[ الباحثون عن الله
×

الكتاب: الباحثون عن الله

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1437 هـ

عدد الصفحات: 659

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34367-1

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

هذه الرواية تحاول أن تنشر في قلب المؤمن وغير المؤمن أهمية معرفة الله وضرورتها، وأن الحياة لا تستقيم من دونها، وأن القلب لا يدرك ضالته من دونها.. وهي تتوسل لذلك بكل أنواع الحجج العقلية والعاطفية وغيرها..

وتدور أحداثها حول رجل دين مسيحي يزور المؤلف، ثم يحكي له قصة اهتدائه لله، والتي بدأت من خلال تكليفه من طرف الكنيسة بالذهاب صحبة هيئة علمية أرسلها الفاتيكان لحضور مؤتمر علمي حول الله في الأديان المختلفة.. وقبل الوصول إلى المؤتمر نزلت الطائرة التي تقلهم اضطراريا في مكان مجهول، وحين ييأسس الركاب من أن ينقذهم أحد يقفون مواقف مختلفة.. أما الملاحدة واللادينين، فمنهم من ينتحر، ومنهم من يصاب بالجنون.. وأما غيرهم، فيتضرعون إلى الله.. كل حسب دينه الذي يعتقده.. لكن شخصا منهم خاطبهم بقوله: (نحن من بلاد مختلفة.. منا من يؤمن بالله.. ومنا من لا يؤمن به.. ونحن نختلف فيما بيننا اختلافا شديدا في معارفنا المرتبطة بالله.. ولا يمكن لدعواتنا أن ترتفع للآلهة المزيفة.. فلذلك لا مناص لنا من البحث عن الإله الحقيقي حتى نرفع أكفنا بالضراعة إليه)

وهنا يبدأ كل باحث من الهيئة العلمية يدلي بشهادته الصادقة عن معارفه التي وصل إليها من خلال زيارته لبلاد المسلمين..

وفي الأخير.. وبعد اهتدائهم لله.. ودعائهم له، قيض الله لهم من ينقذهم..

الباحثون عن الله (8)

هذه السلسلة

تهدف هذه السلسلة (حقائق ورقائق) إلى أمرين:

الأول: البحث عن الحقائق التي يهتم لها العقل الإنساني، والتي جاءت الأديان والإسلام خصوصا للدلالة عليها، ولكنها - للأسف- صادفت الكثير من التشويه من طرف الذين خلطوا بين المقدس والمدنس، وبين الدين والأهواء، وبين الإلهي والبشري.

وهي لذلك تحاول أن تقوم بالاستعانة بالمصدرين المقدسين: العقل والنقل، أن تصل إلى الحقائق السامية التي تجتمع على قبولها الفطر السليمة التي هي الحصن الحصين الذي يلجأ إليه عند الخلاف.

الثاني: هو الصياغة الرقيقة الجميلة المسالمة لتلك الحقائق.. فلا تلقى بعنف ولا بشدة، ولا بألفاظ تجرحها، ولا بجدل يبعدها عن غايتها.. بل تلقى برقة ولطف وعذوبة حتى تستمتع بها النفس.. وحتى تسري إليها من غير أن تخدش مشاعرها أو تفرض أي وصاية عليها.

وانطلاقا من هذين الهدفين جاءت أكثر أجزاء هذه السلسلة في شكل روايات بسيطة ممتلئة بالحوار الذي يخاطب العقل والعاطفة وكل اللطائف الإنسانية.

وننبه في هذه الطبعة كما نبهنا في الطبعة السابقة إلى أن هدف هذه السلسلة هو أن تكون مدرسة تعلم فنون الحوار الإيماني، والجدال بالتي هي أحسن، ولذلك اهتممنا في أصل كل جزء منها بما يحقق هذا الغرض، ولم ننشغل عنه بأي شاغل.. ولكن الكثير من المعلومات التفصيلية أو التوثيقية قد يحتاج إليها لتحقيق هذا الغرض، وهي مما لا يمكن إدراجه في الأصل.. فلذلك اكتفينا بإيرادها في الهوامش، أو بالدلالة على المراجع التي يمكن أن يستفاد منها لتحقيق ذلك..

الباحثون عن الله (9)

وننبه كذلك إلى أننا لم نهتم كثيرا بتوثيق كل ما نرجع إليه من مصادر، لأن توثيقها يستهلك صفحات كثيرة، وقد يشغل القارئ عن المهمة التي تهدف إليها الرواية.. بالإضافة إلى أن أكثر ما نورده مما توزع وجوده في الكتب الكثيرة.. ولهذا نكتفي بذكر المراجع العامة التي لجأنا إليها دون التدقيق في التوثيق في كل محل.

وننبه أخيرا إلى أننا من منطلق الحرص على الوحدة الإسلامية، واعتقادنا بحرية الرأي والخلاف بين المسلمين، جعلنا أبطال هذه الروايات من مختلف المدارس الفكرية المنتشرة في العالم الإسلامي، وهذا لا يعني تأييدنا الكلي لكل الشخصيات التي نختارها، بل أردنا فقط تعريف القارئ بها، وخدمة بعض الجوانب الفنية التي يتطلبها أي عمل يحاول الجمع بين العلم والفن.

وبما أن الكثير من أجزاء هذه السلسلة له علاقة بالحوار الإسلامي المسيحي، أو الحوار مع الآخر، فقد حاولنا أن نصيغها صياغة خاصة تمثل المنهج الإسلامي المحمدي الأصيل في التعامل مع الآخر والحوار معه، ولهذا حاولنا نجمع فيها بين المزايا التالية:

الأدب: فقد حاولنا صياغتها بلغة مهذبة عالية الأدب، حرصا على تنفيذ قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: من الآية 46)، فليس في جميع هذه الأجزاء إهانة أو أي لفظ قد يجرح أي مسيحي، أو غير مسيحي... لأن أكثرها عبارة عن ذكريات يسوقها رجال دين مسيحيين عن رحلاتهم التي تعرفوا من خلالها على الإسلام، ونبي الإسلام.

الشمول: فقد حاولنا الرجوع في كتابة هذه السلسلة إلى مراجع كثيرة جدا مسيحية وإسلامية، حتى نحصي أكبر عدد من الشبهات، وأن نجيب عنها بكل ما يمكن الإجابة عنه بما يقنع المسيحي المتدين، وغيره من اللادينيين والعلمانيين.

المتعة: فقد حاولنا صياغة كل تلك المعلومات والشبهات في قالب روائي جذاب،

الباحثون عن الله (10)

مليء بالأحداث المشوقة، ليجمع القارئ بين العلم والتسلية.

التبسيط: فقد حاولت هذه السلسلة أن تخرج بالمعارف المرتبطة بهذا الباب من مدرجات الجامعات إلى الشوارع والطرقات في لغة بسيطة تمكن الكل من فهمها...

التعليم: فهذه السلسلة تعلم كل محب لرسول الله (، وكل حريص على دينه، كيف يجيب المخالف، بل كيف يقنعه... فهي تبين لهم منهج الحوار مع المخالفين، وتعطيهم من القدرات العلمية، والطرق المنهجية ما لا يملك معه المخالف إلا التسليم... وهدفها من كل ذلك أن تجعل من كل مسلم داعية إلى الله، ومحاميا يذب عن دينه، ويحمي حمى رسوله، ومناظرا ينتصر به الحق، وينهزم به الباطل، وتدفع به الشبهات.

الباحثون عن الله (11)

المقدمة

هذه الرواية تحاول أن تنشر في قلب المؤمن وغير المؤمن أهمية معرفة الله وضرورتها، وأن الحياة لا تستقيم من دونها، وأن القلب لا يدرك ضالته من دونها.

وهي تتوسل لذلك بكل أنواع الحجج العقلية والعاطفية وغيرها..

وتدور أحداثها حول رجل دين مسيحي يزور المؤلف، ثم يحكي له قصة اهتدائه لله، والتي بدأت من خلال تكليفه من طرف الكنيسة بالذهاب صحبة هيئة علمية أرسلها الفاتيكان لحضور مؤتمر علمي حول الله في الأديان المختلفة.. وكل هذه الهيئة من العلماء الراسخين في العلم ممن تثق الكنيسة في قدراتهم.

وقبل الوصول إلى المؤتمر نزلت الطائرة التي تقلهم اضطراريا في مكان مجهول، وحين ييأسس الركاب من أن ينقذهم أحد يقفون مواقف مختلفة.. أما الملاحدة واللادينيون، فمنهم من ينتحر، ومنهم من يصاب بالجنون.. وأما غيرهم، فيتضرعون إلى الله.. كل حسب دينه الذي يعتقده.. لكن شخصا منهم خاطبهم بقوله: (نحن من بلاد مختلفة.. منا من يؤمن بالله.. ومنا من لا يؤمن به.. ونحن نختلف فيما بيننا اختلافا شديدا في معارفنا المرتبطة بالله.. ولا يمكن لدعواتنا أن ترتفع للآلهة المزيفة.. فلذلك لا مناص لنا من البحث عن الإله الحقيقي حتى نرفع أكفنا بالضراعة إليه)

وهنا يبدأ كل باحث من الهيئة العلمية يدلي بشهادته الصادقة عن معارفه التي وصل إليها من خلال أحداث وحوارات ومناظرات يمر بها هو أيضا.

وقد جمعت تلك الشهادات كل القضايا الكبرى التي تدرسها العقيدة الإسلامية في هذا الجانب، ابتداء من الوجود، والوحدانية والتقديس وانتهاء بغيرها من الأسماء الحسنى.

وفي الأخير.. وبعد اهتدائهم لله.. ودعائهم له، قيض الله لهم من ينقذهم..

الباحثون عن الله (12)

وتهدف هذه الرواية من خلال هذا الطرح المبسط إلى:

1. التعريف بالله من خلال العقل والعلم والمصادر المقدسة بعيدا عن الجدل والترف الفكري الذي يخوض فيما لا يستفاد منه.

2. جمع أكبر عدد من الأدلة والبراهين المرتبطة بالحقائق العقدية المتعلقة بالله.

3. الاستفادة من منتجات العلم الحديث في تغذية العقائد الإسلامية بأكبر عدد من البراهين والأدلة.

4. البعد عن الصراع المذهبي الذي حال بين الكثير، وبين طرح العقيدة الإسلامية صافية نقية.

5. تيسير المعارف العقدية وتبسيطها بحيث يستفيد منها المتخصص وغير المتخصص.

وفي الأخير نعتذر للصعوبة قد تعترض البعض في فهم بعض ما نطرحه في الرواية من براهين، ذلك أننا قصدنا من الرواية خطاب الجميع من المتخصصين وغير المتخصصين، وهم أصحاب مناهج فكرية مختلفة.. ولهذا اعتمدنا الأدلة بأنواعها المختلفة.

ولا حرج على من لم يفهم دليلا من الأدلة أو مناظرة من المناظرات أن ينتقل إلى غيرها، فالقصد من التنويع هو خطاب العقول بمناهج تفكيرها المختلفة.

الباحثون عن الله (13)

البداية

في تلك اللحظات المؤلمة التي لم يمر عليها مثلها في حياتي، سمعت بعض أهل البيت يردد بصوت مرتفع (الله!!)، يقولها متعجبا أو مستحسنا كما تعودنا أن نقولها، من غير أن نشعر بها أو نلتفت لها.

لكني في تلك اللحظة شعرت بها شعورا لم أشعر بمثله في حياتي..

لقد رحت أبحث عن تلك الكلمة، وعلى من تطلق.. فكدت أسقط..

إن (الله) هو اسم صاحب الوجود الحقيقي في هذا الكون جميعا.. أما ما عداه فليس إلا ظلال أو آثار أو مظاهر، ليس لها من هدف إلا الدلالة عليه والتعريف به..

و (الله) هو اسم أكبر غني في هذا الوجود.. فهو اسم الملك الذي يملك هذا الكون جميعا بأرضه وشمسه وأقماره ونجومه ومجراته وأفلاكه الواسعة ما نرى منها، وما لا نرى..

و (الله) هو اسم القادر على كل شيء.. والذي يستوي عنده كل شيء.. وليس عنده أي مستحيل.. فبإمكانه أن يحول من الأرض جنة ونعيما مقيما.. وبإمكانه أن يحول منها نارا تلظى..

وبإمكانه أن يشفي من عجز جميع الأطباء عن شفائه..

وبإمكانه أن يعلم من عجز جميع المعلمين عن تعليمه..

وبإمكانه أن يحول من الشقي الذي امتلأ كدورة وألما سعيدا يمتلئ فرحا وسرورا..

و (الله) هو اسم العليم بكل شيء.. والذي لا محل عنده للجهل.. فهو يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون.

و (الله) يعلم ـ لذلك ـ كل الأسرار التي حار فيها العلماء والمفكرون والفلاسفة وجميع العقول..

الله يعلم أسرار الحياة والموت.. وأسرار السعادة والشقاء.. وأسرار الصحة والمرض..

الباحثون عن الله (14)

وأسرار الوجود والمصير.. وجميع الأسرار التي نقدم أرواحنا فداء لأجل كشف بعض حروفها.. ومع ذلك لا ننال منها إلا الهباء..

و (الله) هو اسم الحي السميع البصير المتكلم.. الذي له من القدرات الذاتية ما لا تطيق العقول والأوهام تخيله.

و (الله) هو اسم القدوس الذي لا يعرف الموت ولا المرض ولا المكان ولا الزمان.. فهو الغني بذاته عن كل شيء.. وكل شيء مفتقر إليه، متواضع بين يديه، لا يملك لنفسه من الضر والنفع إلا ما أعطاه الله.

و (الله) هو اسم القيوم الذي لا قيام لوجودنا ولا لحياتنا.. ولا لوجود كل شيء وحياته إلا به.. فكل شيء به يقوم.. وكل شيء إليه يفتقر.

و (الله) هو اسم الرحيم الرحمن الذي ملأ الكون بمظاهر رحمته..

و (الله) هو اسم الودود الذي تودد لكل شيء.. وتودد إليه كل شيء.

وهو اسم الحنان الذي حن على كل شيء..

وهو اسم البديع الجميل الذي ملأ الكون إبداعا وجمالا.

وهو اسم السلام الذي لا يعرف الصراع.. فليس له من يصارعه، وليس ما يصارع من أجله.. فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

-\--\-

بقيت لحظات طويلة وأنا واقف في مكاني أحاول أن أختصر في ذهني المعاني العظيمة الجليلة الكثيرة التي يحملها اسم (الله).. إلى أن كدت أغيب عن بيتي وعن نفسي وعن الكون جميعا..

في تلك اللحظات المقدسة قلت لنفسي، وأنا ممتلئ همة وعزيمة: أليس من الهمة الدنية يا نفس أن ترغبي عن صحبة هذا الملك الجليل.. لتبحثي في القمامات والمزابل عن الأصنام لتطأطئي رأسك لها خاضعة ذليلة.. وتأبى الأصنام إلا أن تذيقك من الهوان ما يذيقه كل مستبد بكل

الباحثون عن الله (15)

ضعيف؟

أليس من الهوان أن تصحبي العجزة وأنت قادرة على صحبة القادر الذي لا يعجزه شيء؟

أليس من الجهل أن تصحبي الجهلة الممتلئين خرافة وأوهاما وترغبي عن صحبة العليم الذي بيده خزائن علوم كل شيء؟

أليس من الضعة أن تصحبي الفقراء الذين لا يملكون شيئا.. حتى أنفسهم لا يملكونها.. وترغبي عن صحبة الغني المالك لكل شيء.. ابتداء منك وانتهاء بأصغر ذرة في هذا الوجود؟

لكن الكدورة التي تعودت أن تغير بجحافل جيوشها على مشاعر سعادتي، فتحولها إلى ألم وشقاء.. أبت إلا أن تزورني في تلك اللحظات الممتلئة بالسعادة:

لقد قالت لي نفسي، وكأنها تسخر مني: من أنت أيها القزم الحقير، وصحبة الملك الجليل الذي تنقطع العقول والقلوب دونه؟

من أنت ـ أيها الممتلئ بالحظوظ الدنية ـ حتى تتخطى رقاب الصديقين الذين سلكوا المفاوز والقفار وباعوا كل الحظوظ، ليشتروا بذلك نعمة المعرفة بالله، ونعمة المصاحبة له؟

من أنت أيها الملطخ بالأوزار، الممتلئ بالأقذار، المدنس بأرجاس الليل والنهار.. والتطلع لصحبة الملك الجليل الجبار؟

ألا تستحيي من نفسك؟

أنت لا تليق لصحبة ملك ولا وزير.. بل ولا شرطي ولا خفير.. فكيف تتطلع لصحبة من الأمر كله بيده، منه يبدأ، وإليه ينتهي..؟

من أنت أيها..

قاطعتها، وأنا ممتلئ بالألم، قائلا: كفي عني أيتها النفس.. فلطالما كدرت سعادتي.. أنا إن لم أصحبه، فمن أصحب.. وأنا إن لم أبحث عنه فعلى من أبحث.. أليس من الدناءة أن أتركه لغيره؟.. أليس من الغبن أن أربح كل شيء، ثم أخسره؟.. أليس من العجز أن أستعمل جميع

الباحثون عن الله (16)

قدراتي من أجل تحقيق أتفه الأشياء، ثم لا أستعملها من أجله وأجل البحث عنه؟.. أليس من..؟

قاطعتني نفسي.. نفسي الأمارة بالسوء.. وقالت: وأنا.. لمن تتركني.. إن انشغلت عني به.. فمن يشتغل بمطالبي.. من يشتغل بمصالحي.. من يشتغل بأهوائي..؟

رفعت يدي، وكأني أريد أن أبطش بشيء.. لكني لم أجد سواي.. فارتخت يدي.. وامتلأت بالعجز عند ارتخائها.. وخرجت من كل تلك العوالم الجميلة بعد أن ملأتني نفسي إحباطا وكآبة.

لم أجد بعدها إلا أن أسير إلى ذلك الضيف الغريب الممتلئ بأنوار القداسة، والذي لم أعرف إلى ذلك الحين من أين جاء، ولا أين يقصد..

عندما اقتربت من غرفته سمعته يردد بصوت خاشع ما ورد في الآثار القدسية من حديث الله لعباده.. لقد سمعته يقول:

(عبدي.. متى جئتني قبلتك..

إن أتيتني ليلا قبلتك.. وإن أتيتني نهارا قبلتك.

إن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا.. وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا.. وإن مشيت إلى هرولت إليك.

لا تحجبك الخطايا عني، فلو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة..

ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك.

هل هناك من هو أعظم مني جودا وكرما..

عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم.

إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي.

الباحثون عن الله (17)

من أقبل إلي تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.

أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.

من آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.

أشكر اليسير من العمل وأغفر الكثير من الزلل.

رحمتي سبقت غضبي وحلمي سبق مؤاخذتي وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها..) (1)

-\--\-

لست أدري كيف دخلت عليه، وأنا ممتلئ فرحا وسعادة بعد أن سمعت منه هذا الحديث الرباني الجميل.

لقد دخلت، وأنا أردد بصوت مرتفع ممتلئ فخرا وزهوا: لكأن الله يخاطبني بهذا.. أنا العبد الضعيف.. لقد كانت نفسي تثبطني عن السلوك إليه وطلبه.

التفت إلي الشيخ الصالح مبتسما، وقال: النفس هي الحجاب الأكبر الذي يحول بينك وبين ربك.. فمتى سمعتها لم تسمعه.. ومتى رأيتها لم تره.. ومتى صحبتها لم تصحبه.. ومتى عشت من أجلها لم تعش من أجله.

قلت: ولكني لست سوى نفسي.. فكيف أصفعها صفعة تعيد إليها وعيها؟.. إني أراها كالمخدر الذي يرتمي في المزابل، وهو يحسب نفسه في القصور..

__________

(1) وردت هذه العبارات في أحاديث قدسية متفرقة.

الباحثون عن الله (18)

قال: عندما تنشغل به عنها ستنشغل عنك بما كلفت به من خدمتك.

قلت: لكنها لا تحول بيني وبينه فقط.. بل إنها تسرب إلي من الأوهام ما تنهد الجبال دون سماعه.

قال: ذلك سلاح من أسلحتها.. فهي إن لم تطق أن تشغلك عنه.. شغلتك بالأوهام والشبهات التي تحول بينك وبينه.

قلت: فأين المصير؟

قال: إليه..

قلت: ولكني أخاف أن يكون مصيري إلى الآلهة التي تصنعها الأوهام.. ألا ترى أن كل ملة من الملل، وكل نحلة من النحل تحسب أنها على الحق.. وأن الحق لن يتجاوزها إلى غيرها.. فما أدراني لعلي مثلها.. وأني عندما أضحك عليها لا أضحك إلا على نفسي؟

قال: لقد جعل ربك للحقائق علامات وشروطا وقوانين يستحيل أن تتخلف..

قلت: أي قوانين؟

قال: لقد خلق الله لنا العقول.. وبرمجها بالبرامج المهيأة لإدراك الحقائق.. فمن سار على ضوئها يستحيل أن يصل إلا إلى الحقائق.

قلت: أليس للبشر جميعا عقول يفكرون بها؟

قال: بلى..

قلت: فلم يختلفون إذن؟

قال: لأن فيهم من يغلب عقله.. وفيهم من يغلب هواه.. وفيهم من يمزج عقله بهواه.. وفيهم من يسخر عقله لهواه.

قلت: فكيف نميز بين ما يقوله العقل، وما يقوله الهوى؟

قال: لقد جعل الله في قدرة العقول هذا التمييز.

الباحثون عن الله (19)

قلت: لا يزال عقلي كليلا دون إدراك صدق ما تقول.

قال: أرأيت لو أن رجلا من الناس زعم لك استحالة تحول الماء إلى بخار.. كيف تخلصه من هذا الوهم؟

قلت: ما أسهل ذلك.. سأحضر نارا وماءا.. فما تلبث النار حتى تتغلب على الماء، وتحوله إلى بخار.. وحينها سيتبخر وهمه.

قال: فهكذا من سرب إليك وهمه.. أحضر له ما يتبخر به وهمه.

قلت: الأمر مختلف تماما.. ذلك ماء ونار.. وكلاهما تدركه حواسي.. ولكن الحقائق التي نتحدث عنها تختلف تماما.

قال: هي تختلف من حيث الصورة فقط.. لكنها في الحقيقة لا تختلف.. لقد جعل الله لكل حقيقة السلم الذي يصعد إليها به.. والباب الذي يدخل إليها منه.

قلت: ما دام الأمر بهذه البساطة.. فلم كانت أعقد قضية في هذا الوجود هي معرفة الله؟

قال: لقد عرفت أن النفس هي أكبر حجاب بين الإنسان وبين ربه.. ولذلك فإنها إن لم تطق أن تملأ القلوب والعقول غفلة أسرعت فملأتها أوهاما.

قلت: لم تسرع إلى الأوهام؟

قال: لتعبد من خلالها.. فالنفس في طغيانها لا تردد إلا ما ردده فرعون عندما قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ((النازعات: من الآية 24).. بل إنها لا ترضى بالشرك، ولذلك، فهي تردد مع فرعون قوله: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ((القصص: من الآية 38).. ولذلك فهي تلبس من الألبسة المختلفة ما تعبد به من خلالها.

قلت: أكل أولئك الذين لم يعبدوا الله كانوا يعبدون أنفسهم؟

قال: أجل.. فكل من لم يعبد الله لابد أن يقع في عبادة هواه.. وقد قال (: (ما تحت ظل

الباحثون عن الله (20)

سماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع) (1)

قلت: المسيحيون واليهود والبوذيون.. وكل أولئك الجموع..

قاطعني وقال: كل أولئك الجموع.. حتى الكثير من المسلمين ممن امتلأت عقولهم بالأهواء.. هم لا يعبدون إلا الأوهام.. ولا يركعون إلا للأوهام.. وإذا سجدوا لا يسجدون إلا للأوهام.

قلت: أراك تملؤني مخافة.

قال: من لم يخف في هذا الباب لن يصل إلى شيء.. ومن لم يحرص في هذا الباب فلن يطمع في شيء.

قلت: ما تعني؟

قال: ألا ترى الخلق كيف يحرصون من أجل مصالحهم المحدودة.. فيتحرون ويدققون في التحري حتى لا يقعوا في أحبولة أي محتال؟

قلت: أجل.. وقد اخترعوا لذلك القوانين الكثيرة التي تحميهم من دجل الدجالين واحتيال المحتالين وزيف المزيفين.

قال: ولكنهم في هذا الباب تجدهم.. أو تجد أكثرهم يصم أذنيه، ويغلق عينيه.. ولا يكاد يتساءل عن الحقيقة.

قلت: لم أفهم ما الذي ترمي إليه؟

قال: لو أن البشر.. جميع البشر.. تعاملوا مع الله كما تعاملوا مع الأطباء.. لصاروا كلهم مسلمين لله خاشعين لله ظافرين بالله.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا تراهم لا يسلمون أجسادهم إلا لمن يثقون فيهم من الأطباء ممن تبين لهم أنهم قد

__________

(1) رواه الطبراني وأبو نعيم.

الباحثون عن الله (21)

حصلوا من العلوم ما يصلح لأن يسلموا أجسادهم لهم؟

قلت: أرى ذلك.. بل إنهم أحيانا يحتاطون لذلك أعظم الاحتياط، فيختارون أكثرهم خبرة وتجربة.

قال: فلو أن هؤلاء تعاملوا مع ربهم على هذا الأساس.. فراحوا يتحرون عن إلههم..

انتفضت غاضبا، وأنا أقول: التحري لا يكون إلا عن المجرمين.

رد علي بهدوء: صدقت.. ولذلك لابد من التحري.

قلت: كيف يتحرى عن الله.. التحري لا يكون إلا على المجرمين؟

قال: لأن هناك كثير من المجرمين ملأوا هذا الباب خرافات وأباطيل راحت تزاحم الله.. فلذلك لن تسلم لأحد معرفته بالله حتى يخلص عقله من الأوهام التي يسربها المجرمون.

قلت: التحري يكون بين جمع من الأطباء.. فكيف يكون التحري في معرفة الله؟

قال: مثل التحري بين الأطباء.. فهناك (الله) الحقيقي.. الذي خلق هذا الكون ودبره.. وهناك آلهة كثيرة مزيفة أنشأتها النفوس المدنسة تريد أن يمنح لها من القداسة ما يمنح لله.. ولا ترضى بدون ذلك.

قلت: وما أدرانا أن يكون (الله) الحقيقي بين هذه الآلهة الكثيرة المزيفة.. ألا يمكن أن لا يكون لأي أحد من الناس الحقيقة المرتبطة بهذا؟

قال: ذلك مستحيل.. فالله الذي خلق هذا الكون ودبره.. بل دبر أبسط ذراته يستحيل أن يترك هذا الكون من غير أن يعرفه بنفسه.

قلت: فكيف نصل إلى تلك المعرفة؟

قال: بالسيرين.. السير العقلي.. والسير الحسي.. بكليهما تستطيع هذه البشرية التائهة أن تصل إلى ربها الحقيقي وتميزه عن الآلهة الكثيرة المزيفة..

قلت: فهل سرت مثل هذا السير؟

الباحثون عن الله (22)

قال: لقد رزقني الله في رحلة من رحلاتي من اختصر لي الكثير من الأسفار.. وقد رزقني الله في تلك الرحلة من الأشعة الهادية إلى شمس محمد (ما لا يمكن للعقل وصفه.

قلت: فهل ستحدثني عنها؟

قال: أجل.. فلا يمكن لمن لم يتنعم بهذا النوع من الأشعة أن يعرف محمدا (.. فلا يعرف محمدا (من لا يعرف الله.. فلا يعرف الرسول من لم يعرف مرسله.

-\--\-

اعتدل الشيخ الصالح في جلسته، وحمد الله، وصلى وسلم على نبيه (مستغرقا في كل ذلك.. ثم قال: في يوم من أيام الله المملوءة بالنفحات والبركات.. شعرت فجأة بمشاعر ملحة تدعوني للبحث عن الله..

وقد بدأني ذلك الشعور، وأنا أنظر إلى المرآة.. وقد أرعبني ما رأيته من شيب يشتعل في رأسي كما يشتعل النار في الهشيم..

لم أحزن في ذلك الحين على دنيا فاتتني.. فقد بدأ الزهد يملأ قلبي أنفة من الدنيا ورغبة عنها.

ولم أحزن على لذات أو شهوات تتحرك لها النفوس.. فقد امتلأت بالعفة التي جعلت بيني وبينها من الحواجز ما نغصها في عيني.

لم أحزن على أي شيء.. فكل شيء لا يستحق أن يحزن عليه.

ولكني عندما تذكرت (الله) امتلأت هما وغما..

لقد قلت لنفسي: ها هو قطار العمر يمضي إلى محطته النهائية.. وقد ركب الكل في عربات قطاري.. الكل ما عدا (الله) (1)

لقد جلست مع الكل، ولكني لم أجلس مع الله لحظة واحدة.

واتصلت بالكل، ولكني لم أتصل بالله.

__________

(1) لا يخفى ما في هذا التعبير من المعاني.. فالمراد بـ (الله) هنا هو معرفة الله والاتصال به لا ذات الله..

الباحثون عن الله (23)

وبحثت عن الكل، ولكني لم أبحث عن الله.

أصابني ألم عظيم، وأنا أردد في ذهني المقولة التي سمعتها كثيرا في جميع ديار الإسلام (إلهي ماذا وجد من فقدك.. وماذا فقد من وجدك)

في تلك الأيام كنت أردد هذه العبارة كثيرا.. إلى أن سمعني مرة أخي، وكان رجلا من كبار رجال الكنيسة.. فاستدعاني إلى مكتبه، وقال: أعرف المشاعر التي تشعر بها.. لقد مررت مثلك بهذه المرحلة.. ولم يعالجني منها إلا مؤتمر كبير لعلماء اللاهوت.. حضرته.. وهناك عرفت الله، واتصلت به، وسمعته..

قلت: أنت!؟.. كيف لم تخبرني؟

قال: ألست إنسانا؟.. إن كل إنسان يحن إلى مصدره.. كل إنسان يحن إلى ربه..

لست أدري كيف قلت من حيث لا أشعر: أنت مسلم إذن؟

غضب أخي غضبا شديدا، وقال: مسلم!؟.. وما علاقة الإسلام بهذا؟

تداركت الموقف، وقلت: لا أعني بالإسلام دين الإسلام.. وإنما أعني به الاستسلام لله والركون إليه والخضوع بين يديه.

قال: صدقت في هذا.. فليس هناك ما يعبر عن تلك الروحانية مثل هذه اللفظة.. لولا أن شوهها الإسلام.

قلت: كيف شوهها؟

قال: ألا تعلم الصورة المشوهة التي يحملها المسلمون عن ربهم؟

قلت: كنت أتصور أن ربنا وربهم واحد.. وأننا لا نختلف كثيرا في تصورنا لله، وإنما نختلف فيما عدا ذلك.

قال: أنت لا تعرف عقيدة المسلمين في الله إذن.. إن المسلمين يحملون صورة من أخطر صور الانحراف عن الله..

الباحثون عن الله (24)

إن ربهم الذي يدينون له بالعبودية ليس إلا إفرازا من إفرازات الحقد التي تمتلئ بها نفوسهم..

إن إلههم ماكر ومخادع ومستهزئ.. وهو منتقم جبار.. وهو ينسى ويمل.. وهو..

قاطعته وأنا أقول: أهذه عقيدة المسلمين في الله؟

قال: هذه بعض عقيدة المسلمين في الله.. ليتك كنت قد حضرت معنا ذلك المؤتمر لتسمع بأذنيك من التشويهات ما لا يتحمله عقلك وقلبك.

قلت: ألا يمكن أن تكرر مثل هذه المؤتمرات؟

قال: من حسن حظك أن هناك مؤتمرا سينعقد في هذه الأيام في البلاد التي كانت مقرا للشيوعية في يوم من الأيام.. نحن نريد أن نعيد إحياء الإله الذي قام الشيوعيون بقتله هناك.. وقد أرسلت إليك لأجل ذلك.

قلت: وما دوري في هذا المؤتمر؟

ضحك، ثم قال: أريد أن أرسلك لتقوم بعملية غسيل لدماغك الذي ملأه المسلمون بالشبهات.

قلت: إن كان الأمر كذلك.. فسأكتفي بغسل دماغي هنا ولا حاجة بي للسفر الطويل من أجل هذه المهمة؟

ابتسم، وقال: كنت أمزح فقط.. أنا أعلم صعوبة إقناع أي شخص لك.. عداي..

قلت: ما دام الأمر كذلك.. فما الوظيفة التي تريد إسنادها لي في هذه الرحلة؟

قال: سأرسلك مرافقا للهيئة العلمية التي يرسلها الفاتيكان لحضور هذا المؤتمر.. وكل هذه الهيئة من العلماء الراسخين في العلم ممن تثق الكنيسة في قدراتهم.

قلت: ما أعظم سروري بهذه الوظيفة..

قال: فحضر نفسك لحضور هذا المؤتمر، فليس بيننا وبينه إلا أيام معدودات.

-\--\-

الباحثون عن الله (25)

كانت تلك الأيام التي انتظرت فيها تلك الرحلة الموعودة طويلة ثقيلة مملة.. لقد كنت أعد ساعاتها ساعة ساعة، ودقيقة دقيقة، وثانية ثانية..

كنت أرقب قرص الشمس كل يوم في انتظار تلك اللحظات التي أسمع فيها الحديث عن الله.. لأزيد من خلالها معرفتي بالله.. لأني علمت علمت علم اليقين أنه لا يمكن أن أتصل بالله إلا من خلال معرفتي به.

في عشية تلك الرحلة قدر الله لي أن ألتقي بمعلمك معلم السلام.

قبل غروب الشمس بلحظات كنت بجانب بيتي أسير.. فإذا بي ألمحه من بعيد.. فأسرعت إليه.. وأمسكت بيده، وقلت: ها أنت أخيرا بجانب بيتي.. لابد أن تدخله.. لا بد أن أتشرف باستضافتك اليوم.. لطالما حلمت بهذا.

نظر إلي مبتسما، ثم قال: أترى أن دخولي بيتك سيسرك؟

قلت: لا يسرني شيء مثل دخولك بيتي.

قال: لم؟

قلت: أراك رجلا ممتلئا حكمة.. وليس هناك أشرف من أن تدخل الحكمة بيتك.

ابتسم، وقال: وكيف تدخل الحكمة إلى البيوت؟

قلت: بدخول أهلها.. إذا دخل الحكماء دخلت الحكمة معهم.

قال: ألا أدلك على من هو أشرف مني وأكرم.. وهو أولى مني بالدخول إلى بيتك؟

قلت: من هو؟

قال: لقد ذكرت لك أن مهمتي هي الدلالة لا التعريف.. فلذلك سأصفه لك.. لتبحث عنه.. ثم لتدخله بيتك.. بيتك الذي لا تنهد جدرانه.

قلت: أهناك بيت لا تنهد جدرانه؟

قال: أجل.. هو بيتك الحقيقي الذي يسير معك حيث رحلت، ويأوي معك حيث أويت.

الباحثون عن الله (26)

قلت: أراك تقصد قلبي؟

قال: أقصد قلبك وعقلك وروحك وحقيقتك.. فهذه المحال هي بيتك الحقيقي الذي لا تفارقه ولا يفارقك.

قلت: فصف لي من تراه أهلا ليسكن فيه.

قال: لا تدخل بيتك معدوما.. فالعدم هباء.. ولن تنال من الهباء إلا ما يناله الظمآن من السراب.

قلت: وهل يمكن لأحد عاقلا كان أو مغفلا أن يدخل بيته معدوما؟

قال: ما أكثرهم.. إنهم ينتشرون في الأرض.. ويملأون قاراتها.. وليس في بيوت قلوبهم وعقولهم إلا الهباء.

قلت: هذه الأولى.. فما الثانية؟

قال: إن اجتمعت الحكمة في واحد.. فاكتف به.. فلن يفيدك التعدد إلا التشتت.. ولن يفيدك التشتت إلا التمزق والضياع.

قلت: فما الثالثة؟

قال: لا تدخل بيتك مدنسا.. فالمدنس يوشك أن يدنسك، ويدنس حقيقتك..

قلت: فما الرابعة؟

قال: لا تدخل بيتك إلا كاملا اجتمع له الكمال بجميع معانيه.

قلت: فما الخامسة؟

قال: لا تدخل بيتك إلا بديعا اجتمع له الجمال بجميع معانيه.

قلت: فما السادسة؟

قال: لا تدخل بيتك إلا من لا ملك لأحد عليه.. وهو فوق ذلك ملك الملوك.

قلت: فما السابعة؟

الباحثون عن الله (27)

قال: لا تدخل بيتك إلا عدلا اجتمع له العدل بجميع معانيه.

قلت: فما الثامنة؟

قال: لا تدخل بيتك إلا رحيما اجتمعت له الرحمة بجميع معانيها.

قلت: فما التاسعة؟

قال: لا تدخل بيتك إلا الودود المحب الذي لا يريد لك ولا يريد منك إلا الخير.

قلت: فما العاشرة؟

قال: لا تدخل بيتك إلا المقصود في كل الحوائج.. فمن الغبن أن تدخل من يردك أحوج ما تكون إليه.

قلت: أراك تشير إلى الله.

قال: إن كان (الله) هو اسم الذي ذكرت أوصافه.. فلا يصح للعاقل أن يغفل عن البحث عنه، أو يغفل عن الاتصال به.

قال ذلك، ثم سار، وتركني كعهدي به.

-\--\-

في صباح اليوم التالي قصدت المطار.. وهناك رأيت عشرة من الرجال.. كلهم قد امتلأ شعره بالشيب الذي ملأ شعري.. بل إن بعضهم أحنت ظهره الأيام، فطأطأ رأسه لها.

ذهبت إليهم وسلمت عليهم واحدا واحدا.. ثم ركبنا الطائرة.. وقد قدر الله أن لا نصل إلى مبتغانا..

لقد حصل للطائرة ـ ونحن في وسط الطريق ـ من العطب ما كاد يقضي على حياتنا.. ولولا مهارة السائق لكنا جميعا في عداد الموتى.

لكن السائق بعد جهد جهيد استطاع أن يحط بها في غابة موحشة ممتلئة بالظلمات والبرد الشديد..

الباحثون عن الله (28)

وقد ملأنا السائق والطاقم الذي معه حزنا حين أخبرنا أن كل أجهزة الطائرة قد حصل لها من العطب ما يحول بينها وبين أي تحرك.. بل حصل لكل أجهزة الطائرة من العطب ما يحول بينها وبين الاتصال بأي جهة من الجهات.

ثم عاد وأخبرنا بأننا في مكان يستحيل على أي جهاز في الدنيا أن يرقبه.. فالباحث في تلك الغابة كالباحث عن إبرة في كومة عظيمة من القش.

قالوا لنا ذلك.. ثم راحوا يوزعون علينا ما بقي من الزاد القليل..

بقينا في تلك الغابة شهرا كاملا إلى أن أدركنا الله بفرجه..

قلت: كيف حصل ذلك، وقد أخبركم السائق أنكم في مكان لا يمكن أن يتعرف عليه أحد من الناس؟

قال: لا تعجل.. فإن لذلك قصة كانت هي المفتاح الأكبر الذي اهتديت به إلى الإسلام.. بل إني في نهاية رحلتي هذه أعلنت لربي استسلامي له، وإسلامي بين يديه..

امتلأت سرورا، وقلت: كيف كان ذلك؟

قال: سأحكي لك الحكاية من البداية.. فلا يمكن أن تفهم النهاية من دون العروج على البداية.

قلت: لقد ذكرت لي أن الطائرة نزلت بكم في ذلك المحل الموحش الذي لا يمكن أن يعرفه أحد من الناس.

قال: أجل.. وقد تقلبت بنا الأحوال في تلك الأيام تقلبات عجيبة.

أما في الأيام الأولى.. حيث كان الزاد موفرا، فقد انشغلنا، وانشغل الكثير منا باللهو واللعب.. وكأن الموت لا ينتظرنا، بل إن بعضنا عندما عوتب في لهوه ولعبه، قال ما قال قبله امرؤ القيس: اليوم خمر، وغد أمر.. وقال آخر: دعني.. لأن أموت وأنا أضحك خير من أن أموت وأنا أبكي.

الباحثون عن الله (29)

هذا في الأيام الأولى..

أما عندما بدأ الزاد ينفذ، وبدأت الحقيقة تنجلي.. فقد بدأ الإحباط ينشر أشعته على أكثر من امتطوا معنا الطائرة مع كون الكثير منهم من المثقفين.. بل إن الأمر وصل ببعضهم إلى حد الانتحار، ووصل بآخرين إلى حد الجنون..

ففي يوم من تلك الأيام الممتلئة بالغفلة سمعنا صوتا مزعجا، فأسرعنا إلى مصدره، فوجدنا أحد رفاقنا قد طعن نفسه بخنجر قاتل.. بحثنا في ثيابه عن هويته، فتعجبت إذ رأيت أن اسمه عربي.. كان اسمه (إسماعيل أدهم) (1).. ولكن عجبي زال عندما رأيته في جواز سفرته رحلاته الكثيرة إلى روسيا في الوقت الذي تزعمت فيه الإلحاد في العالم.. وزال عجبي أكثر عندما رأيت

__________

(1) أشير به إلى إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم باشا أدهم: عرفه صاحب الأعلام بأنه عارف بالرياضيات، وله اشتغال بالتاريخ، ولد بالإسكندرية وتعلم بها، ثم أحرز الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام 1931، وعين مدرساً للرياضيات في جامعة سان بطرنسبرج، ثم انتقل إلى تركيا فكان مدرساً للرياضيات في معهد أتاتورك بأنقرة، وعاد إلى مصر سنة 1936 فنشر كتاباً وضعه في (الإلحاد) وكتب في مجلاتها، أغرق نفسه بالإسكندرية منتحراً.

وقد وجدت الشرطة في مساء الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1940 م جثته طافية على مياه البحر المتوسط، وقد عثرت في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين ويطلب إحراقها.

قال في رسالته التي سماها (لماذا أنا ملحد؟) متحدثا عن نفسه: (أسست جماعة لنشر الإلحاد بتركيا، وكانت لنا مطبوعات صغيرة أذكر منها: ماهية الدين، وقصة تطور الدين ونشأته... وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك تحويل اسم جماعتنا إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد)

وقد رد على رسالته هذه: الدكتور أحمد زكي أبو شادي برسالة عنوانها: (لماذا أنا مؤمن؟)، ورد عليها محمد فريد وجدي بمقالة عنوانها (لماذا هو ملحد؟)

وقد كان له من العمر عند انتحاره تسعة وعشرون سنة؛ فكانت نهايته نهاية مأساوية لشاب موهوب، قال عنه الأستاذ أحمد حسن الزيات: (كان شديد الذكاء.. واسع الثقافة)، وقال عنه الأستاذ محمد عبد الغني حسن بأنه صاحب (ذهن متوقد لامع)، كان الأول على دفعته في البكالوريا، ثم حاز الدكتوراه وألّف مؤلفات كثيرة، ودرّس، وكان يحسن التحدث بست لغات، كل هذا وهو في هذا العمر.. (انظر: الأعلام للزركلي (1/ 310 بتصرف). وله ترجمة في الأعلام الشرقية لزكي مجاهد (ص 858 - 860)، وفي تراجم عربية، لمحمد عبد الغني حسن)

الباحثون عن الله (30)

عضويته في جمعية اسمها (المجمع الشرقي لنشر الإلحاد).. وزال عجبي أكثر من ذلك كله عندما رأيت في حقيبته كتابا من تأليفه سماه (لماذا أنا ملحد؟)

وفي يوم آخر.. بل في اليوم التالي لذلك اليوم، أصيب آخر بالجنون، وكان في جنونه كثيرا ما يردد، وكأنه يخطب في المجامع قوله: (الجداول الرياضية) و(الطاقة الذرية) و(الطاقة الهيدروجينية) و(طائرات الميغ) و(الأقمار الصناعية) و(حضارة القرن العشرين) و(موسكو) و(نهر الراين) و(جبال هيمالايا)

ثم يصيح بصوت عال، وبهستيرية: (إن الله قد مات، أو هو في طريقه إلى الموت)..

ثم يسير كما يسير في الجنازات.. وهو ممتلئ حزنا وهما، وهو يقول: (إن كان من شأن فكرة الله أن تسقط ضلال الخطيئة على براءة الأرض، فإنه لابد للمؤمنين بالحس الأرضي أن يهووا بمعاولهم على تلك الفكرة)

ويقول: (طوبى لأتقياء القلب، لأنهم لا يعاينون الله.. لقد صرنا بشراً، ولهذا فإننا لا نريد إلا ملكوت الأرض، إلى أين مضى الله؟ سأقول لكم إلى أين مضى؟ لقد قتلناه، أنتم وأنا.. أجل، نحن الذين قتلناه، نحن جميعاً قاتلوه، ألا تشمون رائحة العفن الإلهي؟ إن الآلهة أيضاً تتعفن، لقد مات الله وسيظل ميتاً)

سألت صاحبا له عن سر الرجل، وسر كلماته، فقال: هذا نيتشة.. وهو رجل كان في أصله مؤمنا.. ولكنه كان ضعيفا في إيمانه.. وقد بلغ به الانبهار بالحضارة الحديثة إلى أن أسلم كيانه كله لها.. وقد سقط بين يدي جماعة كانوا كل حين يحشرون له الإلحاد تحت هذه العبارات.. وها أنت ترى المسكين قد نسي كل علومه، ولم يبق له منها إلا هذه الألفاظ يرطن بها.

في يوم آخر بعد ذينك اليومين المشؤمين، جن رجل آخر.. كان اسمه (أوجست كونت) (1)..

__________

(1) أشير به إلى (أوجست كونت) (1798 - 1857) عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي، أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن، أكد ضرورة بناء النظريات العلمية المبنية على الملاحظة.

أسس المذهب الوضعي القائل ان لا سبيل إلى المعرفة إلا بالملاحظة والخبرة، وهو يرى أن تاريخ البشرية ينقسم إلى ثلاث مراحل من التقدم الشامل: المرحلة الدينية؛ والمرحلة الميتافزيقية، ثم المرحلة العلمية.

وقد قدم مقترحات على جانب كبير من التعقيد لإقامة دولة وضعية تقوم على صفوة من علماء الاجتماع لإدارة المجتمع وتوجيهه.. من أهم أعماله كتاب (الفلسفة الوضعية) الذي ظهر لأول مرة في ستة أجزاء (1830 - 1842)

وننبه إلى أن كل ما ذكرنا في الرواية عن سميه كان قد حصل له مع بعض التصرف الذي اقتضاه المقام.

الباحثون عن الله (31)

كان اسمه يشبه اسم ذلك الفيلسوف الفرنسي المعروف.. وكان في مظهره ومخبره لا يكاد يختلف عنه.. وقد عجبت له في جنونه إذ كان يقف كهيئة المصلي.. ولكنه لا يردد في صلاته إلا اسم امرأة لست أدري من كانت بالنسبة له.

أهمني أمر هذا الرجل.. فرحت أسأل عنه إلى أن ظفرت برجل من أهل بلده كان صديقا له.. وقد أخبرني أن هذه النوبة من نوبات الجنون كانت تعرض له كل مرة يتعرض فيها لأي أزمة..

وأخبرني أنه في صغره لما بلغ سنّ الرابعة عشرة من عمره نبذ الإيمان بمبادئ الدين.. وأنه حينها عكف على كتب الفلسفة، معتمداً على قراءته الخاصة لا سيما كتب (هيوم) و(دي مستر) و(دي بونالد)

وأخبرني أنه تعرّف بعد ذلك على كاتب من أهل بلده يسمى (سان سيمون)، وأن هذا الكاتب كان من رواد المذهب الاشتراكي في ذلك الحين..

وأخبرني أنهما اتفقا على الاشتغال معاً بالعلم والسياسة، أما (سان سيمون) فقد كان شغوفاً بالسياسة وذا بصر نافذ فيها، وأما (أوجست كونت) فقد كان شغوفاً بالعلم، وغير مهتم بالأمور السياسية.

وأخبرني أنه افترق بعد ذلك عن أستاذه، لأنه كان يختلف معه في الاتجاه.. وانصرف بعدها للمطالعة والبحث طلبا لأن يصير مثل سميه الفيلسوف الفرنسي..

لكن المسكين ما إن ألقى ثلاث محاضرات إلحادية حتى انتابته أزمة عقلية، فعُنِيَتْ بِهِ زَوجته،

الباحثون عن الله (32)

حتى عاد إليه اتزانه العقلي، فاستأنف محاضراته بعدها.

ولم يطل به الوقت حتى تعرض لأزمة عقلية أخرى، كان من أسبابها هيامه بسيدة تعرَّف عليها، ثم توفاها الأجل بعد سنتين فقط من تعرفه عليها، فأخذ منها دينا سماه (الإنسانية)، وكان يتوجه لها كل حين بالفكر والصلاة كل يوم.

في يوم آخر.. انتحر رجل آخر عرفت بعد انتحاره أن اسمه (فان جوخ) (1).. وأنه من هولندا.. وكان كسميه الرسام المشهور مستغرقا طول الوقت في لوحاته.. وتنتابه بين الحين والحين نوبات صرع كان يصيح فيها صياحا لا يزيدنا إلا أسى ومرارة..

لم يكن ملحدا.. ولكنه كان يحمل صورة مشوهة عن الإله.. وكان تصوره للحياة لذلك مملوءا بالكدورة.. فقد كان يتصور أن الله يتسلى بتعذيب عباده.. وأنه لم يخلقهم إلا ليعذبهم بأصناف العذاب..

لم يكن راضيا عن هذا التصور الذي كان يصرخ به كل حين.. ولكن المسكين لم يجد من يصحح له هذا التصور..

في ذلك اليوم وجدناه مشنوقا.. وأمامه لوحة من لوحاته كلها سواد.. وقد كتب فيها عبارة فيها من التهجم على الله والاعتراض عليه ما لا يطيق لساني التعبير عنه.

وبجانبها عبارة أخرى لا تقل عنها بذاءة.. ولكنه وجهها لرجال الدين..

قال لي صاحبه: لقد كتب في لوحته هذه ما ظل طول عمره يحلم بأن يقوله لكنه لم يطق.

قلت له: لم؟

قال: لقد شعر ذات يوم بحاجته إلى الله.. فراح يبحث عنه.. لكنه اصطدم برجال صوروا له صورة مشوهة عن الله.. ولم يكن للمسكين القدرة على أن يعارضهم، فكتم ذلك في نفسه إلى أن

__________

(1) أشير به إلى (فان جوخ، فينسنت) (1853 - 1890 م).. وهو واحد من أكثر الرسامين شهرة في فن التصوير التشكيلي.. وقد انتحرعام 1890 م.

الباحثون عن الله (33)

باح به في هذا الموقف.

قلت: فلم لم يبحث عند غيرهم؟

قال: لقد ذكرت لك عجزه.. لقد قعد به العجز عن البحث.. فلذلك استسلم.. وتعذب باستسلامه.. وقد كانت نهايته ما رأيت.

-\--\-

بعد هذه الحوادث وغيرها رأيت خوفا كبيرا بدأ يدب إلى قلوب المسافرين معنا.. وقد استحث ذلك بعض المسافرين معنا، وكان – على ما يبدو رجلا حكيما – لكني لم أعرف سره إلى الآن.. لقد استحثه ذلك على أن يجمع من بقي من المسافرين عدانا، ثم ينفرد بهم، ويناجيهم ويناجونه بما لم نتمكن من سماعه..

وبعد تلك المناجاة أتوا إلينا، وقالوا: لقد علمنا أنكم رجال عارفون بالله.. وأنكم ما خرجتم من بلادكم إلا لتعرفوا الخلق بالله.. فهيا عرفونا بربنا لندعوه لينقذنا مما نحن فيه..

قال رجل منهم: نحن من بلاد مختلفة.. منا من يؤمن بالله.. ومنا من لا يؤمن به.. ونحن نختلف فيما بيننا اختلافا شديدا في معارفنا المرتبطة بالله.. ولا يمكن لدعواتنا أن ترتفع للآلهة المزيفة.. فلذلك لا مناص لنا من البحث عن الإله الحقيقي حتى نرفع أكفنا بالضراعة إليه.

قال آخر: نحن كمرضى نحتاج إلى طبيب.. ولذلك نحتاج إلى التعرف على الطبيب قبل أن نطلب منه أن يعالجنا.. حتى لا نسلم أجسادنا للدجالين.

قال آخر: في موقفنا هذا لا تجدينا إلا الحقائق.. فحدثونا بالحقائق لا بالرسوم.. فقد فنيت في موقفنا هذا كل الرسوم.

طأطأنا رؤوسنا جميعا.. ثم ركنا إلى صمت طويل.. قطعه أحدنا بقوله: اسمحوا لي أيها الجمع أن أعترف الآن بين أيديكم في هذه اللحظات ـ التي ربما تكون آخر لحظات حياتي ـ بأني لم أكن مسافرا للتعريف بالله.. وإنما كنت مسافرا للتجارة بالله..

الباحثون عن الله (34)

سرت ضوضاء في الجمع الملتف بنا، قطعها بقوله: لا تتعجبوا.. هذه هي الحقيقة التي كنت أتفنن في سترها بأنواع الطلاء.. نعم أنا مكلف بأن أقدم محاضرة تحاول أن تعرف بالله.. ولكنها في الحقيقة محاضرة لم تؤسس إلا على مطامعي وأهوائي، لا على الحقائق التي تفرضها العقول، ويدعو إليها المنطق.

قال آخر: مثلك أنا في هذا.. فلم أخرج من بلدي إلا لأنصر مذهبي وطائفتي سواء كان الحق معها أو لم يكن.. ولا يمكن لمن هذا حاله أن يمسك إلا بالسراب.

قال آخر: ومثلكما أنا في ذلك.. لقد صنعت صنما لإلهي، وعجنته بجميع أهوائي.. وقد حملته معي لأقدم له من الإشهار ما تخدم به مصالحي، وتنتصر به أهوائي.

ردد أصحابي الباقون ما ردد هؤلاء.. فقال رجل من الجمع: فماذا نفعل إذن.. كيف نبحث عن ربنا.. فلا يمكن لدعواتنا أن تصل إلا إلى الله الحقيقي.. هكذا أخبرنا الحكيم؟

الباحثون عن الله (35)

أولا ـ الله

بعد صمت طويل ممتلئ بالألم، قام أحدنا، وكان – على ما يبدو – أكبرنا سنا، وقال: سأحدثكم أنا عن بعض لحظات الصدق التي عشتها عساها تكون مقدمة لبحثنا عن الله.. بل لا يمكن لمعرفتنا بالله إلا أن تؤسس عليها.

في البداية أعرفكم بأن اسمي (آرثر شوبنهاور) (1).. كنت في يوم من الأيام تلميذا من تلاميذ أكبر الملاحدة الذين عرفهم العالم.. فلذلك لم أكن أعرف الله، ولم أكن أؤمن بوجوده.

لقد امتدت بي هذه الحال أعواما طوالا.. كنت حينها أصيح بملء في ساخرا من المتدينين، أقول لهم عابثا أو ماجنا (2): (أنتم تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق.. ولا بد لكل صنعة من صانع.. ولا بد لكل موجود من موجد.. صدقت وآمنت.. ولكن أخبروني

__________

(1) نشير به إلى (آرثر شوبنهاور) (1788 - 1860 م)، وهو فيلسوف ألماني، ولد في دانزيج (غدانسك ببولندا).. أهم أعماله: العالم رغبة وعَرَض (عام 1819 م، الطبعة الثانية عام 1844 م). إضافة إلى مجموعة مقالات بعنوان باريرجا وباراليبومينا عام (1851 م) جلبت له شهرة عالمية حتى نهاية حياته.

