب السوداء تتميز بالخصائص التالية:
الأول: أنها نجوم ثقيلة وشديدة الاختفاء، فلا يمكن رؤيتها أبداً.
والثاني: أنها تسير.. بل تجري بسرعات كبيرة جداً تبلغ آلاف الكيلومترات في الثانية الواحدة.
والثالث: أنها تجذب وتبتلع وتكنس كل ما تجده في طريقها كنساً.
الفلكي: بورك فيك.. لقد ذكرت كل خصائصها بغاية الإتقان.. أنت بارع في التحليل.. ولك قدرة عقلية ممتازة ليتك توظفها في العلم.
الفلكي: أشكرك على هذا الثناء.. ولكني لم أذكر هذه الخصائص من تلقاء نفسي.
علي: فأين وجدتها؟
علي: في القرآن الكريم.
انتفض الفلكي، وقال: هل يمكن أن يذكر القرآن مثل هذا.. إن هذا غريب.. إن هذه الثقوب لا ترى بالمراقب.. ولا يمكن للعقل مهما بلغ من الذكاء أن يتصور وجودها، فكيف بتصور خصائصها؟
علي: لقد وردت آيتان في القرآن الكريم لطالما حيرت المفسرين، فذهبوا في تفسيرها كل
معجزات علمية (102)
مذهب، لا أرى أنها تنطبق بكل دقة إلا على ما ذكرته من هذه الثقوب.
الفلكي: اذكرهما لي.. أنت تعرف علمي باللغة العربية.
علي: هما في سورة التكوير.. في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} (التكوير)
الفلكي: أرني الآية في المصحف.
أراه عليا إياها، فراح يتأمل فيها، ويقول بينه وبين نفسه: القسم بالخنس.. هذه الكلمة من فعل (خَنَسَ)، أي اختفى ولذلك سُمِّي الشيطان بـ (الخنَّاس) أي الذي لا يُرى.. فـ (الخُنّس) هي الأشياء التي لا تُرى أبداً.. وهذا ينطبق تمام الانطباق على الثقوب السوداء.. بل لأجلها سميت ثقوبا سوداء.
و (الجوارِ) التي هي صفة الخنس مشتقة من الجري.. أي هي التي تجري وتسير بحركة محددة.. وهذا أيضا وصف صحيح ودقيق للثقوب السوداء.
و (الكُنّس): من فعل (كَنَسَ) وهي تدل على معنيين: أحدهما يدل علي سفر شئ عن وجه شئ وهو كشفه، والأصل الآخر يدل علي الاستخفاء، فالأول كنس البيت، وهو سفر التراب عن وجه أرضه، والمكنسه آلة الكنس، والكناسة ما كنس.
والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي، والكانس: الظبي يدخل كناسه.
وقد يكون الكنس جمع كانس (أي قائم بالكنس).. أو مختف من كنس الظبي أي دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر.. وسمي كذلك لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه.
فالكنس إذن يدل على الاختفاء، ويدل على القائم بعملية الكنس.
وهذا معنى صحيح.. بل دقيق جدا، فهذه الثقوب تكنس السماء.. تكنس كل ما تمر به، أو يمر بها.. إنها تجذبه كما تجذب المكنسة الأوساخ.
معجزات علمية (103)
سكت قليلا، ثم قال: هذه الصفات لا تنطبق بكمالها إلا على الثقوب السواد.. بل على الخنس الجواري الكنس.. هذا مصطلح أفضل من مصطلح (الثقوب السوداء).. إن القرآن يعلمنا كيف نعبر..
علي: هل ترى في اصطلاح (الثقوب السوداء) تقصيرا حتى رضيت هذا المصطلح القرآني بدلا عنه؟
الفلكي: أجل.. فالعلم عندما يسمي هذه الكائنات بالثقوب السوداء يخطئ خطأ كبيرا.. فهذه التسمية غير دقيقة.. فكلمة (ثقب) تعني الفراغ، والأمر ليس كذلك، فهذه النجوم ذات أوزان ثقيلة جداً.. وكلمة (أسود) أيضاً غير صحيحة علميّاً، فهذه النجوم لا لون لها لأنها لا تُصدر أي أشعة مرئية.
لذلك فإن كلمة (الخُنَّسْ) هي الكلمة المعبِّرة تعبيراً دقيقاً عن حقيقة هذه الكائنات.
بل إن كلمة (الكُنَّس) التي عبَّر بها القرآن عن حقيقة هذه النجوم، نجدها في آخر المقالات العلمية عن هذه المخلوقات.. حتى أن العلماء يقولون عنها: (إنها تكنُسُ صفحة السماء)
سكت قليلا، ثم قال: هذا إعجاز لا يطيق معرفته بشر.. لو لم يكن في القرآن من علم الفلك إلا هذا لكفى.
علي: فلنقترب قليلا من الكائنات المحيطة بنا.. حدثني عن الشمس.. ذلك النجم الذي أفاض القرآن الكريم في ذكره.
الفلكي: الشمس هي النجم الذي تتبعه أرضنا، فتدور حولها مع باقي أفراد المجموعة الشمسية، وتدور معها حول مركز المجرة، وهي أقرب نجوم السماء إلينا.. وهي تبدو لنا قرصا صغيرا في السماء مع أن حجمها يزيد عن مليون ضعف حجم الأرض نظرا لبعدها الشاسع عنا.
معجزات علمية (104)
وتقدر درجة حرارة لب الشمس بحوالي 15 مليون درجة مطلقة، ودرجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة، بينما تصل درجة الحرارة في هالة الشمس إلى مليوني درجة مطلقة.
علي: لقد ورد في القرآن آيات عن حركة الشمس وجريها طعن فيها بعض الناس.. فأرجوا أن تنبئني من علمها.
الفلكي: اقرأها علي..
علي: لقد أخبر القرآن أن الشمس تجري لمستقر لها، فقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يس: 38)
وذكر ذلك في آيات أخرى، فقال: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يّس:40)، وقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (لقمان:29)، وقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (فاطر:13)
الفلكي: هذه آيات عظيمة كل آية تتحدث عن معجزات علمية لم يفطن العلم الحديث ـ مع ما أوتي من وسائل ـ إلا لبعض ما تدل عليه.
ولكني سأكتفي هنا بالحديث عما طلبته مني.
نعم صدق القرآن فيما تحدث به عن جري الشمس.. فالشمس في حالة جري مستمر حتى تصل إلى مستقرها المقدّر لها، وهذه الحقيقة القرآنية لم يصل إليها العلم الحديث إلا في القرن التاسع
معجزات علمية (105)
عشر، حيث كشف العالم الفلكي (ريتشارد كارينغتون) أن الشمس والكواكب التي تتبعها تدور كلها في مسارات خاصة بها وفق نظام ومعادلات خاصة (1).
علي: فهل استطاع العلم الحديث التوصل إلى بعض ما يرتبط بحركتها هذه؟
الفلكي: أجل.. فالشمس تجري بسرعة 220 كلم/ثانية حول مركز المجرة اللبنية ساحبة معها الكواكب السيارة التي تتبعها، بحيث تكمل دورة كاملة حول مجرتها كل مائتين وخمسين مليون سنة.
فمنذ ولادتها التي ترجع إلى 4.6 مليار سنة، أكملت الشمس وتوابعها 18 دورة حول المجرة اللبنية التي تجري بدورها نحو تجمع من المجرات، وهذا التجمع يجري نحو تجمع أكبر هو كدس المجرات، وكدس المجرات يجري نحو تجمع هو كدس المجرات العملاق، فكل جرم في الكون يجري ويدور ويسبح.
لقد صدق القرآن.. بل عبر أحسن تعبير عندما قال في الآيات التي تلوتها علي: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40)
علي: لقد ذكر القرآن أن للشمس مقرا تنتهي إليه، فهل وصل العلم إلى معرفة هذا المقر؟
الفلكي: إن علماء الفلك يقدّرون بأن الشمس تسبح إلى الوقت الذي ينفد فيه وقودها فتنطفئ.. أنت تعلم أن النجوم ـ كسائر المخلوقات ـ تنمو وتشيخ، ثم تموت، وقد ذكر علماء الفلك في وكالة الفضاء الأميركية (NASA) أن الشمس عندما تستنفذ طاقتها تدخل في فئة النجوم الأقزام، ثم تموت وبموتها تضمحل إمكانية الحياة في كوكب الأرض.
وقد ذكرت هذه الوكالة الفضاء أن الذي يظهر أن الشمس قد كانت نشطة منذ 4.6 بليون سنة وأنه عندها الطاقة الكافية لتكمل خمسة بليون سنة أخرى من الآن.
__________
(1) ذكرت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أن الشمس تدور بنفس اتجاه دوران الأرض، و(دوران كارنغتون) سمي نسبة للعالِم (ريتشارد كارنغتون)، العالم الفلكي الذي كان أول من لاحظ دوران البقع الشمسية مرة كل 27.28 يوماً.
معجزات علمية (106)
التفت إلى علي، وقال: هذا هو المعنى العلمي الذي أعطاه العلماء لمستقر الشمس، وهو قاصر كثيرا عن مراد القرآن.. فما ذكر في القرآن يدل على أن هذا المستقر الذي تنتهي عنده معلوم التفاصيل.. وهو ما لم ندركه لحد الآن.
ثم قال بينه وبين نفسه: ولكن من أدرى محمدا بهذه الحقائق.. إنها حقائق عظيمة لم يدركها العلم الحديث إلا بعد أن استعمل كل الوسائل، وبذل كل الجهود، حتى أنه في عام 1543 نشر العالم (كوبرنيكوس) كتابه عن الفلك والكواكب وأرسى في كتابه نظرية دوران الأرض حول الشمس، ولكنه اعتبر أن الشمس ثابتة.
ثم بدأت تتحول هذه النظرية إلى حقيقة بعد اختراع التلسكوب، وبدأ العلماء يميلون إلى هذه النظرية تدريجياً إلى أن استطاع العالم الفلكي (غاليليو) أن يصل إلى هذه الحقيقة عبر مشاهداته الدائمة وتعقّبه لحركة الكواكب والنجوم، وكان ذلك في القرن السابع عشر، وفي القرن نفسه توصّل (كابلر) إلى أن الكواكب لا تدور حول الأرض فحسب بل تسبح في مدارات خاصة بها إهليجية الشكل حول مركز هو الشمس.
وبقي الأمر على ما هو عليه إلى أن كشف (ريتشارد كارينغتون) في منتصف القرن التاسع عشر أن الشمس تدور حول نفسها خلال فترة زمنية قدرها بثمانية وعشرين يوماً وست ساعات وثلاث وأربعين دقيقة وذلك من خلال تتبّعه للبقع السوداء التي اكتشفها في الشمس كما جاء في وكالة الفضاء الأميركية.
علي: لقد وصف الله تعالى الشمس بكونها سراجا، بل سماها كذلك، فقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} (الفرقان:61)، وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح:16)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} (النبأ:13)
معجزات علمية (107)
الفلكي: صدق القرآن في هذا.. بل اختار أحسن تعبير يصف به الشمس، فهذه التسمية دقيقة جداً من الناحية العلمية.
ذلك أن السراج هو الوعاء الذي يوضع فيه الوقود ليحترق، ويعطي الحرارة والضوء..
وآلية عمل الشمس والتفاعلات النووية الحاصلة في داخلها تؤيد هذه التسمية، ذلك أن تركيب الشمس ونظام عملها عبارة عن وعاء مليء بالهيدروجين الذي يحترق باستمرار بطريقة الاندماج، ويبث الحرارة والضوء.
فالشمس ـ بذلك ـ عبارة عن فرن نووي ضخم وقوده الهيدروجين الذي يتفاعل باستمرار تفاعلاً اندماجياً، وينتج عنصر الهيليوم الأثقل منه مما يؤدي لإطلاق كميات كبيرة من الحرارة والنور.
سكت قليلا، ثم قال: إن هذه الآية تحدد الآلية الهندسية لعمل الشمس، قبل أن يكتشفها علماء الفلك بقرون طويلة.
علي: لقد ورد حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسوف الشمس.. أرجو أن توضحه لي.. لقد روي أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)
الفلكي: أهذا حديث صحيح عن نبيكم؟
علي: أجل.. هو صحيح.. وقد رواه الثقاة عن الثقاة.
الفلكي: هذا الحديث لا يقل روعة ولا عظمة ولا علما عما سبق ذكره.
علي: كيف ذلك.. وأنا لا أراه يتحدث عن أي جديد يتعلق بعلم الفلك، فالكسوف
معجزات علمية (108)
والخسوف ظاهرتان معروفتان من قديم (1).
الفلكي: ولكن محمدا تحدث عنها بطريقة مخالفة.. مخالفة تماما لما اشتهر في زمانه:
لقد كان الكثير من الناس قبل آلاف السنين يعتقدون أن الكسوف هو نتيجة لتصارع الآلهة، وكانت بعض الشعوب في الصين يرمزون للشمس بأنها طائر ذهبي، ويرمزون للقمر بضفدع وعند حدوث الكسوف فإن معركة ما تدور بين هذين الرمزين.
أما قبائل الأمازون فكانوا يعتقدون أن القمر أثناء الخسوف قد رماه أحد الأطفال بسهم في عينه مما أدى إلى نزيف في هذا القمر، ثم يُشفى القمر بعد ذلك ويعود لوضعه الطبيعي.
وكان الصينيون يفسرون ظاهرة كسوف الشمس على أن تنّيناً يحاول أن يبتلع قرص الشمس، لذلك كانوا يضربون بالطبول، ويقذفون بالسهام لأعلى محاولة منهم إخافة التنين وإعادة الشمس لهم من فمه.
وفي الهند كان الناس يغمرون أنفسهم بالماء عند رؤيتهم هذه الظاهرة لكي لا يسقط عليهم شيء منه..
ولغاية قرون قليلة، وفي عام 1230 م حدث كسوف في أوروبا الغربية في الصباح مما اضطر العمال للرجوع إلى منازلهم لظنهم أن الليل قد خيم.. لكن في غضون ساعة استعادت الشمس سطوعها مما أدهش الجميع.
وحتى يومنا هذا يعتقد الإسكيمو أن الشمس تختفي وتذهب بعيداً أثناء ظاهرة كسوف الشمس ثم تعود من جديد.
وفي ظل هذه الأساطير كان العرب ينظرون إلى كسوف الشمس على أنه يمثل موت إنسان عظيم، أو خسارة معركة عظيمة.
__________
(1) انظر: كسوف الشمس.. آية من آيات الله، بقلم المهندس: عبد الدائم الكحيل، باحث في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية.
معجزات علمية (109)
ولكن محمدا نظر إلى هذه الظاهرة نظرة علمية محضة، لقد أخبرهم أن الشمس والقمر مخلوقات وآيات مسخرة لله، ولا علاقة لهما بما يحدث على الأرض من ولادة أو موت أو غير ذلك.
وفي هذه العبارة وضع محمد أساساً للبحث العلمي في الظواهر الكونية على اعتبار أنها آيات من عند الله ومخلوقات تخضع لإرادة خالقها.
زيادة على ذلك، فإن هنالك شيئا مهما يثبت أن محمداً لم يكن من الصنف الذي يريد الشهرة أو المال.. فقد جاءه من يمدحه ويجعل من كسوف الشمس مناسبة لموت ابنه، وكان في إمكانه أن يسكت عن هذا الأمر، وأن يترك الناس يقدسونه ويرفعون من شأنه.
لو كان محمد يحب المديح والثناء لتركهم يتحدثون عن كسوف الشمس، وأنها انكسفت بسبب موت ابنه، وهذا سيزيده علوّاً عند قومه.. ولكنه لم يفعل كل ذلك.. إن هذا يجعلني أصدق في البحث عن محمد.. وعن حقيقة محمد التي أساء قومنا تصويرها.
علي: ألا ترى في الأمر بالصلاة عند الكسوف شيئا.. لكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا ينهى المسلمين عن رؤية كسوفها.. فصلاة الكسوف هي أطول صلاة في الإسلام، ولها هيئة تستدعي طولها، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن لا ينصرف من الصلاة حتى يرتفع الكسوف.
الفلكي: وهذا إعجاز آخر.. إن محمدا بهذا التشريع قد أفاد فوائد جمة:
أولا.. في انصراف المسلمين للصلاة وقاية لأعينهم من الأشعة تحت الحمراء الخطيرة الناتجة عن الرؤية المباشرة للشمس، والتي قد تسبب العمى الدائم.
وثاينا.. أراد محمد أن يقي الناس من كل تلك الخرافات التي تجعلهم ينظرون إلى الظاهرة بعين الخرافة الشعوذة.
وفوق ذلك كله، فإن محمدا يقرب الخلق إلى ربهم.. ويستعمل هذا الحادث وسيلة لذلك.
إن هذا الحديث آية من آيات الإعجاز.. وتصرف محمد تصرف ينبئ عن الحكمة والعلم
معجزات علمية (110)
والعبودية.
علي: لقد ورد في الحديث قوله: (حتى ينجلي) ألا يحمل هذا اللفظ أي إشارة علمية؟
الفلكي: بلى.. هو يشير إلى جلاء القمر أي ذهابه من أمام الشمس؟
علي: كيف ذلك؟
الفلكي: ظاهرة الكسوف تتعلق بثلاثة أجرام هي الشمس والقمر والأرض، فالقمر يدور حول الأرض بفلك محدد، والأرض تدور مع قمرها بفلك محدد حول الشمس، وهذه المدارات تتشابك مع بعضها.
علي: لقد أشار القرآن الكريم على هذا، فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الانبياء:33)
الفلكي: وعلى الرغم من ذلك يبقى كل جرم من هذه الأجرام محافظاً على مداره، ولا يحدث أي صدام في هذه المنظومة الكونية العجيبة.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقد قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40)
الفلكي: ولكن الذي يحدث أحياناً أن القمر يمرّ من أمام الشمس فيحجب ضوءها عنا، وهذا ما يسمى بكسوف الشمس.. وإذا مرّ القمر بشكل كامل أمام الشمس، فإن الشمس تختفي بشكل كامل.. وهنا يحدث الكسوف الكلي، أما إذا مرّ القمر بشكل يحجب قسماً من ضوء الشمس، فهذا ما يسميه العلماء بالكسوف الجزئي.
علي: فكيف يحدث خسوف القمر؟
الفلكي: هذا واضح أيضا من خلال ما سبق.. فاختفاء القمر لفترة من الزمن ناتج عن وقوع الأرض بين الشمس والقمر، فتحجب الأشعة المنعكسة عن القمر، فنظن أن القمر اختفى ولا يُرى منه إلا آثار بسيطة.. ولذلك، فإن الذي يجلس على القمر في هذه اللحظة أي لحظة خسوف
معجزات علمية (111)
القمر، فإنه يرى كسوف الأرض، أي أنه لن يرى الأرض، ولكن يرى ظلها لأن الشمس تقع خلفها، وسوف تظهر الأرض من على القمر محاطة بحلقة حمراء رائعة.
وخسوف القمر يحدث مرة على الأقل في كل عام، وعند حدوث الكسوف الكلي للقمر يمكن رؤيته بسهولة من أي مكان على الأرض بشرط أن يكون في الجهة المقابلة للقمر.
علي: فحدثني عن مجموعتنا الشمسية.. تلك المجموعة التي ننتمي إليها (1).
الفلكي: تضم مجموعتنا الشمسية بالإضافة إلى الشمس كواكب تسعة، هذا ترتيبها بحسب قربها من الشمس: عطارد، والزهرة، والأرض، والمريخ، والمشتري، وزحل، ويورانوس، ونبتيون، وبلوتو، ثم مدارات المذنبات التي لم تعرف لها حدود.
وهذا بالإضافة إلى عدد من التوابع (الأقمار) التي يقدر عددها بواحد وستين تابعا تدور حول بعض من هذه الكواكب.
بالإضافة إلى هذا هناك آلاف الكويكبات المنتشرة بين كل من المريخ والمشتري، والتي يعتقد
__________
(1) ذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم أن في القرآن إشارة للمجموعة الشمسية في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف:4)
وقد دعم هذا القول بما اكتشفه العلماء حديثاً من كواكب المجموعة الشمسية، وسموه كوكب زينا، فمنذ فترة وجيزة اكتشف العلماء في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا كوكباً جديداً رأوه للمرة الأولى بواسطة تليسكوب الفضاء هابل، وقد سمى العلماء هذا الكوكب البعيد باسم Xena. وقطر هذا الكوكب بحدود 2400 كيلو متر، ويقع على أطراف المجموعة الشمسية حيث يبعد عنا 135 بليون كيلو متر، أي 900 مرة بعد الأرض عن الشمس، وهو يدور حول الشمس دورة كاملة كل 10500 سنة.
وبما أن الكواكب المكتشفة عشرة كواكب ـ بما فيها الأرض ـ فأين الكوكب الحادي عشر؟
لقد ذهب بعضهم إلى أنه يوجد حزام من الكويكبات يمكن اعتباره الكوكب الحادي عشر، وبالتالي تتحقق المعجزة القرآنية في الحديث عن الكواكب الإحدى عشرة قبل أن يكتشفها العلماء.
وعلى العموم يبقى هذا في حيز العلم الظني.. أو يبقى من باب الإشارة العلمية، ولا يمكن إثباته في باب الإعجاز في هذا الوقت.. وربما يأتي في المستقبل من الكشوف ما يؤكد هذه الإشارة.
معجزات علمية (112)
بأنها بقايا لكوكب منفجر.. وآلاف الشهب والنيازك.. وكميات من الدخان (الغاز الحار والغبار)
وتتباين هذه الكواكب في طبيعتها وكثافتها كما نصت الآية، أما الكواكب الأربعة الداخلية (عطارد، والزهرة، والأرض، والمريخ) فهي كواكب صخرية.. وأما الكواكب الخارجية (من المشتري إلى بلوتو) فهي كواكب غازية تتكون من عدد من الغازات المتجمدة علي هيئة جليد (مثل بخار الماء، وثاني أكسيد الكربون، والأمونيا، والايدروجين، والهيليوم) حول لب صخري ضئيل.
علي: فحدثني عن أقرب لبنة يتكون منها بنيان السماء.
الفلكي: تقصد القمر (1).
علي: أجل.. فقد تحدث عنه القرآن الكريم كثيرا باعتباره من نعم الله على هذه الأرض، وعلى أهلها.. فقد ورد ذكره سبعا وعشرين مرة في القرآن الكريم، كفاه بذلك شرفا.
وقد اعتبره ـ كجميع الكون ـ يسبح في الفلك، مسخرا، يسير بقدرة الله إلى أجله المسمى، قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (لأعراف: 54)، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (ابراهيم:33)، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، والقمر إذا تلاها، زغلول النجار، الأهرام: 42245 السنة 126 - 5 أغسطس 2002.
معجزات علمية (113)
الفلكي: القمر تابع صغير للأرض يبعد عنها بمسافة تقدر في المتوسط بحوالي 384،400 كيلومتر، وهو علي هيئة شبه كرة من الصخر غير كاملة الاستدارة إذ لها شكل البيضة التي تتجه بنهايتها الصغيرة تجاه الأرض، وتقدر كتلة القمر (حوالي 81/ 1 من كتلة الأرض)، ويقدر حجمه (حوالي 50/ 1) من حجم الأرض)، ويقدر متوسط كثافته بحوالي ثلثي متوسط كثافة الأرض)، ويقدر قطره (حوالي ربع قطر الأرض تقريبا)، وتقدر مساحة سطحه (حوالي 13،42 بالمائة من مساحة سطح الأرض) وتقدر جاذبيته بحوالي سدس جاذبية الأرض.
علي: لقد ربط القرآن الكريم القمر بالحساب، فمن نعم الله علينا، والتي كان القمر وسيلتها هو اعتباره كالشمس وسيلة لحساب الزمن، قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام:96)، وقال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن:5)
وقد أخبر القرآن الكريم عن ارتباط حسابها ببعض العبادات، فقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189)
علي: ليحدث ذلك، يتحرك القمر ـ باعتباره تابعاً للأرض ـ حول الأرض فيتم دورته حولها في مدة تقارب 29.5 يوماً، وهو ما يسمى بالشهر القمري أو العربي، لتفريقه عن الشهر الشمس أو الغربي، الذي مدته حوالي 30.5 يوماً، وهو مشتق من حركة الأرض حول الشمس، التي تتم في اثني عشر شهراً شمسياً، وتقدر بحوالي 365 يوماً، وهي السنة الشمسية، أما السنة القمرية التي تعادل اثني عشر شهراً قمرياً فتقدر بحوالي 354 يوماً.
و لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها، لرأينا القمر يسير ببطء زائد، حتى أنه يدور دورة واحدة فقط حول الأرض في مدة 29.5 يوماً، ولكن حركة الأرض حول نفسها تجعلنا لا نلحظ مقدار حركة القمر الصحيحة إلا إذا راقبناه يومياً في نفس الوقت، فبمقدار ما يكون قد علا على الأفق يكون مقدار مسيره الحقيقي.
معجزات علمية (114)
وبما أنه يتم دورته الكاملة في حوالي 30 يوماً، وهي تعادل على الأرض 24 ساعة، إذن يتأخر غروب القمر كل يوم عن اليوم السابق بمقدار 30/ 24 من الساعة أي 5/ 4 الساعة، أي نحو 48 دقيقة، أي بمعدل ثلاثة أرباع الساعة كل يوم تقريباً.
وهذا الارتفاع التدريجي للقمر نحو كبد السماء باتجاه الشرق يوماً بعد يوم يسمح له باظهار نصفه المضيء بالتدريج، الذي يستمد نوره من الشمس بالنسبة للأرض، والأرض بينهما تقريباً، ويظهر بدراً كاملاً يطلع من الشرق عند المغرب، ثم بعد نصف الشهر ينتابه النقصان من جديد حتى يعود إلى المحاق، حيث يقع بين الشمس والأرض، ويكون وجهه المضيء تجاه الشمس، ووجهه العاتم تجاه الأرض.
علي: لقد ذكر الله منازل القمر، فقال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يّس:39)، والعرجون القديم هو عرق النخل الذي تشكل منذ عام أو أكثر، فالهلال يكون مقوساً مثله.
الفلكي: ذلك صحيح.. وهو تشبيه رائع.. فالقمر ـ أثناء دورانه ـ حول لأرض يمر بوضعية ينطبق فيها ظاهرياً على الشمس، وهذا يوافق المحاق، فإذا علا قليلاً عنها بالنسبة للناظر من الأرض يقال عنه إنه ولد، لأن الجزء السفلي من وجهة المضيء يبدأ بالظهور.. ويكون شكل الهلال عندها مثل الحرف (ر).
بيد أن العين البشرية لا تستطيع رؤية القمر بعد ولادته إذا كان عمره أقل من ثماني ساعات، وذلك لشدة قربه من الشمس وتأثير ضوئها على وضوحه.
وبما أن القمر يكتمل نوره في 16 يوما تقريباً، فإن إضاءة نصفه تعادل 8 أيام تقريباً وإضاءة ربعه تعادل 4 أيام تقريباً وهكذا.. فمن نظرة سريعة إلى الجزء المضيء من القمر نستطيع معرفة التأريخ الشهري القمري بخطأ لا يتجاوز اليوم الواحد.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى الفرق بين السنة القمرية والسنة الشمسية في قوبه تعالى: {
معجزات علمية (115)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (الكهف:25)، فإذا حسبنا المدة على حساب السنة الشمسية تكون 300 سنة، وإذا حسبنا ها على السنة القمرية تكون 309 أي بفارق تسع سنين.
الفلكي: ذلك صحيح.. فقد عرفنا أن السنة الشمسية تعادل 365 يوماً، وأن السنة القمرية تعادل 354 يوماً، الفرق بينهما 365 – 354 = 11 يوماً.
ويتراكم هذا الفرق مع توالي السنين (كل سنة 11 يوماً)، فيصبح كل ثلاثة سنوات شهراً تقريباً، فإذا وقع أول المحرم في أول نيسان مثلاً، فبعد ثلاث سنوات يصبح أول المحرم في أول آذار، وبعد ثلاثة سنوات في أول شباط.. وهكذا يتراجع إلى الوراء شهراً كل ثلاث سنوات.
ويعود التطابق بين التقويمين الشمسي والقمري كل 33 سنة حيث أن كل 32 سنة شمسية تعادل 33 سنة قمرية، بفرق يومين فقط، أي يعود الوضع النسبي بين الشمس والقمر والأرض متماثلاً كل 33 سنة.
وبذلك، فإنه كلما مضى مائة سنة شمسية تمضي 103 سنة قمرية، أي بزيادة ثلاثة سنوات كل مائة سنة.
علي: لقد وصف القرآن الكريم ـ في معرض حديث الله عن نعمه على عباده ـ بأنه جعل القمر منيرا، فقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} (الفرقان:61)
وكلمة منير في اللغة اسم فاعل، وهذا يعني أن القمر فيه شيء من خصائص الإنارة، لأن اسم الفاعل يشير إلى من قام بالفعل، أي ليست الشمس فقط هي التي تنير، بل القمر فيه هذه الميزة.
ومع ذلك، فإن القمر ـ كما ينص القرآن الكريم ـ ليس جسماً متوهجاً مثل الشمس، والتي سماها القرآن بالسراج، ففرق بين السراج والقمر المنير، وأعطى لكل منهما الصفة الحقيقية التي
معجزات علمية (116)
تناسبه.
فهل وجد في العلم ما يمكن أن يدل على هذه الخصائص التي يتمتع بها القمر ليصبح قادرا على الإنارة؟
الفلكي: أجل.. وذكر القرآن لذلك من العجائب.. فقد قام فريق من الباحثين بأخذ عينة من تربة القمر التي تم إحضارها بواسطة رواد مركبة الفضاء (أبولو)، ومعالجتها في الفراغ بطرق هندسية متطورة لاستخدامها في تصنيع خلايا للطاقة الشمسية.
علي: ما علاقة تراب القمر بالطاقة الشمسية؟
الفلكي: أنت تعلم أن مهمة الخلية الشمسية هي تحويل الضوء أوالإنارة القادمة عليها إلى تيار من الإلكترونات، أو بكلمة أخرى تحويل النور إلى كهرباء.
علي: ولكن كيف تتم هذه العملية، ونحن جميعاً نعلم بأن القمر كوكب جامد لا ينتج أي إنارة، بل كل ما يقوم به هو عكس الأشعة القادمة إليه من الشمس ليصلنا النور المعكوس من على سطحه إلى الأرض؟
الفلكي: كانت هذه المعلومة هي السائدة قبل صعود الإنسان إلى القمر.. ولكن عندما صعد الإنسان لأول مرة إلى القمر تغيرت هذه المعلومة.
علي: كيف ذلك؟
الفلكي: لقد أحضر رواد الفضاء معهم عينات من تراب القمر وصخوره، وقام بفحصها بالمجاهر الإلكترونية وتحليل مادتها بالأجهزة الكيميائية، وكانت النتيجة أن تراب القمر المأخوذ من على سطحه، أي الطبقة الظاهرة لنا يتألف من 50 بالمئة من مادة أكسيد السيليكون وأكاسيد معدنية أخرى مثل أكسيد الألمنيوم وأكسيد الحديد.
وأكسيد السيليكون هو الذي تم استخدامه في العقود الماضية لصناعة العناصر الإلكترونية، وعنصر السيليكون هو من العناصر شبه أو نصف الناقلة للكهرباء، وله مزايا تجعله العنصر
معجزات علمية (117)
الأساسي في التكنولوجيا الرقمية اليوم.
فهذا الاكتشاف العلمي يؤكد أن سطح القمر لا يعكس النور فحسب، بل هنالك خصائص في ترابه تجعله يكتسب خاصية الإنارة، وتحويل النور لتيار كهربائي، وقد يحوي هذا التراب على خاصية تحويل الكهرباء إلى نور.
علي: كيف يكون ذلك؟
الفلكي: هاتان العمليتان متعاكستان، وملخصهما ـ كما نراهما في التجارب الحديثة ـ هو أنه عندما يسقط الشعاع الضوئي على التربة القمرية، فإن الفوتونات الضوئية الآتية من خلال هذا الشعاع تصطدم بذرات التراب، وتؤدي لحركة منظمة في الإلكترونات وانتقال هذه الإلكترونات عبر المادة نصف الناقلة (السيليكون) مما ينتج تياراً كهربائياً يمكن الاستفادة منه.
أما العملية المعاكسة، فتتلخص بأننا إذا حرضنا تياراً كهربائياً في ذرات هذا التراب، فإنه سيحرك الإلكترونات ويجعلها تقفز في مداراتها حول الذرات مما ينتج الفوتونات الضوئية أو النور، وهذه العملية قد يتمكن العلماء من تحقيقها مستقبلاً.
سكت قليلا، ثم قال: لقد ذكرني حديثك هذا بكتاب في الخيال العلمي.. فقد كتب أحد كتاب الخيال العلمي رواية منذ نصف قرن، وهو جون كامبل، ذكر فيها أن رجالاً صعدوا للقمر بمركبة فضائية، وعندما نفد وقودهم وأشرفوا على الهلاك خطرت ببال أحدهم فكرة تصنيع خلايا ضوئية من تراب القمر، مما مكنهم من الحصول على بعض الطاقة وعادوا إلى الأرض سالمين.
علي: ما أوسع خيال هذا الرجل..
الفلكي: لقد أذهلت هذه الرواية المنشورة عام 1951 القراء لسعة خيال هذا الكاتب، فكيف استطاع التنبؤ ـ في ذلك الوقت ـ بإمكانية استخدام تراب القمر لصناعة خلية شمسية.. مع أن هذا التنبؤ جاء منذ قرابة نصف قرن فقط، وعلى يد أحد كبار الأدباء والذي استفاد من العلوم
معجزات علمية (118)
المتوفرة له، ومن الاكتشافات الكثيرة التي تمت في عصره الذي انتشرت فيه علوم الإلكترونيات والذرة ومهدت لعصر الفضاء.
ولكن محمدا.. ذلك الرجل الأمي البسيط.. في تلك المنطقة النائية من العالم.. وفي ذلك الزمن الغابر من التاريخ.. كيف عرف كل هذا؟
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى أن القمر كان مشتعلا، ثم انطفأ في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (الاسراء:12)، فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وقد قال ابن عباس في الآية: (لقد كان القمر يضيء كالشمس فطمسنا ضوءه)
الفلكي: ذلك صحيح (1).. فالقمر والأرض والمريخ وكل كواكب المجموعة الشمسية عندما بدأت كانت كلها مشتعلة، وسبب ذلك هو أن المواد عندما أخذت تتجمع مع بعضها بعد انفجار الشمس الأم لتكوِّن محيطاً فتندفع إليها القطع الباقية حولها بسرعة جبارة بسبب الجذب ويزداد ارتطام هذه القطع على الكوكب المتكون فتزيد من حرارته زيادة كبيرة حتى تصل إلى درجة انصهار سطحه كله، وهذا الانصهار يصح أن يمتد إلى سمك حوالي 300 كيلومتر في عمق الكوكب المتكون مع جميع الجهات.
وهذا الصهير لونه أحمر مثل النار والصخور تكون منصهرة وسائلة، وهذا يعني أن درجة الحرارة أكبر بكثير من درجة حارة النار التي نعرفها.
وفي هذا الصهر الصخري أو الصخور السائلة تبدأ عمليات انفصال المعادن، فتأخذ المعادن الثقيلة في الغوص إلى تحت، وتطفوا العناصر الخفيفة إلى فوق، ونحن نعلم أن هذا قد حدث في قشرة القمر.
__________
(1) انظر: ندوة بين الشيخ عبد المجيد الزنداني، والدكتور فاروق البارز مدرب رواد الفضاء في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (119)
علي: لقد ذكر القرآن الكريم في مواضع كثيرة دقة الصنع الإلهي للكون، وأنه مبني على حسابات دقيقة، فلهذا {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يّس:40)
بل إن الله تعالى يعبر عن الموازين التي تضبط الكون، لئلا يختل اتزانه، فيقول: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن:7)
الفلكي: إن القرآن يشير بهذه النصوص إلى أعظم مظاهر الكون، فالكون مؤسس على أنظمة دقيقة متوازنة، لا يمكن أن يتصور عقل بشري مدى الضبط الذي ضبطت به.
علي: الله تعالى يخبرنا في القرآن عن علم الله بتفاصيل الأشياء التي قد لا نلقي لها بالا، فهو يقول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام:59)
ومثل ذلك قدرة الله التي لا يعجزها شيء دق أو جل، قال تعالى على لسان لقمان، وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16)
الفلكي: إن القرآن يضع الأمور في محالها.. فلا يمكن لخالق هذا الكون الدقيق إلا أن يكون بهذه الأوصاف.
لقد قرأت الكتاب المقدس في بداية حياتي، وكان في عقلي وقلبي شوق كبير للتدين، ولكني حجبت بما فيه.. إن الله ـ على حسب ما في الكتاب المقدس ـ أميل إلى الجهل والطيش والغفلة منه إلى العلم والعدل والنظام.
لقد قرأت هذه النصوص وغيرها، ثم ذهبت إلى الكون أتلمس ذراته ومجراته وأفلاكه، فوجدت أنه يستحيل على خالق هذا الكون أن يكون بتلك الأوصاف التي يطلقها عليه الكتاب
معجزات علمية (120)
المقدس.
إن كثيرا ممن هم مثلي لم ينحجبوا عن الدين.. لأنه دين.. ولم ينحجبوا عن الله، لأن علمهم أبعدهم عن الله.. وإنما حجبوا لأن الله الذي تصوره الأديان لا يتناسب مع الله الذي تصوره الأكوان (1).
علي: ولكن الله الذي يصوره الإسلام خلاف الله الذي يصوره الكتاب المقدس، فالله في القرآن عليم قدير منزه عن كل نقص، بل منزه عن كل كمال تفرزه تصوراتنا القاصرة.. فالله ليس له كفو ولا شبيه ولا نظير.
والله يخبر عما وصفته عن العلماء، فيقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28).. هذه الآية لا تتحدث عن علماء الدين، بل هي تتحدث عن علماء الكون، فقد سبقت بالحديث عن الظواهر الكونية، فالله تعالى يقول قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} (فاطر)
بل إن الله تعالى يعتبر العلماء من أكابر الشهود الدالين على الله، فيقول: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18)
كان الفلكي يسمع حديث علي بانتباه شديد، وكأنه قد وجد عنده ما ظل يبحث عنه طول حياته.
علي: حدثني عن تفاصيل ما ذكره القرآن عن نظام الكون واتزانه ودقته.
الفلكي: كي تدرك النظام الدقيق الذي بني به الكون تحتاج إلى معرفة القانون الثاني في
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.
معجزات علمية (121)
الترموديناميك (1).
علي: أعرف هذا القانون.. إنه ينص على أن جميع الأنظمة في الكون إذا تركت للظروف الطبيعية، فإنها مع الزمن سوف تدخل في حالة من الفوضى وعدم الانتظام (2).. وهذا القانون يدعى أيضاً بقانون (الانتروبي)
وقد ضرب لنا أستاذنا الذي درسنا هذا القانون مثالا عنه بأننا إذا تركنا سيارة وهجرناها لمدة سنة أو حتى لمدة شهرين، من المحتمل أننا سنلاحظ أن الإطارات فارغة ومسواة بالأرض والنوافذ محطمة وأجزاء الجسم والمحرك متآكلة صدئة.
وبطريقة مماثلة إذا أهملنا العناية بالبيت لبضعة أيام، فسوف نجده مغبراً وأكثر فوضى مع مرور الوقت..
الفلكي: هذا نوع من الأنتروبي.. وهو يقرب لك صورة الكون، ودلالة النظام فيه على وجود المنظم.
علي: لقد صرح القرآن بهذا.. فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الانبياء: 22)
الفلكي: صدق القرآن.. لقد اتفق كل العلماء على هذا.. فالقانون الثاني في الترموديناميك مقبول بشكل واسع.. لقد كان (أينشتاين) يقول عنه: (إن ذلك القانون هو أول قانون في جميع العلوم)، كما أن العالم الأمريكي (جيرمي زفنك) علق في كتاب (الإنتروبي، نظرة العالم الجديد)، فقال: (قانون الأنتروبي سوف يسيطر كقانون نموذجي في الفترة التاريخية التالية)، أما السير (آرثر أدينغتون) فقد أرجع ذلك القانون إلى كونه قانوناً ميتافيزقياً أسمى لكل الكون.
إن قانون الأنتروبي يعالج كثيراً من قضايا المادية غير الصالحة من البداية، لأنه إذا كان يوجد
__________
(1) اقتبسنا المعلومات الواردة هنا والنصوص من كتاب (خلق الكون) تأليف الكاتب التركي هارون يحيى.
(2) في الفيزياء تعني الانتروبي كمية عدم الانتظام (الفوضى) في جملة، وانتقال الجملة من حالة مستقرة إلى حالة أخرى غير مستقرة هو ذاته كزيادة في الانتروبي لها.. وعدم الاستقرار يتعلق مباشرة بالانتروبي لتلك الجملة.
معجزات علمية (122)
تصميم ونظام في الكون، فإن القانون ينص على أنه مع مرور الوقت فإن هذه الحالة سوف تزول من قبل الكون ذاته.
علي: لقد نص القرآن على هذا عندما ذكر قيام الله بحفظ الأشياء، وذلك في نصوص كثيرة من القرآن الكريم:
فالله تعالى يقول في آية الكرسي، المعرفة بالله، وعلاقته بالكون: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)
فاسم القيوم الذي هو من أسماء الله الحسنى يدل على قيام الله العظيم بشؤون كل مخلوقاته.
بل إن الله أخبر أنه لولا إمساكه السموات والأرض لزالتا، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر:41)
الفلكي: أجل.. كل ذلك صحيح.. والنظام الكوني يدل على كل ذلك.. لا بد أن يكون إله هذا الكون كما ينص القرآن.. هكذا تنطق قوانين الكون.. فيستحيل على الكون إذا ترك وحده أن يبقى إلى الأبد، والقانون الثاني يقول أنه بدون تدخل خارجي من نوع ما، فالأنتروبي أخيراً سوف يتعاظم عبر الكون مسبباً حالة متجانسة كلياً.
أما الادعاء بأن النظام والترتيب اللذين نشاهدهما في الكون ليسا نتيجة لتدخل خارجي فهو غير صحيح، فعقب الانفجار العظيم كان الكون في حالة فوضى تامة والتي كانت ستبقى لو أن الأنتروبي تعاظم، ولكن ذلك تغير لأننا نستطيع أن نرى ذلك بوضوح بالنظر فيما حولنا، وذلك التغير حدث بالخروج عن واحد من القوانين الأساسية في الطبيعة وهو قانون الأنتروبي، ولا توجد طريقة لتعليل وتفسير ذلك التغير ما عدا افتراض وجود نوع من الخلق الفوق طبيعي
معجزات علمية (123)
(الخارق للطبيعة)
سأذكر لك مثالاً ربما يجعل النقطة الثانية أكثر وضوحاً، تخيل أن الكون عبارة عن كهف هائل مملوء بخليط من الماء والصخور والوحل، فإذا تركنا ذلك الكهف وحيداً لبضع بلايين من السنين، ثم عدنا إليه فإننا سنلاحظ أن بعض الصخور صار أصغر حجماً وبعضها اختفى، وأن مستوى الوحل صار أعلى، وأنه صار فيه طين أكثر..
وهكذا صارت الأشياء أكثر فوضوية وبالضبط هذا ما كنا نتوقعه، ولكن إذا وجدت بعد بلايين السنين لاحقاً أن الصخور منحوتة بنعومة ولطافة وبشكل تماثيل، فأنت بالتحديد ستقرر أن هذا الترتيب لا يمكن تفسيره بقوانين طبيعية، والتفسير المعقول لذلك هو أنه من تدبير عقل مدرك واع، وهو الذي أراد لتلك الأشياء أن تكون على هذا النحو.
علي: إن أول ما يتطلبه النظام أن يوضع كل شيء في محله المناسب له.
الفلكي: هذا يعبر عنه بالدقة التي خطط بها الكون، والتي بها حفظ وجوده واستقراره.. فالكون مبني على حسابات في غاية الدقة.
علي: حدثنا عن هذا.. فقد أشار القرآن إلى دقة تخطيط الله لمقاديره، فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر:21)، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)
الفلكي: سأحاول أن أقرب لك بعض ذلك لتدرك من خلاله تلك الدقة التي أشار إليها القرآن، بل صرح بها:
كوكب الأرض هو جزء من النظام الشمسي، ففي هذا النظام يوجد تسعة كواكب أساسية مع أربعة وخمسين تابعاً (قمرا) وعدد غير معروف من النجميات (كويكبات صغيرة كالجبال
معجزات علمية (124)
مختلفة الأحجام، وتسبح في الفضاء) تدور حول نجم واحد يدعى الشمس.. والشمس هي نجم متوسط الحجم بالمقارنة مع غيره في الكون.. والأرض هي الكوكب الثالث بعداً عن الشمس.
ولتعرف حجم هذا النظام.. فإن قطر الشمس أكبر بمئة وثلاث مرات من قطر الأرض، ولكي نتخيل ذلك نقول إن قطر الأرض هو 12.200 كيلومتر، فإذا خفضناه سلمياً (عددياً) لأبعاد كرة زجاجية، فالشمس سوف تكون بحجم ملعب كرة القدم.. ولكن الشيء العجيب في ذلك هي المسافة بينهما.. وبالاحتفاظ بمقاييس هذا السلم المخفض، فالمسافة الفاصلة بين الكرتين هي 280 متراً.
وبعض الأجرام التي تمثل الكواكب الخارجية ستكون لها أبعاد قد تصل عدة كيلومترات بعيداً عن الشمس.
قد يبدو ذلك ضخماً جداً، ومع ذلك فالنظام الشمسي ضئيل جداً في الحجم إذا قورن بالطريق اللبني والذي هو مجرة تسبح فيه تلك الهباءة.. ويوجد في تلك المجرة أكثر من 250 بليون نجم بعضها يشبه شمسنا، والبعض الآخر أكبر من ذلك، وبعضها أصغر.
علي: النظام يحتاج إلى التوازن.. وقد أشار القرآن إلى هذا عندما عبر عن وضعه للموازين، والموازين تعني عدم طغيان شيء على شيء، فالله يقول في الآية التي فسرت الكون: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن:7)
وقد بنى القرآن على هذا الأمر بحفظ الموازين، فقال بعد هذه الآية: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (الرحمن:8)
الفلكي: إن في هذه الآيات إشارات عظيمة لأمرين كلاهما له أهميته: الأول هو أن الكون قد خلق بموازين دقيقة.. والثاني أن هذه الموازين يمكن التأثير فيها بالظلم والطغيان.. لا من
معجزات علمية (125)
جانب الكون، بل من جانب الإنسان.
علي: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.
الفلكي: أجل.. وليكن من أقرب نظام إلينا، وهو النظام الشمسي.. فالنظام الشمسي واحد من أروع الأمثلة للتناسق الجميل الذي يمكن مشاهدته.. ففيه تسعة كواكب مع أربعة وخمسين تابعاً، وعددا غير معروف من الأجسام الصغيرة.
وفي تركيب المجموعة الشمسية نواجه مثالاً جميلاً من التوازن، وهو التوازن بين القوى النابذة، والتي يقابلها التجاذب الثقالي من أوليتها (1)، وبدون ذلك التوازن فسوف يقذف كل شيء في هذا النظام بعيداً في الأعماق الباردة للفضاء الخارجي.
ويعتبر الفلكيون من أمثال (كبلر وغاليليو) من أوائل الذين اهتموا باكتشاف ذلك التوازن الأمثل، وقد اعترف هؤلاء أن تصميمه تم بتأن وتؤدة، وأن هناك إشارة للتدخل الإلهي في كل الكون.
وقد قال (إسحاق نيوتن) يذكر هذا التوازن (النظام الرائع للشموس والكواكب والمذنبات يمكن أن تشرق من هذف وغرض لسلطة عليا لكائن قدير وعبقري.. وهو يحكمها كلها ليس كروح بل كسيد مالك لكل الأشياء وبسبب سلطته العليا الغالبة فهو يدعى بالسيد الإله القدير)
علي: لقد وصف الله السماء بأنها خالية من الفروج، فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (قّ:6)، وقد قال المفسرون في معنى {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} أن المراد منها (ما لها من شقوق وصدوع)، وقد أجمع المفسرون الذين تعرضوا لتفسير هذه الآية
__________
(1) يقصد بالأولية في علم الفلك بأنه شيء يدور حول جسم آخر، فالأولية للأرض هي الشمس، والأولية للقمر هي الأرض.
معجزات علمية (126)
علي اعتبار الحرف (ما) في في هذه الآية حرف نفي (1) أي ان السماء خالية من الفروج التي قد تنبيء بخلل ما في بنائها.
وقد ورد في آية أخرى الأمر بالتثبت وإرجاع البصر للتأكد من عدم وجود فطور في الكون، فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (الملك:3)
وفي آيات أخرى أخبر الله تعالى أن انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها علامة من علامات الآخرة.
فمن علاماتها كما يذكر الله تعالى في القرآن الكريم هذا الانشاق والانفطار:
قال تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} (المرسلات:9)، وقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} (الفرقان:25)، وقال: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن:37)، وقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} (الطور:9)، وقال: {) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} (الحاقة:16)، وقال: {) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} (المعارج:8)، وقال: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} (المزمل:18)، وقال: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} (النبأ:19)، وقال: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (التكوير:11)، وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق:1)
وهذه الآيات كلها تشير الي الآخرة، وتصور القيامة وأهوالها، وتؤكد سلامة سماء الدنيا من
__________
(1) ذكر الأستاذ زغلول النجار أن هناك نفرا من العلماء الي رأوا أن (ما) في هذه الآية الكريمة قد تكون اسما موصولا بمعني (الذي) وليست (ما) النافية، وذلك في محاولة لإثبات وجود فروج في السماء، وتصوروا ان هذا الاستنتاج يجعل الآية كلها تقرأ في الصيغة التعجبية الاستفهامية التي بدأت بها الآية بمعني: أفلم ينظروا الي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وأفلم ينظروا ما للسماء من فروج؟.
وقد رد على الاستنتاج بمخالفته لنصوص القرآن الكريم التي تجمع علي غير ذلك، وعلى ان انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها هو من علامات الآخرة، ولا وجود لها، في سماء الدنيا.
وقد جرهم إلى هذا القول توهمهم بوجود الفراغ في الكون.. وفي هذا المطلب رد على هذا الرأي المخالف للنصوص الصريحة.
معجزات علمية (127)
كل هذه الأوصاف.
الفلكي: هذه آيات عظيمة تشير إلى حقائق فلكية كثيرة.. فالسماء ليس بها فروج تنبيء بضعف بنائها (1).
علي: ولكني أسمعهم يذكرون الفراغات في الكون أو الفجوات.
الفلكي: هذه تسمية مجازية جرهم إليها وجود مناطق مظلمة إظلاما تاما في السماء نظرا لخلوها من النجوم وتجمعاتها.. وقد سماها علماء الفلك مجازا بالفراغات أو الفجوات نسبة إلي خلوها من الأجرام المضيئة.
ومما دفع الدراسات الفلكية والفيزيائية إلى نفي إمكانية وجود فراغات في الجزء المدرك من الكون أسباب كثيرة:
منها أنه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين قام عدد من الفلكيين بعملية مسح للجزء المدرك من السماء لعمل خرائط جديدة له، ثلاثية الأبعاد، وفي أثناء ذلك لاحظوا وجود العديد من المناطق المظلمة التي لا تحتوي نجوما مضيئة بين المجرات، وسموها مجازا (بالفجوات) أو (الفقاعات) وانطلقوا من ذلك الي الاستنتاج بأن الكون المدرك يشبه قطعة الإسفنج المليئة بالفجوات، وتمثل المجرات فيها خيوط الاسفنج المنسوجة بإحكام حول تلك الفجوات، واعتبروا تلك الفجوات خيوطا كونية عملاقة.
ولما كانت فجوات الإسفنج ليست فراغا لامتلائها بالهواء أو بالماء، فإن المناطق المظلمة بالكون المدرك ليست فراغا لامتلائها بالدخان الكوني، وبمختلف صور الأشعة الكونية، بل قد يكون فيها من صور المادة والأجرام الخفية ما يفوق كتل المجرات المحيطة بها مجتمعة.
__________
(1) استقينا المعلومات المحضة في هذا المطلب من بحث مهم للدكتور زغلول النجار، تحت عنوان (الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية) (أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج)، وقد نشرته الأهرام: العدد 41930 السنة 126/ 24 سبتمبر 2001.
معجزات علمية (128)
ويعتقد عدد من الفلكيين المعاصرين أن هذه المناطق المظلمة تتكون أساسا من المواد الداكنة الباردة التي تمثل الكتلة المفقودة في الكون المدرك، وقد تحتوي علي أعداد من الثقوب السود، وأن هذه المادة الداكنة الخفية والثقوب السوداء التي أمكن إدراكها بطرق غير مباشرة، أمكن حساب كتلتها بما يزيد علي تسعين بالمئة من كتلة الجزء المدرك من الكون.
ففي سنة 1981 اكتشف عدد من الفلكيين تلك المناطق المظلمة من الكون المدرك في كوكبة العواء، أو كوكبة راعي الشتاء التي تقع في نصف الكرة الشمالي، وظنوها فراغات هائلة أو فقاعات عظيمة، ثم تبين لهم بعد ذلك أن أمثال تلك المناطق المظلمة منتشرة في مختلف أرجاء الكون المنظور، وحتي في داخل مجرتنا، وأنها من أساسيات النظام الكوني، ومن أسرار بنائه، وأن لها دورا مهما في تماسك ذلك البناء.. وهكذا توالت الاكتشاف المثبتة لهذا.
علي: هذا دليل كاف لنفي وجود الفجوات في الكون.
الفلكي: ليس ذلك فقط.. فهناك أدلة أخرى غير هذا تثبت صدق ما ذكره القرآن من عدم وجود الفروج في السماء، منها ما عرفناه سابقا من اتساع الكون.. فاتساع الكون ينفي وجود فراغات فيه.
علي: كيف ذلك؟
الفلكي: لقد ثبت لنا ـ كما عرفنا سابقا ـ أن كوننا دائم الاتساع وأن هذا الاتساع ناشيء عن تباعد المجرات عنا، وعن بعضها البعض، وبهذا التباعد تتخلق المادة والطاقة.
علي: لم أفهم.. كيف يكون التباعد وسيلة لتخلق المادة والطاقة؟
الفلكي: أنت تعرف أن كلا من المكان والزمان والمادة والطاقة قد تم خلقه بعملية الانفجار العظيم، ويتجدد خلقه بتمدد الكون واتساعه، فلايوجد مكان بغير زمان، ولازمان بغير مكان، ولايوجد مكان وزمان بغير مادة وطاقة.
علي: أعرف ذلك.
معجزات علمية (129)
الفلكي: انطلاقا من ذلك.. فإن تباعد المجرات يؤدي إلي اتساع أفق الكون بالنسبة لموقعنا منه، ونحن لانستطيع أن نرى من هذا الموقع ماوراء الأفق.
ومن المفروض أنه باتساع الكون وتباعد الأفق الكوني عنا في كل لحظة أنه يمكن لنا أن نرى أجراما سماوية جديدة علي حافة ذلك الأفق باستمرار، وأن تختفي عن رؤيتنا أجرام قديمة، وتخرج عن مجال رؤيتنا.
ولكن أجهزتنا الفلكية الحالية لاتتيح لنا التحقق من ذلك علي الرغم من تطورها المذهل، وذلك لأن أفق الكون يبتعد عنا بتمدده بسرعات تقترب أحيانا من سرعة الضوء (نحو 92 بالمائة من سرعة الضوء)، وعلي الرغم من ذلك فإنه انطلاقا من وحدة البناء في الجزء المدرك لنا من السماء، فإننا نعتقد بأن القوانين الحاكمة للكون واحدة وسارية في كل أجزائه علي الرغم من أن النقطة التي بدأت منها عملية الانفجار العظيم لم يتم تحديد موقعها بعد، وهي بالتأكيد أبعد بكثير من الحافة المدركة للجزء المرئي من السماء، الذي يقدر قطره بنحو 19 ـ 23 بليون سنة ضوئية.
علي: هذا دليل قوي.. ولكنه يفتقر إلى الإثبات العلمي الحسي.
الفلكي: ليس بالضرورة أن نعرف كل شيء عن طريق الدليل الحسي.. هناك مدارك أخرى في العلوم لها أهميتها وقيمتها.
ولكن مع ذلك فهناك أدلة أخرى على هذا يمكن الاستئناس بها.. منها أن المادة المضادة في الكون تنفي وجود فراغات فيه.
علي: كيف ذلك؟
الفلكي: في سنة 1924 أثبت العالم الفرنسي دي بروجلي أن الإلكترون يتصرف أحيانا في ظروف معينة على أنه موجة إشعاعية غير مادية.. وما ينطبق علي الإلكترون ينطبق علي أي لبنة أخري من اللبنات الأولية للمادة.
وفي سنة 1925 وضع كل من هايسنبرج الألماني، وشرودنجر النمساوي منفردين القواعد
معجزات علمية (130)
الأساسية لميكانيكا الكم وللميكانيكا الموجية، وكلاهما يبحث في الأسباب التي تؤدي بالكم الضوئي أو الفوتون لأن يتصرف أحيانا علي هيئة جسيم مادي وأحيانا أخري علي هيئة موجة اشعاعية.
وفي نفس السنة (1925) أعلن باولي مبدأ الاستبعاد الذي يؤكد أن زوجين من الإلكترونات داخل الذرة الواحدة لايمكن أن يكون لهما نفس العدد الكمي، وبالتالي لايمكن أن يكون لهما نفس المدار حول النواة، ونفس السرعة، وينطبق هذا القانون فقط علي الجسيمات الأساسية التي تدخل في تركيب الذرة.
وفي سنة 1931 أعلن ديراك النظرية المتناسبة للالكترون التي أشار فيها إلي وجود الكترون بشحنة وطاقة مختلفتين تم اكتشافه بعد ذلك بسنة واحدة (1932) في الأشعة الكونية بواسطة كارل أندرسون وسمي باسم البوزيترون.
وتسلسل بعد ذلك اكتشاف نقائض لباقي الجسيمات الأولية للمادة من مثل نقيض البروتون، واعتبرت نقائض المادة في مواجهة المادة حقيقة من حقائق كوننا المدرك.
حيث ثبت أن لكل جسيم مادي نقيضه أي جسيما يماثله تماما في الكتلة والحجم والسرعة، ولكن له شحنة مضادة، ويدور بطريقة معاكسة، وثبت انه إذا التقي الضدان فإنهما يفنيان فناء تاما.
وقد تساءل العلماء عن كيفية بقاء عالمنا المادي مع وجود كل من المادة وأضدادها، وكلاهما يفني بلقاء الآخر..
وقد فسر ذلك بان كلا من المادة والمادة المضادة قد تجمع على ذاته لتكوين تجمعات سماوية خاصة به، بمعني وجود عوالم من المادة المضادة مغايرة لعالمنا المادي لانراها ولا نعلم عنها شيئا.
علي: وعيت هذا الدليل، واقتنعت به، بل إن القرآن قد أشار إلى أن أشياء كثيرة لا نبصرها من الكون، فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39)} (الحاقة)
فلذلك ليس كل ما لا ندركه غير موجود.
معجزات علمية (131)
الفلكي: ومع ذلك.. فهناك أدلة أخرى على هذا.. منها أن مراحل خلق الكون المدرك تنفي وجود أي فراغات في السماء، فالدراسات الفيزيائية والفلكية تنص على أنه نتيجة لواقعة الانفجار العظيم.. أو فتق الرتق كما يعبر القرآن.. تم خلق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة في فترة تقدر بحوالي ثلاثين مليون سنة تقريبا بعد الانفجار العظيم مر فيها الكون بمراحل متتالية تؤكد ان المادة والطاقة ملأتا المكان والزمان منذ اللحظة الأولي للانفجار العظيم، وظلا يملآنه مع استمرار تمدد الكون، وأن كان ذلك يتم بتباين واضح في تركيز وجودهما من نقطة الي أخري في الجزء المدرك من الكون.
قال الفلكي ذلك، ثم قال: كل هذه الجهود التي بذلها هؤلاء العلماء.. وبذلتها معهم أجهزتهم الكثيرة.. تثبت ما نصت عليه تلك الآيات العظيمة..
إني أشعر بأن القرآن يتحدى كل هؤلاء عندما قال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (الملك:3)
علي: لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم تماسك الكون، وأنه لولا إمساك الله لزال..
الفلكي: أيوجد هذا في القرآن؟
علي: أجل.. فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر:41)
ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج:65)
ويقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان:10)
معجزات علمية (132)
ويقول: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)
الفلكي: هذه آيات عظيمة.. فيها إشارات للقوى التي يتماسك بها الكون.
علي: فحدثني عنها، واختصر لي الكلام اختصارا أفهم به كلام ربي.
الفلكي: لقد أشرنا من قبل إلى أن قوانين الفيزياء في الكون لم تنشأ إلا بعد الانفجار العظيم..
وقد عد العلماء في في الفيزياء الحديثة أربع قوى أساسية لتماسك الكون على ما هو عليه (1).. وقد تكونت هذه القوى مع تكون أول جسيمات دون ذرية في أزمنة محددة بدقة بعد الانفجار العظيم مباشرة، لكي تشكل كل ترتيبات الكون ونظمه.
وهذه القوى الأربعة هي: قوة جذب الكتل المعروفة باسم القوة التجاذبية gravitational force، والقوة الكهرومغناطيسية electromagnetic force، والقوة النووية الشديدة strong nuclear force، والقوة النووية الضعيفة weak nuclear force.
وتتسم كل واحدة من هذه القوى بشدة مميزة ومجال مؤثر.. أما القوى النووية الشديدة والضعيفة فلا تعملان إلا عند النطاق دون الذري.. وأما القوتان المتبقيتان ـ القوة التجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية ـ فتقومان بالتحكم في تجمعات الذرات، أو بتعبير آخر في (المادة)
التفت إلى علي، وقال: إن ما تراه من نظام الأرض الخالي من العيوب ناتج عن التناسب بالغ الدقة لهذه القوى.
ليس ذلك فقط.. بل إنك بإجراء مقارنة بين هذه القوى، فإنه ستظهر لك نتيجة مثيرة للغاية، وهي أن كل المادة التي نشأت وتشتت عبر الكون بعد الانفجار العظيم تشكلت نتيجة لتأثير هذه القوى التي تختلف فيما بينها اختلافات شاسعة.
__________
(1) انظر: موقع هارون يحيى http://www.harunyahya.com
معجزات علمية (133)
سكت قليلا، ثم قال: شيء آخر له علاقة بهذه الآيات (1).. وله ـ على الأخص ـ علاقة بهذه الآية: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (الحج: 65)
أنت تعلم أن أقرب أجرام السماء إلينا هو القمر الذي يبعد عنا في المتوسط بمسافة (383942 كيلومترا)، وتقدر كتلته بنحو سبعين مليون مليون مليون طن، ويدور في مدار حول الأرض يقدر طوله بنحو 2.4 مليون كيلومتر، بسرعة متوسطة تقدر بنحو كيلومتر واحد في الثانية، وهي نفس سرعة دورانه حول محوره، ولذلك يرى منه وجه واحد لأهل الأرض.
ومدار القمر حول الأرض، وكذلك مدار الأرض حول الشمس بيضاوي الشكل (أي أنه علي شكل قطع ناقص).
ومن قوانين الحركة في المدار البيضاوي أن السرعة المحيطية فيه تخضع لقانون تكافؤ المساحات مع الزمن ; وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة علي طول المحيط، فتزداد نسبيا بالاقتراب النسبي من الأرض، وتزداد بزيادتها قوة الطرد المركزي علي القمر فتدفعه بعيدا عن الأرض، وإلا اصطدم القمر بالأرض فدمرها ودمرته ; وتقل السرعة المحيطية للقمر كلما بعد نسبيا عن الأرض، فتقل القوة الطاردة المركزية علي القمر لئلا يخرج عن نطاق جاذبية الأرض، فينطلق إلي فسحة السماء أو تبتلعه الشمس، وأعلي مقدار لسرعة سبح القمر في مداره حول الأرض يقدر بما قيمته 3888 كيلومترا في الساعة ; وأقل مقدار لتك السرعة يقدر بنحو 3483 كيلومترا في الساعة، وهذا يجعل السرعة المتوسطة لسبح القمر في مداره حول الأرض تقدر بنحو 3675 كيلومترا في الساعة.
ونفس القانون (قانون الجري في القطع الناقص) ينطبق علي سبح الأرض حول الشمس،
__________
(1) الدكتور زغلول النجار، من أسرار القرآن، الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه، الأهرام: 42315 السنة 126 - 14/ 10/2002.
معجزات علمية (134)
وسبح باقي أجرام السماء كل في مداره حول الجرم الأكبر، أو التجمع الأكبر.
معجزات علمية (135)
علي: لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أنه سخر ما في الكون للإنسان في آيات كثيرة في معرض الامتان على عباده، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج:65)، وقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: 20)، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (لأعراف:54)، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)
إن من الناس من يعتريهم العجب من هذه الآيات.. فكيف تكون النجوم مسخرات، وهن بذلك البعد عنا.. بل أرضنا لا تساوي شيئا أمام سعتها؟
ابتسم الفلكي، وقال: لقد ذكرتني هذه الآيات العظيمة بما يسميه قومنا (حرب النجوم).. إن قومنا من الوثنيين تستهويهم الحروب، ويستهويهم الصراع، فلذلك يتصورون الكون مصارعا لا ينال ما فيه إلا بالصراع.. بينما أرى القرآن يجنح جهة أخرى، إنه يرى الكون كونا مسالما يخدم بعضه بعضا، ويسخر بعضه لبعض.. وهذا ما أثبته العلم.. وما سأشرحه لك.
علي: قبل أن تشرح لي ما يؤكد هذا اسمح لي أن أذكر لك نصا جليلا لتلميذ في مدرسة القرآن الكريم.. إنه الإمام بديع الزمان، فقد قال، وهو يعبر عن خطاب الشمس لنا، وترحيبها بنا: (يا اخوتي لا تستوحشوا مني ولا تضجروا! فأهلاً وسهلاً بكم. فقد حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً. انتم اصحاب المنزل، وانا المأمور المكلف بالاضاءة لكم. انا مثلكم خادم مطيع سخرّني الأحد الصمد للاضاءة لكم، بمحض رحمته وفضله. فعليّ الاضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصلاة)
معجزات علمية (136)
وهكذا يخاطبنا كل شيء بلسان حاله، (فيا هذا هلاّ نظرت الى القمر.. الى النجوم.. الى البحار.. كل يرحب بلسانه الخاص ويقول: حياكم وبياكم. فأهلاً وسهلاً بكم)
وقد عقد النوسي مقارنة بين التعبير القرآني في وصف الشمس في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً} (نوح:16)، وبين التعبير العلمي الحديث الجاف، فقال عن التعبير القرآني: (في تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم، وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته)
أما العلم الحديث فيعرف الشمس بأنها (كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).
وعقب على هذه المقارنة بقوله: (فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية)
وبمثل ذلك ورد القرآن الكريم، وهو يصور النعم المستسخرة بصورة الهدايا المقدمة على أطباق، ومعها ختم المهدي، فالله تعالى صور ـ مثلا ـ الأرض بصورة المركب الذلول، المحتوية على كل المنافع، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:15)
الفلكي: ما أجمل هذا الوصف الذي وصف به القرآن الأرض.. إنه وصفها بكونها ذلولا، وهو يطلق على الدابة، ليصور في الأذهان أن هذه الأرض التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، هي دابة متحركة.. بل رامحة راكضة مهطعة، ولكنها مع ذلك ـ وبسبب تسخيرها للإنسان ـ ذلول لا تلقي براكبها على ظهرها، ولا تخضه كالدابة غير الذلول.
معجزات علمية (137)
هذا هو تصوير القرآن الجميل، وهو تصوير يتوافق مع العلم.. أما الجاحدون من قومي، فيصورونها في صورة الدابة الرامحة الراكضة التي تحتاج فارسا قويا مثل فرسان رعاة البقر ليقوم بترويض جماحها على نغمات تصفيق المعجبين.
علي: لقد ذكر القرآن الكريم من وجوه تسخير الكون للإنسان ما جعل في النجوم من خاصية الهداية في ظلمات البر والبحر (1)، فقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97)
الفلكي: هذه الآية تشير إلى منفعة من أهم منافع النجوم، والتي استفادت منها البشرية في جميع أحقابها.
فقد رتبت النجوم في مجموعات من الكوكبات (البروج) يمكن بواسطتها تحديد الاتجاهات الأربع الأصلية، كما هو الحال مع النجم القطبي المعروف باسم نجم القطبية أو نجم الجدي أو كوكبة الشمال أو مسمار الفلك كما يحلو لعدد من الفلكيين أن يسموه.
وهو نجم ثلاثي من العماليق العظام، ويعتبر ألمع نجم في كوكبة الدب الأصغر، وهو يبعد عنا مسافة 650 سنة ضوئية، ويقدر قطره بمائة مرة قدر قطر الشمس، وتقدر قوة إشعاعه بخمسة آلاف ضعف إشعاع الشمس، وقد أعطي هذا الاسم لقربه الشديد من قطب السماء الشمالي (الذي لا يبعد عنه إلا بأقل من درجة واحدة)
ونظرا لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق تبدو القبة السماوية وكأنها تدور من الشرق إلي الغرب في حركة ظاهرية بكافة نجومها فيما عدا النجم القطبي الذي يقع علي
__________
(1) انظر: من أسرار القرآن، الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية ـ 17 ـ، والسماء ذات البروج، بقلم الدكتور: زغلول النجار، الأهرام: 41916، السنة 126 / يوم:10/ 09/2001.
معجزات علمية (138)
الامتداد الشمالي لمحور دوران الأرض، فيبدو لنا ساكنا، ويحدد بموقعه اتجاه الشمال الحقيقي، ومن ثم يعين علي تحديد الجهات الأربع الأصلية علي الأرض وفي صفحة السماء مما يساعد علي التوجه الصحيح في ظلمات البر والبحر، وفي تحديد القبلة، وفي تحديد غيرها من المواقع والاتجاهات.
ويحدد موقع النجم القطبي في قبة السماء بواسطة العربة الكبري (المغرفة) في كوكبة الدب الأكبر وذلك بمد الخط الواصل بين خلفيتي العربة الكبري (أي الدليلتين اللتين تسبقان في أثناء الحركة اليومية الظاهرية) حوالي خمس مرات قدر المسافة بينهما، ولولا وجود النجم القطبي ما استطاع الانسان التوجه في ظلمات البر والبحر.
علي: لقد ورد ذكر تزيين السماء في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات:6)
بل سمى القرآن النجوم التي تزين السماء مصابيح فقال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 12)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (الملك:5)
الفلكي: أتدري يا صاحبي.. العلم الآن يقول هذا.. لا يقوله فقط.. بل يصوره تصويرا.. لقد التقط العلماء صوراً رائعة للنجوم شديدة اللمعان أو الكوازرات، وأدركوا أن هذه النجوم تضيء الطريق الذي يصل بيننا وبينها.. لذلك أطلقوا عليها اسماًَ جديداً هو (المصابيح الكاشفة)
بل إن العلماء صاروا عندما يتحدثون عن البناء الكوني نجدهم يتحدثون أيضاً عن تشبيه جديد وهو أن المجرات وتجمعاتها تشكل منظراً رائعاً يزهو بمختلف الألوان من الأزرق والأصفر والأخضر مثل الخرز على العقد، أو مثل اللآلئ المصفوفة على خيط.
ففي إحدى المقالات العلمية نجد كبار علماء الفلك في العالم يصرحون بعدما رأوا بأعينهم
معجزات علمية (139)
هذه الزينة بهذا.. يقول أحدهم: (يقول العلماء: إن المادة في الكون تشكل نسيجاً كونياً، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد} (1)
علي: لقد ورد في القرآن الكريم كذلك وصف السماء بكونها سقفا محفوظا.. فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (الأنبياء:32)
بل جمع القرآن الكريم بين خاصيتي الزينة والحفظ، فقال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 12)
الفلكي: هذه خاصية مهمة لبناء السماء أثبتتها الأبحاث العلمية الحديثة.. لا يمكنني أن أحدثك عنها بالتفصيل.. ولكني سأحدثك فقط على ناحية منها لها علاقة بالأرض التي نعيش فيها.. سأذكرها لك فقط كنموذج على هذه الخاصية.
لقد ذكرت لي بأن القرآن يعتبر السماء كل ما علا الإنسان.
علي: أجل.. فقد قال تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164)
الفلكي: أنت تعلم أن الأرض تحاط بغلاف جوي يؤدي وظائف ضرورية لاستمرار الحياة، فهو يدمر الكثير من النيازك الكبيرة والصغيرة، ويمنعها من السقوط على سطح الأرض وإيذاء الكائنات الحية.
فلولا وجود الغلاف الجوي لسقطت ملايين النيازك على الأرض جاعلة منها مكاناً غير قابل للعيش، ولكن خاصية الحماية التي يتمتع بها هذا الغلاف سمحت للكائنات بالبقاء آمنة على قيد الحياة.
__________
(1) انظر هذه المقالة عن كيفية تشكل الكون وبنائه على الرابط:
http://www.govertschilling.nl/nieuws/archief/2001/0105/010518_eso.htm
معجزات علمية (140)
ليس ذلك فقط.. فالغلاف الجوي يصفي شعاع الضوء الآتي من الفضاء المؤذي للكائنات الحية.
والملفت للنظر، والجالب للدهشة أن الغلاف الجوي لا يسمح إلا للإشعاعات غير الضارة مثل الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية، وموجات الراديوا بالمرور.. وكل هذه الإشعاعات أساسية للحياة.
فالأشعة فوق البنفسجية التي يسمح بمرورها بشكل جزئي فقط عبر الغلاف الجوي ضرورية جداً لعملية التمثيل في النباتات، ولبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة.
أما غالبية الإشعاعات فوق البنفسجية المركزة، فيتم تصفيتها من خلال طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، ولا تصل إلا كمية محدودة وضرورية من الطيف فوق البنفسجي إلى الأرض.
وهذه الوظيفة الوقائية للغلاف الجوي لا تقف عند هذا الحد، بل إن الغلاف الجوي يحمي الأرض من برد الفضاء المجمد الذي يصل إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر.
علي: فحماية الأرض مرتبطة إذن بالغلاف الجوي؟
الفلكي: ليس الغلاف الجوي وحده هو الذي يقوم بهذه العملية الخطيرة.. فهناك ما يعرف بحزام فان ألن.. وهو طبقة ناتجة عن حقول الأرض المغناطيسية، وهي تشكل درعاً واقياً من الإشعاعات الضارة التي تهدد كوكبنا.
فلولا وجود حزام فان ألن، لكانت الانفجاريات العظيمة للطاقة المسماة التموجات أو الانفجارات الشمسية، والتي تحدث بشكل دائم في الشمس قد دمرت الأرض.
وقد قال الدكتور (هوغ روس) عن أهمية حزام فان آلن: (في الحقيقة إن الأرض تملك كثافة أعلى من كل ما تملكه باقي الكواكب في النظام الشمسي، وهذا القلب الغظيم للأرض المكون من الحديد والنيكل هو المسؤول عن الحقل المغناطيسي الكبير، وهذا الحقل المغناطيسي هو الذي ينتج درع إشعاعات فان آلن الذي يحمي الأرض من الإنفجارات الإشعاعية، ولو لم يكن هذا الدرع
معجزات علمية (141)
موجوداً لما كانت الحياة ممكنة على سطح الأرض، ولا يملك مثل هذا الدرع سوى الأرض وكوكب المريخ الصخري، ولكن قوة حقله المغناطيسي أقل بمائة مرة من قوة حقل الأرض المغناطيسي، وحتى كوكب الزهرة المشابه لكوكبنا ليس لديه حقل مغناطيسي.. إن درع فان آلن الإشعاعي هو تصميم فريد خاص بالأرض)
علي: وقد ذكر القرآن من أنواع تسخير الكون لنا أنه جعل لنا ساعة كونية تبزغ في سمائنا كل يوم متزايدة في نورها، لتعطينا تأريخا شهرياً منتظماً، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس:5)
الفلكي: صدق القرآن.. فبما أن القمر يكتمل نوره في 16 يوما تقريباً، فإن إضاءة نصفه تعادل 8 أيام تقريباً وإضاءة ربعه تعادل 4 أيام تقريباً وهكذا.. فمن نظرة سريعة إلى الجزء المضيء من القمر نستطيع معرفة التأريخ القمري بخطأ لا يتجاوز اليوم الواحد.. وقد عرفنا ذلك من قبل.
-\--\-
سالت دموع حارة من عين علي، وهو يسمع هذه العظمة التي يضمها الكون بين جنباته، وقال للفلكي: جزاك الله خيرا.. وملأك بالبركات.. فإن ما ذكرته لي من علم خير تفسير سمعته لتلك الآيات من القرآن الكريم.
إن ما ذكرته من عظمة خلق السماء، يدل على أنها لم تخلق عبثا كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (صّ:27)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ
معجزات علمية (142)
الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:73)
بل أخبر أنها آيات للدلالة على الله وعظمة الله، وأنه لا يفقه سرها هذا إلا العقلاء من الناس، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164).. وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)
بل دعا أولي العقول إلى إعمال فكرهم في السماء.. ليعرفوا الله من خلالها، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (الروم:8)
وأخبر الجاحدين الذين يجحدون قدرة الله على بعث مخلوقاته بعظمة خلق الكون، فقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر:57)
قال الفلكي بتأثر شديد: أكل هذه الآيات في القرآن.. إنها تخاطبني أنا بالذات.. أنا الذي أرى كل هذا.. وأنا الذي أعلم أن قدرة الذي خلق كل هذا الكون الواسع لن يعجز عن شيء..
ثم التفت إلى علي، وقال: أين تباع مصاحف القرآن؟.. أريد مصحفا.. لعلي لم أزر بلادكم إلا لأشتريه.
علي: لن تحتاج لشرائه.. أنا أحمل دائما معي مصاحف من القرآن.. ولكني لا أسلمها إلا لمن أتوسم فيه استعدادا لقراءتها والبحث فيها عن الحقيقة..
أخرج من محفظته مصحفا، ثم قال: هذا هدية مني لك.. وهو مكتوب باللغتين.. باللغة العربية.. وهي أدق وأحكم في الدلالة على معانيه.. ومكتوب بلغتك.. وهي أقصر من أن تعبر عن معانيه.. فلذلك إذا شككت في معنى من المعاني.. فاذهب إلى لغته الأصلية.
معجزات علمية (143)
أخذ المصحف، وقال: هذا أكبر تكريم كرمت به في حياتي.
أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل على صاحبي الفلكي.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
معجزات علمية (144)
في اليوم الثاني.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات كثيرة ترتبط بالأرض في القرآن الكريم، وللأسف فقد كان الكثير من تلك المحاضرات مما يصب في بحار الشبه التي تصرف المستمعين المتعلمين عن الدين أكثر مما تقربهم إليه.
ولهذا.. فقد قرر هذا المؤتمر في ذلك اليوم الشبه، وأكدها، وثبتها في نفسي، كما ثبتها في أذهان المستمعين.
وقد لاحظت في عيون الفلكي استغرابا عظيما لما سمعه من تلك المحاضرات، ولهذا اقترب مني، وقال: هل حقا ما يقول هؤلاء؟.. لقد سمعت البارحة من عجائب القرآن ما يحيل أن يكون الذي ذكره هؤلاء من كلام القرآن.
قلت: بل هم يقرؤون قرآنا.. أنت تعلم أني أعرف قرآن المسلمين..
قال: ولكن.. هل فهومهم تنسجم مع عظمة تلك الآيات التي سمعتها أمس.. لقد سمعت البارحة من عجائب علم القرآن في الفلك ما يحيل أن يكون ما يقوله هؤلاء من القرآن الذي سمعته أمس.
قلت: لا أدري ما أقول لك.. ولكني أعلم أن ما يقرؤونه من القرآن.
قال: هل يمكنك أن تدلني على ذلك الرجل الطيب الذي التقينا به أمس؟
تظاهرت بأني لا أعرفه، وقلت: لقد التقينا به ـ كما رأيت صدفة ـ فأنى لي أن أعرفه؟
رأيت بعض الأسف على وجهه، وكأنه فقد شيئا عزيزا لهثت أنفاسه، وهي تبحث عنه.
في ذلك اليوم قدم صديقي ـ عالم الأرض ـ محاضرته، وقد كان حريصا ألا يذكر ما أرادوا تقريره من الأخطاء العلمية.. ولهذا اكتفى بأن يتحدث عن الحقب الجيولوجية التي مرت بها الأرض.. فكانت محاضراتهم في واد، ومحاضرته في واد آخر.
وقد أخبرني صاحبي هذا في لقاءاتي السابقة معه بأنه قد أخذ موقفا صريحا من كل الأديان،
معجزات علمية (145)
ومن كل الكتب المقدسة، بل كان يسخر منها، لا يستثني في ذلك كتابا.
أما الكتاب المقدس، فقد رأى ما فيه من خرافات وأباطيل لا علاقة لها بالعلم ولا بالعقل.
وأما القرآن، فقد كان يسمع ما يقوله هؤلاء الذين نظموا هذا المؤتمر، ليؤكدوا كل ما يثار ضدهم من شبه.
ولكن صاحبي ـ مع ذلك ـ كان حزينا أن تظل جميع الأسئلة التي تراود العلماء في منأى عن أي إجابة.. فلم يكن من الصنف الذي امتلأ بالغفلة، فلا يعير قضايا الدين أي اهتمام.
بل كان مهتما بقضايا الدين الكبرى أعظم اهتمام.. ولكنه كان لا يرى في أي دين من الأديان، والتي تمثلها كتبها المقدسة، ما يستحق أي تقديس.
وكانت شبهته في ذلك هي تلك الأخطاء التي لا تتناسب مع الإله الذي صنع الكون.
في ذلك اليوم أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنذهب إلى متحف طبيعي موجود في البلدة رفقة العلماء الذين حضروا معي، وطلبت منه أن يبلغه عن الشبه الكثيرة التي حاول المحاضرون أن يملأوا بها أسماع الحاضرين.
وكان مقصدي من ذلك أن يسمع عقلي الإجابة عنها.. لأن الحيرة ملأتني في ذلك اليوم.. كما ملأتني بعد أن سمعت ما قاله لي مدير الكنيسة عندما أرسلني لهذا المؤتمر.. وقد كادت تلك الحيرة أن تبدد جميع تلك الأنوار التي جمعتها من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
في المساء سرت مع العلماء العشرة إلى المتحف الطبيعي الموجود بتلك المدينة الجميلة..
كان متحفا في غاية الروعة والجمال.. وهناك التقينا بعلي.. وقد بدا لي في صورة عالم من علماء المسلمين الأجلاء الذين اهتموا بالبحث في إعجاز القرآن المرتبط بالأرض.. لقد بدا لي في صورة الدكتور زغلول النجار.. لعلك تعرفه.. ذلك العالم الذي اهتم بإبراز الإعجاز القرآني في هذه الجوانب بكل صدق وعلم وإخلاص.
لقد بدا علي في صورته ووقاره.. وكأنه هو عينه.
معجزات علمية (146)
أمام أحد الصخور.. وقف صاحبي يبين لي كيف استطاع العلماء أن يعرفوا تاريخ الأرض من خلال تاريخ الصخور.
وكان بمقربة منا علي، وهو يتنصت باهتمام شديد، ويحاول أن يجد الفرصة المناسبة ليتدخل.
قال صديقي الجيولوجي ـ بعد أن أطنب في الكلام عن كيفية معرفة تاريخ الأرض عن طريق صخورها ـ: الجيولوجيا تعتمد على مبدأ الجيولوجي هاتون الذي قرر في القرن الثاني عشر أن (الحاضر مفتاح الماضي)، وأن البحث في صخور الأرض يمكننا من عمل نتيجة زمنية تبين مقياس الحقب الجيولوجية القديمة.
ولهذا.. فإن هذه الصخرة تمثل كتاب تاريخ لا يقل عن أي كتاب آخر.. وهي تمثل بالنسبة لنا أثرا من الآثار لا يقل عن كل تلك الآثار المكتشفة.
تقدم علي منه، وقال: هل تسمح لي بالحديث معكم في هذا الموضوع.
قلت: لا بأس.. تفضل.. تحدث عما تريد.
علي: لقد ذكر القرآن هذا.. لقد أمرنا بالسير في الأرض، والبحث فيها لنعرف كيف بدأ الخلق، فقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:20)
فهذه الآية صريحة في الدلالة على المنهج العلمي الصحيح الذي نعرف به تاريخ الأرض الحقيقي.. زيادة على أن التعبير القرآني بالسير في الأرض يشير إلى البحث في الطبقات الجيولوجية للأرض لنتعرف على نشأة الأرض ونشأة المملكة النباتية والحيوانية بها (1).
نظرت إلى صديقي الفلكي، فوجدته يبتهج، وكأنه قد سقط على ضالته، ورأيت في نفس الوقت صديقي الجيولوجي متذمرا بعض التذمر.
لقد قال له: نعم.. يمكنك أن تفهم من هذه الآية ما قصدته.. وهو معنى صحيح.. ولكنه
__________
(1) انظر: الكون والإعجاز العلمي في القرِآن د. منصور حسب النبي.
معجزات علمية (147)
مع ذلك يظل معنى مستغربا وروده في قرآنكم.
علي: لم؟
الجيولوجي: لأن ما في القرآن يتنافى مع الحقائق العلمية المتعلقة بالعلوم المكتشفة حول الأرض.. ولذلك فهو ينقل ما تعارفت عليه المجتمعات من خرافات في هذا الشأن.
قال علي بهدوئه المعتاد: هل قرأت القرآن؟
الجيولوجي: لا أزعم لك أني قرأته جميعا.. ولكني من خلال بعض القراءات، أو بالأحرى من خلال سماعي لبعض ما يقرأ منه عرفت أن القرآن يتنافى في هذا الجانب مع الحقائق العلمية، وبالتالي يستحيل أن يكون كلام إله.. فالإله يفترض فيه أن يعرف الأرض التي خلقها.
علي: أنت تقع ضحية بعض الشبهات، فلذلك اسمح لي أن أشرح لك ما أسأت فهمه، فهل أنت مستعد لذلك.. أم أنك تود أن تظل على موقفك من القرآن؟
الجيولوجي: وما عساك ستزيد على ما قال علماء كبار لهم مكانتهم التي لا تضاهى بين علماء المسلمين؟
علي: اسمع مني فقط.. ثم قارن بين ما تسمعه مني، وما تسمعه من غيري، ثم لك الحرية بعد ذلك في اختيار ما تراه من أقوال.
كان الفلكي أشد شوقا من الجيولوجي لسماع كلام علي، فقال: كيف لا يسمع.. بل كلنا ينبغي أن نسمع.. لقد سمعنا في الصباح آراء معينة قد تتناقض مع بعض ما ذهب إليه العلم، فلنر قدرة هذا الرجل، أو قدرة ما يحمله من علم على تفنيد ذلك.
علي: فنلجلس.. فربما يطول الكلام.
جلسنا جميعا على أرائك فخمة في ذلك المتحف، ثم رحنا نسمع للشبهات التي يطرحها صديقي عالم الأرض، وإجابات علي عنها.