وقد اخترناه هنا بسبب كون آرائه من الدعائم التي اعتمد عليها الإلحاد في العصر الحديث، فقد كان فكره يدور حول (أن الدين هو من صنيعة البشر ابتكروها لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض منه تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب ما يراه مؤسس الدين مناسبا وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية وأنه من المستحيل أن تكون كل هذه الديانات من مصدر واحد فالاله الشديد البطش الذي أنزل 12 مصيبة على المصريين القدماء وقتل كل مولود أول ليخرج اليهود من أرض مصر هو ليس نفس الإله الذي ينصحك بأن تعطي خدك الآخر ليتعرض للصفع دون أن تعمل شيئا)

وقد تزامنت هذه الأفكار مع أبحاث تشارلز داروين الذي كان مناقضا تماما لنظرية نشوء الكون في الكتاب المقدس وأعلن فريدريك نيتشه من جانبه موت الخالق الأعظم وقال: إن الدين فكرة عبثية وجريمة ضد الحياة إذ أنه من غير المعقول أن يعطيك الخالق مجموعة من الغرائز والتطلعات وفي نفس الوقت يصدر تعاليم بحرمانك منها في الحياة ليعطيك إياها مرة اخرى بعد الموت.

(2) بعض الحكاية المذكورة هنا منقولة بتصرف من كتاب (رحلتي من الشك إلى الإيمان...) لمصطفى محمود، وهو كتاب يؤرخ فيه المؤلف للطريق الذي سلكه للإيمان.

الباحثون عن الله (36)

من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته.. فإذا كان قد جاء بذاته، وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر.. فلماذا لا يصح في تصوركم ـ أيضاً ـ أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق، وينتهي بذلك الإشكال الذي تطرحونه)

كنت أقول هذا وأنا ممتلئ زهوا وفخرا، فتصفر من حولي الوجوه، وتنطلق الألسنة تمطرني باللعنات، وتتسابق إليّ أحيانا اللكمات.. أما أصحاب القلوب التقية فيكتفون بأن يستغفروا لي ويطلبون لي الهداية.. أما المتمردون، فيجدوني فرصتهم السانحة، فيجتمعون معي ويتزلفون إلي.

لست أدري هل كان ما أتفوه به هو حقيقة ما كان يملأ وجداني، أم أن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح، وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها كان هو الحافز والمشجع والدافع.. لست أدري.. وإلى الآن لا أزال لا أدري.

لكن الذي أدريه هو أني رفضت التسليم بوجود الله لسبب واحد هو أني استغرقت في عبادة نفسي، وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة.

كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي كان يتكرر كل يوم..

لقد غاب عني حينها المنطق الذي كنت أدعيه.. فلم أدرك ـ بسبب عبوديتي لنفسي ـ أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق، ثم أقول: ومن خلق الخالق، فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً، وهي السفسطة بعينها..

هذه بدايتي.. وقد احتاج الأمر مني بعدها سنين طويلة من الغرق في الكتب، والغرق في التأمل، والحوار مع النفس، وإعادة النظر وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطريق الشائكة التي أيقنت من خلالها بوجود الله.

لم يكن الأمر سهلاً.. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً.. فلو أني أصغيت إلى صوت الفطرة، وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل.. ولقادتني الفطرة إلى الله..

الباحثون عن الله (37)

ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء، وضعف صوت الفطرة حتى صار همساً، وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً..

لقد كنت أردد في تلك الفترة مع سميي (آرثر شوبنهاور) دعواه بأن الدين بما يحمله من العقيدة في الله هو من صنيعة البشر ابتكروه لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية.. وأن الغرض منه لا يعدو تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب مايراه مؤسس الدين مناسبا، وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية.

وكنت أردد مع كارل ماركس بأن الدين أفيون الشعوب.. فهو يجعل الشعب كسولا وغير مؤمن بقدراته في تغيير الواقع، وأن الدين تم استغلاله من قبل الطبقة البورجوازية لسحق طبقة البسطاء.

وكنت أردد مع سيغموند فرويد دعواه بأن الإله وهم كانت البشرية بحاجة إليه في بداياتها، وان فكرة وجود الاله هي محاولة من اللاوعي للوصول إلى الكمال في شخص مثل أعلى بديل لشخصية الأب.

كانت الصيحة التي غمرت العالم حينها هي.. العلم.. وليس إلا العلم.. ولا شيء غير العلم.

كان أكثر المثقفين يصيح: (لنرفض الغيبيات، ولنكف عن إطلاق البخور، وترديد الخرافات)

وكان كثير من العامة يردد: (من يعطينا الدبابات والطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات)

قام رجل من الجمع، وقال: لكأنك تتحدث عن الكثير منا.. كلنا ذلك الرجل.. كلنا قد بهرنا العلم.. وكلنا قد بهرتنا منجزات هذه الحضارة حتى انصرفنا انصرافا كليا عن الله..

والشأن ليس في أن تحدثنا عن هذا.. وإنما الشأن أن تحدثنا في كيفية خروجك منه.

الباحثون عن الله (38)

قال آرثر: صدقت.. فما يجديكم أن تعرفوا ذلك الماضي المر الذي عشته.. ولذلك سأمر بكم إلى المسلك الذي أخرجني الله به من تلك الدوامة العنيفة التي كنت أتقلب فيها.

في يوم من الأيام.. ولست أدري السبب.. شعرت بنور يقذف في قلبي يدعوني إلى البحث عن الله (1)..

وقد ارتبط ذلك بظروف كثيرة جعلتني أراجع نفسي، وأراجع كل الأفكار التي كنت أحملها..

وقد رأيت بعد بحث طويل ومراجعات كثيرة أن وجود الله قضية يقينية لا تختلف في قوتها عن كل القضايا التي نسلم لها.. بل نرمي بالجنون والسفسطة من ينكرها.

لقد رأيت العلم والعقل جميعا يتظافران على الدلالة على وجود الله.. بل على الدلالة على أن وجود الله هو أعظم حقيقة في هذا الوجود.

__________

(1) نشير بهذا النور إلى ما وضعه الله في فطرة الإنسان من المطالبة كل الحين بالبحث عن الله واللجوء إليه، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (لأعراف:172)

وقد ورد في الحديث ما يدل على هذا، فقد سئل النبي (عن قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام: من الآية 125) قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: (نور يُقْذَف فيه، فينشرح له وينفسح)، قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: (الإنابة إلى دار الخُلُود، والتَّجَافِي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت) (تفسير عبد الرزاق (1/ 210) ورواه الطبري في تفسيره (12/ 99) من طريق عبد الرزاق به)

وقد أشار الغزالي إلى تأثير هذا النور في إخراجه من حالة الشك التي عرضت له، فقال في (المنقذ من الضلال): (لما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة)

الباحثون عن الله (39)

1 ـ العلم

قال رجل منا: أليس العلم هو الذي صرفك عن الله.. فكيف تزعم أن العلم هو الذي دلك على الله؟

قال آرثر: لقد ذكرت لكم أني في الفترة التي تخليت فيها عن زهوي وكبريائي راجعت كل ما كنت أعرفه من معلومات كانت تحجبني عن الله.. فوجدت من يدلني على العلم الصحيح البديل الذي لا يدل إلا على الله (1).

سأضرب لكم أمثلة على التطورات الكثيرة المتلاحقة التي قضت على كل ذلك الزهو الذي كان يملأ أقطار نفسي بسبب العلم الذي نلته من أساتذتي القدماء:

المادة

وسأبدأ لكم حديثي بالنظريات المرتبطة بالمادة..

لقد كان النظام الذي تعلمته في الفيزياء هو نظام نيوتن (2).. وقد تعلمت من هذا النظام

__________

(1) استفدنا الكثير من المعلومات حول التطور العلمي هنا من كتاب (العلم فى منظوره الجديد)، وهو كتاب من سلسلة (عالم المعرفة) التى كان يصدرها المجلس الوطنى للثقافة بالكويت، وعنوان الكتاب الأصلي هو (The New Story of Science) من تأليف Robert M. Augros وGeorge N. Stanciu.

وقد قام بترجمة الكتاب الأستاذ (كمال خلايلى) الذى عرف الهدف من الكتاب بقوله في (ص 7): (صنف هذا الكتاب اثنان من الأساتذة المعروفين فى أمريكا الشمالية أحدهما متخصص فى فلسفة العلوم والآخر فى الفيزياء النظرية، والهدف الذى يرمى إليه المؤلفان هو هدم أركان المادية العلمية، تلك النظرية الكونية التى استهلها فرانسيس بيكون وجاليلو فى مطلع القرن السابع عشر، واستمرت إلى العقود الأولى من القرن العشرين، ثم إثبات وجود الله تعالى، وبيان الحكمة والغاية من إبداع الكون وخلق الإنسان، وذلك بالاستناد إلى النتائج التى انتهى إليها أقطاب العلماء والباحثين المعاصرين فى مجالات الفيزياء والكوزمولوجيا ومبحث الأعصاب وجراحة الدماغ وعلم النفس الإنسانى.

(2) هو السِّير إسحق نيوتُن، (1642 - 1727 م). عالم رياضيات ووفلكي إنجليزي، اكتشف كيفية تماسك مكونات الكون بعضها ببعض من خلال نظريته عن الجاذبية، كما اكتشف أسرار الضوء والألوان، وابتكر فرعًا من الرياضيات يسمى حساب التفاضل والتكامل.

الباحثون عن الله (40)

ثلاث حقائق: المادة، والمكان، والزمان.

أما المادة، فقد رأيتها ـ حسب نظر نيوتن ـ مكونة من جسيمات كبيرة وصلبة ومتحركة وغير قابلة للاختراق وذات أحجام وأشكال مختلفة.. أما خواص المادة فقد عدد لي نيوتن منها: التمدد، والصلابة، واللااختراقية، والقصور الذاتى..

وكنت أوقن إلى جانب هذا ـ على حسب ما تعلمت من نيوتن ـ أن طبيعة هذه الجسيمات ـ أى الذرات ـ وخواصها ثابتة إلى الأبد.. وأن الذرة هي أصغر جسيم يمكن تصوره.

أما الزمان والمكان فكلاهما ـ ـ على حسب ما تعلمت من نيوتن ـ حقيقتان مطلقتان، وأنهما سيظلان كوجودين حتى لو فنيت كل الأشياء المادية فى الكون..

أما التغيرات الحاصلة للمادة، فقد قصرها لي نيوتن على مجرد عمليات انفصال هذه الجسيمات الثابتة، وعلى عمليات اتحادها وحركاتها الجديدة.

وفسر لي كيفية طروء التغيرات بأن القوانين الطبيعية تنظم حركة المادة في إطار الزمان والمكان المطلقين.

ووصف لي الهدف المثالي لنظامه قائلاً: (إن استخلاص مبدأين عامين أو ثلاثة مبادئ عامة للحركة من الظواهر، ثم إظهار كيفية انبثاق خواص ونشاط جميع الأشياء المادية من هذه المبادئ التي يكون قد تم استجلاؤها، سيمثلان خطوة كبيرة في ميدان الفلسفة)

لقد كنت شديد الإعجاب بكل هذه الحقائق التي تعلمتها من نيوتن.. ولم أكن فريدا في ذلك.. فقد حقق نظام نيوتن نجاحاً في العديد من المجالات، ولاسيما في مجالي الفيزياء والكيمياء، وتمت له الغلبة بشرحه ظواهر الحركة والحرارة والضوء والكهرباء.

ولكن هذا الإعجاب لم يتوقف عند المعاني التي طرحها نيوتن (1).. فقد ولدت في تلك

__________

(1) نحب أن ننبه هنا إلى أن نيوتن لم يكن ملحدا، بل حاول أن يحتفظ بمكان للألوهية في نظامه الميكانيكي الخاص بالسماوات، ففي رسالة وجهها إلى الدكتور ريتشارد بنتلي في عام 1692 أكد له فيها على أن الله ضروري لإحداث حركة الكواكب وإرساء البنية الأصلية للمجموعة الشمسية قائلاً: (إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة)

الباحثون عن الله (41)

المعارف كما ولدت في كثير من العلماء الذين تتلمذت عليهم رغبة في توسيع نطاق هذا الأسلوب في الشرح بحيث يشمل جميع حقول المعرفة بما فيها علوم الأحياء والنفس والتاريخ والإقتصاد.

وقد أسفرت إمكانية الكشف عن أسرار جزء كبير من العالم الطبيعي، بافتراض وجود المادة وحدها عن دفع بعض العلماء تدريجيا إلى اعتبار المادة جزءا من الأسلوب العلمي ذاته، على نحو جعل الباحث العلمي، بصرف النظر عن معتقداته الشخصية، يمضي في حججه العلمية على أساس افتراض كون المادة وحدها هي الحقيقة، أو أنها، على الأقل، كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية.

وقد كتب لهذا البرنامج البقاء وحقق بالفعل آمالاً كبيرة.. وكان لدى العلماء في القرن التاسع عشر كل ما يدعوهم إلى الإعتقاد بأن القرن العشرين سيكمل بناء هذا النظام، بل كان كثير من علماء الفيزياء يعتقدون أن دورهم في تقديم هذا التفسير قد اكتمل أساساً.

قال رجل منا: فهل خيب القرن العشرون ما كان يأمله علماء القرن التاسع عشر؟

قال آرثر: أجل.. فالاكتشافات الجديدة لم تكمل فيزياء نيوتن، بل أطاحت بها:

فقد هدم أينشتاين في عام 1905 ركنين أساسيين من أركان النظام القديم.. فنظرية النسبية الخاصة قادت علم الفيزياء إلى التخلى إلى الأبد عن فكرتي المكان المطلق والزمان المطلق.. ذلك أن أينشتاين أثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا يمكن تعريفها إلا بوصفها الموقف الشخصي للمراقب ولظروفه المادية..

أما السمات الأخرى لنظرية النسبية الخاصة، كتكافؤ المادة والطاقة، فهي في الواقع نتائج مترتبة على محورية المراقب.. وبفضل النسبية الخاصة أضحى المراقب ـ فجأة ـ جزءا أساسياً من عالم الفيزياء، ولم يعد في مقدور الباحث العلمي أن يعتبر نفسه متفرجاً حيادياً كما في نظام نيوتن.

الباحثون عن الله (42)

ثم حدثت ثورة متشابهة في فيزياء الجسيمات، فقد أثبت إيرنست رزرفورد عام 1911 أن الذرة تتكون من نواة متناهية الصغر يحيط بها حشد من الإلكترونيات.

لقد حاول الفيزيائيون ـ حينها ـ أن يفسروا تركيب الذرة استناداً إلى فيزياء نيوتن، غير أن كل محاولة من محاولاتهم كانت تسفر عن تناقضات تبعث على الإحباط.. وقد أدى هذا الفشل إلى التخلى كلياً عن نظام نيوتن على المستوى الذري، وإلى التعجيل بتطوير (ميكانيكا الكم) (1) في العشرينات من هذا القرن على أيدي علماء من أمثال نيلزبور وفيرنر هابزنبرغ، وبمجيء ميكانيكا الكم تضاعفت أهمية دور المراقب في النظرية الفيزيائية..

لقد قال الفيزيائي ماكس بورن (2) يعبر عن ذلك: (لا يمكن وصف أي ظاهرة طبيعية في مجال الذرات إلا بالرجوع إلى المراقب رجوعاً لا إلى سرعته فحسب كما في حالة النسبية، بل إلى جميع أنشطته لدى قيامه بالمراقبة وبتركيب الآلات وما إلى ذلك)

وهكذا أصبحت أصغر جسيمات المادة غير قابلة للتعريف بمعزل عن خيارات وأفعال المراقب الذى هو ضرورى لا كشاهد فحسب، بل كمشارك أساسي.

وقد وصف فيغنر وجهة نظر النظام القديم فقال: (كان جل العلماء الطبيعيين إلى عهد غير بعيد، ينكرون بشدة وجود العقل أو الروح على أن النجاح الباهر الذي حققه علم الفيزياء الميكانيكية والعيانية بصورة أعم، وكذلك علم الكيمياء، قد حجب الواقع الجلي، ذلك الذي

__________

(1) ميكانيكا الكم: هي ميدانٌ من ميادين علم الفيزياء، يصف تركيب الذرّة وحركة الجسيمات الذرية، ويوضح كيف تمتص الذرات الطاقة في شكل ضوء، وكيف تطلقها، ويوضح طبيعة الضوء.. وهي تتجاوز الحدود القصوى للفيزياء التقليدية، التي تقوم على أساس القوانين التي صاغها نيوتن.. وهي تُعد من المُنجَزَات العلمية الكبرى التي تحققت في القرن العشرين.. وبالإضافة إلى أهميتها النظرية، فقد ساهمت في تطوير أجهزة عملية مثل أجهزة الليزر والترانزستور، كما مكنت العلماء من تحقيق فهم أفضل للروابط والتفاعلات الكيميائية.

(2) هو مَاكْس بُورن (1882 ـ 1970 م) فيزيائي ألماني أدى دوراً كبيراً في تطوير ميكانيكا الكم.. في عام 1954 م نال جائزة نوبل للفيزياء مناصفة مع فالتربوتا تقديرًا لأعماله.. ساهم بورن أيضاً في مجالات علم البلورات والبصريات. وحصل على شهادة دكتوراه من جامعة جتجين عام 1907 م. وُلد في برسلو، بألمانيا (حالياً روكلاو في بولندا)

الباحثون عن الله (43)

يقول أن الأفكار والرغبات والعواطف ليست من صنع المادة، وكان مقبولاً عند العلماء الطبيعيين على نحو يشبه الإجماع إن لاشيء هناك سوى المادة)

ونتيجة لهذا، فإن نظرية النسبية وميكانيكا الكم تمثلان خروجا مشتركاً بينهما على تفسير نيوتن بإدخالهما العقل في المعادلة.

وهكذا حلت الفيزياء في القرن العشرين تدريجياً محل المذاهب المادية بتأكيدها أن الفكر يقوم بدور جوهري في الكون، وأنه لأمر مثير حقاً أن يصدر هذا التأكيد عن علم الفيزياء.. فلو قدر للمادة أن تصادف نجاحاً في أي مكان لتوقع لها المرء أن تنجح في مجال دراسة المادة ذاتها.

العقل

بعد أن انهار كل ذلك البنيان الذي كنت أبنيه على المادة.. وبعد أن عرفت حاجة المادة إلى العقل رحت أبحث عنه (1)..

لقد كانت نظرتي البدائية إلى العقل في غاية البساطة والتفاهة.. وكانت مرتكزة على ذلك الأساس المادي الذي كنت أفسر به الكون جميعا..

لقد كنت أرى بأن جميع الأشياء الطبيعية تنشأ في نهاية المطاف عن تفاعلات بين جسيمات تتكون منها هذه الأشياء.. فالماء سائل لأن جزيئاته تنزلق بجانب بعضها بعضا بقليل من الاحتكاك.. والمطاط متمغط لأن جزيئاته بحكم مرونتها تغير شكلها بسهولة.. وهكذا قست الأمر على العقل.

وقد أكد لي هذا النظر أساتذتي الكبار الذي تتلمذت على أيديهم..

منهم عالم الأحياء الشهير توماس هـ. هكسلي (2).. لقد علمني هذا الأستاذ أن الأفكار التي

__________

(1) انظر: (العلم فى منظوره الجديد)

(2) هو تُومَاس هِنرِي هَكْسِلِي (1825 - 1895 م). عالم حيوان ومحاضر ومؤلف.. وكان من الذين مالوا إلى نظرية تشارلز داروين التحليلية الخاصة بالتطور العضوي، كما أنه توسّع في هذه النظرية ودافع عنها.

الباحثون عن الله (44)

أعبر عنها بالنطق، إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية.. فخير طريقة للبحث في العقل هي إظهار كيفية انبثاق العقل من المادة.

لقد كنت أحمل مع هذه التصورات مفاهيم خاطئة عن العقل الإنساني.. فقد كنت أتصور أن العقل البشري لايستطيع أن يختار بحرية، لأن المادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية.. ولهذا فقد كنت أميل إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة، و(علم وظائف الأعضاء)، والكيمياء والفيزياء، لأنه لا مجال لحرية الاختيار.. فالتغيرات المادية هي التي تسبب الأفكار، لا العكس.

ومن المستلزمات التي نتجت عن هذه التصورات.. والتي كنت أوقن بها يقينا لا شك فيه هو أن لاشيء في الإنسان يمكن أن يبقى بعد الموت.. فإذا كان التفكير والإرادة نشاطين من أنشطة الدماغ، فليس هناك سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ.. وإذا كان كل جزء من أجزاء الإنسان مادة فلابد من أن يكون كل جزء منه عرضه للفناء.. فلا خلود إلا للمادة.

ومع كل هذا اليقين لم يكن لدي ولا لأي أحد من أساتذتي الكبار الذين لقنوني هذه التعاليم أي تفسير لكيفية انبثاق العقل من المادة..

لقد كان أساتذتي الكبار من علماء الفسيولوجيا يتوقعون أن يأتي المستقبل بالجواب.. ولكن الأيام والمراجعات لم تثبت صدق تبؤاتهم..

لقد جاءت البحوث الجديدة الكثيرة بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا، ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع.

لقد بدأت المراجعات بالسير تشارلز سرنغتون الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة.. ونتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص شرنغتون إلى هذه النتيجة التي عبر عنها بقوله: (هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل، فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء)

الباحثون عن الله (45)

لقد قصد شرنغتون بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتية، واستقلاب الخلايا والنمو، فهو يذكر أن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين، أما أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.

وعلى هذا المنهج سار السير جون اكلس، المتخصص في مبحث الأعصاب، الذي عبر عن نتيجة أبحاثه بقوله: (التجارب التي تنم عن الوعي تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب، ومع ذلك فإن مايحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة، وإن كان هذا شرطاً غير كاف)

سأورد لكم مثالا يقرب ما يريد أن يقوله اكلس وشرنغتون..

أجيبوني.. ماذا يحدث، مثلا، عندما يرى أحدنا شجرة؟

قال رجل منا: تدخل أشعة الشمس المنعكسة من الشجرة في بؤبؤ العين، وتمر من خلال العدسة التي تركز صورة مقلوبة ومصغرة للشجرة على شبكة العين، فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية.

قال آرثر: فهل ترون هذا هو الإبصار؟

قال الرجل: هذا ما نعرفه عن الإبصار.

قال آرثر: لا.. ليس هذا هو الإبصار.. فلو سلطنا هذه الصورة على عين فاقد الوعي، فإنها ستحدث نفس التغيرات الفيزيائية والكيمائية، ومع ذلك لايبصر شيئا.. وبالمثل، تركز آلة التصوير على صورة ما، فيتعرض الفيلم الموجود في الآلة لتغيرات فيزيائية وكيميائية، ولكن آلة التصوير لاتبصر بالمعنى الحرفي في الألوان والأشكال التي تسجلها.

قال الرجل: فكيف تفسر الإبصار؟

قال آرثر: إذا أردنا أن نفسر الإبصار فنحن بحاجة إلى أكثر من ذلك.. فالشبكية - وهي صفحة من المستقبلات شديدة التراص - تبدأ حين ينشطها الضوء المنبعث من الشجرة بإرسال

الباحثون عن الله (46)

نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية..

قاطعه الرجل، وقال: إن ما تذكره أيضا يفسر بلغة الفيزياء والكيمياء..

قال آرثر: أجل.. ولكن أين مكان اللون الأخضر من كل هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي اللون أبيضه.. فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداً دون أن يفقد لونه السابق؟.. وكيف يستطيع الدماغ أن يبصر الضوء إذا كان مغلقاً ومعزولاً تماما عن أي ضوء؟

إن الأمر يكون معقولا لو أننا حين نوجه أبصرنا نحو الشجرة، لم نحس إلا بأزيز الكهرباء في أدمغتنا.. ولكن النشاط الكهربائي والكيميائي لأدمغتنا الذي يمكننا من الإبصار بطريقة ما لا نراه، وبدلا من ذلك نرى الألوان والأشكال والحركات والضوء، وكلها بأبعادها الثلاثة.. بل من العسير أن نتخيل كيف يمكن لأي من هذه الأشياء أن تنشأ عن المواد الكيميائية والكهرباء.

لقد عرفت من خلال هذا وغيره أن عالم الإحساس لا يتوقف على عالم الفيزياء والكيمياء.. بل يتوقف على عوالم أخر أكبر من أن نحيط بها..

سأقربها لكم بمثال.. أنتم تعلمون أن وجود كتاب ما يتوقف على عناصر الورق والصمغ والحبر التي يتكون منها، ومن دونها لا يمكن أن يوجد الكتاب.. ومع ذلك، فالكتاب لا يٌفهم فهماً كافياً بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر ولألياف الورق.. حتى لو عرفنا طبيعة كل جزء من جزيئات الورق والحبر معرفة كاملة، فإن ذلك لايكشف لنا شيئا عن محتوى الكتاب.. فمحتوى الكتاب يشكل نظاماً أسمى يتجاوز عالم الفيزياء والكيمياء.

على هذا النهج يؤكد العلم في آخر تطوراته أن أحاسيسنا لا تتوقف على أعضاء الجسم، فلا يمكن حصر الأحاسيس في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة.

بعد أن اقتنعت بكل هذا.. وبعد أن علمت أن الإدراك الحسى ليس هو المادة، ولا هو من خواص المادة، وليس فى مقدور المادة أن تفسره، رحت أبحث عن حقيقة العقل..

لقد بدأت ذلك بالبحث عن سائر الطاقات الحسية التي يستخدمها العقل..

الباحثون عن الله (47)

أنتم تعلمون أن الإدراك الذي يعني (المعرفة أو الوعى) يبدأ بالإدراك الحسى.. فالحواس الخارجية هى الأساس الأول لكل المعارف الإنسانية ومصدرها.. ومن دون المعلومات الآتية من هذه الحواس لا يكون لدى الذاكرة أى شئ تتذكره، ولا للخيال أى شيء يتصوره، ولا للعقل أى شئ يفهمه.

وإلى جانب الحواس الخارجية نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات الإحساس الداخلى.. يدل على ذلك أننا نملك القدرة على المقارنة بين الإحساس بالبياض وبحلاوة الطعم مع عظم الفارق بينهما.. فالعين تدرك البياض، ولا تدرك الحلاوة، واللسان يدرك الحلاوة، ولا يدرك البياض، فلا اللسان ولا العين يستطيعان التمييز بين البياض والحلاوة، لأن أيا منهما لا يدرك الاثنين معا، وما من حاسة خارجية تستطيع أن تؤدى هذه المهمة.. فلذلك لا بد من أن تكون فينا حاسة داخلية تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجية، وأن تميز بينها.

ونحن كذلك نملك القدرة على أن نستدعى أمورا لم تعد حاضرة، فعملية التذكر شئ حاضر بالفعل، ولكن الشئ الذى نتذكره ليس كذلك، إذ أن إدراكنا الحسى الأصلى قد زال على نحو ما، ولكنه مع ذلك تحت تصرفنا، فالذاكرة لا تستحضر التجربة الماضية فحسب، بل تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا، وتستطيع ترتيبها من حيث صلتها بتجارب أخرى ماضية.. بل إن المدهش هو قدرتنا على أن نجعل أنفسنا نتذكر الشئ المنسى.

بالإضافة إلى كل هذا.. فالخيال ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواسطتها أن نتصور لا الأشياء المدركة بالحواس فحسب، بل الأشياء التى لا تدركها هذه الحواس كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث، فالخيال، بخلاف الذاكرة، يستخدم المعلومات الواردة من الحواس الخارجية بحرية وبطريقة إبداعية.

بالإضافة إلى كل هذا، فلدينا على قدرات عجيبة على الإحساس بالعواطف، كالحب

الباحثون عن الله (48)

والغضب والفرح والخوف والأمل والرغبة والحزن، تربطنا بالعالم بطريقة أخرى مختلفة كذلك.. فكل عاطفة تنشأ من فعل ملكة حسية، سواء كانت حاسة خارجية كالخيال، أو الذاكرة.

بعد أن وصلت إلى كل هذا عرفت أني لم أصل بعد إلى عقل الإنسان.. فأكثر الحيوانات تمارس معظم القدرات المذكورة حتى الآن..

لقد قلت لنفسي: (إذا كان الإنسان أكثر من مجرد حيوان، فمن المحتوم أن تكون هناك قدرة خاصة تميزه من سائر الحيوانات الأخرى)

لقد دلني على هذا نظري في مراتب الأحياء:

لقد عرفت أن النباتات تحرك نفسها، ولكنها لا تدرى إلى أين تمضى.. وأن الحيوانات تدرك إلى أين تمضى، ولكنها لا تعرف السبب..

وقد دلني هذا على أنه ـ لإكمال مراتب الأحياء ـ لا بد من وجود مخلوقات لا تعرف فقط إلى أين تمضى، ولكن لماذا تمضى أيضا..

وقد عرفت من خلال تأمل بسيط أننا نحن البشر هم الذين نشكل هذه المخلوقات، والملكة التى تمكننا من فهم علل الأشياء تسمى العقل أو الفكر، وهى تسمى كذلك سلطان العقل، لأننا بواسطتها نتعرف على علل الأشياء، وما من قوة حسية تستطيع أن تؤدى هذه الوظيفة.. فاللسان، مثلا، يدلنا على أن البحر مالح، ولكنه لا يفسر لنا علة ملوحته.

والعقل كذلك يمكننا من إدراك ماهية الأشياء.. وهو أمر لا تستطيع الحواس القيام به، ولا ملكة الخيال ذاتها، فإذا حاولنا مثلا أن نتخيل ما هو الحيوان، فالصورة التى ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات محددة من حيث الحجم والشكل واللون، ومن المستحيل تكوين صورة حسية لما يشترك فيه جميع الحيوانات، ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم ما هو الحيوان.

بالإضافة إلى هذا الرقي الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان.. فإن هناك شيئا آخر لا يقل عن

الباحثون عن الله (49)

هذا أهمية.. إنه الإرادة.. فالحيوان يتبع حكم الإحساس والعاطفة، ولكن الإنسان يتمتع بقدرة على الاختيار وفقا لما يفهمه عقله.. فالأعمال الجريئة التي يقوم بها الإنسان تبرهن على أن الإرادة تفرض نفسها حتى على الخوف من الموت، فالعواطف تثيرها الحواس، ولكن الإرادة تختار وفقا لما يراه العقل.. بل إننا كثيرا ما نقول إن فلانا من الناس قد تغلب على عاطفته، لأنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك.

بعد كل هذا.. وبعد أن ألغيت من عقلي كل تلك المفاهيم التي كانت تقيده، وتحمل صورة مشوهة عنه.. يسر الله لي أن أؤكد كل هذا بدليل حسي من خلال عمليات جراحية أجراها صديقي ويلدر بنفيلد (1) على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى.

لقد كانت ملاحظات بنفيلد حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الأدلة السابقة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات، ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين.

لقد اكتشف بنفيلد عام 1993 بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى.

لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر، ثم أخذته الدهشة، فعندما لامس القطب الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة (بيسبول) فى مدينة صغيرة، ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج، ليلحق بجمهور المتفرجين، وهناك مريضة أخرى سمعت آلات موسيقية تعزف لحنا من الألحان.. لقد حدثني بنفيلد عن هذا الخبر، فقال: (أعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها، وأمليت كل استجابة على كاتبه الاختزال، وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد، وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه، ويستمر من اللازمة إلى مقطع الأغنية، وعندما دندنت، مصاحبة الموسيقا، كان إيقاعها

__________

(1) هو بنفيلد، وايلدر جريفز (1891 - 1976 م). اختصاصي أعصاب كندي.

الباحثون عن الله (50)

يسير بالسرعة المتوقعة له)

لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية، ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه، وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجاربه الماضية، وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه.

وكان بنفيلد من وقت لآخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه، ولكنه لا يفعل ذلك، وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا آخر يختلف كليا عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط، فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

وباستخدام هذه الأساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير أنه لم يكن فى المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة فى أى جزء من الدماغ، فالدماغ هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه ليس مقر العقل أو الإرادة.

لقد أعلن بنفيلد عن نتائج أبحاثه قائلا: (ليس فى قشرة الدماغ أى مكان يستطيع التنبيه الكهربائى فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا، والقطب الكهربائي يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر، بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقى، والقطب الكهربائي يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه، إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة، فواضح أذا أن العقل البشرى والإرادة البشرية ليس لها أعضاء جسدية)

الباحثون عن الله (51)

قال رجل منا: لقد قدم بنفيلد بهذه الكشوف البرهان الحسي على شيء كان من المستحيل أن يبرهن عليه بالحس.

قال آرثر: عندما يتخلى العلم عن كبريائه لابد أن يصل إلى هذه النتائج.. لقد كان بنفيلد كما ذكرت لكم صديقا لي.. وكان يؤمن بكل ما كنت أؤمن به من النظرية المادية.. وعندما انطلق في أبحاثه لم يكن له من غرض إلا إثباتها.. لكن الحقيقة التي أراد محوها أبت إلا أن تظهر على يده.. لقد قال معبرا عن ذلك: (طوال حياتى العلمية سعيت جاهدا كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل)

الإنسان

بعد أن عاد إلي عقلي الحقيقي.. عقلي الذي حجبني عنه العلم المغرور.. رحت أراجع تلك الأفكار الكثيرة التي كنت أحملها عن الإنسان.. والتي كانت تملؤه بالتشويه..

لقد كنت ـ قبل أن اكتشف عقلي ـ أعتقد أن المادة أساسية والعقل ثانوي.. ولذلك، فقد كنت أنظر نظرة زراية للعقل البشري في مقابل إعلاء لشأن الكون المادي اللامحدود واللاشخصي.. لقد كنت أقول كل حين: (من هو الإنسان.. إنه ليس شيئا إذا قيس بالأرض أو الشمس أو المجرة.. إنه تافه من حيث الحجم.. وغير ذي شأن من حيث القوة)

وكنت أقول كل حين: إن كوبرنيكوس (1) قد خلع الإنسان المغرور عن عرشه في مركز الكون، وأن عليه أن يدرك أنه مخلوق بالغ الصغر يسكن كوكباً تافهاً يدور حول نجم لا شأن له.

لكني بعد أن راجعت ما تعلمته من علم متخلصا من رداء الكبرياء الذي كنت أتوشح به

__________

(1) كوبرنيكوس، نيكولاس (1473 - 1543 م) عالم فلك بولندي، طور نظرية دوران الأرض، ويعتبر مؤسس علم الفلك الحديث.. ونحب أن ننبه هنا إلى أن ديفيد كينج اكتشف عام 1970 م أن كثيرًا من النظريات المنسوبة لنيكولاس كوبرنيكوس هي للفلكي العربي ابن الشاطر (ت 777 هـ، 1375 م)، وبعد ذلك بثلاث سنوات (1973 م) عثر على مخطوطات عربية في بولندا اتضح منها أن كوبرنيكوس قد اطلع عليها. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

الباحثون عن الله (52)

رأيت الإنسان أعظم بكثيرة من تلك الصورة المزرية الحقيرة التي كنت أحملها عنه، ويشاركني في حملها أولئك الذين انبهروا بالعلم ولم يتثبتوا فيه.

لقد تحدث ويلر عن جملة الأكوان، ولكنه يشير إلى أن عدداً صغيراً جداً منها كان يمكن أن يصلح للحياة، وبعد أن استعرض دايسن هذا النمط العريض ينتهي إلى أن ذلك يدل على غاية مستهدفة، لا على الصدفة، قائلاً: (كلما ازددت دراسة للكون وفحصاً لتفاصيل هندسية وجدت مزيداً من الأدلة على أن الكون كان يعرف بطريقة ما أننا قادمون). فبعض الظروف الضرورية للحياة كان قد ركب تركيباً في الانفجار العظيم منذ بداية البداية.

ويؤكد ويلر أنه (لم يظهر سبب واحد يفسر لماذا يكون لبعض الثوابت والظروف الأولية ما لها من القيم سوى أنه لولا ذلك لما تيسرت المراقبة كلما نعرفها)

وهو تبعاً لذلك، يتساءل قائلا: (أليس من الأرجح أن نقول إنه ما من كون يمكن أن يبرز إلى حيز الوجود ما لم يكن مضموناً له أن ينتج لحياة والوعي والشهود في مكان ما ولمدة قصيرة من الزمن في تاريخه المقبل؟)

ويؤكد ويلر أن (ميكانيكا الكم قادتنا إلى أن نأخذ بجدية ونفحص وجهة النظر المعاكسة تماماً، وهي أن المراقب لازم لخلق الكون لزوم الكون نفسه لخلق المراقب)

ومع أن الإنسان ليس مادياً فى مركز الكون فهو علي ما يظهر في مركز الغاية من خلقه (1)، وكما يقول إيرون شرود نفر، فالكون من دون الإنسان يكون أشبه بمسرحية تمثل في قاعة تخلو مقاعدها من جمهور المشاهدين.

__________

(1) مما يشير إلى هذا ما ورد في الأثر الإلهي: (لولاك لما خلقت الأفلاك)، وهو وإن جزم العلماء بوضعه إلا أن الشيخ القاري قال فيه: (لكن معناه صحيح فقد روى الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً: أتاني جبريل فقال: يا محمد لولاك ما خلقت الدنيا، ولولاك ما خلقت النار)، وفي رواية ابن عساكر: (لولاك ما خلقت الدنيا)

ووجه الإشارة في هذا أن رسول الله (هو المثل الأعلى للإنسان.. وبالتالي تكون غاية الكون هي الإنسان.. وغاية الإنسان هو المثل الأعلى فيه.. والمثل الأعلى فيه هو رسول الله (كما قال (: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)

الباحثون عن الله (53)

والكون الذي يستهدف ظهور الإنسان يستلزم بداهة وجود عقل يوجهه، لأن المادة لا تستطيع من تلقاء نفسها أن تهدف إلى أي شيء..

ولهذا، فإن النظرة العلمية الدقيقة تقود مرة أخرى إلى الاعتقاد بوجود عقل يوجه الكون بأكمله وجميع نواميس الطبيعة وجميع خواص المادة إلى غاية..

وهذا يناقض تماما ما كنا ندعيه في ميكانيكا نيوتن وجميع الأجزاء الأخرى من الفيزياء الكلاسيكية التي صيغت على نسقها، والتي انطلقت من الافتراض القائل بأن المرء يستطيع أن يصف العالم من غير التحدث عن الله أو عن أنفسنا، أي عن عالم ليس وراءه عقل يدبره.. ولكن النظرة العلمية الدقيقة بينت أن العكس هو الصحيح في كلتا الحالتين.. فالانفجار العظيم والمبدأ الإنساني كلاهما يشير إلى وجود عقلين في كلا طرفي الكون.

الكون

بعد أن عرفت الإنسان وقيمته.. رحت أبحث عن تصوراتي عن الكون.. فلا شك أن الأخطاء المنهجية التي كنت أحملها أثناء بحثي فيه قد تسربت إلى نظرتي إليه..

لقد وجدت تصوري البدائي للكون هو أنه مجرد كائن مادي عملاق لا غاية له..

وقد دعاني إلى هذه النظرة ما كان يسيطر علي من منطق المادية التي تنكر الغائية.. ولذلك فإن الكون في نظرها ليس سوى مادة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في الأشياء الطبيعية أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً أو ترسم خطة، بل هي تتصرف بضرورة ميكانيكية داخلية فحسب.

ولهذا، فإن التفسيرات العلمية تفرض على الباحث أن يقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب.. فبيكون وديكارت كلاهما يستبعد من العلوم الطبيعية أي دعوة إلى

الباحثون عن الله (54)

الغائية (1).. يقول بيكون: (إن مطلب الغائية يفسد العلوم بدلا من أن يرقى بها).. ويقول ديكارت: (كل ضروب الغائية لا قيمة لها في الأشياء المادية أو الطبيعية)

وانطلاقا من هذه النظرة.. فإنه لا مكان لله في مثل هذا الكون..

لقد سأل نابليون الرياضي والفلكي الشهير بيير سيموت لابلاس (2) عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام السماوية، فأجابه بقوله: (يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض)

لقد كان العلماء في ذلك الحين يحتجون لهذا بأن الكون آلة تدير نفسها بنفسها، وبالتالي لا تحتاج إلى أي سبب فوق الطبيعة.. وإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو أن هناك حاجة إلى خالق.. وهكذا اعتبر الكثيرون أن الإلحاد أدنى إلى الصدق وأكثر اتساقاً مع العلم.

وفرويد كان أحد ممثلي هذا الموقف من الدين (3)، فهو يعلن أن (أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهماً من أوهام الجماهير، فالإنسان في الأديان إنما يبحث عن مهرب من الواقع)

ويتابع فرويد حديثه قائلاً: (إن الأفكار الدينية نشأت من ضرورة حماية الإنسان لنفسه من قوة الطبيعة المتفوقة والساحقة)

والناس في رأي فرويد يميلون إلى الاعتقاد بوجود أب وراء هذا الكون لأنهم، بوصفهم أطفالاً، بحاجة ماسة إلى رعاية أب، وهكذا فإن الإنسان هو الذي يخلق الله، لا العكس.

وانطلاقا من هذا تنبأ فرويد بأن هذه الطفولية مقدور لها أن تتجاوز بالتأكيد، ويتحتم على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة للاعتراف بأنه وحيد في هذا الكون الفسيح واللاشخصي.

لم يدل على هذه النظرة ما ذكرته لكم من تصريحات فقط.. بل كانت نظرة سائدة لها ما ينشرها

__________

(1) هذا الرفض ـ كما هو معلوم ـ يستند إلى أسباب منهجية، لأن بيكون وديكارت لم يكونا من المؤمنين بالمذهب المادي أو من الملاحدة.

(2) بيير سيمون لابلاس (1749 - 1827 م). فلكي ورياضي فرنسي اشتهر بنظريته حول أصل النظام الشمسي.

(3) وهذا لا ينفي تشبثه بيهوديته كما ذكرنا ذلك في مواضع مختلفة من هذه السلسلة.. فاليهودية تتقبل مثل هذا النوع من الأفكار.

الباحثون عن الله (55)

ويؤكدها في أذهان الجماهير.. ففي سنة 1875 كتب جون و. دريبر ـ وهو أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلوم الكيمياء ـ كتابه الذي يحمل عنوان (تاريخ الصراع بين الدين والعلم).. وبعد ذلك بعشرين عاماً، أي في 1895، ألف أندرو د. وايت ـ وهو أول رئيس لجامعة كورنيل ـ كتابه (تاريخ المعركة بين العلم واللاهوت في المسيحية).. ويكفي عنوانا الكتابين دليلاً على الاتجاه السائد آنذاك.

في ذلك الحين كان أكثر الناس اعتدالا من ينتسبون إلى اللاأدرية (أو الغنوصية).. بل إن لفظة (لا أدرية) كانت من ابتكار عالم الأحياء توماس هكسلي في عام 1869.

كانت هذه هي نظرتي عندما كنت مزهوا بالعلم فانيا فيه..

لكني بعد أن ارتد إلي وعيي وصحوت من سكرتي رأيت أن الأمر مختلف تماما.. وأن الكون لا يحمل تلك الصورة المشوهة التي حملها العلماء الذين سكروا بما اكتشفوه من اكتشافات عن حقيقة العلم.

لقد قال عالم الفيزياء الفلكية دنيس شياماً يعبر عن النظرة الجديدة: (لعل أهم اكتشاف علمي من اكتشافات القرن العشرين هو أن الكون بأكمله، بوصفه كلية واحدة، قابل للبحث العقلاني باستخدام أساليب علمي الفيزياء الفلك)

لقد تيسرت هذا بمجيء نظرية النسبية العامة لأينشتاين، فهي ـ خلافاً لنظرية نيوتن في الفيزياء ـ قد جمعت بين الجاذبية والمكان والزمان.. يقول ويلر: (لقد علمنا أينشتاين أن المكان عنصر مشارك في الفيزياء، لا ميدان للفيزياء فحسب).. والأمر نفسه ينطبق على الزمان.

وعملية التوحيد هذه زودت الفيزيائيين للمرة الأولى بأدوات البحث المفصل في بنية الكون بأكمله وفي أصله ومآله.. فبعد نشر النسبية العامة رأينا الفلكي ويلم دي سيتر، والرياضي ألكساندر فريدمان يستنتجان كل على حدة، أن الكون آخذ في التمدد.

ثم جاءت إشارة ثانية من مجال الفيزياء النووية.. فقد كان كيميائيو القرن التاسع عشر

الباحثون عن الله (56)

يعرفون أن الشمس لا يمكن أن تحرق وقوداً تقليدياً.. فالاحتراق الكيميائي العادي لم يكن يصلح تفسيراً لطاقة الشمس، إذ لو كانت كتلة الشمس كلها فحماً لأحرقت نفسها في غضون ثلاثمائة عام..

وظلت الشمس لغزاً إلى حين اكتشاف الطاقة النووية في السنوات الأولى من القرن العشرين عندما تمكن الفيزيائيان هانز بيته، وكارل فون فايتزساكر في عام 1938 من تقديم تفسير كامل لكيفية إنتاج الشمس للطاقة من خلال تحول العناصر النووية.

وأخيراً، تقدم الفيزيائي جورح غاموف في عام 1948، بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات ومن دورة حياة النجوم، برأي مفاده أن الكون نفسه نشأ من تمدد بدئي للمادة أطلق عليه اسم (الانفجار العظيم)

لقد زودنا العلم من خلال هذه الكشوف الكثيرة أن عالمنا تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة، وفي جزء من السكستليون (أي 6 على مليون) من الثانية.. بعد البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد.. وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال.. تصوروا أن الكواكب والنجوم والمجرات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون كانت جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئاً.. وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق.. وكانت تلك اللحظة لحظة بداية المكان والزمان والمادة..

لا ينبغي أن تتصوروا أن الانفجار العظيم أحدث تمدداً في المادة في مكان قائم بالفعل.. فالانفجار العظيم هو نفسه تمدد المكان.. وهذا يمكن أن يفهمه العقل، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال.

عندما ظهرت هذه النظريات هب الكثير ممن لا زالوا سكارى العلم المتكبر.. ليتداركوا ما لقنه لهم أساتذتهم.. فراحوا يضعون نظريات بديلة في أصل الكون لاستنقاذ أزلية المادة..

الباحثون عن الله (57)

لكن كل تلك النظريات باءت بالفشل.. وثبت علميا أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء.. هكذا أعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك حين قال: (إن بداية الزمن أمر لا مناص منه)

وهكذا أعلن الفلكي روبرت جاسترو حين قال: (سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة)

لقد جعلني هذا أبحث عن إله يحكم هذا الكون.. فقد كانت كل الدلائل تدل عليه.. وصار كل العلماء الذين لقحوا أنفسهم ضد فيروس الكبر يعترفون به..

يقول الفيزيائي ادموند ويتيكر: (ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي، فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم)

وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة: (أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله)

2 ـ العقل

بعد أن عجزت معارفي العلمية أن تقاوم الأدلة الكثير التي لا تدل إلا على الله.. وبعد أن شعرت بحلاوة وجود الله.. وشعرت بأن البحث عنه لا يقل عن البحث عن أي حقيقة من حقائق الوجود التي نتفانى في البحث عنها مع أنه قد لا توجد بيننا وبينها أي صلة.. تحركت في عزيمة شديدة إلى خوض غمار البحث عن الله..

لكني بعد أن علمت هذا.. وشعرت بهذا.. وعزمت على هذا.. جاءت جحافل الشياطين

الباحثون عن الله (58)

تريد أن تعترضني بالوساوس والشبهات..

في ذلك الحين شعرت بآلام كثيرة.. ولم تطل تلك الآلام إذ أني ومن غير أن أقصد سمعت رجلا يقول، وأنا في السوق: (في بلدة من البلاد.. يقال لها (الله أباد) (1) يذوب الإلحاد، وتنتفي وساوس العباد)

أسرعت إلى الرجل أسأله عن هذه البلدة العجيبة التي يذوب فيها الإلحاد، فابتسم الرجل، وذكر لي أنه لم يقل شيئا، وأن ما سمعته منه قد لا يكون سوى بعض تلك الأحاديث التي نسمعها من غير أن نعرف مصدرها.

لكني صممت أن أبحث عن مدينة تحمل ذلك الاسم.. فسألت عنها.. إلى أن وجدت من يدلني عليها..

عندما دخلت إليها تعجبت من نظامها البديع وجمالها الباهر، فقلت لنفسي: أيمكن لمن يعيش في مثل هذه البلدة المتطورة أن ينشغل بالله؟

فأمسك بيميني رجل منهم، وقال: لاشك أنك تبحث عن الله..

قلت: وما أدراك؟

قال: لا يقصدنا هذه الأيام أحد إلا لأجل هذا.

ضحكت، وقلت: وهل حل (الله) ببلادكم حتى تأتي الخلائق لتزوره (2

تغير وجهه تغيرا شديدا، وقال: الله أعظم من أن يحل ببلدة، فالله لا يحيط به المكان ولا الزمان.. وكيف يحيط به، وهو الذي خلق المكان والزمان.

قلت: فما الذي تقصد بزيارة الخلق لبلادكم بحثا عن الله؟

__________

(1) الله أباد، اسم فارسي يعني (مدينة الله)، وأقصد بها مدينة رمزية، وهي في الواقع إحدى مدن ولاية أوتار براديش التي تقع في شمال الهند، وهي المركز الإداري لمقاطعة الله أباد.

(2) لم نذكر مثل هذه التعابير في هذا المحل إلا للضرورة التي استدعته، وإلا فلا يجوز الحديث عن الله بمثل هذا..

الباحثون عن الله (59)

قال: أنت تعلم أن للإلحاد سوقا في هذا الزمان، وأنه ينتشر في بلاد الله كما ينتشر النار في الهشيم..

قلت: أعلم ذلك.

قال: لقد تعذب الخلق بهذا.. ولهذا تراهم يبحثون عن الله.. ويبحثون عن الأدلة على وجوده وكماله ليقضوا بها على تلك الوساوس التي ملأهم بها الشياطين.

قلت: أعلم كل ذلك.. ولكني أتساءل عن علاقة ذلك ببلدتكم.

قال: عندما رأى رجال من أهل الله من هذه البلاد ما حل بالخلق راحوا يبحثون في موازين العقول عن الأدلة التي تنفي كل شبهة، وتقمع كل وسواس.. ونحن نسميهم هنا (المتكلمون).. وهم حقيقة (متكلمون)، فلديهم من القدرات العقلية.. ولديهم من طرائق الإقناع الحقيقي لا الوهمي ما يملؤك بالعجب.. وهم فوق ذلك نذروا أنفسهم لله، فلا تراهم يحامون إلا عنه، ولا تراهم ينتصرون إلا له.

قلت: لقد شوقتني إليهم.. فدلني عليهم.

قال: سر فقط في هذه البلاد.. سر في شوارعها شارعا شارعا.. فلن تعدم في أي شارع من أي متكلم.

قلت: وكيف أعرفهم والخلق كثير؟

قال: يسير ذلك.. حيثما رأيت الخلق مجتمعين، فثمة متكلمون.

قال لي ذلك، ثم انصرف.. وقد رأيت كل ما ذكره لي.. فلم أسر في شارع من الشوارع، إلا ورأيت فيه من ينتصر لوجود الله، وينفي كل الشبه التي تقذفها الشياطين.

لن أحدثكم بكل ما سمعت.. سأكتفي بعشر مناظرات فقط.. لعل فيها ما يقنع أي عاقل..

وقد اخترت لكم ما يتناسب مع العقول المختلفة.. فالمتكلمون نهجوا مناهج مختلفة، لأنهم يخاطبون عقولا مختلفة.

الباحثون عن الله (60)

المناظرة الأولى

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة الأولى.

قال: في شارع من شوارع (الله أباد) رأيت قوما من الناس يلتفون حول رجلين (1)..

أما أحدهما، فيلبس ما يلبسه علماء الأزهر من ثياب.. وقد كانوا يطلقون عليه لقب (الباقلاني) (2).. ويظهر من خلال حديثه أن له براعة وخبرة طويلة في المناظرة.

وأما الثاني.. فهو ـ على ما يبدو ـ يوناني الأصل، فقد كان الناس يطلقون عليه لقب (ديموقريطس) (3)، ولست أدري هل هو لقبه.. أم أنه تسمى به تأثرا بذلك العالم اليوناني الكبير الذي ينسب إليه (المذهب الذري) (4)

__________

(1) تعمدنا في هذا المبحث أن نذكر في كل مناظرة حقيقية أو افتراضية رجلين: أما أحدهما فيكون من المتكلمين وقد حاولنا أن نختار متكلمين من مدارس مختلفة لنبين أنهم جميعا ـ مهما اختلفت مدارسهم ـ لا يقصدون إلا خدمة الحقيقة.

وأما الثاني، فهو من الملاحدة، باختلاف مدارسهم كذلك.. وذلك لأن من مقاصد هذه الرسالة التأريخ للإلحاد والتعريف بالملحدين وشبههم.. وننبه هنا كما نبهنا مرات كثيرة إلى أن أكثر ما نذكره من مناظرات هي مناظرات افتراضية، وذلك حتى لا يرمينا أحد من الناس بالكذب والدجل.

(2) نشير به إلى القاضي أبي بكر الباقلاّني (338 - 403 هـ)، وهو محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر، قاضٍ من كبار علماء الكلام، انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ولد في البصرة، وسكن بغداد فتوفيّ فيها. وقد قيل: إنه صنف سبعين ألف ورقة في الدفاع عن الدين.. كل ليلة خمسة وثلاثين ورقة.. بيد أن أشهر كتبه على الإطلاق هو كتابه (إعجاز القرآن) الذي حدّد فيه مفهومه للإعجاز القرآني. (انظر: الأعلام وغيره)

(3) نشير به إلى ديموقريطَسْ (460؟ ق. م -370؟ ق. م)، هو فيلسوف مادّي يوناني، حاول أن يبرهن أنَّ العالم مكوَّن من عدد غير محدود من الذَّرات، يتحرك في فراغ لا حدود له. وهذه الذَّرات جُسَيمات من المادَّة غير المرئية، وغير القابلة للانقسام، وغير المولّدة أو القابلة للإتلاف. وتختلف عن بعضها في الحجم والشَّكل والوضع. وكل شيء في هذا العالم مكوّن من مجموعة مختلفة عن غيرها من هذه الذَّرات، وقد جاء عالمنا من تركيب عَرَضي لهذه الذَّرات. وبسبب وجود عدد غير محدود من الذَّرات، فقد وجدت عوالم أُخرى أَيضًا.

(4) المذهب الذرّي هو عبارة عن فكرة فلسفية تطوّرت في اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد.. وهي ترى أن العناصر الأساسية للحقيقة تتشكّل من الذرة غير القابلة للانقسام والإتلاف، وهي مادة سابحة في الفضاء.. ويظنّون أن الذرّة لها حركة، ولكنها تنعدم وترتدُّ بعد ارتطامها. وقد تكوّنت الدنيا نتيجة هذه الحركات. ووجدت لفترة من الزمن ثم اختفت. وهذه العوالم والأشياء الظاهرية التي وجدت عليها تختلف فقط في الحجم والشكل وموضع ذراتها.

الباحثون عن الله (61)

سأنقل لكم بعض ما وصل إلى سمعي من حديثهما:

قال الباقلاني لديموقريطس: أنت الآن تريد أن تحيي بيننا ما ذهب إليه ديموقريطس من أفكار.. ولا ألومك في ذلك.. ولكني أريد أن أسألك: هل دعاك لذلك المنهج العلمي الذي تفرضه العقول السليمة، أم أنه مجرد تعصب لرجل تزعم أنه من أجدادك؟

قال ديموقريطس: بكليهما أنا أحتج.. ولكليهما أنا أجنح.

قال الباقلاني: لا أستطيع أن أناظرك في الثاني.. فقد علمنا قرآننا أن المنهج الذي يعتمد على الآباء والأجداد منهج خاطئ، قال تعالى يعاتب من استعمله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ((البقرة:170)

قال ديموقريطس: وما يمنعك أن تناظرني، وقد ذكرت لك أني أجمع بين المنهجين.. ناظرني بالمنهج الذي تشاء منهما.

قال الباقلاني: أرى أن هذا لن يصل بنا إلى أي نتيجة.. لأني إن أقنعتك بالأول عدلت إلى الثاني، ولا طاقة لأحد في الدنيا أن يغلبك في الثاني إلا إذا كانت له طاقة إحياء الموتى.. فيحيي لك هذا الديموقريطس الذي حجب عقلك عن رؤية الحق والإذعان له.

قال ديموقريطس: لا بأس.. سأضحي بآبائي.. وأكتفي في المناظرة معك بما يراه عقلي.. عقلي المحرر من كل سلطة.