معجزات علمية (148)
الجيولوجي: أول ما يصدك عن القرآن، ويرغبك عنه، هو أن القرآن يحدثنا عن تاريخ الأرض، وعلاقته بتاريخ السماء، فيقع في تناقض لا يقل عن التناقض الذي وقع فيه الكتاب المقدس (1).
علي: أنت ترى تناقضا في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} (فصلت)
الجيولوجي: نعم.. هذا صحيح.. عندما نجمع هذه الأيام نحصل على ثمانية أيام.. مع أن القرآن ذكر في كل المواضع أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. هذا هو التناقض بعينه.. وهذا هو التناقض الذي يملأ قومنا به الأرض ضجيجا (2).
علي: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما ذكرها الكتاب المقدس.. ولكنه في هذه الآية التي تعترض عليها ذكر من التفاصيل ما لم يذكره الكتاب المقدس.
ولكني قبل أن أجيبك على ما اعترضت عليه أحب أن أبين لك أن هناك فرقا كبيرا بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في الكتاب المقدس.
انتفض الفلكي لسماعه هذا الكلام، فقد كان أكبر ما حجبه عن الكتاب المقدس هو ما ذكره
__________
(1) سبقت إشارة مختصرة إلى هذا في (الكلمات المقدسة)
(2) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في كتاب: بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006 م.
معجزات علمية (149)
سفر التكوين عن بداية الخلق، وتلك الأخطاء التي احتواها حديثه عن ذلك، ولذلك قال من غير شعور: حدثنا عن هذه المسألة.. إنها أكبر الحجب بين العلم والكتب المقدسة.
علي: يوجد اختلاف كبير بين القرآن الكريم والكتاب المقدس في طبيعة الأحداث التي حصلت خلال هذه الأيام، وفي ترتيبها.
أولا.. لقد ذكر القرآن الكريم في كثير من آياته أن الله تعالى خلق الكون في ستة أيام، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (قّ:38)
والمراد باليوم في القرآن الكريم هو المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون، وليس المراد منها الأيام التي نعدها نحن البشر، فالقرآن الكريم يذكر نسبية الزمن، وأن اليوم قد يكو طوله ألف سنة، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:47)، وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة:5)
بل قد يكون خمسين ألف سنة، كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج:4)
وبما أن الآيات التي ذكرت خلق السموات والأرض لم يرد فيها عبارة (مما تعدون)، فإن ذلك يدل على أن المراد بالأيام هي الحقب الزمنية، لا الأيام المعهودة.
وهذا أول ما يخالف به القرآن الكريم ما ورد في الكتاب المقدس.
والثاني أن القرآن الكريم ذكر أحداثا لم يذكرها الكتاب المقدس..
وقبل أن نطبق ما ورد في القرآن الكريم على موازين العلم نطبق ما ورد في الكتاب المقدس:
يمكننا أن نلخص أحداث الخلق التي ذكرت في الإصحاح الأول من سفر التكوين كما يلي:
في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار.. وفي اليوم الثاني خلق الله السماء.. وفي اليوم الثالث
معجزات علمية (150)
خلق الله البر والبحر والنباتات.. وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم.. وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء.. وفي اليوم السادس خلق الله الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان.
من الواضح أن هنالك خلطا كبيرا في ترتيب بعض مراحل خلق مكونات هذا الكون في النص الوارد في سفر التكوين، منها تقديم خلق الليل والنهار على خلق الشمس علما بأن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس، بل إن النص ذاته قد أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال: (لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ)
ومن الأخطاء تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.
ومن الأخطاء أنه افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.
ومن الأخطاء أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول، وهذا ما لا يقبله العقل فلا وجود للأرض بدون الشمس.
ومن الأخطاء أن النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية: (فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.
بالإضافة إلى كل هذه الأخطاء، فإنه يوجد لبس في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء، حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض (وَقَالَ اللهُ: (لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ). فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ.
معجزات علمية (151)
وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا)
هذا ما ذكره الكتاب المقدس، أما القرآن الكريم، فالأمر فيه مختلف تماما، وأول اختلاف وأخطر اختلاف بين القرآن الكريم والكتاب المقدس هو في التفاصيل التي فصلت بها الأيام الستة التي تم فيها الخلق.
فقد تفرد القرآن الكريم بتقسيم فترة الستة أيام التي خلق الله بها السماوات والأرض إلى فترتين، وهما فترة خلق الأرض الأولية، وكذلك السماوات والتي استغرقت يومين من هذه الأيام الستة.
والفترة الثانية.. وهي فترة مرتبطة بالأرض ـ باعتبار القرآن يتحدث مع الإنسان ـ وهي فترة تقدير الأقوات في هذه الأرض، والتي استغرقت الأيام الأربعة المتبقية وهو ما يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت:9 - 10)
وبالتالي، فإن فترة خلق الأرض الأولية تمثلت في مرحلتين:
المرحلة الأولى، وهي المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.
وأما المرحلة الثانية، فهي فترة تقدير الأقوات، وهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق (1).
__________
(1) حاول بعض العلماء أن يستنتج من خلال القرآن الكريم طول كل يوم من الأيام الستة، وذلك بالجمع بين ما توصلت إليه وكالة الفضاء الأمريكية ناسا مؤخراً، [وذلك باستخدام مكوك فضائي مزود بمجسات متطورة جداً لدراسة الكون، حيث قدرت عمر الكون بـ 13،7 مليار سنة (انظر: موقع قناة الجزيرة (ناسا تعلن تمكنها من كشف عمر الكون) الأربعاء 11/ 12/1423 هـ الموافق 12/ 2/2003 م)] وبين ما ذكر القرآن الكريم من هذا التقسيم، وقد ذكر تقسيم أيام الخلق إلى ثلاثة أقسام متساوية، كل قسم يعادل يومين من أيام الخلق، بالمفهوم النسبي للزمن.
أما القسم الأول، فهو يومان لخلق الأرض من السماء الدخانية الأولى، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (فصلت:9)، ويشير إليه كذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الانبياء:30)
وأما القسم الثاني، فيومان لتسوية السماوات السبع، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11)، وهذا يشير إلى الحال الدخانية للسماء بعد الانفجار الكوني العظيم بيومين، حيث بدأ تشكل السماوات، فقضاهن سبع سماوات في يومين.
وأما القسم الثالث، فيومان لتدبير الأرض جيولوجياً وتسخيرها للإنسان، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت:10) أي تمام أربعة أيام كاملة متساوية بلا زيادة ولا نقصان للسائلين من البشر عن مدة خلقها وما فيها، ويرى جميع المفسرين أن هذه الأيام الأربعة تشمل يومي خلق الأرض ويومي التدبير الجيولوجي لها.
وقد لاحظ من خلال الآيات:
1 ـ تساوي الأيام زمنياً وإلا لما أمكن جمعها وتقسيمها إلى ثلاثة مراحل متساوية.
2 ـ التدبير الجيولوجي للأرض حتى وصول السائلين (الإنسان) أستغرق يومين من أيام الخلق الستة أي أستغرق ثلث عمر الكون.
و حيث أن التدبير الجيولوجي للأرض منذ بدء تصلب القشرة الأرضية وحتى ظهور الإنسان قد استغرق زمناً قدره 4.5 مليار سنة طبقاً لدراسة عمر الأرض إذاً عمر الكون =4،5 × 3= 13،5 مليار سنة.
وقد استنتج من هذا أن هذا الرقم يقارب ما توصلت إليه وكالة الفضاء الأمريكية ناسا مؤخراً.
انظر: الكون والإعجاز العلمي للقرآن، تأليف الأستاذ منصور حسب النبي.
معجزات علمية (152)
الجيولوجي: حدثنا عما نص عليه القرآن من المرحلة الأولى، لنرى مدى اتفاقها مع ما يقول العلم.
علي: أول مرحلة مرت بها الأرض هي المرحلة التي مرت بها سائر أجرام السماء، وهي المرحلة التي يسميها القرآن الكريم الدخان، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)
لقد بينت هذه الآيات حقيقة كبرى لم ترد في التوراة، ولم يكتشفها البشر إلا في القرن
معجزات علمية (153)
العشرين، وهي أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشؤه الأولى.
والمقصود بالسماء في هذه الآية هو الفضاء الكوني الذي امتلأ بالدخان، وليست السماء التي ستتكون من هذا الدخان لاحقا، فلم يكن ثمة سماء قبل ذلك.
لقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني، بينما سماها القرآن الدخان والتسمية القرآنية أدق من تسمية العلماء، فالجسيمات الأولية أصغر من أن تكون غبارا وحتى دخانا، ولكن الدخان هو أصغر وأخف شيء يمكن أن تراه أعين البشر علاوة على أن الدخان يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون (1).
ولم يكتف القرآن الكريم بذكر هذه المرحلة التي مرت بها الأرض، بل نص على المصدر الذي جاء منه هذا الدخان، حيث ذكر أن السموات وما تحويه من أجرام كانت كتلة واحدة، ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة، وذلك في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)، فهذا الفتق في مادة الكون الأولية هو ما يسمى بالانفجار العظيم الذي حول هذه المادة ذات الكثافة العالية إلى سحابة كبيرة من الدخان أو الغبار الكوني.
وممّا يؤكد أن هذا الدخان قد نتج عن انفجار كوني ضخم هو إشارة القرآن إلى أن الكون في توسع مستمر، والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير، وبدأ حجمه بالازدياد، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذريات:47)
لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني، ولكنهم اختلفوا في الحالة التي سيؤول إليها، فبعضهم يذكر بأن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد، بينما يرى آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار، فيعود الكون من حيث بدأ، وقد رجح القرآن الكريم هذا في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا
__________
(1) ذكرنا تفاصيل ذلك في الفصل السابق.
معجزات علمية (154)
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الانبياء:104).. فهذه الآية تؤكد على حقيقة الانفجار الكوني، فعملية طي السماء هي عكس عملية نشره أو انفجاره، حيث سيعيد الله الكون إلى الحالة التي كان عليها قبل الانفجار {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (الانبياء: 104)
الجيولوجي: إن هذه الحقائق التي يذكرها القرآن حقائق كبرى.. وهي تتفق جميعا مع ما نص عليه العلم في آخر تطوراته، وفي أدقها.
علي: لقد كان من الأسلم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لو أن هذا القرآن كان من تأليفه أن يكتفي بما جاء في التوراة من أن الأرض كانت موجودة منذ بداية أيام الخلق دون أن يخوض في تفصيلات هذه الأيام.. ولكن الذي أنزل القرآن على محمد يعلم أن الدخان الكوني لم يتحول فجأة إلى سماوات وأراضين، بل تحول بشكل تدريجي وفق القوانين التي أودعها الله إياه.
ومما يدلك على أن اليومين اللذين خلق الله فيهما الأرض هما نفس اليومين اللذين خلق فيهما السماوات هو قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)، فالأرض لا يمكن أن تخلق قبل أن تخلق الشمس التي ستدور حولها، والشمس لا يمكن أن تخلق قبل خلق المجرة التي ستدور حول مركزها، والمجرات ما هي إلا المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، كما قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 12)
ويمثل اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض الأولية المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس، وقد كانت على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.
الجيولوجي: لقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل، وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي.
معجزات علمية (155)
وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية الشمس، فإن تبعجا سيحدث في شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضا في موضعين، أما أولهما، ففي قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (الرعد:41)
وأما الثاني، ففي قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات:30)
الجيولوجي: فإلى متى استمرت هذه المرحلة؟
علي: لقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي، ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار، كما نشاهد ذلك عند حدوث البراكين.
الجيولوجي: تلك المرحلة الأولى.. وقد صدق القرآن في كل ما تحدث به عنها.. فما المرحلة الثانية؟
علي: هي المرحلة التي بدأ فيها توفير الجو الصالح للحياة.. وقد حدد الله علامة بارزة لنهاية يومي خلق الأرض الأولية، وبداية الأيام الأربعة التي أكمل فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها بالرواسي التي هي الجبال، كما قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت:10)
الجيولوجي: من البديهي أن تكون الجبال أول ما تكون من تضاريس الأرض فالأرض
معجزات علمية (156)
كانت كرة ملساء ولكن عندما أصبح سمك قشرتها بقدر يكفي لحمل المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين بدأت هذه المواد بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال.
علي: لقد ذكر القرآن الكريم هذا، وذكر أن الأرض في بداية تشكلها لم يكن فيها شيء من أسباب الحياة، فقال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت:9 - 10)
إن هذه الآية تشير إلى أن الأرض في نهاية اليومين الأولين من أيام الخلق كانت قاحلة من كل أسباب الحياة، فلا ماء على سطحها، ولا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس الضارة ومن النيازك، وكان سطحها مكون من صخور صلدة لا تراب عليها.
ولهذا فإن تأهيل هذه الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها، يحتاج لتوفير شروط كثيرة، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن.
والمراد بتقدير الأقوات في الآية هو توفير حميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على سطح الأرض، وقد حدد القرآن أربعة أيام من مثل أيام خلق الأرض الأولية لتوفير أسباب الحياة على الأرض.
وفي هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي، وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية.
وقد أشار القرآن الكريم في معرض امتنان الله على عباده ببعض الأحداث التي حصلت في هذه المرحلة، فقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} (النازعات)
معجزات علمية (157)
وقال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النمل:61)
وبعد أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها، ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات، وبعدها خلق الله الإنسان.
الجيولوجي: لا بأس بما ذكرت.. ولكن ليس ذلك فقط ما لدي مما أعترض به على القرآن.. لدي شيء آخر، لا يقل خطرا.. بل لعله أعظم خطرا.. ذلك هو ما ذكره القرآن عن شكل الأرض.. فهو ينص صراحة على أن الأرض ممدودة، فيقول: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} (الانشقاق:3)، بل هو ينص على أنها مسطحة، فيقول: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية:20)، وهو ينص على أنها مهد.. وهو لا يكون إلا مستويا: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} (النبأ:6)
والقرآن في اعتقاده هذا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه البشرية عبر تاريخها الطويل.. فمنذ خمس مئة سنة فقط، وقبل ذلك، كان الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة وترتكز على ثلاثة حيتان.. ولم يجرؤ أحد من المعارضين على معارضة هذه الخرافة، وظل خط الأفق الرفيع الغامض يحير الناس الذين كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة كالقرص، وكان هذا الأفق في نظرهم نهاية الأرض، الذي تقع وراءه دار الخلود، وأرض النعيم، والأعمدة التي تحمل الكرة السماوية، والباب الذي تخرج منه الشمس لترحل عبر السماء.
بل زعم اليونانيون أن المرء يمكنه في المساء أن يسمع (طشطشة) الشمس الساخنة، وهي تغطس في المحيط الواقع وراء الأفق، ولكنهم لم يجازفوا بالذهاب إلى هناك، واكتفى الجميع
معجزات علمية (158)
بالخيال أمام كل مجهول (1).
بالإضافة إلى هذا.. فالقرآن يقول بثبات الأرض واستقرارها، وأن الشمس تطوف بها.
علي: لقد سقت شبهتين إحداهما تتعلق بشكل الأرض، والأخرى بحركتها، مستندا في ذلك إلى ما ذكره القرآن من تمهيد الأرض للإنسان ومده لها.. وسأجيبك عن كليهما.
الجيولوجي: أجبني عن الأولى.. عن قول القرآن بتسطيح الأرض.
علي: هذه أول شبهة.. وهي تستدعي أمرين:
الأول هو الرجوع إلى علماء المسلمين.. لا علماء عصرنا.. بل علماء العصور السابقة.. وتحديدا قبل خمسمائة سنة لنرى مدى تشبعهم بتلك الخرافة.. والثاني، هو الرجوع إلى القرآن نفسه.
الجيولوجي: الأصل أن ترجع للقرآن وحده.. فكيف ترجع للعلماء؟
علي: لأن العلماء كانوا يستقون معارفهم من القرآن الكريم، فلذلك إذا كان القرآن قد نص على ما زعمت، فإنا سنرى العلماء الذين هم أفقه الناس في القرآن ينجرون إلى ذلك لا محالة، بل يدافعون عنه.
الجيولوجي: نعم.. يمكن قبول هذا الدليل، ولكنه لن يغني عن الثاني.
__________
(1) ورغم هذا، فقد كان هناك من يقول بكروية الأرض، وأول من يحفظ التاريخ له هذا القول فلاسفة الحضارة العراقية القديمة (حضارة مابين النهرين) في حدود سنة 2000 ق. م وعنهم أخذ فلاسفة اليونان ومنهم فيثاغورس الذي نادي بها في منتصف القرن السادس ق. م مؤكدا أن الشكل الكروي هو أكثر الأشكال الهندسية انتظاما لكمال انتظام جميع أجزاء الكرة، بالنسبة إلي مركزها، وعلي ذلك فإن الأرض وجميع أجرام السماء لابد وأن تكون كروية الشكل.
وبقي هذا الرأي شائعا في الحضارة اليونانية القديمة حتي القرن الرابع ق. م إلي أن عارضه أرسطو فشاع بين الناس الاعتقاد باستواء الارض بلا أدني انحناء.
وقد قال عدد من علماء المسلمين ومنهم البيروني وابن سينا والكندي والرازي وغيرهم بكروية الأرض.
معجزات علمية (159)
علي: سأبدأ بالأول.. وهو ما قاله علماء المسلمين..
ولنبدأ بعالم اشتهر عنه الأخذ بظواهر النصوص، فهو لا يميل للتأويل، بل يأخذ بالظواهر مهما كانت دلالتها غريبة، وهو ابن حزم، الذي عاش قبل قرننا هذا بأكثر من ألف سنة، فقد قال، وهو ينقل إجماع القرآن والسنة وأئمة المسلمين على كروية الأرض: (وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به وذلك أنهم قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية والعامة تقول غير ذلك، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها قال الله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5).. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، وهو مأخوذ من كور العمامة، وهو إدارتها} (1)
فها أنت ترى الرجل.. وقد مضى على كلامه هذا أكثر من ألف سنة، ومع ذلك يقول بكروية الأرض، بل يستدل على كرويتها من القرآن الكريم، بل ينقل الإجماع على ذلك..
لم يقل ابن حزم وحده بهذا، بل صرح به كثير من علماء الإسلام، فهذا الغزالي يقول في الكتاب الذي وضعه في الرد على الفلاسفة: (القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - منازعتهم فيه، كقولهم: إن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيط بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض، انقطع عنه نور الشمس؛ وكقولهم: إن كسوف الشمس معناه وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة.
وهذا الفن لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 349 فما بعدها.
معجزات علمية (160)
من الدين، فقد جنى على الدين وضعف أمره، فأن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوف، وقدرهما، ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له: إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقة، أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل} (1)
فها أنت ترى الغزالي مع شدته على الفلاسفة يوافقهم في هذا.. ولا يرى أنه يعارض نصوصا من القرآن الكريم لا من الصريح منها، ولا من غيره، ولو كان يخالفها لعارضهم في ذلك كما عارضهم في غيره.
ويقول الفخر الرازي في تفسيره، وفي الآية التي تصورت أنها تخالف العلم في هذا، وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: 3): (المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به.. والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح} (2)
وقال في نفس التفسير، في رد الشبهة الناتجة عن سوء فهم قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86} (3): (ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك.. ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون
__________
(1) تهافت الفلاسفة ص 80.
(2) مفاتيح الغيب ج 19 ص 1.
(3) رددنا على هذه الشبهة بتفصيل في (الكلمات المقدسة)
معجزات علمية (161)
الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: {تَغْرُبُ فِيْ عَيْنٍ حَمِئَةٍ} من وجوه)
وقد ذكر من تلك الوجوه (أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عينٍ وهدةٍ مظلمةٍ ـ وإن لم تكن كذلك في الحقيقة ـ كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر..
ومن ردوده على بعض ما أورده أهل الأخبار في هذا من أن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة: (وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: (حصل هذا الكسوف في أول الليل)، ورأينا المشرقيين قالوا: (حصل في أول النهار)، فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين. وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة} (1)
هذا بعض ما يقوله علماء المسلمين في هذا.. وهم مجمعون على ذلك بحمد الله.. بل إنهم لا يكتفون باستنباط هذا من دلالات العقول، بل يستدلون عليه من النصوص نفسها.
ولم يكن في عصورهم من يجادلهم في مثل هذا.. ولكنهم مع ذلك كانوا يقولون به بناء على ما فهموه من القرآن.
بل إن علماء المسلمين المستنيرين بهدي القرآن لم يكتفوا بالإقرار بذلك.. بل سبقوا لاكتشاف الجاذبية الأرضية، وتقسيم الكرة الأرضية إلى خطوط طول ودوائر عرض، وأن الأرض ليست كرة منتظمة التكوير.
__________
(1) انظر: مفاتيح الغيب 21/ 142.
معجزات علمية (162)
قال المقدسي في مقدمة كتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم): (أما الأرض فإنها كالكرة، والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجذب الحديد. والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض)
وقال ابن خرداذبة في مقدمة كتاب (المسالك والممالك): (الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجتذب الحديد، والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب وهذا طول الأرض. وهو أكبر خط في كرة الأرض، فاستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة)
وجاء في مقدمة كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري: (قال الشريف (أي الإدريسي): ومع كون الأرض كرة، هي غير صادقة الاستدارة)
وقال أبو بكر الصوفي: (لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض، انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى الطرفان} (1)
وفي مقدمة كتاب المنتظم لابن الجوزي: (قال أبو الوفاء بن عقيل: الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعه في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة، والنسيم يحيط بها كالبياض من البيضة حول المحّة، والفلك يحيط بالنسيم كإحاطة القشرة البيضاء بالبياض المحيط بالمحة، والأرض مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي تدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة)
ثم قال: (لا اختلاف بين العلماء في أن السماء مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من
__________
(1) نقلا عن وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 359.
معجزات علمية (163)
الكواكب كدور الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب.
وكذلك أجمعوا على أن الأرض مثل الكرة، ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوحد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب، وكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء)
وقال المسعودي: (الأرض مقسومة نصفين وبينهما خط الاستواء، وهو بين المشرق إلى المغرب وهذا هو طول الأرض؛ لأنه أكبر خط في كرة الأرض)
الجيولوجي: أنا لا يهمني ما يقول هؤلاء.. بل يهمني بالدرجة الأولى ما يقول القرآن.. فكيف تجيب على ما ذكرت من النصوص الدالة على تسطيح الأرض؟
علي: لقد تحدث العلماء القدامى في هذا، في الوقت الذي كانت تنتشر فيه الخرافات التي تصور الأرض بصور مختلفة.. فهذا أبو عبد الله الداراني يجيب عن هذه الشبهة بقوله: (ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح} (1)
ثم إنك ترانا اليوم مع أننا نزعم أننا نعيش عصر العلم، وقد عرفنا ـ بلا شك ـ أن الأرض كرة، ومع ذلك لا نزال نتحدث عنها على أنها مسطحة، بل نسميها البسيطة.
كما أننا في حياتنا وقياستنا العادية لا ندخل انحناء سطحها في اعتبارنا، فالمهندس يقيس المسافات على سطح الأرض في مستوى واحد دون أن يدرك للأرض انحناء أو عمقاً عن مستوى القياس في أول الطريق.
بعد هذا، فإن الآية الكريمة التي ذكرت تسطيح الأرض وردت في سياق استفهام استنكاري لما ينظرون، قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
__________
(1) انظر: تفسير البحر المحيط 7/ 80.
معجزات علمية (164)
(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} (الغاشية)
فهي تشير إلى رؤيتهم الأرض.. ولاشك أن كل من يرى الأرض بعينه المجردة لا يراها إلا مسطحة.
ومع ذلك فقد ورد في آيات أخرى ما يشير، بل يكاد يصرح بكروية الأرض، بل بشكلها الحقيقي الذي يميل إلى البيضوية.
الجيولوجي: ما دام القرآن في تصورك يحوي هذه الحقيقة الجليلة، وهذا السبق العلمي العظيم، فلم لم يصرح به؟
علي: أولا.. يجب أن تعلم أن القرآن الكريم كتاب هداية، لا كتاب جغرافية، وهو يذكر الحقائق العلمية ليبين من خلالها عظمة قدرة الله، وعظم منة الله على عباده، فلذلك لا يشتغل بالتفاصيل من جهة.
ومن جهة أخرى.. فإن التصريح في مثل هذه المحال ربما يسيء إلى التعاليم التي جاء بها..
تصور أن يخاطب القرآن قوما، فيذكر لهم أن الأرض كروية، وهم يعتقدونها غير ذلك.. إلام سيؤدي هذا؟
الجيولوجي: سينشر القرآن بذلك العلم حقيقة، ويرفع خرافة.
علي: وما ضرر تلك الخرافة على عقائد الناس أو سلوكهم.. لقد ظل الناس قرونا طويلة يعتقدون أشياء كثيرة لم تكن صحيحة، ولكن مع ذلك لم تتأثر حياتهم ولا سلوكهم.. ونحن اليوم قد نعتقد خرافات قد لا تقل عن تلك الخرافات، ومع ذلك فحياتنا وسلوكنا لا يتحكم فيهما مثل هذه الأمور.
ثم.. تصور القرآن الذي جاء بالحقائق الكبرى التي لا تساوي معها هذه الحقيقة شيئا.. يترك كل تلك الحقائق ليجادل في شيء مثل هذا.. مع العلم أنه لم يثبت بالرؤية الحسية كروية الأرض إلا في هذا القرن.. فهل يظل البشر كل تلك القرون محرومين من هداية القرآن بسبب الحرص
معجزات علمية (165)
على التصريح بمثل هذا؟
الجيولوجي: وعيت هذا.. فاذكر لي ما ذكرته عن تلميح القرآن بكروية الأرض.
علي: التلميح في أحيان كثيرة أفصح من التصريح.. لأنه لا يفهمه حق فهمه إلا العلماء.. وقد انتهجه القرآن في هذا الباب، وفي أبواب أخرى، ليخاطب به الراسخين في العلم.. فمن العلم ما يتضرر بفهمه العوام، كما قال تعالى يبين منهج القرآن في هذا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران:7)
هذا مجرد استطراد بسيط نحاطب به من لا يعون أسلوب القرآن الكريم، ويتعاملون معه كما يتعاملون مع كتب الجغرافية والطبيعة.
أما عن النصوص الدالة على شكل من الأرض من القرآن فهي كثيرة.. وبما أنكم تفهمون العربية، فلن أتكلف كثيرا في شرح ذلك لكم (1).
أول آية هي قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5)
وهي الآية التي فهم منها ابن حزم وغيره من علماء الإسلام النص على كروية الأرض.
الجيولوجي: كيف ذلك.. لا أرى أن في الآية ما يدل على هذا.
علي: أنت تعلم أن الفعل (يكور) معناه: يلف في استدارة، فيقال في اللغة: كار العمامة على
__________
(1) انظر: كروية الأرض ودورانها حول نفسها في ضوء القرآن الكريم، أ. د/ منصور محمد حسب النبي، وهي محاضرة مفرغة ألقيت بجمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في الموسم الثقافي سنة 1989 م، والمحاضر أستاذ الفيزياء المتفرغ بكلية البنات بجامعة عين شمس، ورئيس القسم الأسبق، ووكيل الكلية الأسبق، وعضو مجلس إدارة جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة حالياً.
وانظر: التفسير العلمي للآيات الكونية، أ / حنفي أحمد، دار المعارف 1960 م.
معجزات علمية (166)
رأسه وكورها، يمعنى لفها.
وقد فهم المفسرون القدماء هذه الآية بهذا المعنى على (أنها لف زمن النهار على زمن الليل، ولف زمن الليل على زمن النهار) أي: إدخال ساعات أحدهما في الآخر، باعتبار كل من النهار والليل ظرف زمان فقط بحقيقة اللفظ.
وليس المراد بهذا المفهوم الزمني لليل والنهار، فإن هذا التفسير لا يعطي المعنى المقصود في الآية، لأنه لا معنى مطلقاً للف زمن على زمن.
ولكن المعنى المقصود هو ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، فالله تعالى ذكر لفظ الليل والنهار في معظم الآيات القرآنية كإشارة إلى لازمين من لوازمهما الستة: ظلمة الليل ونور النهار، أو مكان حدوثهما، أو السبب فيهما.
ولو تدبرنا علمياً الاحتمال الصحيح في اللوازم الستة المذكورة، كمجاز مرسل، فإننا نستنتج أن المعنى المقصود للآية هو: يكور الله تعالى أو ينشر في شكل كروي ظلمة الليل على مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويكور أو ينشر ويلف في شكل كروي نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وقرينة هذا التفسير كلمة (يكور)، فالتكوير لا يعقل أبداً في زمن الليل والنهار ويتطلب لف شيء على آخر، وهما ظلمة الليل على مكان النهار، ثم لف نور النهار على مكان الليل في الغلاف الجوي الكروي المحيط بالكرة الأرضية.
ويترتب على هذا المعنى المقصود من آية التكوير حقيقة علمية هامة، وهي أن الله تعالى يلف الأرض الكروية حول محورها، فيحدث تتابع وتبادل الليل والنهار، كما أن الليل والنهار رغم هذا التتابع موجودان في آن واحد على سطح الأرض الكروي، لأن الشمس تنير نصف الكرة الأرضية المواجه لها نهاراً، بينما في نفس الوقت يكون النصف الآخر في ظلام، أي: ليلاً، نتيجة كروية الأرض.
الجيولوجي: فهمت مرادك.. ولكنه يصعب على العامي فهمه.
معجزات علمية (167)
علي: ألم أذكر لك أسلوب القرآن في مثل هذا!؟.. لا يمكن للقرآن أن يخاطب عاميا بسيطا، هو أشبه بالطفل في عقله ومعارفه ليقول له: أنت تقف على كرة.. وغيرك يمكنك أن يقف تحتك على هذه الكرة.
إن ذلك قد يثير الدهشة في العامة البسطاء.. فلذلك اكتفى القرآن بالإيماء إلى هذا.. وكرر الإيماء في صيغ مختلفة ليتيقن منها العلماء مراد القرآن من غير أن يتضرر العامة بذلك.
سأذكر لك آية أخرى تدل على هذا.. وهي في نفس الوقت لا يفهمها العوام إلا بحسب معارفهم البسيطة، وكلا المعنيين صحيح.
وهذه الآية هي قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات:30)، فلفظ (دحاها) في الآية يعني معاني كثيرة منها ما يتوافق مع أفهام العامة البسطاء، ومنها ما لا يدركه إلا أهل العلم، فمن معانيها التي يفهمها العامة، وقد يتعلق بها مثيرو الشبه، هو (مدها وبسطها)، وهو معنى صحيح كما ذكرنا سابقا، بل فيه دلالة على كروية الأرض، فلا يمكن أن تمد الأرض، وتبسط إلا إذا كانت كروية.
زيادة على هذا، فالفعل (دحا) له معاني أخرى وردت في اللغة:
منها معنى (رمى من المقر)، وهذا فعلاً ما حدث للأرض عند انفصالها من الشمس منذ 4.6 مليار سنة، خاصة وأن الفعل (دحا) أتى بعد تمام إخراج الضحى في السماء كما في في قوله تعالى: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: 29)، أي: أتمّ صنع النوم فيها.
ومنها معنى (أزاح)، كما ورد باللغة دحا المطر الحصى عن الأرض، والإزاحة معناها حركة بسرعة معينة مما يشير إلى حركة الأرض، وهو ما كشفه العلم الحديث من حركات الأرض.
سأذكر لك آية أخرى تشير إلى هذا:
يقول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
معجزات علمية (168)
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف:54)
في هذه الآية إشارة صريحة إلى كروية الأرض.. فهي تذكر أن النهار يطلب الليل حثيثاً، وذلك يعني أنه يلاحقه سريعاً، دون توقف.
تصور هذا.. النهار كائن من ضياء منبعث من الشمس، يملأ الفضاء والجو في كل الجهات، والليل كائن آخر لا ضوء فيه إلا بصيص الشهب يلاحق النهار بسرعة، والنهار يلاحقه، هذا يجري وذاك يطلبه دون توقف.
لكن إلى أين؟ وكيف؟ هل يجريان في طريق مستقيمة طرفها اللانهاية؟
لوكان ذلك لما مر على الأرض إلا نهار واحد لحقه ليل، وينتهي الأمر.
لكننا نراهما متعاقبين، فالنهار يطلع كل يوم من نفس الجهة التي طلع منها في اليوم السابق، وتسير شمسه لتغيب في نفس الجهة التي غربت فيها بالأمس.
وهكذا العتمة من الشرق وتغور في الغرب، ثم يتكرر المشهد، انظر الحركة في قوله تعالى {يطلبه حثيثاً}.. إن هذا يدل على أن الطريق دائرية لا لبس فيها.
فالآية تصور بوضوح صورة طريق دائرية حول الأرض، يجري عليها الليل والنهار، ذاك يغشى هذا، وهذا يغشى ذاك (1).
الجيولوجي: إن ما ذكرته يشير إلى ذلك.. ولكن هل كان القرآن يقصد هذا؟
علي: هذا يستدعي أن تقرأ القرآن لتعرف أسلوبه في التعبير.. ولكن لا بأس سأجيبك عن الشبهة الثانية، والمتعلقة بحركة الأرض، ومن خلالها ستعرف أن القرآن يقصد في تلك الآيات حقيقة كروية الأرض.
__________
(1) انظر: الإسلام والحقائق العلمية تأليف: محمود القاسم، والإعجاز العلمي في القرآن الكريم أ. د حسن أبو العينين.
معجزات علمية (169)
قال الفلكي بلهفة: ستجيبنا عن حركة الأرض إذن.
علي: أجل.. لقد وردت نصوص قرآنية كثيرة تشير إلى حركات الأرض.. ولنبدأ بأول حركة، وهي دوران الأرض حول نفسها كما يدور المغزل (1).
أنتم تعلمون أن الإيمان بدوران الأرض أعصى من الإيمان بكرويتها، لأن الدوران حركة، وقد تعوّد الناس بالشعور بالحركة، فإذا قيل لهم: إن الأرض تتحرك لسارعوا إلى التكذيب، فكيف تتحرك، وهم يرونها ساكنة لا يشعرون بدورانها، ويعتقدون أنها ثابتة في مركز الكون، بينما باقي الأجرام السماوية تدور حولها.
الجيولوجي: فالقرآن لم يصرح بحركتها كما لم يصرح بكرويتها؟
علي: كيف تريده أن يصرح بأمر يتصور العوام أنه يناقض أحاسيسهم.. إن القرآن لو أنزل آية تقول للناس: إن الأرض التي تسكنون عليها تتحرك حركة حول نفسها، وحركة حول الشمس، وحركة في المجرة.. وغيرها لاشتغل معهم بمعارك طاحنة لا جدوى منها.. ولظلت المعركة قائمة قرونا عديدة من غير أن يكون لها أي فائدة.
يكفي القرآن في هذا أنه لم يذكر ما اجتمعت عليه الأعراف في ذلك الحين من المعلومات الخاطئة كتلك المعلومات التي تبنتها الكنيسة، ثم راحت تحاسب العلماء على أساسها.
لاشك أنك تعرف (النظرية المركزية الأرضية)، والتي جعلت الأرض ثابتة لا حراك فيها في مركز دوران الجميع، أي أن الشمس والكواكب والنجوم تدور سوياً مع دوران قبة السماء يومياً من الشرق إلى الغرب حول الأرض ـ الساكنة فرضاً ـ
__________
(1) يدل لسائر الحركات ما ورد في النصوص من سباحة كل الأجرام في أفلاكها، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الانبياء:33)، وجري الشمس، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يّس:38)، لأن الأرض ـ بحسب ما تدل عليه النصوص التي سنذكرها ـ تابعة للشمس، وهي لذلك تتحرك بحركتها.
معجزات علمية (170)
لقد ظلت هذه النظرية الخاطئة سائدة حتى وقت قريب، ولم يجرؤ أحد على تحديها إلى أن جاء كوبرنيكس عام 1543 م، ونشر نظريته الجديدة التي وضعت الشمس لأول مرة في مركز المجموعة الشمسية وتدور الكواكب بما فيها الأرض، كل في مداره المستقل حول الشمس علاوة على دوران هذه الكواكب دوراناً مغزالياً، كل حول محوره المستقل.
وبهذا أعلن كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول محورها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام فيحدث تغير الفصول، وبهذا عرف الناس لأول مرة أن الأرض متحركة، وليست ساكنة، وكان هذا الإعلان كارثة في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، وتعجبت الكنيسة لهذا الخبر الذي يتناقض مع معتقداتهم، ومع الإحساس الظاهري للبشر، ومع الجبال الساكنة في نظر كتاب النصوص المقدسة.. ولهذا قررت الكنيسة محاكمة هؤلاء العلماء في ذلك الوقت واتهمت كوبرنيكس بالكفر، ومصادرة وإحراق أبحاثه عن حركات الأرض، فهرب من روما حتى لا يتم القبض عليه، بينما أمر البابا بإحضار جاليليو بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرك الأرض، وحكمت الكنيسة عليه بالسجن مدى الحياة، وتوفي وهو مؤمن بدوران الأرض، كما أعدمت الكنيسة برونو حرقاً في ميدان عام لدفاعه عن تحرك الأرض وتوقع وجود أراضين أخرى.
وهكذا كان اضطهاد الكنيسة للعلماء قاسياً، بل ومهزلة كبرى، مما استدعى الانفصام والعداء بين العلم والدين في أوروبا، وبدأت فعلاً الثورة العلمية الكبرى في أوروبا في القرن السابع عشر وتحدى العلماء الكنيسة كرد فعل استرداداً لكرامتهم، وأعلنوا صراحة معارضتهم للكتاب المقدسة لاحتوائه على عبارات تتعارض مع الحقائق العلمية.. وانتصر العلم أخيرا، وتراجع رجال الكنيسة وتقلص نفوذهم ودفعوا ثمن تحريفهم للكتب المقدسة.
الجيولوجي: ألم يحصل هذا في الإسلام؟
علي: لم يحرق أحد في الإسلام لأجل أفكاره..
معجزات علمية (171)
أما في هذه النقظة بالذات، فقد ورد في القرآن الكريم كما ذكرت لك بما يكاد يصرح بحركة الأرض.. اصبر فقط، وتمعن ما أقرأ جيدا، فسترى صدق هذا.
لنبدأ بالحديث عن دوران الأرض حول نفسها كالمغزل.. إن القرآن الكريم يشير إلى هذه الحركة من خلال الوصف الدقيق لنظام تولد الليل والنهار، وذلك في آيات كثيرة، فالله تعالى يقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (لأعراف: 54)، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد:3)، ويقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5)، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (لقمان: 29)، ويقول: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يّس:37)
الجيولوجي: كيف فهمت من هذه الآيات حركة الأرض؟.. أنا لا أرى ذلك.
علي: ألم أقل لك: إن هذه قضية غريبة على الناس، فلذلك تحتاج إلى بعض التأمل لفهمها؟
إن هذه النظرية بالنسبة لذلك الواقع لا تقل عن نظرية النسبية، فهل تتصور شرحها للناس يحتاج إلى تلك البساطة التي تتصورها؟
إن الليل والنهار في هذه الآيات لا يقصد بهما المفهوم الزمني فقط، نعم ذلك هو المعنى الأصلي اللغوي، ولكننا إذا تدبرنا هذه الآيات لوجدنا معاني أخرى مقصودة تشير إلى أن لفظي الليل والنهار يقصد بهما في القرآن في معظم الآيات لازمين من لوازمهما، وذلك: إذا استخدمنا ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، والذي أخذ به المفسرون في آيات أخرى بمعنى الظلام والنور، وليس بالمعنى الزمني.
لقد ورد الليل والنهار في القرآن الكريم بهذا المعنى، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (يونس:67).. فزمني الليل
معجزات علمية (172)
والنهار لا يساعدان مطلقاً على السكون والإبصار، وإنما يساعد عليها ظلمة الليل ونور النهار، وبهذا يتضح أن المراد هنا هنا من الليل والنهار هو الظلام والنور.
انطلاقا من هذا.. فإنا إذا استعرضنا لوازم الليل والنهار في علم الطبيعة نجد عددها ستة بخلاف المعنى الأصلي الزمني، وهي: ظلام الليل ونور النهار، مكان حدوث الليل ومكان حدوث النهار، سبب حدوث الليل وسبب حدوث النهار.
وباستخدام الاحتمالات المنطقية من هذه اللوازم نصل إلى المراد من آيات الإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ، على الترتيب.
لنبدأ بآيات الإغشاء، كقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} (لأعراف: 54) ومعناها: على اعتبار أن فيها حذفاً تقديره: يغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، أي: أنه تعالى يغطي بالليل النهار ويغطي بالنهار الليل على سطح الأرض، وحيث أنه لا معنى لتغطية زمن بزمن، فيكون المعنى بالمجاز المرسل: يغطي الله بظلمة الليل مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويغطي الله بنور النهار مكان الليل فيصير نهاراً، والقرينة على هذا المعنى المقصود كلمة {يغشي} أي: يغطي، لأن الإغشاء يقتضي تغطية شيء بشيء، والأول المراد تغطيته هو مكان النهار ثم مكان الليل، والثاني: وهو الغطاء هو ظلمة الليل ثم نور النهار.
بل في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (لأعراف: 54)، والتي تصف تعاقب الليل والنهار عقب تمام خلق السماوات والأرض، حيث جعل الله ظلمة الليل تطلب مكان النهار، وضياء النهار يطلب مكان الليل على الأرض بسرعة لا بطء فيها في بداية تاريخ كوكب الأرض، وهذا لا يحدث إلا بدورانها سريعاً حول محورها، بحيث يتعاقب الليل والنهار بدليل
معجزات علمية (173)
العبارة القرآنية {يطلبه حثيثاً}، وبذلك لا يبقى مكان على الأرض دائم الليل أو دائم النهار (1).
سكت قليلا، ثم قال: آية التكوير أيضا تشير إلى هذا.. فالله تعالى يقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5)، فالتكوير ـ كما عرفنا ـ أصل معناه في اللغة (لف شيء على آخر في اتجاه مستدير).. وبما أنه لا معنى للف زمن على زمن، فإننا منطقياً لا بد أن نبحث عن المعنى المقصود، وذلك باستخدام المجاز المرسل (2)، وبهذا فإن التفسير الصحيح لهذه الآية هو (يلف أو ينشر في اتجاه مستدير) أي أن الله تعالى يكور ظلمة الليل
__________
(1) علاوة على هذا، فإن الدوران السريع للأرض في بداية الخلق إعجاز علمي آخر للآية، فقد تبين علمياً أن سرعة الأرض كانت عالية عند بدء خلق الأرض، ثم تناقصت بالتدريج مع مرور الزمن، وما زال هذا التناقص مستمراً بسبب ظاهرة المد والجزر التي تعمل كفرملة لكوكب الأرض بواسطة جذب القمر لمياه البحار والمحيطات.
ورغم أنه تعويق ضئيل للغاية إلا أنه يؤدي إلى طول اليوم على كوكب الأرض بمرور الزمن، وقد تبين علمياً أنه يزداد بمقدار (1...... ثانية) كل قرن، ولكن هذه الزيادة الضئيلة جداً تتراكم بمضي الزمن عبر بلايين السنين لتؤثر فعلاً في طوال اليوم، فلو رجعنا بالزمن إلى الدوران لحظة تاريخ نشأة الأرض لوجدنا زمن اليوم الأرضي كان 4 ساعات فقط، ثم أخذت الأرض في التباطؤ التدريجي في الدوران حول نفسها بفعل المد والجزر لدرجة أن زمن اليوم الأرضي أصبح 22 ساعة بعد مرور 4 مليار سنة على نشأة الكوكب، أي: منذ 500 مليون سنة، وأصبح الآن 23 ساعة، 56 دقيقة، 48 ثانية.
ورغم هذا التباطؤ في الدوران فإن الأرض تمثل الساعة الكونية العظمى التي لا تتعطل إلا بجزء من مليون من الثانية كل يوم نظراً لتأثير المد والجزر، ورغم أن كتلة الأرض تبلغ أكثر من 6600 مليون مليون مليون طن، فإنها تعتبر أثناء دورانها حول نفسها أدق ساعة في الوجود وتفوق في دقتها ساعات الكوارتز، كما أن هذا التعطيل اليومي الضئيل لم يتم قياسه حديثاً إلا باستخدام الساعات الذرية وأبحاث أخرى بيولوجية في القواقع البحرية.
وفي القرآن الكريم إشارة لهذه الظاهرة تؤكد أن تعاقب الليل والنهار كان سريعاً في بداية خلق الأرض، ثم أخذ يتناقص تدريجياً إلى أن أصبح تعاقباً عادياً نعيش فيه الآن بعد تمام إعداد الأرض وتسخيرها لحياة الإنسان، أي: أن اليوم أصبح الآن طويلاً بعد أن كان قصيراً عند نشأة الكوكب.
فالله تعالى يقول مشيراً إلى التعاقب السريع لليل والنهار في سياق وصف عملية الخلق في المراحل الأولى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (لأعراف: من الآية 54)
(2) إطلاق الظرف وإرادة المحل والمكان معروف في اللغة، ومشهور في القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران:107)، فالمراد هنا إطلاق الصفة ويراد بها الموصوف، أو الظرف ويراد به المظروف.
معجزات علمية (174)
على مكان النهار على سطح الأرض، فيصير ليلا، ويكور نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وكأنه يقول بهذا بلغة العلم (لف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس)، وذلك حتى يحدث تتابع الليل والنهار في الغلاف الجوي للأرض.
ويؤيد ذلك آيات الإيلاج وتكرار الفعل يولج، فالله تعالى ذكر هذا في مواضع من القرآن، فهو يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:61).. وهو يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (لقمان:29).. وهو يقول: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} (فاطر: 13).. وهو يقول: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الحديد:6)
أنت تعلم أن الإيلاج في أصل معناه هو إدخال شيء في آخر بحيث يحيط به ويساويه، حجماً ومساحة، وبما أنه لا معنى مطلقاً لإيلاج زمن الليل في زمن النهار، أو بالعكس، فإن المقصود من تعاقب الليل والنهار بإيلاج كل منهما في الآخر هو بالمجاز المرسل، إيلاج لازم من لوازم الليل في آخر من لوازم النهار السابق ذكرها والمعنى المنطقي المقصود باختيار اللازم المناسب هو (يولج الله مكان الليل في مكان النهار، فيصير نهاراً، ويولج مكان النهار في مكان الليل فيصير ليلاً) أو بتعبير آخر (يجعل مكان الليل يحل محل مكان النهار، والعكس بالعكس على سطح الأرض)
وهذا معناه بلغة العلم أنه تعالى يجعل الأرض تدور حول نفسها أمام مصدر الضياء من الشمس، فيتبادل كل من الليل والنهار مكان الآخر على الأرض، أي: يحل الأول محل الثاني، وبالعكس بالتساوي تماماً، وبذلك يتعاقب الليل والنهار على الأرض مع تساوي مساحة مكان كل منهما، أي: تساوي حجم نصفي الكرة الأرضية حول محورها، حتى يتوفر معنى الإيلاج لغوياً.
معجزات علمية (175)
وحيث إن هذا التبادل يستلزم تماثل وتساوي المكانين حجماً ومساحة حتى يمكن إحلال كل منهما محل الآخر، لأنه إذا زاد أو نقص ـ أي: المكانين عن الآخر ـ لا يتحقق هذا التبادل المتماثل في الإحلال، ولا يتحقق المعنى اللغوي للإيلاج في الهندسة الفراغية، وهذا التماثل يؤدي إلى استنتاج كروية الأرض وانتظام شكلها، لأن نصفيها متساويان والمحور ينصف الكرة تماماً.
رأيت على وجوه الجماعة بعض الاقتناع، ورأيت على وجه الفلكي خصوصا سمات الفرح والسرور، وهي تملأ محياه.
واصل علي حديثه، يقول: آية أخرى تشير إلى هذا، بل تكاد تصرح به، وهي قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يّس:37)
أنتم تعلمون أن السلخ في أصل معناه فصل الجلد من اللحم، وحيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل، وأن الآية أو الدليل المقصود على قدرة الصانع ليس هو زمن الليل، بل مكانه الذي ينسلخ منه النهار بدوران الأرض مغزلياً، فيكون تعالى قد ذكر الليل، وقصد مكانه الذي يحدث فيه، وقرينته قوله تعالى: {وآية لهم}،ثم قوله تعالى: {نسلخ منه النهار}، أي نسلخ من الليل، والمقصود: نسلخ من مكان الليل نور النهار، وقرينته قوله: {نسلخ} لأن السلخ يقتضي فصل شيء من شيء، وهو فصل النور من مكانه الذي سيصير مكان الليل.
وبناءً على ذلك: يكون معنى الآية: ودليل لهم (للناس) على قدرتنا مكان الليل، إذ نسلخ أو نزيل منه نور النهار من مكانه على الأرض تماماً، كما نسلخ الجلد من اللحم فيدخل الناس في الظلام.
ففي تشبيه إزالة نور النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية لبيان أن ضوء النهار ينشأ في سطح الغلاف الجوي للأرض، ولا يمتد إلى باطنها، كما ينشأ جلد الحيوان من لحمه ولا يمتد إلى باطنه، وبهذا فإن نور النهار مكتسب ومعكوس من سطح الأرض ومشتت في غلافها الخارجي، وليس ضوءاً ذاتياً كما في النجوم.
معجزات علمية (176)
وبهذا تظهر الحكمة في التعبير القرآني بسلخ نور النهار من الغلاف الجوي الذي يصبح ظلاماً بدون أشعة الشمس، كما أن الليل أو الظلام هو الأصل في الكون، فظلام الفضاء الكوني سائد حول جميع الأجرام لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث التشتت لضوء النجوم الذي لا يظهر إلا بالانعكاس على سطوح الأجرام أو التشتت في غلافها الجوي.
ظهر على وجوه الجماعة الكثير من مظاهر الاقتناع، فعلي: من هذه الآيات جميعا، من آيات توليد الليل والنهار بالإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ نرى نتائج علمية هامة.
الجيولوجي: ولكنها ـ مع ذلك ـ صعبة الفهم على ذهن من لم يكن ملماً بعلم الطبيعة والفلك إلماماً كافياً.
علي: لقد وضحنا أسباب ذلك.. بل القرآن أشار إلى ذلك عندما اعتبر إدراك آيات الله محصورا في العاقلين من أولي الألباب، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164)، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)
وأولو الألباب، هم أولو العقول المتعلمة المتخصصة.
ولهذا قال تعالى في الآية التي تشير ـ هي الأخرى ـ إلى دوران الأرض: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر:4 - 5)
والحجر معناه: العقل المفكر.
وهذا القسم يصف الليل بالحركة، وفي ذلك كناية بالغة عن حركة الأرض حول نفسها، وقد تكرر مثل هذا القسم في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} (المدثر:33)، ويقول: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (التكوير:17).. وفعل عسعس معناه: أقبل ظلامه
معجزات علمية (177)
أو أدبر، وفعل يسر معناه: التحرك.
أنتم تلاحظون أن الله تعالى لم يصف النهار بالإقبال والإدبار، لأن هذا أمر طبيعي ينتج من إدبار الليل وإقباله، بل وصفه بالوصف الخاص بظواهر النور وسلوك الضوء القادم من الشمس أثناء اختراقه لطبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض مسبباً بالانكسار والتشتت والانعكاس ظواهر الإسفار في أول النهار، والشفق في آخر النهار، والنور أثناء النهار، ولولا الغلاف الجوي لساد الظلام فوق رؤوسنا رغم بزوغ الشمس، كما هو الحال في الفضاء.
بالإضافة إلى هذا هناك آيات قرآنية أخرى تشير إلى دوران الأرض حول نفسها مغزلياً كما في قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (النور:44)، فالتقليب هنا حقيقة تحدث فعلاً، ويعني الحركة، وإحلال أحدهما محل الآخر حتى يتم التقليب، مشيراً بذلك على الدوران المغزلي للأرض بصريح العبارة بإحلال مكان الليل مكان النهار وبالعكس.
بدأت وجوه الجماعة تسفر عن أسارير تمتلئ بالسرور، مما شجع علي على مواصلة حديثه، حيث راح يقول: آية أخرى تؤكد هذه الحقيقة باعتبارها سنة كونية سائدة في جميع الأجرام منذ بدأ خلقها، فالله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الانبياء:33)، فهذه الآية تشير إشارة دقيقة لطيفة إلى حركة الأرض ودورانها.
فالليل والنهار لغوياً ظرفا زمان، ولا بد لهما من مكان، كما نعرف في الفيزياء النسبية، فلا زمان بدون مكان، والمكان الذي يظهر فيه الليل والنهار، وهو بالتأكيد الأرض، وتشرق الشمس وتغرب ظاهرياً نتيجة الحركة الحقيقية المغزلية للأرض، فيتولد الليل والنهار، ولولا دوران الأرض لما ظهر أي تعاقب ليل ولا نهار، فكأنه تعالى يقول لنا في الآية (أن كل من الأرض والشمس والقمر يسبح في هذا الفضاء الشاسع في فلك مستقل به)
سكت قليلا، ثم قال: آية أخرى تشير إلى هذا، وتقربه للعقول، وهي قوله تعالى وهو يحدث عن نعمته على عباده بخلق الجبال: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً
معجزات علمية (178)
سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (الانبياء:31) أي: لئلا تضطرب بالناس اضطراباً مخلاً وتتزلزل تحتهم فلا يستقرون عليها.
ومع أن هذه الآية تشير إلى حقائق أخرى.. فإنها مع ذلك تشير إلى حركة الأرض، وتهيئ الأذهان لتقبلها.
سكت قليلا، ثم قال: هناك آيات أخرى تشير إلى هذا النوع من حركة الأرض.. اسمعوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} (الفرقان:45 - 46)
في هاتين الآيتين دليل واضح على دوران الأرض حول نفسها، لأنها لو كانت غير متحركة لسكن الظل، ولم يتغير طولاً أو قصراً، لأن ظاهره الظل وتغير طوله لا تعليل لها إلا بالدوران المغزلي للأرض.
والقرآن يشير إلى نفي ما يتوهمه الناس من دوران الشمس حول الأرض من الشرق إلى الغرب ـ في الحركة اليومية الظاهرية الخادعة التي لا وجود لها، والتي كان القدماء يعتقدون بوجودها متوهمين أن تغير طول الظل مشروط بانتقال الشمس من الشرق إلى الغرب ـ وذلك بتأكيده أن الشمس هي مجرد مؤشر ودليل ضوئي ندرك به الظلال، ولهذا يقول تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}
والقرآن بعد هذا كله يجعل من هذه الحركات التي تتحرك بها الأفلاك نوعا من سجودها لله، فالله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل:48) أي: تميل ظلال الأشياء من جانب إلى جانب ساجدة لله سجود خضوع لمشيئته وسجود انقياد، لا تخرج عن إرادته ومشيئته، لأن هذه الظلال مرتبطة بالدوران المغزلي لجميع الكواكب والأجرام، ولو شاء الله لجعل الظل ساكناً بإيقاف هذا الدوران.
معجزات علمية (179)
سكتت الجماعة بعد أن سمعوا هذه النصوص الكثيرة الدالة على قول القرآن الكريم بشكل الأرض، وحركتها، فانتهز علي الفرصة، وراح يقول: لاشك أنكم عرفتم منهج القرآن في تقرير الحقائق العلمية.. إنه يستعمل أسلوبا خاصا يفهمه الخاصة، وفي نفس الوقت لا يتضرر به العامة.
سأضرب لكم مثالا على هذا.. وهو مرتبط بما نحن فيه، فالله تعالى يشير إلى التغير المستمرة التي تحدث في شكل سطح الأرض اليابسة في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (الرعد:41) فالتعبير هنا بالفعل المضارع: {نَنْقُصُهَا} يدل على أن الإنقاص لأطراف الأرض مستمر وحاصل الآن، بل وحدث في الماضي أيضاً تبعاً لوحدة سُنّته الحكيمة في الخلق في الماضي والحاضر والمستقبل (1).
فإذا علمنا أن 27 بالمائة من سطح كوكب الأرض يابس قاري أو جبلي مرتفع، والباقي 73 بالمائة غير مرتفع، أي: في مستوى ماء البحار والمحيطات، فإن المعنى الفيزيائي والجيولوجي لهذه الآية والمشار إليه بإنقاص الأرض من أطرافها يحتمل عدة تفسيرات علمية بالاستعانة بما يجري لليابسة من نقص مستمر من أطرافها.. ولعلها كلها مقصودة من القرآن الذي يعرف كيف ينتقي مفرداته وتراكيبه لتدل على أكبر قدر من الحقائق.
فهو يحتمل استمرار انكماش سطح الكرة الأرضية امتداداً لأثر التبريد الذي حدث لقشرتها منذ انفصالها من الشمس، وهو ما أدّى إلى نقص محيط الأرض بحوالي 300 كم حتى الآن، وما زال التبريد مستمراً مما يؤدي إلى نقص أقطارها من أطرافها، ويمكن الكشف عن هذا النقص البطيء والتدريجي بأجهزة الاستشعار عن بعد من الفضاء، والتي تستخدم حالياً لقياس الطيات الحادثة في قشرة كوكب الأرض للتنبؤ بحدوث الزلازل.
ويحتمل ـ كذلك ـ أن يراد به الطغيان المستمر لمياه البحار والمحيطات، فقد غمرت هذه المياه
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها، د. زغلول النجار، الأهرام: 41972 السنة 126 - 5/ 11/ 2001.
معجزات علمية (180)
في الماضي معظم الأراضي التي نراها الآن يابسة، وربما حدث ذلك عدة مرات نتيجة الانخفاض المحلي في جزء من الأرض أو الارتفاع العام بمستوى سطح البحر بما يؤدي عادة إلى هذا الطوفان والطغيان على الأرض المنخفضة من شواطئ القارات، وبلغة الجيولوجيا يمكن القول بأن الشواطئ التي تفصل اليابسة عن البحار تعتبر دائماً حدوداً مرنة غير ثابتة قابلة للتغيير، وهناك نماذج لمدن مغمورة تحت البحر، وهذا يحدث باستمرار.
وهذا قد يحدث في كل أطراف الأرض اليابسة نتيجة ارتفاع مستوى البحار نظراً لتراكم الرواسب والكفح البركاني في قاع البحر وارتفاع القشرة الأرضية لهذا القاع وانصهار بعض المناطق الجليدية نتيجة الارتفاع التدريجي لدرجة حرارة الأرض بسبب التلوث الجاري في عصرنا، وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض، وغير ذلك من عوامل.
وبهذا.. فإن الآية القرآنية تشير إلى أن الشواطئ ما هي إلا تضاريس عابرة مؤقتة تتغير مواقعها في الماضي إلى حدود جديدة في المستقبل.. وقصة الطوفان الذي حصل في عهد نوح عليه السلام كما ذكرها القرآن الكريم تذكرنا بنقص من أطرافها.
ومما تدل عليه الآية من التغييرات التي تنقص في أطراف الأرض ما تقوم به عوامل التعرية من إنقاص الأرض من أطرافها، فالجبال المرتفعة مثلاً ليست دائمة أو خالدة، لأن الصخور تتحطم وتتآكل بمرور الزمن بمساعدة المياه الجارية على سفوحها، وتأثير الرياح الشديدة، ويتحرك حطام الصخور عادة من هذه القمم العالية التي تمثل أطراف الأرض إلى الوديان المنخفضة.
ولاشك أنكم رأيتم ذلك في زلزال ألاسكا عام 1964 م الذي هز جبلاً عالياً وحطم جزءاً كبيراً من قمته في بضع دقائق.
وهكذا ينقص الله تعالى الأرض من أطرافها على مستوى الكوكب، أو المستوى المحلي على الدوام، إما بالتدريج أو بالزلازل المفاجئة.
معجزات علمية (181)
ومما تدل عليه الآية من التغييرات التي تنقص في أطراف الأرض الفرق المعروف بين طول قطري الأرض الاستوائي والقطبي، وهو دليل آخر على نقصها من أطرافها.
وبذلك فإن القرآن الكريم لا يشير فقط إلى كروية الأرض، بل يشير فوق ذلك إلى شكلها الحقيقي البيضوي.
كان للأسلوب الذي كان يتكلم به علي تأثيرا كبيرا في نفوس العلماء، وخاصة في نفس عالم الفلك.. بل إن عالم الأرض نفسه بدأ ينفعل للمعلومات المهمة التي كان يسوقها علي، ويستنبطها بكل موضوعية من القرآن الكريم.
ولهذا قال له بمجرد انتهائه من حديثه السابق: أهذا كل ما في قرآنكم عن الأرض؟
علي: لا.. للأرض ـ باعتبارها سكنا للإنسان ـ حظوة كبيرة في القرآن الكريم، فقد ذكرت في أربعمائة وواحد وستين (461) موضعا من كتاب الله، منها ما يشير إلى الأرض ككل في مقابلة السماء، ومنها ما يشير إلى اليابسة التي نحيا عليها، أو إلى جزء منها، ومنها ما يشير إلى التربة التي تغطي صخور الغلاف الصخري للأرض.
وبما أنكم عرفتم أسلوب القرآن الكريم الموجز والبليغ في انتقاء المصطلحات، فسأحدثكم الآن بما من الله على عباده من توفير كل ما تحتاجه الأرض من أسباب لتصبح محلا صالحا للحياة.
لقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى كثيرا، فهو يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} (البقرة)
وهو يقول: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا (3) وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (غافر: 64)
معجزات علمية (182)
وهو يقول: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النمل:61)
إن هذه الآية تحوي حقائق كثيرة من العلم.. فلكي تصبح الأرض محلا صالحا للإنسان، وفراشا وثيرا يستقر فيه تحتاج إلى توفير أسباب كثيرة، كلها يدخل ضمن معاني الآية.
الجيولوجي: اذكرها لنا.. واذكر وجه ارتباطها بالقرآن (1).
علي: أول ما تدل عليه لفظة (قرارا) في اللغة العربية الثبوت الجامد، يقال (قر) في مكانه (يقر} (قرارا) إذا ثبت ثبوتا جامدا، وأصله من (القر) وهو البرد لأنه يقتضي السكون.
وهذا يشير إلى ما للمادة المشكلة للأرض من دور في الحفاظ على استقرارها، فقد جعل الله الأرض قراراً، أي مستقرة بذاتها (2).
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، الله الذي جعل لكم الأرض قرارا، الدكتور: زغلول النجار، الأهرام:42105 السنة 126 - 18/ 3/2002.
(2) بالإضافة إلى هذا فإن لمادة الأرض وكثافتها تأثير كبير في بعد الأرض عن الشمس، وبالتالي تأثيرها الكبير في استقرار الأرض..
حيث أنه يقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مائة وخمسين مليونا من الكيلومترات.. وهذه المسافة حددتها بتقدير من الله تعالى كتلة الأرض تطبيقا لقوانين الجاذبية، والتي تنادي بأن قوة الجذب بين جسمين تتناسب تناسبا طردياً مع كتلة كل منهما، وتناسبا عكسيا مع مربع المسافة بينهما.
وهذا يعني أنه كلما زادت كتلة أي من الجسمين زادت قوة الجذب بينهما، وكلما زادت المسافة بينهما قلت قوة الجاذبية.
والاتزان بين قوة جذب الشمس للأرض، والقوة النابذة المركزية التي دفعت بالأرض الأولية من الشمس هو الذي حدد بعد الأرض عن الشمس.
والارتباط الوثيق بين كل من كتلتي الأرض والشمس بطريقة منتظمة ـ بمعني أنه كلما تغيرت كتلة أحدهما تغيرت كتلة الآخر بنفس المعدل ـ هو من الأمور التي تعمل علي تثبيت بعد الأرض عن الشمس، وجعلها مستقرة في دورانها حول محورها، وفي جريها حول الشمس في مدار محدد مما يؤدي إلي تثبيت كمية الطاقة الشمسية التي تصل إلي الأرض، وهي من عوامل تهيئتها لاستقبال الحياة واستقرارها، وذلك لأن كمية الطاقة التي تصل من الشمس إلي كل كوكب من كواكبها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس، وكذلك تتناسب سرعة جري الكوكب في مداره حول الشمس.
معجزات علمية (183)
وبمقارنة متوسط كثافة الصخور المكونة لقشرة الأرض مع متوسط كثافة الأرض ككل نجد أن كثافة المادة المكونة للأرض تزداد باستمرار من سطحها في اتجاه مركزها حيث تتراوح الكثافة من 10 إلي 13،5 جرام للسنتيمتر المكعب.
ويفسر ارتفاع متوسط الكثافة بالقرب من مركز الأرض بوجود نسبة عالية من الحديد، وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض، وتناقص نسبة هذه العناصر الثقيلة بالتدريج في اتجاه قشرة الأرض.
وتقدر نسبة الحديد في الأرض بحوالي 35،9 بالمائة من مجموع كتلة الأرض المقدرة بحوالي 5520 مليون مليون مليون طن، وعلي ذلك فإن كمية الحديد في الأرض تقدر بحوالي ألف وخمسمائة مليون مليون مليون طن.
ويتركز هذا الحديد في قلب الأرض علي هيئة كرة ضخمة من الحديد (90 بالمائة) والنيكل (9 بالمائة) وبعض العناصر الخفيفة من مثل السيليكون، والكربون والفوسفور والكبريت والتي لاتشكل في مجموعها أكثر من 1 بالمائة، مما يعرف باسم لب الأرض، والذي تشكل كتلته 31 بالمائة من كتلة الأرض، ويمثل طول قطره حوالي 55 بالمائة من طول قطر الأرض، أما باقي الحديد في الأرض (5،9 بالمائة من كتلة الأرض) فيتوزع علي باقي كتلة الأرض بسمك يقدر بحوالي ثلاثة آلاف كيلو متر (2895 كيلو مترا) في تناقص مستمر يصل بنسبة الحديد في الغلاف الصخري للأرض إلي 5،6 بالمائة.
وتركيز هذه الكتلة الهائلة من الحديد وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض من وسائل جعله جرما مستقرا في ذاته.
معجزات علمية (184)
هناك إشارة قرآنية إلى هذا (1) في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} (الزلزلة)، فمع أن الزلزال المقصود في هذه السورة هو زلزال الآخرة عند نفخة البعث، إلا أن الحقيقة المصاحبة للهزة الأرضية تبقي واحدة.
بل قد ورد في الحديث الصحيح ما يشير إلى هذا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا} (2)
وهذا الحديث يؤكد أن المقصود من أثقال الأرض في تلك الآيات الكريمة هو الأحمال الثقيلة كما أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، وليست أجساد الموتى فقط كما فهم بعض المفسرين.
وليس هذا بمستغرب، فالزلازل العادية التي عاشها الإنسان خلال وجوده على الأرض، قد أدت إلى قتل ملايين البشر وإلى تبدلات ملحوظة في مظهر التضاريس، وعملت على صعود كميات كبيرة من الصخور الباطنية نحو السطح.. فما بالك بزلزلة يوم القيامة التي ستنال كامل الأرض، وليس مناطق محددة كما هو الأمر حالياً.
في ذلك الوقت الذي تنسف فيه الجبال، وتحمل الأرض والجبال وتدك دكة واحدة، فهل من المعقول أن يحدث مثل هذا الواقع المرعب، وتتبدل الأرض غير الأرض كما جاء في القرآن الكريم، ولا تخرج الأرض أثقالها الباطنة وتدفع بصخورها المصهورة العالية الكثافة إلى سطح
__________
(1) هنا نشير إلى التفسير العلمي لقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} (الزلزلة)، وقد ذكره الكثير من المتكلمين في إعجاز القرآن، منهم د. شاهر جمال آغا صاحب كتاب (الزلازل وتطور وتبدل الأرض في القرآن الكريم)، ومنهم د. زغلول النجار.. وغيرهما.
(2) رواه مسلم.
معجزات علمية (185)
الأرض الخارجية فتمتد الأرض مدا.
الجيولوجي: صدقت في هذا فإن علماء الأرض بعد فحصهم لطبقات الأرض من طبقة القشرة إلى النواة رأوا أنه يزداد الوزن النوعي الكثافة للصخور تدريجياً، حيث تزداد نسبة المركبات الحاوية على عنصر الحديد وأكاسيده المختلفة، وذلك مع اقترابنا من النواة.
وتزايد الكثافة مرده أساساً إلى أمرين:
أولهما: تزايد الضغط، فكلما تعمقنا داخل الأرض تزايد وزن الطبقات الأرضية.
وثانيهما: عمليات الفرز الثقلي بسبب الحرارة العالية في نواة الأرض ومركزها، مما يسمح بتمركز العناصر الحديدية الأثقل والأكثر كثافة في النواة، بينما تتمركز في الأجزاء العليا من طبقات الأرض الصخور الرسوبية والغرانيتية، ثم البازلتية في صخور القشرة الأرضية، وفي نواة الأرض سواء الخارجية منها أو الداخلية يسيطر فيها الحديد وأكاسيده المختلفة مع قليل من النيكل وكبريت الحديد.
علي: بالإضافة إلى هذا كله، فقد أثبتت دراسات الفيزياء الأرضية (1) ـ كما تعلمون ـ أن الأرض مبنية من عدد من النطق المتمركزة حول كرة مصمطة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب أو اللب الداخلي للأرض، وتقسم هذه النطق الأرضية علي أساس من
__________
(1) لما كانت أعمق عمليات الحفر التي قام بها الإنسان في الأرض لم تتجاوز بعد عمق 12 كم أي أقل من (1 علي 500 من نصف قطر الأرض) فإن الإنسان لم يستطع التعرف علي التركيب الداخلي للأرض بطريقة مباشرة نظرا لأبعادها الكبيرة، ومحدودية قدرات الإنسان أمام تلك الأبعاد، لكن بدراسة الموجات الزلزالية وبعض الخواص الطبيعية والكيميائية لعناصر الأرض تمكن الإنسان من الوصول إلي عدد من الاستنتاجات غير المباشرة عن التركيب الداخلي للأرض وما نذكره هنا منها.
معجزات علمية (186)
تركيبها الكيميائي أو علي أساس من صفاتها الميكانيكية علي سبع طبقات (1):
الطبقة العليا هي قشرة الأرض، وهي تتكون من صخور نارية ومتحولة صلبة تتغطي بسمك قليل من الصخور الرسوبية أو الرسوبيات (التربة) في كثير من الأحيان، وتغلب الصخور الحامضية وفوق الحامضية علي كتل القارات، ويغلب علي قيعان البحار والمحيطات الصخور القاعدية وفوق القاعدية.
ويتراوح متوسط سمك القشرة الأرضية في كتل القارات من 35 إلي 40 كيلو مترا، وإن تجاوز ذلك تحت المرتفعات الأرضية من مثل الجبال، ويتراوح متوسط سمك القشرة الأرضية المكونة لقيعان البحار والمحيطات من 5 إلي 8 من الكيلو مترات.
يليها الجزء السفلي من الغلاف الصخري للأرض، ويتكون من صخور صلبة تغلب عليها الصخور الحامضية وفوق الحامضية في كتل القارات بسمك يصل إلي 85 كيلو مترا، بينما تغلب عليها الصخور القاعدية وفوق القاعدية تحت البحار والمحيطات بسمك في حدود 60 كيلو مترا، ويفصل هذا النطاق عن قشرة الأرض سطح انقطاع للموجات الاهتزازية يعرف باسم (TheMohoDiscontinuity)
يلي ذلك الجزء العلوي من وشاح الأرض، وهو نطاق الضعف الأرضي، وتوجد فيه الصخور في حالة لدنة، شبه منصهرة (أو منصهرة انصهارا جزئيا في حدود 1 بالمائة)، ويتراوح سمك هذا النطاق بين 280 كيلو مترا إلى 335 كيلو مترا، وهو مصدر للعديد من نشاطات الأرض من مثل الزلازل، والبراكين، وتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض، وتكون الجبال والسلاسل الجبلية.
يليه الجزء الأوسط من وشاح الأرض، ويتكون من مواد صلبة، كثيفة، ويقدر سمكه
__________
(1) سنذكر هنا التفسير العلمي لـ (الآيات التي ذكرت تعدد الأرضين)، انظر في هذا: مقالة للدكتور زغلول النجار نشرت في جريدة الأهرام العدد 41972 تاريخ 19 من شعبان 1422 هـ
معجزات علمية (187)
بحوالي 270 كيلو مترا، ويحده من أسفل ومن أعلي مستويات من مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل يقع أحدهما علي عمق 400 كيلومتر من سطح الأرض، ويقع الآخر علي عمق 670 كيلو مترا من سطح الأرض.
يليه الجزء السفلي من وشاح الأرض، ويتكون من مواد صلبة تعلو لب الأرض السائل، ويحده من أعلي أحد مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل علي عمق 670 كيلو مترا من سطح الأرض، ويحده من أسفل نطاق انتقالي شبه منصهر يفصله عن لب الأرض السائل علي عمق 2885 كيلو مترا من سطح الأرض، ولذا يقدر سمك هذا النطاق بحوالي 2215 كيلو مترا.
يليه لب الأرض السائل، وهو الجزء الخارجي من لب الأرض، وهو نطاق سائل يحيط بلب الأرض الصلب، وله نفس تركيبه الكيميائي تقريبا، ويقدر سمكه بحوالي 2275 كيلو مترا (من عمق 2885 كيلو مترا إلي عمق 5160 كيلو مترا تحت سطح الأرض)، وتفصله عن النطاقين الأعلى والأسفل منطقتان انتقاليتان شبه منصهرتين، أضخمهما المنطقة السفلي، والتي يقدر سمكها بحوالي 450 كيلو مترا.
يلي ذلك كله لب الأرض الصلب، وهو اللب الداخلي للأرض، وهو عبارة عن كرة ضخمة من الحديد (90 بالمائة، والنيكل 9 بالمائة) مع القليل من العناصر الخفيفة من مثل السيليكون، الكربون، الكبريت، الفوسفور والتي لاتكاد نسبتها أن تتعدي 1 بالمائة.
وهذا هو نفس تركيب النيازك الحديدية تقريبا، والتي تصل الأرض بملايين الأطنان سنويا، ويعتقد بأنها ناتجة عن انفجار بعض الأجرام السماوية.
وهذه البنية الداخلية للأرض تدعمها دراسة النيازك التي تهبط علي الأرض، كما تؤيدها قياسات الجاذبية الأرضية والاهتزازات الناتجة عن الزلازل.
ولولا هذه البنية الداخلية للأرض، ماتكون لها مجالها المغناطيسي، ولا قوتها الجاذبية، ولولا
معجزات علمية (188)
جاذبية الأرض لهرب منها غلافها الغازي والمائي، ولاستحالت الحياة، ولولا المجال المغناطيسي للأرض لدمرتها الأشعة الكونية المتسارعة من الشمس ومن بقية نجوم السماء.
قال هذا، ثم التفت إلى العلماء الجالسين، وقال: في القرآن الكريم إشارة إلى تكون الأرض من سبع طبقات بعضها فوق بعض.. والأدلة الكثيرة تشير إلى أن الطبقات التي ذكرتها هي المرادة هنا..
اسمعوا.. يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق:12)، ويقول: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح:15 - 16)
ويؤكد هذه الإشارة أحاديث كثيرة لا تصدق إلا على هذا الوصف، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من بقعة يذكر اسم الله فيها الا استبشرت بذكر الله إلى منتهاها من سبع أرضين، وإلا فخرت على ما حولها من بقاع الارض، وإن المؤمن إذا أراد الصلاة من الأرض تزخرفت له الأرض} (1)
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع من الارض، تجدون الرجلين جارين في الارض، أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة} (2)
بل ورد في رواية أخرى ما هو أعظم تصريحا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أعظم الظلم ذراع من الارض ينتقصه المؤمن من حق أخيه، فليست حصاة من الارض أخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الارض ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها} (3)
__________
(1) أبو الشيخ في العظمة.
(2) أحمد والطبراني في الكبير.
(3) الطبراني في الكبير.
معجزات علمية (189)
بل ورد في رواية أخرى ما لا صراحة بعده، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما رجل ظلم شبرا من الارض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة، حتى يقضى بين الناس} (1)
علي: لقد ذكرني حديثك هذا بما وضع في الأرض من مادة صلبة ثقيلة قوية بقوله تعالى، وهو ينهى عن الخيلاء: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} الإسراء (آية:37)
الجيولوجي: صدق كتابكم.. ونعم ما قال.. وهذا من استخدام العلم في الموعظة.. فلا تنفع المواعظ إلا مؤكدة بالعلم (2).
وقد ذكرني ما قرأته من القرآن بأحد الفيزيائيين سأله أحد الطلاب سؤالا ظنّه الكل سخيفا، قائلا: (ماذا سيحدث للأرض لو قام كل سكانها بالقفز مرّة واحدة وفي لحظة مشتركة من مشرق الأرض إلى مغربها؟)، فرّد الفيزيائي ضاحكا: (لن يحدث للأرض ولا للجبال أي شيء حتى ولو كان عدد القافزين عليها هو عشرة أضعاف معمريها اليوم)
عندما سمعت هذه الحكاية حملت آلتي الحاسبة، ورحت أحاول البرهنة على ما ذكر هذه الفيزيائي.
علي: فما وجدت؟
الجيولوجي: لو افترضنا أن معدل وزن كلّ واحد من البشر هو 100 كيلوجرام، فستكون
__________
(1) الطبراني في الكبير، وهذا تفسير لما ورد في الأحاديث الصحيحة كقوله (: (لا يأخذ أحد شبرا من الارض بغير حق إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة) رواه مسلم عن أبي هريرة.
ومنها قوله (: (من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).
(2) انظر: أسرار الكون بين علم اليقين وعين اليقين وإعجاز قول رب العالمين، المهندس محمد ترياقي، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (190)
كتلة سكان المعمورة هي 600 مليار كيلوجرام، وإذا علما أنّ الكتلة الإجمالية للأرض تقدّر بـ: 972 5 ألف مليار مليار كيلوجرام، فإن نسبة كتلة كل البشر إلى نسبة كتلة كوكبهم ستكون حسابيا: 01 000 000 000 000، 0 بالمائة.
وبلغة الإحصاء نرى أنّ كتلتنا ـ نحن الآدميين ـ تؤول إلى الصفر أمام الأرض التي نعمّرها، بل تؤول إلى العدم المحض أمام هذا العدد الهائل من ملايين الميليارات من الأجرام السماوية من نجوم وكواكب وغيرها.
علي: صدق الله العظيم إذ يقول، وهو يرد على الكفار الذين استعظموا قدرة الله على بعث عباده بعد موتهم {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غافر:57)
الجيولوجي: ثم قمت بحساب كمية الطاقة التي ستنتُج من قفز ستة ملايير من البشر من علوّ متر في لحظة واحدة، وقد وجدت أن الطاقة الناتجة تقارب 6000 مليار جول، وهي طاقة لا تساوي شيئا مقارنة بالطاقات التي تنتجها الظواهر الطبيعية عند حدوثها، كالصواعق والزلازل وثوران البراكين والأعاصير والإنجرافات وغيرها، فمعدل الطاقة الناتجة مثلا من جرّاء حدوث زلزال متوسط تقدر ب: 100 مليار مليار جول.
لقد عرفت من هذه العمليات البسيطة أن القفزة البشرية لا يمكنها أن تُحدث، ولو نسمة من ريح ولا من شأنها أن تنتج أدنى هزّة أرضية.
ثم رحت أقيس حجم الأرض أمام حجم الكون الذي نراه، وما يحتويه من آلاف المليارت من المجرّات.. فوجدت أن ذلك لا يساوي حجم حبّة رمل في وسط كل رمال الصحارى وشواطئ البحار وأعماقها وأضعافها وأضعاف أضعافها.
علي: فإذا كان هذا هو حجم ملايير البشر أمام الأرض فكيف بحجم كل فرد أمام حجم الكون كلّه..
معجزات علمية (191)
علي: ومما ورد في القرآن الكريم من الأسباب التي جعلت الأرض مستقرة صالحة للحياة ما نص عليه قوله تعالى: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} (الطارق:12).
ففي هذه الآية الكريمة قسم عظيم بحقيقة كونية عظيمة (1) لم يدركها العلماء إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، فالأرض التي نحيا عليها لها غلاف صخري خارجي.
وهذا الغلاف ممزق بشبكة هائلة من الصدوع تمتد لمئات من الكيلومترات طولاً وعرضاً بعمق يتراوح ما بين 65 و150 كيلومتر طولاً وعرضاً.
ومن الغريب أن هذه الصدوع مرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً يجعلها كأنها صدع واحد، يشبهه العلماء باللحام على كرة التنس، ولهذا فإن القرآن الكريم يعبر عن ذلك بهذا: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}
الجيولوجي: هذه حقيقة.. نعم.. ولكن لم ذكرها القرآن؟
علي: عادة القرآن الكريم أنه لا يذكر من الحقائق إلا ما له أهمية.. وليس لدي في الوقت الحالي من العلم ما يبين سر هذه الصدوع، ولكني أعلم من خلال تعاملي مع القرآن الكريم أن فيها منافع عظيمة للأرض، ولولاها ما ذكرت.
الجيولوجي: صدقت في ثقتك في كتابك.. فهذا الصدع لازمة من لوازم جعل الأرض صالحة للعمران، فهو شق في الغلاف الصخري للأرض، ولكنه ليس شقاً عادياً، وإنما تتم عبره حركة إما رأسية أو أفقية لجزء من الغلاف الصخري للأرض.
كما أن الأرض فيها كم من العناصر المشعة التي تتحلل تلقائياً بمعدلات ثابتة، وهذا التحلل يؤدي إلى إنتاج كميات هائلة من الحرارة، ولو لم تجد هذه الحرارة متنفساً لها لفجرت الأرض
__________
(1) انظر: د. زغلول النجار، الأهرام:41979، السنة 126، 12/ 11/2001.
معجزات علمية (192)
كقنبلة ذرية هائلة من اللحظة الأولى لتيبس قشرتها الخارجية.
سكت قليلا، ثم قال: ولكن كيف عرف القرآن هذه الحقيقة.. إن العلماء لم يتمكنوا من معرفتها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت دراستهم لها لأكثر من عشرين سنة متصلة (1945 ـ 1965) حتى استطاعوا أن يرسموا هذا الصدوع بالكامل.
علي: ليس ذلك فقط، فمن المعاني التي تدل عليها الآية، وفهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معني انصداعها عن النبات، أي انشقاقها عنه.
والقسم بذلك يشير إلى حقيقة علمية هامة لها دورها الخطير في حفظ الأرض، وتوفير الجو الصالح للحياة.
ولنفهم هذا ينبغي أن نعرف أن تربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل.. والصلصال من المعادن الغروية، والمواد الغروية لها قدرة الانتشار في غيرها من المواد نظرا لدقة حبيباتها، كما أن لها القدرة علي تشرب الماء والالتصاق بأيونات العناصر، ولذلك فإنه عند نزول الماء على التربة أو عند ريها بكميات مناسبة من الماء فإن ذلك يؤدي الي انتفاشها وزيادة حجمها، فتهتز حبيباتها، وتربو إلي أعلي حتي ترق رقة شديدة، فتنشق لتفسح طريقا سهلا لكل من الجزير المندفع الي أسفل، والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة إلى أعلى حتي تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر علي سطح الارض مستمرة في النمو لتغطي باقي اجزاء النبات.
الجيولوجي: هذا معنى صحيح.. ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها أو ريها ما أنبتت الأرض علي الإطلاق.
علي: ولهذا كان ذلك وجها من أوجه القسم بالأرض ذات الصدع، لأهميته البالغة في إعمار الأرض وجعلها صالحة للحياة.
معجزات علمية (193)
علي: لقد خطرت لي بعد قولك هذا خاطرة... ارجو أن تبين لي مدى صدقها.. لقد ذكر القرآن الكريم البحر المسجور (1)، وأقسم به، فقال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور:6)، وعبارة (سجر التنور) في اللغة: تعني (أوقد عليه حتى أحماه)، وقد كان هذا المعنى مستغربا... ولعله لا يزال كذلك، فكيف يكون البحر مسجوراً والماء والحرارة من الأضداد؟
الجيولوجي: نعم... هذا مستغرب، فكيف ذكر القرآن هذا؟
علي: لقد ورد على بالي الآن بأن المقصود من ذلك هو الصدوع التي تكون في قيعان المحيطات... فهذه الصدوع سمعت بأنه يندفع منها الصهارة الصخرية ذات الدرجات العالية التي تسجر البحر، فلا الماء على كثرته يستطيع أن يطفئ جذوة هذه الحرارة الملتهبة، ولا هذه الصهارة على ارتفاع درجة حرارتها، وهي أكثر من ألف درجة مئوية قادرة أن تبخر هذا الماء.
الجيولوجي: أجل... ذلك صحيح، فهذه الظاهرة من أكثر ظواهر الأرض إبهاراً للعلماء، وقد قام العالمان الروسيان (أناتول سجابفتيش)، وهو عالم جيولوجيا، و(يوري بجدانوف)، وهو عالم أحياء وجيولوجيا، بالاشتراك مع العالم الأمريكي المعروف (رونا كلنت) بالغوص قرب أحد أهم الصدوع في العالم، فقد غاصوا جميعاً، وهم على متن الغواصة الحديثة ميرا، ووصلوا إلى نقطة الهدف على بعد 1750 كم من شاطئ ميامي وغاصوا على بعد ميلين من السطح، حيث وصلوا إلى الحمم المائية التي لم يكن يفصلهم عنها سوى كوة من الأكرليك وكانت الحرارة 231 م وذلك في وادٍ على حافة جرف صخري، وكانت تتفجر من تحتهم الينابيع الملتهبة، حيث توجد الشروخ الأرضية في قاع المحيط.
وقد لا حظوا أن المياه العلوية السطحية الباردة تندفع نحو الأسفل بعمق ميل واحد فتقترب من الحمم البركانية الملتهبة والمنصهرة فتسخن، ثم تندفع محملة بالقاذوراة والمعادن الملتهبة، وقد
__________
(1) سنذكر هنا التفسير العلمي لقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور:6)، انظر في هذا: كتاب (آيات الله في البحار)، تأليف: أحمد صوفي.
معجزات علمية (194)
تأكد العلماء أن هذه الظاهرة في كل البحار والمحيطات تكثر في مكان وتقل في مكان آخر.
بل لاحظوا أن البراكين في قيعان المحيطات أكثر عدداً، وأعنف نشاطاً من البراكين على سطح اليابسة، وهي تمد على طول قيعان المحيطات.
علي: والعجيب في انتقاء القرآن الكريم للمفردات أنه اختار كلمة (المسجور) دون غيرها من الكلمات نظراً لعدم وجود الأوكسجين في قاع البحر، ولهذا لا يمكن للحمم البركانية المندفعة عبر صدوع قاع المحيط أن تكون مشبعة على طول خط الصدع، ولهذا عادة ما تكون داكنة السواد، شديدة الحرارة، ودون اشتعال مباشر.
الجيولوجي: أجل.. وهي بذلك كله تشبه صاجة قاع الفرن البلدي إذا أحمي أسفل منها بأي وقود، فإنها تسخن سخونة عالية تمكن من خبز العجين عليها.
علي: ومما يرتبط بتمهيد الأرض ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ تثبيتها بالجبال (1)، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ:6 - 7)
فالقرآن يعرف الجبال بأنها أوتاد للأرض، والوتد يكون جزء منه ظاهرا على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره.
بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرفون الجبل بأنه: كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل.
الجيولوجي: أجل.. إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أنها تزيد على الارتفاع الظاهر
__________
(1) انظر: الفكرة الجيولوجية عن الجبال في القرآن / الدكتور زغلول النجار، 1992 إصدارات هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة/ رابطة العالم الإسلامي/ مكة.
معجزات علمية (195)
بعدة مرات.
ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السير جورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها.
وقد أصبحت نظرية ايري حقيقة ملموسة مع تقدم المعرفة بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات الزلزالية، فقد أصبح معلوماً على وجه القطع أن للجبال جذوراً مغروسة في الأعماق يمكن أن تصل إلى ما يعادل 15 مرة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض.
بل ثبت فوق ذلك أن للجبال دوراً كبيراً في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية.. وقد بدأ فهم هذا الدور في إطار تكتونية الصفائح منذ أواخر الستينيات.
وبذلك تكون الجبال التي نراها عبارة عن قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة كما تطفو جبال الجليد في الماء.
علي: لقد عبر القرآن الكريم عن كل هذه المعلومات المرتبطة بالشكل والوظيفة في قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ:7)، وقوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (لقمان:10)، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (الأنبياء:31)
فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض، وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقةٍ لزجةٍ نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.
معجزات علمية (196)
الجيولوجي: بل إني أرى فوق هذا في الآية التي تلوتها، والتي تقول: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} (لقمان:10) إشارة إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية بإلقاء مادتها من باطن الأرض إلى الأعلى، ثم عودتها لتستقر على سطح الأرض.
ذلك أن أول الجبال تشكلا هي الجبال البركانية، فعندما تشكلت القارات بدأت في شكل قشرةٍ صلبةٍ رقيقة تطفو على مادة الصهير الصخري، فأخذت تميد وتضطرب، فتشكلت الجبال البركانية التي كانت تخرج من تحت تلك القشرة، فترمي بالصخور خارج سطح الأرض، ثم تعود منجذبةً إلى الأرض وتتراكم بعضها فوق بعض مكونة الجبال، وتضغط بأثقالها المتراكمة على الطبقة اللزجة، فتغرس فيها جذراً من مادة الجبل، الذي يكون سبباً لثبات القشرة الأرضية واتزانها.
علي: لقد ورد في الحديث ما يشير إلى ما ذكرته، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا} (1)
ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فعاد بها عليها)، أي أن خلقها كان بخروجها من الأرض وعودتها عليها.
الجيولوجي: ولكن كيف عرف محمد كل هذا.. إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلاً يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلاً بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون.
لا يمكن لأحدٍ أن يعرف شكلها الوتدي، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحدٍ من البشر أن يتصور شيئاً من ذلك حتى ظهرت نظرية سيرجورج ايري عام 1855 م.
فمن أخبر محمداً بهذه الحقيقة الغائبة في باطن القشرة الأرضية وما تحتها على أعماق بعيدة تصل إلى عشرات الكيلومترات، قبل معرفة الناس لها بثلاثة عشر قرناً؟
__________
(1) الترمذي في آخر كتاب التفسير من سننه واللفظ له، وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه.
معجزات علمية (197)
ومن أخبر محمداً بوظيفة الجبال، وأنها تقوم بعمل الأوتاد والمراسي، وهي الحقيقة التي لم يعرفها الإنسان إلا بعد عام 1960 م؟
وهل شهد محمد خلق الأرض وهي تميد، وتكوين الجبال البركانية عن طريق الإلقاء من باطن الأرض وإعادتها عليها لتستقر الأرض؟
كان الجميع يسمع، وقد بدت الحيرة على وجوههم من تلك العلوم التي تتفجر من بحار القرآن الكريم، وقد شجع ذلك عليا، فراح يواصل حديثه عن تمهيد الأرض، وجعلها مناسبة للحياة، يجمع في ذلك بين القرآن الكريم وبين ما نص عليه العلم في آخر أبحاثه وأدقها.
علي: ومن معاني جعل الأرض قرارا لسكانها هو توفير الظروف المناسبة للحياة علي سطحها، وقد أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} (النازعات} (1)
في هذه الآيات التي تتحدث عن عظمة الخالق يتحدث القرآن الكريم عن كثير من الحقائق العلمية المرتبطة بالأرض، وذلك في لغة دقيقة وموجزة.
ومع أن الكثير من هذه الحقائق لم يعرف إلا في العصر الحديث إلا أن المفسرين الذين اغترفوا من بحار القرآن الكريم وحدها استطاعوا أن يتوصلوا إلى الكثير من الحقائق التي غابت عن أهل عصورهم.
__________
(1) هنا نتحدث عن إعجاز القرآن الكريم المرتبط بذكر دحو الأرض، وعلاقته بإخراج مائها ومرعاها، ووضعه في مقابلة مع بناء السماء ورفعها.. انظر في ذلك بحثا نشره الدكتور زغلول النجار على جريدة الأهرام بتاريخ: 12 شعبان 1422 هـ الموافق 29 أكتوبر 2001، العدد 41965.
معجزات علمية (198)
فكلهم متفقون على المعنى الواضح الصريح من القرآن الكريم، وهو أن من من معاني دحو الأرض إخراج الماء والمرعي من داخلها، علي هيئة العيون وإنبات النبات.
وهو معنى يتفق فيه مع العلم تماما، بل إن العلم الحديث المرتبط بهذا الجانب هو خير تفسير لهذه الآيات، وسأحاول أن أبين لكم على ضوء علوم الأرض ما تدل عليه هذه الآيات.
علي: أول ما تدل عليه بحسب ظاهر النص هو (إخراج كل ماء الأرض من جوفها)، كما قال تعالى موضحا معنى الدحو: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات:31)
أنتم تعلمون أن كوكب الأرض هو أغني كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه، ولذلك يطلق عليه اسم (الكوكب المائي) أو (الكوكب الأزرق) وتغطي المياه نحو 71 بالمائة من مساحة الأرض، بينما تشغل اليابسة نحو 29 بالمائة فقط من مساحة سطحها، وتقدر كمية المياه علي سطح الأرض بنحو 1360 مليون كيلومتر مكعب; وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه علي سطح الأرض، من أين أتي؟ وكيف نشأ؟
وقد وضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض:
تقترح إحداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولي من خلق الأرض، وذلك بتفاعل كل من غازي الأيدروجين والأوكسجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض.
وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المذنبات.
ويدل لهاتين النظريتين الآيات التي تشير إلى أن أصل الماء من السماء كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} (قّ: 9)، فالله تعالى ذكر أنه أنزل من السماء الماء، وذكر مادة الماء منكرة دون تعريف ليدل على أن عموم جنس الماء نزل من السماء.
بل ذكر ذلك في أكثر من عشرين آية.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
معجزات علمية (199)
فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: 22)، ويقول: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} (البقرة: 164)، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (الأنعام: 99) ويقول: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (الرعد: 17)
وتري ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من داخل الأرض، وهذه الآية تشير إلى هذه النظرية وتؤكدها، والشواهد العديدة التي تجمعت لدي العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من جوفها، فالصخور المكونة للطبقة الواقعة بين نواة الأرض والقشرة الأرضية.. أي طبقة السيما كانت تنصهر في بعض المواقع تحت تأثير الحرارة الناشئة عن التفكك الإشعاعي للنظائر المشعة، حيث تنطلق منها مكونات طيارة كالأوزون والكلور ومركبات الكربون المختلفة والكبريت، وأكثرها أبخرة الماء.
وكانت هذه المكونات تقذف إلى الطبقات السطحية أو على السطح بواسطة الثورات البركانية خلال تاريخ الأرض الطويل، وتكفي هذه الكمية لملء جميع المحيطات على سطح الكرة الأرضية.
الجيولوجي: ألا ترى تناقضا في القرآن بسبب هذا؟
علي: لا أرى تناقضا في هذا.. بل أرى تكاملا.. فكل النظريات التي قيلت في هذا مؤسسة على حقائق علمية، ولا تنافر بينها بحيث نرجح إحداها على الأخرى، وبالتالي يمكن الجمع بينها جميعا، فيكون الماء الموجود على الأرض بعضه من السماء، وبعضه من جوف الأرض.
الجيولوجي: بورك فيك.. أنا دائما في مناقشاتي مع زملائي في هذا الباب أجنح إلى ما ذهبت إليه.. عد بنا إلى حديثك عما أخرج من جوف الأرض.. لقد ذكرت الماء.. وبقي المرعى.
كان الجيولوجي قد ترك بعض تشدده، وبدأ يرتاح للأسلوب الذي يتحدث به علي، أما
معجزات علمية (200)
الفلكي، فقد كان منفعلا انفعالا لا يمكن تصوره.
علي: أنتم تعلمون أن المرعى يستدعي توفير الجو المناسب له.
الجيولوجي: أجل.. وأوله توفير الغازات المناسبة التي هي ركن أساسي في غذاء النبات.
علي: والعلم يدل على أن جوف الأرض هو المصدر الأساسي لهذا الغلاف الذي وفر الجو المناسب للحياة:
فقد ثبت أن ثاني أكثر الغازات اندفاعا من فوهات البراكين هو ثاني أكسيد الكربون، وهو لازمة من لوازم عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعددا من عناصر الأرض لبناء خلايا النبات وأنسجته، وزهوره، وثماره، ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات الأرض من باطن الأرض تعبيرا مجازيا بإخراج المرعي، لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض، ولا كستها الخضرة.
بالإضافة إلى هذا.. فقد ثبت بتحليل الأبخرة المتصاعدة من فوهات البراكين في أماكن مختلفة من الأرض أن هذه الأبخرة تتناسب مع حاجات الحياة من الماء والغاز.
-\--\-
ما وصل علي بحديثه إلى هذا الموضع، حتى سمعنا آذان المغرب يرفع من مسجد قريب، فصافحنا علي بحرارة، وقال: اسمحوا لي.. لقد أخذت كثيرا من وقتكم، إن ربي يدعوني للصلاة، ولابد أن أجيبه.. ألا يستحق الكريم الذي تكرم علينا بكل هذه النعم أن نعبده!؟
قال ذلك، ثم أخرج مصحفا من محفظته، وسلمه إلى صديقنا الجيولوجي، وقال: لن يكفينا الوقت لنفهم حقائق هذا الكتاب العظيم.. ولذلك سأترك لك هذا المصحف لتعيش كلماته، وتتبصر حقائقه..
أخذ صديقنا الجيولوجي المصحف، وقال: شكرا لك.. لعل هذه الهدية التي تلقيتها منك
معجزات علمية (201)
أعظم هدية أتلقاها في حياتي.. وأعدك بأني لن أقصر في البحث عن الحقيقة ما حييت.. فقد أعادت لي أحاديثك آمالا كانت قد تبددت..
أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل على صاحبي الجيولوجي.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
معجزات علمية (202)
في اليوم الثالث.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات ترتبط بالحياة كما ورد الحديث عنها في القرآن الكريم، وقد كان الحديث في تلك المحاضرات لا يختلف عن الحديث في المرات السابقة، حيث غلب الجانب البياني والتوثيقي على الجانب العلمي والعقلي، فلذلك لم يكد يفهم أصحابي من العلماء شيئا مما قيل.
ثم قدم صاحبي عالم الحياة محاضرته، وقد كانت في وصف مظاهر الحياة وجمالها ودقة صنعها.
وصاحبي هذا من خلال تعرفي عليه رجل لا علاقة له بالدين من الأساس.
وسر ذلك يرجع إلى تصوره المادي للكون من جهة، وقد وجد من النظريات المادية ما يدعم هذا الاعتقاد، ووجد في نظرية التطور ما يدعم اعتقادة بالنشأة المادية للحياة..
وهو لذلك لا يجد مبررا لوجود خالق للكون..
ولكني ـ مع ذلك ـ لاحظت عليه من خلال سماعه لعلي في اليومين السابقين بعض التأثر، فقد كان يسمع ما يدور من حوار، بل كان يتنصت بلهفة، وكأنه يريد من النور ما يقضي به على الظلمات التي تملأ جوانب نفسه.
لقد صارحني بالاكتئاب الذي يعانيه.. وصارحني أكثر بأن للصورة المادية التي يتصورها للكون تأثيرها الكبير في ذلك الاكتئاب..
فالحياة تولد.. ثم تعيش فترة قصيرة جدا.. ثم لا تلبث حتى يضمها الفناء، ليلقيها في صحراء العدم الأبدي.
كان يبكي بكل كيانه، وهو يعبر عن هذا العبث الذي امتلأت به الحياة.
-\--\-
في مساء ذلك اليوم.. التقينا مع علي ـ بعد الاتصال به عن طريق صديقه حذيفة ـ في محمية
معجزات علمية (203)
طبيعية تعج بجميع مظاهر الحياة..
كانت المحمية غاية في الجمال.. وكأنها تضاريس للأرض جميعا بصحرائها وجبالها وبحارها.. بل شملت المحمية الأزمنة المختلفة.. وعبرت عنها خير تعبير.
كان الحديث هذا المساء ـ حسبما اتفقنا ـ مع عالم الحياة الذي كان يحب أن يسمى (داروين)، ولذلك كنا ندعوه به.. وكان يفرح لذلك.
لقد كان (داروين) صاحب نظرية التطور هو مثله الأعلى.. فلذلك كان يحفظ أقواله وأقوال أنصاره.. ولا يمل من تردادها.
لست أدري هل كان يستشعر صدقها.. أم كان يفر من التساؤلات الخطيرة التي يفرزها كذبها؟
وهو نفسه لم يكن يعلم هل كان يعتقد بتلك النظرية لكونها علما، أم لكونها فكرة وضعها بعض الناس ليفروا بها من الله.
ولذلك كله كان يتألم.. كما كان يتألم جميع أصدقائي من العلماء.
أمام قفص ضم مجموعة من القرود وقفت مع أصحابي العلماء ننظر لتلك الحركات المدهشة التي تقوم بها القرود.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صاحبي عالم الحياة (داروين) عن سر هذه التصرفات والحركات التي تتميز بها الحيوانات.. فكل حيوان من الحيوانات يحمل من الذكاء ما يستطيع أن يحفظ به وجوده فترة من الزمن.. بل له من الذكاء ما يحفظ به استمرار نسله من بعده.
كنت أعلم رأيه في المسألة.. ولكني لم أكن أعلم مدى ما يحمله تصوره من موضوعية علمية، فلهذا أردت أن أستوضحها منه، وفي نفس الوقت كان لي أمل أن يظهر علي.. ليذكر ما يمكن أن
معجزات علمية (204)
يرد به عليه، وعلى هذه النظرية التي يتخذها بعض الملحدين مطية لإنكار صانع الحياة.
لقد كان المسيحيون ـ ولا زالوا ـ يتفقون مع المسلمين في إنكار هذه النظرية (1) ورفضها، لأنها لا تخالف مبدأ الخلق كما نعتقده فقط، بل تخالف أيضا ما ورد في الكتاب المقدس من كون البشر الأول كان سوي الخلق، ولم يتناسل من أي نوع من الأنواع.
فقد ورد في الكتاب المقدس: (وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة} (تكوين: 7)
وورد فيه أنه فقد ضلعا خُلقت منه امرأته مباشرة: (فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم} (تكوين: 21 و22)
ولذا اختارت الكنيسة رفض التطور بحزم، ولكنها مع ذلك قصرت كثيرا في رفضه، مقارنة بما قابلت به العلماء الذين خالفوها في القضايا الكونية.
ولهذا نجد هذه النظرية تدرس بحرية تامة من غير أن تثار عليها أي زوبعة.
سألت (داروين): كيف تفسر هذه الحركات العجيبة التي تقوم بها القرود، ومثلها كل الكائنات الحية التي تتمتع بذكاء خاص يضمن لها البقاء؟
__________
(1) التّطور في عرف علماء التطور يعني (التحول من نوع حي إلى نوع حي آخر)، ويقصدون بذلك ارتقاء الحياة من جهاز عضوي ذي خلية واحدة إلى أعلى درجات الارتقاء، وهو بالتالي: التغير الذي طرأ على الإنسان نتيجة حلقات من التغيرات العضوية خلال ملايين السنين.
وهي ترتكز على ثلاث قواعد رئيسية كما حددتها (الموسوعة العالمية):
1. أنّ الكائنات الحيّة تتبدل أشكالها جيلاً بعد جيل تبدلاً بطيئاً، وتنتج في النهاية أنسالاً تتمتع بصفات غير صفات أسلافها.
2. أن هذا التّطور قديم وُجد يوم وُجدت الكائنات، وهو السّبب في وجود كلّ الكائنات الحيّة من حيوان ونبات في هذا الكون وتلك التي انقرضت.
3.إنّ جميع الكائنات الحية من حيوان ونبات مرتبط بعضه ببعض ارتباط صلة وقرابة، وكلها تجتمع عند الجد الأعلى للكائنات جميعا.
معجزات علمية (205)
ابتسم داروين، وقال: أنا لست محتاجا لادعاء صانع للحياة وللغرائز التي تقتضها الحياة (1).. لأن الحل العلمي وفر لي الإجابة المنطقية التي تجيبني عن سؤالك، بل تجيبني عن تأسيس الحياة من أولها.
أنا أعلم أن هذا يخالف الدين.. ولكني وجدت العلم والعقل يخالف الدين، فآثرت العلم والعقل.. اعذرني عن هذه الصراحة الوقحة التي أبدو بها.. ولكن ذلك هو الواقع.. ولو أني
__________
(1) يتصور الكثير من دعاة نظرية التطور بأن ما في نظريتهم بديل علمي عن حاجة الحياة إلى الخالق، وهم بهذا يصرحون بأن نشأة الحياة تحتمل أحد أمرين:
الأول: هو أن الكائنات الحية نشأت من خلال (نظرية التطور)، التي تتبنى أن الحياة بدأت مع أول خلية تكونت هي ذاتها بمحض المصادفة أو وفقا لقوانين طبيعية افتراضية قائمة على (التنظيم الذاتي).. ونتيجة للمصادفة والقوانين الطبيعية، نمت هذه الخلية الحية وتطورت، وعن طريق اتخاذها أشكالا مختلفة نشأ على الأرض ملايين الأنواع من الأحياء.
الثاني: أن الكائنات الحية نشأت من خلال (نظرية الخلق)، والتي تنص على أن كل الكائنات الحية خرجت إلى حيز الوجود بعد أن خلقها خالق مبدع.
وعندما خُلقت لأول مرة الحياة وملايين الأشكال التي تتخذها، كان لها نفس التصميم الكامل المتميز الخالي من العيوب الذي يميزها اليوم.
ويتفق العلماء الداعمون لنظرية التطور على عدم وجود بديل ثالث. وقد صدر عن أحد هؤلاء العلماء، وهو دوجلاس فوتويما Douglas Futuyma قوله: (إما أن تكون الكائنات الحية قد ظهرت على الأرض كاملة التطور وإما ألا تكون. وإذا لم تكن قد ظهرت كاملة التطور، فلابد أنها تطورت من خلال إحدى عمليات التحوير عن أنواع كانت موجودة من قبل. وإذا كانت قد ظهرت كاملة التطور، فلا بد أنها قد خُلقت بالفعل بواسطة قوة عاقلة غير محدودة القدرة) (دوجلاس جيه. فوتويما، محاكمة العلم، دار بانثِيون للكتب، نيويورك، 1983، صفحة 197)
وبعيدا عن هذين البديلين، لا يوجد اليوم ادعاء أو فرضية ثالثة فيما يتصل بكيفية نشأة الحياة.
ووفقا لقواعد المنطق، إذا ثبت خطأ إحدى إجابتين محتملتين بديلتين لسؤال ما، فلا بد أن تكون الإجابة الأخرى هي الإجابة الصحيحة. ويطلق على هذه القاعدة، التي تعتبر إحدى القواعد الأساسية في علم المنطق، اسم الاستدلال التخييري disjunctive inference (modus tollendo ponens
وبعبارة أخرى، إذا ثبت أن أنواع الأحياء على الأرض لم تتطور بمحض المصادفة، كما تدعي نظرية التطور، فإن ذلك يعد دليلا واضحا على أنها تشكلت على يدي خالق (انظر: هدم نظرية التطور في عشرين سؤالا، بقلم الكاتب التركي: هارون يحيى)
ولهذا ركزنا على تبيين تهافت هذه النظرية هنا، ونحن لا نرد بها على المتدينين، فهم لا يعتقدون بها.. ولكنها رد على اللادينين الذين يفرون إليها ليفسروا الحياة.
معجزات علمية (206)
وجدت في الدين من القوة ما يقنع عقلي لآثرت ما يقوله الدين على ما تقوله الحقائق التي أعتقدها..
ذلك أن الدين يجيب عن هذه الأسئلة إجابات أجمل بكثير من تلك الإجابات التي يجيب عنها العلم.
قلت: فلم لم تتبعه، وتكتفي به؟
داروين: وكيف أتبع ما لا أقتنع به.. إني بذلك أخون عقلي ونفسي.. بل إني بذلك أتحول إلى منافق لا إلى متدين.. فكيف يكون عقلي في واد وقلبي في واد آخر؟
قلت: فكيف تفسر الحياة؟.. وهذا التنوع في الحياة؟
داروين: ذلك بسيط.. سأقص عليك القصة من أولها.. وسترى أن السيناريو الذي أطرحه صالح لتفسير الحياة.. وعدم حاجتها لمصدر خارجي..
تبدأ القصة بعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال.
وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.
ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.
ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية ـ أى التى لا ترى إلا بواسطة المجاهر المكبرة ـ تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.
أما فرع الحلايا المكونة للنباتات، فسرعان ما استحدثت طريقة عجيبة لتركيب مادة الكلوروفيل الخضراء في هيكلها لتكسب بها الطاقة من ضوء الشمس، وتستعين بها على
معجزات علمية (207)
استخلاص الكربون من غاز ثانى أكسيد الكربون الموجود في الجو، ثم تحويله إلى مواد سكرية ونشوية، وكان هذا بدء ممارسة عملية التمثيل الضوئى لنمو النبات.
ثم إن الخلايا أخذت تحيط أجسامها الدقيقة بجدران من هذه المواد الكربونية في هيئة السليولوز، وكانت تستعمل الطاقة التى تنبعث في أجسامها نتيجه التمثيل الضوئى داخل هذه الجدران في التحرك.
ثم إن هذه الخلايا كانت كائنات متناهية في الدقة تعيش في غير جلبة أو ضوضاء، ويأتيها رزقها رغدا من الهواء وماء البحر وأملاحه.
وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت في البحار كائنات كثيرة لا عدد لها.
وكانت هذه العضويات الأولى هي الأصل في جميع أعضاء مملكة النبات التى تكاثرت وغطت الارض بأعشابها وأشجارها وغاباتها الضخمة الكثيفة.
ومثل ذلك حصل لعالم الحيوان، فقد انقسمت الخلايا الحيوانية، وكونت الحيوانات التى عاشت على النبات وغيره، وصارت أنواعا مختلفة من الأحياء على الأرض.
قلت: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟
داروين: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.
قلت: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟
معجزات علمية (208)
سكت داروين قليلا، وكأنه يتأمل سؤالي، ثم قال: إن شئت الحقيقة.. هناك أجوبة كثيرة عن هذا.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي منك أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.
ثم أضاف: هناك اختصاصي في علم الجينات، وأحد أصحابنا من دعاة نظرية التطور، يدعى Gordon Taylor Rottary ذكر في كتابه (The great evolution Myster} (سر التطور العظيم) اعترافاً يعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة، فقال: (لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي، وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة)
هناك آخرون من أصحابنا على شاكلة Gordon Taylor، يؤمنون بنظرية التطور، ولكنهم لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة، وبدلاً من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة تحتاج هي الأخرى إلى إجابة.
بالنسبة لهؤلاء، فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستناداً إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية، وبمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزياً وفق الشكل المعروف.
قلت: وهل تؤمن بهذا؟
داروين: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.
أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟
أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.
قلت: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟
داروين: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة
معجزات علمية (209)
أخرى.
قلت: فما قالوا؟
داروين: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..
قلت: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟
داروين: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.
قلت: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل عقلك أيضا يسأله، أنا أشعر أن عقلك يحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.
إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..
من من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟
أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟
هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة: (ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة)؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.
إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي.
ما وصلت إلى هذا الموضع حتى قدم علي، فشعرت بالمدد ينزل علي من جهة لا أعرفها..
لقد ظهر هذه المرة بصورة سائح جاب الأرض، وهو يبحث فيها عن أسرار الحياة.. لعله لبس ثياب داروين نفسه.. ولكن لا ليثبت نظرية التطور، وإنما ليثبت نظرية الخلق.
لقد مر، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ
معجزات علمية (210)
مُختَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 68 –69} (1)
تقدم منا، وقال بكل أدب كعادته: اسمحوا لي أن أخوض معكم في هذا الموضوع.. فأنا مثلكم باحث عن الحقيقة.. وقد كنت أتنصت لما تقولون.. وبما أني أتصور أني قد وجدت الأجوبة عن كل الأسئلة المحيرة التي طرحتموها.. فأذنوا لي أن أتكلم بينكم عنها.. لتقبلوها، أو لتجعلوني أنضم إليكم في حيرتكم.
شعر الفلكي بأنه يعرف هذا الصوت.. لقد كان هو الصوت الذي اكتشف به أشياء كثيرة كانت تملؤه بالحيرة.. ومثل ذلك الجيولوجي..
قام كلاهما، وقالا: تفضل.. يسرنا أن نسمع منك.
علي: سأبدأ من هذه الآية التي كنت أتلوها عليكم.. إنها من القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدس.. نحن نستلهم منه عقائدنا، وسلوكنا، ونهتدي به في علمنا وعملنا.. إنه كتاب محيط.. وهو كلام ربنا لنا ولكم ولكل البشرية.
ابتسم داروين، وقال: أجئت لتعظنا أم لتطرح علينا الإجابة العلمية على تساؤلاتنا.
علي: بل جئت لأسألكم ولأجيبكم.. ولأطرح علكيم الوجهة التي أرى أنها صحيحة.
داروين: فاطرح رأيك بعيدا عن دينك.
علي: لا بأس.. ولو أني لم أكن لأهتدي إليه لولا ديني.. ومن الأمانة أن نكل الأمور إلى أهلها.
ومع ذلك.. فلن أخاطبك إلا بما تعرفه.. بما يعرفه عقلك.. وما يعرفه أصحابك.
أنتم ـ دعاة نظرية التطور، أو دعاة التفسير المادي للحياة ـ تعرفون عجز نظرية التطور عن التفسير المنطقي للحياة، ولسلوك الحياة..
لقد سمعت بعضكم.. وهو من كباركم.. يقول ـ وهو يتحدث عن سلوك دودة القز ـ لعلك
__________
(1) هذه الآية الكريمة هي التفسير العلمي لما يطلق عليه (الغريزة)
معجزات علمية (211)
تعرفه.. إنه هيرمان فون ديثفورت (Haimar Von Dithfurth).. لقد سمعته يقول: (إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية... كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة، ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف)
ثم يتساءل متعجبا: (ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها، وهي بهذا الضعف من التكوين؟. وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيراً إلا بالمعجزة؛ أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة، أي أنهم آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلى هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة، ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيراً خالياً من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا، فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محدودة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل)
ثم قال: (هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي، ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره بوحي إلهام إلهي.)
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور، وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز، هذا السلوك العقلاني المدروس.
معجزات علمية (212)
أنت لا ترى في إجابته ـ كما في كل الكتب والإصدارات التي تصدرها هذه النظرية ـ إلا أسئلة بدون ردود واضحة، أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
حتى صاحب النظرية تشارلز داروين قد اعترف بهذه الحقيقة، فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً واضحاً لصحة نظريته.. لقد ذكر ذلك في كتابه (أصل الأنواع) عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها.. اسمع ما يقول مثلا: (أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ، وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس)
أما نجل تشارلز داروين المدعو فرانسيس داروين، فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتابه (الحياة ورسائل تشارلز داروين) أو (The Life And Letters Of Darwin)، وذكر فيه مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلاً في الكتاب (يعني أصل الأنواع): (وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها، والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب (أصل الأنواع)
داروين: لداروين ولنجل داروين أن يقولا ما يشاءان.. ولكن النظرية لا تقتصر عليهما.. نعم ربما تكون قد بدأت منهما، لكنها لم تنته عندهما.
بالإضافة إلى هذا، فإن لدينا الجواب على ما طرحته من تساؤلات، فنحن نعتقد أن الحيوانات تكسب أنماطاً سلوكية عن طريق التجربة، ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة.
ابتسم علي، وقال: كلامك هذا يحوي معنين.. ثانيهما يبنى على أولهما.. ففسر لي أولهما، لأبين لك وجهة نظري حوله.
معجزات علمية (213)
داروين: المقدمة الأولى التي تعتمد عليها نظريتنا لتفسير الغرائز هي ما نسميه (الانتخاب الطبيعي).. إنه الحجر الأساس لنظرية التطور.
علي: فما تعنون بالانتخاب الطبيعي؟
داروين: هو يعني بكل بساطة اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكلياً أو سلوكياً)، ثم اختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة.
علي: فأنت بقولك هذا تجعل الطبيعة هي المحك لتمييز المفيد من الضار، وأنها القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود.
داروين: أجل.. قولي يستلزم ما ذكرته.
علي: ولكن، أنت ترى أنه لا يوجد في الطبيعة من يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ذاك الذي يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار.
لقد اعترف داروين نفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود ويدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه على الرغم من كونه هذراً وغير منطقي حيث يقول: (في النهاية يمكن اعتبار أنّ الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء، وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير والتغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقياً ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي)
هذه هي المقدمة الأولى.. وذاك ما يبين تهافتها، فما المقدمة الثانية؟
داروين: أنا لم أسلم لك بكل ما ذكرته في الرد على المقدمة الأولى.. ومع ذلك، فالمقدمة الثانية هي أنا نرى أن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال.
معجزات علمية (214)
علي: هل حقا بقي من العلماء من يقول هذا.. إن أي عقل يعلم أن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال، لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده، ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقاً.
لأن المعروف علميا أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتم بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي بصورة عامة.
فمثلا يكون الحيوان نشيطاً أو بالعكس خاملاً أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطاً بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف.
ولو كان الأمر كذلك، فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال.
التفت إلى داروين، ثم قال: إن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علمياً، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة، كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال.
دعنا من كل هذا.. هناك مثال آخر يفرض نفسه بشدة.. وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل.
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، قد ترجع الأمر إلى الوراثة.. ولكنك تصطدم بأن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد هو كونها قاصرات، ولا يمكن لها التكاثر لذا لا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة.
معجزات علمية (215)
وما دام الأمر بهذه الصورة كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر؟
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهداً في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة.
ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم وجميع سلوكها مكتسب بالفطرة، وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية؟
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة تورث إلى جيل لاحق وهكذا، لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي؟
ألا يتبين لك من خلال هذا استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور، بسبب بسيط، وهو أن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي، ولا يمكن توريثها بالتالي إلى أجيال لاحقة.
سكت قليلا، ثم قال: والأمر الأخطر من ذلك كله هو زعمكم بأن الغرائز تتطور بتطور الأحياء، فأنتم تزعمون بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور.
ووفقاً لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك، والطيور من الزواحف... مع أن النوع الواحد يختلف تماماً من حيث السلوك، حيث تختلف السمكة عن الزواحف اختلافاً كلياً.
معجزات علمية (216)
علي: هذا أولا.. والثاني وهو أعظم خطرا من الأول.. هو تصوركم لبداية الحياة.. كيف يفسر أصحابك بداية الحياة.. أو بداية أول خلية؟
داروين: طبعا يفسرونها بالصدفة، أو نتيجة اجتماع ظروف معينة.
علي: اسمح لي قبل أن أرد على هذا أن أذكر لك بأن هذه النظرية في أصلها نشأت في غمرة الانبهار بالعلم.. لقد تصور أهل تلك الفترة.. الفترة التي تملص فيها العلم من الكنيسة.. أنه بإمكانهم أن يفسروا كل شيء بالعلم.
فلذلك ذهبوا إلى أن الكون ولد صدفة.. كما أن الحياة ولدت صدفة.. وأنها نشأت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
ولكن العلم بجيمع فروعه ـ اليوم ـ ينص بحاله ومقاله على خلاف هذه النظرية، فقد أثبتت فروع علمية كثيرة مثل علم الحفريات، والوراثة، والكيمياء الحيوية، والأحياء الجزيئية استحالة أن تكون الحياة قد نشأت بالمصادفة، أو أن تكون قد ظهرت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
لقد برهنت التجارب العلمية في الواقع استحالة أن تكون أول خلية حية، أو حتى جزيء واحد من ملايين جزيئات البروتين في تلك الخلية، قد نشأت بالمصادفة، ولم يثبت ذلك من خلال التجارب والملاحظات فحسب، بل أيضا من خلال حسابات الاحتمالية الرياضية.
داروين: لك أن تقولك ذلك، ولكن كيف تفسر التشابه الكبير بين جينوم البشر وجينوم الشمبانزيات، فقد وصلت نسبة التشابه بينهما إلى 99 في المائة.. ألا ترى هذا وحده كافيا لأن يثبت لك الأصل الذي جاء منه الإنسان؟
ابتسم علي، وقال: من الطبيعي وجود مثل هذا الشبه بين جميع المخلوقات، وليس بين الإنسان والقرد فقط، فالأحياء جميعًا تتكون من الجزيئات نفسها.
ولكن هل وجود العجلة في الدراجة وفي السيارة وفي الطائرة وفي القطار وفي الحاصدة
معجزات علمية (217)
الزراعية وفي آلات وأجهزة أخرى كثيرة يدل على أن السيارة تطورت آليًّا من الدراجة ثم تطورت إلى الطائرة أو إلى القطار.
ولكن يدل على أن هذه المكائن كلها من تصميم الإنسان، أي يرجع إلى مصمم واحد هو الإنسان. والأبنية بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها ترجع إلى وحدات أساسية في الأصل هي الطوب أو الخرسانة ولا يمكن لأحد الادعاء بأن بعضها تطور عن البعض الآخر استنادًا إلى تشابه لَبِنَات البناء.
داروين: ولكن هذه النسبة مع ذلك تظل عالية.
علي: ومع ذلك فإن الفرق يظل بعيدا.. أليست هذه الجينات هي الحروف التي يتشكل على أساسها الكائن؟
داروين: بلى.. الجينات هي الحروف التي تتشكل منها كلمة الكائن.
علي: فاسمك هذا الذي تفرح به لو بدلنا منه حرفا واحدا أو حركة واحدة لتغير تماما.. فهكذا هذه الجينات بتبدل جين واحد يتغير تغيرا تاما.. كما تتغير الذرات بتغيير بروتوناتها وإلكتروناتها.
بالإضافة إلى هذا فإن جزيء (د ن أ) البشري مشابه كذلك لنظيره في الديدان، والبعوض، والدجاج.
فالبروتينات الأساسية عبارة عن جزيئات حيوية شائعة لا توجد فقط في الشمبانزيات، بل إنها توجد أيضا في كائنات حية كثيرة مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض. كما أن تركيب البروتينات في كل هذه الأنواع مشابه جدا لتركيب البروتين البشري.
داروين: نحن نرى أن هذا التشابه يدل على الأصل الواحد.. فكيف تفسره أنت؟
علي: ليس من المستغرب أن يكون في الجسم البشري بعض أوجه الشبه الجزيئي بالكائنات الحية الأخرى؛ لأنها جميعا مكونة من نفس الجزيئات، وكلها تستخدم نفس المياه والهواء، وكلها
معجزات علمية (218)
تستهلك أطعمة مكونة من نفس الجزيئات. ولا ريب في أن يكون تكوينها الجيني، متشابها، ومع ذلك، لا يعد ذلك دليلا على أنها تطورت من سلف مشترك، ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا لتطور، بل لتصميم مشترك، أي، لكونها خُلقت وفقا لنفس الخطة.
سأضرب لك مثالا يوضح هذا.. تستخدم كل الإنشاءات في العالم مواد متشابهة (قرميد، وحديد، وإسمنت، وغيرها)، ومع ذلك، لا يعني ذلك أن تلك المباني تطورت من بعضها البعض، فقد أُنشئ كل منها بشكل منفصل باستخدام مواد بناء مشتركة، وينطبق ذات الشيء على الكائنات الحية أيضا، مع فارق عظيم بين الكائنات الحية وهذه المباني.
سكت علي قليلا، ثم قال: لا شك أنكم تعتبرون الحفريات أكبر دليل على ما تذهبون إليه.
داروين: أجل.. فالحفريات هي الدليل العلمي الذي نستند إليه، وهو الذي لا يقف في وجهه أي دليل.
علي: ولكن الحفريات التي اعتمد عليها داروين ومن تلاه أصبحت هي الحجة الدامغة التي تحط هذه النظرية.
داروين: كيف ذلك؟
علي: من وجوه متعددة، سأكتفي بوجهين منها.
أما أولهما، فهو أنه من بين كل الحفريات التي اكتشفت على مدار السنين، لا يوجد أي أثر لأي أشكال وسيطة لا بد من توافرها لو كانت الكائنات الحية قد تطورت من طور إلى آخر من أنواع بسيطة إلى كائنات أكثر تعقيدا، كما تدعي نظرية التطور.
ولو كانت هذه الكائنات قد وُجدت في الحقيقة، لكانت هناك الملايين، بل البلايين، منها، والأهم من ذلك، كان يجب أن تكون بقايا هذه الكائنات موجودة في سجل الحفريات.
معجزات علمية (219)
ولو كانت هذه الأشكال الوسيطة قد وجدت حقا، لكانت أعدادها أكبر بكثير من أعداد أنواع الحيوانات التي نعرفها اليوم، ولَما خَلا مكان في العالم من بقاياها الحفرية.
ويبحث أنصار التطور عن هذه الأشكال الوسيطة في كل البحوث المحمومة التي أجريت على الحفريات منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك، لم يجدوا أي أثر لهذه الأشكال الوسيطة، على الرغم من سعيهم الحثيث لإيجادها طوال المائة والخمسين سنة الماضية.
فسجل الحفريات يبين أن أنواع الأحياء ظهرت فجأة وبكامل تكوينها، ولم تتطور من أشكال بدائية إلى أشكال متقدمة كما تدعي نظرية التطور.
داروين: والثاني؟
علي: ألستم ترون أن الحياة قد نشأت عن سلف واحد مشترك، واتخذت كل أشكالها المتنوعة من خلال سلسلة من التغييرات الطفيفة.
داروين: أجل..
علي: وفي هذه الحالة، لا بد أن تكون الحياة قد نشأت أولا في أشكال متشابهة وبسيطة للغاية، ولا بد أن تكون الاختلافات بين الكائنات الحية والتعقيدات المتزايدة فيها قد حدثت بالتوازي مع مرور الوقت.
داروين: أجل.. ولهذا نرى أن الحياة مثل الشجرة، لها جذر مشترك يتفرع لاحقا إلى غصون مختلفة.. ولهذا ترى مصادرنا تستخدم مبدأ (شجرة الحياة)
علي: وفقا لمبدأ الشجرة هذا، لا بد أولا أن تنشأ شعبة ما، ثم تظهر شعبة أخرى ببطء مع حدوث تغييرات دقيقة على مدار فترات زمنية طويلة جدا.
داروين: ذلك صحيح، وهو ما نقوله.
علي: هذا ما تقولونه.. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟
داروين: نحن نرى أن هذه هي الحقيقة.
معجزات علمية (220)
علي: الحقيقة لا أراها أنا ولا أنت.. الحقيقة يبرزها الواقع، وتظهرها الأدلة.. والمنطق العقلي السليم هو الذي يجعلك تستسلم لما تقول الأدلة.
والأدلة التي أسستم عليها نظريتكم، وهي الحفريات، تثبت عكس ما تقول تماما، فهي تنص على أن الحيوانات كانت شديدة الاختلاف والتعقيد منذ اللحظة الأولى لنشأتها.
فقد ظهرت كل شعب الحيوانات المعروفة اليوم في نفس الوقت، في منتصف الحقبة الجيولوجية المعروفة باسم العصر الكمبري (1).
والظهور المفاجئ لمجموعات الحيوانات الرئيسية قد استغرق فترة زمنية قصيرة من العصر الكمبري، وتعرف هذه الفترة غالبا باسم (الانفجار الكمبري)، وهي لم تدم أكثر من 5 ملايين سنة.
وقبل ذلك، لم يكن هناك أي أثر في سجل الحفريات لأي شيء باستثناء الكائنات وحيدة الخلية، وبضع كائنات بدائية للغاية من متعددات الخلايا. ونشأت كل الشعب الحيوانية في أكمل شكل وعلى نحو فجائي خلال فترة زمنية قصيرة للغاية تعرف بالانفجار الكمبري..
وترجع الحفريات المكتشفة في الصخور الكمبرية لكائنات شديدة التنوع مثل القواقع، وثلاثيات الفصوص، والإسفنجيات، وقناديل البحر، ونجوم البحر، والمحار، وغيرها.
وتتميز معظم الكائنات الموجودة في تلك الطبقة بأجهزة معقدة وتراكيب متقدمة، مثل الأعين، والخياشيم، وأجهزة دوران الدم، تماما مثل تلك الموجودة في النماذج العصرية. وتتميز هذه التراكيب في ذات الوقت بقدر عال من التقدم والاختلاف.
-\--\-
ما وصل علي من حديثه إلى هذا الموضع حتى قال لداروين: اسمح لي يا صاحبي داروين..
__________
(1) العصر الكمبري عبارة عن حقبة جيولوجية يُقدر أنها استمرت لنحو 65 مليون سنة، أي ما بين نحو 570 إلى 505 مليون سنة ماضية..
معجزات علمية (221)
قاطعه داروين، وقال: هذا في الحقيقة ليس اسمي.. بل هو اسم اختاره لي بعض أصحابي..
علي: اسمح لي أن أذكر لك بأن كل ما ذكرته لك أنت تعلمه وتوقن به وتسلم له في قرارة قلبك.
داروين: كيف عرفت ذلك.. أم أن دينكم يعلمكمم كيف تجولون في بواطن الناس؟
علي: إن رجلا في مثل عقلك وعلمك يستحيل أن يتقبل عقله تلك الشطحات التي تستلزمها تلك النظرية.
داروين: فلنفرض صحة ما تقول.. ولكن ما الذي يمنعني من التصريح بتهاتفها؟
علي: يمنعك من ذلك عامل خطير، مارسه بكل عنف دعاة التطور.
داروين: ما الذي تقصد؟
علي: إن أخطر الادعاءات التي يكثر أنصار التطور ترديدها كل حين، تلك الكذبة القائلة بأن نظرية التطور هي الأساس لعلم الأحياء.. بل ينشر هؤلاء أن علم الأحياء لا يمكن أن يتطور، بل حتى أن يوجد، بدون نظرية التطور.
ولو صح هذا الادعاء، لكان معنى ذلك أن العالم لم يعرف العلوم الحيوية إلا بعد ظهور نظرية التطور، وأن كل هذه العلوم وليدة تلك النظرية. ومع ذلك، فالكثير من فروع علم الأحياء، مثل علوم التشريح، ووظائف الأعضاء، والحفريات، نشأت وتطورت قبل نظرية التطور.
سكت قليلا، ثم قال: أتدري ما الأسلوب الذي استخدمه أنصار التطور ليبثوا الرعب في نفوس العلماء حتى يستسلموا لها؟
داروين: ما هو هذا الأسلوب؟
علي: إنهم يستخدمون أسلوبا مشابها لذلك الذي حصل في الاتحاد السوفييتي إبان عهد ستالين.. ففي تلك الفترة، اعتبرت الشيوعية، الأيديولوجية الرسمية للاتحاد السوفييتي أن فلسفة (المادية الجدلية) هي الأساس لكل العلوم.. ولذلك أمر ستالين بأن تتمشى كل البحوث العلمية
معجزات علمية (222)
مع المادية الجدلية.