قال الباقلاني: الآن يمكن أن نتحاور.. فاعرض علي ما تراه من آراء لأناقشك فيها واحدا واحدا.

قال ديموقريطس: آرائي لا يمكن أن تفهمها إلا وهي في سلة واحدة.. فلذلك سأعرضها عليك جميعا.. ثم ناقشني بعدها كما تشاء.. أم أنك تعترض على هذا أيضا؟

الباحثون عن الله (62)

قال الباقلاني: لا.. لك ذلك.. فلن أقاطعك حتى تنتهي من جميع حديثك.

قال ديموقريطس: مذهبي الذي أراه والذي رآه قبلي جدي المبجل ديموقريطس وأستاذه (لوقيبوس) وعنهما أخذ أخذ جميع أساتدتنا المادّيين بعدهما، حتى فريق المادّيين المعاصرين.. في تفسير الوجود هو أن الوجود واحد.. وأنه ينقسم إلى عدد غير متناهٍ من الوحدات غير المتجانسة وغير المدركة بالحسّ، والواحد منها هو الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ.

وهذه الوحدات غير المتجانسة قديمة أزلية، نظراً إلى أن الوجود لا يمكن أن يخرج من العدم الكلي المحض، وهي دائمة أبدية، إذْ لا ينتهي الوجود إلى العدم الكلي المحض (اللاوجود مطلقاً)

والنفس عند جدي مادّية أيضاً، وهي مؤلفة من أدقّ الجواهر وأسرعها حركة..

وكلّ ظواهر الوجود الكوني تتحكم بوجودها آلية الحركة الذاتية للوحدات غير المتجانسة التي يتألف منها الوجود كله.

لقد مضى جدي ديموقريطس بالمذهب الذري إلى حده الأقصى، ووضعه في صيغته النهائية، فقال: (إن كلّ شيء امتداد وحركة فقط)

ولم يستثن في ذلك أي شيء.. لا النفس الإنسانية.. ولا الآلهة التي كان يعتقد بها أجدادنا اليونانيّون.. فالآلهة مركبة من جواهر كالبشر، إلا أن تركيبهم أدقّ، فهم لذلك أحكم وأقدر، وأطول عمراً بكثير، ولكنهم لا يخلدون.

ابتسم الباقلاني، وقال: أنت عرضت علي ما يراه جدك وأساتذتك من أطروحات تفسر الوجود.. ولم تذكر لي دليلا واحدا يدل عليها.

قال ديموقريطس: هي بمنطقيتها وبساطتها تفسر الوجود بما لا تحتاج معه إلى أي برهان.. فهي نفسها برهان على نفسها.

قال الباقلاني: فأذن لي أن أناقشك فيما ذكرته.. لأبين لك أنها مجرد هرطقات لا تستند إلى أي منطق، ولا إلى أي عقل.

الباحثون عن الله (63)

لقد ذكرت لي أن جدك ذهب إلى أن العدم الكلي المحض لا يمكن أن يتحول إلى الوجود بنفسه، وأن ما هو أزلي لا بد أن يكون أبدياً.. وهذا حق لا يمكنني أن أجادلك فيه.. لأن العدم الكلي المحض لا يمكن ـ عقلاً وبداهة ـ أن يتحوّل بنفسه إلى الوجود، فالعدم لا شيء، ويستحيل عقلاً أن يتحول اللاشيء إلى شيء.

وما هو أزلي – أي: واجب الوجود – لا يمكن أن تأتيه حالة يكون فيها ممكناً حتى يقبل فيها العدم.

انفرجت أسارير ديموقريطس عن ابتسامة عريضة، فقال الباقلاني: لقد صدق جدك في هذا.. ولكنه لم يأت فيه بجديد، فكل العقول توقن بهذا..

قال ديموقريطس: ولكن جدي استنتج من هذا أزلية المادة.

ابتسم الباقلاني، وقال: ما ذكرته هو قانون.. وإثبات أزلية المادة يحتاج إلى أدلة خاصة تثبتها.. ولا توجد مثل هذه الأدلة.. فالمادّة بطبيعتها المتغيّرة والمتحوّلة القابلة للتحليل والتركيب، لا تصلح أن تكون أزلية، وما ليس أزلياً فهو حادث، وما هو حادث لا بدّ له من مُحْدث.

قال ديموقريطس: فما أدلة الحدوث (1

ابتسم الباقلاني، وقال: كما اعتمدت على جدك في آرائه.. فأنا أيضا كان لي جد.. وكان له نفس لقبي.. وقد ذكر مع جميع أساتذته أربعة دعاوى، لكل دعوى برهانها، وهي تشكل جميعا البرهان الدال على حدوث الكون (2).

__________

(1) ذكرنا هنا أدلة المتكلمين.. والعلماء المحدثون يستدلون على الحدوث بأن الكون لو كان قديما لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود، وهذا ما يؤكده العلم التجريبي في (القانون الثاني للحرارة الديناميكية)، والذي ينص على أن الطاقة في الكون تقل تدريجياً بصورة مطردة.

(2) هذا الدليل هو متمسك المتكلمين على اثبات حدوث العالم، وهو مذكور في أكثر كتب الكلام كالتمهيد للباقلانى، وأصول الدين لعبد القاهر البغدادى، وشرح المقاصد للتفتازانى وشرح العضدية للجرجانى.. وقد عبر الباقلاني عنه باختصار في الإنصاف مستدلا له بالنقل، فقال: (يجب أن يعلم: أن العالم محدث؛ وهو عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، والدليل على حدوثه: تغيره من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة، وما كان هذا سبيله ووصفه كان محدثاً، وقد بين نبينا (هذا بأحسن بيان يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة، لما قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن بدء هذا الأمر؟ فقال: نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء، ثم خلق الله الأشياء فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل - عليه السلام -، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة؛ لأنه لما رأى الكوكب قال: {هَذَا رَبِّي) (الأنعام: من الآية 76)، إلى آخر الآيات، فعلم أن هذه لما تغيرت وانتقلت من حال إلى حال دلت على أنها محدثة مفطورة مخلوقة، وأن لها خالقاً، فقال عند ذلك وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)

الباحثون عن الله (64)

قال ديموقريطس: فما الدعوى الأولى، وما برهانها؟

قال الباقلاني: نحن ندعي أن العالم مكون من أجسام وأعراض.. فالأجسام هي ما قامت بنفسها.. والأعراض ما قامت بغيرها وهي الأجسام ومثالها الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.

ولا أظن أنك تجادلني في هذا.. فالإنسان ـ مثلا ـ يبدأ نطفة، ثم يتحول علقة، فمضغة، ثم يكتمل خلقه فى رحم أمه، ثم يولد فيصير طفلا، فشابا، فكهلا، فشيخا، حتى يدركه الموت.. فكلها تغيرات مرتبطة بالزمن.. ويقاس على ذلك كل ما فى الكون من جزئيات.. فكل ما فى الكون متغير.

قال ديموقريطس: لا أجادلك في هذا.. فما الدعوى الثانية؟

قال الباقلاني: نحن ندعي أن الأعراض محدثة..

قال ديموقريطس: فما دليك على ذلك؟

قال الباقلاني: الدليل على ذلك أنها تعدم.. والقديم لا يعدم..

قال ديموقريطس: فما الدليل على عدمها؟

قال الباقلاني: الحس هو دليلي على ذلك.. فنحن نشاهد كل ما هو متحرك ينعدم، فيسكن، وهكذا في الباقي.

قال ديموقريطس: فما الدليل على عدم انعدام القديم؟

الباحثون عن الله (65)

قال الباقلاني: الدليل على أن القديم لا ينعدم هو أن القديم إما أن يكون لذاته أو لغيره.. وليس من الجائز أن يكون القديم لغيره.. لأنه لو كان كذلك فمن حق هذا الغير الذي هو علته تقدم هذا القديم فيكون حادثا.

وليس من الجائز أن يكون قدمها لذاتها، فإذا كان كذلك فإن ذاتها باقية، فيستحيل عدمها لكنها عدمت، فيلزم أنها حادثة.

قال ديموقريطس: فما الدعوى الثالثة؟

قال الباقلاني: الدعوى الثالثة، هي أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة، ولم تتقدمها في الوجود.

والدليل على ذلك أنها لو خلت من الأعراض المحدثة أو تقدمتها في الوجود لجاز أن يكون الجسم لا متحركا ولا ساكنا.. وهذا لا يمكن فإنه إن كان غير متحرك فمعناه أن يكون ساكنا.. أما أن يكون الجسم ساكنا وغير ساكن في آن واحد فهذا مستحيل.

قال ديموقريطس: فما الدعوى الرابعة؟

قال الباقلاني: الدعوى الرابعة هي أن مالم يخل من الحوادث ولم يتقدمها في الوجود فهو حادث مثله.

والدليل على ذلك هو أن الحادث هو ما له أول، وكان معدوما قبلها، فلو كانت الأجسام قديمة، وهي غير منفكة عن الأعراض لكانت الأجسام موجودة قبل وجود الأعراض، وبالتالي انفكت عن وجود الاعراض، وهذا خلف فتعين أنها حادثة.

قال ديموقريطس: فما ترد على من من يجيز حوادث لا أول لها؟

قال الباقلاني: إن إثبات حوادث لا أول لها يلزم عنه ثلاثة محالات (1)..

أما الأول، فإنه لو ثبت ذلك لكان قد انقضى ما لا نهاية له، ووقع الفراغ منه وانتهى، ولا

__________

(1) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي.

الباحثون عن الله (66)

فرق بين قولنا انقضى ولا بين قولنا انتهى، ولا بين قولنا تناهى، فيلزم أن يقال قد تناهى ما لا يتناهى، ومن المحال البين أن يتناهى ما لا يتناهى وأن ينتهي وينقضي ما لا يتناهى.

وأما الثاني، فهو أن دورات الفلك إن لم تكن متناهية، فهي إما شفع وإما وتر، وإما لا شفع ولا وتر، وإما شفع ووتر معاً.. وهذه الأقسام الأربعة كلها محال؛ والمفضي إليها لا شك أنه محال..

إذ يستحيل عدد لا هو شفع ولا هو وتر، أو لا هو شفع ووتر.. فإن الشفع هو الذي ينقسم إلى متساويين كالعشرة مثلاً، والوتر هو أحد الذي لا ينقسم إلى متساويين كالتسعة، وكل عدد مركب من آحاد إما أن ينقسم بمتساويين، أو لا ينقسم بمتساويين، وأما أن يتصف بالانقسام وعدم الانقسام، أو ينفك عنهما جميعاً فهو محال.. وباطل أن يكون شفعاً لأن الشفع إنما لا يكون وتراً لأنه يعوزه واحد، فإذا انضاف إليه واحد صار وتراً، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد؟.. ومحال أن يكون وتراً، لأن الوتر يصير شفعاً بواحد، فيبقى وتراً لأنه يعوزه ذلك الواحد، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد؟

وأما الثالث، فإنه لو ثبت ذلك للزم عليه أن يكون عددان، كل واحد منهما لا يتناهى، ثم أن أحدهما أقل من الآخر، ومحال أن يكون ما لا يتناهى أقل مما لا يتناهى، لأن الأقل هو الذي يعوزه شيء لو أضيف إليه لصار متساوياً، وما لا يتناهى كيف يعوزه شيء؟

قال ديموقريطس: دعنا من هذا.. وأجبني على ما ذكره جدي من أنّ هذا الوجود نشأ صدفة.

قال الباقلاني: سأجيبك بما ذكره أحفاد جدك ممن هم أوفر علما، وأقدر على البحث في هذا باعتبار تخصصهم فيه (1).

انتفض ديموقريطس غاضبا، وقال: أحفاد جدي!؟.. من تقصد؟.. لا.. يستحيل أن يقول أحفاد جدي هذا.. لقد قال (هكسلى) ضاربا المثل على إمكانية الصدفة: (لو جلست ستة قردة

__________

(1) استفدنا المعلومات الواردة هنا من كتاب (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.

الباحثون عن الله (67)

أمام آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في (المادة) لبلايين السنين)

قال الباقلاني: وما أدرى (هكسلى) بمثل هذا.. إن كلامه هذا يناقض ما أثبته كل الرياضيين والعلماء الذين يحترمون أنفسهم وبحوثهم.

قال ديموقريطس: فأخبرني بما قالوا.

قال الباقلاني: لقد قال البروفيسور (ايدوين كونكلين): (إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة)

ويقول أحد العلماء الأمريكيين: (إن نظرية الصدفة ليست افتراضا وإنما هي نظرية رياضية عليا، وهى تطلق على الأمور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهى تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق، وللتدقيق في إمكان وقوع حادث من نوع معين وللوصول إلى نتيجة هي معرفة مدى إمكان وقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة)

وقال أحد العلماء..

قال ديموقريطس: دعنا من آراء الرجال.. وأقنعني بالحقيقة التي تدل عليها العقول.

قال الباقلاني: صدقت.. فآراء الرجال لن تزيدنا إلى تيها..

ولهذا سأحاول إقناعك بعدم إمكانية الصدفة علميا بتصوير ما تحتاجه الصدفة لتحقيق أي عمل.. لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد من 1 إلى 10، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدا، ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقى كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى.. فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه في المحاولة الأولى ه واحد على عشرة؛ وإمكان أن تتناول الدرهمين (2،1) بالترتيب واحد في المائة وإمكان أن تخرج الدراهم (4،3،2،1) بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف.. حتى إن الإمكان في أن

الباحثون عن الله (68)

تنجح في تناول الدراهم 1 إلى 10 بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات!!

لقد ضرب هذا المثال العالم الأمريكي الشهير (كريسى موريسن)، ثم استطرد قائلا: (إن الهدف من إثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس إلا أن نوضح كيف تتعقد (الوقائع) بنسبة كبيرة جدا في مقابل (الصدفة)

قال ديموقريطس: فكيف تطبق هذا المثال على ما نحن فيه من محاولة تفسير وجود الكون؟

قال الباقلاني: لو افترضنا أن المادة وجدت بنفسها في الكون.. وافترضنا أن تجمعها وتفاعلها كان من تلقاء نفسها ـ وليس هناك أي دليل على هذا ـ ففي هذه الحال أيضا لن نظفر بأي تفسير الكون، فإن (صدفة) أخرى تحول دون طريقنا.. فالرياضيات التي تعطينا نكتة (الصدفة) الثمينة هي نفسها التي تنفى أي إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون الصدفة.

لقد استطاع العلم الكشف عن عمر الكون وضخامة حجمه، والعمر والحجم اللذان كشف عنهما العلم الحديث غير كافيين في أي حال من الأحوال لتسويغ إيجاد هذا الكون عن قانون الصدفة الرياضي.

سأضرب لك مثا يقرب لك ذلك..

أنت تعلم أن الأجسام الحية تتركب من (خلايا حية).. و(الخلية) ـ كما تعلم ـ مركب صغير جدا، ومعقد غاية التعقيد، وهى تدرس تحت علم خاص يسمى (علم الخلايا) ومن الأجزاء التي تحتوى عليها هذه الخلايا: البروتين وهو مركب كيماوي من خمسة عناصر هي الكربون والهيدروجين والنتروجين والأوكسجين والكبريت.. ويشمل الجزيء البروتيني الواحد أربعين ألفا من ذرات هذه العناصر.

وفي الكون أكثر من مائة عنصر كيماوي كلها منتشرة في أرجائه، فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون (الصدفة)؟

أيمكن أن تتركب خمسة عناصر من هذا العدد الكبير لإيجاد (الجزيء البروتيني) بصدفة

الباحثون عن الله (69)

واتفاق محض؟

إننا نستطيع أن نستخرج من قانون الصدفة الرياضي ذلك القدر الهائل من (المادة) الذي سنحتاجه لنحدث فيه الحركة اللازمة على الدوام؛ كما نستطيع أن نتصور شيئا عن المدة السحيقة التي سوف تستغرقها هذه العملية.

لقد حاول رياضي سويسري شهير هو الأستاذ (تشارلز يوجين جواي) أن يستخرج هذه المدة عن طريق الرياضيات، فانتهى في أبحاثه إلى أن (الإمكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي الذي من شأنه أن يؤدى إلى خلق كون، إذا ما توفرت المادة هو واحد على 60/ 10 (أي 10×10 مائة وستين مرة)، وبعبارة أخرى: نضيف مائة وستين صفرا إلى جانب عشرة.. وهو عدد هائل وصفه في اللغة.

إن إمكان حدوث الجزيء البروتيني عن (صدفة) يتطلب مادة يزيد مقدارها بليون مرة عن المادة الموجودة الآن في سائر الكون، حتى يمكن تحريكها وضخها، وأما المدة التي يمكن ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية فهي أكثر من 243/ 10 سنة.

إن جزيء البروتين يتكون من (سلاسل) طويلة من الأحماض الأمينية، وأخطر ما في هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها هذه السلاسل بعضها مع بعض فإنها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة سما قاتلا، بدل أن تصبح موجدة للحياة.

لقد توصل البروفيسور ج. ب. ليتز إلى أنه لا يمكن تجميع هذه السلاسل فيما يقرب من 48/ 10 صورة وطريقة.. وهو يقول: إنه من المستحيل تماما أن تجتمع هذه السلاسل بمحض الصدفة في صورة مخصوصة من هذه الصور التي لا حصر لها، حتى يوجد الجزيء البروتيني الذي يحتوى أربعين ألفا من أجزاء العناصر الخمسة التي سبق ذكرها.

ولابد أن يكون واضحا أن القول بالإمكان في قانون الصدفة الرياضي لا يعنى أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره بعد تمام العمليات السابق ذكرها، في تلك المدة السحيقة؛ وإنما معناه

الباحثون عن الله (70)

أن حدوثه في تلك المدة محتمل لا بالضرورة، فمن الممكن على الجانب الآخر من المسألة ألا يحدث شيء ما بعد تسلسل العملية إلى الأبد.

وهذا الجزيء البروتيني ذو وجود (كيماوي) لا يتمتع بالحياة إلا عندما يصبح جزءا من الخلية، فهنا تبدأ الحياة، وهذا الواقع يطرح سؤالا مهما علينا هو: من أين تأتى الحرارة عندما يندمج الجزيء بالخلية؟.. ولا جواب عن هذا السؤال في أي سفر من أسفار العلم.

إن من الواضح الجلي أن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون، متسترين وراء قانون الصدفة الرياضي لا ينطبق على الخلية نفسها وإنما على جزء صغير منها هو الجزيء البروتيني وهو ذرة لا يمكن مشاهدتها بأقوى منظار بينما نعيش، وفي جسد كل فرد منا ما يربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا.

لقد أعد العالم الفرنسي (الكونت دى نواي) بحثا وافيا حول هذا الموضوع وخلاصة البحث: أن مقادير (الوقت، وكمية المادة، والفضاء اللانهائي) التي يتطلبها حدوث مثل هذا الإمكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن، وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، وهو يرى: أن حجم هذه المقادير الذي سنحتاج إليه في عمليتنا لا يمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الإنسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث- علي وجه الصدفة- من النوع الذي ندعيه، سوف نحتاج كونا يسير الضوء في دائرته 82/ 10 سنة ضوئية (أي:82 صفرا إلى جانب عشرة سنين ضوئية) وهذا الحجم أكبر بكثير جدا من حجم الضوء الموجود فعلا في كوننا الحالي؛ فإن ضوء أبعد مجموعة للنجوم في الكون يصل إلينا في بضعة (ملايين) من السنين الضوئية فقط.. وبناءا على هذا، فإن فكرة أينشتين عن اتساع هذا الكون لا تكفى أبدا لهذه العملية المفترضة.

أما فيما يتعلق بهذه العملية المفترضة نفسها، فإننا سوف نحرك المادة المفترضة في الكون المفترض بسرعة خمسمائة (تريليون) حركة في الثانية الواحدة، لمدة 243/ 10 بليون سنة (243

الباحثون عن الله (71)

صفرا أمام عشرة بلايين)، حتى يتسنى لنا حدوث إمكان في إيجاد جزيء بروتيني يمنح الحياة.

ويقول (دى نواي) في هذا الصدد: (لابد ألا ننسى أن الأرض لم توجد إلا منذ بليونين من السنين وأن الحياة- في أي صورة من الصور- لم توجد إلا قبل بليون سنة عندما بردت الأرض)

هذا وقد حاول العلماء معرفة عمر الكون نفسه، وما ذكروه لا يكفي على أي حال من الأحوال خلق إمكان، يوجد فيه الجزيء البروتيني، بناء على قانون الصدفة الرياضي.

وأما ما يتعلق بأرضنا التي ظهرت عليها الحياة، فقد عرفنا عمرها بصورة قاطعة، فهذه الأرض كما يعتقد العلماء جزء من الشمس انفصل عنها نتيجة لصدام عنيف وقع بين الشمس وسيار عملاق آخر، ومنذ ذلك الزمان أخذ هذا الجزء يدور في الفضاء، شعلة من نار رهيبة، ولم يكن من الممكن ظهور الحياة على ظهره حينئذ لشدة الحرارة، وبعد مرور زمن طويل أخذت الأرض تبرد ثم تجمدت وتماسكت، حتى ظهر إمكان بدء الحياة على سطحها.

ونستطيع معرفة عمر الكون بشتى الطرق.. ومنها الطريقة التي توصلنا إليها بعد كشف (العناصر المشعة)، فإن الذرات الكهربية تخرج من هذه العناصر بنسبة معلومة بصفة دائمة؛ وهذا (التحلل) يقل الذرات الكهربية في هذه العناصر، لتصبح تلقائيا عناصر غير مشعة عبر الزمان، واليورانيوم أحد هذه العناصر المشعة، وهو يتحول إلى معدن (الرصاص) بنسبة معينة نتيجة لتحلل الذرات الكهربية، وهذه النسبة في الانتشار لا تتغير تحت أي ظروف من أدنى أو أقصى درجات الحرارة أو الضغط، ولهذا سنكون على صواب لو اعتبرنا أن سرعة تحول اليورانيوم إلى (الرصاص) محددة وثابتة لا تتغير.

إن قطع اليورانيوم توجد في كثير من الهضبات والجبال منذ أن تجمد في شكله الأخير، عند تجميد الأرض.. وإلى جانب هذا اليورانيوم نجد قطعا من الرصاص، ولا نستطيع أن ندعى أن كل هذا الرصاص نتج عن تحلل اليورانيوم، والسبب في هذا أن الرصاص الذي يتكون من تحلل اليورانيوم يكون أقل وزنا من الرصاص العادي، وبناء على هذه القاعدة الثابتة يمكننا أن نجزم بما

الباحثون عن الله (72)

إذا كانت أية قطعة من الرصاص من اليورانيوم، أو أنها قطعة رصاص عادى ونحن هنا نستطيع أن نحتسب المدة التي استغرقتها عملية تحلل اليورانيوم بدقة، فهو يوجد في الجبل من أول يوم تجمد فيه ونستطيع بذلك معرفة مدة تجمد الجبل نفسه!

لقد أثبتت التجارب أنه قد مر ألف وأربعمائة مليون سنة على تجمد تلك الجبال التي تعتبر- علميا- أقدم جبال الأرض، وقد يظن البعض منا أن عمر الأرض يزيد ضعفا أو ضعفين عن عمر هذه الجبال ولكن التجارب العلمية تنفي بشدة هذه الظنون الشاذة، ويذهب البروفيسور (سوليفان) إلى أن (المعدل المعقول) لعمر الأرض هو ألفا مليون سنة (1).

انظر.. فبعدما تبين لنا أن المادة العادية غير ذات الروح تحتاج إلى بلايين البلايين من السنين، حتى يتسنى مجرد إمكان الحدوث لجزيء بروتيني فيها بالصدفة، فكيف ـ إذن ـ جاءت في هذه المدة القصيرة في شكل مليون من أنواع الحيوانات، وأكثر من 200.000 نوع من النبات؟ وكيف انتشرت هذه الكمية الهائلة على سطح الأرض في كل مكان؟ ثم كيف جاء من خلال هذه الأنواع الحيانية ذلك المخلوق الأعلى الذي نسميه (الإنسان)؟

لقد قال عالم الأعضاء الأمريكي مارلين ب. كريدر ملخصا كل هذا: (إن الإمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق- عن طريق الصدفة - في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من (لا شيء)

وقال الأستاذ (كريسى موريسن) ـ ردا على مقولة (هيكل): (إيتونى بالهواء وبالماء وبالأجزاء الكيماوية وبالوقت وسأخلق الإنسان) ـ: (إن هيكل يتجاهل في دعواه: الجينات الوراثية ومسألة الحياة نفسها فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان، هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات)، أو حملة الاستعدادات الوراثية بعد ترتيب هذه الذرات، حتى

__________

(1) المعلومات العلمية المحضة هنا ـ والتي استفدناها من كتاب (الإسلام يتحدى) ـ ربما تكون قد تغيرت بفعل التطور العلمي، ولكنها مع ذلك تبقى صالحة للاستدلال.

الباحثون عن الله (73)

يعطيها ثوب الحياة.. ولكن إمكان الخلق في هذه المحولة بعد كل هذا لا يعدو واحدا على عدة بلايين، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها (صدفة)، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بل سوف يقررها ويعدها نتيجة لعبقريته)

وقال عالم الطبيعة الأمريكي (جورج إيرل ديفيس): (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن الكون هو الإله.. وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله)؛ ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيبا: إلها غيبيا وماديا في آن واحد!! إننى أفضل حاكمه ومديره ومدبره، بدلا من أن أتبنى مثل هذه الخزعبلات)

ما إن قال البلاقلاني هذا حتى رأيت (ديموقريطس) قد تغير وجهه، ثم نظر إلى ساعته وقال: ائذنوا لي.. لدي موعد.. ولا أستطيع أن أبقى هنا أكثر من هذا.. ربما نلتقي مرة أخرى.

قال ذلك، ثم انصرف مسرعا وعلى وجهه ترتسم ظلال أنوار لست أدري هل أنارت له، أم أنها وجدت من الشياطين من أطفأها.

المناظرة الثانية

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة الأولى.. فحدثنا عن المناظرة الثانية.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة العجيبة رأيت قوما من الناس يلتفون حول رجلين..

أما أحدهما فكان بادي الصلاح.. وكان الناس يطلقون عليه لقب (القاسم الرسي) (1)

__________

(1) أشير به إلى (أبي محمد الرسي) وهو القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو منسوب إلى ضيعة كانت له جهة المدينة يقال لها الرس، لم يسمح المنصور له بالإقامة فيها في كفاف من العيش، بل طلبه مع الطالبيين ففر إلى السند، وأعقب من ولده ثمانية أنبههم الحسين بن القاسم وكان زاهداً ومن نسله أئمة صعدة، (وأئمة صعدة من اليمن كانوا زيدية)، وذكر ابن خلدون في التاريخ أنه توفي سنة 245 هـ

والمناظرة منقولة من كتابه (الدليل الكبير في الرد على الزنادقة والملحدين)، والكتاب من جزئين: جزء يذكر فيه المؤلف أدلة وجود الله وينقد أدلة المعارضين ثم يبين صحة الإسلام ويتكلم في بعض مسائل العقيدة، والجزء الثاني عبارة عن مناظرة دارت بينه وبين ملحد كان يدور في البلاد يثير الشبهات حتى تلقفه الرسى ودارت بينهما مناظرة.

وقد جاء في مقدمة الكتاب: (هو كتاب رد فيه على رجل من أرباب النظر من الملحدة، وكان يغشى مجامع المسلمين ويورد عليهم الأسئلة الصعبة، في قدم العالم وغير ذلك، حتى وافاه المؤلف وأجابه على ما عنده من المشكلات فوضح له الحق وتاب إلى الله)

ونحب أن ننبه هنا إلى أن ما نذكره من هذه المناظرة هو جزء بسيط فقط منها، وقد أضفنا إليه ما يقتضيه المقام من الأدلة العقلية التي ذكرها المتكلمون.

الباحثون عن الله (74)

وأما الثاني، فكان رجلا لا يختلف كثيرا في مظهره وطريقة تفكيره عن (ديموقريطس).. وكان الناس يطلقون عليه لقب (أبيقور) (1).. ولست أدري هل كان ذلك هو لقبه الحقيقي أم أنه استعاره من أبيقور التاريخي.. ولكنه ـ مهما كان ـ يتبنى نفس الأفكار التي يتبناها أبيقور التاريخي (2).

__________

(1) أشير به إلى أبيقور (342 ق. م. - 270 ق. م.)، وهو فيلسوف إغريقي كان لأفكاره حول اللذة، والحرية، والصداقة، تأثير كبير على العالم الروماني ـ اليوناني.. وكان يرى بأن هناك مصدرين يسببان القلق للعقل البشري هما الخوف من الآلهة، والخوف من الموت.. وقد اعتقد أن هذه المخاوف مبنية على معتقدات خاطئة، وأنه يمكن التغلب عليها، وأعلن أن الآلهة موجودة ولكنها يجب ألاّ تشكل مصدر خوف، لأنها توجد بعيدًا عن البشر ولا تُعنى بأمورهم لأن هذا يتعارض مع سعادتها.

وذكر أبيقور أن الموت يجب ألاّ يُخشى، لأن الخير والشر يكمنان في الشعور، والموت بزعمه يُنهي الشعور، وإذا تحرر الشخص من هذه المخاوف، فبإمكانه أن يعيش حياة سعيدة بالسعي لملذات معتدلة وتجنُّب الألم، وإن أفضل طريقة للحصول على اللذة هي العيش بتعقل واعتدال وشجاعة وعدل وزرع بذور الصداقة.

وُلِدَ في جزيرة ساموس، وأدار مدرسة للفلسفة في أثينا منذ عام 306 قبل الميلاد وحتى وفاته.. وكان كاتبًا غزير الإنتاج، ترك ثلاث رسائل تلخص تعاليمه، ويمكن الوقوف على أفكاره وفلسفته في مصادر عديدة منها قصيدة طويلة للشاعر الروماني لوكريشيس عنوانها: في طبيعة الأشياء.. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

(2) أسس المذهب الأبيقوري ترجع إلى المذهب الذري الذي قال به (ديموقريطس) من قبل، لكن (أبيقور) أضاف فكرة الميل في التحرّك الآلي في الذرات، ليحصل التصادم بينها، فتتكوّن الظاهرات الكونية.

وللأبيقوريين أقوال يهاجمون فيها الدين الوثني المعدد للآلهة، والذي كان منتشراً بين اليونانيين وغيرهم، في تلك العصور.. فمن أقوال (لوكرتيوس) أحد الأبيقوريين: (إن الدين شرٌّ ما بعده شرّ، وإن الواجب على الإنسان ومهمة الفلسفة الأولى أن تتخلص نهائياً من كل دين، لأن الدين هو ينبوع كل شر)

وربما لم يكن في عهدهم ذلك صورة صحيحة عن دين رباني صحيح، وإنما لديهم أديان وثنية خرافية، لذلك شجبُوا الدين الذي رأوا نماذجه في عصورهم.

ولذلك نجد في تعبيرات الأبيقوريين: إن الذي يؤمن بالدين الشعبي المألوف ومعتقداته يرتكب خطيئة دينية في الواقع، بينما الذي لا يؤمن بها هو الذي يسلك سبيل الصواب.

وهجومهم على هذا النوع من الأديان لا شأن لنا به، وقد يكون لهم في ذلك عذر، لما عليه هذه الأديان من خرافات وأضاليل وأكاذيب.

ونشير هنا إلى أن هذه المناظرة التي ذكرناها ليست متوجهة للأبيقوريين على الخصوص.. لأن الرد عليهم ذكرناه في المناظرة السابقة.. وإنما ذكرناهم هنا ليتعرف القارئ على المواقف المختلفة من (الله)، فهذا من أغراض هذه الرسالة.

الباحثون عن الله (75)

سأقص عليكم كيف بدأت المناظرة وإلى ما انتهت..

لقد كنت أسير في ذلك الشارع، فرأيت رجلا يسرع إلى الرسي، ليخبره أن بعض الملحدين تسلل إلى (الله أباد)، وأنه أخذ ينشر الإلحاد بين العامة والدهماء.. وأنه كان إذا قابله العلماء والفقهاء أورد عليهم من المسائل ما يعجزهم.

فأسرع القاسم، ومعه الرجل، وأسرعت خلفهما، ولم نسر إلا قليلا حتى رأينا (أبيقور)، فقال له القاسم بعد أن هش له وبش، وعامله بما طلبه الإسلام من أهله من الأدب: بلغنى أنك تعرضت لنا وسألت أهل نحلتنا عن مسائلك، تريد أن تصيد أغمارهم بحبائلك.

قال أبيقور: أما إذ عبت أولئك وعيرتهم بالجهل، فإنى سائلك وممتحنك.. فإن أنت أجبت وإلا فأنت مثلهم.

قال القاسم: قل ما بدا لك، فسأحسن الاستماع، وعليك بالنصفة، وإياك والظلم ومكابرة العيان، ودفع الضرورات والمعقولات.. أجبك عنه، وبالله استعين وعليه أتوكل وهو حسبى وكفى ونعم الوكيل.

قال أبيقور: خبرنى ما الدلالة على أن الله هو الصانع؟

قال القاسم: الدلالة على ذلك قوله فى كتابه عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى

الباحثون عن الله (76)

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) ((الحج)

ضحك أبيقور بصوت عال، وقال: أراك لا تعرف الدور.. ثم تجلس هذا المجلس.

قال القاسم: فكيف تريد أن تبرهن لي على وجود إله من خلال ما تدعي أنها كلماته.. برهن لي أولا على وجوده، ثم برهن لي على أنه متكلم، ثم برهن لي على أن ما قرأته هو كلماته.. ودون كل ذلك خرط القتاد.

قال القاسم: أنا لم أذكر تلك الآيات كبرهان إلا من خلال المعنى الذي تحمله.. فأنا أعلم أن من لم يؤمن بوجود الله يستحيل أن يؤمن بكلام الله.

قال أبيقور: أنت تعلم أني من نسل الفلاسفة.. والفلاسفة قد تواطأوا فيما بينهم على مصطلحات خاصة، وعلى أساليب منتظمة في البرهان.. فاركب مطيتها وخاطبني.. فلا يحسن أن تخاطب الأمراء بلغة السوقة والدهماء.

قال القاسم: لك ذلك.. وسأذكر لك خمسة براهين على الشرط الذي ذكرت (1).

قال أبيقور: لا بأس بهذا.. فاذكر لي البرهان الأول.

قال الرسي: البرهان الأول هو برهان النظم والتدبير.. فالإنسان نراه بأحسن كيفية، والحيوان نراه بالمواهب الفطرية، والنباتات والأشجار والأزهار والأعشاب نراها ذات المناظر البهيّة والخصائص النفعية، وكذلك غيرها من الموجودات الأخرى التي لا تعدّ ولا تحصى فيما بين السماء إلى أطباق الثرى.

نرى أجزاءها وجزئيّاتها مخلوقة بأحسن نظم، وأتقن تدبير، وأحسن صنع، وأبدع تصوير.

__________

(1) استفدنا المادة العلمية الواردة في هذه المناظرة من كتاب (العقائد الحقة - دراسة علمية جامعة في أصول الدين الاسلامي على ضوء الكتاب والسنّة والعقل-) للسيد على الحسيني الصدر.

الباحثون عن الله (77)

ومن المعلوم بالبداهية لكلّ كبير وصغير، ولكلّ ذي عقل وإحساس أنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والخطأ لا يأتي بدقيق الحساب، والإتّفاق لا يأتي بهذا العجب العُجاب.

فيحكم العقل بالصراحة، ويذعن الوجدان بالبداهة أنّه لابدّ لهذا التدبير من مدبّر، ولهذا التنظيم من منظِّم، ولهذا السير الحكيم من محكِّم.

ويدرك جميع أولي الألباب أنّه لابدّ لهذا النظام الدقيق من خالق حكيم، ولابدّ لهذا التدبير العميق من مدبّر عليم خَلَقها وقدّرها وأدام بقاءها، وأحسن خلقها وتدبيرها، وهو الله تعالى شأنه وجلّت قدرته.

فوجود الخالق ممّا يدرك بالبداهة ويُحسّ بكلّ يقين.

قال أبيقور: فما البرهان الثاني؟

قال الرسي: البرهان الثاني هو برهان امتناع الصِّدفة.. فإنّا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم بما فيه من الخليقة المنتظمة، فلابدّ وأن نقول بأنّ الصِّدفة هي التي أوجدتها أو أنّ الطبيعة هي التي خلقتها..

بأن تكون هذه المجموعات الكبيرة الدقيقة الضخمة، في هذا العالم الكبير وجدت بنحو الصِّدفة وتحقّقت بنحو المصادفة.

قال أبيقور: فما المانع من هذا؟

قال الرسي: من الواضح أنّه لا يقبل حتّى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وُجِدَت بنفسها بالصدفة العمياء، أو بالطبيعة الصمّاء..

بل حتّى عقل المادّيين والطبيعيّين ـ كما تلاحظه في حياتهم ـ لا يقبل الصدفة.. لذلك تراهم يبحثون عن سبب جريمة صغيرة وقعت في بلادهم، وفوجئوا بها في دولتهم، ويتفحّصون عن علّتها، ولا يقبلون الصدفة فيها.

وترى طبيبهم الملحد ـ مثلا ـ يصرف مدّة مديدة، وساعات عديدة من عمره في سبيل معرفة

الباحثون عن الله (78)

سبب وجود غُدّة صغيرة في جسم إنسان مريض تصدّى لمعالجته، ولا يقبل أن يؤمن بأنّها وجدت بنحو الصدفة والإتّفاق، أو أوجدتها طبيعة الآفاق..

فكيف بهذه البدائع العظيمة في هذا العالم العظيم، هل يمكن قبول أنّها وجدت بالإتّفاق والصدفة!؟

والصدفة إن أمكنتها خلق شيء فلابدّ وأن تكون موجودة هي بنفسها.. فنسأل من هو مُوجِدها؟ وإن لم تكن موجودة فيقال: إنّ المعدوم لا يمكنه إيجاد شيء.. على أنّ الصدفة العمياء شاردة غير منتظرة، لا تخضع لأي حساب وقانون، بل تخالف الحسابات العلمية، فكيف يمكنها أن توجِد هذه الخلائق الكونيّة التي تُبهر العقول وتُدهش العقلاء؟

وكيف يمكنها أن توجِد المادّة الأولى لهذا العالم كما يزعمون حتّى يكون العالم ماديّاً؟

وكيف يمكنها أن توجِد تكاملها وعلّية موجوداتها فيما بينها ـ كما يدّعون ـ حتّى يكون العالم صدفياً؟ والحال أنّ الصدفة عمياء صمّاء، وليس لها حظٌّ من العطاء.

ولنبرهن على هذا الأمر بدليل عقلي علمي وجداني، ونفرض أنّ كتاباً صغيراً مرتّباً على مئة صفحة قد فُرّقت أوراقه وخُلطت أعداده، ثمّ اُعطيت بيد شخص أعمى حتّى يُرتّبها وينظّم صفحاتها بواسطة سحب تلك الأوراق مسلسلة إحداها بعد الاُخرى..

ترى ما هي نسبة إحتمال الموفّقية بأن يكون السحب الأوّل مصيباً للورق الأوّل؟ الجواب: 1%.

ثمّ ما هي نسبة إحتمال أن يكون السحب الثاني مصيباً أيضاً للورق الثاني؟

الجواب: 100001 وذلك بعمليّة (100001 = 1001 × 1001).

ثمّ ما هي نسبة أن يكون السحب الثالث أيضاً مصيباً للورق الثالث؟

الجواب: 10000001 وذلك بعمليّة (10000001 = 1001 × 1001 × 1001).

وهكذا.. وهلمّ جرّاً إلى موفّقية تنظيم إصابة السحب المئوي للورق المئة بنتيجة عدد تفوق

الباحثون عن الله (79)

المليارات ويستغرق حسابها الساعات.

هذه نسبة الصدفة في كتاب صغير فكيف بنسبة موفّقية الصدفة بالنسبة إلى هذا العالم الكبير؟

وهل يقبل العقل أو يصدّق الوجدان صدفيّة هذا النظام السماوي والأرضي المنتسق بهذا التنسيق البهيج؟

وهل يمكن قبول كون أساس العالم ومادّته المتكاملة موجودة بالصدفة كما يدّعون؟ كلاّ ثمّ ألف كلاّ!!

والحساب المنطقي الواضح هو أنّه إذا لم تصدق الصدفة صَدَقَ ضدّه وهو الخَلق والتقدير لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما، لا يجتمعان ولا يرتفعان.. ومن المسلَّم أنّ كذب أحدهما يستلزم صدق الآخر، فعدم إمكان الصدفة يستلزم صدق التقدير.

فتكون الخليقة موجودة بخلق وتقدير، وهو يدلّ على وجود المقدّر الخبير، وهو الله (جلّ جلاله)

قال أبيقور: فما البرهان الثالث؟

قال الرسي: البرهان الثالث هو برهان الاستقصاء.. فإنّ كُلاًّ منّا إذا راجع نفسه وتأمّل شخصه يشعر بوضوح، ويدرك ببداهة أنّه لم يكن موجوداً أزليّاً بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم، وقد وُجد في زمان خاصّ في عام معيّن وشهر معيّن ويوم معيّن.

فلنتساءل ونتفحّص ونبحث هل أنّا خَلَقْنا أنفسنا؟ وهل خَلَقنا أحدٌ مثلنا من الممكنات كآبائنا أو اُمّهاتنا؟ أو هل خَلَقَنا القادر الفاطر الواجب وهو الله (جلّ جلاله)؟

أمّا جواب الأوّل: فلا شكّ أنّنا لم نخلق أنفسنا حيث إنّه لم نكن موجودين في الزمان المتقدّم علينا، فكيف أعطينا الوجود لأنفسنا، وفاقد الشيء لا يعطيه..

ولو تمكّنا من إعطاء الوجود لأنفسنا، لأبقينا لها الوجود ضدّ الموت، ولا شكّ في عدم قدرتنا على ذلك، بل عدم قدرة الأقوياء منّا ومن كان قبلنا على ذلك.

الباحثون عن الله (80)

وأمّا جواب الثاني: فلا شكّ أيضاً أنّ آباءنا لم يخلقونا، بدليل أنّهم لم يعرفوا أعضاءنا وأجزاءنا ومطويات أبداننا ومضمرات أجسامنا، فكيف بخلقة حقيقتنا، ومعلوم أنّ الخالق يلزم أن يعرف ما خلقه، والصانع يعرف ما صنعه.

مع أنّ آباءنا بأنفسهم يموتون ولا يمكنهم إعطاء أو إبقاء الوجود لأنفسهم فكيف يعطونه لأبنائهم؟

لا يبقى بعد التفحّص والإستقصاء إلاّ الشقّ الثالث، وهو أنّ الله هو الذي خَلَقَنا، وهو الذي خلق كلّ شيء، وهو القادر على كلّ شيء الوجود والإفناء، والموت والبقاء، وهو الخبير بمخلوقه بكلّ محتواه، والعالم بأولاه وعُقباه.

وبهذا الإستقصاء التامّ تحكم الأفهام، بوجود الخالق العلاّم.

قال أبيقور: فما البرهان الرابع؟

قال الرسي: البرهان الرابع هو برهان الحركة.. فإنّا نرى العالم الكبير بجميع ما فيه متحرّكاً، ويراه الجميع من الإلهيّين والمادّيين في تغيّر، والكلّ يعرفه بحركة وعدم سكون، ومعلوم أنّ الحركة تحتاج إلى محرّك، وبديهي أنّ الأثر لابدّ له من مؤثّر، لأنّ الحركة قوّة والقوّة لا توجد بغير علّة.

إذن فلابدّ لهذه الحياة المتحرّكة في جميع نواحيها من أعلاها إلى أسفلها، بكواكبها وأراضيها وشمسها وقمرها، وأفلاكها ومجرّاتها.. لابدّ لها ممّن يحرّكها ويديم حركتها، وحتّى أجزاء العناصر الساذجة ثبت في علم الفيزياء أنّها تدور وتتحرّك حول مركزها بدوام.

ومن المعلوم أنّ القوّة والحركة لا توجد إلاّ بدافع ومحرِّك، وهذا أمر بديهي يدركه كلّ ذي لبّ وشعور، ويعرف أنّه لابدّ لهذه الحركات العظيمة والتحوّلات الدائمة من محرّك حكيم قدير.

فمن ترى يمكن أن يكون مصدر هذه القوّة وفاعل هذه الحركة؟

هل المخلوقات التي نراها يعرضها الضعف وتحتاج بنفسها إلى المساندة!؟

وهل يناسب أن يكون المحرّك غير الله القوي الخبير؟

الباحثون عن الله (81)

ولقد سُئِلَتْ امرأة بدويّة كانت تغزل الصوف بمغزل صغير عن دليلها على وجود الله تعالى، فأمسكت عن تحريك المغزل حتّى توقّف فقالت: دليلي هو هذا التوقف..

قالوا: وكيف ذلك؟

فأجابت: إذا كان مغزل صغير لا يتحرّك إلاّ بوجود محرِّك، فهل يمكن أن يتحرّك هذا الفلك الدوّار الكبير بلا محرّك له؟

وقد جاءت الحكمة في هذا المجال: إنّ البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدلّ على المسير، فهذه السماء ذات أبراج والأرض ذات حركة وارتجاج.. ألا تدلاّن على وجود الخبير البصير!؟

قال أبيقور: فما البرهان الخامس؟

قال الرسي: البرهان الخامس هو برهان القاهريّة.. فإنّ الطبيعة تنمو عادةً نحو البقاء لولا إرادة من يفرض عليها الفناء.

فالإنسان الذي يعيش، والأشجار التي تنمو، والأحجار التي هي مستقرّة في الأرض، لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال أو الإنهدام إلاّ بعلّة فاعلة قاهرة.

فكما أنّ تبدّل اللاشيء إلى الشيء يحتاج إلى علّة، كذلك تبدّل الشيء إلى اللاشيء لا يمكن إلاّ بعلّة.

فإنّا نرى هذا العالم قد اُحكمت جميع جوانبه بحيث ينبغي أن تسير سيراً دائماً بلا زوال، لكن مع ذلك نراها في زوال دائم ونقص راغم، وزوالها دليل على وجود مزيل لها.

فترى من هو علّة الإماتة والزوال؟ ومن اللائق أن يكون هو القاهر في جميع الأحوال؟

هل الإنسان بنفسه ـ وهو الذي يرغب أن يعيش دائماً ولا يموت أبداً ـ علّة لموت نفسه؟

أم هناك شيء من الممكنات ـ التي هي مقهورة زائلة بنفسها ـ تتمكّن من القاهرية المطلقة؟

أم أنّ القاهر لجميع المخلوقات هو القادر على خلقها فيقدر على فنائها؟

أليس هذا دليلا على أنّ هناك من يُميت ويقدر على الإماتة، كما هو قادر على الإحياء؟

الباحثون عن الله (82)

فنفس الموت دالّ على وجود المميت، كما كان الإحياء دالاًّ على وجود المحيى.

فمن هذا الذي يميته غير الذي يحييه؟ ومن هو قادر على الإبقاء والإفناء؟ ليس هو إلاّ الله الذي بيده الموت والحياة.. والقادر على الإبقاء والإفناء، الخالق لجميع المخلوقات جلّ شأنه وعظمت قدرته.

ما إن انتهى الرسي من قوله هذا حتى طأطأ أبيقور رأسه، وقال: بورك فيك.. لقد أجبت ببراهينك هذه على كل شبهة، وفندت ما كان يعشش في رأسي من وساوس الشياطين، واسمح لي أن أصحبك لأتعرف على هذا الإله العظيم الذي كنت محجوبا عنه.

كبر جميع الحاضرين.. وكبرت معهم من غير شعور.. ثم سرت إلى شارع آخر.. لأسمع مناظرة أخرى.

المناظرة الثالثة

قال الجمع: فحدثنا عنها.. حدثنا عن المناظرة الثالثة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة رأيت قوما من الناس يلتفون حول رجلين.. أما الأول، فكان اسمه (الخوارزمي) (1)..

وأما الثاني، فكان اسمه (توماس هوبز) (2)

__________

(1) أشير به إلى أبي جعفر محمد بن موسى الخَوارزْمي (776 - 847 م)، رياضي فلكي مؤرخ من أهل خوارزم، عاصر الخليفة المأمون العباسي الذي أدرك فضله وأولاه رعاية عظيمة، وهو مؤسس علم الجبر وقد لقّب بأبي الجبر.. وقد اخترناه هنا باعتباره من المتكلمين للدلالة على أن العقل الإسلامي لم يتأثر بالنظريات الإلحادية التي راجت بين النخبة المثقفة في الملل الأخرى.. ولبيان أن نصرة الدين كانت من الكل علماء دين كانوا أم علماء دنيا، إن صح هذا التفريق.

(2) أشير به إلى (توماس هوبز) (1588 - 1679 م)، وهو فيلسوف إنجليزي، وأشهر كتاب له بعنوان (لفياثان) أو (شكل المادة)، و(سلطة الكومنولث الكنسيّة والمدنية) (1651 م)، تأثر هوبز بتطورين حدثا في زمانه، أولهما، النظام الجديد لعلم الطبيعة الذي كان جَالِيليُو وآخرون يحاولون التوصل إليه. وقد استنتج من أفكارهم أن المادة وحدها هي الموجودة، وأن أي شيء يحدث يمكن التنبؤ به وفقًا لقوانين علمية دقيقة، واعتقد الكثيرون في زمانه أن نظرته أنكرت وجود الله، والروح الإنسانية الحرة الخالدة، ولكنه نفى ذلك.

الباحثون عن الله (83)

قال هوبز، وهو ينظر للخوارزمي: نعم أنا مقتنع تماما بكل ما ذكرت.. لكني أسأل (من خلق الله؟.. وأين الله؟)

ابتسم الخوارزمي، وقال: أنت تتكلم عن الله، وكأنك تتكلم عن جسم مثلك.. أو كأنك تتكلم عن جهاز أو كائن أو جبل أو كوكب.. لو كنت تتكلم عن هؤلاء كان لك الحق في أن تسأل هذا السؤال.

إن هذا السؤال ينبع من افتراض عقلاني صحيح بالنسبة لبيئتنا المحيطة بنا، وهو أنه لا يمكن أن يوجد شيء نراه في محيطنا أو في هذه الدنيا بدون أن يكون له موجد أو صانع.

ولكن السؤال نفسه ليس صحيحاً بالنسبة لله، لأنه ليس شيئاً من الأشياء، بل هو موجد الأشياء، ولا يمكنك استخدام مسطرة عقلك لقياس أو تخيل الوجود الإلهي، فهو لا يشبهك في شيء، ولا يشبه شيئاً رأيته، ولا يمكن لعقلك القاصر تصوره.

جرب أن تدرس الرياضيات المتقدمة التي وضعها البشر لتعلم كم هي مدهشة تلك الإمكانيات الموجودة في العقل البشري، ولتعلم أيضاً أن افتراضات هذا العقل تصل أحياناً إلى التناقض وإلى المستحيل واللانهاية، وأن لهذا العقل حدوداً لا يمكنه تجاوزها.

سأضرب لك مثلا بتخصصي.. مثلا بالرياضيات.. هناك شيء في الرياضيات اسمه العامل العقدي، وهو (جذر-1).. وهو شيء افتراضي مستحيل الحدوث منطقياً ورياضياً حسب ما يقوله عقل البشر.

لأنك إذا قمت بعملية حسابية: -184-1=1

ولكن هل يوجد شيء في واقع الدنيا اسمه جذر -1؟

قال هوبز: لا.. لا يمكن أن يكون مثل هذا الجذر.

الباحثون عن الله (85)

قال الخوارزمي: ولكنه مع ذلك موجود.. فعلم التحريك وعلوم الفيزياء والهندسة تعتمد عليه، ولا يمكن لعلماء الصواريخ والمركبات وعلماء الفيزياء الذرية أن يحلوا كثيرا من معادلات التحريك بدون افتراض وجود هذا العامل، وافتراض أننا لا نفهم كيف هو لا يخرجه عن كونه موجودا.

وكذلك الله.. فنحن نعلم أنه موجود، ونعلم بعض صفاته فقط عن طريق ما وصلنا من رسله وأنبياءه.. ولكنا لا نعلم أي شيء عنه عن طريق مسطرة وميزان العقل البشري والاكتشافات البشرية.. لا يمكننا ذلك أبدا.

تخيل لو أن الكمبيوتر الذي تعمل عليه أو أي جهاز صنعه الإنسان كان له عقل ليفكر ويقارن الإنسان مع ذاته..

ماذا سيقارن؟.. وكيف سيقارن؟

هل يمكنه أن يعلم عن الإنسان شيئاً غير المعلومات التي أدخلها إليه المبرمج؟

وإذا كانت له إرادة مستقلة كتلك التي لدى الإنسان، هل يمكنه إلا أن يتصور أنك مصنوع من معدن وبلاستيك وزجاج، وأن سعة ذاكرتك كذا وكذا؟

ربما تبدو هذه المقارنة سخيفة، ولكن هذا بالضبط ما تفعله أنت عندما تقول: (من خلق الله وأين الله؟)

قال هوبز: فلماذا لا نراه؟

ابتسم الخوارزمي، وقال: لسبب بسيط، وهو أنك لا تملك الأدوات المناسبة لذلك، سواء في جسمك وتكوينك، أو عقلك، أو ما يبتكره الإنسان من أدوات القياس الحديثة.

هل تريد أن ترى الله تعالى ببصرك القاصر المحدود الذي لا يستطيع أن يرى سوى جزء بسيط من مجال الموجات الكهربائية، وهي فقط ألوان الطيف المرئي من الضوء؟

أنت لا تستطيع رؤية الكثير الكثير من الأشعة الموجودة في هذه الدنيا فضلاً عن الأشعة

الباحثون عن الله (86)

الموجودة في الفضاء الخارجي، ولم يكتشف الإنسان وجود هذه المجالات الإشعاعية إلا في العصر الحديث، بأجهزة تطورت مع تقدمه العلمي، وصارت قادرة على القياس لكثير من هذه المجلات، وأثبتت محدودية قدرات جسم الإنسان.

بل إن كثيراً من الحشرات مثل النحل والفراشات تملك خاصية إبصار أفضل منك وأسرع بآلاف المرات، وتستطيع أن ترى الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وأن تحدد الزهور المفيدة المحتوية على الرحيق بناء على هذه القدرات، وهذا ما اكتشفته أجهزة الإنسان وأبحاثه الحديثة.

لقد اكتشفنا ـ من خلال ما أتاحه الله لنا من أجهزة ـ أن معلوماتنا السابقة وقدراتنا قليلة جداً بالمقارنة مع ما في هذا الكون من الموجودات حتى أن بعض البشر الأكثر علماً وذكاء ـ وهو مكتشف النظرية النسبية (آينشتاين) ـ توصل بعقله وعلمه وفلسفته وتجاربه الفيزيائية أنه لا يمكن أن يوجد شيء أو شعاع أو طاقة بمقدورها أن تتجاوز سرعة الضوء - وقد توصل إلى ذلك ليس فقط فيزيائياً وتجريبياً، بل رياضياً وعقلياً - بناء على أقصى ما يستطيع هذا العقل البشري المحدود تصوره – وقال: إن سرعة الضوء تساوي رقماً معيناً وهو حوالي 300000 كيلومتر في الثانية - وهذا يعني أن هناك حدوداً لما يستطيع الإنسان أن يتخيل أو يفترض ويقيس بأجهزته ومعداته.

سكت الخوارزمي قليلا، ثم قال: لقد ذكر الله تعالى هذا الدليل بصيغة محكمة قوية مليئة بالمعاني.. لقد عبر عن ذلك بقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ((الأنعام:103)

انظروا دقة التعبير القرآني.. لقد وضحت العلوم الحديثة الآية أكثر مما وضحته العلوم القديمة.. فالأبصار تستطيع أن تجري خلف شيء معين وتلحقه وتدركه عن طريق ما يسمى المطابقة البصرية، وذلك إذا كان يقع ضمن المجال المرئي أو المجال الذي يمكن قياسه، وأما الله تعالى فلا يمكن للأبصار ولا حتى أحدث أجهزة القياس البشرية أن تدركه.