ومع ذلك، تم رفع هذا الالتزام عند انهيار الاتحاد السوفييتي، وعادت الكتب إلى كونها نصوصا علمية فنية عادية تحتوي على نفس المعلومات.. بل إن التخلي عن سخافات مثل المادية الجدلية لم يتسبب في تخلف العلم، بل أزال عن كاهله الضغوط والالتزامات المفروضة عليه.
وفي الوقت الحاضر، لا يوجد سبب يدعو إلى ربط العلم بنظرية التطور، فالعلم يقوم على الملاحظة والتجريب، بينما تعبر نظرية التطور، من ناحية أخرى، عن فرضية متصلة بماض لا يمكن إخضاعه للملاحظة.
داروين: فلنفرض أن نظرية التطور انهارت.. فما البديل العلمي الذي تراه؟
علي: كل الأدلة العلمية تشهد لله بأنه مصمم الحياة.. ولذلك فالبديل العلمي بكل بساطة هو أن كل حي من الأحياء خلقه الله عالما قائما بذاته ليؤدي دورا معينا في هذه الحياة..
ولهذا فإن الله يعبر عما نراه من أشياء بأنها عوالم قائمة بذاتها.. لكل عالم طبيعته وخصائصه، ففي أول سورة من القرآن الكريم نجد قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة:2)
بل إن الله يعتبر كل حي من الأحياء أمة قائمة بذاتها، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38)
والله تعالى يعتبر التنوع مقصودا من أول الخلق، فهو يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (النور:45)
وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان:10)
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ
معجزات علمية (223)
إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى:29)
وقال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية:4)
بدا على وجه داروين بعض التأثر لسماعه تلك الآيات القرآنية، وقد تعجبت عندما سمعته يتخلى عن كبريائه التي عرفته بها، ليقول لعلي بكل تواضع: هل في قرآنكم شيء عن الحياة، غير أصل الحياة؟
علي: أجل.. القرآن الكريم كله حديث عن الحياة وأركانها وأسرارها وأنواعها (1) وامتدادها في الزمان والمكان..
داروين: امتدادها في الزمان والمكان!؟.. ما الذي تقصد بذلك؟
علي: علوم الحياة التي تعرفونها تعطي الحياة صورة واحدة لا تتصور إمكانية الحياة فيما عداها.
داروين: أجل.. علم الحياة كله يقوم على هذا.
علي: ولكن هذا العلم بهذه الصورة ينطوي على كبر عظيم..
داروين: العلم هو الحقيقة.. والحقيقة لا ينبغي أن تحمل أي كبر.
علي: الكبر ليس في العلم.. وإنما فيمن يدعيه.
داروين: ما الذي تقصد؟
علي: لو تأملت جميع فترات التاريخ البشري، فإنك تجد كل فرد من الأفراد، بل كل أمة من الأمم تتصور أن ما عندها من العلم هو الحقائق التي لا تقاوم، فلذلك تفرح بها، وتتيه، وتقاوم كل من يقف في وجهها.
__________
(1) سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بحديث القرآن الكريم عن هذه الجوانب في الفصول القادمة.
معجزات علمية (224)
القرآن الكريم يذكر هذا، فهو يذكر أن تلك القرى التي جاءتها أنبياؤها بالعلم الإلهي الذي لا يعتريه التغيير والتبديل رفضت العلم الإلهي مستغنية بعلمها، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (غافر:83)
مع أن عملهم ليس إلا مرحلة بسيطة في التطور العلمي، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (لنجم:30)
داروين: ما الذي تقصد من كل هذا؟
علي: أقصد أن من العلم ما لا نستطيع إثباته في المخابر.
داروين: كيف ذلك؟
علي: لأن المخابر تعتمد على عقولنا، وعلى ما وصلت إليه عقولنا من مكتشفات، فلذلك تعجز هذه المخابر عن التعرف على حقائق كثيرة يمتلئ بها الكون.
داروين: فمن أين نستقي تلك المعلومات إذن؟
علي: من الله.. أليس هو مبدع كل شيء؟
داروين: فلنفرض صحة ذلك.. فما علاقته بهذا؟
علي: إن المبدع دلنا على أسرار إبداعه وأنواع مبدعاته.
داروين: ولكن كلام المبدع دين.. ونحن نتحدث عن العلم.. وشتان بين العلم والدين.
علي: لا.. الدين مصدر من مصادر العلم.. بل هو المصدر الأعلى للعلم.. فالله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الملك:26)
فالله هو مصدر العلم.. وخزائن العلوم بيد الله.. وهو يفيض علينا منها كل حين بحسب استعداداتنا.
داروين: فلنفرض صحة هذه المقدمات التي ذكرتها.. ما الذي ترمي من خلالها.
علي: أرمي إلى ما طلبت مني الحديث عنه.
معجزات علمية (225)
داروين: تقصد (امتداد الحياة)!؟
علي: أجل.. لأن العلم بامتداد الحياة الزماني والمكاني يقتضي التسليم لله بالعلم..
داروين: لم؟
علي: لأن هذه المعلومات لن نستطيع إثباتها في المخابر.
داروين: ولكن عقولنا لن تستطيع التسليم لما لم نستطع إثباته.
علي: بل تستطع التسليم بكل سهولة بشرط واحد.
داروين: ما هو هذا الشرط؟
علي: الثقة..
داروين: ما معنى ذلك؟
علي: إذا وثقت في مصدر المعلومة سلمت لها.. فلذلك إذا وثقت في الله وفي كتاب الله سلمت له ما يذكر لك من الحقائق، ولو لم تره بعينك.
داروين: لا أرى أني أستطيع التسليم لشيء لا يلمسه عقلي..
علي: بل أنت تسلم للكثير.. بل إنه لا يمكن أن يتعلم أحد من الناس ما لم ينطلق من التسليم لمن يتعلم على أيديهم..
وكمثال بسيط أنت تسلم لجميع أصدقائك من العلماء في كل ما يذكرونه من العلم مع أنه لم تتوفر لديك الأدوات الكافية لتقتنع بما يقولون.. أليس ذلك صحيحا؟
داروين: أجل.. وإلا فإن ذلك سيتطلب مني أن أدرس كل العلوم.. والعمر يفنى دون ذلك.
علي: أنت تسلم لصديقك الفلكي ما يذكره عن الأفلاك الواسعة مع أنك لم ترها مرة واحدة في حياتك، وتسلم لصديقك الجيولوجي ما يذكره عن تاريخ الأرض مع أنك لم تعش تلك الأزمان التي يذكرها.
معجزات علمية (226)
داروين: أجل..
علي: فكيف سلمت لهم؟
داروين: ثقة فيهم، وفيما لديهم من العلم.
علي: وكيف وثقت فيهم؟
داروين: رأيتهم يجيبوني عن الأسئلة التي تحيرني بأدلة منطقية يتقبلها عقلي.
علي: فاعتبر الله أستاذا من أساتذتك.
انتفض الفلكي، ومثله الجيولوجي.. وداروين، وصاح: ما الذي تقوله؟.. الله رب.. وليس أستاذا؟
علي: أتنزه الله عن الأستاذية.. أم تنزه الأستاذية عن الله؟
سكت داروين، فقال علي: الله هو المعلم.. القرآن الكريم يذكر ذلك كل حين ففي أول ما نزل من القرآن الكريم هذه الآية: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:5)
داروين: فلنفرض أني أسلم لك بكل هذا.. فهل ترى أن الله علمنا من علوم الحياة ما لم نصل إليه؟
علي: أجل.. كما علمنا الله أصل الحياة.. فهو يعلمنا امتدادها.
داروين: ما الذي تقصد بامتدادها؟
علي: الحياة أعمق من أن تنحصر فيما تخبرنا به المخابر.. هي أعمق مكانا، وأعمق زمانا.
داروين: ما الذي تريده بالعمق أو الامتداد المكاني.. فإني أراك قدمت كل تلك المقدمات لأجل إثباته.
علي: أنتم تتساءلون كثيرا، وبلهفة كل حين قائلين: (هل توجد حياة في الفضاء؟)
معجزات علمية (227)
داروين: لا أنكر ذلك.. وأنا شخصيا أميل إلى وجود حياة في الفضاء الخارجي.. وقد سألني أحدهم مرة قائلا: أليس غريباً أنكم تتحدثون عن وجود حياة خارج الأرض في الكون؟ فأجبت على الفور: إن الغريب ألا نتحدث عن وجود مخلوقات في الكون، لأننا لسنا الوحيدين في هذا العالم.
ولست الوحيد في ذلك، فمنذ صعود الإنسان إلى الفضاء الخارجي، وهو يحاول جاهداً اكتشاف حياة جديدة على كوكب غير الأرض.
وعلماء الفلك ـ اليوم ـ يؤكدون وجود هذه الحياة، فلدينا في الكون أكثر من عشرة آلاف مليون مليون مليون نجم، وهذه النجوم منها ما هو بحجم الشمس ومنها ما هو أكبر من الشمس وما هو أصغر منها. فاحتمال وجود مجموعات شمسية كشمسنا هو احتمال كبير وكبير جداً أمام هذا العدد الضخم من النجوم أو الشموس.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين ازداد شيئاً فشيئاً اعتقاد العلماء بوجود حياة خارج الأرض في الفضاء، فلهذا تراهم يرسلون المراكب الفضائية محاولة منهم لكشف أي آثار للحياة في هذا الكون الواسع.
ومن آخر الرحلات رحلة باتجاه كوكب المريخ تكلفت أكثر من (800) مليون دولار.. وكان الهدف الأصلي منها البحث عن وجود حياة في ذلك الكوكب.
وقد بدأ العلماء منذ السبعينات من القرن العشرين بمحاولات للاتصال مع الفضاء الخارجي من خلال بث رسائل تتضمن معلومات عن كوكب الأرض.
ثم تطورت المحاولات في التسعينات من القرن العشرين من خلال ابتكار مراصد ضخمة يتم زرعها في الفضاء الخارجي لرصد الكواكب الشبيهة بالأرض.
لقد أصبحت مسألة وجود كواكب تدور حول نجوم شبه حقيقة، وذلك بعدما أمكن تطوير أجهزة الرصد الفضائي.
معجزات علمية (228)
بل أصبحت مسألة كشف حياة وكائنات حيَّة على كواكب أخرى مسألة وقت، ولولا تأكد العلماء وإحساسهم القوي بوجود مخلوقات أخرى في الكون لما عملوا بجدّ للبحث عن هذه المخلوقات.
علي: فأنتم متأكدون من وجود الحياة في غير الأرض، ولكنه لم تتوفر لديكم الوسائل الكافية لإثبات ذلك.
داروين: أجل.. ذلك صحيح.. وأنا وأكثر العلماء نؤمن بذلك.
علي: إن هذه الحقيقة التي تؤمنون بها من غير أن تستطيعوا إثباتها هي حقيقة مثبتة لدينا نحن المسلمين.
داروين: كيف ذلك؟
علي: لقد أخبرنا معلمنا العليم الخبير بها، بل أخبرنا بسجودها لله، فقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (النحل:49)
بل اعتبرها من آياته الدالة على عظمته وقدرته ولطفه، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى:29)
إن هذه الآية الكريمة تخاطبنا وتخاطب المستقبل.. وهي تدل على أنه يمكن أن يتعرف البشر على تلك العوالم..
وأنا من خلال هذه الآية الكريمة أوقن تماما أن الجهود التي تبذلها البشرية في هذا الميدان لن تذهب هدرا.. لأن هذه الآية لابد أن يقع تأويلها كما وقع تأويل جميع آيات الله.
لقد حلمت البشرية طويلا بالصعود إلى الفضاء الخارجي.. واستعملت كل الوسائل لأجل ذلك (1).
داروين: وقد تحقق هذا الحلم في نهاية القرن العشرين عندما بدأت رحلة البحث العلمي،
__________
(1) انظر: القرآن يتنبأ بعصر الفضاء، عبد الدائم الكحيل، في موقعه الخاص بالإعجاز القرآني.
معجزات علمية (229)
وبدأ آلاف العلماء في مشارق الأرض ومغاربها بكتابة أبحاثهم وإجراء تجاربهم حول آلية الخروج من الأرض، وما هي الخطوات التي يجب سلوكها لتحقيق ذلك.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك.. بل أشار فوق ذلك إلى الآلية التي يتم بموجبها ذلك الصعود.
تعجب العلماء، فقال علي: لو سألنا العلماء المختصين بإطلاق المراكب الفضائية وتصميمها عن أهم شيء يصادفهم حتى تكون الرحلة ناجحة فسيجيبون بأمرين:
أولهما أن خروج المركبة الفضائية من نطاق جاذبية الأرض يجب أن يتم من أبواب أو منافذ محددة للغلاف الجوي.
والأمر الثاني هو أن حركة المركبة في الفضاء يجب أن تكون حركة منحنية تعرجيه وليست مستقيمة.
داروين: ولكن لماذا هذان الاعتباران؟
علي: لأن الغلاف الجوي مُحَاط بحقول جاذبية ومغناطيسية، وإذا لم يتم إطلاق المركبة من نقطة محددة، فسوف تنحرف عن مسارها بفعل هذه الحقول وتفشل الرحلة، لذلك يقوم العلماء بدراسة النقاط المحددة للغلاف الجوي، والتي يمكن أن تنطلق منها المركبة الفضائية.
ثم على هذه المركبة أن تسير في طريق متعرج لتحاشي حقول الجاذبية التي تمارسها الشمس والقمر وبقية كواكب المجموعة، فحركة المركبة الفضائية في الفضاء حساسة جداً لدرجة أن العلماء قد يضطرون لتغيير مسار المركبة وإطالة طريقها ملايين الكيلومترات تحاشياً لحقل جاذبية ما، أو للاستفادة من حقل آخر في تحريك المركبة.
ثم إن منافذ الغلاف الجوي ليست دائماً مفتوحة، بل تتغير مع حركة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وكأنها بوابات تُفتح وتُغلق.
داروين: ما الذي ترمي إليه من كل هذه التفاصيل.. ألا ترى أننا خرجنا عن الموضوع؟
معجزات علمية (230)
علي: لا.. لم نخرج.. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة.. حقيقة إمكانية الصعود.. بل وصف آلية ذلك، فقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر:14 - 15)
إن هذه الآية تشير إلى ما ذكرنا من آلية الصعود، فقد ذكرت أبواب الغلاف الجوي، التي هي أبواب السماء، وذكرت الحركة التعرجية في الفضاء.
وفوق ذلك أخبرت بما عساه يقول من وفق لهذه الرحلة، لقد ذكرت أنهم يقولون: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}.. وقد حصل هذا.. لقد أخبرنا به رواد الفضاء الذين صعدوا إلى القمر أن أول ما يصادفهم عند تجاوزهم الغلاف الجوي هو الظلام الشديد الذي يظن معه المرء أن بصره قد توقف.
حتى إن الأطباء المشرفين على سلامة هؤلاء الروَّاد وجدوا بأن الإنسان عندما يتحرر من الجاذبية الأرضية يتعطل العصب البصري لديه بشكل مؤقت، فلا يعود يرى شيئاً وكأن بصره قد أغلق، وهذا يحدث بسبب انعدام الجاذبية والذي يؤدي إلى خلل في الدورة الدموية والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان.
داروين: أسلم للقرآن بهذا.. فهل تستنتج منه حقيقة ما ذكره القرآن من إمكانية اطلاع الإنسان على أنواع الحياة المبثوثة في العالم الخارجي؟
علي: أجل.. فثقتنا في كتابنا تستدعي ذلك.. فهو لم يتنبأ بشيء إلا حصل كما تنبأ به.
داروين: أهذا ما تقصد من امتداد الحياة المكاني؟
علي: ليس هذا فقط.. أو بالأحرى هذا ما تفهمه أنت وغيرك من العلماء فقط.
داروين: فهل هناك غيره مما لا نفهمه؟
علي: لا أقصد رميكم بالقصور.. ولكن العلم الآخر الذي يرتبط بالحياة وأعماقها يستدعي ثقة في المعلم..
معجزات علمية (231)
داروين: فلنفرض أنا وثقنا في معلمك هذا.. فما الذي دلنا عليه من أنواع الحياة وامتدادها؟
علي: أنتم تبحثون عن وجود حياة في الكون؟
داروين: أجل..
علي: لكن الحقائق الكبرى ـ التي تبينها الوثيقة الإلهية التي تنطوي على حقائق الوجود وأسراره ـ تخبر أن هذا الكون لا يحوي أحياء فقط، بل هو نفسه حي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.
أما ما نتصوره نحن من حياة فهو صورة فقط من صور الحياة، وهي صورة ارتباطات مادية حيوية بعضها ببعض.
وكما أن العلم الحديث يقر بوجود حياة في الخلية الواحدة، سواء كانت ضمن نسيج واحد أو كانت مستقلة منفردة، فكذلك تنبئنا النصوص الشرعية أن الكون كله حي جملة وتفصيلا، وكل ذرة فيه أو ما دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وجوده، كما أن له صورته التي نعرفه من خلالها.
داروين: أتقصد أن كل ما نراه من جمادات حي.. له حياة يعي بها؟
علي: أجل.. هذا ما تنبئنا عنه النصوص المقدسة..
داروين: ولكن الحياة تقتضي أشياء كثيرة..
علي: تلك الحياة التي نعرفها نحن.. أما الحياة في صورتها الحقيقية، فلا تستدعي ذلك.
داروين: كيف ذلك؟
علي: أنتم مثلا تلتزمون بأنه لا يمكن أن تكون هناك حياة من دون الأوكسجين؟
داروين: أجل.. فهو ضروري للطاقة التي يحتاجها الكائن الحي ليستمر وجوده.
علي: هذا بحسب وعينا.. ولكن الحقيقة غير ذلك.
داروين: كيف ذلك؟
معجزات علمية (232)
علي: سأقرب لك الأمر.. ألا ترى أن الآلة الجامدة يمكن أن تتصرف تصرفات كثيرة.. بل قد تؤدي من الخدمات ما نعجز نحن عن أدائه، ولكنها مع ذلك لا تستنشق أوكسجينا، ولا تزفر كاربونا.
داروين: ولكنها مع ذلك لا تتصرف إلا في ضوء ما نوحي لها نحن به.
علي: إذا كنا نحن البسطاء الضعفاء استطعنا أن نحول من الآلة الجامدة متكلما بارعا، وشاشة رائعة، وذاكرة حية، بل معالجا ذكيا.. أفلا يستطيع مصمم هذا الكون أن يفعل ذلك؟
سكت داروين، فقال علي: ولذا.. فإن النصوص تخبرنا عن حياة الأشياء ووعيها.. بل ومشاعرها الفياضة..
فحياة الكون ـ كما تدلنا النصوص المقدسة ـ حياة عاقلة، فلذلك تمارس ما يمارسه العقلاء من صنوف التعبير عن المشاعر.. وقد ذكر القرآن الكريم أن الحياة العاقلة المدركة للعواقب هي التي منعت هذا الكون من قبول أمانة التكليف، كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)
فلولا ما في الكون من طاقة الإدراك والاختيار ما عرض عليه هذا العرض الخطير، ولولاها ما أجاب هذه الإجابة الواعية.
وللحجارة من الوعي ـ كما يعبر القرآن الكريم ـ ما يجعلها تهبط من خشية الله، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} (البقرة: 74)
والجبل يخشع لنزول القرآن، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)
بل يندك لتجلي الله، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} (لأعراف: 143)
معجزات علمية (233)
بل ينهد لسماع شرك المشركين، قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} (مريم:90 ـ 91)
داروين: وعيت مرادك بالامتداد المكاني، والعلم في الحقيقة لا يتكلم في هذا.. وإن شئت الصراحة، فإن العلم يكاد يسير نحو إثبات هذا.. فقد وجد في ذكاء الكائنات ابتداء من ذراتها ما يكاد يثبت لها من القدرات ما نجهله جهلا مطبقا.. ولذلك فإن المنطق العلمي السليم هو الذي يتوقف في هذا الموضع.
علي: والمنطق الأسلم منه هو الذي يجد مصدرا موثوقا يستلهم منه الحقائق.
داروين: من وجد مثل هذا المصدر، فليعض عليه بالنواجذ.
علي: حدثتك عن الامتداد المكاني الذي أوحت لنا به النصوص المقدسة.. ولعلك في انتظار المراد من الامتداد الزماني.
داروين: أجل.. وأصدقك في هذا كما صدقتك في ذلك.. ولعل الجميع يشاركني في هذا.. فإن في كل في نفس شوقا لهذا الامتداد الزماني الذي تتحدث عنه.. إن كل نفس ترغب في حياة دائمة مستقرة لا ينتابها الموت، ولا يقطعها الفناء.
علي: لقد دلتنا مصادرنا الموثوقة على هذا.. فهي تبشرنا، كما تبشر كل النفوس بأن الحياة ليست لحظات تمر وتنقضي ليلف العدم بعدها الوجود.. بل هي دائمة ثابتة مستقرة، قد تتغير بعض صورها، ولكنها تبقى ولا تفنى (1).
داروين: والموت.
علي: هو انقضاء لصورة من صور الحياة لتولد منها صورة جديدة من صورها.
__________
(1) انظر (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.
معجزات علمية (234)
داروين: ألا ترى أن مثل هذا ادعاء عظيم يكاد يكون أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة العلمية؟
نعم إن أي عقل يحب وجود حياة بعد الموت.. ولكن العلم لا يدل على شيء من ذلك.
قال ذلك، ثم أخذ يقول بنوع من الهستيرية: لا... لا حياة بعد الموت، لأن الحياة التي أعرفها لا توجد إلا في ظروف معينة من تركيب العناصر المادية.. وهذا التركيب الكيماوي لا يوجد بعد الموت، إذن فلا حياة بعد الموت.
وبناء علي علم الأعصاب (Neurology) لا يمكن معرفة العالم الخارجي والاتصال به إلا عندما يعمل الذهن الإنساني في حالته العادية، وأما بعد الموت فهذا الإدراك مستحيل، نظرا إلى بعثرة تركيب النظام الذهني.
قال علي بهدائه المعتاد: ولكن هناك قياسات أخري أقوى من هذا القياس؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادية في الجسم الإنساني لا تقضي علي الحياة؛ لأن (الحياة) شيء آخر، وهي مستقلة بذاتها باقية بعد فناء الذرات المادية وتغيرها.
أنت تعلم أن الجسم الإنساني يتألف من خلايا كثيرة جدا ومعقدة، وهي مثل الطوب الصغير، ينبني منه هيكل أجسامنا.
ولكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا، فطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقي كما هو، نفس الطوب الذي صنع في المصنع، واستخدم في البناء للمرة الأولى، بينما يتغير طوب هياكلنا في كل دقيقة، بل في كل ثانية.
فالجسم الإنساني يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة.. ولذلك، فهو كالنهر الجاري المملوء دائما بالمياه، لا يمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة، لأنه لا يستقر، فالنهر يغير نفسه بنفسه دائما، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل ولكن الماء لا يبقي، بل يتغير.
معجزات علمية (235)
وجسمنا مثل النهر الجاري، يخضع لعملية مستمرة حني إنه يأتي وقت لا تبقي فيه أية خلية قديمة في الجسم، لأن الخلايا أخذت مكانها.
إن عملية فناء الجسم المادي الظاهري تستمر، ولكن الإنسان في الداخل لا يتغير، بل يبقي كما كان علمه وعاداته وحافظته وأمانيه وأفكاره، تبقي كلها كما كانت.
إنه يشعر في جميع مراحل حياته بأنه هو (الإنسان السابق)، الذي وجد منذ عشرات السنين، ولكنه لا يحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير، ابتداء من أظافر رجليه حتى شعر رأسه.
ولو كان الإنسان يعني الجسم لكان لازما أن يتأثر علي الأقل بفناء الخلايا وتغيرها الكامل، ولكننا نعرف جيدا أن هذا لا يحدث؛ وهذا الواقع يؤكد أن (الإنسان) أو (الحياة الإنسانية) شيء آخر غير الجسم، وهي باقية رغم تغير الجسم وفنائه، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخلايا بصفة دائمة.
كان على وجه داروين كثير من السرور بكلام علي، ولكنه ـ ونتيجة لما لقنه من ثقافة لم يستطع الجمع بينها وبين ما يقول علي ـ راح يدافع عن أفكاره بكل ما أوتي من قوة، قال: لا يمكن التسليم بهذا الاستدلال، فالعقل، أو الوجود الداخلي الذي نسميه (إنسانا) ليس بشيء آخر، ولم يوجد إلا نتيجة علاقة الجسم بالعالم الخارجي، أما الأفكار والأماني فلا توجد خلال العمل المادي إلا كالحرارة التي توجد نتيجة احتكاك قطعتين من حديد.
إن العقل والمنطق ينكران (الروح) بشدة، و(الشعور) لا يوجد كوحدة، وإنما هو وظيفة، وتفاعل وتنسيق.
علي: ما دمت تقول هذا، وما دمت تعتبر أن هذه هي حقيقة الإنسان، فلنجرب أن نخلق إنسانا حيا ذا شعور، ونحن ـ اليوم ـ نعرف بكل وضوح جميع العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان، وهذه العناصر توجد في الأرض وفي الفضاء الخارجي، بحيث يمكننا الحصول عليها.
سكت داروين، فقال علي: دعنا من هذا.. وربما سترى في مستقبل أيامك من يثبت لك
معجزات علمية (236)
وجود الروح بالمنطق الذي تفهمه.. أما نحن الذين من الله علينا بالثقة فيه، فنعلم أن لنا أرواحا تبقى بعد اختلاط أجسادنا بالتراب.. ونعلم كذلك أن هذه الروح من أمر الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)
إن الله يخاطبنا في هذه الآية بالمنطق العقلي.. فالعالم لن يكون عالما حتى يعلم أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.. بل لولا هذا العلم ما استمر العلماء في الوجود والاستمرار.
الجاهل فقط هو الذي يتصور الأشياء من زاوية واحدة.. أما العالم فيعلم أن الكون أعمق من أن يحده بتصوراته المحدودة.
دعنا من هذا.. ولنتحدث عن شيء آخر.. العقل السليم يعتبره من الأدلة المنطقية على امتداد الحياة.
إن الحياة ـ في منطق الكون، وفي منطقنا نحن المؤمنين ـ ليست غدوا ورواحا فقط كما صورها فيلسوفكم (نيتشه)، والتي تمتلئ وتخلو كالساعة، ولا هدف لها أكثر من ذلك.
إن الحياة (الآخرة) ذات هدف عظيم هو المجازاة علي أعمال الدنيا، خيرا أو شرا، سواء كان نية أو قولا أو فعلا.
لم يملك صديقنا الفلكي إلا أن يتدخل هنا، فراح يقول: نعم.. إن كل ما تذكره من هذا صحيح.. والعلم الآن يسير نحو إثبات هذا.
فأعمال كل إنسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة، وبغير توقف، بأبعادها الثلاثة، من النية، والقول، والعمل.
فهذه الأبعاد الثلاثة تسجل بأكملها، فكل حرف يخرج من لساننا، وكل عمل يصدر عن أي عضو من أعضائنا يسجل في الأثير؛ ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله، لنعرف- إذا شئنا- كل ما قاله أو فعله أي إنسان في هذه الحياة.
إن الأفكار تخطر علي بالنا، وسرعان ما ننساها، ويبدو لنا أنها انتهت، فلم يعد لها وجود
معجزات علمية (237)
ولكنا، بعد فترة طويلة، نراها رؤى خلال النوم، أو نذهب نتكلم عنها في حالات الهستريا أو الجنون، دون أن ندري شيئا مما نقول.
وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب، وإنما هناك أطراف أخرى من هذه الحافظة لا نشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات كيان قائم بنفسه.
قال ألكسيس ـ وهو صديقنا عالم النفس ـ: أجل.. لقد أثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين علي محوها أبدا.
وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الإنسانية لا تنحصر فيما نسميه (الشعور)، بل هناك أجزاء أخري من الشخصية الإنسانية تبقي وراء الشعور، يسميها فرويد: (ما تحت الشعور)، أو (اللاشعور). وهذه الأجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا، بل هي الجانب الأكبر منها؛ ومثلها كمثل جبل من الجليد في أعالي البحار، أجزاؤه الثمانية مسكنة تحت الماء، علي حين لا يطفو منه إلا الجزء التاسع، وتلك هي ما نسميه: (تحت الشعور)، الذي يسجل ويحفظ كل ما نفكر فيه، أو ننتويه.
لقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها أن كل ما يخطر علي بال الإنسان من الخير والشر، ينقش في صفحة اللاشعور، فلا يزول إلي الأبد، ولا يؤثر فيه تغير الزمان وتقلب الحدثان، ويحدث هذا على رغم الإرادة الإنسانية-طوعا أو كرها.
علي: لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلي نظرية الآخرة لاستطعنا أن نصل إلى حقيقتها بسرعة، إن هذا الواقع يؤكد بكل صراحة إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان في حيازته، وعندما يبدأ حياته الأخرى، فإن وجوده نفسه سوف يشهد علي الأعمال والنيات التي عاشها.
لقد نص القرآن الكريم على هذه الحقيقة، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (قّ:16)
معجزات علمية (238)
والأقوال مثل النيات، فجميع ما نلفظه من كلام، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو سخطا؛ سواء استعملنا اللسان في إبلاغ رسالة الحق، أو استعملناه في إبلاغ رسالة الشيطان، كل ذلك يحفظ في سجل كامل، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)، وهذا السجل سوف يعرض أمام محكمة ليتم حساب الإنسان.
الفلكي: إن إمكان وقوع هذا لا ينافي العلم الحديث، فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكلم، يحرك بالتالي موجات في الهواء، كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من الحجر.
ثم إن آلاف المحطات الفضائية في العالم تذيع برامج كثيرة ليل نهار، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء، بسرعة 186.000 ميلا في الثانية، وكان من المعقول جدا عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائلا من الأصوات لا نفهم منه شيئا، ولكن هذا لا يحدث، لأن جميع محطات الإذاعة ترسل برامجها على موجات يختلف طولها، فمنها ما يرسل برامجه علي موجات طويلة؛ ومنها ما يرسل موجات قصيرة، ومتوسطة.
وهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختلفة طولا، فتستطيع أن تسمع أية موجة من المذياع، بمجرد أن تدير عقربه إلي المكان المطلوب.
إن علماءنا لم ينجحوا في اختراع آلة تفرق بين أصوات الزمن القديم، ولولا ذلك لكنا قد سمعنا تاريخ كل عصر وزمان بأصواته، وبناء على هذا يثبت إمكان سماع الأصوات القديمة في المستقبل، فيما لو نجحنا في اختراع الآلة المطلوبة؛ ومن ثم لا تبقي نظرية الآخرة بعيدة عن القياس، وهي القائلة بأن كل ما ينطق به الإنسان يسجل، وهو محاسب عليه يوم الحساب.
إن مناقشتنا لجوانب المسألة لا تنفي وجود مسجلين غير مرئيين، ينقشون علي صفحة الفضاء كل ما ننطق به من الكلام، وهو ما يصدق قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)
معجزات علمية (239)
داروين: لم يبق لك إلا أن تبرهن لنا على حفظ العلم كما برهنت على حفظ النية والقول.. فهل تراك ستستدل لهذا من القرآن، أم من العلم الحديث.
علي: من كليهما.. فالقرآن كلام الله.. والعلم هو الحقائق التي ينطق بها الوجود.. ويستحيل على الوجود أن يخالف في كلامه ما يقوله بارئه.
الفلكي: صدقت في ثقتك بكلام ربك.. فمعلوماتنا الكونية في هذا الصدد تصدق بصورة مدهشة إمكان ما تذكره من ذلك.. فالعلم الحديث يؤكد بأن جميع أعمالنا، سواء أباشرناها في الضوء، أم في الظلام، فرادي، أم مع الناس، كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء في حالة الصور، ومن الممكن في أي لحظة تجميع هذه الصور، حتى نعرف كل ما جاء به إنسان من أعمال الخير والشر طيلة حياته.
فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء حدث في الظلام أو في النور، جامدا كان أو متحركا، تصدر عنه (حرارة) بصفة دائمة، في كل مكان، وفي كل حال، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما، كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان، وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية.
علي: لقد عبر القرآن الكريم عن هذا التسجيل العجيب، فقال على لسان الذين يناقشون الحساب يوم القيامة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)
داروين: فأنتم ترون أن كل ما نراه في الكون أجهزة تقوم بتسجيل كامل لكل أعمال الإنسان.
علي: أجل.. فكل ما يدور في أذهاننا يحفظ إلى الأبد، وكل ما ننطق به من الكلمات يسجل بدقة فائقة، فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما، ولا تفرق بين الليل والنهار.
معجزات علمية (240)
لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فالله تعالى أخبرنا أنه ما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات، إلا وهي مسجلة في سجل الكون، ومدونة في كتاب الوجود، فليس شيء منها ضائعاً ولا يمكن لشيء منها أن يزول، يقول الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (سورة الزلزلة)
وإذا كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود، فلماذا سجلت الأعمال إذن؟ ألا تجد العقول جواباً إلا أن تقول سجلت الأعمال لإعادة عرضها.. ولكنا لا نرى الإعادة في الدنيا، إذاً لا بد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وقال المرسلون.
داروين: كل ما تذكره من هذا جميل.. ولكن الفطرة التي نتلمسها في نفوسنا تصيح بأن الحياة التي نعيشها هي الحياة الوحيدة والنهائية..
علي: أتتحدث عن فطرتك.. أم تتحدث عن الفطر البشرية؟
داروين: الفطرة البشرية واحدة.. وفطرتي هي فطرة جميع الناس من جميع الأجناس..
علي: ولكن البشرية جميعا بحضاراتها المختلفة، وفي أزمانها المختلفة تكاد تتفق على هذا.. فجميع الحضارات الإنسانية بما فيها الفرعونية المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينية والزرداشتية والهندية واليونانية واليهودية والنصرانية والإسلام تتفق في أن الموت ليس هو نهاية الحياة.
داروين: ولكنهم يختلفون بعد ذلك.. يختلفون كثيرا.. هل تعود الروح إلى هذا الجسد، أم تعود إلى جسد آخر.. كما تختلف في كيفية خروجها وخلوصها من هذا البدن.. فالبوذيون والهنادكة والشنتو يعتقدون أن الروح تظل حبيسة في الجسد وبالذات في الجمجمة عند الموت،
معجزات علمية (241)
وأنها لا تنطلق إلا بعد حرق الجثة وانفجار الجمجمة ولذا تراهم يحرقون جثث موتاهم.. والهنادكة والبوذيون يعتقدون بتناسخ الأرواح، وأن الروح الشريرة تعاد في جسد حقير مثل الكلب والخنزير، وتظل في تلك الدورات حتى تتطهر، وأن الروح الصالحة الخيرة تظل تنتقل في الأجساد الخيرة حتى تصل مرحلة النرفانا، وهي السعادة الأبدية المطلقة في الروح المتصلة بالأبد والأزل كما يزعمون.
علي: لا يهم ذلك الاختلاف.. نحن نبحث فقط في اتفاقهم رغم اختلافهم وتنوعهم على امتداد الحياة، وهذا يظهر من ملاحمهم وأشعارهم وأساطيرهم.
داروين: لقد ذكرت مذاهب الأمم في هذا، ولم تذكر رأي الإسلام فيها.. أتراك تستحيي من ذكره؟
علي: لا.. بل إن الحقائق التي جاء بها الإسلام في هذا هي الحقائق المنطقية التي تنسجم مع العقول السليمة (1)..
إن نصوصنا المقدسة تتحدث عن هذه المسألة الخطيرة التي تتوقف عليها سعادة البشر بكل عقلانية.. إنها لا تخاطبنا فقط بما يملأ نفوسنا من الرغبة والرهبة، وإنما تخاطب محال التحليل الواعي فينا.
ولن يكفي هذا المقام لذكر كل ما ورد في نصوصنا من ذلك، ولكني أكتفي ببعض ما ترشد إليه من الأدلة العقلية على امتداد الحياة، لأن وعينا بهذا الامتداد هو الذي يجعلنا نتقبل بعد ذلك كل ما جاءت به النصوص من الأحداث التي تحصل فيه.
لعل أول ما نراه في القرآن الكريم من الأدلة العقلية على ذلك ما يمكن تسميته ببرهان المماثلة، فالعالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود، لأن هذا العالم ممكن الوجود، وحكم المثلين واحد، فلمّا كان هذا العالم ممكناً وجب الحكم على الآخر بالإمكان.
__________
(1) انظر هذه الأدلة في (توحيد الخالق) للزنداني.
معجزات علمية (242)
هذا دليل عقلي لا شك فيه.. ونحن نستخدمه كثيرا في حياتنا، فإذا سمعنا بأن شركة ما أنتجت منتوجا حسنا لا نستغرب أن تنتج مثله أو ما هو أحسن منه.
ولهذا، فإن القرآن الكريم يستدل بالمساواة بين الإحياء في الدنيا والإحياء في الآخرة، وذلك من خلال نمطين في المماثلة.
أولهما: مماثلة النشأة الاُولى من العدم بالنشأة الآخرة، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27)
وثانيهما: مماثلة إحياء الأرض بعد موتها بالإحياء في الآخرة، كما قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)، فهذه الآية الكريمة تقرّر أن حُكم الأمثال واحد، فإذا تحقّق الإحياء في الأرض بعد موتها، أمكن تحققه في الإنسان بعد موته، وفي غيره من الأحياء.
فتبين إذن أن العقل يحكم بتساوي الأمثال في الحكم، ومنه يتبيّن أن القادر على الإحياء الأول قادر على الإحياء الآخر؛ لأنهما مثلان.
هذا برهان المماثلة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان القدرة)، فكل شيء في الكون يدل على قدرة الخالق العظيم غير متناهية، وما دامت كذلك، فيجوز في العقل أن تتعلق بكل شيءٍ مقدور، يستوي في ذلك السهل والصعب على السواء، نرى ذكر هذا كثيرا في القرآن الكريم.. فكثيرا ما نقرأ هذه الفاصلة {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ولهذا أشارت الآيات القرآنية إلى صورتين من الاستدلال على المعاد، بذكر عموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها:
تتمثل أولاهما في بيان قدرته تعالى على المعاد في الآخرة مرتباً على ذكر المبدأ في الاُولى في آيات كثيرة، إشارة إلى أن القادر على الإيجاد من العدم ابتداءً قادر على إعادة الموجود.. بل هو أقدر على
معجزات علمية (243)
ذلك، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:19 - 20)
وقال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} (الإسراء)
وقد بيّن تعالى أن قدرته على الخلق الأول والخلق الجديد من حيث الامكان والتأتّي، كخلق نفسٍ واحدةٍ، فقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان:28)
وتتمثل الثانية في بيان قدرته تعالى على المعاد في الآخرة مرتّباً على ذكر خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاََرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} (يّس:81 - 82)
والقرآن الكريم ينص على أن خلق الإنسان في نفسه أسهل وأهون من خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر:57)
هذا برهان القدرة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان الحكمة)، فالله تعالى حكيم في أفعاله.. وكل الكون يدل على ذلك.. فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل جزئياتها وفق حركة هادفة، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام، يقول الله تعالى في تقرير هذا الدليل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115)، وقال تعالى: {
معجزات علمية (244)
أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36)
فلو كان الإنسان ينعدم بالموت، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو شقاء، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً.
هذا برهان الحكمة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان العدالة)، فالله تعالى ـ على حسب ما تدل نصوصنا المقدسة ـ جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان، ووهبه النوازع الخيّرة إلى جنب النوازع الشريرة، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء، وأعطاه العقل الذي يميّز بين الخير والشر، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق الخير وطريق الشرّ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق، وتجنّب سبيل الشرّ والباطل، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (هود:7)، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2)، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الانبياء:35)
وعلى هذا فإن واقع الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات هو امتحان وابتلاء، وليس فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة، لذا يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وإلاّ لبطلت فائدة التكليف، ولكان عبثاً ولغواً.
والله على حسب ما تدل عليه صنعته هو العدل الذي لا حدود لعدله.. ولذلك فإن الله يستدل بعدله على امتداد الحياة ليجازى المحسن بإحسان، ويجازى المسيء بإساءته، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21)، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا
معجزات علمية (245)
رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى} (طه: 134 - 135)
هذا برهان العدالة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان الرحمة)
إن الرحمة تقتضي أن يكرم الله خلقه بما تتطلبه حاجاتهم.. وأنت ترى هذا في الحياة، فالله أعطى لكل شيء خلقه الكامل، ووفر له حاجاته بكرم عظيم.. لقد خلق الله كل جزء من أجزاء الإنسان، وخلق له ما يكفيه: خلق القلب وخلق له من الدماء ما تكفيه، وخلق المعدة وخلق لها من الطعام ما يكفيها، وخلق العين، وخلق لها من الضوء ما يكفيها وهكذا.
ولا نجد شيئاً في الإنسان ليس له ما يكفيه إلا تلك الآمال الواسعة، فإنه لا يكفيها من العمر إلا الخلود، ولا يكفيها من الحاجات إلا أن تحصل على كل ما تشتهي.
وإذا رأينا الحياة الدنيا لم نجد فيها الكفاية لهذا الجانب الهام من كيان الإنسان، فلماذا خلقت الآمال والواسعة في الإنسان إذن وما يكفيها؟!
إذا رأيت آلة من الآلات قد جهزت مستلزماتها، ثم وجدت فتحة كبيرة في هذه الآلة، فلا شك أنك ستقول: إن صانع هذه الآلة صانع حكيم، ولا يمكن أن يكون قد صنع هذه الفتحة عبثاً، وإذا كنت شاهداً أنها بحاجة إلى غطاء، فلا شك أن الصانع قد صنع لها غطاء وإذا كان غير موجود الآن فربما كان في مكان آخر، وإذا لم يأت من الصانع إلا هذا فالراجع عقلاً أن الغطاء سوف يأتي وربما تأخر في الطريق.
وهل يبقى لك شك إذا وصلتك رسالة من الصانع تخبرك بالغطاء، وأنه سيأتي إليك؟ هل يبقى في قلبك شك؟
قال تعالى معبرا عن هذا البرهان: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف:46)، وقال تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ
معجزات علمية (246)
}(الأنبياء:102} (1)
-\--\-
ما وصل علي من حديثه إلى هذا الموضع حتى ارتفع آذان المغرب.. فأحسست بقشعريرة روحية عالية.. لقد أدركت أن هذا الصوت الذي يتكرر كل حين لا يتكرر عبثا..
ولكني ـ لجبني الشديد ـ لم أستطع أن أتجاوب تماما مع تلك اللذة الروحية العالية.
لست أدري لم.. ولكن ربما يكون ذلك الخزان الكبير من الشبهات التي تمتلئ بها نفسي هي السبب في ذلك الإعراض.. لقد كنت أبحث عن أشعة أكثر، فلن يرفع ظلامي إلا الشمس نفسها.. بنورها ودفئها وجمالها وكمالها.
التفت علي إلينا، وقال: اعذروني.. إن ربي يدعوني للاتصال به.. ولا بد لي أن أجيبه.
قال ذلك، ثم أخذ من محفظته مصحفا، وسلمه لصديقنا (داروين)، وهو يقول: تقبل هذه الهدية العظيمة.. إنها كلام الله.. اقرأ هذا الكتاب، وأعد قراءته.. فعساك تظفر بين حروفه على الحقيقة التي لم يطق لساني أن يبلغها لك.
أخذ (داروين) المصحف، وقال: شكرا لك.. لئن صح ما ذكرت، فإن هذا أكبر تكريم كرمت به في حياتي جميعا.
ما أمسك (داروين) بالمصحف حتى أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل عليه.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) هناك تفاصيل كثيرة أخرى ترتبط بالحياة الآخرة، وما يتعلق بالبرهنة عليها من أدلة، وما يميز العقيدة الإسلامية في هذا الجانب، وقد تحدثنا بتفصيل عن ذلك في (أسرار الحياة)
معجزات علمية (247)
في اليوم الرابع.. كان الحديث عن الماء في القرآن الكريم، وفي العلم..
وقد تحدث علماء الدين بطريقتهم وأسلوبهم الذي تعودنا عليه.. فخلطوا بين التفسير واللغة والفقه.
وتحدث صديقي عالم المياه عن المياه كما نص عليها العلم..
ولم يكن هناك أي رابط يربط ما ذكره بما ذكروه.
وصاحبي هذا عاشق للمياه بأنواعها، فلا تراه يتحدث إلا عنها، لست أدري سر ذلك بالضبط.. ولكن البيئة التي ولد فيها ونشأ كانت لها علاقة كبرى بالمياه، فقد كان يسكن على شاطئ بحر يمتزج بمياه بحيرة تصب فيه، وكان لوالده سفينة صيد تربى صاحبنا فيها، كما يتربى سائر الصبيان في المحاضن.. لقد كان البحر هو المهد الذي يذكره بصباه.
وفي كبره، كان أول ما فعله صاحبنا أن اشترى سفينة مجهزة بكل الوسائل التي يتطلبها البحث في علوم البحار وكنوز البحار.. وكان لا يستقر إلا فيها.. وقد جاب بها بحار العالم، وهو يتحدث عنها كما نتحدث نحن عن بلدان العالم.
وكان في صاحبنا استعداد كبير للتدين.. فقد كان له من الصفاء النفسي ما للمياه، وكان فيه من حياة الروح ما لها.
ولكنه صدم بوقائع كثيرة جعلته يسقط في الغفلة لا الازدراء.. فلم يكن يزدري الدين.. ولكنه لم يكن يجد فيما بين يديه من الأديان من يقنع عقله وروحه التي عشقت المياه.
في ذلك المساء أرسلت إلى علي بأن نلتقي عند بحيرة عذبة صغيرة كانت تتواجد في منطقة قريبة من المدينة التي كنا بها.
معجزات علمية (248)
عند البحيرة الجميلة جلسنا على بعض الصخور المحيطة بها، ورحنا نتحدث مع صاحبنا عالم المياه عن المياه..
كان أول سؤال خطر على بالي أن أسأله إياه يرتبط بالأصل والمبدأ.. بأصل المياه على الأرض..
كان صاحبي مغرما بالتفاصيل.. بكل التفاصيل العلمية والتاريخية، فلذلك راح يبدأ من الأول، فقال: لقد تضاربت آراء العلماء حول أصل الماء علي سطح الأرض تضاربا كبيرا (1)، ولم يحاول أحدهم ربط ذلك بماء المطر علي الرغم من وضوح ذلك:
ففي الحضارة اليونانية القديمة اقترح أفلاطون (428 ـ 348 ق. م.) وجود خزانات جوفية هائلة علي هيئة عدد من الممرات والقنوات تحت سطح الأرض تقوم بتغذية جميع أشكال الماء علي سطح الأرض من جداول وأنهار، وبحيرات وبحار ومحيطات وغيرها، وتخيل أن هذا الخزان المائي الهائل ليس له قاع إذ يتخلل الأرض كلها، وأن الماء يمور فيه بصفة مستمرة.
أما أرسطو (385 ـ 322 ق. م) فقد رفض هذه الفكرة علي أساس أن مثل هذا الخزان لابد أن يكون أكبر من حجم الأرض لكي يتمكن من الإبقاء علي جميع الأنهار متدفقة، ونادي بأن هواء باردا في داخل الأرض يتحول إلي الماء كما يتحول الهواء البارد حول الأرض، واقترح أن تضاريس الأرض العالية تعمل عمل قطع الإسفنج الهائلة حيث تتشبع بهذا الماء المتكون في داخل الأرض من تكثف الهواء الجوفي البارد، وأنها تقطر هذا الماء فتغذي به الأنهار والجداول والينابيع.
كذلك نادي فيزوفيوس في القرن الأول الميلادي (وهو من مفكري الحضارة الرومانية) بأن الأودية بين الجبال أكثر حظا من الجبال في غزارة ماء المطر، وأن الثلج يبقي فوق الأرض لفترة
__________
(1) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، (50) وأنزلنا من السماء ماء طهورا، الدكتور: زغلول النجار، الأهرام: 42182 السنة 126 - 3 يونيو 2002 الموافق 22 من ربيع الأول 1423 هـ
معجزات علمية (249)
أطول في المناطق المكسوة بالغابات الكثيفة، وأنه عند انصهاره يتحول إلي ماء فيتخلل فتحات الأرض، ويصل في النهاية إلي أسافل الجبال التي تسيل منها الجداول وتتدفق.
وظل العديد من العلماء حتي أواخر القرن السابع عشر الميلادي مقتنعين بفكرة الكهوف الكبيرة في داخل الأرض كمصدر رئيسي لماء الأنهار، أو أن الماء المتجمع تحت سطح الأرض يأتي من البحر، وقد لخص هذه الآراء الخاطئة عالم أوروبي باسم أثناسيوس كيرثر (1602 - 1680 م) مفترضا أن البحر مرتبط بجبال جوفاء تتدفق منها الأنهار والجداول.
ولم يستطع أحد من علماء الغرب ومفكريه تصور إمكانية أن تكون زخات المطر المتفرقة علي مدار السنة كافية لابقاء الأنهار وغيرها من مجاري الماء متدفقة به علي مرور الزمن علي الرغم من أن فرنسيا باسم برنارد باليسي (1510 م -1590 م) كان قد أعلن أن الأنهار والينابيع لا يمكن أن يكون لها مصدر غير ماء المطر، وأشار إلي أن الماء تبخره حرارة الشمس، وتحمل الرياح الجافة التي تضرب الأرض هذا البخار فتتشكل السحب التي تتحرك في كل الاتجاهات، وعندما تدفع الرياح تلك الأبخرة يسقط الماء فوق أجزاء من الأرض، ثم تذوب تلك السحب التي ليست سوى كتلة من الماء، وتتحول إلي مطر يسقط علي الأرض، وعندما يواصل هذ الماء نزوله من خلال شقوق الأرض، ويستمر في النزول حتي يجد منطقة مغلفة بالصخور الكثيفة فيستقر عندها علي هيئة مخزون فوق هذا القاع الذي يتدفق منه الماء عندما يجد فتحة توصله إلي سطح الأرض علي هيئة ينابيع أو جداول أو أنهار.
وهذا القول هو الحقيقة التي تاه الكثير في البحث عنها.. فالشمس تبخر كما هائلا من ماء الأرض، فيرتفع علي هيئة بخار يعلق بأجزاء من الغلاف الغازي للأرض، ثم يتكثف في أجزاء منها علي هيئة قطيرات دقيقة من الماء مكونا السحب..
ما وصل صاحبي عالم المياه من حديثه إلى هذا الموضع حتى مر علي، وهو يقرأ بصوته الخاشع
معجزات علمية (250)
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (1) (المؤمنون:18)، فسكت عالم المياه، وكأنه يسمع شيئا جديدا لم يسمعه من قبل.. ثم نهض، واقترب من علي، وقال: أعد علي ما كنت تقرأ.
أعاد علي الآية التي قرأها، فقال عالم المياه: أهذا هو القرآن الذي جاء به محمد؟
علي: أجل.. هذا هو القرآن الذي تكلم الله به لعباده.. هذا هو القرآن الذي شرح الله لنا فيه حقيقتنا وحقيقة الوجود؟
عالم المياه: لقد سبق محمد برنارد باليسي إذن (2)..
علي: فيم سبقه؟
عالم المياه: في أصل المياه التي تمتلئ بها الأنهار والآبار (3)..
__________
(1) نصت هذه الآية الكريمة على أن المطر ينزل بكمية محسوبة.
وقد دلت الأبحاث الحديثة على هذا، وتقدر هذه الأبحاث أنه في الثانية الواحدة يتبخر من الأرض تقريباً 16 مليون طنا من الماء، وهذا يعني أن الكمية التي تتبخر في السنة الواحدة تبلغ 513 تريليون طن من الماء، وهذا الرقم مساو لكمية المطر التي تنزل على الأرض خلال سنة.
وهذا يعني أن المياه تدور دورة متوازنة ومحسوبة عليها تقوم الحياة على الأرض، وحتى لو استعمل الناس كل وسائل التكنولوجيا المتوفرة في العالم فلن يستطيعوا أن يعيدوا إنتاج هذه الدورة بطريقة صناعية.
انظر: معجزة القرآن الكريم، لهارون يحيى.
(2) قال زغلول النجار: (وواضح أن باليسي هذا قد نقل هذا الكلام عن ترجمات معاني القرآن الكريم التي كانت قد توافرت للأوروبيين في زمانه، أو عن بعض كتابات المسلمين التي قام الأوروبيون بترجمتها في بدء عصر النهضة الأوروبية إلي كل من اللاتينية واليونانية بعد نهبها من المكتبات الإسلامية في كل من الاندلس وإيطاليا وصقلية، أو خلال الحروب الصليبية، وذلك لوضوح النبرة الإسلامية في كتابته)
(3) وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه سابقا من ذكر القرآن في قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} (النازعات) لأن هذه الآيات تتحدث عن كون الماء من الأرض، وما ذكرناه هنا يرتبط بدورة المياه.
معجزات علمية (251)
علي: هذا كلام الله.. والله أعلم بما خلقه..
عالم المياه: إن الآية التي قرأتها تحوي حقائق جليلة ترتبط بأصل المياه.
علي: فعلمني من علمها.. فلكل آية علماؤها.. ولا أراك إلا من علمائها.
عالم المياه: أول ما تنبهنا إليه الآية أن الماء المنزل من السماء منزل بقدر معلوم.. وهذه حقيقة علمية عظيمة.
علي: وهي حقيقة قرآنية عظيمة.. فقد أشار القرآن الكريم إلى التوازن العجيب في تصريف المياه، فقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27)، وقال: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (الزخرف:11)
عالم المياه: لقد نصت هذه الآيات على أن المطر ينزل بكمية محسوبة، وقد دلت الأبحاث الحديثة على هذا، وتقدر هذه الأبحاث أنه في الثانية الواحدة يتبخر من الأرض تقريباً 16 مليون طنا من الماء، وهذا يعني أن الكمية التي تتبخر في السنة الواحدة تبلغ 513 تريليون طن من الماء، وهذا الرقم مساو لكمية المطر التي تنزل على الأرض خلال سنة.
وهذا يعني أن المياه تدور دورة متوازنة ومحسوبة عليها تقوم الحياة على الأرض، وحتى لو استعمل الناس كل وسائل التكنولوجيا المتوفرة في العالم فلن يستطيعوا أن يعيدوا إنتاج هذه الدورة بطريقة صناعية.
علي: لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى إلى ثبات كمية الأمطار كل عام، فقد قال: (ما من عام بأقلّ مطراً من عام ولكن الله يصرِّفه) (1)
__________
(1) رواه البيهقي.
معجزات علمية (252)
فقد حدد هذا الحديث الفترة التي يتم خلالها حساب نسبة الأمطار على سطح الكرة الأرضية، وأنها قد تختلف من شهر لآخر، ومن فصل لآخر حسب درجة الحرارة وحالة الطقس.. ولكن إذا حسبنا كمية الأمطار الهاطلة خلال (12 شهراً) نجدها ثابتة (1).
عالم المياه: هذه حقيقة علمية، فهذه الدورة المائية المعجزة حول الأرض استمرت منذ خرج ماء الأرض من داخلها إلي اليوم الراهن، وبهذه الدورة يتحرك الماء من الغلاف المائي للأرض إلي غلافها الهوائي ليتطهر مما يتجمع فيه من ملوثات ومواد ذائبة فيه وعالقة به، وتمتد هذه الدورة من نحو الكيلومتر تحت سطح الأرض إلي ارتفاع يقدر بنحو خمسة عشر كيلومترا فوق مستوى سطح البحر.
علي: فهمت الإشارة الأولى.. فما الإشارة الثانية التي شدت انتباهك؟
عالم المياه: لقد أشارت الآية التي كنت تقرؤها إلى خزانات المياه.. فالماء في الأرض مخزن بدقة معجزة.
وعندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين، وهذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين، وفيها أحياء لا زالت تعيش وتتكاثر.
إنه من العجيب أن يستخدم كلمة {فَأَسْكَنَّاهُ}، إن القرآن يتحدث هنا عن المدة الزمنية الكبيرة التي يمكث فيها الماء في الأرض دون أن يفسد أو يختلط ويتفاعل مع صخور الأرض، ففي قوله: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى أن الماء يسكن في الأرض، ويقيم فترة طويلة من الزمن على الرغم من وجود الأحياء الدقيقة والفطريات والأملاح والمعادن والمواد الملوثة تحت
__________
(1) انظر: ثبات كمية المياه معجزة للرسول الكريم، بقلم عبد الدائم الكحيل، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (253)
سطح الأرض، إلا أن الماء يبقى نقياً وماكثاً لا يذهب.
علي: لقد تحدث القرآن الكريم عن منته على عباده بتخزين المياه وحفظها، فهو يقول: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر: 22)
عالم المياه: صدق القرآن.. ما أدل هذه الكلمة على الحقيقة.. {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}.. فمن الذي أودع في الماء خصائص تجعله قابلاً للتخزين في الأرض آلاف السنين؟ ومن الذي أعطى لقشرة الأرض ميزات تجعلها تحتضن هذه الكميات الضخمة من المياه وتحتفظ بها غير مبدع الكون وخالقه.
علي: لقد تحدث القرآن عن الآلية التي يتم بها سكون الماء في الأرض، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (الزمر: 21)
عالم المياه: هنا أيضا نلاحظ دقة القرآن العلمية، فكلمة (فَسَلَكَهُ) دقيقة جداً من الناحية العلمية، فالماء الذي ينزل من السماء يسلك طرقاً معقدة داخل الأرض، حتى إن العلماء اليوم يحاولون تقليد الاهتزازات التي يتعرض لها الماء خلال رحلته في الأرض، وهذا السلوك للماء هو الذي يعطيه طعماً مستساغاً.
إن الماء عندما ينزل من السماء ويتسرب خلال تربة الأرض، ويمر في مسامات التربة الأرضية وبين الصخور، تنحل فيه بعض المعادن والأملاح، وهي مفيدة للجسم غاية الإفادة.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} (المرسلات:27)، فهذه الآية تربط بين الجبال الراواسي الشامخات أي ذات الارتفاع العالي، وبين الماء الفرات.
عالم المياه: هذه آية عظيمة.. إنها تشير إلى علاقة الجبال بنزول المطر وعلاقتها أيضاً بتنقية الماء (1) حتى إن العلماء اليوم ينظرون إلى الجبال كأبراج ماء ضخمة، فنحن اليوم نعيش في ظروف
__________
(1) سنتحدث عن تفاصيل ترتبط بهذا في المباحث التالية.
معجزات علمية (254)
تلوث خطيرة بعد التطور الصناعي الكبير الذي رافقه إطلاق كميات ضخمة من الملوثات بسبب المصانع ووسائل النقل وما تطلقه من غازات سامة تضر بالبيئة والإنسان، ولذلك نجد أن ماء المطر اليوم لدى نزوله من الغيوم يمتص جزءاً من الملوثات الموجودة في الجو.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الماء عند مروره في طبقات التراب والصخور المختلفة تتم عملية التنقية الطبيعية له، وكلما زادت المسافة التي تقطعها قطرة الماء زادت درجة نقاوتها، وهنا تتجلى معجزة هذه الآية ربط الماء العذب الفرات بالجبال الشامخة، لأن المسافة التي يقطعها ماء المطر خلال الجبال العالية طويلة والماء الناتج أنقى وأكثر عذوبة.
نظر صديقي إلى الأسماك الجميلة الملونة التي كانت تبدو من خلال صفحة الماء، وقال: انظروا إلى جمال الحياة تحت الماء.. لا يمكن أبدا أن تكون هناك حياة بلا ماء.
علي: صدقت، لقد ورد ذكر الماء كثيرا في القرآن الكريم، باعتبار علاقته الوثيقة بالحياة، بل إن الله تعالى ذكر الماء عند ذكره لخلق السموات والأرض، فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)
انتفض عالم المياه، وقال: صدق القرآن.. إنه يعبر عن الحقيقة بكل دقة وجمال، إن الماء ليس مجرد سائل كسائر السوائل.. إنه سر الحياة.. إنه الركيزة الكبرى في حياة الكائنات الحية، وعليه تتوقف جميع العمليات الحيوية فيها.
معجزات علمية (255)
قلت: ما سر اختصاص الماء بهذه القدرات العجيبة؟
قال: يرجع ذلك إلى الخواص الفريدة للماء، والتي تجعله بحق سائل الحياة:
فمن خصائصه أنه يذيب العديد من المواد أكثر من أي سائل آخر، ويرجع هذا إلى مقدرة الماء العالية في فصل الجزيئات المتأينة وغير المتأينة بعيداً عن بعضها البعض.
وللماء حرارة نوعية عالية مقارنة بالكثير من السوائل، فله حرارة تبخر، وحرارة كامنة عاليتان بصورة غير عادية، وتساعد هاتان الخاصيتان على بقاء الماء بصورته السائلة في درجات حرارة مختلفة، بل تجعله صالحاً لحياة الكائنات الحية في درجات حرارة عالية أومنخفضة نسبياً.
ومع أن معظم المواد تكون عند أعلى كثافة لها في درجة التجمد، ولكن الماء يشذ عنها، حيث له أعلى كثافة عند درجة 4 س، وهذه الخاصية مهمة للأحياء المائية البحرية، حيث يطفو الجليد على سطح الماء، وبذلك يعمل عازلاً لما تحته، ويمنع الماء السفلي من التجمد، وهذا يحمي الكائنات البحرية من الهلاك والتجمد.
والماء شفاف قابل لنفاذية الموجات الضوئية المرئية، وبذلك يصل الضوء إلى أعماق كبيرة في البحار، وإلى داخل أوراق النباتات الأرضية، فتتم عملية البناء الضوئي فيها.
وللماء خاصية شد سطحي أعلى من كل السوائل المعروفة، عدا الزئبق وهذه الخاصية تجعله يرتفع في أجزاء النبات إلى مسافات عالية تصل إلى أكثر من 60 مترا.
وللماء قدرة تلاصق كبيرة مع كل من جزيئات النشا والسليلوز والبروتين، بحيث إذا تلا مس الماء مع أي منهم تلاصقا بشدة مع بعضهما البعض، مما يؤدي إلى بلل تلك المواد، وهذه الخاصية مهمة للكائنات الحية، ولإتمام العملية الحيوية بها، وصعود الماء في النبات.
وبالإضافة إلى هذا كله، فقد أثبتت جميع التجارب العلمية أن للماء دوراً حيوياً كبيراً في حياة الكائنات الحية، ففقدان الجسم بالجوع 50 بالمائة من الدهون والبروتينات غير مهلك، ولكن فقدان الجسم نسبة 20 بالمائة فقط من مائة قاتل.
معجزات علمية (256)
وسر هذا النشاط الحيوي للماء يرجع إلى أمور كثيرة، منها أن الماء ينظم بدقة العمليات الحيوية في الكائنات الحية، فجميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلي الإخراج ومن النمو إلي التكاثر لا تتم في غيبة الماء بدءا من التمثيل الغذائي، وتبادل المحاليل بين الخلايا وبعضها البعض، وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها، وذلك بواسطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل من خلال جدر الخلايا، وانتهاء ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة مما يعين علي النمو والتكاثر، وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والإخراجات.
علي: لقد ذكر القرآن الكريم من تأثير الماء في الحياة أنه جعله سببا لطهارة الكائنات، ووسيلة لها، فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} (الفرقان:48)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدور التطهيري للمطر في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} (الفرقان: 48)، وقال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (لأنفال:11)
عالم المياه: صدق القرآن في هذا.. فعند نزول المطر إلي الأرض قد يتدفق فوق سطحها علي هيئة السيول الجارفة.. وقد يتسلل إلي التربة، أو يصل إلي طبقات صخرية عالية المسامية والنفاذية، فيتحرك رأسيا بالجاذبية الأرضية إلي أسفل حتي يصل إلي مخزون الماء تحت سطح الأرض، فيعمل علي تجديد عذوبته، وتعويض مايفيض أو يضخ منه.
وهذه الدورة المائية المعجزة يتم بواسطتها تطهير الماء، وتلطيف جو الأرض، وتوفير نسبة
معجزات علمية (257)
معينة من الرطوبة، في كل من غلافها الغازي وتربتها فتسمح للكائنات الحية بما تحتاجه منها.
وبواسطة هذه الدورة المائية تتم تسوية سطح الأرض، وشق الفجاج والسبل فيه، ويتم تفتيت الصخور، وتكوين كل من التربة والصخور الرسوبية، وخزن قدر من ماء المطر فيها وفي غيرها من صخور قشرة الأرض، وتركيز عدد من الخامات الاقتصادية.
علي: ولهذا يربط القرآن الكريم بين المطر وحياة الأرض، فيقول: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} (البقرة: 164)
عالم المياه: بالإضافة إلى هذا كله.. فإن لدورة الماء حول الأرض فوائد كثيرة من أبرزها تطهير هذا الماء من عوالقه وشوائبه المختلفة، فحينما ينزل ماء المطر علي الأرض ويجري علي سطحها، فإنه يحمل معه من نفاياتها كما كبيرا إلي أحواض البحار والمحيطات في عملية تنظيف وتطهير مستمرة لسطح الأرض، وغسل لأدرانها المختلفة، والماء في جريانه علي سطح الأرض يذيب كل مايمكن اذابته من مكوناتها من مختلف العناصر والمركبات، كما يحمل ملايين الاطنان من العوالق غير المذابة والتي تترسب علي طول مجاري الانهار والأودية ودالاتها وفوق قيعان البحار والمحيطات والبحيرات وغيرها من التجمعات المائية، وفي هذه الأوساط المائية يحيا ويموت بلايين الكائنات الحية، ولذلك يتعفن الماء غير الجاري في التجمعات المائية المحدودة بسرعة كبيرة وبدرجات أقل في البحار الواسعة والمحيطات، ويزيد من تلوث هذه الأوساط المائية مايدفع إليها من مخلفات المصانع والمنازل.
وحينما تبخر أشعة الشمس هذا الماء فإنه يتطهر مما فيه من الملوثات، ويصعد إلي الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي علي هيئة بخار ماء نقي طاهر من كل ماكان فيه من أدران وأوساخ وأملاح.
وهذه هي عملية التطهير الرئيسية لماء الأرض، ولذلك فان أنقي صورة للماء الطبيعي هي ماء المطر، علي الرغم من أنه عند نزوله من السماء قد يذيب نسبة ضئيلة من مكونات الغلاف
معجزات علمية (258)
الغازي للأرض كما قد يحمل معه نسبة لاتكاد تدرك من ذرات بعض الأملاح اللازمة لصحة الإنسان وغيره من الكائنات الحية، وذلك لأن الماء الصافي تماما قد يكون ضارا بجسم الإنسان.
ولايفسد ماء السماء إلا الملوثات التي قد يطلقها الإنسان، وذلك من مثل أكاسيد الكبريت التي تسبب نزول مايسمي بالأمطار الحمضية أو إطلاق بعض الغبار المشع كالذي ينتج من التجارب النووية أو من التسرب من المنشئات القائمة علي مثل هذا النشاط كالمفاعلات النووية.
علي: ولهذا من الله على عباده بأن حفظ لهم طهارة الماء وصلاحه للشرب، فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} (سورة الواقعة)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا شَرِبَ الْمَاء قال: (الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِنَا) (1)
عالم المياه: صدق محمد.. إن السلوك الإنساني الجشع والمدمر هو الذي يخرب هذا المخزون الهائل من المياه التي تمتلئ بها الأرض والسماء.. إن الذنوب هي التي حولت من المياه العذبة إلى مياه مسمومة.
سكت قليلا، ثم قال بنبرة حزينة: للأسف.. فإن المطر الآن يسقط في مناطق كثيرة ـ خاصة فى البيئات الصناعية ـ مطراً حمضياً يهلك الحرث والنسل، فقد بلغ الأس الهيدروجيني للمطر فى بعض المناطق الصناعية درجة عالية تجعل مياه الأمطار عالية الحموضة محدثه أضرار كثيرة.
علي: لقد أشار القرآن الكريم كذلك إلى هذا، وحذر منه، فقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)
عالم المياه: صدق القرآن.. لم أكن أتصور أن يهتم كتاب مقدس بمثل هذه النواحي.
__________
(1) ابن أبي حاتم.
معجزات علمية (259)
علي: بهذه المناسبة.. لقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول في دعائه: (اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، فلماذا ذكر صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثلاثة، ولم يكتف بالماء (1)، وهل هناك فرق في القدرة على التطهير بينها؟
عالم المياه: أنت تعلم أن الماء عندما يتجمد يصبح ثلجا عند درجة الصفر المئوي، وفي ذلك الحين تتغير طريقة ارتباط الجزيئات، فتصبح مثل حلقة البنزين.
هناك بعض الأوساخ التي لا تزول بالماء، أو بالماء والصابون، وذلك لأن قوى الالتصاق بين هذه البقع والقماش تكون كبيرة مثل بقع الشمع أو العلك على القماش.
فعند وضع قطعة من الثلج عليها فإن البرودة تعمل على تقارب جزيئات هذه المادة (تنكمش) فتقل قوى الالتصاق بينها وبين القماش مما يؤدي إلى انفصالها.
علي: والبرد.. لقد ورد في الحديث ذكر البرد.
عالم المياه: أنت تعلم أن البرد يتكون عند درجة حرارة أقل من الصفر المئوي، فإذا كانت هناك أوساخ مستعصية، فان البرد يعمل على انكماش جزيئات هذه الأوساخ بدرجة أكبر من الثلج، فتنفصل وتزول.
علي: لقد وردت الإشارة القرآنية بالربط بين تخزين الماء والشرب، فقال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر: 22)، فقد ربطت الآية بين تخزين الماء وبين كونه قابلاً للشرب والسقاية، فهل اكتشف العلم ما يبين العلاقة بينهما (2)؟
عالم المياه: أجل.. لقد عرف العلم من خلال أبحاث كثيرة أن أفضل وأرخص طريقة لتنقية الماء تنقية كاملة هي بتخزينه تحت الأرض، فهذه الطريقة تقضي على أعتى أنواع الجراثيم وأخطرها
__________
(1) انظر: بحث في هذا الحديث بقلم ناديا نايف غنيم، رئيسية قسم العلوم في مدرسة النجاة الإسلامية الخاصة للبنات، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
(2) انظر: مقالا مفصلا في هذا من تأليف عبد الدائم الكحيل، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (260)
قضاءً تاماً.
علي: لقد ربط القرآن الكريم ـ كذلك ـ بين الجبال العالية والمياة العذبة، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} (المرسلات:27)، ففي هذه الآية الكريمة ربط بين الرواسي الشامخات وهي الجبال العالية، وبين الماء الفرات وهو شديد العذوبة.. فهل أثبت العلم العلاقة بينهما (1)؟
عالم المياه: قبل أن أجيبك عن سؤالك.. أحب أن أبين لك سر الربط بين الجبال العالية والمياه.
علي: فهل هناك علاقة بينهما؟
عالم المياه: أجل.. كلما كان الجبل أكثر شموخاً وارتفاعاً أدى ذلك لتجمع كمية أكبر من الغيوم، ثم نزول المطر أو الثلج، ثم ذوبان هذا الثلج وتسرُّبه عبر طبقات الجبل ومسامه حتى تتفجر الينابيع شديدة العذوبة.. ولذلك نجد أن معظم الجبال الشامخة يوجد قربها أنهار وينابيع ومياه عذبة.
علي: وما سر العذوبة فيها، والتي أشار إليها القرآن الكريم؟
عالم المياه: إن مياه الينابيع هذه، والتي جاءت من الجبال العالية خضعت لعمليات تصفية متعددة.. ومن المعلوم أنه كلما مرَّت المياه عبر مراحل تصفية (فلترة) أكثر كلما كان الماء أنقى.
وفي حالة الجبال التي ترتفع عدة كيلومترات، تعمل هذه الجبال كأفضل جهاز لتنقية المياه على الإطلاق، ولا يمكن للإنسان مهما بلغ من التقدم العلمي أن يقلِّد هذه العمليات التي تتم عبر الجبال.
علي: لقد عبر القرآن الكريم عن هذا الماء بكونه فراتا أي عذبا.. والعذوبة شيء زائد على النقاء.. فهل أثبت العلم ذلك؟
عالم المياه: أجل.. فالماء النازل من السماء والعابر للصخور الموجودة في الجبال يمتزج ببعض
__________
(1) انظر: تنقية المياه في القرآن الكريم، بقلم عبد الدائم الكحيل، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (261)
المعادن والأملاح الموجودة في تلك الصخور ويكتسب الطعم المستساغ، ولولا وجود الجبال والصخور وانحلال هذه المواد في الماء لم يكن للماء أي طعم يذكر.
علي: لقد ذكر الله تعالى من أنواع الطهارة التي يقوم بها الماء طهارة النفس، فقال: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (لأنفال:11)
عالم المياه: صدق القرآن.. لقد عبرت هذه الآية عن حقائق كثيرة ترتبط بالمياه (1)، فالأطباء يذكرون أنه عند الخوف تفرز في الدماء مادة ترتعش منها الأطراف، فلا تثبت، ومن وسائل تثبيت الأطراف تقليل هذه المادة بأن يرش من هذه حالته بالماء.
بالإضافة إلى هذا فقد كان نزول الماء سببا لتثبيت الأرض التي يسير عليها هؤلاء فتكون ثابتة تحت أقدامهم، لأن الرمال إذا بللت تماسكت وسار عليها السائر بعزم وثبات وتتقدم القدم، فلا تغوص.
بنيما نحن جلوس في تلك الجلسة التي امتزج فيها العلم والإيمان صبت قطرات عذبة من المياه من السماء.. فاستبشر صاحبي عالم المياه، وأحس بسرور عظيم، فراح علي يقرأ قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الروم:48)
عالم المياه: صدق القرآن وسبق.. إن هذه الآية معجزة حقا.. فقد ظلت كيفية تكون الأمطار
__________
(1) الخوف والمطر، الشيخ عبد المجيد الزنداني، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (262)
لغزاً كبيراً طويلاً مع الزمن، ولم يكن من الممكن اكتشاف مراحل تكون الأمطار إلا بعد اكتشاف الرادارات.
ووفقاً لهذه الاكتشافات يتكون المطر على ثلاثة مراحل: تصعد المواد الأولية للمطر إلى الهواء مع الرياح.. وبعد ذلك تتشكل الغيوم.. وبعدها تبدأ قطرات المطر بالظهور.
والقرآن يذكر هذه العلمية بشكل دقيق، فهو يشير أولا إلى صعود المواد الأولية للمطر إلى الهواء مع الرياح، وذلك ما يشير إليه هذا قوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ}، ففقاعات الهواء التي لا تحصى، والتي ترغي في المحيطات قاذفة بجزئيات المياه نحو السماء، تحملها الرياح وترفعها إلى الغلاف الجوي.. وهذه الجزئيات ـ التي تسمى الهباء الجوي ـ تعمل كأفخاخ مائية وتكون قطرات الغيوم عبر تجميع نفسها حول بخار الماء الصاعد من البحار على شكل قطرات صغيرة.
وفي المرحلة الثانية، والتي يشير إليها قوله: {فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} تتكون الغيوم من بخار الماء الذي يتكثف حول بلورات الملح وجزئيات الغبار في الهواء، ولأن قطرات المياه في هذه الغيوم صغيرة جداً.
وفي المرحلة الثالثة، والتي يشير إليها قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} تتكاثف جزئيات المياه التي تحيط ببلورات الملح وجزيئات الغبار لتكون قطرات المطر، وبهذا فإن المطر الذي يصبح أثقل من الهواء يترك الغيوم ويبدأ بالهطول على الأرض.
التفت إلى علي، وقال: فأنت ترى كل مرحلة من مراحل تكون المطر مذكورة بهذه الآية، بل أكثر من ذلك، فإن هذه المراحل مشروحة بنفس السياق.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى تأثير الرياح في تلقيح السحب، فقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر:22)
معجزات علمية (263)
عالم المياه: إن هذه آية عظيمة تحوي سبقا علميا كبيرا للقرآن في تقرير هذه الحقيقة.. فقد كان الأقدمون (1) يتصورون أن المقصود بتلقيح الرياح هو دور الرياح في نقل حبوب اللقاح إلى أعضاء التأنيث في الأزهار ليتم الإخصاب وتكوين الثمار وهو دور معروف وثابت علمياً، والقرآن يقرره في هذه الآية.
ولكن الجملة التي تلي ذكر هذا الدور {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تدل على أن عملية إرسال الرياح لواقح لها علاقة مباشرة بنزول المطر، واستخدام حرف العطف (ف) الذي يدل على الترتيب والتعقيب، يوحي بسرعة نزول المطر بعد إرسال الرياح لواقح.
علي: لقد ظللت أقرأ هذه الآية.. وأومن بما جاء فيها.. ولكني إلى الآن لا أزال جاهلا بنوع الدور الذي تقوم به الرياح في التلقيح.
عالم المياه: هناك ثلاثة أنواع من التلقيح تتم في السحب:
أولها.. تلقيح السحب الحارة بالسحب الباردة مما يزيد عملية التكاثف وبالتالي نزول المطر.
وثانيها.. تلقيح السحب موجبة الشحنة بالسحب سالبة الشحنة، ويحدث تفريغ وشرر كهربائي، فيكون المطر مصحوبا بالبرق والرعد، وهو صوت تمدد الهواء الناجم عن التفريغ.
وثالثها.. وهو أهم أنواع التلقيح جميعاً هو أن الرياح تلقح السحاب بما ينزل بسببه المطر.. وهذه هي فكرة المطر الصناعي، عندما تقوم بعض الطائرات برش السحب التي سبق وأن تكونت ببعض المواد تعمل كنويات تكاثف، يتكاثف عليها المطر ويهطل.
علي: فالرياح بهذا عامل أساسي في تكوين السحب، وتلقيحها ونزول المطر.
عالم المياه: أجل..
علي: لهذا ـ إذن ـ دائما يربط القرآن بين الرياح والمطر، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
__________
(1) بما فيهم مفسرو القرآن الكريم.
معجزات علمية (264)
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (لأعراف:57)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} (الفرقان:48).. وغيرها من الآيات الكريمة.
عالم المياه: إن هذه آيات عظيمة.. كلها تدل على الحقائق الكثيرة التي ترتبط بالمياه.. والتي لم نعرفها إلا بعد قرون طويلة من الجهل ومن التفسيرات الخاطئة.
علي: لقد ورد في آية أخرى تفاصيل أخرى تتعلق بتشكل المطر، أرجو أن تبين لي تفاصيلها، فقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (النور:43)
عالم المياه: هذه آية عظيمة تتحدث بدقة عن السحاب الركامي (1).. فالعلماء الذين يدرسون الغيوم توصلوا إلى نتائج مفاجئة بالنسبة لتكون الغيوم الممطرة.
فقد وجدوا أن الغيوم الممطرة تتكون وتتشكل وفق نظام ومراحل محددة.. فمثلاً مراحل تكون الركام وهو أحد أنواع الغيوم الممطرة، تبدأ بمرحلة الدفع حيث تحمل الغيوم أو تدفع بواسطة الرياح.. ثم مرحلة التجمع حيث تتراكم السحب التي دفعتها الرياح مع بعضها البعض لتكون غيمة أكبر.. ثم مرحلة التراكم حيث أن السحب الصغيرة عندما تتجمع مع بعضها، فإن التيار الهوائي الصاعد في الغيمة الكبيرة يزداد، فالتيار الهوائي قرب مركز الغيمة يكون أقوى من التيارات التي تكون على أطرافها، وهذه التيارات تجعل جسم الغيمة ينمو عمودياً ولذلك فإن
__________
(1) انظر: تكون المطر والبرد، الشيخ عبد المجيد الزنداني، في أكثر المواقع التي تتحدث عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (265)
الغيمة أو السحابة تتراكم صعوداً.
وهذا النمو العمودي للغيمة يسبب تمددها إلى مناطق أكثر برودة من الغلاف الجوي حينما تتكون حبات المطر والبرد وتصبح أكبر، ثم أكبر، وعندما تصبح حبات المطر والبرد ثقيلة جداً على التيارات الهوائية بحيث يتعذر عليها حملها تبدأ بالهطول من السحب الممطرة على شكل مطر أو حبات برد وغيرها.
والآية التي قرأتها تشير إلى كل ذلك.
و يجب أن تعلم أن علماء الأرصاد الجوية لم يعرفوا تفاصيل تكون الغيوم وبنيتها ووظيفتها إلا من خلال استخدام التقينات المتطورة مثل الطائرات والأقمار الصناعية والحواسيب.
علي: لقد ذكر الله تعالى في الآية البَرَد، وكيفية تشكله (1)، فهل ترى أن ذلك يتوافق مع ما نص عليه العلماء؟
عالم المياه: البرَد هو أحد الظواهر الأكثر تعقيداً والتي بحثها العلماء طويلاً، ولم يزل الكثير مما نجهله حول هذه الظاهرة الخطيرة والجميلة في نفس الوقت، والتي تؤدي إلى خسارات تصل إلى مئات الملايين من الدولارات كل عام.
ويتجلَّى تعقيد هذه الظاهرة من خلال العمليات بالغة التعقيد التي ترافق تشكل البرَد، لأن تشكل البرَد يتم أثناء العواصف الرعدية، والتي تصل فيها سرعة التيار الهوائي المتجه لأعلى الغيمة إلى 160 كيلو متراً في الساعة أو أكثر.
ويقوم العلماء اليوم باستخدام الرادارات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وكذلك الأقمار
__________
(1) انظر بحثا في هذا الموضوع تحت عنوان البرد بين القرآن والعلم بقلم عبد الدائم الكحيل، في موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (266)
الاصطناعية لدراسة أسرار هذه الظاهرة المعقدة.
وقد وجدوا أن البرد يتشكل عبر عدة مراحل تبدأ من قيام التيارات الهوائية بدفع الغيوم المتفرّقة باتجاه الأعلى، فحبات البرَد الصغيرة يتطلب تشكيلها تياراً هوائياً سرعته وسطياً 45 كيلو متراً في الساعة، أما حبات البرد المتوسطة فتتطلب تياراً هوائياً بسرعة 88 كيلو متراً في الساعة تقريباً، وحبات البرد الكبيرة تتطلب تياراً هوائياً سرعته 160 كيلو متراً في الساعة تقريباً.
ثم تبدأ هذه الغيوم بالتجمع والتآلف، ثم بعد ذلك تتراكم الغيوم فوق بعضها البعض مشكِّلة ما يشبه الأبراج العالية التي تمتد لعدة كيلو مترات في الغلاف الجوي.. في هذه الغيوم تبدأ قطرات المطر بالتشكل، وكل مليون قطيرة ماء باردة تتجمع لتشكل قطرة مطر واحدة.
ثم يتشكل البرد حول قطرات الماء المجمدة، أو حول ذرات الثلج الصغيرة، وقد يحوي البرَد في داخله بعض الغبار والأتربة العالقة أو الحشرات الصغيرة التي ساقها التيار الهوائي في الجو بين الغيوم.
ويؤكد العلماء على أن الغيمة الأطول تملك فرصة أكبر في تشكل البرَد بسبب ملامستها لطبقات الجو العليا شديدة البرودة.
ويؤكدون أن التيارات القوية من الهواء مطلوبة لتأمين تشكل البرَد، وحمله والتغلب على قوى الجاذبية الأرضية خصوصاً إذا كانت حبات البرَد كبيرة، وهذه التيارات هي ما يسبب تشكل أبراج من الغيوم الركامية.
وعندما يعجز التيار الهوائي عن حمل حبات البرَد فإن البرَد يسقط، لذلك عندما نقطع حبَّة البَرَد إلى نصفين نلاحظ عدداً من الحلقات على شكل طبقات متعددة تماماً كحلقات البصلة، وهذا يعني أن حبة البرد تتشكل على مراحل كل مرحلة تنمو فيها حلقة.
وقد لاحظ العلماء أن المطر ينزل من كل الغيمة بينما البرد يسقط فقط من ممرات محددة من الغيمة وتدعى صفوف البرد.
معجزات علمية (267)
وهذه المراحل جميعا، والتي تسبق تشكل البرد ضرورية، ولا يمكن أن يتشكل البرد بدونها.
ويؤكد العلماء أن التيارات الهوائية المتجهة نحو الأعلى لا تقتصر مهمتها على تشكيل البرَد، بل إنها أيضاً مسؤولة عن دفع قمم الغيوم الركامية عالياً إلى طبقة التروبوسفير، مما يؤدي لخلق البيئة المناسبة لحدوث البرق!
علي: لقد ورد في القرآن الإشارة إلى كل ما ذكرته من مراحل.. فقد جاء في الآية السابقة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} وقد عرفنا من خلال شرحك أن عملية تشكل البرد تبدأ بدفع التيارات الهوائية للغيوم وتجميعها والتآلف بينها، وكلمة (يُزْجِي) تعني في اللغة (يسوق ويدفع)
ثم قال تعالى: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، أي يجمع بين السحُب، وقد عرفنا ضرورة تجمع السحب لتشكيل البرد.
ثم ذكر تعالى المرحلة الأخيرة لتشكل الغيوم، وهي الغيوم الركامية، وذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}، وكلمة (رَكَمَ) في اللغة تعني (ألقى الأشياء بعضها فوق بعض)، وهذا ما يحدث تماماً في الغيوم الركامية حيت تدفعها التيارات الهوائية باتجاه الأعلى، وتجمّعها باتجاه عالٍ يشبه الأبراج ذات القاعدة العريضة وتضيق كلما ارتفعنا للأعلى وتكوّن شكلاً يشبه (الجبل} (1)
وفي المرحلة التالية يبدأ تشكل المطر ونزوله، وهذا ما تخبرنا عنه الآية في قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}، وقد ثبت أن المطر الغزير وهو (الودْق) يخرج من جميع أجزاء الغيمة، وهذا ما أشارت إليه الآية في عبارة (مِنْ خِلَالِهِ).
وبعدما تشكلت قطيرات المطر أصبح ممكنا أن يتشكل البرد، وذلك من خلال اجتماع ملايين القطيرات من الماء شديد البرودة لتشكيل حبات البرد والتي تتجمع في مناطق محددة في أعلى وأوسط الغيمة، ويبدأ نزول البرد من مناطق محددة أيضاً، وهذا ما نص عليه قوله تعالى: {
__________
(1) وقد استخدم القرآن كلمة (ركاماً) وهي نفس الكلمة التي يستخدمها العلماء اليوم (الغيوم الركامية)
معجزات علمية (268)
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}
وقد استخدم القرآن الكريم كلمة (جبال)، والعلماء يستخدمون كلمة (أبراج) من الغيوم، لأنهم وجدوا أن شكل الغيوم التي تحوي البرَد يشبه البرج.
وبما أن البرد لا يوجد في جميع أجزاء الغيمة، بل في مناطق محددة فيها، وينزل من مناطق محددة أيضاً وليس من الغيمة كلها، قال تعالى: {مِنْ بَرَدٍ}، ولم يقل (وينزل البرَد)
وبما أن قسماً كبيراً من البرد المتشكل يذوب قبل وصوله إلى الأرض، وقسماً آخر يذوب داخل الغيمة، فقد جاء في الآية ما يشير إلى هذا، فقال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ}.. فالله تعالى يصيب بهذا البرد من يشاء، فتجد أن حبات البرد تبقى متجمدة حتى تصل إلى الأرض، ويصرف الله تعالى هذا البرد عمن يشاء من خلال ذوبان الجزء الأكبر من حبات البرد وعدم وصولها إلى الأرض.