وفي قوله: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (إشارة إلى أن ذلك من مقتضيات لطف الله بعباده،

الباحثون عن الله (87)

فلذلك لا يصدمهم بأكثر من حدود طاقاتهم البصرية والعقلية وقدرتها على الاحتمال أو الاستيعاب.

وهو أيضاً الخبير بهذه الطاقات وحدود قدرتها فهو الذي صممها وصنعها وركبها في مخلوقاته.

المناظرة الرابعة

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة.

قال: سرت إلى شارع آخر فوجدت شابا وقورا كان الجمع يطلق عليه اسم (الغزالي) (1).. ولست أدري هل كان ذلك هو اسمه الذي سماه به أبوه (2)، أم أنه أطلق عليه ذلك لمشابهته أبي حامد الغزالي في استجرار الذين يحاورهم إلى الحق بأنواع الحجج والبراهين بهدوء واتزان وذكاء.

وأما الثاني، فكان شيخا يبدو عليه التأثر بقومنا، فهو يلبس لباسنا، ويرطن بعربية مختلطة بالعجمة.. وقد كان الناس يطلقون عليه اسم (مظْهر) (3).. ولست أدري هل كان ذلك هو اسمه

__________

(1) أشير به إلى شيخنا الجليل العلامة الشيخ (محمد الغزالي)، وهو: محمد الغزالي أحمد السقا (1917 - 1996 م)، وهو أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، عرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي وكونه من المناهضين للتشدد والغلو في الدين.

وقد ذكر الشيخ محمد الغزالي هذا الحوار الذي اقتبسناه بتصرف هنا في كتابه قذائف الحق، قال في أوله: (دار بينى وبين أحد الملاحدة جدال طويل، ملكت فيه نفسى وأطلت صبري حتى ألقف آخر ما في جعبته من إفك، وأدمغ بالحجة الساطعة ما يوردون من شبهات).. وقد ذكرنا هنا نص الحوار بأنواع التصرفات التي جرينا عليها في هذه السلسلة.

(2) سمي الشيخ محمد الغزالي بهذا الاسم رغبة من والده بالتيمن بالإمام الغزالي، فقد رأى في منامه الشيخ الغزالي وأخبره أنه سوف ينجب ولدا، وأمره أن يسميه على اسمه الغزالي.

(3) أشير به إلى (إسماعيل مظْهر بنُ مُحمّد بن ِ عبدالمجيدِ) (1308 - 1381 هـ) كان أحدَ دعاةِ الداروينيّةِ في العصر ِ الحاضر ِ، ومن دعاةِ الشعوبيّةِ، أنشأ مجلّةِ العصور ِ في مصرَ وذلكَ في سنةِ 1927 م، وجعلَ من مجلّتهِ باباً للطعن ِ في الدين ِ، ونشر ِ الشعوبيّةِ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ والإلحادِ، كانَ معظّماً لليهودِ، وداعياً للسير ِ على نهجهم وطريقتهم، وكانَ يُسمّي نفسهُ: صديقَ دارون، وألّفَ في الانتصار ِ لنظريّةِ داروين مجموعة ً من المؤلفاتِ، ثمّ اعتنقَ الفكرَ الشيوعيَّ، وأنشأ حزباً أسماهُ حزبَ الفلاح ِ، جعلهُ منبراً لنشر ِ الشيوعيّةِ والاشتراكيّةِ، ثمّ في آخر ِ عمرهِ أعرضَ عن كلِّ ذلكَ، ورجعَ عن الكثير ِ من آراءهِ، وألّفَ كتاباً أسماهُ (الإسلامُ لا الشيوعيّة)، وقد اشرنا إلى تراجعه في هذه المناظرة..

الباحثون عن الله (88)

الحقيقي، أم أنه لقب كالألقاب التي تعود قومنا أن يتنابزوا بها.. فإن كان لقبا، فقد صدق من لقبه به، فقد كان كل شيء فيه يدل على اهتمامه الشديد بمظهره، ومراعاته الشديدة له.

لن أطيل عليكم.. سأقص عليكم الحوار كما سمعته حرفا حرفا..

بدأ مظهر الحديث، فقال متوجها للغزالي: إذا كان الله قد خلق العالم فمن خلق الله؟

قال الغزالي: كأنك بهذا السؤال أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لا بد لكل شئ من خالق!!

قال مظهر: لا تلقنى فى متاهات، أجب عن سؤالى.

قال الغزالي: لا لف ولا دوران، إنك ترى أن العالم ليس له خالق، أى أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد، فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلاً وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا: إن الله الذى خلق العالم ليس لوجوده أول؟

إنها قضية واحدة، فلماذا تصدق نفسك حين تقررها وتكذب غيرك حين يقررها، وإذا كنت ترى أن إلهاً ليس له خالق خرافة، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك، وفق المنطق الذى تسير عليه!!

قال مظهر: إننا نعيش فى هذا العالم ونحس بوجوده، فلا نستطيع أن ننكره!

قال الغزالي: ومن طالبك بإنكار وجود العالم؟ إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا فى طريق رهيب، فتساؤلنا ليس فى وجود العربة، وإنما هو: هل تسير وحدها أم يسيرها قائد بصير!!

ومن ثم فإننى أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك: إنه مردود عليك، فأنا وأنت معترفان بوجود قائم، لا مجال لإنكاره، تزعم أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة، وأرى أنه لا أول لها بالنسبة إلى خالقها.

فإذا أردت أن تسخر من وجود لا أول له، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين..

الباحثون عن الله (89)

قال مظهر: تعنى أن الافتراض العقلى واحد بالنسبة إلى الفريقين؟

قال الغزالي: إننى أسترسل معك لأكشف الفراغ والادعاء الذين يعتمد عليهما الإلحاد وحسب، أما الافتراض العقلى فليس سواء بين المؤمنين والكافرين..

إننى ـ أنا وأنت ـ ننظر إلى قصر قائم، فأرى بعد نظرة خبيرة أن مهندساً أقامه، وترى أنت أن خشبة وحديدة وحجرة وطلاءة قد انتظمت فى مواضعها وتهيأت لساكنيها من تلقاء أنفسها..

الفارق بين نظرتينا إلى الأمور أننى وجدت قمراً صناعياً يدور فى الفضاء، فقلت أنت: (انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه)، وقلت أنا: بل أطلقه عقل مشرف مدبر..

إن الافتراض العقلى ليس سواء، إنه بالنسبة إلىّ الحق الذى لا محيص عنه، وبالنسبة إليك الباطل الذى لا شك فيه، وإن كل كفار عصرنا مهرة فى شتمنا نحن المؤمنين ورمينا بكل نقيصة فى الوقت الذى يصفون أنفسهم فيه بالذكاء والتقدم والعبقرية..

إننا نعيش فوق أرض مفروشة، وتحت سماء مبنية، ونملك عقلاً نستطيع به البحث والحكم، وبهذا العقل ننظر ونستنتج ونناقش ونعتقد.

إننا نلحظ إبداع الخالق فى الزروع والزهور والثمار، وكيف ينفلق الحمأ المسنون عن ألوان زاهية أو شاحبة توزعت على أوراق وأكمام حافلة بالروح والريحان، ثم كيف يحصد ذلك كله ليكون أكسية وأغذية للناس والحيوان، ثم كيف يعود الحطام والقمام مرة أخرى زرعاً جديد الجمال والمذاق تهتز به الحقول والحدائق، من صنع ذلك كله؟

قال مظهر، وكأنه سكران يهذى: الأرض صنعت ذلك!!

قال الغزالي: الأرض أمرت السماء أن تهمى، والشمس أن تشع، وورق الشجر أن يختزن الكربون ويطرد الأوكسجين والحبوب أن تمتلئ بالدهن والسكر والعطر والنشا؟

قال مظهر: أقصد الطبيعة كلها فى الأرض والسماء!

قال الغزالي: إن طبق الأرز فى غذائك أو عشائك تعاونت الأرض والسماء وما بينهما على

الباحثون عن الله (90)

صنع كل حبة فيه، فما دور كل عنصر فى هذا الخلق؟ ومن المسئول عن جعل التفاح حلواً والفلفل حريفاً أهو تراب الأرض أم ماء السماء؟

قال مظهر: لا أعرف.. ولا قيمة لهذه المعرفة!!

قال الغزالي: ألا تعرف أن ذلك يحتاج إلى عقل مدبر ومشيئة تصنف؟ فأين ترى العقل الذى أنشأ والإرادة التى نوعت فى أكوام السباخ أو فى حزم الأشعة؟

قال مظهر: إن العالم وجد وتطور على سنة النشوء والارتقاء، ولا نعرف الأصل ولا التفاصيل!

قال الغزالي: أشرح لكم ما تقولون! تقولون: إنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان مجموعة من العناصر العمياء، تضطرب فى أجواز الفضاء، ثم مع طول المدة وكثرة التلاقى سنحت فرصة فريدة لن تتكرر أبد الدهر، فنشأت الخلية الحية فى شكلها البدائى، ثم شرعت تتكاثر وتنمو حتى بلغت ما نرى.. هذا هو الجهل الذى أسميتموه علماً، ولم تستحوا من مكابرة الدنيا به.

أعمال حسابية معقدة تقولون: إنها حلت تلقائياً، وكائنات دقيقة وجليلة تزعمون أنها ظفرت بالحياة فى فرصة سنحت ولن تعود.. وذلك كله فراراً من الإيمان بالله الكبير المتعال.

قال مظهر، وهو ساخط: أفلو كان هناك إله كما تقول كانت الدنيا تحفل بهذه المآسى والآلام، ونرى ثراء يمرح فيه الأغبياء وضيقاً يحتبس فيه الأذكياء، وأطفالاً يمرضون ويموتون، ومشوهين يحيون منغصين..

قال الغزالي: لقد صدق فيكم ظنى، إن إلحادكم يرجع إلى مشكلات نفسية واجتماعية أكثر مما يعود إلى قضايا عقلية مهمة!

ويوجد منذ عهد بعيد من يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبهم من عسر ويسر: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا

الباحثون عن الله (91)

وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ((الحج:11)

قال مظهر: لسنا أنانيين كما تصف، نغضب لأنفسنا أو نرضى لأنفسنا، إننا نستعرض أحوال البشر كافة ثم نصدر حكمنا الذى ترفضه..

قال الغزالي: آفتكم أنكم لا تعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا ووظيفة البشر فيها، إنها معبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكى يجوز الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه لا بد أن يبتلى بما يصقل معدنه ويهذب طباعه، وهذا الابتلاء فنون شتى، وعندما ينجح المؤمنون فى التغلب على العقبات التى ملأت طريقهم وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم: (يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ((الزخرف:68)

قال مظهر: وما ضرورة هذا الابتلاء؟

قال الغزالي: إن المرء يسهر الليالى فى تحصيل العلم، ويتصبب جبينه عرقاً ليحصل على الراحة، وما يسند منصب كبير إلا لمن تمرس بالتجارب وتعرض للمتاعب، فإن كان ذلك هو القانون السائد فى الحياة القصيرة التى نحياها على ظهر الأرض فأى غرابة أن يكون ذلك هو الجهاد الصحيح للخلود المرتقب؟

قال مظهر ـ مستهزئاً ـ: أهذه فلسفتكم فى تسويغ المآسى التى تخالط حياة الخلق وتصبير الجماهير عليها؟

قال الغزالي: سأعلمك ـ بتفصيل أوضح ـ حقيقة ما تشكو من شرور، إن هذه الآلام قسمان: قسم من قدر الله فى هذه الدنيا، لا تقوم الحياة إلا به، ولا تنضج رسالة الإنسان إلا فى حره.

وهذا التفسير لطبيعة الحياة العامة ينضم إليه أن الله جل شأنه يختبر كل امرئ بما يناسب جبلته، ويوائم نفسه وبيئته، وما أبعد الفروق بين إنسان وإنسان، وقد يصرخ إنسان بما لا يكترث به آخر ولله فى خلقه شئون، والمهم أن أحداث الحياة الخاصة والعامة محكومة بإطار شامل من

الباحثون عن الله (92)

العدالة الإلهية التى لا ريب فيها.

تلك هى النظرة الصحيحة إلى المتاعب غير الإرادية التى يتعرض لها الخلق.

أما القسم الثانى من الشرور التى تشكو منها يا صاحبى فمحوره خطؤك أنت وأشباهك من المنحرفين.

قال مظهر مستنكراً: أنا وأشباهى لا علاقة لنا بما يسود العالم من فوضى؟ فكيف تتهمنا؟

قال الغزالي: بل أنتم مسئولون، فإن الله وضع للعالم نظاماً جيداً يكفل له سعادته، ويجعل قويه عوناً لضعيفه وغنيه براً بفقيره، وحذر من اتباع الأهواء واقتراف المظالم واعتداء الحدود.

ووعد على ذلك خير الدنيا والآخرة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)

فإذا جاء الناس فقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وتعاونوا على العدوان بدل أن يتعاونوا على التقوى فكيف يشكون ربهم إذا حصدوا المر من آثامهم؟

إن أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم، وفى هذا يقول الله جل شأنه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)

قال مظهر: ماذا تعنى؟

قال الغزالي: أعنى أن شرائع الله كافية لإراحة الجماهير، ولكنكم بدل أن تلوموا من عطلها تجرأتم على الله واتهمتم دينه وفعله!

ومن خسة بعض الناس أن يلعن السماء إذا فسدت الأرض، وبدلاً من أن يقوم بواجبه فى تغيير الفوضى وإقامة الحق يثرثر بكلام طويل عن الدين ورب الدين..!!

إنكم معشر الماديين مرضى تحتاج ضمائركم وأفكاركم إلى علاج بعد علاج..

قال الغزالي ذلك، ثم انصرف والغضب باد على وجهه، وقد افترق الجمع بانصرافه.. وقد تعجبت إذ رأيت دموعا كثيرة بدأت تتجمع في عين (مظهر).. وقد استوحيت من خلال تجربتي

الباحثون عن الله (93)

أن كثيرا من أشعة النور قد تسربت إليه من خلال حديث الغزالي معه (1).

المناظرة الخامسة

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة الخامسة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت شيخا صاحب لحية بيضاء، لكنه خضبها بما زاده وقارا.. كان الناس يطلقون عليه لقب (الزّندَاني).. وكان يحاور بهدوء رجلا من بلادنا كان اسمه (البروفسور روبرت)، وقد كان على حسب ما يبدو صاحب منصب علمي مرموق (2).

سألقي على مسامعكم بعض ما سمعت من حديث..

قال الزنداني: هل لديك استعداد يا بروفسور لأن نتحاور حول الإيمان بالله.

قال روبرت: نعم

قال الزنداني: هل كنت قبل مائة سنة موجوداً؟

قال روبرت: لا.

فقال الزنداني: وهذه النباتات بأغصانها وجذورها وأزهارها هل كانت موجودة قبل آلاف أو مئات السنين؟

قال روبرت: لا.

قال الزنداني: وكذلك الحيوانات، ما كانت موجودة منذ الأزل.

قال روبرت: أجل.

قال الزنداني: إن علم الحفريات في الأرض قد أثبت أنه قد مرت فترة زمنية على الأرض لم

__________

(1) ذكرنا أن إسماعيل مظْهر قد تراجع عن الكثير من آرائه.. ونحب أن ننبه هنا من جديد إلى أن الحوار الذي ذكره الغزالي كان مع ملحد لم يسمه.

(2) كان البروفسور (روبرت) مدير لمعهد للأرصاد تشترك فيه سبع وخمسون جامعة أمريكية.. وقد جرى هذا النقاش ـ على حسب ما يذكر الزنداني ـ عقب المؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في إسلام آباد.

الباحثون عن الله (94)

يكن فيها نباتات ولا حيوانات بل ولا جبال ولا وديان ولا تربه ولا أنهار ولا بحار.

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: بل قد مر وقت لم يكن للكوكب الأرضي وجود، بل كان جزءاً من مادة السماء، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ((الأنبياء:30)

لاحظت وجه روبرت يتغير عندما قرأ الزنداني الآية.. فقال الزنداني: إن الشمس والقمر ونجوم السماء لم يكن لها وجود، وكانت دخاناً كما يقرر ذلك علماء الفلك اليوم، وكما يقرره القرآن من قبل في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ((فصلت:11).

قال روبرت: ما ذكرته الآية من وجود أصل دخاني للكون صحيح.

قال الزنداني: كما يقرر علماء الكون اليوم أن مادة الكون الدخانية (السديم) لم تكن موجودة، ووجدت بالانفجار العظيم، وكان الكون قبل ذلك عدماً.

قال روبرت: ما تقوله صحيح.

قال الزنداني: إذن لابد من وجود الخالق سبحانه الذي أوجد هذه المخلوقات من عدم، وعدد الأدلة على وجود الله الخالق كعدد هذه المخلوقات التي وجدت من العدم.

قال روبرت: نعم، لابد لهذا الكون من خالق.

قال الزنداني: فمن هو؟

قال روبرت: الطبيعة!

قال الزنداني: عندي قاعدة أخرى ستبين لنا من الخالق، وستعرفنا بصفاته.

قال روبرت: وما هي؟

قال الزنداني: أنظر إلى هذا المصباح (وكان في ذلك الشارع مصباح كهربائي (نيون)).

الباحثون عن الله (95)

قال روبرت: ماذا أنظر؟

قال الزنداني: هل الذي صنع هذا المصباح لديه زجاج؟

قال روبرت: نعم، وإلا فمن أين جاء هذا الزجاج؟

قال الزنداني: وهذا الصانع لديه قدرة على تشكيل الزجاج في شكل أسطواني منتظم.

قال روبرت: أجل.

قال الزنداني: وصانع المصباح لديه معدن (الألمنيوم الذي في طرفي المصباح).

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: وهو قادر على تشكيل الألمنيوم في شكل غطاء.

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: ألا ترى إلى الإحكام بين فتحة الاسطوانة الزجاجية والغطاء المعدني، ألا يدلك ذلك الإحكام على أن الصانع حكيم؟

قال روبرت: بلى.

قال الزنداني: وهذا المصباح يضئ بمرور التيار الكهربائي بين قطبيه ألا يدل ذلك على أن صانعه عالم بهذه الخاصية؟

قال روبرت: يمكنك أن تعرف ذلك بالضغط على زر المصباح الكهربائي فتحاً وإغلاقاً.

قال الزنداني: إذن تشهد الآن بأن صانع هذا المصباح يتصف بما يلي: لديه زجاج.. قادر على تشكيل الزجاج في شكل أسطواني.. لديه إحكام، لأنه أحكم فتحة الغطاء المعدني على فتحة الاسطوانة الزجاجية.. لديه علم بالكهرباء وخاصيتها عند مرورها في المصباح.

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: أتشهد بذلك؟

قال روبرت: أشهد.

الباحثون عن الله (96)

قال الزنداني: كيف تشهد بصفات صانع لم تره!؟

أشار روبرت إلى المصباح، وقال: هذا صنعه أمامي يدلني على ذلك.

قال الزنداني: إذن، المصباح أو المصنوع هو كالمرآة يدل على بعض صفات الذي صنعه، فلا يكون شئ في المصباح أو المصنوع إلا وعند الصانع صنعة أو قدرة أو جد بها ذلك الشي الذي نراه.

قال روبرت: أجل.

قال الزنداني: هذه القاعدة الثانية، ففي المخلوقات آثار تدل على بعض صفات خالقها سبحانه، وكما عرفت بعض صفات صانع المصباح من التفكر في المصباح، فسوف تعرف بعض صفات الخالق جل وعلا بالتفكر في مخلوقاته.

قال روبرت: كيف؟

قال الزنداني: فلننظر في خلقك أنت، ولنتفكر فيك بدلاً من المصباح، وعندئذ ستعرف بعض صفات خالقك.

فقال روبرت: كيف؟

قال الزنداني: هل درجة حرارة جسم الإنسان ثابتة أم متغيرة بحسب الطقس الخارجي؟

قال روبرت: بل ثابتة عند 37 ْ درجة مئوية.

قال الزنداني: إن في الجسم عوامل مثل: إفراز العرق، تقوم بتخفيض درجة حرارة الجسم إلى 37 ْ درجة عندما ترتفع درجة حرارة الجو التي قد تصل إلى أكثر من خمسين درجة، وفي الجسم أيضاً عوامل أخرى، كإحراق الطعام في الجسم، تعمل على رفع درجة حرارة الجسم إلى 37 ْ درجة عند انخفاض درجة حرارة الجو في الشتاء والتي قد تصل إلى درجاتٍ تحت الصفر.. فهل الذي أقام هذا الميزان المحكم الدائم في عمله في سائر أجسام البشر التي خلقت وسوف تخلق بحيث تبقى درجة الحرارة ثابتة عند 37 ْ لا تزيد ولا تنقص رغم تقلبات درجات الحرارة في الجو

الباحثون عن الله (97)

المحيط بنا، هل هو حكيم أم لا؟

أحس روبرت أنه إن سلم باتصاف الخالق بصفة الحكمة فستسقط الطبيعة التي لا حكمة لها، فلذلك قال: لا ليس بحكيم!

قال الزنداني: لقد أعد لك الجهاز الذي يضبط درجة الحرارة في الجسم وأنت جنين في بطن أمك، في رحمٍ مكيفة عند درجة سبعة وثلاثين في وقت لم تكن بحاجة إليه وأنت جنين في بطن أمك، وإنما تحتاج إليه بعد خروجك إلى هذه الأرض التي تتغير فيها درجات الحرارة فتكون عندئذ في أمس الحاجة إلى هذا الجهاز المنظم للحرارة والمثبت لها عند درجة 37 ْ وهي الدرجة المناسبة لكيمياء الحياة في جسم الإنسان. ألا ترى أن من زودك في بطن أمك بما ستحتاج إليه بعد خروجك عليم بالبيئة التي ستخرج إليها وما يلزم لها من تكوينات في خلقك!؟

أحس روبرت أنه إن سلم بأن الخالق يتصف بالعلم فستسقط الطبيعة التي لا علم لها ولا حكمة فعاد مرة ثانية إلى الإنكار والجحود. فقال روبرت: لا، ليس بعليم.

قال الزنداني: سأضرب لك مثالاً آخر.. هل ينمو جسمك باتزان أم بغير اتزان؟

قال روبرت: بل باتزان.. فلو كان بغير اتزان لرأيت عيناً أكبر من عين، ويداً أكبر من يد، ورِجلاً أكبر من رِجل.

قال الزنداني: الذي وضع الميزان في كل خلية في جسمك حكيم أم ليس بحكيم؟

قال روبرت: ليس بحكيم.

قال ذلك فراراً مرة أخرى من أن يعترف بالحكمة، فيُلزم بالاعتراف بالخالق، فقال الزنداني: يا بروفسور! أرأيت ميزان الحركة في جسمك الذي يعمل على تثبيت الجسم وموازنته بحيث لو انزلقتَ إلى الجهة اليسرى يعيدك فوراً إلى الجهة اليمنى بعمل تلقائي محكم، وهكذا لو انزلقت إلى أي جهة أخرى فيعيدك إلى الجهة المقابلة لها، هل الذي خلق لك جهاز التوازن في الحركة وأنت جنين في بطن أمك وجعله يعمل بسرعة البرق حكيم أم ليس بحكيم؟

الباحثون عن الله (98)

قال روبرت: ليس بحكيم!

قال الزنداني: سبحان الله!! ألا ترى أنك تكابر بكلامك هذا..

قال روبرت: لا.. لا أكابر.. أنا أقول لك ما أعتقده.

عدد له الزنداني له بعد هذا بعض الموازين المبثوثة في الكون مثل ثبات نسبة الأكسجين في الهواء، وتوازن سير القمر مع الأرض بحيث يسرع عند الاقتراب منها، ويبطئ عند الابتعاد عنها، والتوازن بين سرعة سير النجوم والكواكب والجاذبية بينها وبين غيرها من النجوم والكواكب، ثم قال له: ألا يدل ذلك كله أنه من صنع الحكيم؟

فقال روبرت: لا.

سكت الزنداني قليلا، ثم قال: يا برفسور.. سأقص عليك شيئا رأيته بعيني امتلأت منه دهشة.. أرجو أن تفسره لي (1).

قال روبرت: لا بأس.. سأفسره لك في حدود تخصصي.

قال الزنداني: لقد رأيت مرة زلزالا أصاب بلدنا.. وقد رأيت ظاهرة عجيبة مصاحبة للزلزال.. لقد رأيت قضيبا معدنيا يطير في السماء، ثم يسقط على مسمار فيخرقه في منتصفه، فيتزن القضيب، ثم رأيت مادة من اللحام تطير، فتقع على أحد طرفي القضيب، ثم رأيت طبقا معدنيا يطير فيقع على اللحام، ويشكل كفة ميزان، وبنفس الطريقة تكونت الكفة الثانية، وهكذا وجد لدينا ميزان!

تغيرت ملامح وجه روبرت، ثم قال: ما هذا؟ زلزال يصنع ميزاناً!؟

قال الزنداني: انتظر، هناك أعجب من هذا.. إنه يعمل بشكل آلي بحيث لو وضعت وزنا محدداً في كفة، فإنه يقوم بوضع نفس الوزن في الكفة الثانية، وإذا أنقصتها قام هو فأنقص ما يقابلها من الكفة الأخرى؛ لأنه لا يرضى الا أن يكون متزناً!

__________

(1) هذا من التصرف في النص.

الباحثون عن الله (99)

أخذ روبرت ينظر باستغراب ودهشة إلى الزنداني، وكأنه يتهمه بالجنون، فقال الزنداني متهكماً: يابرفسور جاء صدفة! ويعمل بالصدفة!

هنا فطن روبرت، فانفجر ضاحكا، فقال له الزنداني: أنت لم تقبل لي ميزاناً واحداً بالصدفة.. فكيف تزعم أن موازين السماوات والأرض كلها قد خلقت صدفة!

لم يجد روبرت ما يقول.. لكني رأيت بصيصا من النور قد بدأ يتسرب إليه لينسخ ظلمات الإلحاد التي كان غارقا فيها.

المناظرة السادسة

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة الخامسة.. فحدثنا عن السادسة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة، رأيت الناس يلتفون حول رجلين..

أما أحدهما، فكان الناس يطلقون عليه لقب (وحيد الدين خان) (1)، وتبدو عليه سمات الهنود التي تجمع بين البساطة والجمال.

وأما الثاني، فرجل إنجليزي يقال له (برتراند رسل) (2).. وهو رجل قد بلته الأيام، وحنت

__________

(1) أشير به إلى (وحيد الدين خان)، وهو مفكر مسلم هندي معاصر يجمع بين الفكر الإسلامي، والفكر العلمي الفلسفي.. وبتلك المقومات استطاع أن يناظر الملحدين واللادينيين بحججه الدامغة في العديد من كتبه، وتتميز مؤلفاته أنها تجمع بين البساطة والعمق، ولذلك فهي تناسب مختلف أنواع القراء، من مؤلفاته المترجمة إلى العربية (الإسلام يتحدى)، وهو أشهرها، وقد استفدنا منه في هذا المحل، و(الدين في مواجهة العلم)، و(حكمة الدين)، و(تجديد علوم الدين)، و(المسلمون بين الماضي والحاضر والمستقبل)، و(خواطر وعبر)

(2) نشير به إلى برتراند راسل (1872 - 1970)، وهو فيلسوف ورياضي وكاتب إنجليزي، وقد كان من أشهر الفلاسفة الذين عرفهم الفكر الفلسفي أثناء الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.. وقد ظل صاحب الخطوة الأولى لدى الذين يطلقون على أنفسهم تقدميين من المثقفين المعاصرين الملاحدة في أوروبا وغيرهم.. وهو ذو تطرف سياسي، ومتطرف جداً في إلحاده، وقد بسط أفكاره السياسية والإلحادية المتطرفة في كتابات أدبية مؤثرة.. أثرت كتاباته السهلة على العامة، وأثرت كتاباته العميقة على الفكر الأوروبي المعاصر كله.

ونحن ننبه هنا إلى أنا لا نقصد هنا الرد على كل ما يرتبط بأفكار راسل، وإنما نقصد فقط التنبيه إليه.. ورد ما يرتبط بموضوعنا هذا من أفكاره.

الباحثون عن الله (100)

ظهره السنون، ولكنها مع ذلك لم تمنعه من القدوم لتلك البلاد للبحث عن الله، والمناظرة في ذلك، والتواضع أمام من يناظره.

بدأ خان الحديث، فقال متوجها لراسل: وأخيرا التقينا يا راسل.. لطالما اشتقت إلى لقائك بعد أن قرأت كتبك، وعرفت نوع توجهك الفكري.

قال راسل: وما قرأت منها؟

قال خان: كلها تقريبا..

قال راسل: فأنت تعرفني الآن جيدا؟

قال خان: ربما أعرفك.. ولكن مع ذلك ليس الخبر كالعيان.

قال راسل: لقد سئلت ذات يوم: هل يحيا الإنسان بعد الموت؟.. فهل تدري بما أجبت؟

قال خان: أجل.. لقد نفيت حياة الإنسان بعد الموت.. واستدللت لنفيك بقولك: (عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم، وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكزٍ أو أساسٍ علمي، ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت. لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكن لهم الحب، يعطينا أكبر العزاء عند موتهم، ولكني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفه وآمالنا، ولا أحسب أن من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية) (1)

__________

(1) انظر الرد على هذا القول وما يشبهه في رواية (أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

الباحثون عن الله (101)

قال راسل: فما موقفي من الدين؟

قال خان: لقد عبرت عنه بقولك: (إن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب، وبالتالي فإن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم.. وهذا هو السبب في أننا نجد أن أولئك الذين لم يبلغوا بعدُ درجة كافية من النضج الأخلاقي والعقلي هم وحدهم الذين ما زالوا يتمسكون بالمعايير الدينية التي تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث)

قال راسل: فما موقفي من الأخلاق؟

قال خان: أنت ترى أن للإنسان إرادة حرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه في الحياة مثلاً عليا، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيرة، تسير على هدى المعرفة والمحبة الإنسانية، ومن شأن حرية الاختيار هذه أن تغني الإنسان عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها.

وذكرت أنه لا جدوى للنظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية، وبرهنت على ذلك بالأم التي تواجه مرض طفلها الصغير، وقلت في ذلك: إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب.

قال راسل: لقد كتبت قصة أدبية ذكرت فيها أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى دوراناً ذاتيا، ثمّ نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة، بطريق المصادفة، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون، يعود به كل شيء إلى سديم، كما كان أولاً.. أتعرف هذه القصة؟

قال خان: أجل..

قال راسل: أتدري ما الذي أقصده منها؟

قال خان: أنت تريد أن تبين من خلالها نشوء الكون وتطوره.. ونشوء الحياة وتطورها..

الباحثون عن الله (102)

وأصل الإنسان ونشأته وتطوره.. ونشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها.. وأخيراً أنت تشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء، وأنها الفناء والعدم، ولا أمل لكائن بعدها بشيء.. فالحياة من السديم، وإلى السديم تعود.

قال راسل: أراك ملما بأفكاري.. ولكني كما تعلم كنت متقلبا كل حين.. فهل تعلم النهايات الفكرية التي جئت إليك بها لعلك تستطيع أن تقنعني بما يجعلني أعدل عنها؟

قال خان: أجل.. وإلا لما قبلت أن أناقشك وأناظرك، فلا يمكن لمناظر أن يجهل من يناظره.

قال راسل: فأخبرني عنها (1).

قال خان: من ذلك أنك ذكرت أنك بعد أن درست الفيزياء، وعلم الحياة، وعلم النفس، والمنطق الرياضي، انتهيت إلى أن (مذهب التشكيك في الوجود مستحيل نفسياً)، ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة.

وتقول بالنسبة إلى الفلسفة: (تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى)

وتقول عن تصورنا العلمي للكون أنه (لا تدعمه حواسُّنا التجريبية، بل هو عالم مستنبط كلياً)

وبلغ بك الأمر في هذا إلى أن قلت: (إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب)، أي: إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع.

وانتهيت إلى أن التجربة قد أعطيت لها الأهمية الكبرى، ولذلك يجب أن تخضع (التجريبية) باعتبارها فلسفةً لتحديات مهمة.. وقد ذكرت سريان هذا حتى على النظريات والقوانين العلمية.

وقلت..

__________

(1) ذكر وحيد الدين خان، أنه قرأ كل أعمال (برتراند رسل) واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها.. وما نذكره هنا هو هذه الأقوال التي جمعها وحيد الدين خان.

الباحثون عن الله (103)

قاطعه راسل، وقال: أحسب أنك تعرف كل ما قلت، بل تحفظه عن ظهر قلب.. فهل تعرف ما قيل في؟

قال: من أحسن ما قيل فيك ما قاله البروفسور (ألان وود)، فقد قال: (إن برتراند رسل فيلسوف بدون فلسفة)

قال راسل: دعنا منه، فقد أعماه الحسد أن يرى محاسني.. دعنا منه.. وهيا لما اجتمعنا من أجله.. لقد سمعت مني ما قلت.. فبم ترد علي؟

قال خان: سأبدأ بموقفك من الطبيعة.. أو ركونك إلى الطبيعة.. فأنت ترى ـ انطلاقا من معارفك في البيولوجيا ـ أن الحوادث تحدث طبقا (لقانون الطبيعة).. ولهذا لا حاجة لأن نفترض لهذه الحوادث إلها مجهولا.

قال راسل: صحيح أنا أقول هذا.. ولست وحدي في ذلك.. فكل الفلاسفة الماديين يرددون هذا.

قال خان: لقد قال بعضهم يعبر عن علاقة الطبيعة بالكون: (إن الطبيعة حقيقة (من حقائق الكون) وليست تفسيرا (له).. وصدق في ذلك.. فما كشف عنه العلم من الكون هو الهيكل الظاهر منه فقط.. وكل مضمون العلم حوله هو إجابة عن السؤال: (ما هذا؟).. ولكن الدين هو الذي بين لنا الأسباب والدوافع الحقيقية التي تدور (وراء الكون)، وهو يجيب عن السؤال المهم: (ولكن لماذا؟)

ولتفهم هذا سأستعير لك مثالا بسيطا مقربا.. ألا ترى الكتكوت يعيش أيامه الأولى داخل قشرة البيضة القوية ويخرج منها بعدما تنكسر وكأنه مضغة لحم، كان الإنسان القديم يؤمن بأن الله أخرجه.. ولكننا اليوم بالمنظار نعلم أنه في اليوم الحادي والعشرين يظهر قرن صغير على منقار الكتكوت يستعمله في تكسير البيضة لينطلق خارجا منها، ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.

الباحثون عن الله (104)

ابتهج راسل، وقال: ها هو العلم يقضي على التفسير الخرافي الذي جاء به الدين.. فالقرن هو الذي أخرج الكتكوت، لا الإله.

ابتسم خان، وقال: إن التأمل فيما كشفه العلم ـ بعيدا عن الغرور والكبرياء والزهو ـ لا يدلنا إلا على حلقات جديدة للحادث، ولا يفسر الحادث..

قال راسل: كيف ذلك؟

قال خان: إن العلم لم يكتشف بعد السبب الحقيقي.. لقد غير صيغة السؤال فقط.. فبدل أن يكون السؤال عن تكسر البيضة أصبح عن (القرن)؟

إن السبب الحقيقي سوف يتجلى لأعيننا حين نبحث عن العلة التي جاءت بهذا القرن، العلة التي كانت على معرفة كاملة بأن الكتكوت سوف يحتاج إلى هذا القرن ليخرج من البيضة، فنحن لا نستطيع أن نعتبر الوضع الأخير (وهو مشاهدتنا بالمنظار) إلا أنه (مشاهدة للواقع على نطاق أوسع) ولكنه ليس تفسيرا له.

لقد ضرب البروفيسور (سيسيل بايس هامان) وهو أستاذ أمريكي في البيولوجيا، مثالا قريبا من هذا، فقال: (كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن تنسب من قبل إلى الإله، فأصبحت اليوم بالمشاهدة الجديدة تفاعلا كيماويا.. ولكن هل أبطل هذا وجود الإله؟.. فما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا؟.. إن الغذاء بعد دخوله فى الجسم الإنساني يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي، ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض، فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة!)

وعلى هذا المنوال نقول بأن الإنسان كان في القديم يعرف أن السماء تمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول قطرات الماء على الأرض وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرا لها.

الباحثون عن الله (105)

فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى أن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟ والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة.

لقد قال العالم الأمريكي سيسيل في هذا: (إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون) وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير)

سأوضح لك هذا بمثال بسيط..

لو أنك سألت طبيبا: ما السبب وراء احمرار الدم؟.. لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها جزء من البوصة.. فتقول له: حسنا.. ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟.. فيجيبك: في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين)، وهى مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين فى القلب.. فتقول له: هذا جميل.. ولكن من أين تأتى هذه الخلايا التي تحمل الهميوجلوبين؟.. فيجيبك: إنها تصنع في كبدك.. فتقول له: عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها بعضها ببعض ارتباطا كليا، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟.. فيجيبك: هذا ما نسميه بـ (قانون الطبيعة).. فتقول له: ولكن ما المراد بـ (قانون الطبيعة) هذا، يا سيدي الطبيب؟.. فيجيبك: المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية للقوى الطبيعية والكيماوية.. فتقول له: ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟.. فيجيبك: لا تسألني عن هذا، فإن علمي لا يتكلم إلا عن: (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا يحدث؟)

من هذه الأسئلة يتضح لك مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون.. ولا شك أنه قد أبان لنا عن كثير من الأشياء التي لم نكن على معرفة بها، ولكن الدين

الباحثون عن الله (106)

جواب لسؤال آخر لا يتعلق بهذه الكشوف الحديثة العلمية، فلو أن هذه الكشوف زادت مليون ضعف عنها اليوم فسوف تبقى الإنسانية بحاجة إلى الدين، إن جميع هذه الكشوف (حلقات ثمينة من السلسلة)، ولكن ما يحل محل الدين لابد أن يشرح الكون شرحا كليا وكاملا، فما الكون على حاله هذه إلا كمثل ماكينة تدور تحت غطائها لا نعلم عنها إلا أنها (تدور)، ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة يدور بعضها بعضا، ونشاهد حركاتها كلها.. هل معنى هذا أننا قد علمنا خالق هذه الماكينة بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟ هل يفهم منطقيا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الماكينة جاءت من تلقاء ذاتها، وتقوم بدورها ذاتيا؟ لو لم يكن هذا الاستدلال منطقيا فكيف إذن نثبت بعد مشاهدة بعض عمليات الكون أنه جاء تلقائيا ويتحرك ذاتيا؟

لقد استغل البروفيسور هريز هذا الاستدلال حين نقد فكرة داروين عن النشوء والارتقاء فقال: (إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي يفسر عملية (بقاء الأصلح)، ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح)

قال راسل: دعنا من هذا، وأجبني على ما يقوله علم النفس الحديث المؤيد بالكثير من الوسائل العلمية.. لقد أعطى هذا العلم العظيم تفسيره للدين والإله.. فذكر أن الإله والآخرة ليسا سوى قياس للشخصية الإنسانية وأمانيها على مستوى الكون.. ما تقول في هذا؟

ابتسم خان، وقال: سأجيبك عن هذا بصروف من الإجابات..

وأبدأ أولها بالتسليم الجدلي لك.. فأعتبر أن ما تقوله صحيحا.. ولكني أضم إلى ذلك دعوى أخرى، وهي أن الشخصية الإنسانية وأمانيها ليست محصورة في الإنسان فقط.. بل هي موجودة أيضا على مستوى الكون.. ولا يهمني ما عسى أن يبطل ادعائي هذا من منطق المعارضين.. لأنه ليس لديهم ـ بالنسبة للإنسان في هذا ـ أي دليل.

نحن نعرف أن المادة (الجنين) التي لا تشاهد إلا بالمنظار تنبئ في ذاتها عن إنسان طوله 72

الباحثون عن الله (107)

بوصة، وأن (الذرة) التي لا تقبل المشاهدة تحتوى نظاما رياضيا كونيا يدور عليه النظام الشمسي، فلا عجب إذن أن يكون النظام الذي نشاهده على مستوى الإنسان في الجنين، وعلى مستوى النظام الشمسي في الذرة موجودا أيضا.. بل موجود بصورة أكمل.. على مستوى الكون.. فضمير الإنسان وفطرته ينشدان عالما متطورا كاملا، فلو كان هذا الأمل صدى لعالم حقيقي، فلست أرى في ذلك أي ضرب من ضروب الاستحالة.

هذا أولا..

ثانيا.. أنا لا أكذب ما يورده علماء النفس وغيرهم من أن الذهن الإنساني يحتفظ بأفكار قد تظهر فيما بعد في صورة غير عادية.. ولكن سوف يكون قياسا مع الفارق أن نعتمد على هذه الفكرة كي نبطل الدين.. لأن ذلك قياس في غير محله، وهو ـ بذلك ـ يعتبر استدلالا غير عادى من واقع عادى..

وذلك يشبه من يشاهد رجلا يصنع صنما، فيصيح: هذا الذي قام بعملية خلق الإنسان.

ثالثا.. أرأيت لو أن رجلا كان يسير في شارع، ثم أخذ يهذي بكلام غريب نتيجة لأفكار مختزنه في ذهنه.. فجاء فيلسوف مثل حضرتكم، وراح يستغل هذا الحادث في البحث في كلام الأنبياء، وهو الكلام الذي يكشف سر هذا الكون..

ألا ترى أن هذا النوع من الاستدلال غير علمي وغير منطقي.. بل إنه يدل على أن صاحبه يفتقر الى القيم حتى يستطيع التفرقة بين كلام رجل الشارع وكلام الأنبياء، فلا يدعى أن هذا الهذيان هو المسئول عما جاء به الدين؟

ثم تخيل معي لو أن رهطا من سكان بعض الكواكب هبط الأرض، وهم يسمعون، ولكنهم لا يقدرون على الكلام.. ولنتصور أنهم ذهبوا يبحثون عن الأسباب التي تجعل الإنسان يتكلم.. وبينما هم في طريقهم إلى هذا البحث هبت الرياح واحتك غصنان أحدهما مع الآخر، فنتج صوت، وتكررت العملية غير مرة حتى توقفت الرياح، وإذا بهم يعلن كبيرهم: لقد عرفنا سر

الباحثون عن الله (108)

كلام الإنسان، وهو أن فمه يحتوى على فكين من الأسنان، فإذا احتك الفك الأعلى بالأسفل صوت.

لا شك أن هذا الكلام صحيح.. ولكن واقع الكلام الإنساني أعظم من أن يفسر بمثل هذا.. فلهذا لا يصح تفسير أسرار النبوة بكلام غريب كهذيان رجل الشارع، في حال الجنون أو الهستيريا.

رابعا.. لاشك أن اللا شعور - من الوجهة العلمية - ليس سوى مخزن للمعلومات والمشاهدات التي شاهدها الإنسان في حياته ولو مرة، ومن المستحيل أن يختزن اللاشعور حقائق لم يعلمها من قبل..

ولكن الذي يثير الدهشة أن الدين الذي جاء على لسان الأنبياء يشتمل على حقائق أبدية لم تخطر على بال أحد من الناس في أي زمان، فلو كان اللاشعور هو مخزن هذه المعلومات، فمن أين يأتى بها هؤلاء الذين يتكلمون عن أشياء لا طريق لهم إلى العلم بها؟

إن الدين الذي جاء به الأنبياء يتصل من ناحية أو أخرى بجميع العلوم المعاصرة (1) من الطبيعة، والفلك، وعلم الحياة، وعلم الإنسان، وعلم النفس والتاريخ والحضارة والسياسة والاجتماع وغيرها من العلوم..

وكل حديث في التاريخ الإنساني مصدره (الشعور)، فضلا عن اللاشعور، لا يخلو من الأغلاط والأكاذيب والأدلة الباطلة.

أما الكلام النبوي فإنه بريء ولا شك من كل هذه العيوب رغم اتصاله بجميع العلوم.. فقد مرت قرون إثر قرون أبطل فيها الآخرون ما ادعاه الأولون، وما زال صدق كلام النبوة باقيا على الزمان، ولم يستطع أحد أن يدل على باطل جاء به، وكل من حاول ذلك أخفق.

__________

(1) لا ينطبق هذا انطباقا صحيحا شاملا إلا على الإسلام ومصادره المقدسة، وقد برهنا على هذا بتفصيل في رواية (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

الباحثون عن الله (109)

خامسا.. لقد رأيت من خلال اطلاعي على مؤلفاتك ومؤلفات إخوانك من الذين يستدلون بالتاريخ أو الاجتماع أنكم لا تدرسون الدين من وجه صحيح.. ولهذا يبدو في نظركم شيئا غريبا.. أنتم تتناولون الدين على أنه (مشكلة موضوعية)، فلهذا تجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم (الدين) من رطب ويابس، في أي مرحلة من التاريخ، ثم تتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين.

إن هذا موقف ينحرف بكم عن الصواب من أولى مراحله، ولهذا يبدو لكم الدين - جراء هذا الموقف الفاسد-عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة.. ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى.. أما الأمور التي تأتى بها أعمال اجتماعية فليس لها مثل أعلى.. وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها.

ومنهج البحث عن الدين يختلف عن هذا كل الاختلاف.. فليس من الصحيح البحث عن حقائقه، كما يبحث المؤرخون عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لأن الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها، أو يقبلها في شكل ناقص.. ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق (الدين) بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة في المجتمعات باسم الدين.

قال راسل: أراك انتقدت منهج بحثنا عن الإله.. فما المنهج الذي تراه سليما للبحث عنه؟

قال خان: هذا أهم سؤال طرحته.. وينبغي لأي باحث أن يطرحه.. فقضية العصر الحاضر وكل العصور ضد الدين هي قضية طريقة الاستدلال.

لقد كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في

الباحثون عن الله (110)

دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية -بدل أن تطفو على سطح الماء- استقرت في القاع، وكان هذا العمل تجربة، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة، فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد لشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.

وفي بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا، فلما شاهدنا السماء بهذا النظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور، فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوى وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.

وهكذا نجد أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة.

لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها.

والعلم الحديث لا يدعى ولا يستطيع أن يدعى أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة، فالحقيقة أن (الماء سائل). ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة بأعيننا المجردة، ولكن الواقع أن كل (جزيء) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين، وليس من الممكن أن نلاحظ هذه الحقيقة العلمية، ولو أتينا بأقوى ميكروسكوب في العالم، غير أنها ثبتت لدى العلماء لإيمانهم بالاستدلال المنطقي.

يقول في ذلك البروفيسور ا. ى. ماندير: (إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسة)، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في (الحقائق المحسوسة)؛ فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا في هذه

الباحثون عن الله (111)

السبيل هي الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطة)، والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط)

ويضيف ماندير قائلا: (إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟.. هناك وسيلة، وهى الاستنباط أو التعليل، وكلاهما طريق فكرى، نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة حتى ننتهي بنظرية: أن الشيء الفلانى يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا)

قاطعه راسل، وقال: كيف يكون هذا الرجل بروفيسورا وهو يقول هذا؟.. كيف يصح الاستنباط المنطقي لأشياء لم نشاهدها قط؟.. وكيف يمكن أن نسمى هذا الاستنباط بناء على طلب العقل (حقيقة علمية)؟

ابتسم خان، وقال: لقد أجاب ماندير عن تساؤلك هذا.. فقال: (إن المنهج التعليلي صحيح، لأن (الكون) نفسه عقلي.. فالكون كله مرتبط بعضه بالآخر؛ حقائقه المتطابقة، ونظامه عجيب، ولهذا فإن أية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها هي دراسة باطلة)

ويقول: (إن الوقائع المحسوسة هي أجزاء من حقائق الكون، غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية، وغير مرتبطة بالأخرى، فلو طالعناها فذة مجردة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا، فأما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة أو بلا مباشرة فإننا سندرك حقيقتها)

ثم يأتى بمثال يفسر ذلك، فيقول: (إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر أصعب ويتطلب جهدا، ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك، ونعلم أن الصعود في الجبل أشق من النزول منه.. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية هي (قانون الجاذبية)، وهنا ترتبط جميع

الباحثون عن الله (112)

هذه الحقائق، فنعرف ـ للمرة الأولى ـ أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام.. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة، فلن نجد بينها أي ترتيب، فهي متفرقة وغير مترابطة ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق)

إن قانون (الجاذبية) لا يمكن ملاحظته قطعا، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية، وإنما هي أشياء أخرى، اضطروا لأجلها- منطقيا- أن يؤمنوا بوجود هذا القانون.

واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة، ولكن ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟

لقد تحدث نيوتن في خطاب أرسله إلى (بنتلى)، فقال: (إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهى تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما)

فنظرية معقدة غير مفهومة ولا طريق إلى مشاهدتها، تعتبر اليوم بلا جدال حقيقة علمية.. لماذا؟

لأنها تفسر بعض ملاحظاتنا فليس بلازم إذن أن تكون الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة، ومن ثم نمضى إلى القول بأن العقيدة الغيبية التي تربط بعض ما نلاحظه، وتفسر لنا مضمونه العام تعتبر حقيقة علمية من نفس الدرجة.

قال ذلك، ثم التفت إلى راسل، وقال: كما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن لأنها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء؛ فإننا نرفض أفكار الفلاسفة الملحدين لأنها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة.

لم يجد راسل إلا أن ينصرف.. ولم يجد الجمع الملتف بهما إلا أن انضموا إلى وحيد الدين خان يسألونه.. وقد كان من شقائي أن تركت الجمع، ورحت أسرع إلى (برتراند رسل) أسأله عما لا يسمن من جوع، ولا يروي من ظمأ.. ولعلي لو اجتمعت معه في ذلك الحين كما اجتمع أولئك

الباحثون عن الله (113)

الجمع لكفينا ما نبحث عنه، فقد كان للرجل من العلم والمنطق ما يجعلك مستيقننا من أنه يطل من النافذة التي لا ترى منها إلا الحقائق.

المناظرة السابعة

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة السادسة، فحدثنا عن السابعة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت رجلين يلتف حولهما جمع كبير (1)..

أما أحدهما، فرجل تشع من عينيه أنوار الحكمة، وعلى سمته يبدو الوقار، كان الجمع يطلق عليه اسم (البوطي) (2).. وقد أخبرني بعضهم أنه رجل جاء من سورية، وقد قدم أبوه ـ الذي يسمى ملا رمضان ـ قبلها من جزيرة بوطان في تركيا إلى دمشق واستقر فيها.. ولذلك صار يطلق عليه هذا الاسم.

وأما الثاني، فرجل عريض المنكبين، واسع الجبهة، كثيف الشعر، داكن إلى حد الزرقة.. كان يبدو حيويا نشيطا لا يهدأ له بال.. وكان الناس يطلقون عليه لقب (ماركس) (3).. ولست أدري علاقته بماركس منظر الشيوعية.. ولكن الذي أدريه هو أنه لا يختلف عن ماركس المعروف في أي شيء.. لا في صورته.. ولا في فكره.

سأقص عليكم بعض ما سمعت من حديث:

__________

(1) حاولنا في هذه المناظرة أن نلخص ـ باختصار ـ ما تنص عليه أخطر نظرية إلحادية، وهي (المادية الجدلية)، أما تفاصيل الردود عليها، فهي موجودة في أثناء هذه الرسالة، باعتبار أن هذه النظرية في جوهرها ليست سوى مزيج من نظريات مختلفة.

(2) أشير به إلى أستاذنا الكبير العلامة (محمد سعيد رمضان البوطي)، وهو من علماء الكلام المعاصرين الكبار.. وهو ضالع في العقائد والفلسفات المادية وخاصة في نقد المادية الجدلية.

(3) أشير به إلى كارل ماركس (1818 - 1883 م)، وهو فيلسوفٌ ألماني واجتماعي وثوري محترف، كان المؤسس الرئيسي لحركتين جماهيريَّتين قويتين هما: الاشتراكية الديمقراطية، والشيوعية الثورية.. والوصف الذي ذكرناه له في الرواية هو وصف أحد أصدقائه له.

الباحثون عن الله (114)

قال ماركس بعنف لمحدثه البوطي: كم من مرة طلبت منك أن لا تذكر لي هيجل (1).. ماركس سميي هو صاحب هذا الفكر.. لا هيجل..

قال البوطي بهدوء: لا بأس.. أنا لم أذكر هيجل إلا لأني رأيتك تنهج نفس نهجه.

قال ماركس: بل هناك فرق كبير بيننا.. إن الفرق بيني وبينه كالفرق بينك وبيني..

قال البوطي: ولكنك تعتمد نفس الجدل الذي يعتمده.

قال ماركس: لكن جدله مثالي.. وجدلي مادي.. واقعي.. ولا يمكن أن يجتمع هذان في محل واحد.

قال البوطي: لا بأس.. سأدع لك الفرصة لأن تحدثني عن مذهبك.. ولنتناقش فيه بعد ذلك.

قال ماركس: لا بأس.. فلسفتي.. أو بالأحرى فلسفة سميي العظيم كارل ماركس.. تتلخص في (المادية الجدلية).. تلك المادية التي تلخص حقائق الوجود في قانون (لا إله والكون مادة).. وقانون (وحدة العالم تنحصر فى ماديته).. وقانون (المادة سابقة فى الوجود على الفكر).. وقانون (لم يكن هناك وقت لم تكن المادة موجودة فيه، وليس هناك وقت لا تكون المادة موجودة فيه).. وقانون (الإنسان نتاج المادة).. وقانون (الفكر نتاج الدماغ والدماغ مادة).. وغيرها من القوانين التي تفسر الوجود والحياة والإنسان.

بالإضافة إلى (المادة الجدلية).. ففلسفتي تنص على قوانين (المادية التاريخية).. وعلى قوانين (المذهب الاقتصادى الشيوعى مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المصاحبة له)

لكني لن أحدثك الآن إلا عن مذهبي الذي فسرت به الوجود.. كل الوجود..

__________

(1) هو جورج ويلهلم فريدريك هيغل فيلسوف ألماني.. يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.. من أهم مميزات هيجل ميله الحاد إلى التناقض والتعقيد، وقد انعكس تنافضه على المعجبين به والناقدين له، فهو موجود في الماركسية، وذا بصمة واضحة في الاجتهادات البروتستانتية.. وهو شاهد لدى الوجودين، ومرجع للبراغماتين.. وسنرى بعض ما يرتبط بفلسفته والتي اعتمد عليها ماركس في هذا المطلب.

الباحثون عن الله (115)

وإن شئت الصراحة.. فسميي ماركس اعتمد في نظريته العظيمة على ثلاثة أركان كبرى تقوم عليها الفلسفة الغربية المتحضرة..

أما أولها.. وهو الفكر الذي يفسر الوجود بالمادة البحتة.. فلنا فيه أساتذة كثر.. ابتدأوا منذ بدأت هذه الحضارة.. لكن أشهرهم اثنان (أوجست كونت)، و(فرباخ) (1).. وقد قامت فلسفتهما على سيادة الطبيعة، بل عبادتها.. فالطبيعة هى التى تنقش الحقيقة فى ذهن الإنسان.. وهى التى توحى بها وترسم معالمها.. هى التى تكون عقل الإنسان.. والإنسان – لهذا – لا يملى عليه من ذاته الخاصة.. إذ ما يأتى من (ما وراء الطبيعة) خداع للحقيقة، وليس حقيقة.. ومثله ما يتصوره العقل من نفسه هو ليس إلا وهما وتخيلا للحقيقة، وليس حقيقة أيضا.

وبناء على هذه النظرة يكون الدين الذي يعبر عما بعد الطبيعة مجرد خدعة.

وأما الركن الثاني، وهو الجدلية فقد كان من أساتذة سميي فيها (فيشته) و(هيجل).. وقد كان الأصل فى هذا النوع من التفكير الجدلى الدياكتيكى هو البحث عن تصور فلسفى يسمح بوجود المتناقضات فى الكون والحياة ويفسرها.

ذلك أن المنطق اليونانى القديم، وهو المنطق الصورى كان ينفى وجود التناقض فى الكون والحياة، ويقيم تفكيره على أساس أن الشئ ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا، فوجود أى شئ هو ذاته نفى قاطع لوجود نقيضه.

ولكن الفكر الأوروبى منذ عصر النهضة كانت له التفاتات مختلفة عنه فى مجالات متعددة.. حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر الميلادى عصر سيادة العقل.. أو عصر التنوير.. قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض فى الكون والحياة ويحاولون تفسيره، من أبرزهم (فيشته) و(هيجل)

__________

(1) سبق أن أشرنا إلى مضمون هذه الفلسفة.. ونحب أن ننبه ـ هنا، بناء على ما ذكر الباحثون ـ أن الاتجاه المادى قديم فى الحياة الأوروبية، فهو يتجلى فى بعض اتجاهات الفلسفة الإغريقية القديمة، واتجاهات الحياة الرومانية قبل المسيحية..

الباحثون عن الله (116)

أما فيشته، فقد استخدم مبدأ النقيض كى يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة..

وأما هيجل فاستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة، ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد، وتأكيد الوحى كمصدر أخير للمعرفة، فهو يعتبر الخالق عقلا.

لقد تصور هيجل ـ الذي أردت نسبة فلسفتي إليه ـ أن هناك فكرة مطلقة.. أطلق عليها اسم (العقل المطلق) – وهي ما تسمونه (الله) – انبثقت عنه الطبيعة، وهى تغايره تماما، لأنها مقيدة ومتفرقة وهى عنده العقل المقيد.. ثم انتقلت الفكرة من الطبيعة أو العقل المقيد إلى جامع يلتقى فيه الشئ ونقيضه، وهو العقل المجرد الذى هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها.

وهذا العقل المجرد يتمثل فى القانون والأخلاق، وفى الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة.. فالعقل المجرد الذى يتحقق فى أى وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين: جامع للفكرة فى العقل المطلق وهو الله، وللفكرة فى العقل المقيد وهو الطبيعة.. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق، ولا تحديد عقل الطبيعة، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق، ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى.

هذا هو الركن الثاني، وأما الركن الثالث.. فهو العظيم دارون صاحب نظرية التطور..

لقد جاء دارون يؤله الطبيعة، ويقول عنها: إنها تخلق كل شئ، ولا حد لقدرتها على الخلق.. وجاء ليؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية.. وأن التطور ذاته – الذى أنشأ الحياة المادية الميتة أول مرة، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان – هو نتيجة أسباب مادية بحتة، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحى، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحى الخروج عليها ولا معارضتها ولا الوقوف فى طريقها.

هذه هي الأركان الثلاثة التي تم بامتزاجها جميعا فكر العظيم سميي ماركس..

ابتسم البوطي، وقال: فما الجديد الذي أتى به ماركس ما دمت قد ذكرت أنه اعتمد على كل

الباحثون عن الله (117)

هؤلاء؟

قال ماركس: أتى بالجديد الذي يأتي به الطباخ الماهر حين يمزج بين الخضر والتوابل وغيرها ليكون منها طبخة تسترق البطون.

ليس ذلك فقط.. بل أضاف إليها أشياء كثيرة جعلت من فلسفته عملا متميزا قل نظيره في جميع الفكر البشري.

لقد أنشأ ماركس فلسفة مترابطة متكاملة تشمل كل القضايا المحيطة بالإنسان.. وتشملها جملة وتفصيلا على نحو غير مسبوق فى الفكر الغربى..

قال البوطي: فحدثنا عن هذه الفلسفة المتميزة.. واقتصر منها على الجانب المرتبطة بتفسير الوجود.

قال ماركس: لقد ذكرت لك أن ماركس فسر الوجود بالمادية الجدلية.. وهي الفكرة التي تعزل ما تسمونه (الله) عزلا تاما عن تفسير الوجود.. فالمادة هى الشئ الوحيد الأصيل فى هذا الكون، وكل ما فى الكون ومن فيه منبثق منها ومحكوم بقوانينها، ولا وجود له خارج نطاقها.

كما تقوم على أساس وجود التناقض فى طبيعة المادة، ومن ثم فى كل ما ينبثق عنها من مخلوقات ومن كيانات بما فى ذلك الكيان الإنسانى، فهو كيان مادى من جهة، ومحكوم بصراع المتناقضات من جهة أخرى، وتلك هى حقيقة كل أفكاره ومشاعره، وكل نظمه ومؤسساته، وكل قيمة ومبادئه، وكل حركته خلال التاريخ.

لقد ذكرت لك أننا أخذنا من هيجل جدليته.. ولكنا مع ذلك نخالفه مخالفة أساسية، فهيجل اعتبر الفكرة هى الأصل، وهى سابقة فى وجودها على المادة ومسيطرة عليها، بينما نحن نقول: إن المادة هى الأصل، وهى سابقة على الفكرة ومسيطرة عليها..

ولهذا سميث جدلية هيجل (الجدلية المثالية)، بينما سميت جدليتنا (الجدلية المادية) أو (المادية الجدلية)، أو (المادية الديالكتيكية)

الباحثون عن الله (118)

أما (الله)، فهو عندنا لا يعدو أن يكون خرافة ابتداعها خيال الإنسان.. لأن الحقيقة الوحيدة هى المادة، والوحدة التى تجمع الكون هى ماديته.

قال ذلك، ثم التفت إلى البوطي، وقال: هذه هي فلسفتي العظيمة.. فهل ترضى بأن تكون حواريا لماركس، رفيقا لي في التبشير بها.

ابتسم البوطي، وقال: اصبر عليك لأعرض عليك ما انتابني من الشبهات أثناء عرضك لفلسفتكم العظيمة، فإن أجبتني عنها، فسأسير معك إلى أي حزب شيوعي لأنضم إلى رفاقك فيه.

قال ماركس: تفضل.. يستحيل أن توجد شبهة لا يوجد لها جواب.. ما دام الدياليكتيك موجودا، فلكل سؤال جواب.

قال البوطي: أولا.. اسمح لي أن أبين لك أن الدوافع التي دفعت إلى مثل هذه الفكرة دوافع غير معقولة ولا موضوعية.

ذلك أنها انطلقت من واقع منحرف للدين.. وهي بالتالي كانت نوعا من الهروب الكنيسة وإله الكنيسة..

وإلا فإن الطبيعة والمادة لا يمكنها أن تفسر الوجود بتلك الصورة التي فسرت بها.. ذلك أن أي ذهن سيتساءل لا محاله: ما الطبيعة على وجه التحديد؟.. وأين تكمن قدرتها على الخلق؟.. وفى أى مكان منها؟

أم أنه ليس لهذه القدرة مكان ولا حيز؟.. فإذا لم تكن محسوسة، ولم يكن يحدها المكان ولا الحيز، وكانت (غيبا) لا تدركه الأبصار، إنما تدرك آثاره فقط ومظاهره، فما الذى يبرر فى منطق العقل أن نعدل عن الاسم الحقيقى، اسم (الله)، ونلجأ إلى هذه المسميات؟

وإن كان (الله) فى هذا المنطق لا حقيقة له، فما الذى يبرر – فى منطق العقل أو فى منطق العلم – أن يقول قائل: إنه ليس حقيقة حين يكون اسمه (الله)، ثم يكون هو ذاته حقيقية حين يكون

الباحثون عن الله (119)

اسمه (الطبيعة)؟

إن كان سبب هذا التحريف هو الخوف من الكنيسة وطغيانها، أو هو البغض لها والحقد عليها.. فليكن ذلك..

وفي هذه الحالة، فلنهجر الكنيسة، ونفر منها إلى الله الحق، وهو إله لا كنيسة له فى الحقيقة، ولا رجال دين.

ثم ما المادة الأزلية الأبدية الخالقة، وما قصتها؟

وكيف نناقشها مناقشة علمية؟

ألا تعلم ـ حضرة الرفيق ـ أن القول بأن (المادة لا تفنى ولا تستحدث) لم يعد صحيحا من الوجهة العلمية، وهو القول الذى تصيده أساتذتك تصديا فى نهاية القرن الماضى ليبنوا عليه تفسيرا علميا للكون والحياة والإنسان، ولقضية الألوهية؟

ألا تعلم ـ حضرة الرفيق ـ أن طلاب الجامعات يدرسون هذه الأيام أن الكون المادى حدث ذات يوم، ولم يكن موجودا من قبل، وأن عمر هذا الكون المادى يكاد يحدد الآن تحديدا علميا دقيقا على ضوء المعلومات التى ترسلها الأقمار الصناعية التى تدور حول الشمس وغيرها من الأفلاك.

ألا تعلم ـ حضرة الرفيق ـ أن ماركس وإنجلز ولينين وغيرهم من أساتذتك العظام لم يكونوا مطالبين بثقافة علمية أكبر من ثقافة عصرهم الذى وجدوا فيه، ولكنهم ـ مع ذلك ـ مسئولون ولا شك مسئولية كاملة عن دعواهم بأن المادة هى التى تخلق، وأن من بين خلقها الإنسان؟

ما الدليل العلمى على هذه الفرية؟

متى شوهدت المادة وهى تخلق؟ وكيف تخلق؟!

بعد هذه التساؤلات المنطقية، والتي أرجو أن تكشف لي غموضها.. فسأناقشك فيما ذكره

الباحثون عن الله (120)

أساتذتك العظام من مبادئ الطبيعة وقوانينها (1).

أما ما ذكروه من أن الطبيعة كلٌّ واحد متماسك ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً تاماً، فذلك صحيح.. وهو ـ عند المؤمنين ـ ظاهرة تدل على أن الخالق البارئ المصور واحد مهيمن على كونه.. وهو يدبّره كله بنظام واحد مترابط الأسباب متشابك العناصر.

أما ما ذكروه من أن الطبيعة (أي الموجود المادي الذي هو كل الوجود) سرمدية أزلية أبدية لا بداية لها ولا نهاية، فهو ادّعاء منقوض ببراهين العقل ودلائل العلم، التي تثبت حدوث الكون، وتثبت مصيره إلى الفناء.. وما عليك إلا أن تسير في هذه البلدة قليلا لترى من العلماء من يبيبن لك ـ حسا ـ أن المادة ليست أزلية كما تزعمون (2).

أما ما ذكروه من أن الطبيعة ليست ساكنة، بل هي ملازمة للحركة، وهي في تطور وتغير دائمين.. فهو مبدأ لا حرج فيه.. بل إنه من مقررات المؤمنين بالله، سواءٌ أكانوا أتباع دين رباني صحيح أو فلاسفة مثاليين.. وهو من الأدلة التي هدتهم إلى حدوث الكون، وحاجته إلى محدثٍ خالق بارئ مصور، إذ يقولون: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالم لا بد له من محدث (3).

أما ما ذكروه من أن الوعي لمادة عالية التنظيم وهي الدماغ، وأن الحياة وظيفة من وظائف المادة متى وصل تركيبها إلى وضع خاص، فهو مخالف لما كشفته العلوم الكثيرة.. فآخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية، والتي أنفقت في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلا من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة

__________

(1) هذه المناقشات ملخصة بتصرف واختصار من كتاب (كواشف زيوف) لحبنكة.. وقد اقتصرنا منها على الجانب المتعلق بالمادية الجدلية، دون سائر المبادئ الشيوعية المرتبطة بالتاريخ والاقتصاد لعدم تناسبها مع الموضوع.

(2) ذكرنا الأدلة العلمية الكثيرة على ذلك في هذا الفصل.

(3) ذكرنا هذه النوع من الاستدلال في المناظرة الأولى.

الباحثون عن الله (121)

التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية (1).

وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها وصفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم (2).

على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأي دليل عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذين يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.

أما ما ذكروه من أن كل الأشياء وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، مجتمعة متزاحمة في وحدة، يعبرون عنها بوحدة الأضداد أو وحدة المتناقضات. وهي تتصارع فيما بينها وفق نظام (جدلية هيجل) فيدفع بها الصراع إلى التطور الصاعد لأنه السبيل الوحيد لحل التناقض أو التضادّ

__________

(1) هذا من الحقائق العلمية التي لم تزدها الأيام إلا تأكيدا، وقد تواترت شهادات العلماء على ذلك، يقول (رسل تشارلز إرنست) أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرنكفورت بألمانيا: (لقد وضعت نظريات عديدة لكى تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس أو تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوى التى تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات.. ولكن الواقع الذى ينغى أن نسلم به هو أن جميع الجهود الذى بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع، على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات من طريق المصادفة، يمكن أن يؤدى إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التى شاهدناها فى الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية فى أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا أو صعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها)

ويضيف: (إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحياة الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإننى أؤمن بوجود الله إيمانا راسخا (من مقال (الخلايا الحية تؤدى رسالتها) من كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم)، ص 77)

ويقول إيرفنج وليام (دكتوراه من جامعة أيووا وإخصائى وراثة التبانات، وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان): (إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية فى صغرها، والتى لا يحصيها عد، وهى التى تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا – بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها – كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكى تكون الحياة) (الله يتجلى فى عصر العلم، ص 52)

(2) الوعي المراد هنا هو الوعي الكامل.. أما أصل الوعي فقد ذكرنا في مناسبات كثيرة أنه لا تخلو منه ذرة من ذرات الكون.. انظر رسالة (أكوان الله)

الباحثون عن الله (122)

القائم بينها.. فهي قضية تحوي مغالطات كثيرة.

منها أن النقيضين كالوجود والعدم، وكإيجاب الشيء وسلبه، لا يجتمعان في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما مستحيل عقلاً.. ولا يرتفعان معاً من شيء واحد في وقت واحد، وارتفاعهما معاً مستحيل عقلاً.. فلا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد موجوداً ومعدوماً معاً، ولا موجباً وسالباً معاً من الجهة التي يكون فيها موجباً.. ولا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد غير موجود وغير معدوم معاً، أو غير موجب وغير سالب معاً.

ومنها أن الضدين كالأبيض والأسود، وكالواجب والحرام، وكالجبر على الهداية والجبر على الضلال، لا يجتمعان معاً في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما معاً مستحيل عقلاً. فلا يكون الشيء الواحد بالذات أبيض وأسود معاً من الجهة نفسها في وقت واحد، ولا يكون حكم العمل الواحد واجباً وحراماً معاً فيوقت واحد لشخص واحد من جهة واحدة، ولا يكون المخلوق الواحد مجبوراً على الهداية ومجبوراً على الضلالة معاً، في وقت واحد، ومن جهة واحدة.

لكن الضدين ـ خلافا للمتناقضين ـ قد يرتفعان معاً في وقت واحد، فيكون الجسم لا أبيض ولا أسود معاً في وقت واحد، إذ قد يكون أحمر أو أصفر أو غير ذلك من ألوان..

لكن المادية الجدلية نسفت هذا الأصل العقلي المنطقي نسفاً كلياً، فأقامت الوجود كله على فكرة اجتماع الأضداد أو المتناقضات واتحادها.

وفي ادعاء اتحاد الأضداد والمتناقضات استهانة بالغة بالعقل البشري، وإقامة مذهب كامل على أمر باطل واضح البطلان.. فاللحظة التي يكون فيها الشيء متحركاً، لا يمكن أن يكون فيها ساكنا، واللحظة التي يكون فيها ساكناً لا يمكن أن يكون فيها متحركاً.. لكن الشيء الواحد قد تتداول عليه الحركة والسكون بلحظات متتابعات مهما صغرت ودقت هذه اللحظات، وقد ينخدع بذلك بعض أهل الفلسفة، فيظن أن السكون كامن في الحركة، فيعتبر ذلك من اجتماع النقيضين، وليس الأمر كذلك.

الباحثون عن الله (123)

وقد يمثل مدعو اجتماع الضدين أو النقيضين بتماس السالب والموجب في الكهرباء، الذي ينجم عنه الظواهر الضوئية والحركية.. لكن التمثيل بهذا تمثيل باطل، فالسالب والموجب في الكهرباء ليسا ضدين ولا نقيضين منطقيين.

إن السالب المنطقي للكهرباء هو لا كهرباء، ويصدق ذلك بأي شيء غير كهرباء في الوجود، فالخشب والحجر والتراب والثلج والملح والحلاوة والملاسة والخشونة وغير ذلك كلها ليست بكهرباء.

أما السلك السالب في الكهرباء، فليس هو السالب المنطقي للكهرباء، إنما هو مشتمل على قوة أخرى منافرة للقوة الكهربائية.

فالموجب والسالب في الكهرباء قوتان متنافرتان متقابلتان، إذا تماسا تفاعلا، فأنتجا بحسب قوانين إنتاجهما ظواهر ضوئية أو حركية، كالذكر والأنثى، وما ينتج عنهما.

إن القوى المتنافرة والمتآلفة والمتفاوتة كلها إذا تلاقت أو تماست أو اجتمعت كانت ذات آثارٍ ما، وآثارها تخضع لقوانين خاصة بكل منها.

أما ما ذكروه من أن حركة التطور هي تغير ينتقل من تغيرات كمية تتراكم، إلى تغيرات كيفية، بشكل سريع ومفاجئ وارتقائي من حالة أدنى إلى حالة أعلى وبشكل ذاتي.. فإن هذا المبدأ لا يمكن أن يعتبر قانوناً عاماً ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقر به، وهو إن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.

إن التراكم في الكم لا يقتضي دائماً تطورا في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك.. فالملاحظة تثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطاً معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور.

فبيضة الدجاجة الملقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجياً حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد

الباحثون عن الله (124)

تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذٍ يخرج من غلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته على الأرض.

لقد حصل التطور، ولكن على خلاف ما ادعاه أساتذتك المدعين، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكون جنين البيضة تكوناً تدريجياً، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه.

ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدد في نظام التكوين لسلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.

فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة تراكمات.. هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها قول الله عز وجل: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: من الآية 8)

إن هذا المثال وحده كافٍ لنقض فكرة التراكم التي تعتبرونها قانوناً شاملاً لكل تطور في الوجود.. وهو كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطوراً تدريجياً..

بالإضافة إلى هذا، فإن الكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بييضة الأنثى، ثم يسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة دبت الحياة فيه.. ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدته.. ثم يسير في نمو تدريجي حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شاباً فكهلاً.. ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخاً، فهرماً، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسخ جسمه، ويعود تراباً كما بدأ من التراب.

وقد يموت في أي مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن

الباحثون عن الله (125)

يمر في المراحل المعتادة للأحياء.

وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء، في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.

ولهذا، فإن فكرة التراكم المقررة عندكم فكرة منقوضة، ذلك لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي.. ومثلها فكرة التطور السريع المفاجئ، ذلك أن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ.

وفكرة الارتقاء المقررة عندكم على أنها قانون شامل عام، فكرة لا تصلح لأن تكون مبدأً عاماً، فعمومها منقوض، وذلك لأن تطور الأحياء ليس حركة ارتقائية دائماً، بل قد تكون حركة إلى الأدنى أو إلى المساوي.. فالتعميم المدعى في المبدأ تعميم باطل.

ما وصل البوطي من حديثه إلى هذا الموضوع حتى رأيت وجه ماركس قد تغير تغيرا شديدا، ثم راح يسير مطأطئا الرأس.. لا أدري لم، ولا أدري أين.

المناظرة الثامنة

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة الثامنة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت جماهير من الناس تلتف حول رجلين: أما أحدهما، فكان اسمه (عبد الرحمن حبنكة) (1). وأما الثاني، فكان الناس يطلقون عليه لقب (العظم) (2).. ولست أدري سر هذا اللقب العجيب.

__________

(1) أشير به إلى عالم الشام الكبير الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة، وقد استفدنا هذه المناظرة الافتراضية من كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم)

(2) أشير به إلى صادق جلال العظم، وهو أحد أساطين الفكر الشيوعي المادي، وملحد من كبار الملاحدة، ممن أخذ يجاهر بالإلحاد، ويدعو إليه، قضى عمره في السخرية من المسلمين ومن دينهم، وكفر بكل شيء إلا المادة.

وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم) (ص 12 - 13) ـ والذي استفدنا منه هذه المناظرة الافتراضية ـ بأن العظم ألف كتابه السابق (خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وسائر النظريات، بل الفرضيات اليهودية الإلحادية، وهو في كل ذلك يتستر بعبارات التقدم العلمي والصناعي والمناهج العلمية الحديثة، ولا يقدم من البينات إلا قوله مثلاً: إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا، دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة).

وقد قام بالرد على العظم كثير من العلماء والكتاب؛ من أبرزهم:

الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم)، وهو الذي استفدنا منه هنا في هذا المحل، واقتصرنا على ما يرتبط بالإيمان بالله.

الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه (هوامش على كتاب نقد الفكر الديني)

الأستاذ جابر حمزة فراج في كتابه (الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني)

الأستاذ محمد عزت نصر الله في كتابه (تهافت الفكر الاشتراكي)

الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه (القرآن والملحدون)

الدكتور عبداللطيف الفرفور في كتابه (تهافت الفكر الجدلي)

الباحثون عن الله (126)

كان أول ما بدأ به العظم حديثه أن قال ـ كما قال الكثير ممن سبقه ـ: لن أناظرك حتى تخبرني ـ أولا ـ عمن خلق الله؟

قال العظم: لقد حدثنا الرسول (عن هذه الوسوسة الشيطانية، فقال: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ باللهِ ولينته) (1).. وفي حديث آخر قال (: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله ورسله) (2)

ضحك العظم بهستيرية، ثم قال: ما بالك يا رجل تحدثني عن نبيك.. لو كنت أؤمن به ما جلست معك هذا المجلس.. أنا أريد أن تخاطبني بالعقل.. فأنا لا أؤمن إلا بالعقل..

أنا في حياتي لا أؤمن إلا بشيئين: أولهما العقل.. وثانيهما الدينونة بالاحترام والتقدير لإبليس

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري ومسلم.

الباحثون عن الله (127)

المظلوم (1).

اسمع منهجي في التفكير.. اسمع المنهج العلمي الحقيقي.. اسمع ما قلته في بعض كتبي منطلقا من هذا التساؤل لأصل إلى أن الإيمان بالله لا يعدو أن يكون خرافة كسائر الخرافات التي امتلأت بها العقول المتخلفة.

فتح كتابا كان يحمله، وراح يقرأ بصوت جهوري ممتلئ غرورا.. (حتى لو سلمنا كلياً بالنظرة العلمية للأشياء ستبقى أمامنا مشكلة المصدر الأول لهذا الكون. لنفترض مع (رسل) أن الكون بدأ بسديم، ولكن العلم لا يقول لنا: من أين جاء هذا السديم، إنه لا يبين لنا من أين جاءت هذه المادة الأولى التي تطور منها كل شيء؟ فلا بد للعلم إذن من أن يتصل بالدين في نهاية المطاف.. ولكن طرح السؤال بهذه الصورة يبين لنا مدى تحكم تربيتنا الدينية وتراثنا الغيبي في كل تكفيرنا.. لنفترض أننا سلمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة الأولى، هل يحل ذلك المشكلة؟ هل يجيب هذا الافتراض على سؤالنا عن مصدر السديم الأول؟ والجواب هو طبعاً بالنفي.. أنت تسأل عن علة وجود السديم الأول وتجيب بأنها الله، وأنا أسألك بدوري وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود، وهنا أجيبك: ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود، وبذلك يُحسم النقاش دون اللجوء إلى عالم الغيبيات، وإلى كائنات روحية بحتة لا دليل لنا على وجودها، علماً بأن ميل الفلاسفة القدماء بما فيهم المسلمين كان دائماً نحو هذا الرأي إذ قالوا بقدم

__________

(1) رغم إلحاد العظم وعدم إيمانه بالله.. ولا بجميع عوالم الغيب إلا أنه عقد فصلاً في كتابه (نقد الفكر الديني) يدافع فيه عن (إبليس) سماه (مأساة إبليس) (ص 55 وما بعدها) ردد فيه شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب السابقة في اعتراضه على القدر؛ ككتاب (الملل والنحل) للشهرستاني (7 - 10)

ثم ختم كلامه بقوله عن إبليس (ص 85): (يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص، ويجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً)

وقد ذكر سبب بحثه في هذا مع عدم إيمانه به، بقوله في (ص 57): (يدور (بحثي) في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق؛ ألا وهو إطار التفكير الميثولوجي الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) فهو يريد دراسة شخصية إبليس (باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطورها وضخمها خياله الخصب)

الباحثون عن الله (128)

العالم، ولكنهم اضطروا للمداورة والمداراة بسبب التعصب الديني ضد هذه النظرة الفلسفية للموضوع (1)، في الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون) (2)

ابتسم حبنكة، وقال: هل انتهيت؟

قال العظم: ألا يكفي هذا الكلام العلمي لأن يجعل هذا المجلس ينفض؟.. لقد أتيت بفصل الخطاب.. ولا يمكن لأحد في الدنيا أن يعقب على حرف واحد مما ذكرت.

قال حبنكة: اسمح لي أن أعقب على ما ذكرت.. فقد اتفقنا جميعا، ومعنا هذا الجمع على أن لا نعظم إلا الحقيقة.. الحقيقة وحدها، بغض النظر عمن يمثلها، هل أنا أم أنت؟

طأطأ العظم رأسه، فقال حبنكة: سأبدأ حديثي معك عن تساؤلك عن علة وجود المصدر الأول للأشياء، وزعمك أن إحالة المؤمنين ذلك على الله تعالى يساوي نظرياً وقوف الملحدين عن السديم، الذي اعتبروه المادة الأولى لهذا الكون.. فكلا الفريقين عندك متساويان مع فارق مهم، وهو أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة.. فهل هذا ما تقصده؟

قال العظم: أجل.. أم أنك تحتقر ما ذكرت؟

قال حبنكة: لا.. أنا لا أحتقر ما ذكرت.. ولكني أقرره لأناقشه عن بينة.

قال العظم: إن كان لديك قدرة على نقض ذلك الكلام، فهلم به.

قال حبنكة: اسمح لي أن أذكر لك بأن ما ذكرته ليس سوى مغالطة من المغالطات الفكرية.. وهي مغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تبايناً كلياً، ولا يصح التسوية بينهما في الحكم.

غضب العظم، وقال: لا ينبغي لك أن تقول هذا.. إن ما تقوله خطير..

__________

(1) لا شك أن هذا من المفتريات، فأكثر فلاسفة الإسلام كانوا من الملتزمين بالإسلام، بل حاولوا نصرته بما أتيح لهم من أدوات لم تتح لغيرهم.

(2) نقد الفكر الديني: ص 28.

الباحثون عن الله (129)

قاطعه حبنكة بهدوء، وقال: اصبر علي كما صبرت عليك.. فلا يمكن أن ننفعل أثناء حوارنا.

هدأ العظم، فقال حبنكة: إن الترجمة الصحيحة لكلامك هي (ما دام الموجود الأزلي غير معلول الوجود، فلم لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضاً؟)

وكل ذي فكر صحيح سليم من الخلل يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يُقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناء على ذلك في حكم واحد.

وعلى هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صيغت تلك المغالطة الجدلية..

نعم.. أنتم تتفننون في ستر عورة هذه المغالطة، وذلك بعبارات التقدم العلمي، والمناهج العلمية، والتقدم الصناعي، والمناهج العقلية في تقصي المعرفة، والاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد.. وتخلطون هذه العبارات خلطاً.. وتحشرونها في كل مكان ومع كل مناقشة، تمويهاً وتضليلاً، وكأن التقدم العلمي والصناعي للإلحاد وحده، وليس للإيمان، مع أن الدنيا جميعها وما فيها من ماديات قد كانت وما زالت ولن تزال حتى تقوم الساعة للمؤمنين والكافرين وغيرهم على السواء، ضمن سنن الله الثابتة التي لا تتغير، وهي مجال مفتوح لكل الناس، إذ يمتحن الله بها إرادتهم وسلوكهم في الحياة، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

قال العظم: دعنا من كل هذه الخطابات، وأنبئني: لِمَ لا تكون المادة الأولى لهذا الكون (كالسديم مثلاً) قديمة أزلية غير حادثة، تنطلق منها التحولات، ثم ترجع إليها التحولات؟

قال حبنكة: إن الجواب على هذا يؤخذ من الكون نفسه، وما فيه من صفات وخصائص، فالكون يحمل دائماً وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة النظرات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية.. وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجالات المعرفة.. حتى القوانين العلمية التي توصَّل إليها العلماء الماديون تشهد بهذا.

وإذا ثبت أن هذا الكون حادث له بداية وله نهاية كان لا بد له من علة تسبب له هذا الحدوث، لاستحالة تحول العدم نفسه إلى وجود، أما ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه فوجوده

الباحثون عن الله (130)

هو الأصل، ولذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجد يوجده.. وكل تساؤل عن سبب وجوده تساؤل باطل منطقياً، لأنه أزلي واجب الوجود، وليس حادثاً حتى يُسأل عن سبب وجوده.

ولو كانت صفات الكون تقتضي أزليته لقلنا فيه كذلك، لكن صفات الكون المشاهدة والمدروسة تثبت حدوثه.

وهنا تكمن المغالطة التي تستند إليها، إذ أنك تريد أن تجعل الكون أزلياً، مع أن البراهين تثبت أنه حادث، وذلك لتتخلص من الضرورة العقلية التي تلزم بالإيمان بوجود خالق لهذا الكون الحادث، لأن الحدوث من العدم المطلق دون سبب موجود سابق عليه مستحيل عقلاً.

قال العظم: من السهل علي أن أدعي بأن هذا الكون أزلي.. وبذلك تنتهي المشكلة.

قال حبنكة: إن هذه الدعوى باطلة بكل الاعتبارات.. سواء كان منها العقلية الفلسفية القديمة، أو القوانين العلمية الحديثة:

فالأدلة العقلية الفلسفية تثبت لنا حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك لأن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات.. وهذا الحدوث لا بد له من علة.. وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى، سنصل حتماً إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية، في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى.. وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لا بد أن نقرر أن خالقاً أزلياً لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه، وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأمده بالصفات التي هو عليها.

قال العظم: أنا لا أسلم لهذا النوع من الأدلة.. فهي تفتقر إلى العلمية.

قال حبنكة: لقد اكتشف العلم الحديث القانون الثاني للحرارة الديناميكية، وهو القانون الذي يسمونه (قانون الطاقة المتاحة) أو يسمونه (ضابط التغير)

وهذا القانون يثبت أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزلياً، إذ هو يفيد تناقص عمل الكون يوماً بعد يوم، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينئذ لا تبقى أي طاقة

الباحثون عن الله (131)

مفيدة للحياة والعمل، وتنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية، وبذلك تنتهي الحياة.

لقد ذكر هذا التحقيق العلمي عالم أمريكي في علم الحيوان، هو (إدوارد لوثر كيسل) ثم قال: (وهكذا أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائياً وجود الإله، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأولى الخالق الإله)

وذكره (السير جيمس) حين قال في كلام له: (تؤمن العلوم الحديثة بأن (عملية تغير الحرارة) سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها، لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض حتى نفكر فيها، إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن، ومن ثم لا بد لها من بداية، ولا بد أنه قد حدثت عملية في الكون يمكن أن نسميها (خلقاً في وقت ما) حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزلياً)

وبذلك، فإن حدوث هذا الكون أمر معترف به عند العلماء الماديين..

بالإضافة إلى هذا، فإن الادعاء بأن المؤمن بالله لا يدري علة وجود الله مغالطة أخرى في الحقيقة.. ذلك أن من أصله الوجود، ووجوده أزلي، فإنه لا يحتاج إلى علة لوجوده.. إذ السؤال عن هذه العلة أمر مخالف للمنطق السليم، أو عبث من العبث، أو مغالطة قائمة على الإيهام بأنه حادث غير أزلي.

ولهذا نرى الملحدين يسارعون إلى عوام المسلمين يقولون لهم: ألستم تقولون: إن كل موجود لا بد له من موجد، وإن هذا الكون موجود فلا بد له من موجد، وذلك هو الله تعالى؟

فيقول له العامي الذي لا يعرف أصول المغالطات: بلى..

عندئذ يستدرجه الملحد فيقول له: الله موجود، وهو على حسب الدليل لا بد له من موجد، فيجد العامي نفسه قد انقطع إذ لم يستطع جواباً.

لكن الخبير لا يقبل أصلاً صيغة الدليل على هذا الوجه القائم على المغالطة، ذلك لأن المقدمة (كل موجود لا بد له من موجد) مقدمة كاذبة غير صحيحة، فالخبير لا يسلم بها لفسادها، وإنما

الباحثون عن الله (132)

يقول بدلها: (كل موجود حادث لم يكن ثم كان لا بد له من محدث)، ثم يقول: (وهذا الكون موجود حادث لم يكن، ثم كان بشهادة العقل وبشهادة البحوث العلمية)، عندئذٍ تتحصل النتيجة على الوجه التالي: (إذن فلا بد لهذا الكون من محدث)، وهذا المحدث للكون لا بد أن يكون موجوداً أزلياً غير حادث، ولا بد أن يكون منزهاً عن كل الصفات التي يلزم منها حدوثه، حتى لا يحتاج إلى موجد يوجده، بمقتضى الدليل الذي أثبتنا فيه وجود الله.

فمغالطة الملحد في المقدمة التي أوهم بها قائمة على التعميم، إذ وضع (كل موجود) بدل (كل موجود حادث)، ومعلوم أن عبارة (موجود) تشمل الموجود الأزلي والموجود الحادث.

وهكذا تجري مغالطات الملحدين، ليتصيدوا بها الجهلة والغافلين بغية استدراجهم وإحراجهم، ونقلهم من مرحلة الإيمان إلى مرحلة التشكك.

فالمؤمن إذن يعلم أن الخالق موجود أزلي ليس له من الصفات ما يلزم منها حدوثه، ووجوده هو الأصل، فلا يسأل عن علة وجوده عند العقلاء أصلاً، والسؤال عن علة وجوده أمر مخالف للحقيقة العلمية المنطقية التي انتهينا إليها.

وكما لا يُسأل عمّا أصله العدم: ما هي علة عدمه؟ لأن مثل هذا السؤال لا يرد إلا على افتراض أن أصله الوجود، وهذا يناقش أن أصله العدم، كذلك ما أصله الوجود لا يُسأل عن علة وجوده ولا يبحث عنها، لأن أي سؤال أو بحث عنها لا يكون إلا على افتراض أن أصله العدم، وبهذه العلة تحول من العدم إلى الوجود، لكن هذا الافتراض مرفوض ابتداءً، باعتبار أن أصله الوجود.

وبهذا يتضح لنا تماماً أنه لا يُسال ولا يبحث عن علة وجود ما الأصل فيه الوجود.

وبهذا أيضاً تسقط المغالطة التي طرحها الملحد في مناقشته، ويظهر فساد تسويته بين الكون الحادث وبين الخالق الأزلي.. وحينما نطالبه بعلة وجود الحادث وهو الكون، فليس من حقه المنطقي أن يطالبنا بعلة وجود الله الأزلي.

الباحثون عن الله (133)

وليس من حق الملحد أن ينكر الوجود الأزلي كله ما دام الواقع يكذبه، والبراهين العلمية تهزأ به، لأنه لو لم يكن في الوجود موجود أزلي لاستحال أن يوجد شيء في هذا الكون، لأن الافتراض على هذا يقوم على أساس العدم المطلق.. والعدم المطلق يستحيل أن يتحول بنفسه إلى وجود.

ولهذا، فإن هذا الكون الذي نحن جزء منه موجود حادث ذو بداية، وكل ذي بداية لا بد له من علة كانت السبب في وجوده، وإيجاده قد كان عملية من عمليات الخلق، وعملية الخلق إنما تتم بخالق قادر، وهذا الخالق القادر لا بد أن يكون أزلياً، ولا بد أن يكون متحلياً بالكمال المطلق.. هذه هي عقيدة المؤمنين بالله.

قال العظم: لا شك أنك لم تقرأ ما ذكرته في كتابي.. وبالضبط في صفحة (25) منه حين قلت: (ولنلمس طبيعة هذا الفارق بين النظرة الدينية القديمة وبين النظرة العلمية التي حلت محلها، سنوجه انتباهنا إلى مثال محدد يبين بجلاء كيف يقودنا البحث العلمي إلى قناعات وتعليلات تتنافى مع المعتقدات والتعليلات الدينية السائدة، مما يضطرنا إلى الاختيار بينهما اختياراً حاسماً ونهائياً)

اسمع جيدا هذا المثال الذي ذكرته.. إنه فصل الخطاب في المسألة.. لقد قلت في كتابي: (لا شك أن القارئ يعرف التعليل الإسلامي التقليدي لطبيعة الكون ونشأته ومصيره.. وهو أن الله خلق هذا الكون في فترة معينة من الزمن، بقوله: كن فكان، ولا شك أنه يذكر حادثة طرد آدم وحواء من الجنة، تلك الحادثة التي بدأ بها تاريخ الإنسان على هذا الأرض، ومن صلب المعتقدات الدينية أن الله يرعى مخلوقاته بعنايته وهو يسمع صلواتنا وأحياناً يستجيب لدعائنا، ويتدخل من وقت لآخر في نظام الطبيعة فتكون المعجزات، أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها الله، أي أنها تحتوي الآن على نفس الأجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها.. أما النظرة العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف

الباحثون عن الله (134)

بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الآن)

ابتسم حبنكة، وقال: إن هذا الكلام الذي أوردته في كتابك العظيم كذب على الدين، ومغالطة في الحقيقة، وتمويهات بذكر بعض أمور هي من الدين، أوردتها لتغشي بها على نظر القارئ، فلا يبصر مواطن الافتراءات، ومزالق المغالطات.

لقد أدخلت فكرة لا يعترف بها الدين أصلاً، ضمن عرضك لطائفة من المفاهيم والعقائد الدينية الصحيحة، لتضلل القارئ بالإيهام الذي اصطنعته له، ولتجعله يعتقد أن هذه الفكرة الدخيلة هي فعلاً من المفاهيم الدينية، ما دامت قد وردت ضمن مجموعة مفاهيم صحيحة يعرفها هو عن الدين.

لقد زعمت أن الإسلام يرى أن الطبيعة قد حافظت على سماتها منذ أن خلقها الله، أي: أنها تحتوي الآن على نفس الأجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها.. مع أن هذا افتراء صريح على الدين، تكذبه بالنصوص القرآنية، ولست أدري من أين جئت بهذه المفاهيم فألصقتها بالدين؟

لما تحدث القرآن عن فئة الحيوانات التي خلقها الله لركوب الإنسان، وليتخذها زينة له، ألحقها بقوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ((النحل: من الآية 8) بصيغة الفعل المضارع التي تدل على الحال والاستقبال، للدلالة على أن عمليات التجديد في الخلق الرباني للأشياء مستمرة غير منقطعة، قال الله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6 ((النحل)

أليس في هذا إعلاناً صريحاً مخالفاً لما زعمت من أن الدين يقرر أن الطبيعة قد حافظت على سماتها منذ أن خلقها الله.

وبالنسبة إلى الأجرام السماوية لا نجد في النصوص الإسلامية ما يدل على هذا الذي افتريته،

الباحثون عن الله (135)

بل في النصوص ما يدل على خلاف ذلك، قال الله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ((الذريات:47).. فكلمة (موسعون) في الآية تشير إلى أعمال التوسعة المتجددة في السماء، وذلك لأن هذه الكلمة من صيغ اسم الفاعل، وصيغة اسم الفاعل بقوة المضارع من جهة الدلالة، هي للتعبير عن الحال أولاً ثم عن الاستقبال.

قال العظم: دعنا من هذا.. وأخبرني ألم تسمع بنظرية (لافوازيه) (1) التي تقول: لا يخلق شيء من العدم المطلق، ولا يعدم شيء، وإنما هي تحولات من مادة لطاقة، أو من طاقة لمادة، أو من مادة لمادة؟

ابتسم حبنكة، وقال: أنت لم تفهم (لافوازيه).. إن نظريته لا تتحدث عن الكون جميعا.. إنها تتحدث عن مجال معين ذي أبعاد.. وليس في مستطاعها أن تتحدث عن كل الوجود في كل أبعاده من الأزل إلى الأبد.. فهذا أمر لا تستطيع تقريره أية نظرية استقرائية مهما بلغ شأنها، إلا أن يكون كلامها رجماً بالغيب، وتكهناً لا سند له، وطرحاً تخيلياً محضاً.

إن لنظرية (لافوازيه) ثلاثة أبعاد هي: البعد الزمني، والبعد المكاني، والبعد الإدراكي.

التفت حبنكة إلى العظم، وقال: أجبني: هل رصد واضعو هذه النظرية العلمية ومقرروها أجزاء الكون في كل الأزمان، بما فيها الأزمان السحيقة في القدم، وعرفوا منها أنه لم يخلق في الأزمان القديمة جداً شيء من العدم؟

سكت العظم، فقال حبنكة: إنهم لم يفعلوا ذلك لأنه لا يتسنى لهم بحال من الأحوال، وهم أبناء النهضة العلمية الحديثة، على أن الأدلة العلمية التي سبق بيانها قد أثبتت أن لهذا الكون بداية، وهذا يعني أنه لم يكن ثم كان، فهو إذن مخلوق من العدم، بقدرة خالق موجود أزلي.

فهذه النظرية لا تتحدث عن الانطلاقة الأولى للكون، لأن أياً من الأجهزة العلمية لا

__________

(1) هو أنطوان لوران لافوازيه (1743 - 1794 م) كيميائي فرنسي، وهو مؤسس الكيمياء الحديثة. قام بقياس أوزان المواد التي تدخل في التفاعلات الكيميائية.

الباحثون عن الله (136)

تستطيع أن تسترجع الأزمان السحيقة وترصد الكون فيها، وكذلك لا تستطيع النظرات التحليلية الاستنتاجية أن تحكم على ماضي الكون وانطلاقته الأولى، بالقياس على واقعه النظامي الذي نشاهده في الحاضر، لاحتمال الاختلاف البيِّن بين نقطة البدء وبين ما يأتي بعدها من حالات نظامية مستمرة.

فنظرية (لافوازيه) لا تتناول بحال من الأحوال الزمن الأول لبداية الكون، ومجالها يأتي في الأزمان التي يترجح فيها قيام النظام الكوني الذي درسته هذه النظرية، وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها الشامل لكل أزمان الماضي غير صحيح.

التفت حبنكة إلى العظم، وقال: أجبني: هل رصد واضعو هذه النظرية العلمية ومقرروها أجزاء الكون في مستقبل ما يأتي من الأزمان، وثبت لهم من رصدهم أنه لا يمكن أن يخلق شيء من العدم، ولا يمكن أن يعدم شيء موجود؟

سكت العظم، فقال حبنكة: لا.. لا يمكن.. كيف يتسنى لهم رصد المستقبل وهم لا يملكون استقدامه؟

إن جل ما يملكونه قياس المستقبل على الحاضر والماضي، بشرط استمرار نظام الكون القائم، ولا يستطيعون أن يحكموا على الكون بأنه لا يمكن أن يتغير نظامه الكلي، فتأتيه حالة من الحالات يمسي فيها عدماً، أو تنعدم بعض أجزاء منه، أو تضاف إليه أجزاء لم تكن هيئتها ولا مادتها فيه، فهذا حكم لا سبيل إليه، إنه حكم مجهول، والحكم على المجهول باطل.

فنظرية (لافوازيه) تنطبق على هذا الكون بشرط استمرار نظامه القائم، وهي لا تحكم على المستقبل حكماً قاطعاً باستحالة تغير هذا النظام، ولكن ما دام هذا النظام الكوني قائماً، فإن ضابطه أن جميع ما يجري من مدركات فيه إنما هو من قبيل التحولات، وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها الشامل لكل أزمان المستقبل غير صحيح.

هذا ما يتعلق بتحديد البعد الزمني للنظرية، أما تحديد البعد المكاني لها فنقول فيه: هل رصد

الباحثون عن الله (137)

واضعو هذه النظرية ومقرروها هذا الكون في كل أبعاده المكانية؟.. ألا يحتمل وجود مكان سحيق فيه لم يرصدوه ولم يعرفوا ما فيه؟.. أفيحكمون عليه إذن حكماً غيابياً قياساً على ما رصدوه منه في الأمكنة التي استطاعت أن تبلغ إلى مداها أجهزتهم وملاحظاتهم؟

إن هذا الحكم الغيابي مع جهالة الخصائص والصفات حكم باطل، وهذا طبعاً لا يعني ضرورة مخالفة الغائب للحاضر، ولكن لا يعني أيضاً لزوم موافقته.

فلا بد إذن من تحديد مكان النظرية بالأبعاد المكانية التي كانت مجال الملاحظة والقياس والأجهزة، مع التجاوز بصحة قياس ما شابهها عليها، مما لم يخضع للملاحظة المباشرة.

أما تحديد البعد الإدراكي للنظرية فيتلخص بأن النظرية قد اعتمدت على ملاحظة عالم الشهادة من الكون المنظور المدرك، أما عالم الغيب الذي لا تصل إليه الإدراكات الإنسانية المباشرة أو عن طريق الأجهزة، فهو عالم خارج بطبيعته عن مجال النظرية، لذلك فإنها لا تستطيع أن تحكم عليه، لأن حكمهما عليه هو من قبيل الحكم على الغائب المجهول في ذاته وفي صفاته.

جُلُّ ما تستطيعه النظريات في هذا المجال هي أن تعلق أحكامها تعليقاً كلياً، أو تصدر أحكاماً مشروطة احتمالية غير جازمة، وهذا ما تقتضيه الدراسة العلمية المنطقية الحيادية، وتوجبه الأمانة الفكرية في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة.

وهكذا ظهر لنا أن نظرية (لافوازيه) لم تتناول من الكون إلا مقطعاً محدود الأبعاد الثلاثة: البعد الزماني، والبعد المكاني، والبعد الإدراكي، وهذا المقطع هو مجال ملاحظتها.

يضاف إلى كل ذلك أن وجود الحياة في المادة لم يقترن بأي دليل تجريبي يثبت تحول المادة غير الحية إلى مادة حية، عن طريق التولد الذاتي، رغم كل التجارب العلمية التي قامت في عالم البحث العلمي حتى الآن.

لذلك نلاحظ أن الآراء العلمية في هذا المجال ترجع إلى أصول ثلاثة كبرى:

أما أولها، فهو ما قرره (أغاسيز) في كتابه (تصنيف العضويات) سنة (1858 م) إذ قرر أن

الباحثون عن الله (138)

كل نوع من الأنواع خلق بفعل خاص من أفعال القوة الخالقة، و(باستور) مكتشف جراثيم الأمراض على هذا الرأي، والقائلون بهذا الرأي قد استقر مذهبهم على (أن كل حي لا بد أن يتولد من حي مثله)

أما الثاني، فهو ما ذهب إليه (هيرمان أبير هارد ريختر).. إذ رأى أن الفراغ الذي نراه مملوءاً بجراثيم الصورة الحية، كالجواهر الفردة التي تتكون منها المادة الصماء، كلاهما في تجدد مستمر، ولا يتطرق لهما العدم، وبنى قاعدته في أصل الحياة على (أن كل حي أبدي، ولا يتولد إلا من خلية)، وهذا الرأي يتضمن أن تطورات المادة من المادة، وتطورات الحياة من الحياة.

أما الثالث، فهو ما ذهب إليه الماديون من أن الحياة نشأت من المادة بالتولد الذاتي، وليس لهذا الرأي أي شاهد تجريبي، أو مستند عقلي، وقال بهذا الرأي الدكتور (باستيان) في إنكلترا، والأستاذ (هيكِل) في ألمانيا (1).

قال العظم: دعنا من هذا.. وأجبني ألا ترى أن ما جاء في النصوص الدينية من استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها بالنسبة إلى الأحداث والتغيرات التي توجد داخل مجال النظرية المذكورة، مناقضاً أو معارضاً لمضمون هذه النظرية؟

قال حبنكة: إن هذا يستدعي الرجوع إلى استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها في اللغة العربية وفي نصوص الشريعة الإسلامية.. وقد رجعت إلى هذه النصوص، فوجدت أن هذه المادة اللغوية لا تعني دائماً الإيجاد من العدم المطلق، بل كثيراً ما تستعمل مراداً منها التحويل في الصفات والعناصر التركيبية من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن هيئة إلى هيئة، ومن خصائص إلى خصائص، دون زيادة شيء على المادة الأولى من العدم المطلق، وفي حدود هذا الاستعمال نجد قول الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ

__________

(1) نقله حبنكة عن (إسماعيل مظهر) في مقدمته لكتاب (أصل الأنواع)، تأليف (تشارلز داروين)

الباحثون عن الله (139)

أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ((المؤمنون)

ففي كل ما ذكر من صور الخلق نشاهد عمليات التحويل من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، ومن خصائص إلى خصائص، وقد أطلق على هذه التحويلات أنها خلق، باعتبار أن القدرة الربانية هي المتصرفة في كل هذه التحويلات.

وجاء في القرآن إطلاق الخلق على تغيير هيئة الطين وجعله على صورة طير، نظراً إلى أن الخلق لا يستدعي دائماً أن يكون إيجاداً من العدم، وذلك في قول الله لعيسى - عليه السلام -: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ((المائدة: من الآية 110)

وبما أن كل التغييرات الكونية إنما تجري بإرادة الله وقدرته، فهي ظواهر لأعمال الخلق التي يقوم بها الله تعالى.

فعلى التسليم الكامل بنظرية (لافوازيه) ضمن حدودها، لا نجد تعارضاً بينها وبين المفاهيم الدينية التي دلت عليها النصوص الصحيحة الصريحة.

ابتسم، وقال: أنا أعلم أن مثل هذه الحقائق لا تسر الملحدين، لأنهم حريصون جداً على أن يظفروا بتناقض ما بين العلم والدين، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لنقض الدين من أساسه.. ولن يظفروا مهما أجهدوا نفوسهم، لأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد، عليم بكل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

قال العظم: دعنا من هذا.. وأجبني.. ألم تتساءل يوما عن السر الذي جعل جميع العلماء المحترمين علماء ماديين ملحدين.. بل لا يصير العالم عالما حتى يصير ملحدا.. خذ مثالا على ذلك بالفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) الذي كتب كتابه العظيم، والذي عنونه بـ (إرادة الاعتقاد)؟

إن هذا الرجل العظيم يرى أن البينات العلمية والأدلة العقلية غير كافية بحد ذاتها للبرهان

الباحثون عن الله (140)

على وجود الله أو عدم وجوده، لذلك يحق للإنسان أن يتخذ موقفاً من هذه المعضلة يتناسب مع عواطفه ومشاعره.

واسمع بعد هذا إلى هذه المعزوفة العظيمة التي لحنها الفيلسوف الأديب (برتراند رسل) تحت عنوان: (عبادة الإنسان الحر).. لقد صور فيها تفسيرات الملحدين لنشأة الكون وتطوره، ونشأة الحياة وتطورها، وأصل الإنسان ونشأته وتطوره، ونشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وأنكر فيها الآخرة وما فيها.. فالكون بدأ من السديم، وهو إلى السديم يعود.

واسمع مع هؤلاء إلى تلك المعزوفات الجميلة التي لحنها (ماركس) و(فرويد) و(داروين).. وغيرهم من العباقرة.

ابتسم حبنكة، وقال: أنت تتهجم على المدافعين عن الدين بأنهم يقدمون أقوالاً تقريرية غير مقترنة بأدلة.. ولكنك في الرد عليهم تفزع إلى قصة أدبية كتبها (برتراند رسل).. وكأنها السند الأمثل للتحقيق العلمي في قصة الخليقة.

هل تصبح تلك القطعة الأدبية هي التحقيق العلمي العظيم لقصة الوجود كله، التي بدأت بالسديم وستنتهي إلى السديم، وفق النظرات التي يرجحها أصحابها دون مستندات علمية صحيحة، ودون براهين معتبر وفق المنهج العلمي السليم؟

أنَّى لواضعي هذه النظرية أن يشهدوا بداية الكون؟ وكيف يتسنى لهم مشاهدة نهايته؟

إن راسل صور في قصته أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى، ثم نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة بطريق المصادفة، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون يعود به كل شيء إلى سديم كما كان أولاً.

أذكر أنك علقت على هذه القصة الخيالية بقولك: (هذا المقطع الذي كتبه (رسل) يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره، نشوء الحياة وتطورها، أصل الإنسان ونشأته وتطوره، نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها،

الباحثون عن الله (141)

وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم، ولا أمل لكائن بعدها بشيء، إنه من السديم وإلى السديم يعود)

وهكذا وبكل بساطة تعتبر هذه الأمور حقائق مقررة مسلماً بها علمياً، دون أن تقترن بأي إثبات لها، أهذا هو مستوى الأمانة الفكرية عندك؟ أهذا هو المنهج العلمي السليم؟

ما أبعد المناهج العلمية عن القصص التقريرية، التي تنسجها أخيلة الكتاب والأدباء والشعراء، أو أخيلة واضعي النظريات لأغراض معينة.

في موضع آخر من كتابك العظيم استشهدت بإعجاب برسل قائلا: (وفي مناسبة أخرى عندما سئل (رسل): هل يحيا الإنسان بعد الموت؟ أجاب بالنفي، وشرح جوابه بقوله: عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكز أو أساس علمي)

أهكذا ترفض الحقيقة التي جاء بيانها بالأخبار الصادقة عن الله، بمجرد الاستبعاد؟

حينما يسمع المؤمن بالإسلام جواب هذا الفيلسوف الإنكليزي عن الحياة بعد الموت، لا بد أن تسترجع ذاكرته الجواب الجاهلي الذي كان يجيب به كفار العرب البدائيون، إذ قالوا كما حدثنا القرآن عنهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ((المؤمنون: من الآية 82)، وقال حاكيا عنهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (قّ:3)

إن هذا المنطق يدلنا بوضوح على أن الإنكار هو الذي لا يرتكز على أساس علمي، إنما يعتمد على مجرد التقرير للنفي، أو استبعاد فكرة البعث بإطلاق عبارات التعجب.

على أن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء لا بد أن يعتمد على أساس الإيمان بالله، فإثارة هذه العقيدة دون أساس الإيمان بالله هي من قبيل الاشتغال بالفروع قبل الاتفاق على الأصول، وهذا لا يؤدي إلى نتيجة صحيحة، فإذا تم التسليم بعقيدة الإيمان بالخالق جلَّ وعلا

الباحثون عن الله (142)

جاء من بعدها عرض أدلة البعث.

التفت إلى العظم، وقال: أما بخصوص انتقائيتك في اختيار العلماء والفلاسفة.. فأنا أستطيع أن أذكر لك الآن الكثير منهم.. وكلهم كان مؤمنا عارفا بربه خاشعا له.. كما أخبرنا ربنا، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ((فاطر: من الآية 28)

لقد قال البروفيسور (إيدوين كونكلين): (إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار يقع في مطبعة على سبيل المصادفة)، أي لا يمكن للمصادفة أن توجد هذا الكون ذا النظام المتقن الرائع، إذن فلا بد له من خالق خلقه وأتقنه.

وقال عالم الطبيعة الأمريكي (جورج إيرل ديفيس): (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله)، ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات)

انظر كيف أن هذا العالم الأمريكي من علماء الطبيعة يرى أن نظرات الملحدين هي من قبيل الخزعبلات، أو الخرافات التي ليس لها سند علمي ولا سند عقلي، وهذا هو شأن كل عالم منصف محايد.

واسمع إلى رد (كريسي موريسن) الذي كان رئيس أكاديمية العلوم الأمريكية بنيويورك على الملحد (هيكل) إذ قال هذا الملحد متبجحاً: (إيتوني بالهواء وبالماء، وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الإنسان).. لقد قال له: (إن هيكل يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية، ومسألة الحياة نفسها، فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات) أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب

الباحثون عن الله (143)

الحياة، ولكن إمكان الخلق في هذه المحاولة بعد كل هذا لا يعدو واحداً على عدة بلايين، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها مصادفة، بل سوف يقررها وبعدها نتيجة لعبقريته)

وهكذا أظهر هذا العالم سخافة أقوال (هيكل) عن طريق الاستدلال العلمي.

فالاستناد إلى فرضية المصادفة في تعليل وجود الكائنات المتقنة المنظمة لون من التخريف الفكري، القائم على إرادة التضليل فحسب، وليس مذهباً فكرياً تحيط به شبهات تزينه في عقول القائلين به، وهذا ما تدل عليه الشهادات العلمية المنصفة المحايدة.

واسمع إلى عالم الأعضاء الأمريكي (مارلين ب. كريدر)، لقد قال: (إن الإمكان الرياضي في توافر العلل اللازمة للخلق عن طريق المصادفة في نِسَبِها الصحيحة هو ما يقرب من لا شيء)، أي: إن احتمال المصادفة احتمال مرفوض رياضياً في تعليل عمليات الخلق المتقن المنظم.

وجاء في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) ثلاثون مقالاً لثلاثين من كبار العلماء الأمريكيين، في الاختصاصات العلمية المختلفة من علوم الكون السائدة في هذا العصر الحديث، وقد أثبت هؤلاء العلماء في مقالاتهم هذه وجود الله جلَّ وعلا، عن طريق ما وَعَوْه من الأدلة الكثيرة المنبثة في مجالات اختصاصاتهم العلمية.

وفي هذا الكتاب يطلع القارئ على نوع من الأدلة العلمية، التي تفرض سلطانها على العلماء الماديين، من خلال ملاحظاتهم وتجاربهم واختباراتهم العلمية، فتجعلهم يؤمنون بالله، ويجد فيه أيضاً الرد الكافي على مروجي الإلحاد، الذين يزعمون أن العلوم تبعد عن الإيمان بالله، وأن جميع أو معظم العلماء الكونيين ملحدون.

عم صمت قليل المجلس قطعه حبنكة قائلا، وهو ينظر إلى العظم: ولهذا، فإن ما ذكرته في الصفحة (28) من كتابك العظيم ـ من قولك: (إن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية عن ذكر الله) ـ ادعاء باطل لا أساس له من الصحة مطلقاً.

الباحثون عن الله (144)

ومع ذلك، فلنفترض جدلاً أن العلماء الماديين جميعهم أنكروا وجود الله.. فهل ترى ذلك كافيا في إنكار حقيقة وجود الله؟

هل ينتظر من العلوم المادية المتقدمة وأجهزتها المتطور أن ترينا الله تعالى رؤية حسية؟

إن أقصى ما تفعله هذه الأجهزة أن ترينا آيات الله في الكون.. أما ذات الله تعالى، فلن تستطيع أن ترينا إياها.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) (فصلت)

لا نقول هذا فقط.. بل نحن نتحدى العلوم المادية المتقدمة، وأجهزتها المتطورة، أن ترينا كثيراً من الطاقات الكونية التي غدت حقائق علمية ثابتة لدى العلماء الماديين عن طريق الاستنتاج من ظواهرها وآثارها، وهذه الحقائق التي أثبتوها ليست إلا تفسيرات نظرية للظواهر.

بالإضافة إلى هذا، فإن شهادات العلماء الماديين المؤمنين الذين نشأوا في عصر النهضة العلمية المادية الحديثة تقدم للمتشككين أدلة كافية على أن العلوم المادية ليست علوماً ملحدة في حقيقتها، لكن الإلحاد ملصق بها بطريقة صناعية مقصودة موجهة، من قبل فئات خاصة لها في نشر الإلحاد مصالح سياسية واقتصادية ضد خير البشرية وسعادتها.

ومن هذه الأقوال يتبين لنا بوضوح أنه لا يوجد تناقض ولا تعارض مطلقاً في نظر جمهور العلماء الماديين بين الدين والعلم حول الأساس الأول من أسس العقيدة الدينية، وهي عقيدة الإيمان بالله تعالى، وبهذا تنهار المستندات الإلحادية التي تزعم وجود هذا التناقض بالنسبة إلى هذه النقطة بالذات، باعتبارها مجال بحثنا الآن، وباعتبارها أعظم نقطة في الأيديولوجية الإلحادية، والتي يحاول الملحدون جهدهم أن يوجدوا لها المبررات النظرية، أو المبررات العملية، فلا يجدون إلا افتراء الأكاذيب، وصناعة المغالطات، والاحتماء المزور بالتقدم العملي والصناعي، وسرقة أسلحة العلم التي لا تملك في الحقيقة الدفاع عن الإلحاد، وإنما هي في الأصل أسلحة لقضية

الباحثون عن الله (145)

الإيمان، يحسن استعمالها العالمون بها، وتكون عند الجاهلين بها أسلحة معطلة، ويسرقها الملحدون فيحملونها أمام الجاهلين، فيتخيل الجاهلون بها أنها فعلاً أسلحة للملحدين، وهي تدعم قضية الإلحاد، مع أن الحقيقة بخلاف ذلك، إنها أسلحة للمؤمنين العالمين بها، الذين يحسنون استعمالها.

لو كانت النظرة العلمية الحديثة تناقض أو تعارض النظرة الغائية للكون، لما وجدنا هذا الجمهور الكبير من علماء النهضة العلمية الحديثة مؤمنين بالله، وبتفسيرات النظرة الغائية للكون، وبالمفاهيم الأخلاقية الدينية..

لقد كان (أندرو كونواي إيفي) من هؤلاء.. لقد كان من علماء الطبيعة الكبار.. وكان ذا شهرة عالمية من سنة (1925 م) إلى سنة (1946 م).. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقول ـ في مقال له تحت عنوان: (وجود الله حقيقة مطلقة) ـ: (ويظهر أن الملحدين أو المنكرين بما لديهم من شك لديهم بقعة عمياء، أو بقعة مخدرة داخل عقولهم، تمنعهم من تصور أن كل هذه العوالم، سواء ما كان ميتاً أو حياً، تصير لا معنى لها بدون الاعتقاد بوجود الله)

ثم استشهد لذلك بتصريح لأينشتاين قال فيه: (إن الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى ليس تعيساً فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة)

انظروا.. أليس هذا التفكير الذي يعلن عنه هذا العالم ومن قبله (أينشتاين) تفكيراً قائماً على النظرة الغائية للكون، وعلى اعتبار القيم الأخلاقية؟

إن هذه النظرة الموافقة للنظرة الإسلامية لم تكن عند أصحابها مناقضة للأسس العلمية الحديثة، ولا للنظرة العلمية كما تبلورت مع تطور العلم الحديث وتقدمه..

قاطعه العظم، وقال: ولكن هذه النظرة مناقضة لنظريات دُركهايم، وفرويد وماركس.. ومناقضة للداروينية.

قال حبنكة: لو كان لدي الوقت الكافي لبينت لك هنا بالدليل القاطع أن هؤلاء ليسوا سوى أجراء لمخططات ليس لها من هدف سوى هدم الأسس الدينية، لا على أساس قناعات علمية

الباحثون عن الله (146)

صحيحة.

لقد أصبح مخططهم مكشوفاً للعالم.. بل كتب في كشف مكايدهم محققون من العلماء المتتبعين.

ومع ذلك.. وبغض النظر عن مدى صدق هذا.. فلنقارن بين السمو الذي تحمله نظريات من ذكرت، وبين السمو الذي تحمله النظرية الإسلامية، ومن يوافقها من علماء الطبيعة المؤمنين.

راح العظم يقرأ من كتابه بصوت جهوري هذا النص: (جلي أن هذه النظرة الإسلامية للكون هي نظرة غائية، تعتمد في تفسيرها لطبيعة الكون على العلل الغائية، والأهداف السامية، وعلى مفاهيم أخلاقية مثل (الحق والعدل)

هل تنسجم هذه النظرة الغائية إلى الكون والحياة مع النظرة العلمية التي تسود العالم المعاصر وثقافته؟ لو رجعنا إلى التفسيرات العلمية للكون من (نيوتن) إلى (أينشتاين) هل نجد في صلبها مقولات مثل (الأهداف السامية) أو (الحق والعدل) أو (الروح والجمال والخالق)؟.. هل نجد لهذه المفاهيم الأخلاقية الدينية أي ذكر في النظرية النسبية، أو في ميكانيكا الكموم مثلاً؟ سؤال جدير بالتمحيص والإيضاح والمناقشة على أقل تعديل)

قرأ ذلك، ثم التفت لحبنكة، وقال: ما تقول في هذا النص؟

ابتسم حبنكة، وقال: أعلى هذا المستوى الفكري تعرض قضية الإلحاد، وتناقش قضية الإيمان بالله!؟

أهكذا يجازف بالمنطق والفلسفة ليصنع حجة مكشوفة بهذا الشكل؟

فما صلة النظرية النسبية وميكانيكا الكموم بالحديث الصريح عن الله تعالى، أو التعرض إلى المفاهيم الأخلاقية، حتى يعتبر عدم ذكر اسم الله والمفاهيم الأخلاقية فيها دليلاً على نفي وجود الله، أو على إلغاء المفاهيم الأخلاقية!؟

إن مثل هؤلاء الذين يرطنون بمثل هذا كمثل وارث كنز عظيم، ولكنه قد نشأ وهو يجهل

الباحثون عن الله (147)

أين خبأ له مورثه كنزه، وأقبل خبراء البحث عن الكنوز ينقبون ويبحثون، وتسلل من وراء هؤلاء الخبراء لصوص، تظاهروا بأنهم باحثون خبراء، ولكنهم وقفوا يرصدون ما يعثر عليه الباحثون الحقيقيون، ليسرقوه كله أو ما يستطيعون سرقته منه، وكان مورث الكنز قد كتب اسمه ورسم صورته على أحد وجهي مصكوكاته الذهبية علامة على أنها له، وقد خبأها لوارثه، أما الخبراء المنقبون الأمناء: فإنهم لما ظفروا بما وجوده من الكنز، أعلنوا ما شهدوا من كتابة ورسوم على مصكوكاته، وثبتوا استحقاق الوارث لها، وأخذوا أجرهم على أعمالهم. وآخرون لم تكن لديهم الأمانة الكافية أو كانوا جاهلين بقراءة المكتوبات الأثرية أخذوا ما عثروا عليه، وانتفعوا بالكنز، ولم يعلنوا ما شهدوا من كتابة ورسوم على مصكوكاته، ولم يهتموا بأن يعترفوا باستحقاق الوارث لها.. وجاء من وراء الفريقين فئة اللصوص، فسطوا على بعض ما استخرجه الخبراء من الكنز، وطمسوا الوجه المكتوب، وأقبلوا يفاخرون بأن الكنز كله هو ملكهم، وهو ميراثهم، والدليل على ذلك أن بعض قطع مصكوكاته الذهبية في أيديهم، قد عثروا عليها وفيها كتابة تشهد لهم بأن مورِّثهم قد خبأها لهم.

وحينما يُقال لهم: أرونا هذه الكتابة التي تشهد لكم يقولون: فلان قال هذا، وفلان قال هذا، وفلان قال هذا، وكل هؤلاء الذين ذكروهم هم من فئة اللصوص أنفسهم، أو من غيرهم ولكن يكذبون عليهم، ويظلُّون حريصين على أن يبقى الوجه الثاني للمصكوكات الذهبية مطموساً، حتى لا تنكشف لعبتهم القائمة على اللصوصية والتزوير.

أخذ العظم يقرأ من كتابه هذه العبارات: (عندما نقول مع (نيتشه): إن الله قد مات، أو هو في طريقه إلى الموت، فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما تعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله تماماً كما قال (لابلاس))

التفت إلى حبنكة، وقال: وما تقول في هذا الكلام؟

الباحثون عن الله (148)

ابتسم حبنكة، وقال: لست أدري لم تحشر اسم العالم (لابلاس) في هذا المحل.. لقد شرح (لابلاس) دليل الحركة الكونية، وأبان قوة هذا الدليل في جسم الشبهات التي يثيرها الجاحدون فقال: (أما القدرة الفاطرة التي عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث إن النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل.. هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلا باحتمال واحد من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟ إنه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصى إلا إذا لبث خمسين ألف عام يعد الأرقام ليلاً ونهاراً، على أن يعد في كل دقيقة (150) عدداً)

انظر هذا الكلام المضمخ بعطر الإيمان.. لم لم تسمع إليه؟

قال العظم: لقد سمعت إلى قوله الآخر: (إن العالم العظيم الذي سيتمكن من معرفة انتشار الذرات في السحب السديمية الأولية سيكون باستطاعته أن يتنبأ بكل مستقبل الكون وأحداثه)

قال حبنكة: ولكن قوله هذا لا يعني إنكاره للخالق، وإنما يدل على شعوره بأن الكون سائر وفق نظام مرسوم خاضع لسلاسل سببية متتابعة، يمكن التنبؤ باللاحق منها لدى معرفة السابق.

قال العظم: وما تقول في قوله لنابليون: (الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي) (1)

قال حبنكة: فلنفرض أنه قال هذا وذاك.. فلم تنتقي هذا دون ذاك.. ألا يمكن أن يقول أحد من الناس قولا ثم يتراجع عليه بعد ذلك؟

__________

(1) ذكرنا هذا القول في المبحث السابق، والذي نقلناه من كتاب (العلم في منظوره الجديد).. ولكن حبنكة يشكك في مدى صدقه.. قال بعد عرضه له: (لست أدري مبلغه من الصحة أمام قوله الذي قرأناه مما كتب بنفسه، وبكل أسف لم نجد لدى الناقد أثراً للأمانة الفكرية التي يتظاهر بالغيرة عليها)

الباحثون عن الله (149)

ثم ما قيمة (لابلاس).. مهما كان محترما.. أمام القضية الكبرى التي نتحدث عنها؟

لم يجد العظم إلا أن فتح كتابه، وقال: فما تقول في ردي على الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس)؟

قال حبنكة: ماذا قال (وليم جيمس) أولا؟

قال العظم: لقد كتب كتابا يغلب فيه العاطفة على العقل.. سماه (إرادة الاعتقاد).. وقد تعرض في بحثه هذا إلى حق الإنسان المفكر بالاعتقاد بوجود الله، ولو لم تكن البينات العلمية والأدلة العقلية كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود الله أو عدم وجوده، نظراً إلى أن عواطف الإنسان ومشاعره ترجح جانب الإثبات، كما أن الإنسان يجد نفسه بين موقفين:

إما أن ينكر الله ويجحده، ثم يكون الواقع بخلاف ذلك.. وفي هذه الحالة، فإنه يعرِّض نفسه لخسائر كبرى.

وإما أن يؤمن به، ثم يكون الواقع بخلاف ذلك.. وفي هذه الحالة، فإنه لا يخسر شيئاً.

واستنتج من ذلك أن موقف الإيمان على هذا موقف لا خسارة فيه مطلقاً، مع وجود احتمال اغتنام أرباح كثيرة منه بخلاف موقف الإلحاد الذي لا ربح فيه مطلقاً، مع وجود احتمال تكبد خسائر كبرى.

وبمقارنة هذين الموقفين رجح موقف الإيمان على موقف الإلحاد قطعاً.. وبذلك غلب جيمس العاطفة على العقل.

لقد قلت ردا عليه في الصفحتين (76) و(77): (في الواقع أن (جيمس) يسيء فهم المشكلة: فالمسألة لا تتعلق بالفائدة الدنيوية أو الأزلية التي قد أجنيها من اعتقادي بالله، وبالخسارة المماثلة التي قد أتكبدها من عدم اعتقادي به إذا كان موجوداً.. المشكلة أصلاً لا تمت بصلة إلى حساب الأرباح والخسائر، ولا علاقة لها بعقلية الرهان والمجازفة.. المشكلة بكل بساطة هي: هل القضية (الله موجود) قضية صادقة أم كاذبة، أم أن صدقها جائز جواز كذبها، وليس لدينا أدلة أو بينات

الباحثون عن الله (150)

ترجح أياً من هذين الاحتمالين على الآخر؟ يجب أن ينسجم موقفنا الشخصي من قضية وجود الله انسجاماً تاماً مع جوابنا على هذا السؤال، لا مع حساب الخسائر والأرباح)

ابتسم حبنكة، وقال: ما ذكره جيمس ليس دليلا (1).. فلا ينبغي للدليل إلا أن يعتمد على العقل المجرد.. بالإضافة إلى أنه لا يعتبر الإيمان إلا من العقل الجازم الموقن لا من العقل التاجر المجرب.

ولكن مع ذلك، فإن هذا مما اعتاد العلماء في المناظرات طرحه.. وهم يطرحونه، لا باعتباره دليلا.. وإنما باعتباره مؤثرا في الملحد حتى يعيد نظره ويدققه.. فالمسألة ليست مسألة نظرية مجردة.. إنها مسألة يرتبط بها مصير الإنسان جميعا.

لقد اعتاد المناظرون الدالون على الله أن يذكروا ما ذكره جيمس عند آخر مرحلة من مراحل النقاش الذي يرفض فيه الملحد أدلة الإيمان الكثيرة، ويعلن تشككه بها.. أو يطرحونه في أول مرحلة من مراحل النقاش، لتوجيه النفس إلى منطقة الإيمان منذ الانطلاقة الفكرية الأولى، ثم تطرح من بعده الأدلة والبينات الأخرى، فهو إما دافع إلى النقلة الأولى التي تتجاوز منطقة الشك المطلق، وإما ممسك بالنفس في منطقة الإيمان قبل أن تنزلق إلى منطقة الشك المطلق.

لقد علمنا القرآن هذا.. فقد ذكر أن مؤمن آل فرعون، قال لقومه الذين هموا بقتل موسى - عليه السلام -: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ((غافر: من الآية 28)

فهذا الرجل المؤمن من آل فرعون عرض عليهم ـ أولاً ـ دليل البينات التي جاء بها موسى، ثم تنازل معهم إلى مستوى آخر لا يستطيعون أن يرفضوه إذا هم رفضوا البينات، فقال لهم: (

__________

(1) نحب أن ننبه هنا إلى الخطورة التي تحملها هذه الفكرة التي عرضها وليم جيمس، والتي صار البعض يتشبث بها للإيمان بأي شيء، بحجة أن الإرادة تغلب العقل.. وهو لذلك لا يبحث عن الدين الصحيح الذي ينبغي أن يسلم زمامه له.

الباحثون عن الله (151)

وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، أي: إنكم لا تخسرون شيئاً إذا تركتم موسى وشأنه فيما لو كان كاذباً، بخلاف ما لو كان صادقا فإنكم تخسرون كثيراً بتكذيبه ومقاومة دعوته: (وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، أي: فيما لو كان صادقاً.

والمنطق الحق يرجح الأخذ باحتمال صدقه على احتمال كذبه، لأن الأخذ باحتمال الصدق يدفع عنكم احتمالات الخطر دون أن تخسروا شيئاً، أما الأخذ باحتمال الكذب فإنه قد يعرضكم للخطر دون أن تخسروا شيئاً، أما الأخذ باحتمال الكذب فإنه قد يعرضكم للخطر دون أن تجنوا شيئاً من الربح.. وهذا منطق عقلي يصح الاستناد إليه والاعتماد عليه، في كل الأمور التي يجد الإنسان نفسه فيها بين موقفين متكافئين نظرياً، إلا أن الأخذ بأحدهما فيه السلامة بصفة قطعية مع احتمال الربح، أما الآخر ففيه احتمال عدم السلامة مع الخسارة، وهذا هو أضعف الأدلة المرجحة.

قال العظم ساخرا: أهان العقل عندكم لهذه الدرجة.. حتى صارت العاطفة تغلبه؟

ابتسم حبنكة، وقال: لقد ذكرني موقفك هذا بقصة طالب غبي يحفظ بعض المسائل النحوية والصرفية واللغوية، سأله الممتحن أول ما سأله ما اسمك؟ فقال له: الاسم على أقسام: منه علَمَ، والعلم مرتجل ومنقول، وهو علم شخصي وعلم جنسي، ومنه معارف أخرى غير علم، ومنه نكرة، والنكرة قد تكون اسم جنس، وقد تكون اسم جنس جمعي، وفي باب النداء قد تكون النكرة نكرة مقصودة، وقد تكون نكرة غير مقصودة، ومعاجم اللغة قد جمعت المفردات اللغوية وبينت معانيها، سواء ما كان منها اسماً أو فعلاً، وفيها مئات الألوف من الكلمات.. وهكذا سار على هذا المنوال في السرد الغبي.

وهكذا أنت، فقد ظننت نفسك في مثل صحراء واسعة تبحث فيها عن دينار، واحتمالات الخطأ فيها لا نهاية لها، ونسيت أنك في موضوع يتردد بين احتمالين فقط، لا ثالث منهما، أحد هذين الاحتمالين هو أن الله موجود وحق، والاحتمال الثاني هو الاحتمال المناقض له، ولا شيء وراء

الباحثون عن الله (152)

هذين الاحتمالين، فالقضية كمن جاءنا فقال: في وسطي حزام ناسف، وهنا لا بد أن نكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن نرجح احتمال الصدق فنأخذ حذرنا، وإما أن نرجح الاحتمال الآخر فنورط أنفسنا في احتمال الخطر.

وهكذا، فإن (جيمس) رجح احتمال الإيمان على نقيضه فقط، وليس على احتمالات لا حصر لها.

ثم كيف لا تتعلق المشكلة بالفائدة الدنيوية أو الأزلية التي قد أجنيها من اعتقادي بالله، وبالخسارة المماثلة التي قد أتكبدها من عدم اعتقادي به إذا كان موجوداً؟

إنها مشكلة وجودي وحياتي وسعادتي ومستقبلي، أفلا أبحث عنها؟

أفلا أضعها في الحساب؟

أفأعرض وجودي كله وسعادتي كلها للخطر، دون أن يكون لي في الموقف الذي أتخذه أي ربح، أو أية فائدة؟

هل أتعامل مع أرقام في مسألة رياضية لا علاقة لي بها؟

إنها قضية حياة، قضية سعادة، وقضية مصير، واللعب فيها لعب بالنار.

رأيت العظم بعد أن سمع هذا تغير وجهه، ثم قال بصوت فيه بعض رعدة: أستأذن.. ربما نلتقي مرة أخرى لنكمل مناقشتنا.

سقط الكتاب من يده، وهو يسير، فأخذه بعض الناس، وأعطاه له.. فنظر إليه، وقال: خذه.. لدي نسخ أخرى منه.

المناظرة التاسعة

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة التاسعة.

الباحثون عن الله (153)

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت رجلين يلتف حولهما جمع كبير (1)..

أما أحدهما، فكان شيخا يبدو على ملامحه الصلاح.. وكان الناس يطلقون عليه (الراوندي) (2) وقد عرفت أن سببه هو كونه من بلاد يقال لها راوند.

وأما الثاني، فشاب تبدو عليه بعض خفة العقل.. ممزوجة بغرور كثير زاد فيه اطلاعه الواسع وعلمه الكثير.. فهو كما يقال (علم بلا عقل)..، وكان يطلق عليه (ابن الرواندي) (3).. وقد عرفت أن كلا الرجلين من بلد واحد.. لكنهما مع ذلك مختلفان اختلافا شديدا يستحيل معه أي اجتماع.

بدأ ابن الراوندي الحديث متوجها به للراوندي قائلا: إلى الآن لا أسمع إلا جعجة.. لم أر طحينا بعد.. أنت تعلم أني جائع.. والجائع لا تشبعه الجعجعة.

قال الراوندي: إنك لم تمنح لي الفرصة الكافية لأتسلسل بك في الدلالة على وجود الله.. إني كلما حدثتك حديثا انتقلت بي إلى غيره.. ولا يمكن أن تفهم بهذا شيئا.

قال ابن الراوندي: ها قد صمت.. فتكلم.. ولا تتكلم إلا بالطحين.. فإني لا أحب الجعجعة.

قال الراوندي: سأعود.. وأبدأ من الأول.. وسأفترض معك بأن وجود الله مجرد دعوى

__________

(1) ننبه إلى أن المناظرة ليست حقيقية كما هو ظاهر.

(2) أشير به إلى الإمام المتكلم ظهير الدين، محمّد بن الإمام قطب الدين سعيد بن هبة الله، الراونديّ، من أعلام الشيعة في القرن السابع الهجري، وهو صاحب كتاب (عجالة المعرفة في أصول الدين)

(3) أشير به إلى (ابن الرواندي)، وهو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، نسبة إلى قرية راوند الواقعة بين أصفهان وكاشان في فارس، ولد عام 210 هـ، وتوفي في الأربعين من عمره مخلِّفاً وراءَه أكثرَ من مئةِ كتابٍ طافحةٍ بالافتراءاتِ التي تُبَيِّنُ خُروجَه عن الإسلام، وقد كانَ يهودياً، ثمَّ دخلَ الإسلامَ وتنقَّلَ بينَ عدَّةِ مذاهبَ حتى ماتَ كافراً ملحداً.

سردَ ابنُ الجوزي سيرته في عدَّةِ صفحات؛ وقال الذهبيُّ في ختامِ ترجَمته: (لعنَ اللهُ الذكاءَ بلا إيمانٍ ورضيَ عن البلادةِ معَ التقوى)؛ ونُقلَ عن أبي عليٍّ الجبائي المعتزلي قولَه: (قرأتُ كتابَ هذا الملحدِ الجاهلِ السفيهِ ابن الراوندي فلم أجدْ فيه إلاَّ السفهَ، والكذبَ، والافتراء)

الباحثون عن الله (154)

تبحث عن أدلة علمية عقلية تدل عليها.

أولا أنت تعلم أن هذا من النوع من الدعاوى لا يتعلق من العلم بجانبه الذي يخضع للتجربة والمشاهدة.. ولذلك فإن الدليل الذي يمكن أن نستعين به لإثبات هذا هو البراهين العقلية.

إن هناك بديهيات اتفقت العقول على قبولها والتسليم لها.. وهي التي يعتمد عليها الدليل الذي سأورده لك.. وهي أربعة:

أما أولها، فهو (بطلان الرجحان دون مرجح)..

قاطعه ابن الراوندي، وقال: الرجحان دون مرجح!؟.. ما هذا!؟.. أنت تريد أن تتحدث عن الله، أم تريد أن تتحدث عن الموازين.. أو الأرجوحات.. ما هذا يا رجل.. ما هذه الجعجعة.. أريد الطحين.. لقد أنهكني الجوع.

تنفس الراوندي الصعداء، وقال: ما عساي أن أقول لك.. لقد عدت إلى طبيعتك.. ألم نتفق على أن تترك لي فرصة الكلام؟

قال ابن الراوندي: لا بأس.. لا بأس.. لكن وضح لي ما الذي تريده من الرجحان دون مرجح.

قال الراوندي: المراد منه بديهية من بديهيات العقول، وهي أنه يستحيل أن يكون الشيء جاريا على نسق معين، ثم يتغير عن نسقه، ويتحول عنه بدون وجود أي مغير أو محول إطلاقا.. إن هذا من الأمور الواضحة البطلان، وجميع العقلاء يعلمون أن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، ولا بد ـ لتحويله عن حاله السابقة ـ من محول ومؤثر يفرض عليه هذا الوضع الجديد، وينسخ حاله القديمة.

قال ابن الراوندي: أسلم لك بهذا.. ولكن كيف تستدل به على ما نحن فيه؟

قال الراوندي: بالتأمل في الأشياء تجد أنها جميعا لا تخلو من ثلاثة أوصاف: الوجوب

الباحثون عن الله (155)

والاستحالة، والإمكان (1).

فما اتصف بالوجوب استحال في العقل عدمه.. وما اتصف بالاستحالة استحال في العقل وجوده.. وما اتصف بالإمكان أجاز العقل وجوده وعدمه..

قال ابن الراوندي: سلمت لك بكل هذا.. فكيف تستدل به على ما نحن فيه؟

قال الراوندي: بالتأمل في هذا الكون الذي نراه نرى أنه في جملته من نوع الممكن.. أي أن العقل يجزم بأنه لا يترتب أي محال على فرض انعدامه.. ويرى أنه من الممكن أن توجد أسباب تعدمه من أصله دون أن يستلزم ذلك محال لا يقبله العقل.

وهذا يعني أنه لا بد لهذا الكون الذي كان في أصله قابلا لكل من الوجود والعدم بحد سواء من قوة خارجة عنه مؤثرة فيه خصصته لجانب الوجود..

قال ابن الراوندي: يمكن أن أتفق معك إلى هنا.. فما هذه القوة؟

قال الراوندي: هذه القوة هي قوة الله.

قال ابن الراوندي: لا.. لا أتفق معك على هذا..

قال الراوندي: لم.. أو ما القوة التي تراها بديلة عن الله؟

قال ابن الراوندي: ما دام الأمر يحتاج إلى الله.. فأنا لا أحتاج إلى هذا.. أنا أفرض فرضا آخر لا نحتاج فيه إلى أي قوة خارجية.

__________

(1) الواجب: هو ما لا يتصور العقل نفيه، أي ما لا يمكن للعقل أن ينفك عن إثباته.. والاستحالة ضد الوجوب فهي عدم قبول الثبوت في العقل، فالمستحيل ما لا يتصور العقل ثبوته، أي أن العقل لا ينفك عن نفيه وسلبه والحكم بعدمه كلما عرض مفهومه على العقل.. أما الجواز أو الإمكان العقلي فهو تمام القسمة العقلية بين الوجوب والاستحالة، فهو قبول الثبوت والانتفاء في العقل؛ فالجائز العقلي هو ما يتصور العقل ثبوته ونفيه، أي أنه عند عرضه على العقل فإن العقل ينفك عن إثباته كما ينفك عن نفيه.

ودليل الحصر أن المعلوم إما أن لا ينفك العقل عن إثباته وهو الواجب، أوْ ينفك عن إثباته كما ينفك عن نفيه وهو الجائز، أو لا ينفك عن نفيه وهو الممتنع لذاته، ولا ثالث بين الإثبات والنفي.. فثبت بذلك انحصار الأحكام المذكورة في الثلاثة.

الباحثون عن الله (156)

قال الراوندي: فما هو هذا الفرض الذي يغني الكون عن خالقه؟

قال ابن الراوندي: أنا أفرض أن الكون وجد بذاته دون أي قوة مؤثرة خارجية.

قال الراوندي: فما دليلك على هذا؟

قال ابن الراوندي: لا أحتاج إلى أي دليل.. بل أنت الذي تحتاج إلى أن تنفي صحة هذا الفرض.

قال الراوندي: لا بأس.. إن هذا الفرض الذي فرضته سيلزم عنه القول برجحان الشيء بدون مرجح له، وهو باطل كما علمت، فبطلت الفرضية التي استلزمتها أيضا.

لقد قال الفارابي الذي أراك تقدره وتحترمه يقرر هذا: (إن الموجودات على ضربين: أحدهما ممكن الوجود، والثاني واجب الوجود.. وممكن الوجود إذا فرض غير موجود لم يلزم عنه محال، وليس بغني بوجوده عن علته وإذا وجد صار واجب الوجود لغيره لا بذاته.. أما واجب الوجود فمتى فرض غير موجود لزم عنه محال، ولا علة لوجوده ولا يجوز كون وجوده بغيره، والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولة.. ولا يجوز كونها على سبيل الدور، بل لا بد من انتهائها إلى شيء واجب هو الموجود الأول الذي هو السبب الأول لوجود الأشياء وهو الله تعالى)

و على تعبير ديكارت القريب التناول: (إنني موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟.. إنني لم أخلق نفسي.. فلا بد لي من خالق.. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود وهو الله بارئ كل شيء)

و على تعبير باسكال: (إنه كان يمكن أن لا أكون لو كانت أمي قد ماتت قبل أن أولد حيا، فلست إذا كائنا واجب الوجود.. فلا بد من كائن واجب الوجود يعتمد عليه وجودي وهو الله)

وقد عبر القرآن الكريم على ذلك بأوجز عبارة، فقال: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)

الباحثون عن الله (157)

قال ابن الراوندي: فلنفرض أن العالم قديم في وجوده.. أي لا أول له، ولا سبق للعدم عليه.

قال الراوندي: كيف ذلك؟

قال ابن الراوندي: عن طريق التوالد الذاتي.. فكل سبب طبيعي له سبب طبيعي إلى ما لا نهاية.

قال الراوندي: إن هذا النوع من التوالد تنفيه الحقيقة الفطرية الثانية.. وهي (بطلان التسلسل)

قال ابن الراوندي: بطلان التسلسل!؟.. ما بطلان التسلسل؟

قال الراوندي: هو افتراض أن المخلوقات كلها متوالدة عن بعضها إلى مالا نهاية، بحيث يكون كل واحد منها معلولا لما قبله، وعلة لما بعده.. دون أن تنبع هذه السلسلة أخيرا من علة واجبة الوجود هي التي تضفي التأثير المتوالد على سائر تلك الحلقات.

إذ أن سلسلة المخلوقات الممكنة مهما طالت وطالت فإن استمرار طولها لا يخرجها على كل حال عن كونها ممكنة، والممكنات لا بد لرجحان أحد طرفي الإمكان فيها من مرجح.. ولنعتبر أن التسلسل حلقات.. فحلقات السلسلة كلها لا تأثير ذاتي في واحدة منها مهما طال الزمن.. إذا فلكي نصدق أنها موجودة لا بد أن ننتظر ظهور المؤثر الخارجي الذي أمد السلسلة بالحياة، فراحت بدورها تنتقل من حلقة إلى حلقة، وإلا كان لا بد من الجزم بأحد أمرين: إما أن كل هذه السلسلة مفقودة إذ لم يثبت وجود ذلك الذي قذف فيها الحياة.. وإما أنها موجودة، ولكنها تنبع أخيرا من ذات واجبة الوجود تؤثر فيها، ولا تتأثر بشيء.

أما الأمر الأول، فظاهر البطلان، لأن الحس والمشاهدة يكذبانه.. وأما الثاني، وهو تيقن أن لابد له من مصدر ذاتي وهبه الحياة والقدرة على الحركة والتطور والتوالد، فيبطل بذلك التسلسل المذكور.

وكما تعلم، فالعالم مركب بمجموعه وأجزائه.. وكل مركب حادث بداهة.. والعالم بما فيه

الباحثون عن الله (158)

متغير تغيرا مستمرا من صورة إلى صورة.. وكل متغير من صورة إلى صورة لا يمكن أن تكون له صورة أصلية أزلية قديمه، لأنها لو كانت كذلك لم يجز أن يطرأ عليها التغير.

والقول بتسلسل الصور إلى غير نهاية غير صحيح.. لأن التسلسل مستحيل عقلا.. فلا بد أن نقف عند حد، ونقول: إن هذا المتغير لم تكن له في أول أمره صوره.. وإذا لم تكن له صوره لا يكون له وجود، لأن الصورة تشمل الشكل والحجم والوزن واللون والطعم والرائحة، ومتى فقد الشيء هذه الصور كلها فقد وجوده.. فالعالم نتيجة لهذا حادث.. والعقل بقوة قانون العلية البديهي يحكم بداهة بأن كل حادث لا بد له من سبب يحدثه، وهذا السبب المحدث لا يجوز أن يكون حادثا، لأنه يفتقر إلى سبب محدث له.. ولا يجوز القول بتسلسل الأسباب إلى غير نهاية، لأن التسلسل ممتنع عقلا.. فلا بد أن يكون المحدث الصانع للعالم قديما، وهو الله تعالى الذي خلق العالم وأحدثه بعد العدم المطلق.

قال ابن الراوندي: أنا لا أستطيع أن أضع في خيالي ما تذكره من أحاديث.. فمن الصعب علي الخيال أن يتصور النهاية.. واللانهاية..

ابتسم الراوندي، وقال: أنا أخاطب عقلك لا خيالك.. فالله يمكن أن نتعقله، ولكنا مهما أوتينا من سعة الخيال، فلا يمكن أن نتخيله..

إن ما ذكرته لك بديهيات عقليه يأخذ بعضها برقاب بعض، ولكن هذه البديهيات يزاحمها في الذهن عند آخر مراحل التفكير ارتباك وكلال عند تصور النهاية التي ليس وراءها أي شيء، واللانهاية التي لا تقف عند حد، والأزلية التي ليس لها بداية، والزمن الذي ليس قبله زمن، والمكان الذي ليس وراءه أي شيء.. والعدم المطلق.

ولكن إذا علمنا أن العالم الواقع المشاهد هو من قسم الممكن، لأننا نستطيع تصور عدم وجوده، وبما أنه ليس هو الذي أوجد نفسه، فلا بد إذا من علة كافية لوقوعه ووجوده.. وقبل أن تحدثه العلة الكافية لم يكن موجودا، فلا بد إذا من تصور العدم سابقا لحدوث العالم.. فهل تصور

الباحثون عن الله (159)

إيجاده بعد العدم يوجب تناقضا عقليا؟

كلا.. بل إن التناقض العقلي إنما يكون إذا تصورنا عدم سبق العدم لوجود العالم.

نعم يعجز الخيال البشري عن تصور ذلك.. ولكن ما قيمة هذا العجز أمام البرهان القاطع؟

ألا تؤمن بالحقائق الرياضية، وتجد اليقين في نتائجها الصحيحة؟

ألست تعرف كثيرا من الحقائق الرياضية التي تستند إلى أوليات بديهية عقلية تكون في أول الأمر خافية عليك ولا تظهر لك إلا بالتأمل والاستنتاج والبرهنة.

إن عقولنا في مجال الأعداد الكبيرة تكل عن تصور حقائق واضحة لا تحتاج إلا لتأمل قليل وحساب بسيط من نوع الجمع، ويكون كلالها غريبا جدا حتى تمارى في النتيجة ولو أخبرها بها أصدق الناس وأعلمهم.

سأضرب لك مثالا على ذلك.. أنا أعلم حبك لأحجية الورقة المقطعة.. ولذلك سأستثمر هذا المثل لأقنعك بهذا.

لو أعطيت ورقة رقيقة بالغة الرقة سمكها جزء من مائة جزء من الميليمتر، وطلب منك أن تقطعها نصفين، ثم تقطع النصفين ثانية ليصبحا أربعة، ثم تقطع الأربعة لتصبح ثمانية، وهكذا إلى أن تكرر القطع والتضعيف (ثمان وأربعين) مرة، ثم سئلت: قبل أن تبدأ بالقطع وقبل أن تحسب.. كم تتوقع أن تصبح سماكة هذه الأوراق الرقيقة بعد قطعها (ثمان وأربعين) مرة؟

قال ابن الراوندي: أنا أعلم جواب هذه الأحجية.. إذا كررت القطع إلى المرة الـ (ثمان وأربعين)، ثم جعلت الأوراق المقطعة ركاما مرصوصا صاعدا في السماء، فإنه يلمس أو يكاد يلمس القمر الذي يبعد عن الأرض (384) ألف كيلومتر.

قال الراوندي: إن العقل هو الذي استنتج هذا.. ولكن اذهب إلى أي عامي وأخبره بهذا، فإنه سيمتلئ منك ضحكا وسخرية.

قال ابن الراوندي: لقد حصل ذلك لي مرة.

الباحثون عن الله (160)

قال الراوندي: ولهذا.. فإن فرض التسلسل منقوض بالحس والمشاهدة.. ذلك أننا جميعا نعلم أن هناك مخلوقات نوعية انقرضت وانتهت، فلو صح بأن الموجودات تتسلسل إلى ما نهاية بأن يكون كل حلقة فيها معلولا بما قبلها وعلة لما بعدها.. فلماذا انقرضت هذه الموجودات؟.. إذ كيف تنقرض وهي علة لما بعدها؟.. وهذا إخلال بنظام التسلسل المزعوم.

قال ابن الراوندي: فأنا أرجع إلى أن العالم حادث.. وله علة أثرت في إيجاده.. ولكن هذه العلة لا تتمثل في أكثر من التفاعل الذاتي المتدرج، كتفاعل العناصر الأولية للحياة كالكربون والهيدروجين والأوكسجين التي تلاقت ونتج عنها مركبات عضوية لا حصر لها؟

قال الراوندي: إن هذا يستلزم القول بالدور.. وهو من البديهيات التي تنكرها العقول..

قال ابن الراوندي: الدور!؟.. ما الدور!؟

قال الراوندي: الدور هو أن يتوقف الشيء في وجوده المطلق أو تكييف معين له على شيء آخر إلا أن هذا الشيء متوقف في ذلك الوجود أو التكييف، وفي نفس الوقت على ذلك الشيء الأول.

مثال ذلك ما لو قلنا: إن وجود البيض متوقف على وجود الدجاج، ثم نقول: إن الدجاج وجد قبل البيض، وفرضنا أن لا وسيلة إلى وجود هذا ولا ذاك إلا عن هذا الطريق، فإن من البديهي أن كلا الأمرين يظلان معدومين حتى يأتي مؤثر خارجي يفك هذا الطوق.

قال ابن الراوندي: عرفت إلى الآن ثلاث حقائق بديهية.. فما الرابعة.. أم أنك نسيتها؟

قال الراوندي: لا.. كيف أنساها.. وهي في عقلي وعقلك وعقول كل الناس..

قال ابن الراوندي: من حقك أن تفرض وجودها في عقلك.. ولكن ليس من حقك أن تفرض وجودها في عقلي.. عقلي هو بيتي ولا يعرف ما في البيت إلا أهله.

قال الراوندي: من السهل علي أن أدرك وجود هذه الحقيقة فيه؟

قال ابن الراوندي: هل تريد أن تشرح عقلي لترى ما فيه؟

الباحثون عن الله (161)

قال الراوندي: سأتحرى كما يتحرى القضاة.. وسأدرك من خلال التحري أن عقلك لا يخلو من هذه البديهة.

قال ابن الراوندي: أنا مستعتد لسماعك حضرة القاضي.. فاسأل كما تشاء.

قال الراوندي: نفرض أنك نظرت إلى وعاء أمامك، فوجدت فيه قطعا من الآلات المختلفة الدقيقة، ولما تأملتها جيدا اكتشفت أن لكل واحدة منها مكانا تركيبيا دقيقا من الأخرى، فأخذت تجمع هذه الأجزاء.. وعندما فرغت من وضع آخر آلة منها في موضعها فوجئت بصوت دقيق رتيب ينبعث في حركة مطردة من داخل تلك الآلات، وتأملت فإذا هي ساعة زمنية.. ما لذي تدركه عقب هذا كله؟

قال ابن الراوندي: لا شك أني كسائر الناس أدرك دون ريب أن لكل آلة من تلك الآلات الدقيقة غاية جزئية معينه قد هيئت لتحقيقها، وأن لمجموعها غاية نوعية واحدة هي ضبط الزمن.

قال ابن الراوندي: فأبشر إذن.. فإن عقلك لا يزال سليما.. إنه يحوي هذه البديهية التي يسميها أصحابك من الفلاسفة قانون العلية (العلة الغائية).. ويسميها أصحابنا من علماء الكلام (دليل الحكمة والتناسق).. فظهور العلة الغائية دليل قطعي على وجود مدبر صممه على هذا النحو إذ لا تملك الأجهزة الجامدة أن تفكر لتسير وحدها نحو غايات معينة.

قال ابن الراوندي: فكيف تستدل بهذا القانون على وجود الله؟

قال الراوندي: لقد عبر عن هذا الدليل أعرابي كان لا يزال يحتفظ بفطرته حين قال جوابا لمن سأله عن دليله على الله: (البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك كله على الله اللطيف الخبير)

وعبر عنه أفلاطون بقوله: (إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أبدا أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقيه، بل هو صنع عاقل كامل توخى الخير ورتب كل شيء عن قصد وحكمة)

وعبر عنه (اناكساغورس) الذي جاء بعد (ديموقريطس) فقال: (من المستحيل على قوة

الباحثون عن الله (162)

عمياء أن تبدع هذا الجمال وهذا النظام الذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد بصير حكيم)

المناظرة العاشرة

بعد أن مللت من التجول في الشوارع يممت صوب معهد من معاهد العلوم.. وهناك رأيت رجلا اجتمع عليه نفر كثير.. منهم بعض الملحدين الذين كنت رأيتهم في الشوارع السابقة التي تجولت فيها.. ومنهم من كان مثله من المؤمنين الذين تلوح أنوار الإيمان على وجوههم..

قال له أحدهم: عجبا لك.. أبعد لقائك الصادق (1) تغيرت كل هذا التغير؟

قال: أجل.. فلم يكن الصادق بشرا عاديا.. وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً، ويتروح إذا شاء باطناً، فهو هذا.. لقد جلست إليه، فلما لم يبق عنده أحد غيري، ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون وليس هو كما تقولون، فقد استويتم وهم.

فقلت: يرحمك الله، وأي شيء نقول، وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد.

فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحد، وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن للسماء إلهاً وإنها عمران، وأنتم تزعمون ان السماء خراب ليس فيها أحد.

فاغتنمتها منه، فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف فيه اثنان. ولم يحتجب عنهم، ويرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟

فقال: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك، نشوّك بعد أن لم تكن، وكبرك

__________

(1) أشير في هذه المناظرة إلى مناظرة للإمام جعفر الصادق وهو من أئمة أهل البيت عليهم السلام مع بعض الملحدين.

الباحثون عن الله (163)

بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إنابتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجاءك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك.

وما زال يعد عليّ قدرته التي هي فيَّ التي لا أدفعها، حتى ظننت انه سيظهر فيما بيني وبينه.

وبينما نحن كذلك إذ دخل عليه بعض أصحابنا من الملاحدة، فقال: أليس تزعم أن الله تعالى خالق كل شيء؟

فقال الصادق: بلى.

فقال الملحد: أنا أخلق.

فقال له الصادق: كيف تخلق؟

فقال الملحد: أحدث في الموضوع، ثم ألبث عنه، فيصير دواب، فكنت أنا الذي خلقتها.

فقال الصادق: أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟

قال: بلى

قال: أفتعرف الذكر من الأنثى وتعرف عمرها؟ فسكت الملحد.

ثم إنه عاد في اليوم الثاني إلى الصادق فجلس، فسأله الصادق: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

فقال له الملحد: أنا غير مصنوع.

فقال له الصادق (عليه السلام): فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟

فبقي الملحد مليا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض، عميق قصير، متحرك ساكن، كل ذلك من صفة خلقه.

فقال له الصادق فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها، فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد

الباحثون عن الله (164)

في نفسك مما يحدث من هذه الأمور.

فقال له الملحد: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها.

فقال له الصادق: هبك علمت أنك لم تسأل في ما مضى، فما علمك أنك لم تسأل في ما بعد؟ على أنك نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأول سواء، فكيف قدمت وأخّرت؟

ثم قال: أنزيدك وضوحاً؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينارفي الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار، وكنت غير عالم بصفته، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟

قال: لا.

فقال الصادق: فالعالم أكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعل في العالم صنعة من حيث لا تعلم، صفة الصنعة من غير الصنعة.

فانقطع الملحد.. ثم إنه عاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال.

فقال الصادق: سل عما شئت.

فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام؟

فقال الصادق: أني ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلا وإذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى، ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأولى دخوله في العدم، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.

فقال الملحد: هبك علمت بجري الحالين والزمانين على ما ذكرت، واستدلت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها، من أين لك أن تستدل على حدوثها؟

فقال الصادق: إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالم آخر، كان لا شيء

الباحثون عن الله (165)

أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم لأنه متى ما ضم شيء منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغيير عليه خروج من القدم، كما بان في تغيير دخوله في الحدث أن ليس وراءه.

-\--\-

التفت إلينا صاحبنا (آرثر شوبنهاور)، وقال: هذا حديثي مع العلم والعقل ودلالتهما على الله.. لقد عشت في رحابهما أياما جميلة.. ولكن كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فانشغلت بها عن التعرف على ربي أو البحث عنه أو السير إليه.. وقد نسيت لذلك تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

نعم صار (الله) عندي حقيقة من الحقائق، ولكنها حقيقة أقرب إلى الباطل منها إلى الحق..

نعم كنت أقول بوجود الله، ولكني لا أشعر بأن شيئا تغير بذلك.. لقد كان وجود الله في نفسي - بسبب غفلتي - أقرب إلى العدم منه إلى الوجود..

ولولا أن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك المعاني لكنت الآن في عداد الغافلين.

الباحثون عن الله (166)

ثانيا ـ الواحد

في اليوم التالي.. وبعد أن من الله علينا بفضله وكرمه، فاستمعنا إلى البراهين الكثيرة الدالة على وجود الله تعالى، قام رجل منا، وقال: نعم.. لقد أثبت لنا صاحبنا (آرثر) بما لا يدع مجالا للشك بأن رب هذا الكون موجود.. ونحن لا نشك في ذلك، ولا ننازعه فيه.. ولكن ما أدرانا أن يكون إلها واحدا أو آلهة متعددة.. إن الأديان تختلف في ذلك اختلافا بينا.. فبينما تجنح المسيحية للتثليث نرى الإسلام يدعو إلى الإله الواحد.. الإله الواحد بكل معاني الوحدة.. فأيهما نصدق، وبأيهما نهتدي؟

قال آخر: صدقت.. وقد سمعت من احتجاجات الناس في بدء حياتي على هذه المعاني ما لم يستطع عقلي فهمه، فانصرفت عن البحث عن الله انصرافا تاما.. فهذه الحقيقة الغيبية التي تنازعت فيها الأديان يستحيل على العقول أن تثبتها.

قال آخر: صدقتما.. لا يمكن أن نعرف هذه الحقيقة إلا إذا تكلم معنا إله هذا الكون أو آلهته.

بقي نفر ممن معنا يردد مثل هذا الكلام إلى أن قاطعهم أحدنا بقوله: اسكتوا.. اسكتوا جميعا.. لقد تذكرت في هذه اللحظات جانبا مهما من حياتي كنت قد انصرفت عنه انصرافا كليا إلى أن عاد هذه اللحظة حيا ممتلئا حياة.

استبشرنا جميعا بقوله هذا، واقتربنا منه، ورحنا نقول بلسان واحد: هلم.. حدثنا.. فما أشوقنا إلى التعرف على الحقيقة.. فلن ينجينا من هذه المهامه إلا الحقيقة.

اعتدل صاحبنا في جلسته، ثم قال: أعرفكم بنفسي أولا.. أنا (آريوس) (1).. هكذا سماني

__________

(1) أشير به إلى (آريوس) (256 - 336 م)، وهو قس إغريقي من سكان الإسكندرية، بمصر، أنشأ في حوالي عام 318 م مذهبًا لاهوتيًا نصرانيًا يعرف بالآريوسية، أكد فيه أن المسيح مخلوق وليس إلهًا.. وكان يؤمن بالوحدانية ويقر بنبوة المسيح - عليه السلام - لا بألوهيته.

وفي حوالي عام 318 م، استنكر الإسكندر، مطران الإسكندرية تعاليم آريوس، الذي استمر في القول بتعاليمه وجذب الكثير من الأتباع، فطرده وأتباعه من الإسكندرية، فذهب إلى فلسطين وسوريا، وتبعه أساقفة كثيرون منهم أسقف قيصرية وأساقفة بيروت وصور واللاذقية وغيرها.. ولما خشي قسطنطين استفحال أمره بعد الانتشار السريع لآرائه، دعا المجمع المسكوني للانعقاد، فانعقد في نيقية عام 325 م، وحكم بالأقانيم الثلاثة، وشجب أقوال آريوس، وأمر بحرق كتاباته وتحريم اقتنائها، وحكم عليه بالهرطقة. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

الباحثون عن الله (167)

أبي.. ولست أدري لم اختار أن يسميني به مع كونه كان كاثوليكيا متعصبا.. في نفس الوقت الذي كان فيه آريوس رجلا من كبار الموحدين، وداعية من دعاة التوحيد..

لقد كان لهذا الاسم بركات كثيرة علي.. فبسببه اهتديت إلى التوحيد.. وعرفت أن الله خالق هذا الكون يستحيل أن يكون إلا واحدا.. واحدا من كل الوجوه..

وقد دعاني إلى هذا اليقين في وحدانية الله حصلت لي.. عرفت من خلالها استحالة أن يكون إله هذا الكون متعددا.

قلنا: فحدثنا عنها..

قال آريوس: لا أذكر المكان الذي التقيت فيه ذلك المبلغ الذي أقنعني بهذا بالضبط.. ولا الزمان.. فقد انشغلت بحديثه عن كل شيء..

لست أعرف شيئا من المكان والزمان، ولكن اسمه لا يزال يرن على خاطري كل حين، فيملؤني بمشاعر غريبة.. لا أستطيع مهما حاولت أن أصورها.

لقد اجتمع فيه ما كان متناقضا بالنبسبة إلي.. لقد اجتمع فيه الإيمان والعقل.. وكلاهما جبل من الجبل قلما يجتمعان لدى أحد من الناس.

كان شابا عليه سيما الإيمان.. وكان اسمه – كما علمت بعد لقائي به- (فخر الدين) (1)..

__________

(1) أشير به إلى أحد كبار المتكلمين في الإسلام فخر الدين الرَّازي، (544 - 606 هـ، 1150 - 1210 م)، وهو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين. ولد في الري بطبرستان، أخذ العلم عن كبار علماء عصره، ومنهم والده، حتى برع في علوم شتى واشتهر، فتوافد عليه الطلاب من كل مكان.. كان الرازي عالمًا في التفسير وعلم الكلام والفلك والفلسفة وعلم الأصول وفي غيرها.. ترك مؤلفات كثيرة أبرزها تفسيره الكبير المعروف بمفاتيح الغيب.. ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا المقام.

الباحثون عن الله (168)

وكان يقال له (الرازي) نسبة للبلاد التي ولد فيها.

وكان أول ما بادرني به قوله: أنت هو القس آريوس داعية التوحيد؟

قلت: إن كنت تريد بآريوس ذلك الهرطقي.. فلا يشرفني أن أنتسب إليه.

قال: لم؟

قلت: لأن جميع رجال الكنيسة يخالفونه.

قال: وعقلك؟.. هل يخالفه؟.. إن لعقلك دورا مهما قد لا يحتاج معه إلى موافقة الموافقين أو مخالفة المخالفين.

قلت: وما لعقلي، وهذه الأمور؟.. إن الله هو الذي يصف نفسه، لأنه هو الله، ولو أنا حاولنا بعقولنا أن نصف الله، لكنا الذين نحدد لله كيف يكون، ويكون العقل بالتالي هو صانع الإله..

قال: ألا ترى من العجب ألا تعرف العقول باريها الذي برأها؟

قلت: ولكن العقول تختلف في هذا.. وما في عقلي يختلف عما في عقلك.

قال: العقول تختلف عندما تلجأ إلى الخديعة.. ولكنها لو بحثت عن الحقيقة بصدق.. فإنها لن تختلف أبدا فيها.

قلت: فكيف نثق في أحكام العقل إذن ما دام يخاتل ويخادع؟

قال: إذا حررناه من الخدع (1).

قلت: فكيف نحرره؟

قال: إذا تجردنا من الأهواء، فلم نمل على عقولنا كيف تفكر، ولا فيما تفكر.

قلت: أترى لو أن البشر كلهم فعلوا ذلك يصلون إلى الحقائق؟

__________

(1) انظر في هذا رواية (سلام للعالمين) من هذه السلسلة، فصل (العقل).

الباحثون عن الله (169)

قال: نعم.. يصلون إليها من أقرب الطرق.

قلت: فكيف يتفقون على الوصول إليها مع كونهم مختلفي الطباع والأجناس والألوان؟

قال: أتراهم يختلفون في تذوقهم للطعوم، أو تحسسهم للأشياء، أو رؤيتهم للألوان.

قلت: لا.. ولكن تلك محسوسات.. وهذه معقولات.

قال: أتراهم يختلفون في البراهين الرياضية.. أم يتفقون عليها؟

قلت: بل يتفقون.. فالرياضيات واحدة.. ونتائجها واحدة.

قال: فتعاملوا مع حقائق الوجود بالمنطق الرياضي.

قلت: المنطق الرياضي مرتبط بالأرقام.. ونحن في عالم أكبر من أن تحصره الأرقام.

قال: هناك قوانين كثيرة في الكون تشبه في دقتها دقة الأرقام فاعتمدوا عليها.

قلت: أيمكن أن نصل بها إلى الحقائق؟

قال: يمكن أن تصلوا بها إلى أبواب الحقائق.. وتدقوا بها هذه الأبواب.

قلت: وما بعد الأبواب؟

قال: لما بعد الأبواب عقوله الخاصة.. فلا تطلبوا ما بعد الأبواب قبل أن تصلوا إلى الأبواب.

قلت: ما دمت قد ذكرت هذا.. فهلم حدثني عن حكم العقل في الخلاف الذي حصل بين آريوس وبين رجال الكنيسة.

قال: أول ما يدلك على وحدانية الله (1) هو نظرك إلى هذا الكون نظرة العالم العاقل الخبير.. فهذا الكون يشهد بكل ذرة من ذراته.. وبكل حرف من حروفه على أن الله واحد.. واحد من كل الوجوه.

يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ... أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ؟!...

وللهِ في كل تحريكةٍ... وتسكينةٍ أبداً شاهدُ

وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ... تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ

قلت: أنا مثلك أرى الكون.. وغيرنا كثير يراه.. ولكننا لا نستنتج ما تستنتج.

قال: لا بأس.. سأذكر لك عشرة براهين تجعلك ترى من الكون مرآة مجلوة لا تدل إلا على الواحد الأحد.

التكامل

قلت: فهات أولها؟

قال: التكامل.

قلت: ما التكامل؟.. وما الذي يدل عليه؟

قال: لاشك أنك تعلم أن هذا الهواء الذي نستنشقه مركب من عدة عناصر.. منها جزءان هامان: جزء صالح لتنفس الإنسان هو (الأوكسجين) وجزء ضار به هو (الكربون).. ومن دقائق الارتباط بين وحدات هذا الوجود أن هذا الجزء الضار بالإنسان يتنفسه النبات، وهو نافع له.

ففي الوقت الذي يكون الإنسان فيه يستنشق الأوكسجين ويطرد الكربون، يكون النبات يعمل عكس هذه العملية، فيستنشق الكربون ويطرد الأوكسجين.

وتتم عملية إيجاد التوازن بين الصادر والوارد من غاز الكربون في البحر، فإنه يمتص كل زيادة موجودة في الجو إذا بلغت هذه الزيادة فوق الحد المناسب.

فانظر إلى الرابطة التعاونية التكاملية بين الإنسان والنبات والبحر في شيء هو أهم عناصر الحياة، وهو التنفس.

هذا مثال واحد عن التكامل في الكون..

وإن شئت مثالا آخر.. فانظر إلى الطعام الذي تأكله.. إنه يتركب – كما تعلم- من عدة عناصر نباتية أو حيوانية، تنقسم إلى مواد زلالية ونشوية ودهنية وغيرها.

__________

(1) استفدنا بعض المعلومات الواردة هنا من كتاب (الله جل جلاله) لسعيد حوى، ومن الكتب العلمية التي سبق ذكرها.

الباحثون عن الله (170)

ثم انظر إلى الريق حيث تراه يهضم بعض المواد النشوية، ويذيب المواد السكرية ونحوها مما يقبل الذوبان، ليذهب ما بقي من طعام إلى المعدة حيث يهضم عصيرها المواد الزلالية كاللحم وغيره، والصفراء المفرزة من الكبد تهضم الدهنيات وتجزئها إلى أجزاء دقيقة يمكن امتصاصها، ثم يأتي البنكرياس بعد ذلك، فيفرز أربع عصارات تتولى كل واحدة منها تتميم الهضم في عنصر من العناصر الثلاثة النشوية أو الزلالية أو الدهنية، والرابعة تحول اللبن إلى جبن، فتأمل هذا الارتباط العجيب بين عناصر الجسم البشري وعناصر النبات والحيوان، والأغذية التي يتغذى بها الإنسان.

هذا مثال ثان.. وإن شئت مثالا ثالثا فانظر إلى الأزهار التي تزين الحقول.. إنك ترى لها أوراقا جميلة جذابة ملونة بألوان مبهجة، فإذا سألت علماء النبات عن الحكمة في ذلك أجابوك بأن هذا إغواء للنحل وأشباهه من المخلوقات التي تمتص رحيق الأزهار، لتسقط على الزهرة، حتى إذا وقفت على عيدانها علقت حبوب اللقاح بأرجلها، وانتقلت بذلك من الزهرة الذكر إلى الزهرة الأنثى فيتم التلقيح.. فانظر كيف جعلت هذه الأوراق الجميلة في الزهرة حلقة اتصال بين النبات والحيوان؛ حتى يستخدم النبات الحيوان في عملية التلقيح الضرورية للإثمار والإنتاج.

إن هذا التكامل تجده في كل شيء بين الليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والأعضاء المذكرة والأعضاء المؤنثة، والإنسان والحيوان والنبات.

إن في هذا الكون جميعا وحدة مظهرها تكامل أجزائه.. وهي تدل على أن لها خالقا.. وأنه واحد..

قلت: فهمت ما ذكرت.. فهو من المعلوم من العلم بالضرور والبداهة.. ولكني لم أفهم سر الاستدلال بهذا؟

قال: إن التعدد مدعاة الفساد والخلاف.. ولهذا فلو استقل أحد المتعددين بالتصرف تعطلت صفات الآخرين ولو اشتركوا تعطلت بعض صفات كل منهم، وتعطيل صفات الألوهية يتنافى

الباحثون عن الله (171)

مع جلالها وعظمتها، فلا بد أن يكون الإله واحدا لا رب غيره.

لقد ذكر القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس هذا الدليل.. فقال: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) ((النمل).. وغيرها من الآيات الكثيرة.

التناسق

قلت: عرفت الأول.. فحدثني عن الثاني.

قال: لقد ذكره ربي، فقال: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ((الملك)

وقد ذكره العلم فأخبر أن من مظاهره أن الإلكترون يدور على عكس عقارب الساعة، والأرض تدور على عكس عقارب الساعة، والشمس تدور على عكس عقارب الساعة، والكواكب السيارة تدور على عكس عقارب الساعة، والقمر وكل الأقمار تدور على عكس عقارب الساعة، والنجوم كلها تدور عل عكس عقارب الساعة، ومجرتنا التي تضم بين أجزائها مجموعتنا الشمسية تدور على عكس عقارب الساعة.

الباحثون عن الله (172)

وأخبر أن الإلكترون يدور على مدار بيضوي إهليجي، والأرض تدور حول الشمس على مدار بيضاوي إهليجي، وكذلك الزهرة ونبتون والمشتري والكواكب السيارة.

وأخبر أن محور الأرض مائل. ومحور القمر مائل ومحور المريخ مائل، ومحور الشمس مائل..

وأخبر أن النسبة بين النواة وإلكتروناتها كالنسبة بين الشمس وكواكبها السيارة.

وأخبر أن ذرات الوجود كلها تقوم على الزوجية كهرباء سالبة وكهرباء موجبة فإذا ارتقينا إلى النبات وجدنا عنصر الزوجية، فإلى الحيوان كذلك فإلى الإنسان كذلك.. وحتى في الأحياء المخنثة توجد أعضاء ذكرية وأخرى أنثوية.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) ((يس)

وأخبر أن في الأرض نفس العناصر التي تؤلف الشمس ونفس العناصر التي تؤلف كل الكواكب.

وأخبر أن الكون بكل عناصره مؤلف من بروتونات وإلكترونات كعناصر أساسية هناك نيترونات كشحنات كهربائية معتدلة تكون في نواة معظم العناصر.

وأخبر أن المادة كلها من نور إذ أن عناصر المادة كلها تؤول إلى ذرات وكهارب وأن هذه الذرات والكهارب تنشق فتؤول إلى شعاع.

وأخبر أن أجنة الحيوان والإنسان في الشهور الأولى من الحمل متشابهة تشابها تاما، فإذا بهذا التشابه يخرج منه ذلك الخلق المختلف.

وأخبر أن في هذا الكون قوة ومنابع قدرة وتحكمه قوانين.. وكلها تصيح بأدق معاني التناسق والوحدة بين القوى والقوانين:

فمن منابع القوة والقدرة في هذا الكون: الضوء والحرارة والأشعة السينية والأشعة اللاسلكية والأشعة البنفسجية وتحت الحمراء.. وهذه القوى كلها ترجع إلى شيء واحد هو تلك القوة الكهربائية المغناطيسية، ولها جميعا سرعة واحدة، وإنما اختلافها اختلاف موجة.

الباحثون عن الله (173)

ومن قوانين هذا الكون قانون الجاذبية الذي يحكم الوجود كله من أصغر ذراته إلى أكبر أجرامه، والذي نصه: (كل شيء له كتلة يجذب كل شيء آخر له كتلة، وقوة التجاذب التي بينهما تزداد ازديادا طرديا بزيادة أي الكتلتين، فالقوة تتناسب تناسبا عكسيا مع مربع البعد بينهما).. وقد عرفنا من هذا أن هناك قوتين أو نوعين من القوى؛ القوة المغناطيسية الكهربائية وقوى الجاذبية.. وكلها ترجع إلى أصل واحد.. يقول أينيشتاين: (إن روح العالم النظري لا تحتمل أن يكون في الوجود شكلان لقوى لا يلتقيان شكل للجاذبية القياسية، وشكل للمغناطيسية الكهربائية) سكت قليلا، ثم قال: سأقص عليك قصتين تدلانك على مدى التناسق الموجود في الكون لترى من خلالهما الوحدة الكونية.. ولتستدل بها على وحدة المكون.

قلت: فحدثني عن الأولى.

قال: أنت تعلم أن لاختلاف العناصر الأصلية في هذا الكون، أثر عند اختلاف عدد إلكتروناتها وبروتوناتها، والوزن الذري أثر من آثار هذا العدد، وخواص كل عنصر أثر من آثار هذا العدد.

وقد استطاع العالم الروسي مندليف أن يصنف العناصر بحسب وزنها الذري، ووضع لها جدولا على هذا الأساس، وكان ترتيب العناصر متدرجا صاعدا، ولكنه فوجئ بفراغ لم يجد ما يملؤه به.

إذ أنه وجد أن درجات السلم الدوري للعناصر تطرد بتتابع لا فراغ فيه، إلا في ثلاثة عناصر، فإما أن يكون هذا القانون الدوري غير مطرد وغير صحيح، وإما أن يكون صحيحا ومطردا، فلا بد حينئذ من وجود هذه العناصر المفقودة، في نفس تلك الدرجات الفارغة.

وبما أن مندليف كان واثقا من صحة قانونه الدوري، فإنه أخذ يؤكد أن هذه العناصر الثلاثة المفقودة لا بد من وجودها على الأرض، بل إنه استطاع على أساس وزنها الذري الذي يأتي في الدرجات الفارغة أن يحدد كل الخواص الكيميائية التي لها كأنه يراها.

الباحثون عن الله (174)

وقد كتب الله لمندليف أن لا يأتي أجله قبل تأكده من صحة نظريته العلمية.. فقد اكتشف العلماء العناصر المفقودة بكل خصائصها كما حددها مندليف.

قلت: سمعت الأولى.. فحدثني عن الثانية.

قال: لاشك أنك تعلم أن أقرب الكواكب إلى الشمس هو عطارد، وهو يبعد عنها بـ 36 مليون ميل.. ثم الزهرة ومتوسط بعدها 67 مليونا.. ثم الأرض 93 مليونا.. ثم المريخ 142.. ثم المشتري 484 مليونا.. ثم زحل 887 مليونا.. ثم أورانوس 1782 مليونا.. ثم نبتون 2792 مليونا من الأميال.

القصة لا ترتبط بهذه الأعداد، وإنما ترتبط بالنسبة بينها..

إن أبعاد هذه السيارات عن الشمس جارية على نسب مقدرة ومطردة تسير وفق 9 منازل: أولها الصفر، ثم تليه ثمانية أعداد تبدأ بالعدد 3، ثم تتدرج متضاعفة هكذا 2 - 6 - 12 - 24 - 48 - 96 - 192 - 384 فإذا أضيف إلى كل واحد منها العدد 4 ثم ضرب حاصل الجمع بتسعة ملايين ميل، ظهر مقدار بعد السيارة التي في منزلة العدد عن الشمس؛ أي أنه بإضافة 4 إلى كل منزلة تصبح المنازل التسع هكذا: 4 - 7 - 10 - 16 - 28 - 52 - 100 - 196 - 388 فإذا أخذنا أعداد المنازل هذه، وضربنا كل عدد منه بتسعة ملايين، يظهر لنا بعد السيارة التي هي في منزلة ذلك البعد عن الشمس؛ فعطارد مثلا يبلغ متوسط بعده عن الشمس 36 مليون ميل، وبما أن منزلته في البعد هي الأولى فيكون رقمه 4، فإذا ضربنا 4×9 يكون حاصل الضرب 36 مليون ميل، وهكذا تسير النسبة في بعد كل سيار عن الشمس مع فروق مختلفة قليلة.

ولكن العلماء وجدوا أن منزلة العدد (28) ليس فيها كوكب، بل تأتي بعد العدد 16 الذي صاحبه المريخ، العدد 52 الذي صاحبه المشتري، وقد تساءل العلماء عن السر في هذا الفراغ.. فإما أن تكون النسبة التي اكتشفوها غير مطردة، وإما أن يكون هناك كوكب غير منظور في مرتبة العدد 28 على بعد 252 مليون ميل عن الشمس، أي بين المريخ والمشتري.

الباحثون عن الله (175)

وأخيرا وجدوا هذا الشيء الذي لا بد من وجوده، ولكنهم لم يجدوه كوكبا كبيرا؛ بل وجدوا كويكبات صغيرة كثيرة تدور كلها في الفراغ المذكور الذي بين المريخ والمشتري، أي في نفس المنزلة التي حسبوها من قبل فارغة، فكأنه كوكب تحطم.

التفت إلي، وقال: إن هاتين قصتين متشابهتين في قضيتين مختلفتين، كل واحدة منها تتمم الأخرى لتكملا عندك الشعور بأن يدا واحدة قد خلقت قوانين هذا الوجود وعناصر وجزيئاته وكلياته.

التمانع

قلت: عرفت الثاني.. فحدثني عن الثالث (1).

قال: لقد ذكره ربي، فقال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) ((الأنبياء)

قلت: فكيف تقرر هذا البرهان؟

قال: القول المفضي إلى المحال لابد أن يكون محالا.. وهكذا، فإن القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال.. فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً.

قلت: فكيف زعمت بأن القول بوجود إلهين يفضي إلى محال؟

قال: لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك شيء ما وتسكينه..

فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه:

فإما أن يقع المرادان، وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين.

وإما أن لا يقع واحد منهما، وهو محال، لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر،

__________

(1) انظر في تقرير هذا البرهان التفسير الكبير للفخر الرازي.

الباحثون عن الله (176)

فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك، وبالعكس.. فلو امتنعا معاً لوجدا معاً، وذلك محال.

قلت: فلنفرض أنه يقع مراد أحدهما دون الثاني؟

قال: ذلك محال أيضاً لوجهين: أولهما أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر، بل لا بد وأن يستويا في القدرة.. وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني، وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح.

أما الثاني، فإنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر، فالذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الله محال.

قلت: تقريرك هذا يصح في حال القول باختلافهما في الإرادة.. وذلك ليس لازما..

قال: حتى لو فرضنا ذلك.. فإننا نعتبره من نوع الممكن.. فإذا كان الفساد مبنياً على الاختلاف في الإرادة، وهذا الإختلاف ممكن.. والمبني على الممكن ممكن.. فكان الفساد ممكناً.

قلت: فكيف جزم قرآنكم إذن بوقوع الفساد؟

قال: لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدورات، فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد، وهو محال..

قلت: وما في ذلك؟

قال: لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع، فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما جميعاً، فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً وذلك محال.

وإن شئت تقريرا آخر لهذا أقول: إن خلقة العالم التي تحققت على طبق النظام الأتم لو كان المؤثر فيها إرادة أحدهما استلزم عجز الآخر، ولو كان إرادتهما معا استلزم عجز كليهما.

فإن علم كل واحد منهما بالنظام الأتم للعالم اقتضى إرادته لإيجاده، فكانت إرادتهما متمانعتين، فإن كل واحد منهما علة تامة لإيجاده، ويستحيل استناد المعلول إلى علتين تامتين.

الباحثون عن الله (177)

فتكون العلة التامة هي مجموع إرادتهما، دون إرادة كل واحد منهما، وعجز كل منهما أن يكون علة تامة له.

وإن كانت إرادة أحدهما قاهرة على إرادة الآخر ثبت عجز أحدهما، وهو ينافي وجوب الوجود، وبذلك تبطل خلقة عالم لا محالة.

الوحدة

قلت: عرفت الثالث.. فحدثني عن الرابع.

قال: لقد ذكره ربي، فقال: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) ((المؤمنون)

ففي قوله تعالى: (.. إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.. (91) ((المؤمنون) حجة على نفي التعدد ببيان محذوره، إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجود، بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها وربوبيتها.

ومعنى ربوبية الإله في شطر من الكون ونوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شي غيرنفسه حتى إلى من فوض إليه الأمر.. ومن البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمران متباينان.

ولازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع اليه من نوع التدبير.. وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم.. كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الانظمة الجارية في أنواع الحيوان والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والأرض والسماء وغيرها.. وكل منها عن كل منها.. وفيه فساد السماوات والأرض وما فيهن.. ووحدة النظام الكوني والتئام أجزائه واتصال التدبير الجاري فيه يكذبه.

وهذا هو المراد بقوله: (.. إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.. (91) ((المؤمنون) أي انفصل بعض

الباحثون عن الله (178)

الآلهة عن البعض الآخر بما يترشح منه من التدبير.

وفي قوله: (.. وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.. (91) ((المؤمنون) محذور آخر لازم لتعدد الآلهة، تتألف منه حجة أخرى على النفي.. وهي أن التدابير الجارية في الكون مختلفة.. منها التدابير العرضية، كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر، والتدبيرين الجاريين في الما والنار.. ومنها: التدابير الطولية، التي تنقسم الى تدبير عام كلي حاكم، وتدبير خاص جزئي محكوم، كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، وكتدبير العالم المادي برمته وتدبير نوع من الأنواع المادية.

فبعض التدبير ـ وهو التدبير العام الكلي ـ يعلو بعضا، أي أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه، لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي، أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.

ولازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير، عاليابالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه وأخص منه وأخس، واستعلاء الإله على الاله محال.

لقد عبر الإمام جعفر الصادق عن هذا البرهان، فقال: (فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا والليل والنهار والشمس والقمر دل صحة التدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد)

وعير عنه صدر المتالهين، فقال: (إن كونها (أي الموجودات) مرتبطة منتظمة في رباط واحد، مؤتلفة ائتلافا طبيعيا يدل على أن مبدعها ومدبرها وممسك رباطها عن أن ينفصم واحد حقيقي، يقيمها بقوته التي تمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولو كان فيهما صانعان لتميز صنع كل واحد منهما عن صنع غيره، فكان ينقطع الارتباط، فيختل النظام، كما في قوله تعالى: (.. إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) ((المؤمنون) (1)

إلى أن قال: (كون جبلة العالم مع تفنن حركاتها وتخالف أشكالها وتغير آثارها مؤسسة على

__________

(1) المبدأ والمعاد، ص 45.

الباحثون عن الله (179)

الائتلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالة بوحدتها الطبيعية الاجتماعية على الوحدة الحقة الحقيقية)

فسبحان من جعل الموجودات العالمية على كثرتها متشاكلة من وجه ومتمايزة من وجه متفرقة من وجه.. لتكون دالة على صنع قادر حكيم ومدبر عليم.

وقد عبرت الطبيعة عن هذا خير تعبير: فإنا نرى جميع موجودات العالم مرتبطة بقوانين حاكمة على جميعها:

فحركة الأجرام السماوية التي تسير في مدارات معينة، وفواصل منظمة، بحيث لا تصطدم الواحدة بالأخرى، تدل على وحدة النظام في العالم.

وهكذا نرى الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر كالمعدات (1).. فالحيوان يأكل النبات، والإنسان يأكل الجماد، ويتغذى على النباتات والحيوانات لتصبح جزءا منه.. ويموت الإنسان والحيوان ويصبحا ترابا.. وينمو النبات من التراب.. فكل منها يتحول الى الآخر بشروط خاصة.. وهذا يدل على أن خالق الجميع واحد متى ما أراد يحوله إلى الآخر.

وهكذا نرى الموازنة الموجودة بين الحيوانات والنباتات في صرف الاوكسجين والكاربون، فإن التركيب الأساسي لوجود جميع النباتات حاصل من الماء والكاربون، وتطرح الحيوانات الكاربون في الهواء، وتجذب الأوكسجين، فتحصل الموازنة بين صرف الكاربون والأوكسجين..

والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى.

الهداية

قلت: عرفت الرابع.. فحدثني عن الخامس.

__________

(1) معد الشيء: الذي يكون مقدمة لوجود الآخر.

الباحثون عن الله (180)

قال: لقد ذكره ربي، فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ((آل عمران)

قلت: فكيف تقرر هذا الدليل؟

قال: إن واجب الوجود – سبحانه وتعالى- هو منبع كل فيض، فكما يفيض منه الفيض التكويني يفيض منه الفيض التشريعي.. وذلك لسوق العباد الى الكمال وهدايتهم الى معرفة ما يؤدي إلى رضاه.

وبما أن جميع الأنبياء قد أخبروا بوحدانية اللّه سبحانه وتعالى، وقدبعثوا بالرسالة من قبل الواحد الأحد، وقد أيدهم بشواهد الصدق، وقرنهم بالمعجزات، وشهدوا جميعا بوحدانيته، فلو كان هناك إله آخر لبعث من ناحيته أنبياء ورسلا أخبروا عنه، وأدوا رسالته إلى الناس.. فانتفاء نبي يخبر عنه، واتفاق جميع الأنبياء على وحدانية اللّه تعالى يدل على أنه ليس معه إله آخر، وأنه الإله الواحد الأحد الذي لا شريك له في ألوهيته.

لقد ذكر الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لابنه الحسن هذا البرهان، فقال: (واعلم، يا بني، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد، كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبدا، ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر) (1)

وقال المجلسي في تقرير هذا البرهان: (إن هذا برهان قاطع على وحدانيته تعالى.. فإن واجب الوجود يجب أن يكون قادرا وفياضا على الاطلاق.. فإن كان اللّه قد أرسل أربعة وعشرين ومائة ألف نبي لهداية الناس إلى معرفته ودعوتهم إلى عبادته، لبعث الإله الآخر على فرض وجوده نبيا لا محالة لإرشاد الناس إلى معرفته ودعوتهم إلى عبادته، وإلا لكان غير قادر أو غير حكيم، وكان جاهلا أو بخيلا، وواجب الوجود يجب أن يكون منزها من هذه الصفات المستلزمة للنقص،

__________

(1) انظر: نهج البلاغة: كتاب 30 ص 980.

الباحثون عن الله (181)

المستلزم للإمكان)

الحقيقة

قلت: عرفت الخامس.. فحدثني عن السادس.

قال: هو برهان الحقيقة..

قلت: فوضحه لي..

قال: إن صدق إطلاق (واجب الوجود) على شيء لا يتصور إلا على وجهين..

أما أولهما، فأن تكون حقيقته هي أنه واجب الوجود.

وأما الثاني، فأن يكون من قبيل صدق المفهوم على فرد كان حقيقته غير ذلك، كصدق الضارب والأبيض على فرد الإنسان.. وقد يخلو منها.

وفي هذه الحالة، فإن صدق إطلاق (واجب الوجود) من قبيل العرض لا من قبيل الحقيقة.. وهذا يؤدي إلا أن يفتقر عروضه عليه إلى علة هي واجب الوجود بحقيقته وذاته دونه.

ولو فرض اثنان، كل واحد منهما واجب بحقيقته وذاته، لكان ما به التميز والتعدد غير واجب الوجود بحقيقته، فإان المفروض أن حقيقة واجب الوجود مشترك بينهما، فما به التميز والتعدد ممكن الوجود بحسب ذاته، فيكون خارجا عن ذات واجب الوجود، فثبت أن التعدد منشؤه إمكان الوجود.. ولا سبيل للتعدد إلى واجب الوجود.

التعين

قلت: عرفت السادس.. فحدثني عن السابع.

قال: لقد ذكره الشيخ الرئيس في (الإشارات) و(الشفاء)

فقال في (الإشارات): (واجب الوجود المتعين إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره، وإن لم يكن تعينه لذلك، بل لأمر آخر، فهو معلول)

الباحثون عن الله (182)

وقال في (الشفاء) في شرح هذا البرهان: (مثلا لو كان الشيء الواجب الوجود هو هذا الإنسان، فلا يخلو إما أن يكون هو هذا هذا الإنسان، للإنسانية ولأنه إنسان، أو لا يكون.

فإن كان لأنه إنسان هو هذا، فالإنسانية تقتضي أن يكون هو هذا فقط.

وإن وجدت لغيره فما اقتضت الإنسانية أن يكون هو هذا، بل إنما صار هذا لأمر غير الإنسانية.

فكذلك الحال في حقيقته واجب الوجود، فإنها إن كانت لأجل نفسها هي هذا المعين لاستحال أن تكون تلك الحقيقة لغيره، فيكون تلك الحقيقة ليست إلا هذا.

وإن كان تحقق هذا المعنى فهذا المعين لا عن ذاته، بل عن غيره، وإنما هو هو لأنه هذا المعين، فيكون وجوده الخاص له مستفادا عن غيره فلا يكون واجب الوجود، وهذا خلف.

قلت: هلا وضحت لي هذا البرهان.

قال: لو فرض كون واجب الوجود اثنين: أحدهما غير الآخر في الخارج كان لكل واحد منهما عينية غير عينية الآخر.

فإما أن تكون عينيته وكونه هذا الواجب دون الآخر بمقتضى كونه واجب الوجود، فيكون وجوب الوجود مقتضيا لكون واجب الوجود هو هذا الواجب دون الاخر، فيستحيل وجود واجب الوجود غيره، لكونه مستلزما للتناقض.

واما ان تكون عينيته وكونه هذا الواجب دون غيره ليس بمقتضى وجوب وجوده، تكون عينيته معلولة للغير، فلا يكون واجب الوجود، فيستلزم التناقض أيضا.

التركيب

قلت: عرفت السابع.. فحدثني عن الثامن.

قال: لقد ذكره الحكيم السبزواري في (المنظومة)، فقال:

تركب أيضا عراه إن يعد... مما به امتياز وما به اتحد.

وتقريره: أنه لو كان واجب الوجود متعددا للزم أن يكون مركبا.. وهو باطل، لمنافاة التركيب مع الوجوب.

وبيان الملازمة أن اختلاف ذاك الواجب على فرض التعدد عن ذاك إما بالاختلاف النوعي بأن يكون كل واحد نوعا مغايرا مع نوع الآخر، وإمابالاختلاف الشخصي.

فعلى الأول: يلزم أن يكون كل واحد منهما مركبا من الجنس والفصل.

وعلى الثانى: يلزم أن يكون كل منهما مركبا مما يكون به مشتركا مع الآخر في تمام الذات، ومن عارض شخصي يمتاز به عن الآخر.

وعلى التقديرين: يلزم تركيب الواجب إما في أصل حقيقته -كما في الأول - أو في تشخصه، كما في الأخير.

قلت: هلا وضحت لي هذا بطريقة أخرى.

قال: لا بأس.. اسمع جيدا.. إذا كان واجب الوجود متعددا لزم تركب كل منهما، أو خروجه عن كونه واجبا، لأنه مع فرض التعدد لو كان واجبان مثلا واشتركا في وجوب الوجود لاحتاج كل منهما إلى ما به يمتاز عن الآخر، لكي تتم الاثنينية، وحينئذ لا يخلو:

إما تكون ذات كل منهما متميزة عن الآخر بتمام الذات، ويكون الاشتراك في وجوب الوجود الذي يصدق عليهما صدقا عرضيا.

أو يكون امتيازهما بأمر خارج عن الذات، ويكون وجوب الوجود ذاتيا لهما، بمعنى كونه تمام ذاتهما.

أو يكون وجوب الوجود جزءا من ذاتهما، ولا محالة يكون لكل منهما جزءا آخر قضاء لحكم الجزئية.

والكل محال:

الباحثون عن الله (183)

أما الأول: فللزوم كون كل منهما في مرتبة ذاتهما غير واجب، فيكون كل منهما ممكن الوجود ومعروضا للوجوب.

وأما الثاني: فللزوم تركب كل منهما في كونه فردا من واجب الوجود، واحتياج كل واحد في تفرده إلى العوارض المشخصة.

وأما الثالث: فلصيرورة كل منهما مركبا من الجنس والفصل، وهذا ظاهر.

الفرجة

قلت: عرفت الثامن.. فحدثني عن التاسع.

قال: لقد ذكره الإمام الصادق، فقال في حواره مع الملحد: (يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة.. فان ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة.. ثم يتناهى في العدد الى ما لا نهاية له في الكثرة)

قلت: فما تقرير هذا البرهان؟

قال: لو فرض اثنان كل منهما واجب الوجود، لم يكن الوجوب خارجا عن حقيقة كل منهما، فلابد من الامتياز بشي وجودي في كل منهما أو في أحدهما ولم يكن في الآخر.

ثم إن ما به امتيازه أيضا واجب الوجود لا محالة، فيشترك مع الاثنين في وجوب الوجود، فلابد من امتياز عنهما من آمر آخر يمتاز به عنهما، فهو أيضا واجب الوجود، فيشترك مع الثلاثة في وجوب الوجود، فلابد أيضا من أمر آخر يمتاز به عن الثلاثة، فهو أيضا واجب الوجود لا محالة، فيشترك مع الأربعة في وجوب الوجود، ولابد في امتيازه عن الأربعة من أمر خامس، وهكذا إلى ما لا نهاية.

قلت: الامتياز بين الشيئين قد يكون بتمام الذات، والاشتراك بأمر عام ذهني خارج عنهما

الباحثون عن الله (184)

لازم لهما.

قال: هذه شبهة مشهورة عجز الناس عن حلها، لكن من عرف حقيقة وجوب الوجود علم أن الذي به تصير الأشياء والماهيات ذوات حقيقة هو أولى وأحق بأن يكون ذا حقيقة، بل هو نفس الحقيقة، وهي المتحققة بذاتها المتحقق بها سائر الأشياء من ذوات الماهيات.

فلو فرض إلهان لم يكن وجوب الوجود خارجا عن حقيقة كل منهما، فلا بد حينئذ من الامتياز بشيء وجودي خارج عن حقيقة كل منهما، إذ ليس انضمام ما فرض هاهنا مميزا، حاله كحال انضمام فصل بجنس، والجنس ماهية كلية مبهمة تتحصل بالفصل، فيكون انضمام الفصل إليه انضمام أمر محصل إلى أمر مبهم ليصيرا معا موجودا واحدا، وإما هاهنا فانضمام المميز إلى حقيقة واجب الوجود انضمام محصل موجود إلى محصل موجود آخر، ولهذا يلزم أن يكون المفروض اثنين ثلاثة، والمفروض ثلاثة خمسة، وهكذا إلى لا نهاية..

الكلية

قلت: عرفت التاسع.. فحدثني عن العاشر.

قال: لقد ذكره صاحب كليات رسائل النور.. بديع الزمان النورسي.. فقال: (إن عوالم الكائنات المختلفة وأنواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث:

أن مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه أن يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نور التوحيد لاسم الله (الفرد) قد أضاء أرجاء الكون كله، فضمّ أجزاءها كافة في وحدة متحدة، وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.

مثلاً: كما أن كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير إلى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فإن كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكون النار ناراً واحدة توقد بها

الباحثون عن الله (185)

الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الأرض.. وكون الأمطار واحدة تأتي لإغاثة الأحياء كافة.. وانتشار أغلب الاحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في أرجاء الأرض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك إشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها إنما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.

ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: أن تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة (كل) واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الإيجاد.. فالذي لا يستطيع أن يُنفِّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه - من حيث الخلق والربوبية - أن يُخضِع لربوبيته أي شئ فيه، حتى لو كان ذلك الشئ ذرة أو أصغر منها.

-\--\-

التفت إلينا صاحبنا (آريوس)، وقال: هذا حديثي مع ذلك الرجل الصالح.. لقد عشت في رحاب كلماته أياما جميلة.. ولكن كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فنسيت تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

لقد بعتها جميعا بثمن بخس حقير..

ولكن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك الصحبة الشريفة..

الباحثون عن الله (186)

ثالثا ـ القدوس

في اليوم التالي.. وفي وقت متأخر من الليل.. قام رجل منا فرحا مسرورا، وأسرع يوقظ الجمع، وهو يقول لهم: أيها الجمع.. هلموا.. لقد تذكرت الآن أشياء حصلت لي في حياتي.. لاشك أن لها دورا كبيرا فيما نبحث عنه.. لا شك أن لها دورا كبيرا في التعريف بالإله الذي انشغلنا جميعا بالبحث عنه.

استبشر الجمع، وراحوا يلتفون به، وهم يقولون: هيا.. أخبرنا.. ما أشد شوقنا للتعرف على إلهنا.. فلن يخلصنا من هذه الحال غيره.

قال: سأعرفكم أولا بنفسي.. أنا (فريدريك ماكس مولر) (1).. وقد كنت باحثا في كثير من مراكز البحوث.. وأجريت في حياتي بحوثا كثيرة إلى درجة أني أنسى عناوينها.. بل أنسى النتائج التي توصلت إليها من خلالها.. وأحيانا أطالع بعضها، فأتوهم أن غيري هو الذي قام بها مع أني لم أقم بها إلا أنا..

لعل ذلك كان بسبب الآلية التي كنت أجري فيها بحوثي.. فقد كنت أقدم على البحوث كما تقدم آلة الحرث على الحرث.. وآلة الزرع على الزرع.. وآلة الحصاد على الحصاد..

لقد كنت أزرع فرضيات بحثي بعد أن أهيئ لها الأرضية المناسبة.. ثم أتركها لأحصدها بعد ذلك بكل آلية بعيدا عن كل المشاعر..

__________

(1) أشير به إلى (فريدريك ماكس مولر) (1823 - 1900 م)، وهو عالم ألماني اهتم بصفة خاصة باللغة السنسكريتية الهندية القديمة.. أسهم في الدراسة المقارنة في مجالات اللغة والدين وعلم الأساطير على الرغم من أن علماء العصر الحديث قد نبذوا الكثير من نظرياته.

كان أهم أعماله أول إصدار باللغة الإنجليزية من ريك ـ فيدا، وهو أقدم كتاب هندوسي مقدس.. نشر في ستة مجلدات بين عامي 1849 م و1873 م، كما حرر كتب الشرق المقدسة، الذي يضم في 51 مجلداً ترجمات دارسين مختلفين لنصوص كل الديانات الآسيوية الرئيسية فيما عدا النصرانية واليهودية.. ونشر أول هذه الكتب في عام 1875 م. (الموسوعة العربية العالمية)

الباحثون عن الله (187)

أذكر أني أجريت مرة بحثا عن اليتامى.. وأذكر أني زرت خلالها كثيرا من الأسر التي تضم يتامى.. وأذكر مع ذلك كله أن عيني لم تتكرم علي بدمعة واحدة مع كثرة المآسي التي رأيتها..

لكن بحثا مهما كنت قد بذلت فيه كامل وسعي في بعض تلك الأيام.. أذكر انه كان قد أثر في بعض التأثير.. كانت له علاقة بما نحن فيه..

لقد أنستنيه الأيام.. لكني اليوم تذكرته.. تذكرته بكل تفاصيله.. وسأقص عليكم قصته.

ساد الجمع الحاضر صمت عميق سرعان ما قطعه (فريدريك) بقوله: في تلك الأيام كلفت أن أجري بحثا حول (قداسة الإله في الأديان والمذاهب).. وقد طلب مني أن تكون دراسة مقارنة مستوعبة.. فلا يهم المركز التحليلات بقدر ما تهمه المعلومات.

لقد وفر لي مركز البحث لتيسير إجراء البحث كل الوسائل، وأمدني بما أحتاجه من المال للتنقل إلى أي بقعة أشاء من بقاع العالم.. وقد أتاح لي ذلك فرصة للتعرف على التصورات المختلفة التي تحملها البشرية عن الله (1).

لقد زرت لأجل إجراء ذلك البحث اليونان والهند والصين.. وبلاد كثيرة..

قال رجل منا: فبم بدأت رحلتك؟

قال: باليونان (2).. فقد كانت أقرب البلاد إلينا.. وكانت أكثر البلاد امتلاء بالتصورات المختلفة عن الله.

لقد حفلت اليونان في عهودها القديمة بجميع أنواع العقائد البدائية قبل أرباب (الأوليمب) الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيود.. لقد عبدوا الأسلاف والطواطم ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل ومزجوا العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة.. واستمدوا من جزيرة

__________

(1) من المصادر المهمة التي رجعت إليها لذكر التفاصيل المرتبطة بالتصورات المختلفة للأديان والمذاهب عن (الله) كتاب (الله) للعقاد، فهو من أحسن ما ألف من الكتب في هذا الباب.

(2) نذكر هنا ما ذكره العقاد من التصورات الدينية والتي كانت منتشرة بين العامة، ولها كانت تقام المعابد.. أما التصورات الفلسفية، فلها محلها الخاص.. وهي على العموم أفضل بكثير من الاعتقادات العامة.

الباحثون عن الله (188)

(كريت) عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بيت أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية.. فرمزوا بها إلي أرباب البراكين والعوالم السلفية.. واتخذها بعضهم (طوطم) ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلي الآباء.

ولما شاعت بين الإغريق عبادة (أرباب الأوليمب) كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلي الحضارة وتنظيم العبادات.. فالإله (زيوس) أكبر أرباب الأوليمب هو الإله (ديوس) المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة.. واسمه متداول في العبادات الأوربية جميعا مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات.. ومن تصحيفاته أسماء الله والإلهية عند الفرنسيين والطليان والإنجليز المعصرين.

والربة (أرتيميس) – ومثلها الربة أفروديت أو فينوس- هي الربة عشتار اليمانية البابلية.. ومنها كلمة (ستار) التي تدل علي النجم في بعض اللغات الأوربية الحديثة.

والربة (ديمتر) هي أزيس المصرية كما قال هيرودوت، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق وعبادتها بين قدماء المصريين.

وأضيف إلي هذه الأرباب (أدونيس) عن (أدوناي) العبرية بمعني السيد أو الإله، وأضافوا إليها في مصر بعد الإسكندر المقدوني عبادة إله سموه سرابيس وهو اسم مركب من اسمي أوزيريس وأبيس المعبودين المصريين، وكان لهما معبد تدفن فيه العجول التي تعبد اسم أبيس بعد موتها وذهابها إلي مغرب أوزيريس.

كما أضيفت إليها عبادة (ديونسيس) في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرا بعبادة (مترا) في الديانة الأورفية السرية.

وقد ترقي اليونان في تصور صفات الأرباب خلال العصور التاريخية.. فعبدوا قبل المسيح ببضع مئات من السنين آلهة هي علي أسوأ مثال من العيوب الإنسانية.. وعبدوها بعد ذلك وهي تترقي إلي الكمال وتقترب إلي فكرة (التنزيه) التي سبقهم إليها المصريون والهنود والفرس

الباحثون عن الله (189)

والعبرانيون.

فكان أرباب الأوليمب في مبدأ أمرهم يقترفون أقبح الآثام ويستلمون لأغلظ الشهوات.. وقد قتل زيوس أباه (كرونوس) وضاجع ابنته، وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار، ويغازل بنات الرعاة في الخلوات، وغار من ذرية الإنسان، فأضمر له الشر والهلاك، وضن عليه بسر (النار) فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء.

ولم يتصوروه خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب، فهو علي الأكثر والد لبعضها، ومنافس لأنداده منها، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد.

ولم يزل (زيوس) إلي عصر (هومير) خاضعا للقدر مقيدا بأوامره، عاجزا عن الفكاك من قضائه.

لقد صوره لنا الشاعر المتدين علي مثال أقرب إلي خلائق الرحمة والإنصاف، ومثال الكمال، ولكنه نسب الخلق إلي أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات الأولمبية.. وهي (جيا) ربة الأرض و(كاوس) رب الفضاء و(أيروس) رب التناسل والمحبة الزوجية، وجعل أيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات السماوية والأرضية وآخرها أرباب الأوليمب، وعلي رأسهم (زيوس) الملقب بأبي الأرباب.

وكان (أكسينوفون) المولود بآسيا الصغري قبل الميلاد بنحو ستة قرون أول من نقل إلى الإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الاشتباه، فكان ينعي علي قومه أنهم يعبدون أربابا علي مثال أبناء الفناء، ويقول: إن الحصان لو عبد إلها لتمثله في صورة الحصان.. وأن الأثيوبي لو تمثل إلها لقال إنه أسود الإهاب.. وأن الإله الحق أرفع من هذه التشبيهات والتجسيمات، ولا يكون علي شيء من هذه الصفات البشرية.. بل هو الواحد الأحد المنزه عن الصور والأشكال، وأنه فكر محض ينظر كله ويسمع كله ويفكر كله ويعمل كله في تقويم الأمور وتصريف أحكام القضاء.

الباحثون عن الله (190)

وكان أثر الديانات الأسيوية والمصرية أظهر من كل ما تقدم في الديانة الأورفية السرية، لأنها كانت ملتقي عبادة إيزيس وعبادة مترا وعبادة المجوس والبراهمة.

فعرفوا الروح وعرفوا تناسخ الأرواح، وعرفوا أدوار التطهير والتكفير، ومزجوا بها عبادة (ديونيس) الذي كان في عصورهم الغابرة إله الخمر والقصف والترف.. فجعلوا خمره رمزا إلي النشوة الإلهية: نشة الحياة والشباب الخالد المتجدد علي مدي الأيام.

قال رجل منا: حدثتنا عن اليونان.. فحدثنا عن الهند.. فهي من أقدم البلاد.. ولاشك أن نصيبا من الحقيقة عندها..

قال (فريدريك): لقد زرت الهند، وبحثت في معابدها ومخطوطاتها، والتقيت برجال دينها.. وقد وجدت أن الديانات الهندية القديمة تعود إلى أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية.. وقد اختلف المؤرخون في العصر الذي تم فيه هذا التدوين.. فبعضهم يرده إلي ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد.. وبعضهم يرده إلي ستة آلاف سنة قبل الميلاد.. ولكنهم جميعا مع ذلك لا يختلفون في سبق الديانة الهندية لهذا العصر بزمن طويل.

وقد وجدت أن المؤرخين ـ ولست أدري مدى صحة ما ذهبوا إليه ـ يتفقون على أن الديانة الهندية القديمة مزيج من شعائر الهنود الأصلاء، وشعائر القبائل الآرية التي أغارت علي الهند قبل الميلاد بعدة قرون.. وقد كانت تلك القبائل تقيم علي البقاع الوسطي بين الهند ووادي النهرين.. فاتجهت طائفة منها غربا إلي أوربة، واتجهت طائفة منها شرقا إلي الأقاليم الهندية من شمالها إلي جنوبها علي السواحل الغربية، قبل أن تتوغل منها إلى جميع أنحاء البلاد.

ويرى بعض المؤرخين أن من مصادر الديانات الهندية القديمة ما نقل إليها من الديانات البابلية والمصرية، ويعللون ذلك جغرافيا بتوسط الموقع الذي قام فيه الآريون الأولون، وأنهم لم تكن لهم في موقعهم ذاك حضارة سابقة لحضارة مصر وبابل وأشور.

لا يهمنا في هذا المقام كل هذا.. إنما الذي يهمنا هو تصور هذه الديانات لله..

الباحثون عن الله (191)

لقد رأيت من خلال البحث المستوعب المستقصي أن (الله) في الديانات الهندية القديمة لم يكن واحدا.. بل كان أنواعا شتي من الآلهة.. منها آلهة تمثل قوى الطبيعة وتنسب إليها.. فيذكرون المطر، ويشتقون منه اسم (الممطر).. ويعتبرونه الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث.. ومن هنا كان (أندر) هو إله السحاب، لأنه مشتق من كلمة (أندر) بمعني المطر، أو بمعني السحاب.

ويذكرون إلى جانب (أندر) إله النار.. وإله النور.. وإله الريح.. وإله البحار.. ويجمعونها جميعا في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتي من الديانات..

وأقدم الأسماء عندهم كان اسم (ديفا) Deva.. وهو يعني (المعطي).. لقد بقيت آثار من هذا الاسم في اللغات اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوربية الحديثة.. فكلمة (ديو) الفرنسية Dieu وكلمة ديتي Deity الإنجليزية، وكلمة (زيوس) اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم.

بالإضافة إلى هذا، فقد رأيت البرهمية القديمة تشتمل علي عبادة الأسلاف.. كما تشتمل علي عبادة المظاهر الطبيعية.. ولذلك فإن تقديس الملك عندهم تقليد موروث من تقديس جد القبيلة.. وقد تحول إلي تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلي الأمة.

وقد ذكر العلامة (اليوت سميث) كما قال في كتابه (المبادئ) The Beginning أن مواسم تقديس الملك التي لا تزال مرعية في جوار الهند كانت تحاكي مراسم قصة الخليقة كما تخيلها المصريون.. فلم يكن حق الملك مستمدا من الجلوس علي العرش أو من البناء بالملكة التي تنقل إليه حقوقه الملكية، ولكنه يتولى هذا الحق بعد تقديسه في حفل يمثل قصة الخليقة (1)، وكأنهم يعنون بهذا أن الملك يستمد من ذلك التقديس قدرته علي الخلق ومنح الحياة، وهي قدرة لا غني

__________

(1) يذكر العقاد أن قصة الخليقة في الهند تشبه قصة الخليقة المصرية في أكثر من صيغة واحدة من صيغها العديدة: فالحياة خرجت من بيضة (ذهبية) كانت تطفو علي الماء في العماء، والإله الأكبر كان ذكرا وأنثي فهو الأب والأم للأحياء كما جاء عن (رع) في بعض الأساطير المصرية، وبناء العالم من صنع بناء ماهر في أساطير مصر والهند علي السواء، وتتفق مصر وبابل والهند علي الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة.. فأمرها بأن توجد فبرزت علي الفور إلي حيز الوجود. (الله، للعقاد)

الباحثون عن الله (192)

عنها لاضطلاعه بالفرائض الملكية.

وقد وجدت أن عبادة (الطوطم) تعززت في الهند بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول.. فلذلك عبدوا الحيوان علي اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة.. ثم تطوروا أكثر (1)، فآمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود، أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه.. وآمنوا مع ذلك كله بتناسخ الأرواح.

لقد رأيت الطوطمية عاشت عندهم في أرقي العصور كما عاشت في عصور الهمجية لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم.. لكنهم خلصوا في الأخير إلى الإيمان بالإله الواحد، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه في التعرف عليه.. فلم يكن إيمانهم به علي الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد.

لقد بدأوا ـ أولا ـ بإبطال جميع المظاهر، فنسبوا إليها التعدد والاختلاف لأنها تتكرر وتزول وتستر من ورائها الحقيقة الأبدية التي لا تتكرر ولا تزول، وتلك هي حقيقة القضاء والقدر التي تقدر للآلهة وتقضي عليهم كما تقدر لسائر الموجودات وتقضي عليها في أجلها المحدود.

وهنا ذهب حكماؤها إلي مذهبين غير متفقين..

أما الفريق الأول منهما.. فتمثل تلك الحقيقة إلها واحدا قريبا من الإله الواحد في أكثر ديانات التوحيد، قال ماكس موللر الثقة الحجة في اللغات الآرية: (أيا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المسطورة في الرجفيدا فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثي ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية، وارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلي أوج في إدراكهم لكنه الربوبية لم يترق إليه مرة أخري غير أناس من فلاسفة الإسكندرية

__________

(1) هذا ما عبر به العقاد.. ويعبر به علماء مقارنة الأديان عادة عند بحثهم في تاريخ الأديان.. ونحن نرى أن الأمر ليس خاضعا للتطور المتوهم.. وإنما هو خاضع لتأثير رسل الله والدعاة إليه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24)

الباحثون عن الله (193)

المسيحيين، ولكنه فوق هذا لا يزال أرفع وأعلي مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين)

وتبدو مداناة هؤلاء البراهمة لمذاهب الموحد المؤمن (بالذات الإلهية) من إيمانهم بالخلاص علي يد الله، وبقاء فريق منهم بعد ذلك بمئات السنين ينقسمون في شرح سبيل الخلاص علي نهجهم الذي لا نستغربه من قوم يعظمون الحيوان ذلك التعظيم.. فمنهم من يسمي سبيل الخلاص بالسبيل القردية.. ومنهم من يسميها بالسبيل القطية.. ويقصدون بهذه التسمية أن الله يخلص الإنسان إذا تشبث به كما يتشبث ولد القرد الصغير بأمه وهي تصعد به إلي رؤس الأشجار، أو أن الله علي اعتقاد الآخرين يخلص الإنسان وهو مغمض العينين مستسلم للقضاء، كما يستسلم ولد القطة لأمه وهي تحمله مغمضا من مكان إلي مكان.

فالله الذي يخلص عباده هذا الخلاص أو ذاك هو (ذات) علي كلتا الحالتين يتشبث بها العبد أو يستسلم لقضائها فتسهر عليه وإن غفل عنها.

ويتسمي هذا الإله بثلاثة أسماء علي حسب فعله في الوجود، فهو (برهما) حين يكون الموجود الخالق، وهو (فشنو) حين يكون الواقي المحافظ، وهو (سيفا) حين يكون المهلك الهادم.

وأما الفريق الثاني فالحقيقة الأبدية عنده معني ليس له قوام من (الذات) الواعية، وإنما هو قانون يقضي بتلازم الآثار والمؤثرات، ويقابل الاعتقاد بالقضاء والقدر عند المؤمنين بالأديان الكتابية.

إلا أنه قضاء يسري علي الآلهة كما يسري علي البشر، ويتغلغل في في طبائع الخالقين كما يتغلغل في طبائع المخلوقات، وحكمه الذي لا مرد له هو حكم التغير الدائم والفناء، وحكم الإعادة والإبداء.

ولم أر من خلال بحثي أن أحدا من الأقدمين بلغ في تعظيم الأكوان المادية مبلغ البراهمة، سواء في تقدير السعة أو تقدير القدم أو تقدير البقاء.. فقد جعل البراهمة للكون أربعة أعمار تساوي اثنتي عشر ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألف سنة شمسية.. وبعض

الباحثون عن الله (194)

المتأخرين يضاعفها ألف ضعف ويقولون أنها جميعا دورة واحدة من دورات الوجود.. وأن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع، ينقضي بين كل دورة فنيت وكل دورة آخذة في الابتداء.

والقانون الأبدي karma يقلب الأدوار فيبدئها ويحفظها ويفنيها، ثم يختم هذا النهار بليل من الليالي الهجوع، ثم يعود فيطلع النهار كرة أخري أخري دواليك إلي غير انتهاء، لأنه لا انتهاء للزمان.

ويتضاءل الإنسان الفاني كلما تعاظم هذا الفناء الخالد أو هذا الخلود الذي يتجدد بالفناء، فليس للإنسان حساب كبير في هذه الحسبة الأبدية.. لأنه (رقم) ضئيل يغرق في طوفان الأرقام التي لا يحيط بها العد والإحصاء.

وعلي هذه القاعدة قامت البوذية التي بشر بها البوذا جوتاما قبل الميلاد المسيحي بحوال خمسة قرون.. فقيل (جوتاما) بمئات السنين كان نساك الهند يتغنون بمضامين النشيد المرهوب الذي تحدث عما كان قبل أن كان أو يكون:

(حينذاك لم يكن ما وجد أو ما لم يوجد، ولم يكن ما تثبته وما لا تنفيه.

لا أجواء ولا سماء وراء الأجواء.

وماذا عساها تنطوي عليه؟ أين كانت وأين قرارها؟ أهي هاوية الماء التي ليس لها من قرار؟

لم يكن موت: فلم يكن خلود.

لم يكن ما يموت فلم يكن ما ليس يموت.

ولم يكن ثمة نهار ولا ليل. ولم يكن إلا (الأحد) يتنفس حيث لا أنفاس. ولا شيء سواه.

وكان البدء في ظلام: عليكم بلا ضياء.

ومن البذرة في تلك القشرة (الأحد) بحرار الحياة.

وانتصر الحب حين نبتت البذرة من لباب العقل السرمدي، وناجي الشعراء قلوبهم فتبينوا بالحكمة ما هو مما ليس هو.. فقد نفذ شعاع القلب خلال ما هنالك، فماذا نظروا فوق الأحد وماذا

الباحثون عن الله (195)

نظروا دونه؟ كل ما هنالك حمله لبذور.. قوي: قوة من أدني ومشيئة من أعلي. ولا أحد يدري. ولا من يعلم من أين جاء ما جاء. فإنما جاءت الأرباب بعد ذلك.. فمن إذن يعلم ما جري؟ أهو الذي حدثت منه الخليقة؟ لعل الذي يعرفه (أحد) واحد في أعلي عليين. ولعله لا يدري كذلك..)

وقبل (جوتاما) آمن البراهميون بالدورة في وجود الكون والدورة في وجود الإنسان.. فالكون يتجدد حلقة بعد حلقة.. والإنسان يتنقل في جسد بعد جسد.. وسلسلة الأكوان ليس لها انتهاء.. وسلسلة الحياة الإنسانية قد تنتهي إلي السكينة أو الفناء.

لقد قامت البوذية علي أساس البرهمية في كل عقيدة من عقائد الأصول.. وإنما تميزت عنها بتبسيط العقائد لطبقات من الشعب غير طبقات الكهان، فأخرجتها من حجابها المكنون في المحاريب إلي المدرسة والبيت وصفوة المريدين.

ولا تعتبر البوذية إضافة في صميم العقائد الدينية، بل هي إضافة في آداب السلوك وفلسفة الحياة.. وهي إضافة في عرض الآراء علي غير المستأثرين بها قديما من سدنه الهيكل والمحراب.

وبهذه الآداب ينجو الإنسان من رباط ذلك الدولاب الدائر بالولادة والموت والتجدد في حياة بعد حياة وجثمان وراء جثمان، فيدخل في (النرفانا) ولا يولد بعد ذلك ولا يموت.

وحكمه في هذا المصير حكم الأرباب والملائكة وحكم السماوات والأرضين.. فكلها خاضع لقانون القضاء والقدر الذي لا فكاك منه لموجود، وكلها عرضة للتفكير والتطهير والتحول والتغيير، ثم للذهاب في غمرة الفناء الأخير.

وقد وجدت أن موضع التناقض في هذه الفلسفة (1) أنها تنكر (الشخصية الإنسانية) ولا

__________

(1) انتقد العقاد الدراسات الأوروربية التي استلهم منها، قال: (علينا أن نحترس من مغالاة الشراح الأوربيين بهذه الفلسفة البوذية. لأنهم يتعصبون لكل منسوب إلي الآرية علي اعتبارها عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين، فقد رفعوها فوق قدرها بلا مراء، وزعمواأنها (جرأة العقل الكبري) في مواجهة المشكلة الكونية، وأنها الخطوة المقتحمة التي لم يذهب وراءها ذو عقيدة في مطاوح التأمل والإقدام)

وقد رد على هذا بقوله: (لكنها لا تحسب من الجرأة العقلية بوصف من الأوصاف، فما هي إلا جرأة حسية في أقصي ما تطوحت إليه من الفروض والأظانين، وما البوذية كلها إلا تململا من وطأة الحس والجسد، ولا سعادتها القسوي إلا ضيقا بالحس وهربا منه إلي الفناء أو (اللاوعي) علي أحسن تقدير.. والمحسوس عندها شامل للمعقول، والكائن بحق الحس عندها شامل للكائن بحق العقل وحق الوعي وحق الذات.. والآلهة عندما تأتي في المرتبة التالية بعد مرتبة الأكوان وما ارتفعت الأكوان عندها إلي هذة المرتبة إلا بأنها هي المحسوس، وهي أول ما يفاجئنا قبل أن نفكر وقبل أن نتأمل وقبل أن ندين باعتقاد)

الباحثون عن الله (196)

تعترف بالذات أو بالروح وهي مع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح وثبوت شيء في الإنسان يبقي علي التنقل بين الأجساد والدورات.. وهي تؤمن بالكل أو (المطلق) الصمدي الوجود، ثم تنفي عنه الذات كما تنفيها عن الإنسان.. مع أن الكل بغير ذات لا يكون كلا بمعني من معاني الكلمة.

قال رجل من القوم: لم نكد نفهم من هذه الديانات شيئا.. فحدثنا عن غيرها.

قال: بعد الهند قصدت الصين.. وقد كنت آمل من خلال ضخامتها وكثرة شعوبها وترامي أطرافها أن أجد فيها جميع أنواع التصورات عن الإله..

لكني لم أجدهم ـ عبر تاريخهم الطويل ـ يحبون الخوض في مباحث ما وراء الطبيعة.. ولهذا فإن التدين بينهم يكاد يكون ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة.

أما العبادات.. فأشيعها بينهم عبادة الأسلاف والأبطال.. وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية علي جملة الأرواح التي يعبدونها، ويمثلون بها عنصر الطبيعة أو مطالب المعيشة.. ولهذا، فإنه لا يقدر الصيني قربانا هو أغلي قيمة، وأحب إلي نفسه من قربانه إلي روح سلفه المعبود.. وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلي كل شيء كانت تحتاج إليه، وهي في عالم الأجساد.

والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم.. فما أرضي السلف فهو خير وما أسخطهم فهو شر.. وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في

الباحثون عن الله (197)

شخص ذلك الحفيد.

وتتمشي عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلي جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال.. فالسماء والشمس والقمر والكواكب آلهة معبودة أكبرها إله السماء (شانج تي).. ويليه إله الشمس.. فبقية الأجرام السماوية.. فالعناصر الأرضية.

وهم يتقربون إلي (شانج تي) بالذبائح، ويبلغون صلواتهم بإشعال النار علي قمم الجبال، فيعلم الإله – مما أودعه الكاهن دواخينها- فحوي الرسالة التي يرفعها إليه عباده، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان.

وإله السماء عندهم هو (الإله) الذي يصرف الأكوان، ويدبر الأمور، ويرسم لكل إنسان مجري حياته الذي لا محيد عنه.. وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما (ين) عنصر السكون و(يانج) عنصر الحركة.. وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب.. فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية.

وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمي عاهل الصين باسم (ابن السماء).. ويقال إنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده.. فنقلها العاهل إلي بلاد الصين.

وقد أراد الفيلسوف (شوهستي) في القرن الثاني عشر أن ينشيئ بوذية صينية توفق مذهب بوذا في أمور وتخالفه في أمور، فدعا إلي دين لا إله فيه ولا خلود للروح، ووضع (لي) موضع (كارما) الهندية أو القانون أو القضاء والقدر.

وسمي دولاب الزمن (تايشي) لأنه هو المحرك لجميع الكائنات، وجعل القانون والدولاب والمادة أو (ووشي) قوام العالم ظاهرة وخافية.. وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد، فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت.. وتزول الأرواح كما

الباحثون عن الله (198)

تزول الأجساد متي (نضجت) كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم.. وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح، كأنها الثرة في حالة العفن والإهمال.

ولما مات كنفشيوس (478 ق. م) أقاموا له الهياكل وعبدوه علي سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة رسمية علي عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة.. ولم تزل عبادته قائمة إلي العصور المتأخرة بل إلي القرن العشرين.. فخصوه في سنة 1906 بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه، وقد جعلوا يوم ميلاده – وهو السابع والعشرون من شهر أغسطس- عيدا قوميا يحجون فيه إلي مسقط رأسه، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه.

ويظهر أن بيئة الصين لم تواجه أبناءها بالعقد النفسية، ولكنها واجهتهم بتقلبات العناصر الطبيعية التي تعودت الشعوب قديما أن تروضها بالسحر والكهانة، فجار نصيب الإيمان بالسحر علي نصيب الإيمان بالدين، وذاع عن أهل الصين – من ثم- أنهم أقدر أمة علي تسخير الطبيعة بالطلاسم والأرصاد.

وموقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين علي الإجمال.. فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية.. وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثي لعبادة السلف الأعلي حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها.. وتلك الربة هي (اميتراسوا-أموكامي) التي لا تزال معبودة إلي اليوم.

ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل التاريخ علي جزيرة كيوشو، وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلي الجبال، وكأن أهل كيوشو الأولون يعبدون إله

الباحثون عن الله (199)

الريح والمطر (سوسا- نو- وو) فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلي المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية.. ثم انعقدت الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والممغزوة، فأصبح الإلهان أخوين وأصبحت (أميتراسو) هي كبري الأخوين.

ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان، لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب.. وهذه أرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجنة والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية.. ويسمون الواحد منها (كامي).. وهي كلمة تطلق علي كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال.. ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلي الربة الكبري برضوان من خالق السماوات والأرضين.

أما الخلق فهو منسوب عندهم إلي إله السماء (أزاناجي- نوميكوتو) وزوجته وأخته إلهة الأرض (أزانامي-نوميكوتو).. فولدا جزر اليابان وألقحاها ببذور الآلهة، وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة الآلهة.. فكلهم في النسب الأعلي – وليس الميكاد وحده- إلهيون.

وفي إحدي الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار، فانبعثت من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والرعود.. ولم ترجع الأرض إلى خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة.

وينسبون الخلق في رواية أخري إلي (أزاناجي) وحده وهو يبحث عن رفيقة صباه.. فمن عينه اليسري خلقت الشمس ومن عينه اليمني خلق القمر، ومن عطسته خلق (سوسا- نو- وو) رب الرياح والأمطار.. ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء.

فالديانة اليابانية الأصلية شمسية سلفية جمعت معني التوحيد أولا في إله السماء حيث

الباحثون عن الله (200)

تصوره أبا للخليقة بمفرده أو مشاركة زوجه، ثم جمعتها في الربة الواحدة علي اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.

قال رجل منا: الصين لا تختلف عن الهند في هذا.. فحدثنا عن غيرها.. إلى أين قصدت بعد الصين واليابان؟

قال: لقد قصدت بلاد فارس.. أو على الأصح المخطوطات والآثار التي تحدثت عن الديانة الفارسية القديمة.. وقد وجدت أن وشائج القربى بينها وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية كانت متصلة.

فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل، قريب من أقاليم الطورانيين، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب، وقد تلقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة، وانقضي زمن طويل علي الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو اللم بأسرار الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية.. وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة وبالدولة البابلية تارة أخري.. فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين.

فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة (مترا) إله النور، وتسمية الإله بالـ (أسورا)، أو الـ (أهورا) وإن اختلفوا في إطلاقه علي عناصر الخير والشر.. فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح، وجعله الهند من أرباب الشر والفساد.

والبابليون عرفوا عبادة (مترا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ورفعوه إلي المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوي الظلام.

واستعار الفرس من البابلين كما أعاروهم، فأخذوا منهم سنة التسبيع في عدد الآلهة، وجعلوا (أورمزد) علي رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوى الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات.

ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين، لأن (زرادشت) عاش بينهم زمنا، وبشرهم

الباحثون عن الله (201)

بدينه، فاضطر إلى مجاراتهم في عبادتهم ليجاروه في عبادته، وأدخل أربابا لهم في عداد الملائكة المقربين (1).

وخلاصة ما جاء به (زرادشت) من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية، وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلي ما دون منزلة المساواه بينه وبين الإله الأعلي، وبشر بالثواب

__________

(1) هذا ما ذكره العقاد في كتابه (الله) بناء على دراسات الغربيين.. ونحن نرى أن في هذا تجديفا خطيرا.. فالأدلة الكثيرة تشير إلى أن زراشت كان موحدا.. وقد رجحنا كونه كذلك بناء على ما ورد من النصوص عن السلف الصالح..

وقد قال ابن حزم بهذا، فقد جاء في الفصل: (أما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته) (الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/ 90)

ثم عقب على ذلك بقوله: (ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله (لمن صحت عنه معجزة، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقال: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء:164)

ثم بين أن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم، واستدل على ذلك بالتحريفات الواقعة في الديانات المختلفة،، ثم بين قاعدة جليلة في ذلك فقال: (وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ، وعند ثلاثة وعشرين هربذا، لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم)

ونفس ما دفع به ابن حزم عن زرادشت ما نسبه إليه المجوس ذكره غيره من العلماء، قال الباقلاني: (وكذلك الجواب عن المطالبة بصحة أعلام زرادشت إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد، لأن العلم بصدقهم غير واقع لنا، أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده الأعلام، ودعا إلى نبوة نوح وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب النصارى على المسيح - عليه السلام - من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط، وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك) (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:203)

وقد ذكر ابن حزم أن هذا القول ليس بدعة للمتأخرين، بل أن من السلف من قال بذلك، قال: (وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة هما، وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر، وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه) (الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/ 90)، ثم قال: (ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله (الجزية منهم، وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي)

الباحثون عن الله (202)

وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية علي إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه.

وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية.. فقد سبقه الفرس إلي عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير وحملها علي محمل جديد من التفسير والتعبير.

فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمي زروان ويكني به عن الزمان.. وأنه اعتلج في جوفه وليدان، فنذر السيادة علي الأرض والسماء لأسبقهما إلي الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتي شق له مخرجا إلي الوجود قبل (هرمز) الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء، وعز علي أبيها أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة.. ويعود الحكم بعده لإله الخير خلدا بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء علي إله الشر وتبديد غياهب الظلام.

وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة و(اهرمان) غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه، فأشفق علي نفسه من العاقبة، وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض، فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء.. فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز، وملأت الكون بالخبائث والأرزاء.. وران هذا البلاء علي الكون حتي كانت معركة (زرادشت)، فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين، بل آذن بتحول النصر من صف إلي صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، وينجم علي رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت، فيعزز جحافل هرمز، ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكص أهرمز علي عقبيه مخلدا في أسفل سافلين لا فكاك له أبد الآبدين

الباحثون عن الله (203)

من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان.

لقد رأيت من خلال تسمية الإلهين دلالة واضحة علي انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلى صورة التنزيه.. فإن هرمز مأخوذ من (أهورا) بمعني السيد، و(مازداو) بمعني الحكيم، وأهرمن مأخوذة من (انجرو) بمعني السيئ وماينوش بمعني الفكر والروح، والمعنيان من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد.. ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس، وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذى والفساد، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت علي بال زروان فكان منها إله الظلام.

وفي (الزندفستا) يذكر زرادشت أنه سأل هرمز: (يا هرمز الرحيم! صانع العالم المشهود.. يا أيها القدس الأقدس: أي شيء هو أقوى القوي جميعا في الملوك والملكوت).. فقال هرمز: (إنه هو اسمي الذي يتجلي في أرواح عليين.. فهو أقوى في عالم الملكوت).. فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له: إنه هو (السر المسئول) وأما الأسماء الأخرى فالاسم الأول هو (واهب الأنعام)، والاسم الثاني هو المكين، والاسم الثالث هو الكامل، والاسم الرابع هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغني، والاسم الحادي عشر هو المغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو محق الحق، والاسم السابع عشر هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو (مزدا) أو العليم بكل شيء.

وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس الناس علي أنها هي أصفي وأطهر العناصر المخلوقة، لا علي أنها هي الخلاق المعبود.. وذكر أن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال (هرمن) أو يلبسها الجسد لتقدر

الباحثون عن الله (204)

علي حربه والصمود في ميدانه، لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد.. فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع.

ويذكر زرادشت أن (هرمز) أو أورمزد أو (أهورا مازدا) مستو علي عرش النور محفوفا بستة من الملائكة الأبرار، وتدل أسماؤهم علي أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات (الذوات) بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله.

وتفيض أقوال (زرادشت) كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء علي عبادة الأوثان.. ومن أمثلة هذا اليقين قوله: (أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين).. وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله علي الناس.. وأن زرادشت هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلي حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتسنصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضي ألف عام برز إلي حيز الوجود خليفة له من سلالته، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلي رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود.

ويناجي زرادشت هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه، فيناديه: رب! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق.. ويسأله رب! ألا تنبني عن جزاء الأخيار؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد؟ أو يسأله: من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط؟ ومن خلق الماء والزرع؟ ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء؟

ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار.. فبدأ بخلق السماء، ثم خلق الماء، ثم خلق الأرض، ثم خلق النبات، ثم خلق الحيوان، ثم خلق الإنسان.

الباحثون عن الله (205)

وأصل الإنسان رجل يسمي (كيومرت) قتل في فتنة الخير والشر، فنبت من دمه ذكر يسمي ميشة وأنثي تسمي ميشانة، فتزوجا وتناسلا، وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين.

ويفرق المجوس بين الخلائق جريا علي مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث، أو بين إله النور وإله الظلام.. فالأحياء النافعة من خلق أهرمن كالثور والكلب والطير البريء،.. والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام.

والناس محاسبون علي ما يعملون.. فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ.. وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلي السماء ومن رجعت عنده أعمال الشر هبط إلي الهاوية ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلي مكان لا عذاب فيه ولا نعيم، إلي أن تقوم القيامة ويتطهر العالم كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعا إلي حضرة هرمز في نعيم مقيم.

وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمي قنطرة (شنفاد) تتوافي إليها أرواح الأبرار والأشرار علي السواء بعد خروجها من أجسادها.. فيلقاها هناك (رشنوه) ملك العدل و(ميترا) رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات، ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم.

قال رجل منا: دعنا من كل هذه الديانات القديمة.. فالبحث فيها ألصق بالتاريخ مما نحن فيه.. نحن نبحث عن ربنا.. فحدثنا عما عرفته من خلال بحثك عنه.

قال آخر: حدثنا عن اليهود.. فلا زال لليهود وجود.. ولا زالت لهم معابدهم وطقوسهم.

تنفس (فريدريك) الصعداء، وقال: من الصعب التحدث عن الإله عند اليهود بصفة علمية..

قلنا: لم؟

قال: لقد كان لكل عصر إلهه.. ولكل جماعة يهودية إلهها.. ومن الصعب أن يحصر هذا

الباحثون عن الله (206)

حاصر..

لكني مع ذلك سأذكر لكم بعض ما قال رجل خبير في اليهودية استفدت منه كثيرا.. إنه رجل من المسلمين التقيت به كان اسمه (عبد الوهاب المسيري) (1)

وقد حدثني هذا الرجل الخبير (2) أن الأصل في (الإله) الذي يؤمن به اليهود هو أنه إله واحد لا جسد له ولا شبيه.. لا تدركه الأبصار.. وتعتمد عليه المخلوقات كافة.. ولا يعتمد هو على أيٍّ منها، إذ هو يتجاوزها جميعاً ويسمو عليها.

وأن كل مظاهر الطبيعة والتاريخ ليست إلا تعبيراً عن قدرته.. فهو روح الكون غير المنظورة، السارية فيه، والتي تُمده بالحياة؛ وتسمو عليه وتلازمه في آن واحد.

وأخبرني أن التوحيد في اليهودية وصل إلى ذروته على يد بعض الأنبياء الذين خلَّصوا التصور اليهودي للإله من الشوائب الوثنية التي علقت به، فصار أكثر إنسانية وشمولاً وسمواً، وأقل عزلة وقومية وتعالياً.

وأخبرني أن هذا التيار التوحيدي استمر في مختلف فترات تاريخ اليهودية.. وتدل على بعض آثاره من الصلوات اليهودية دعاء الشماع، أي شهادة التوحيد اليهودية وقصائد مثل (آني مأمِّين) (إني مؤمن) و(يجدال) (تنزَّه الرب) التي تؤكد فكرة التوحيد.

وأخبرني أن التصور اليهودي للإله قد تراكم عليه في فترات التاريخ الطويلة ما انحرف به انحرافات كثيرة خطيرة.. حتى غدا التوحيد مجرد طبقة واحدة ضمن طبقات مختلفة.. فالعهد القديم، كما هو من خلال مصادره المتعددة، يطرح رؤى متناقضة للإله تتضمن درجات مختلفة من الحلول بعضها أبعد ما يكون عن التوحيد.

__________

(1) عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008) مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وهي أحد أهم الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين.. استطاع من خلالها إعطاء نظرة جديدة موسوعية موضوعية علمية للظاهرة اليهودية بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من تطوير مفهوم النماذج التفسيرية.

(2) انظر مادة (إله) من موسوعة اليهودية، للمسيري.

الباحثون عن الله (207)

وتتبدَّى الحلولية في الإشارات العديدة إلى الإله، التي تصفه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/ 10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/ 23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة يسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/ 13 ـ 14)..

وهو إله متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/ 8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/ 21/22).

وهو إله الحروب (خروج 15/ 3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/ 30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/ 1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/ 16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد، (أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً) (تثنية 20/ 10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.

والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة، ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها (أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين) (خروج 3/ 22)

الباحثون عن الله (208)

وهكذا، فإننا نجد منذ البداية، أن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين.

وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط أعضاء جماعة يسرائيل في عبادة العجل الذهبي (ويتزعمها هارون أخو موسى) (1)، وأن يقبل العهد القديم عناصر وثنية مثل الترافيم والإيفود (الأصنام)، وكلها تعبير عن رؤية حلولية مشركة لا تختلف كثيراً عما جاء في العهد القديم.. ولهذا ليس من الغريب أن نجد شعائر تدل على الثنوية في العبادة اليسرائيلية.

ورغم أن الإله، حسب بعض نصوص العهد القديم، يفصح عن نفسه في الطبيعة والتاريخ ويتجاوزهما، فهو مصدر النظام في الطبيعة، وهو أيضاً الذي يجعل التاريخ في نظام الطبيعة وتناسقها، إلا أننا نجده يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة (الكونية الطبيعية أو التاريخية) يصبح امتداداً لما هو نسبي، وامتداداً للشعب اليهودي على وجه الخصوص.. فيصبح الخالق امتداداً لوعي الأمة بنفسها، فيظل إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/ 7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب.

ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع، ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدَّسة ومختارة تماماً مثل الشعب (وتلاحُم الإله بالأرض والشعب هو الثالوث الحلولي).

ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص

__________

(1) حسبما ينص الكتاب المقدس.. أما القرآن الكريم فهو يبرئ هارون - عليه السلام -، وينسب العبادة للسامري.

الباحثون عن الله (209)

لعطف يهوه.. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود.. ويتضح هذا في مفهوم التاريخ اليهودي المقدَّس الذي لا يمكن فهم تاريخ الكون بدونه، كما يتبدَّى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين، ثم يتعمق الاتجاه الحلولي مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية.. ويزداد الحلول الإلهي، فنجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية، حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري، ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتُجمَع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة (التي يفترض أنها معادلة للإله وتحوي سر الكون).

وقد بلغ الحلول الإلهي درجة أن المشناه (التي تضم تفسير الحاخامات) شُبِّهت باللوجوس في اللاهوت المسيحي، أي أنها كلمة الإله المقدَّسة، كانت موجودة في عقله منذ الأزل.. وتُستخدَم كلمة (ابن الله) للإشارة إلى الشعب اليهودي، أي أنه هو أيضاً اللوجوس.

ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفاً من التوراة.

وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيَّح، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحاً لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية.. ويقضي الإله وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يومياً.. وتنسب إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور.

ويصل الحلول إلى منتهاه، وإلى درجة وحدة الوجود في تراث القبَّالاه، فهو تراث يكاد يكون خالياً تماماً من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي

الباحثون عن الله (210)

والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدَّس وجوهر بقية البشر، ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقاً ميتافيزيقياً، فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة (حل فيها الإله بروحه) مختلفة عن تلك المادة (الوضيعة العادية) التي خُلقت منها بقية البشر. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبَّالي.

وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبَّالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم، وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان، وتستقل التجليات العشرة تماماً عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر).. كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث، وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبَّالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معاً بالمعنى الجنسي.

وفي داخل التراث القبَّالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة يسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحداً كاملاً.

ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين، ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكاً للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتماداً على الإنسان.

وبعد عملية السقوط، وتَهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا من خلال شعبه اليهودي.. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله، وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها.. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص.

الباحثون عن الله (211)

ويظهر هذا النزوع الحلولي المتطرف في أحد التعليقات القبَّالية في أحد كتب المدراش على إحدى فقرات سفر أشعياء (43/ 12)، حيث جاء فيها: (أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله)، وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه. وهي وإن كانت تتحدث عن علاقة خاصة، فإنها مع هذا أبعد ما تكون عن الحلولية أو الشرك. ولكن كاتب المدراش الحاخامي يفرض الطبقة الحلولية على الطبقة التوحيدية فرضاً فيفسرها بقوله: (حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله)، وكأن كينونة الإله من كينونة الشعب وليس العكس.

بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب، إذ قال أحد الحاخامات: (حينما ينفذ اليهود إرادة الإله، فإنهم يضيفون إلى الإله في الأعالي. وحينما يعصي اليهود إرادة الإله، فهم كما لو أنهم يضعفون قوة الإله العظمى في الأعالي)

ورغم أن كاتب المدراش يستخدم دائماً عبارة (كما لو أن) لتأكيد بعدها المجازي، فإن تكرارها وارتباطها بالمفاهيم الأخرى ينقلها من عالم المجاز إلى عالم العقائد الحرفية المباشرة التي لا تحتاج أي تفسير.

وعلى أية حال، فإن التيار التوحيدي ظل لمدة طويلة أساسياً في النسق الديني اليهودي، بل كان يكتسب أحياناً قوة كما حدث من خلال التفاعل مع الفكر الديني الإسلامي، كما هو الحال مع كلٍّ من سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون.. وكثيراً ما حاول الحاخامات الوقوف ضد الاتجاه الحلولي الشعبي (الفلكلوري)، فحاولوا أن يفسروا الطبائع البشرية للإله بأنها مجرد محاولة لتبسيط الأمور حتى يفهمها العامة. بل يُلاحَظ أن عبارة (كما لو أن) كانت تضاف حتى في التفسيرات القبَّالية الحلولية الأولى لتأكيد الطابع المجازي للخطاب، ولكن هذا التحفظ تآكل بالتدريج وتغلغلت القبَّالاه ذات الأصول الشعبية في صفوف العامة ثم في صفوف المؤسسة الحاخامية نفسها وسيطر فكر حلولي حرفي متطرف. ومع تغلغل القبَّالاه ذات الأصول الشعبية والغنوصية والتي اكتسبت أبعاداً مسيحية، حدثت عملية تنصير لليهودية، حيث فقدت اليهودية

الباحثون عن الله (212)

هويتها واكتسبت هوية شبه مسيحية جديدة تستند إلى تشويه العقائد المسيحية.

ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشاراً، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.

وقد تبنَّى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تَصوُّر ممكن داخل إطار حلولي قومي. كما نجد فرقاً يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله تماماً (حلولية موت الإله)، أو وضعها في مرتبة ثانوية (حلولية شحوب الإله).

ويصل الأمر إلى حد أن حاخاماً إصلاحياً مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً، فمن أصاب جزءاً من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال)، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها.

بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن (لاهوت موت الإله)، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماماً من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله. وقد تفرَّع من هذا (لاهوت الإبادة) أو (لاهوت ما بعد أوشفيتس) الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي.. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله.

قال رجل منا: فحدثنا عن تنزيه الإله في نظر المسيحيين.

الباحثون عن الله (213)

قال: لست أدري ما أقول لكم.. ولا بما أجيبكم.. لقد احترت فيما أكتبه عن تنزيه المسيحيين لله..

لقد وجدت الكتاب المقدس بعهديه متضاربا في ذلك غاية التضارب..

فبينما أقرأ النصوص التي يسمى فيها الرب باسم القدوس، كما في (اللاوين 11: 44 - 45): (أَنَا الرَّبّ إِلَهُكُمْ، فَكَرِّسُوا أَنْفُسَكُمْ وَتَقَدَّسُوا، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ، وَلاَ تُنَجِّسُوا أَنْفُسَكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّبِيبِ المُتَحَرِّكِ عَلَى الأَرْضِ. لأَنِّي أَنَا الرَّبّ الذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ لأَكُونَ لَكُمْ إِلَهاً. فَكُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ)

بينما أقرأ هذا النص وغيره.. والتي تمتلئ بتنزيه الله وتقديسه، بل تسميه قدوسا.. في نفس الوقت أقرأ الكثير من النصوص التي تصف الله بما لا يمكن أن يوصف به إله.. ولذلك لم يصعب عليهم أن يرسموه في الكنائس والمعابد بصورة رجل عجوز ذي لحية طويلة بيضاء يظهر عليه الشيب والعجز والتعب..

لقد كان لهذه الصورة سندها من الكتاب المقدس..

ففي الكتاب المقدس النصوص التي تصف الله بالعجز.. ففي (تكوين 32/ 24 - 28) نبأ مصارعة يعقوب لله: (فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر.. وقال: اطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا اطلقك إن لم تباركني)

وفي سفر القضاة لم يستطع الرب أن يطرد سكان الوادي، لأن مركباتهم حديدية.. ففي (القضاة 1/ 19): (وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسكر.. ففي (المزمور 78/ 65): (فاستيقظ الرب كنائم كجبار معّيط من الخمر)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينام.. ففي (مزمور 35/ 22): (قد رأيت يا رب لا

الباحثون عن الله (214)

تسكت يا سيد لا تبتعد عني استيقظ وانتبه الى حكمي يا الهي وسيدي الى دعواي)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يمشي على عكاز، ففي (مزمور 23/ 4): (أيضا إذا سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لانك انت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب جاهل.. ففي (رسالة بولس إلى أهل كرونثوس الأولى 1/ 25): (لأن جهالة الله احكم من الناس. وضعف الله أقوى من الناس)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عنده خزانة، وفيها آلات الرجز.. ففي (إرميا 50/ 25 (: (فتح الرب خزانته واخرج آلات رجزه لان للسيد رب الجنود عملا في ارض الكلدانيين)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسيئ.. ففي (1 ملوك 17/ 20): (وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أيضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت بإماتتك ابنها)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينقض العهد.. ففي (زكريا 11/ 10): (فاخذت عصاي نعمة وقصفتها لانقض عهدي الذي قطعته مع كل الاسباط فنقض في ذلك اليوم وهكذا علم اذل الغنم المنتظرون لي انها كلمة الرب)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصيح كالوالدة وينخر ويخرب.. ففي (إشعياء 42/ 13 - 16): (الرب كالجبار يخرج. كرجل حروب ينهض غيرته. يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت. كالوالدة اصيح. انفخ وانخر معا اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام واسير العمي في طريق لم يعرفوها. في مسالك لم يدروها امشيهم. اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينسى.. ففي (مزمور 13/ 1): (الى متى يا رب تنساني كل النسيان. الى متى تحجب وجهك عني)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا.. ففي

الباحثون عن الله (215)

(خروج:13/ 21): (وكان الرب يسير امامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم. لكي يمشوا نهارا وليلا)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصفر للذباب ويعمل حلاقاً ويصفق.. ففي (إشعياء 7/ 18 - 20): (ويكون في ذلك اليوم ان الرب يصفر للذباب الذي في اقصى ترع مصر وللنحل الذي في ارض اشور فتأتي وتحل جميعها في الاودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعي. في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك اشور الراس وشعر الرجلين وتنزع اللحية ايضا)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يأمر الناس بسب الأنبياء.. ففي (صموئيل الثاني 16/ 10 - 11): (فقال الملك ما لي ولكم يا بني صروية. دعوه يسب لأن الرب قال له سبّ داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لابيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من احشائي يطلب نفسي فكم بالحري الآن بنياميني. دعوه يسب لان الرب قال له)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يحتاج علامة ليتذكر بها.. ففي (تكوين 9/ 15 - 16): (اني اذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حيّة في كل جسد. فلا تكون ايضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد فمتى كانت القوس في السحاب ابصرها لأذكر ميثاقا ابديا بين الله وبين كل نفس حيّة في كل جسد على الارض)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يولول ويبكي ويصرخ ويصوِت.. ففي (ميخا 1/ 8): (من اجل ذلك انوح وأولول. امشي حافيا وعريانا. اصنع نحيبا كبنات آوى ونوحا كرعال النعام)

-\--\-

قلت: حدثتنا عن أكثر الأديان شهرة.. ولم تحدثنا عن الإسلام.. فهل بحثت في قداسة إله المسلمين؟

الباحثون عن الله (216)

قال: أجل.. لقد استغرق مني ذلك كل وقتي.. بل لأجله رحلت إلى بلاد إسلامية متعددة..

قلت: فما وجدت؟

قال: إن شئتم الصراحة.. لم أجد دينا من الأديان يحمل تعظيما لله وتقديسا له مثل دين المسلمين.

قلت: فحدثنا عما وجدت.

قال: لقد رأيت المسلمين يقدسون الله تقديسا عظيما.. بل إن الأمر يصل بهم إلى تقديس كل ما يضاف إلى الله.. فيتحرزون أشد الاحتراز من كل كلمة يطلقونها على الله.

قال بعض من كان معنا: فحدثنا عن أقوال المسلمين في هذا، فإنا نرى لهم حكمة كبيرة، ومعارف عظيمة.

قال: قبل أن أحدثكم عن ذلك أحدثكم حديث ذلك، فلا يؤخذ العلم إلا من مصادره.

قلنا: فحدثنا.

قال: لقد كان من أوائل المدن التي زرتها من بلاد المسلمين بلدة يقال لها (قم)، وبما أنها كانت حافلة بالعلم والعلماء، والمقدسين والمطهرين، فقد كان الكل يطلق عليها (قم المقدسة)

وقد تشرفت بالجلوس إلى كثير من حلقات العلم فيها.. وهي حلقات تقام في كل مكان.. في المدارس والمساجد.. بل وفي الأسواق وأمام البيوت.. وسأذكر لكم الآن بعض ما بقي عالقا من تلك المجالس المباركة التي شرفني الله بالجلوس فيها.

وقبل أن أذكر لكم ذلك أذكر لكم النتيجة العامة التي وصلت إليها.. فالكلام لا يحسن ولا يستجاد فهمه إلا إذا انطلق من الإجمال إلى التفصيل..

قلنا: ذلك أدعى لسرورنا.. فما هي النتيجة التي وصلت إليها؟

قال: لقد رأيت كل مجالس العلم في تلك المدينة الطيبة تركز أحاديثها في هذا الباب على ناحيتين من نواحي التقديس.. وهما سهلا التصور بحسب القسمة العقلية.

الباحثون عن الله (217)

قلنا: ما هما؟

قال: الذات والأفعال.. فلا يقدس الله إلا إذا قدست ذاته.. وقدست مثل ذلك أفعاله.

1 ـ قداسة الذات الإلهية

قلنا: فحدثنا عن تقديس ذات الله.

قال: على تلة مرتفعة في تلك المدينة الجامعة بين العلم والإيمان والأدب رأيت منصة عالية جلس عليها رجل يلبس عمة الأزهر، وقد التفت الناس حوله.. وقد تعجبت عندما علمت أن ذلك الرجل مصري، وأنه شيخ من شيوخ الأزهر.. وأن اسمه (محمود شلتوت) (1)، وقد قلت لمن أخبرني عن هذا الرجل: أعقمت أرحام نسائكم أن تلد العلماء حتى أتيتم بهذا المصري.. ورفعتموه إلى هذا المنصب الرفيع.

ابتسم الرجل، وقال: لكأنك لا تعرفنا.. أو لكأنك لا تعرف الإسلام.

قلت: وعلاقة هذا بكم؟.. وما علاقته بالإسلام؟

قال: أما علاقته بنا.. فنحن قوم لم نشرف إلا بالإسلام.. وقد كان لنا في عهد نبينا (ممثل له عنا.. وقد قال فيه رسول الله (: (سلمان منا آل البيت) (2)

وأما علاقة ذلك بالإسلام.. فالإسلام لا ينظر إلى ما ينظر إليه الناس من تصنيفات وضعتها لهم أهواؤهم وشياطينهم.. إن ربنا يقول لنا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ((الحجرات)

وإن نبينا (يقول لنا:: (ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح) (3)، ويقول:

__________

(1) أشير به إلى (محمود شلتوت) (1893 - 1963)، وهو شيخ الجامع الأزهر من (1958 - 1963 م)،

وقد سعى جاهداً مخلصا للتقريب بين المذاهب الإسلامية.. ولأجل ذلك اخترناه في هذا المحل.

(2) رواه البيهقي في الدلائل وغيره.

(3) رواه أحمد والبيهقي.

الباحثون عن الله (218)

(أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ((الحجرات:13) (1)

قال لي ذلك، ثم انصرف مسرعا ليسمع من ذلك الجالس على تلك المنصة العالية.

أحسست بشيء يدعوني إلى أن أحث خطاي إليه..

وعندما وصلت، كان أول ما سمعته منه قوله: أيها الباحثون عن الله.. لا يمكنكم أن تعرفوا الله إلا إذا نزهتم بصائركم من أدناس التشبيه.. فما عرف الله من شبهه.. وما عرف الله من قاسه على خلقه.. أو قاس خلقه عليه.. وما عرف الله من وضع الله في قوالب صورها له عقله أو صورها له هواه.. فالله أعظم من أن يحاط به.

قال بعض الحاضرين: فكيف نصل إلى هذه المرتبة؟

قال شلتوت: اقرأوا القرآن.. وستجدونه مملوءا بتنزيه الله وتعظيمه.. فلا يتحقق التعظيم إلا إذا تحقق التنزيه.

قال الرجل: نجد الله في القرآن الكريم يسمي نفسه (قدوسا) (2).. قال تعالى: (هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ((الحشر:23)، وقال: (يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ

__________

(1) رواه البيهقي.

(2) (القدوس) مشتق في اللغة من (التقديس)، ويعني في اللغة التطهير، ومنه سميت الجنة حظيرة القدس كما ورد في الحديث أن رسول الله (قال عن رب العزة: (من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس) (رواه البزار)، ومن ذاك تسمية جبريل - عليه السلام - روح القدس قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل:102)

والقداسة تعني الطهر والبركة، وقدس الرجل ربه أي عظمه وكبره، وطهر نفسه بتوحيده وعبادته، ومحبته وطاعته ، ومن ذلك قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة:30)، فالقدوس يعني المطهر المنزه عن كل نقص المتصف بكل أنواع الكمال (انظر: لسان العرب 6/ 168، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 94، والمقصد الأسنى ص 65، وغيرها)

الباحثون عن الله (219)

((الجمعة:1)

وفي الحديث أنه (كان يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ) (1)

فما المراد بهذا الاسم؟

قال شلتوت: إن هذا الاسم يشير إلى طائفة كثيرة من المعاني كلها تبشر بتنزيه الله عن كل ما لا يليق به:

فهي تنزهه عن الشريك.. فالقدوس واحد، قال تعالى: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.. ((البقرة: 255)، وقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ((الإخلاص)

وهي تنزهه عن الشبيه.. فالقدوس لا يشبهه شيء، قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ((الاخلاص:4)، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ((الشورى: من الآية 11)

وهي تنزهه أن يكون له زوجة أو ولد، قال تعالى إخبارا عن مقالة الجن: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا ((الجن: 3)، وقال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) ((البقرة)

وهي تنزهه عن الموت والنوم، قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.. (58) ((الفرقان)

وهي تنزهه عن الظلم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) ((النساء)

وهي تنزهه عن الكذب.. فقوله الصدق وخبره الحق، قال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ((النساء: 87)

__________

(1) رواه مسلم.

الباحثون عن الله (220)

وهي تنزهه عن الضلال والنسيان، قال تعالى مخبرا عن نبيه موسى - عليه السلام - أنه قال: (لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ((طه: 52)

وهي تنزهه عن الفناء.. فالقدوس باق، قال تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ((القصص:88)

وهي تنزهه عن كل العوراض التي لا تتناسب مع جلال الألوهية.. كما قال تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ((البقرة:255)

وهي تنزهه عن الفقر والبخل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) ((فاطر)

وهي تنزهه عن التعب والنصب.. قال تعالى: (وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ((ق: 38)

وهي تنزهه عن الحاجة إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ((النحل: 40)

وهي تنزهه عن انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى: (لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ((آل عمران: 181)

وهي تنزهه عن الحاجة قال تعالى: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ((الأنعام: 24) {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ((المؤمنون: 88)

وهي تنزهه عن أن يخلق الباطل، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُوا ((ص: 27)، وقال تعالى حكاية عن المؤمنين: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا ((آل عمران: 191)

وهي تنزهه أن يخلق للعب، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ،

الباحثون عن الله (221)

وَمَا خلقناهما إِلاَّ بالحق ((الدخان: 38 39)

وهي تنزهه أن يخلق للعبث؛ قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فتعالى الملك الحق ((المؤمنون: 115، 116)

وهي تنزهه أن يرضى بالكفر، قال تعالى: (وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر ((الزمر: 7)

وهي تنزهه عن إرادة الظلم، قال تعالى: (وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ ((غافر: 31)

وهي تنزهه عن حب الفساد، قال تعالى: (والله لاَ يُحِبُّ الفساد ((البقرة: 205)

وهي تنزهه عن أن يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى: (مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ((النساء: 147)

وهي تنزهه عن أن ينتفع بطاعات المطيعين أو يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ((الإسراء: 7)

وهي تنزهه أن يعترض أحد على أفعاله وأحكامه، قال تعالى: (لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ((الأنبياء: 23)، وقال تعالى: (فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ((االبروج: 16)

وهي تنزهه عن أن يخلف وعده ووعيده، قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ وَمَا أَنَا بظلام لّلْعَبِيدِ ((ق: 29)

قال آخر: سمعنا ما وردنا من كلام ربنا.. فأسمعنا بعض ما يدل على هذا من كلام أئمة الهدى الذين جعلهم الله مصابيح لخلقه يهتدون بها.

قال شلتوت: كل أئمة الهدى تحدثوا عن هذا.. ودعوا الناس إليه بجميع صروف الدعوة.

روي أن رجلاً قال لعلي: هل تصف ربنا نزداد له حباً وبه معرفة؟ فغضب وخطب الناس، فقال فيما قال: (عليك يا عبدالله بما دلك عليه القرآن من صفته، وتقدمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به، واستضيَ بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره،

الباحثون عن الله (222)

فكل علمه إلى الله، ولا تقدر عظمة الله عليه قدر عقلك، فتكون من الهالكين.. واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم، هم الذين أغناهم الله عن الاِقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: (.. آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.. (7) ((آل عمران)، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً)

وقال في خطبة أخرى: (الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير رَوِيَّة، الذي لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماء ذات أبراج، ولا حجب ذات أرتاج، ولا ليل داج، ولا بحر ساج، ولا جبل ذو فجاج.. وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك، وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) ((الشعراء).. كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم) (1)

وعن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق، فسمعته يقول: (من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع)، فتلطفت الوصول إليه، فوصلت، فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام ثم قال: (يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والاَوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والاَبصار عن الاِحاطة به، جل عما وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيَّف الكيف فلا يقال:

__________

(1) انظر: نهج البلاغة ج 1 ص 164.

الباحثون عن الله (223)

كيف؟ وأيَّن الاَين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والاَينونية)

وقال الحسين: (إن الله عز وجل يقول: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) ((النجم)، فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا)

وقال: (يا محمد، إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إلَه إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء)

وقال: (من نظر في الله كيف هو هلك)

وقال: (يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والاَرض، إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلق من خلق الله، فإن قدرت تملأ عينيك منها فهو كما تقول.. فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك. هيهات، إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والاَدوات فهو عن صفات خالقه أعجز. وَمِن تناولِه بحدود المخلوقين أبعد)

ومن خطبة له في التوحيد قال: (ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مَثَّله، ولا إياه عني من شَبَّهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه.. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول.. فاعلٌ لا باضطراب آلة، مقدر لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الاَوقات، ولا ترفده الاَدوات، سبق الاَوقات كونه، والعدم وجوده، والاِبتداء أزله.. بتشعيره المشاعر عُرِفَ أن لا مُشْعِرَ له، وبمضادته بين الاَمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الاَشياء عُرِفَ أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة والجمود بالبلل)

وقال الباقر: (تكلموا في خلق الله، ولا تتكلموا في الله، فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً)

وقال: (إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه)

وقال الصادق: (إن الله تبارك اسمه، وتعالى ذكره، وجل ثناؤه، سبحانه وتقدس، وتفرد

الباحثون عن الله (224)

وتوحد، ولم يزل ولا يزال، وهو الأَول والآخر والظاهر والباطن فلا أول لأَوليته، رفيعٌ في أعلى علوه، شامخ الاَركان، رفيع البنيان عظيم السلطان، منيف الآلاء، سني العلياء، الذي عجز الواصفون عن كنه صفته، ولا يطيقون حمل معرفة إلَهيته، ولا يحدون حدوده، لاَنه بالكيفية لايتناهى إليه)

وروي أن رجلا قام إلى الإمام الرضا، وقال له: يابن رسول الله صف لنا ربّك، فانّ من قبلنا قد اختلفوا علينا.. فقال الرضا: (إنّه من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا عن المنهاج، ظاعناً في الإعوجاج، ضالاًّ عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرّفه بما عرّف به نفسه من غير رويّة، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواسّ، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان في بعده لا بنظير، لا يمثّل بخليقته، ولا يجور في قضيّته.. فهو قريب غير ملتزق، وبعيد غير متقصّ، يحقّق ولا يمثّل، ويوحّد ولا يبعّض، يعرف بالآيات ويثبت بالعلامات، فلا إله غيره الكبير المتعال)

-\--\-

لست أدري كيف قطعت عن لساني لجام الصمت، ورحت أقول: إني أرى بهذه المدينة حلقا كثيرة.. فأي حلقة تراها أعرف من غيرها بربها لتنصحنا بها؟

قال شلتوت: اجلس إليها جميعا.. واستفد منها جميعا.. وأحسن الظن بها جميعا..

قلت: لا أقصد هذا.

قال: أنت تقصد أحقها بالحق، وأولاها به.

قلت: أجل.. فذلك ما أريده.. فلا أريد أن أقع في الوهم.

قال: الناس ينظرون إلى الحق من مناظر مختلفة لا متناقضة.. ففيهم العامة وفيهم الخاصة.. وفيهم أهل الكثافة وفيهم أهل اللطافة.. وفيهم المحققون وفيهم الحرفيون.. ولكل واحد من هؤلاء الحق الذي يتناسب معه.

الباحثون عن الله (225)

قلت: فكيف أميز ما يتناسب معي مع ما يتناسب مع غيري؟

قال: فكيف تميز ما يصلح لمعدتك من الطعام مع ما لا يصلح؟

قلت: أي طعام أكلته أضر بي علمت أنه لا يصلح لمعدتي.

قال: وكذلك كل معرفة أوقعتك في دنس التشبيه والتمثيل فاجتنبها إلى غيرها.. فالله لا يحاط به.

-\--\-

كانت أول حلقة انضممت إليها – بعد جلوسي للشيخ محمود شلتوت- حلقة يتوسطها شيخ قد أوتي علما كثيرا، وقدرة على الجدل لا تضاهى، كان اسمه (ابن طاووس) (1).. وقد كان تلاميذه يلتفون حوله، فيسألونه غرائب المسائل، فيبجيبهم بجنان ثابت، وعلم وافر، وحجة تأبى إلا أن تنقاد العقول لها.

سأنقل لكم بعض ما دار في تلك الحلقة:

كان أول ما بدأ به ابن طاووس درسه قوله: نتناول اليوم في هذا الدرس الحديث عن ركن مهم من أركان المعرفة بالله، لا تتم المعرفة إلا به..

إنه تنزيه الله، وإجلاله، وتسبيحه وتقديسه.. فلا يمكن أن تتم المعرفة بالله، أو تصدق إلا إذا خالطها هذا الإكسير.. إكسير التقديس والتنزيه والإجلال.

قال رجل من الحاضرين: نحن نعرف الجملة.. ولكنا نفتقر إلى التفصيل.

قال: سأذكر لكم سبعة أشياء يقدس الله عنها.. وقيسوا عليها غيرها.

قالوا: وما هي؟

__________

(1) أشير به إلى ابن طاووس (ت 673 هـ)، وهو جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن موسى الحسني، الحلّي، كان من أكابر فقهاء الاِمامية ومجتهديهم، عالماً بالحديث ورجاله، متكلّماً، أديباً، شاعراً مجيداً، مصنّفاً. وهو أوّل من قسّم ـ من علماء الاِمامية ـ الحديث إلى الاَقسام الاَربعة المشهورة: صحيح وموثّق وحسن وضعيف.

الباحثون عن الله (226)

قال: الشبيه.. والحاجة.. والجهل.. والعجز.. والجسمية.. والزمان.. والمكان.

الشبيه

قالو: فحدثناعن الأول مما يجب تنزيه الله عنه.. حدثنا عن تنزه الله عن الشبيه (1).

قال: التشبيه أو التمثيل هو إثبات شيء من خصائص المخلوق للخالق، أو إثبات شيء من خصائص الخالق للمخلوق (2).. وقد نطق القرآن الكريم بتنزيه الله تعالى عنه، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ((الشّورى:11)، وقال: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ((الإخلاص: 4)، وقال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ ((النّحل: 74)، وقال: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ((مريم: 65)؛ أي مثلاً وشبيهًا (3).

ومثل ذلك نطقت أسماء الله الحسنى بتنزيه الله عنه.. فقد سمّى الله نفسه المقدّسة بأسماء كثيرة تدلّ على تفرّده المطلق:

فمن أسمائه الدالة على ذلك: الواحد، والأحد (4)؛ أي المتفرّد بمعاني الكمال؛ فليس له مثل

__________

(1) استفدنا الكثير من المعلومات الواردة في هذا الفصل من كتاب (دلالة الأسماء الحسنى على التّنزيه)، إعداد: د / عيسى بن عبد الله السّعدي، كليّة التربية بالطائف / قسم الدراسات الإسلاميّة.

(2) للأسف نجد الكثير من المصنفات ترمي الكثير من العلماء والصالحين بالتشبيه مع انعدام البينة.. بينما تدافع على من شاءت الدفاع عنه، وترمي نفس المراجع التي استفادت منها تلك المعلومات بأنها مراجع غير موثوقة..

وكمثال على ذلك الدفاع عن مقاتل بن سليمان مع أنه رمي بالتشبيه في تلك المراجع التي رمي فيها غيره.. فقد قال ابن تيمية مدافعا عنه: (أمّا مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله، والأشعريّ ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان؛ فلعلّهم زادوا في النّقل عنه، أو نقلوا عنه، أو نقلوا عن غير ثقة، وإلاّ فما أظنّه يصل إلى هذا الحدّ!)

ونحن نقول تعليقا على هذا: لم لا ينتهج هذا المنهج مع سائر العلماء والفرق؟.. ولم لا تكون البينة الصحيحة هي الدليل لا مجرد النقل؟.. ولم لا يترك المجال للآخرين ليدافعوا عن أئمتهم وعلمائهم ما دام الأمر بهذه الصفة؟.. ولم لا يقال بأن للتأثير السياسي والمذهبي دوره في بيان مقولات الفرق والمذاهب، وخاصة منها من لم يترك أثرا من كتاب أو أتباع؟

(3) روي ذلك عن ابن عبّاس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج، وغيرهم.

(4) اسم الواحد مقارب لاسم الأحد، وقد فرّق ابن الأثير بينهما من وجهين:

الأول: أنّ الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد؛ فهو يقع على المذكّر والمؤنّث؛ يقال: ما جاءني أحد؛ أي ذكر ولا أنثى، وأمّا الواحد فإنّه وضع لمفتتح العدد، تقول: جاءني واحد من النّاس، ولا تقول فيه: جاءني أحد من النّاس.

الثاني: أنّ الواحد يفيد الانفراد بالذات؛ لأنّه بني على انقطاع النّظير والمثل، والأحد يفيد الانفراد بالمعاني؛ لأنّه بني على الانفراد والوحدة عن الأصحاب..

الباحثون عن الله (227)

في ذاته، ولا شريك في أفعاله.

ومن أسمائه الدالة على ذلك العزيز؛ أي الَّذي لا مثل له ولا نظير؛ فالعزيز – في بعض معانيه- هو النّادر الَّذي يصعب أو يتعذّر وجود مثله؛ يقال: عزّ الشّيء فهو عزيز إذا قلّ فلا يكاد يوجد، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ((فصّلت: 41)؛ أي كتاب محالٌ مناله، ووجود مثاله.

ومن أسمائه الدالة على ذلك القهّار؛ أي الواحد الَّذي لا نظير له ولا ندّ؛ لأنّ القهر ملازم للوحدة، فلا يكون اثنان قهّاران متساويين في قهرهما أبدًا؛ فالقهر المطلق لا يكون إلا مع الوحدة.. فلا يكون القهّار إلاّ واحدًا؛ إذ لو كان معه كفؤ له؛ فإن لم يقهره لم يكن قهّارًا على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤًا، وكان القهّار واحدًا.

ولهذا، فإن الَّذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الَّذي لا نظير له، وهو الَّذي يستحقّ أن يعبد وحده كما كان قاهرًا وحده، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ((ص: 65)؛ فأبطل الشّرك، وقرّر ألوهيّته بوحدته، وقهره لكلّ شيء.

ومن أسمائه الدالة على ذلك المتكبّر؛ أي العظيم، المتعالي عن صفات الخلق، والتاء في اسم المتكبّر تاء المتفرّد، والمتخصّص، لا تاء المتعاطي والمتكلّف (1)..

ومن أسمائه الدالة على ذلك اللّطيف؛ فقد فسّر بالَّذي لطف عن أن يدرك بالكيفيّة، وهذا التّفسير يتضمّن التّنزيه عن وجود المثل؛ لأنّ إدراك الكيفيّة إنّما يكون بمعرفة الذات، أو بمعرفة

__________

(1) ويحتمل أن يفسّر بما يعمّ النّقائص والعيوب؛ أي المتعالي عن مماثلة الخلق في ذواتهم وصفاتهم، وعن جميع النّقائص والعيوب؛ فيكون من أسماء التّمجيد المستوعبة لجميع معاني التّقديس، ويدخل بالتالي ضمن أسماء التّنزيه المطلق؛ كالصّمد، والمجيد، والعليّ.

الباحثون عن الله (228)

النّظير المماثل؛ فإذا تعذّر إدراك الكيفيّة على الخلق جميعًا كان ذلك دليلاً على انتفاء معرفتهم بحقيقة الذات، وعلى عدم النّظير المماثل الَّذي تعتبر ذات الخالق بذاته.

بالإضافة إلى هذا فإن جميع أسماء التنزيه المطلق تدل على هذا؛ كالقدّوس، والسّلام، والسبوّح؛ فإنها تدلّ على سلامة الربّ، وطهارته، ومباعدته عن كلّ عيب، أو نقص، وعن أن يكون له كفء في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله.

ومثل ذلك جميع أسماء التّمجيد، الَّتي تدلّ على جميع صفات الكمال؛ كالصّمد، والمجيد، والعظيم، والواسع، والأعلى؛ فإنّ هذه الأسماء تنافي جميع النّقائص؛ لأنّ ثبوت الكمال يستلزم نفي ضدّه، وما يستلزم ضدّه؛ وتنافي أيضًا وجود المثل والكفء؛ لأنّ اتّصاف الربّ بأعلى صفات الكمال يستحيل معه وجود المثل؛ لأنهما إن تماثلا ارتفع الكمال عنهما معًا، وإن لم يتماثلا فالكمال الأعلى لأحدهما وحده.

قال بعض الحاضرين: عرفنا الدليل، ولكنا لم نعرف المدلول.. فما المراد بتنزيه الله عن الشيه؟

قال ابن طاووس: المراد به أمران:

أما الأول.. فهو تمثيل المخلوق بالخالق.. وهو إما أن يكون كليا بوصف المخلوق بجميع صفات الخالق.. واعتباره بذلك ربا كما فعل المشركون.. وقد يكون جزئيًّا؛ وذلك بوصف المخلوق ببعض خصائص الخالق؛ كوصفه بالقدرة التامّة، والعلم المحيط، والإرادة النّافذة، والغنى المطلق..

وأما الثاني.. فالزعم أنّ الله على صورة الإنسان – مثلا - أو الزعم بأن في الله بعض صفات الإنسان.

قام بعض الحاضرين، وقال: كيف تقول هذا.. والقرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً..

فقد قال تعالى عن نفسه: (وَهُوَ السميع البصير (، وقال في حق الإنسان: (فجعلناه سَمِيعاً

الباحثون عن الله (229)

بَصِيراً ((الإنسان: 2).. وقال في حقه: (واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا ((هود: 37)، وقال في حق المخلوقين: (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع ((المائدة: 83)

وقد سمى نفسه عزيزاً فقال: (العزيز الجبار ((الحشر: 23)، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله: (يأَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ((يوسف: 78)، وقال: (ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر ((يوسف: 88)

وسمى نفسه بالملك، وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال: (وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ ((يوسف: 50)

وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال: (رَبُّ العرش العظيم ((التوبة: 129)

وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ ((غافر: 35)

ابتسم ابن طاووس، وقال: ألست ابن خزيمة (1

قال ابن خزيمة: بلى.. كيف عرفتني؟

قال ابن طاووس: لا تنشغل بذلك.. وأخبرني.. ألست أنت الذي تقول في الكتاب الذي سميته (التوحيد): (نحن نثبت لله وجهاً ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً، لكان قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه

__________

(1) أشير به إلى أبي بكر بن خزيمة (223 - 311 هـ) السُلمي، النيسابوري الشافعي، صاحب التصانيف، أحد أبرز علماء الحديث. من مؤلفاته: التوحيد وإثبات صفة الرب؛ ولا يخفى سر اختيارنا له هنا.

الباحثون عن الله (230)

الخنازير والقردة والكلاب.. ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له: وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه)

قال ابن خزيمة: بلى.. قد ذكرت هذا الكلام.. وما أوردته من النصوص دليل عليه.. فهل لك اعتراض على ما أقول؟

قال ابن طاووس: اسمح لي أن أذكر لك بأن السر في مذهبك هذا هو أنك لم تعرف جيدا حقيقة المثلين.. ولو أنك عرفتها لما وقعت فيما وقعت فيه.

قال ابن خزيمة: يشرفني أن تعلمني علمها..

قال ابن طاووس: المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته.. ولتفهم هذا تحتاج أن تعرف بأن المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته، وإما جزء من أجزاء ماهيته، وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية.

وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به.. وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة، ثم صارت في غاية السواد والحلاوة.. فالذات باقية والصفات مختلفة، والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة.. وهكذا نرى الشعر قد كان في غاية السواد، ثم صار في غاية البياض.. فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بهذا أن الذوات مغايرة للصفات.

قال ابن خزيمة: أنا أسلم لك بكل ما ذكرته من هذا.

قال ابن طاووس: ما دمت قد سلمت بهذا، فاعلم أن اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات أبدا، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكناً ثم يصير متحركاً، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة.. فثبت بهذا أن

الباحثون عن الله (231)

اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات.

قال ابن خزيمة: أنا أسلم لك بهذا أيضا.

قال ابن طاووس: إذا سلمت بهذا فاعلم أن الأجسام التي تألف منها وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس.. وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة، وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصوله.

فالاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة.. إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، وقد صدقوا، فإنه حصلت تلك المخالفة بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية.

قال ابن خزيمة: أنت ترد بهذا على ما ذكرت من الوجوه.

قال ابن طاووس: أجل.. فالكلام الذي أوردته إنما تخاطب به العوام.. وهم لا يعرفون أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها.

قال ابن خزيمة: لا بأس.. فلنفرض أني سلمت لك بهذا.. إن هذا يوقعك في القول بأن الأجسام كلها متماثلة.. فإن كنت تقول بذلك، فما دليلك عليه؟

قال ابن طاووس: ها هنا مقامان..

أما المقام الأول، فأن نعتبر هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة.. فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود.. وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي.. ويكون ذلك الجسم مخالفاً لماهية سائر الأجسام، فكان هو قديماً أزلياً واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة.. ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟

الباحثون عن الله (232)

قال ابن خزيمة: فإن قالوا: هذا باطل لأن القرآن دلّ على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة؟

قال ابن طاووس: يقال لهم حينذاك: إن هذا من باب الحماقة المفرطة، لأن صحة القرآن وصحة نبوّة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل.

قال ابن خزيمة: لا بأس.. فما المقام الثاني؟

قال ابن طاووس: المقام الثاني هو أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة (1).. وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسماً لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل.

أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثاً مخلوقاً قابلاً للعدم والفناء قابلاً للتفرق والتمزق.

وأما النقل فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء (

قال بعض الحاضرين: لدي إشكال في الآية أود أن تجيب عنه.

قال ابن طاووس