علي: لقد ورد في آية قرآنية الربط بين المطر وألوان الصخور، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28، 27)
عالم المياه: ذلك صحيح.. فألوان الصخور هي نتاج ألوان المعادن المكونة لها، وألوان المعادن نتاج تركيبها العنصري، وبيئتها، وتفاعلها مع الماء.
فالماء من العوامل الحاسمة في تلوين صخور الجبال.
معجزات علمية (269)
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى علاقة الأمطار بالأنهار في آية تستدعي شرحا علميا (1).. فقد قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد:17)
فظاهر الآية ينص على أن الله أنزل من السماء مطراً فأخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدر، جاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه.
وكان من حمولة السيل ما يسبك في النار من حلية ذهب وفضة ونحاس طلباً للزينة، أو ما يجعل منه متاعاً.
عالم المياه: بغض النظر عن المراد من هذا المثل الذي ضربه القرآن.. فإن موضوع المثل في نفسه في منتهى الدقة العلمية.
فالآية تشير إلى معارف كثيرة ترتبط بالأنها:
أولها.. وهو ما يشير إليه قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، وهو ما يعرف في العلم برتبة الأنهار، حيث تصب الأنهار الصغيرة في الأنهار الكبيرة، وبذلك توجد أنهار رئيسية وروافد لها.
والنهر ذو الرتبة الأولى لا يتبعه روافد، والنهر ذو الرتبة الثانية ينشأ من التقاء نهرين من أنهار الرتبة الأولى، وهكذا بقية الرتب.
والثاني... وهو ما يشير إليه قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً}، وهو ما يعرف بحمولة النهر... حيث تحتوي معظم أنهار العالم الكبيرة ما يقرب من 110 ـ 120 جزء من المليون من الأيونات الذائبة، أي أن كل لتر من ماء الأنهار يحتوي على 1/ 10 من الجرم من المواد الذائبة، وتحمل أغلب أنهار العالم الجزء الأكبر من حمولتها في هيئة معلقات.
__________
(1) الأنهار في القرآن الكريم، الأستاذ الدكتور حسني حمدان حمامة، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (270)
وتوجد حمولة القاع على هيئة حمولة متدحرجة أو منزلقة أو منقذفة، ومما لا شك فيه أن معظم الحمولة سواء كانت معلقة أو حتى الذائبة، بالإضافة إلى حمولة القاع، مصيرها أن تستقر على القاع بعملية الترسيب، مكونة الرواسب المختلفة التي تتماسك بعد ترسيبها، وتتكون الصخور الرسوبية.
وتلك الحمولة المستقرة تتحدث عنها الآية الكريمة: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، وهي أنواع:
منها رواسب المكث، ويشير إليها قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ}
فقد وجد أن هناك علاقة حميمة بين الذهب والصخور النارية، حيث يتم تركيز الذهب بطريقة ميكانيكية، فعلى سبيل المثال يقوم نهر النيل بتركيز الذهب الذي تحمله المياه من جبال الحبشة، وأيضاً تقوم الأودية التي تسيل بالمياه بتركيز الذهب من المناطق الجبلية التي تخترقها.
ويتركز الذهب ومعه كثير من المعادن الثقيلة ذات الأوزان النوعية العالية مثل الفضة والجارنت والروتيل والفلورايت وغيرها، حيث تمكث في قاع النهر، ففي الولايات المتحدة الأمريكية يستخرج الذهب بنسبة 5 ـ 10 من الإنتاج من رواسب المكث.
ومنها الرواسب والصخور الرسوبية، ويشير إليها قوله: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}
وتتكون الرواسب النوعية مثل رواسب المكث السابقة في قاع النهر أو على شاطئ البحر.
وتكون الرواسب بصفة عامة الأرضي الخصبة في دلتا الأنهار، وقد تحتوي ثروات الغاز كمصدر مهم من مصادر الطاقة.
بل إن مدلول قوله: {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} ليشمل رواسب الرمل المستخدمة في صناعة الزجاجيات، ومواد البناء، وكذا رواسب الطين المستخدمة في صناعة الخزفيات والأسمنت وغيرها، ويتسع مفهوم المنفعة إلى الرواسب التي تحملها الأنهار إلى قاع البحر. وهكذا نجد أن
معجزات علمية (271)
الآية تشير إلى علم أساسي من علوم الأرض وهو علم الصخور الرسوبية.
علي: لقد أشار القرآن الكريم في آيات أخرى إلى الأنهار باعتبارها من نعم الله على عباده، فقال على لسان نوح عليه السلام وهو يعظ قومه ويبشرهم بنعم الله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (نوح:12)
ومن ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (الانبياء:31)
عالم المياه: هذه الآية العجيبة تشير إلى الصنعة العجيبة.. فمن بديع صنع الله، بل من المحير حقاً أن تشق الأنهار مجاريها ذات الجوانب الحادة في سلاسل الجبال في تحد عجيب.
علي: لماذا ينحت النهر مجراه في السلسلة الجبلية فيما حولها؟
عالم المياه: عادة ما ينشأ النهر في الأرض الممهدة ذات الانحدار اللطيف التي تغطي سلسلة الجبال المدفونة تحت سطحها، أي أنه يركب فوقها، وينحت النهر رواسب الأرض، ويكون أخدوداً في السلسلة الجبلية.. ولهذا، فإن كثيرا من السبل في الجبال ما هي إلا أودية جافة.
وقد دل على هذا المعنى ما قرأته من الآية.
ومن ناحية ثانية يحدث أحياناً أن ينشأ النهر في أرض ممهدة قبل تكون سلسلة الجبال بعدة ملايين من السنين، وبعد أن تنتصب الجبال يستمر النهر في تحد غريب في تعميق مجراه قاطعاً السلسلة الجبلية.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا، فقد قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النمل:61)
عالم المياه: ما أروع هذا الترتيب الذي ورد في الآية.. من قرار الأرض إلى خلق الأنهار إلى نشأة الجبال الرواسي ثم تكوين الحاجز بين البحرين.
معجزات علمية (272)
علي: لقد أشار الله تعالى إلى غور ماء الأنهار في قوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} (الكهف:41)، فقد جاءت هذه الآية في قصة صاحب الجنتين، وقد وصف الله جنته بقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} (الكهف:33)
عالم المياه: من الظواهر المعروفة تشكلات الكارست، وهي التي تنتج في الأقاليم المتكونة من الأحجار الجيرية والمواد القابلة للذوبان. ويعرف دارسو علم الأرض والجغرافيا أن الأنهار قد تختفي إذا انتهت إلى إحدى الحفر الوعائية المتكونة في الحجر الجيري أو في سطح الأرض بصفة عامة.
توقف الرذاذ المتساقط من السماء، وظهرت الشمس بعد أن انجلت السحب، فاكتست البحيرة وما يحيط بها ألوانا جميلة.
لست أدري كيف خطر على بال عالم المياه ذكر البحار، فراح يقول لعلي: هل في القرآن شيء عن البحار.. أم أن اهتمامه اكتفى بمياه الأمطار والينابيع.. ولا غرابة في ذلك فمحمد كان في بيئة صحراوية بعيدة عن البحار.
علي: كيف تقول هذا.. القرآن يخاطب البشرية جميعا لا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وحده، وهو يتكلم عن الكون جميعا.. فكيف لا يتكلم عن البحر (1)..
أليست البحار هي التي تشكل 71 بالمائة من مساحة الأرض في حين أن مساحة البر لا تتعدى 29 بالمائة؟
__________
(1) من مراجع هذا المبحث:
آيات البحار ومعانيها العلمية في القرآن الكريم، أحمد جلال مرسي، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (273)
عالم المياه: أجل.. وما علاقة ذلك بالقرآن؟
علي: القرآن يتحدث عن الأشياء بحسب أهميتها.. وما دام للبحار هذه الأهمية، فمن المستحيل أن لا يتحدث عنها القرآن.
لقد ضرب الله المثل بالبحر في الاتساع والعظمة، فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109)
واعتبر البحار، وما فيها من أنواع النعم من آيات الله لعباده، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164)
وآيات أخرى كثيرة سألتمس منك في هذا المجلس أن تفسرها لي.. فلا يتحدث في آيات البحار إلا علماء البحار.
عالم المياه: يشرفني أن أخدم بعلمي هذا الكتاب العظيم الذي اتسع لكل هذه الحقائق.
علي: ألتمس منك قبل أن نتحدث عن الآيات الخاصة بالبحار أن تحدثني عن أصلها، فقد أمرنا الله بالبحث عن أصول الأشياء، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:20)
عالم المياه: نشأة البحار والمحيطات جزء من نشأة الحياة على سطح الأرض، ولو كنت معنا قبل يومين لسمعت كلاما كثيرا في هذا ذكره صديقنا عالم الأرض (1).
ابتسم علي، وابتسمت.. واصل عالم المياه حديث متعجبا من هذه الابتسامات التي لم ير مبررا
__________
(1) انظر الفصل الثاني من هذا الجزء (الأرض)
معجزات علمية (274)
لها، وقال: هناك بعض النظريات التي حاولت أن تعطي تفسيراً لكيفية نشوء المحيطات والقارات:
منها على سبيل المثال (الفرضية الهرمية) لصاحبها لوثيان جرين (1875).. وتنص على أنه نظراً لفقدان الأرض لحرارتها وتعرضها للبرودة، فإن سطحها أخذ في الانكماش التدريجي متخذاً في النهاية شكل الهرم الثلاثي، حيث قاعدته في الشمال ورأسه في الجنوب، وتحتل القارات حافات هذه الهرم، في حين تغطي البحار والمحيطات جوانبه المسطحة.
ومنها نظريات العالم الفرنسي (سولاس)، وتنص على أن الأرض كانت في أول نشأتها لينة سريعة الاستجابة لعامل الضغط الجوي المرتفع، فهبطت وانخفضت مكونة قيعان البحار والمحيطات.
ومنها نظرية (زحزحة القارات) لصاحبها (ألفريد واجنر)، ومفادها أن التوزيع الحالي للبحار واليابسة يختلف عن التوزيع الذي كان سائداً في العصور والأزمنة سحيقة البعد، حيث يرى واجنر أن نوعاً من الزحزحة قد حدث للأرض نتيجة ضغوط وعوامل عديدة، حيث كانت في الزمن الجيولوجي الأول (أي: قبل 200 مليون سنة) كتلة واحدة هائلة يقع معظمها من جنوب الاستواء حتى القطب الجنوبي، وتحتوي على قارتين فقط، ويتخلل كتلة اليابسة بحار داخلية.
ثم في منتصف الزمن الجيولوجي الثاني بدأت كلتا القارتين في التمزق بعد أن تعرضتا للانكسارات المتتالية، وأخذ كثير من أجزائها في الزحزحة بعيداً عن الكتلتين الأصليتين لكن على امتداد تلك الانكسارات في ثلاثة محاور رئيسية: أحدها في اتجاه الشمال، والثاني في تجاه الشرق، والأخيرة صوب الغرب باستثناء قارات اليابسة الذي كون القارة المتجمدة، والتي حافظت على وضعها، وظلت في مكانها مكونة قارات العالم المختلفة، وتمددت البحار الداخلية مكونة البحار والمحيطات على ما هو الوضع الآن.
معجزات علمية (275)
وقد استدل واجنر على نظريته بكثير من الأدلة والشواهد (كالرواسب البحرية) في مناطق لا تغمرها مياه البحار حالياً كالخليج العربي على سبيل المثال، ومن الرواسب التي تراكمت خلال ملايين السنين وتعرضت لعوامل الضغط المختلفة برزت الجبال الالتوائية كجبال الألب في أوربا، وأطلس في أفريقيا، والهيمالايا في آسيا، والطيور المختلفة التي تعيش في مناطق متباعدة ومترامية الأطراف، ولكنها تشترك في نفس السلالة كالنعام الأفريقي (1).
وقد أصبحت هذه النظرية علمية تماماً بعد اكتشاف (الجاذبية الحجرية)، واستطاع العلماء بعد دراسة اتجاهات ذرات الحجارة تحديد موقع أي بلد وجدت به هضبة في الزمن القديم، وأن أجزاء الأرض لم تكن موجودة في الأزمنة القديمة، كما توجد عليه الآن، وإن كانت كما حددتها نظرية تباعد القارات (2).
علي: لقد ربط القرآن الكريم بين البحر والفلك في آيات كثيرة:
فالقرآن الكريم يعتبر نعمة توفير النقل البحري للإنسان من نعم الله العظيمة على عباده، فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
__________
(1) هناك من استدل بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الانبياء:30)، على اعتبار أن السواحل كانت متداخلة، أي أنها كانت رتقاً قبل أن تتزحزح.
وهو معنى إشاري صحيح.. ولو أن نص الآية ينصرف لما سبق ذكره من نظرية الانفجار العظيم.
(2) هناك من استدل لهذا بقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات:30) حيث يشير لفظ أو مفهوم (الدحو) الوارد في الآية إلى تسوية الشيء ونثره، أي: تباعده كما يقول المثل: (دحي المطر الحصى) أي: فرق وباعد المطر حبات الحصى، وهو نفس المعنى والمفهوم المستخدم في اللغة الإنجليزية لكلمة Drift والتي استخدمت للتعبير عن هذه النظرية العلمية الحديثة.
معجزات علمية (276)
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الاسراء:70} (1).. ويقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14).. ويقول: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (الاسراء:66).. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان:31).. ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الروم:46).. ويقول: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (يّس:41)
ويعتبر الفلك من جملة النعم التي جعلها الله لحمل عباده، فقال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون:22)، وقال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (غافر:80)، وقال: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (الزخرف:12)
عالم المياه: إن ورود مثل هذه الآيات، بمثل هذا التفاصيل في القرآن غريب عجيب، فكوني أتكلم عن البحار والمياه غير مستغرب لأني ولدت بينها وحياتي فيها وقوتي منها.. ولكن محمدا كان في الصحراء في بيئة تهتم بالناقة أكثر من اهتمامها بالسفينة.. ولكني أرى القرآن يذكر السفينة أكثر مما يذكر الناقة.. بل ليس في القرآن وفي الآيات التي تلوتها علي إلا إشارات لها.
علي: صدقت في هذا.. فالقرآن لا يكاد يشير إلى النقل البري..
عالم المياه: ذلك لأن النقل البحري أرخص أنواع النقل جميعاً سواء من حيث التكاليف المادية أو الإمكانيات والقدرة على الشحن.. بالإضافة إلى تاريخه العريق، فالنقل البحري يرجع لبداية
__________
(1) من الوجوه الإعجازية التي ذكرها العلماء في هذه الآية أنه لم يتم ذكر النقل النهري والذي مع رخصه يتميز ببطء الحركة بالنسبة للوسائل الأخرى، لذا كان مناسباً لنقل البضائع والخامات الرخيصة والتي لا تتطلب سرعة في نقلها خاصة في المناطق التي تخلو من العقبات كالشلالات والأهوسة، لذا جاءت الآية الكريمة لتعلن عن تسخير الأنهار للغرض القصير المنوط به.
معجزات علمية (277)
تاريخ الحضارة، حيث إن المصريين القدماء هم أول من ارتادوا البحار والمحيطات، وتلاهم الفينيقيون والإغريق والرومان حتى العصر الحديث، والذي من أبرز سماته ناقلات البترول الضخمة، حتى وصل حجم السفن والحاملات العملاقة إلى ما يزيد عن مائتي ألف طن.
علي: فلم كان للنقل البحري هذه الأهمية؟
عالم المياه: هو ـ أولا ـ لا يحتاج للإنشاءات إلا في بداية ونهاية الطرق الملاحية كالمواني والأرصفة البحرية.
ثم إن الطرق الملاحية لا تحتاج إلى صيانة مكلفة أو إصلاحات كالنقل البري أو النهري.
ثم.. إن السفينة أقل تكلفة في بنائها وصيانتها بالمقارنة بقطار له نفس الحمولة.
ثم.. إن أقل قوة محركة كافية لنقل حمولة هائلة لا تقارن بمثيلاتها في طريق النقل الأخرى.
بالإضافة إلى هذا كله عدم وجود مشكلات أو عقبات كالتي توجد في النقل النهري مما يؤكد على سرعته ورخص تكلفته.
علي: بهذه المناسبة.. لقد تحدث الله عن السفن العظام، فقال في وصفها، وفي علاقتها بالرياح (1): {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)} (الشورى)
عالم المياه: هذه آيات عظيمة تتحدث عن نعم لولاها ما صار البحر وسيلة من وسائل النقل.
علي: تقصد القوانين التي تيسر حركة السفن؟
عالم المياه: أجل.. فحركة السفن وطفوها وسيرها في عباب البحر لا يتم بالبساطة التي قد نتصورها، بل هناك مجموعة من القوانين المعقدة تتحكم بها.
وقد تم اكتشاف ملامح بعضها قديماً، ولكن لم يتم فهمها والاستفادة منها عملياً إلا مؤخراً..
__________
(1) انظر: الجوارِ المنشآت آية من آيات الله تعالى، فراس نور الحق، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
معجزات علمية (278)
ومن أهم هذه القوانين ما يسميه العلماء بدافعة أرخميدس وقانون الطفو والتوازن.
فتصميم السفينة له دور كبير في توازنها وتحملها للمفاجآت، وكذلك نوع المعدن الذي تصنع منه السفينة له دور مهم أيضاً، وهناك دور للمحركات وقدرتها على تحمل الأوزان وقدرتها على مواجهة الأمواج.
علي: فبناء على هذه القوانين إذن تم بناء السفن العملاقة التي تحدث عنها القرآن.
عالم المياه: أجل.. هناك سفن ضخمة يصل ارتفاع بعضها إلى عشرات الأمتار، كسفن نقل المسافرين والتي تزيد على عشرة طوابق والتي تشبه الجبال حجماً، وبواخر الشحن العملاقة التي تقوم بنقل النفط وحاملات الطائرات.
علي: وعيت الآن ما تشير إليه الآية الكريمة.. إنها تشبه السفن الجارية، المرفوعات الشراع، بالجبال الشاهقة.. وهو تشبيه يدل على عظم هذه السفن.
عالم المياه: ليس ذلك فقط.. هناك وجوه شبه أخرى بين السفن الجارية مرفوعة الشراع، وبين الأعلام (الجبال الشاهقة).. منها ارتفاع الجبال الشاهقة وارتفاع الأشرعة.. ومنها وجود غاطس صلب للجوار ووجود غاطس صلب هو جذر الجبل.. ومنها أن البحر السائل يحيط بغاطس الجوار بينما تحيط الماجما السائلة بجذر الجبل (1).
علي: لقد ربط القرآن الكريم كذلك بين البحر ونعمة ما فيه من أصناف الرزق، فالله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14)، ويقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ
__________
(1) انظر: موقع الدكتورة شاهناز يوسف: http://signsinhorizons.com/ar/index.html
معجزات علمية (279)
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (فاطر:12)
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر حل صيد البحر، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة:96)
عالم المياه: إن الثروة السمكية العظيمة التي تمتلئ بها البحار تستحق هذا الثناء القرآني.. فهي من نعم الله الكبرى على عباده.
وقد ظهرت فائدة الأسماك كمصدر من مصادر الرزق في الأزمنة السحيقة، فالإنسان البدائي كان يذهب إلى شاطئ البحر ليحصل منه لنفسه على الطعام الذي يسد رمقه، ويعود عليه بالخير والرزق الوفير، لذا فهي أقدم مهنة قام بها الإنسان.
ثم أخذت في التطور حتى أصبحت السفن العملاقة تخصص لصيد الأسماك كما يحدث في اليابان.
بل إنه قد تحول الأمر إلى منافسة بين الدول المختلفة للسيطرة على أكبر مساحة من المسطحات المائية، ومد حدود مياهها الإقليمية، حتى تستأثر بما تحتويه من موارد ومصايد سمكية، حتى أنه قد ظهر بسبب ذلك بعض مشكلات المياه الإقليمية.
علي: إن القرآن الكريم يعرفنا بالله الرازق الذي ضمن لنا أرزاقنا ما دمنا على هذه الأرض.. أفلا ترى في الإشارة إلى الثروة السمكية ما يدل على خزائن الرزق الكثيرة التي تمتلئ بها لأرض؟
عالم المياه: أجل.. بل إنه بسبب الزيادة المستمرة والمطردة في سكان العالم واستنفاذ أغلب الموارد الموجودة على اليابسة نتوقع مزيداً من التوجه إلى البحار والمحيطات، وإلى التوسع في إنشاء المزارع السمكية خاصة مع رخص تكلفتها مقارنة بغيرها.
فلكي نحصل على واحد كيلو جرام من السمك نحتاج إلى واحد كجم من طعام السمك ـ العشب والطحالب البحرية ـ بينما نحتاج للحصول على كيلو جرام واحد من اللحوم البيضاء إلى
معجزات علمية (280)
4 كجم، وبالنسبة للحوم الحمراء فإن الحصول على كيلو جرام واحد منها، فإننا نحتاج إلى 8 كجم.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى فوائده في الزنية.
عالم المياه: أجل.. فإن بعض الحيوانات البحرية تقوم بإنتاج الأصداف، والتي تستخدم في الصناعات الخشبية والحلي وأدوات الزينة للنساء.
ومن الزينة التي تمتلئ بها البحار المرجان الأحمر، وفوائده كثيرة، حيث أنه حلية وأداة للزينة كما وصفه القرآن، وكذلك له استخدامات صناعية، فهو يستخدم كترياق ضد السموم، وفي الأغراض الطبية.
علي: لقد ذكر القرآن الكريم تعدد أمواج البحار (1)، فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور:40)
عالم المياه: هذه آيات عجيبة.. إنها غريبة حقا.. إن الحقائق التي تنطق بها يستحيل على أي رجل في زمن محمد أن يعرفها..
ليس في زمن محمد وحده.. بل في كل الأزمنة التي تلته إلى زماننا هذا..
لقد كانت البحار عالماً مجهولاً إلى القرن الثامن عشر الميلادي، كما كانت الخرافات والأساطير المتعلقة بالبحار تسود الحضارات القديمة، وكان الرومان يعتقدون بأن قمم الأمواج
__________
(1) انظر: أمواج البحر اللّجي، الشيخ عبد المجيد الزنداني، في المواقع المهتمة بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وانظر كتابه: البينة العلمية.
معجزات علمية (281)
جياد بيضاء تجر عربة الإله (نبتون)، وكانوا يقومون بالطقوس والاحتفالات لإرضاء هذه الآلهة، وكانوا يعتقدون بوجود أسماك مصاصة لها تأثيرات سحرية على إيقاف السفن.
وكان لليونانيين مثل هذه الاعتقادات كما كان بحارتهم يعزون سبب الدوامات البحرية إلى وجود وحش يسمونه كاربيدس يمتص الماء ثم يقذفه.
ليس هذا فقط..
بل إن هناك عاملا آخر أكثر خطورة يجعل من هذه الآيات معجزة قائمة لاشك فيها..
علي: ما هي؟
عالم المياه: لم يكن بمقدور الإنسان معرفة أعماق الشواطئ الضحلة والمياه الراكدة ناهيك عن معرفة البحار العميقة والحركات الداخلية في هذه المياه، كما لم يكن بإمكان الإنسان الغوص في هذه الشواطئ إلا في حدود عشرين متراً، ولثواني معدودة ليعاود التنفس من الهواء الجوي.
وحتى بعد ابتكار أجهزة التنفس للغواصين لم يتمكن الإنسان من الغوص أكثر من ثلاثين متراً نظراً لازدياد ضغط الماء على جسم الغواص مع زيادة العمق، والذي يعادل عند عمق ثلاثين متراً أربعة أضعاف الضغط الجوي على سطح الأرض (1)، وعندئذٍ يذوب غاز النتروجين في دم الغواص، ويؤثر على عمل مخه، فيفقده السيطرة على حركاته، ويصاب الغواصون نتيجة لذلك بأمراض تعرف في الطب بأمراض الغواصين، أما إذا نزل الغواص إلى أعماق بعيدة فإن ضغط الماء يكفي لهرس جسمه.
علي: فأنت متأكد ـ إذن ـ بأن الحقائق التي ذكرتها هذه الآية لم تعرف إلا في قرننا هذا؟
عالم المياه: أجل.. وهذا ما دعاني إلى الاستغراب.. فبعد عام 1958 م أي بعد ثلاثة قرون من البحوث والدراسات العلمية وعلى أيدي أجيال متعاقبة من علماء البحار توصل الإنسان إلى حقائق مدهشة.
__________
(1) ذلك لأن ضغط الماء يزداد على الغواص بمقدار ضغط جوي واحد كلما نزل على عمق عشرة أمتار.
معجزات علمية (282)
منها أن البحر ينقسم إلى قسمين كبيرين:
أولهما ما نراه من البحر السطحي الذي تتخلله طاقة الشمس وأشعتها.
وثانيهما البحر العميق الذي تتلاشى فيه طاقة الشمس وأشعتها.
وقد توصلوا في هذا الباب إلى البحر العميق يختلف عن البحر السطحي في الحرارة والكثافة والضغط ودرجة الإضاءة الشمسية، والكائنات التي تعيش في كل منهما.
علي: في أي محل تشير الآية إلى هذين البحرين؟
عالم المياه: في قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ}.. فالآية تتحدث عن الأمواج البحرية الداخلية في البحر العميق، وهي تمثل حداً فاصلاً بين البحر العميق والبحر السطحي، كما يغطي الموج السطحي سطح البحر، ويمثل حداً فاصلاً بين الماء والهواء.
ولم تكتشف الأمواج الداخلية إلا في عام 1904 م على يد الدكتور (ف. و. ايكمان V.W Ekman) الذي فسر ظاهرة المياه الراكدة في الخلجان النروجية حين تفقد السفن التي تبحر قدرتها على التقدم، فتقف ساكنة في هذه المياه الراكدة.
ويتراوح طول الأمواج الداخلية ما بين عشرات إلى مئات الكيلومترات كما يتراوح ارتفاع معدل هذه الأمواج ما بين 10 إلى 100 متر تقريباً.
علي: فهمت هذا.. فالقرآن تحدث صراحة عن الأمواج الداخلية، وهو ما لم يعرف إلا في فترة متأخرة جدا، وبعد اختراع الوسائل الكثيرة المساعدة لذلك.. وبذلك يعتبر سبق القرآن للحديث في هذا مع عدم توفر الوسائل المساعدة لذلك في العصر الذي نزل فيه إعجازا علميا قويا.
عالم المياه: ليس ذلك فقط.. فتلك الآية التي قرأتها كلها معجزات..
علي: أهناك معجزة أخرى في الآية؟
عالم المياه: أجل.. لقد ذكرت الآية اشتداد الظلام في البحر العميق مع ازدياد عمق البحر
معجزات علمية (283)
حتى يسيطر الظلام الدامس الذي يبدأ من عمق (200 متر) تقريباً، ويبدأ عند هذا العمق المنحدر الحراري الذي يفصل بين المياه السطحية الدافئة ومياه الأعماق الباردة، كما توجد فيه الأمواج الداخلية التي تغطي المياه الباردة في أعماق البحر، وينعدم الضوء تماماً على عمق 1000 متر تقريباً.
أما البحار العميقة فالضياء منعدم فيها، والظلمات متراكمة، وتعتمد الكائنات الحية والأسماك التي تعيش فيها على الطاقة الكيميائية لتوليد الضوء الذي تستشعر به طريقها، وهناك أنواع منها عمياء تستخدم وسائل أخرى غير الرؤية لتلمس ما حولها.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النور: 40).. ولكن لم قال القرآن الكريم: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (النور: 40)؟
عالم المياه: هذا إعجاز ثالث في الآية.. فالظلام الدامس الذي يشتد من خمسمائة متر إلى ألف متر يتكون في أعماق البحار نتيجة لظلمات بعضها فوق بعض، وهي تنشأ لسببين رئيسين:
أولهما ظلمات الأعماق، حيث يتكون شعاع الشمس من سبعة ألوان (الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، النيلي، البنفسجي، الأزرق) ولكل لون طول موجي خاص به، وتتوقف قدرة اختراق الشعاع الضوئي للماء على طول موجته، فكلما قصر طول الموجة زادت قدرة اختراق الشعاع للماء، لذلك فإن شعاع اللون الأحمر يمتص على عمق 20 متراً تقريباً ويختفي وجوده بعد ذلك، وينشأ عن ذلك ظلمة اللون الأحمر، فلو جرح غواص على عمق 25 متراً تقريباً وأراد أن يرى الدم النازف فسيراه بلون أسود، بسبب انعدام شعاع اللون الأحمر.
ويمتص الشعاع البرتقالي على عمق ثلاثين متراً تقريباً فتنشأ ظلمة أخرى تحت ظلمة اللون الأحمر هي ظلمة اللون البرتقالي.
وعلى عمق 50 متراً تقريباً يمتص اللون الأصفر.
وعلى عمق 100 متر تقريباً يمتص اللون الأخضر.
وعلى عمق 125 متر تقريباً يمتص اللون البنفسجي والنيلي.
معجزات علمية (284)
وآخر الألوان امتصاصاً هو اللون الأزرق على بعد 200 متر تقريباً من سطح البحر.
وهكذا تتكون ظلمات الألوان لشعاع الشمس بعضها فوق بعض، بسبب عمق الماء الذي تمتص فيه الألوان بأعماق مختلفة.
علي: هذا هو المصدر الأول من مصادر ظلام الأعماق، فما المصدر الثاني؟
عالم المياه: هي ظلمات الحوائل.. وقد أشار القرآن الكريم إليها بدقة.
علي: ما ظلمات الحوائل؟
عالم المياه: أولها ظلمة السحب، فغالباً ما تغطي السحب أسطح البحار العميقة نتيجة تبخبر الماء، وتمثل حائلاً نسبياً لأشعة الشمس، فتحدث الظلمة الأولى للحوائل والتي نراها ظلالاً لتلك السحب على سطح الأرض والبحار.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ}
عالم المياه: والظلمة الثانية هي ظلمة الأمواج السطحية، فهي تمثل سطحاً عاكساً لأشعة الشمس، ويشاهد المراقب على الساحل مقدار لمعان الأشعة التي عكستها هذه الأسطح المائلة للأمواج السطحية.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}
عالم المياه: والظلمة الثالثة هي ظلمة الأمواج الداخلية، حيث توجد أمواج داخلية تغشى البحر العميق وتغطيه، وتبدأ من عمق 70 مترا إلى 240 متر، وتعلق ملايين الملايين من الكائنات الهائمة في البحار على أسطح الموجات الداخلية، وقد تمتد الموجة الداخلية إلى سطح البحر فتبدو تلك الكائنات الهائمة كأوساخ متجمعة على سطح البحر، مما يجعلها تمثل مع ميل الموج الداخلي حائلاً لنفاذ الأشعة إلى البحر العميق، فتنشأ بذلك الظلمة الثالثة تحت ظلمتي السحب والموج السطحي.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ}
معجزات علمية (285)
عالم المياه: فهذه الظلمات التي تراكم بعضها فوق بعض.. وهي نفس ما ذكره القرآن بصراحة مدهشة.
علي: لم اختار القرآن وصف (لجى) في قوله، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} إن هذه الكلمة قيد للبحر، وقد بين أهل اللغة والتفسير أن لفظ (لجي) معناه: العميق.
عالم المياه: وهذا إعجاز آخر.. فهذه الظلمات لاتكون إلا في بحر لجي أي عميق، ويخرج بهذا القيد البحر السطحي الذي لا توجد فيه هذه الظلمات.
علي: لقد وردت آيات في القرآن تتحدث عن وجود برزخ بين البحار، ففسرها لي بما هداك إليه علمك.
عالم المياه: أتحدث القرآن عن هذا؟.. إن هذا عجيب حقا.
علي: لقد قال تعالى يصف هذه الظاهرة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ 22} (الرحمن:19 - 22)، وقال: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} (النمل:61).
عالم المياه: إن هذه آيات عجيبة تصف ظاهرة يستحيل على من عاش في غير هذا العصر أن يصفها.
علي: ما هي هذه الظاهرة؟.. وكيف توصل البشر إليها؟
عالم المياه: لقد توصل علماء البحار بعد تقدم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخاً يفصل بين كل بحرين، ويتحرك بينهما، ويسميه علماء البحار الجبهة تشبيهاً له بالجبهة التي تفصل بين جيشين.
وبوجود هذا البرزخ يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسباً لما فيه
معجزات علمية (286)
من كائنات حية تعيش في تلك البيئة.
ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطاً بطيئاً، يجعل القدر من المياه الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياة العابرة من بحرٍ إلى بحر؛ ليبقى كل بحرٍ محافظاً على خصائصه.
علي: فكيف اكتشف العلماء هذه البرازخ البحرية؟
عالم المياه: لقد احتاج ذلك وقتا طويلا..
لقد اكتشف علماء البحار ـ أول ما اكتشفوا ـ أن هناك اختلافاً بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة في عام 1873 م وكان ذلك على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، حيث عرفوا أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، ومقادير الكثافة، وأنواع الأحياء المائية.
وقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم، وقد جمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات، وملئت تقارير الرحلة بـ 29.500 صفحة في خمسين مجلداً استغرق إكمالها 23 عاماً.
وبعد عام 1933 م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية، لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عدداً كبيراً من هذه المحطات تعطي معلومات موحدة عن خصائص الماء في تلك المنطقة، من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقية المحطات معلومات موحدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.
وبعدها أقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، لكنه تساءل
معجزات علمية (287)
عن سر عدم امتزاج البحار وعدم تجانسها.
وبعد عام 1962 م عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر، فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز.
وأخيراً تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المالحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسماً واحداً، إلا أن هناك فروقاً كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة، تظهر بألوان مختلفة تبعاً لاختلافها في درجة الحرارة.
سكت قليلا، ثم قال: ولكن ربما يكون مقصد القرآن من ذلك مياه البحار والأنهار.
علي: لا.. الآيات تتحدث عن البحار.. لدليلين:
أولهما أنها أطلقت لفظ البحرين بدون قيد، فدل ذلك على أن البحرين مالحان.
والثاني أن آيات سورة الرحمن بينت أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار المالحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين مالحين، قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان} أي يخرج من كل منهما.
عالم المياه: فكيف علم محمد أن البحار المالحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس، فكلها مالحة، زرقاء، ذات أمواج، وفيها الأسماك وغيرها وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟
والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير؟
علي: لقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ، إذ أن وجود البرزخ الحاجز يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط يقتضي عدم وجود البرزخ.. فما
معجزات علمية (288)
ترى حلا لهذا الإشكال؟
عالم المياه: لقد حل العلم الحديث هذا الإشكال الذي سببه عدم معرفة المفسرين الدقيقة بعلوم البحار.. فقد أثبت القرآن في قوله {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان} أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجاً ومتنقلاً في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح. ومن يسمع هذه الآية فقط، يتصور أن امتزاجاً واختلاطاً كبيراً يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، لكن قوله بعدها {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} أي مع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزاً يحجز بينهما يمنع كلاً منهما أن يطغى ويتجاوز حده.
وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدم في علومه وأجهزته، فقد وجد ماءً ثالثاً حاجزاً بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما.
ومع وجود البرزخ، فإن ماء البحرين المتجاورين يختلطان ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه؛ لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المنتقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء.
قال ذلك.. ثم قال متعجبا: ولكن كيف عرف محمد كل هذا.. إن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولاً مخيفاً تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة.
كيف عرف محمد ذلك مع أن العلماء لم يقرروا هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض..
معجزات علمية (289)
فهل كان محمد يملك تلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة.. ووهل قام بعملية مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان وخاصة في ميدان البحار؟
وهل تيسر لمحمد في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟
علي: إن هذا العلم الذي نزل به القرآن لم يكن معارف كسبية إنه من لدن الله.. فالله الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأكوان، قال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان:6)
علي: لقد تحدث القرآن عن التقاء البحار المالحة بالأنهار العذبة، فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} (الفرقان:53)
عالم المياه: هذه آية عجيبة تصف ظاهرة أخرى (1).. لقد شاهد الإنسان منذ القديم النهر يصب في البحر، ولاحظ أن ماء النهر يفقد بالتدريج لونه المميز، وطعمه الخاص كلما تعمق في البحر، ففهم من هذه المشاهدة أن النهر يمتزج بالتدريج بماء البحر، ولولا ذلك لكان النهر بحراً عذباً يتسع كل يوم حتى يطغى على البحر.
ومع تقدم العلم وانطلاقه لاكتشاف أسرار الكون أخذ يبحث عن كيفية اللقاء بين البحر والنهر، ودرس عينات من الماء حيث يلتقي النهر بالبحر، ودرس درجات الملوحة والعذوبة بأجهزة دقيقة، وقاس درجات الحرارة، وحدد مقادير الكثافة، وجمع عينات من الكائنات الحية وقام بتصنيفها، وحدد أماكن وجودها، ودرس قابليتها للعيش في البيئات النهرية والبحرية.
__________
(1) انظر كتابا للشيخ عبد المجيد الزنداني في هذا الموضوع اسمه (منطقة المصب والحواجز بين البحار)
معجزات علمية (290)
وبعد مسح لعدد كبير من مناطق اللقاء بين الأنهار والبحار اتضحت للعلماء بعض الأسرار التي كانت محجوبة عن الأنظار، واكتشف الباحثون أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أنواع: أولها مياه الأنهار، وهي شديدة العذوبة.. وثانيها مياه البحار، وهي شديدة الملوحة.. وثالثها مياه في منطقة المصب مزيج من الملوح والعذوبة، وهي منطقة فاصلة بين النهر والبحر متحركة بينهما بحسب مد البحر وجزره، وفيضان النهر وجفافه، وتزداد الملوحة فيها كلما قربت من البحر، وتزداد درجة العذوبة كلما قربت من النهر.
وقد اكتشفوا أنه يوجد برزخ مائي يحيط بمنطقة المصب ويحافظ على هذه المنطقة بخصائصها المميزة لها حتى ولو كان النهر يصب إلى البحر من مكان مرتفع في صورة شلال.
وقد لاحظوا عدم اللقاء المباشر بين ماء النهر وماء البحر في منطقة المصب بالرغم من حركة المد والجزر وحالات الفيضان والانحسار التي تعتبر من أقوى عوامل المزج، لأن البرزخ المحيط بمنطقة المصب يفصل بينهما على الدوام.
ورأوا أن ماء النهر يمتزج بماء البحر بصورة بطيئة مع وجود المنطقة الفاصلة من مياه المصب، والبرزخ المائي الذي يحيط بها ويحافظ على وجودها.
بالإضافة إلى هذا كله، فقد رأوا أن الكتل المائية الثلاث (ماء النهر، ماء البحر، وماء المصب) تختلف في الملوحة والعذوبة.
وقد رأى الباحثون الذين قاموا بتصنيف الكائنات الحية الموجودة فيها أن معظم الكائنات التي في البحر والنهر والمصب لا تستطيع أن تعيش في غير بيئتها.
وبتصنيف البيئات الثلاث باعتبار الكائنات التي تعيش فيها تعتبر منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها، لأن هذه الكائنات لا تستطيع أن تعيش إلا في نفس الوسط المائي المتناسب في ملوحته وعذوبته مع درجة الضغط الاسموزي في تلك الكائنات، وتموت إذا خرجت من المنطقة المناسبة لها، وهي منطقة المصب.
معجزات علمية (291)
وهي في نفس الوقت منطقة محجورة على معظم الكائنات الحية التي تعيش في البحر والنهر، لأن هذه الكائنات تموت إذا دخلتها بسبب اختلاف الضغط الاسموزي أيضاً.
علي: لقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بدقة، فقال: {وَحِجْراً مَحْجُوراً}، الحِجْر والحَجْر يعني المنع والتضييق..
عالم المياه: الحجر هنا يعني بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر.. وقد وصفت هذه المنطقة بأنها محجورة أي ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلاً عن الأول أي أنها أيضاً منطقة ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها فهي حجر (حبس، محجر) على الكائنات التي فيها، محجورة على الكائنات الحية بخارجها.
ويكون المعنى عندئذٍ: وجعل بين البحر والنهر برزخاً مائياً هو: الحاجز المائي المحيط بماء المصب، وجعل الماء بين النهر والبحر حبساً على كائناته الحية ممنوعاً عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.
-\--\-
ما وصل عالم المياه من حديثه إلى هذا الموضع حتى ارتفع آذان المغرب بصوت جليل ارتعشت له القلوب..
فقام علي من مكانه، وقال: ائذنوا لي أن أنصرف.. فإن ربي يدعوني لمناجاته والاتصال به.. ولا يمكنني أن أترك إجابة من لم أر الخير إلا منه.
ثم أخرج مصحفا عجيببا من جيبه، لم أر مثله من قبل، وقدمه لعالم المياه، وقال: لقد صممت هذا المصحف قبل فترة طويلة.. وهو من مادة لا تؤثر فيها المياه.. وقد كنت أنوي أن أهديه لرجل يتعلق بالبحار.. ليعبر به من بحار المياه إلى بحار الحقائق.
ولم أر في حياتي من يستحق هذا الإهداء غيرك.. فأرجو أن تكون في مستواه.
معجزات علمية (292)
أخذ صديقنا عالم المياه المصحف، وقال: شكرا لهذا التكريم العظيم.. لعل هذا أكبر تكريم كرمت به في حياتي جميعا.. وأعاهدك بأني سأقرأ هذا المصحف في جميع بحار الدنيا.. لتسمع جميعا ذلك الثناء العطر، وتلك العلوم المعجزة التي نطق بها القرآن.
أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل على صاحبي عالم المياه.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
معجزات علمية (293)
في اليوم الخامس.. كانت المحاضرات عن النباتات في القرآن الكريم، وقد غلب على محاضرات هذا اليوم ما غلب على محاضرات سائر الأيام من الاهتمام بالجانب البياني، وإغفال الجانب العلمي.
ثم قدم عالم النبات محاضرته التي ذكر فيها المبادئ العامة التي يعتمد عليها النظام الزراعي.
وهذا العالم ـ على حسب ما عرفته في الأيام السابقة ـ شخص شديد الاحتكاك بالطبيعة، شديد الحب لها، وقد كان يتألم كثيرا لكل خبر جديد يسمعه عن تأثير الإنسان في الطبيعة.
وكان أقرب الجماعة إلى التدين.. لقد كان يقول لي: أنا أشعر بأن هذه النباتات التي نتعامل معها كما نتعامل مع الجماد كائن حي له مشاعر لا تختلف كثيرا عن مشاعرنا.. وله توجه لخالقه الذي برأه لا يختلف عن توجهنا.
ولكنه ـ مع ذلك ـ كان منصرفا انصرافا كليا عن الكنيسة، وعن الكتاب المقدس، فلم يكن يشعر نحوهما بأي مشاعر إيمانية، وقد أفصح لي عن ذلك، وذكر لي من أسبابه ذلك التقزيم المفرط لله وعلاقته بكونه في الكتاب المقدس.
فالخالق الذي خلق كل شيء، وأبدع كل شيء ينحدر في الكتاب المقدس انحدارا عميقا ليصبح ربا لثلة محدودة من الناس، لا هم له إلا رضاها وتدليلها.
وقد اتخذ لذلك موقفا من سائر الأديان.. بما فيها الإسلام، ولو أنه لا يعلم عنه شيئا.
معجزات علمية (294)
في ذلك اليوم أرسل إلي علي مع صديقه حذيفة بأن نلتقي في مزرعة نموذجية للبيئة الصحراوية.
سرنا إليها في مساء ذلك اليوم، وقد كانت في غاية الروعة والجمال، وقد كتب على بابها قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُف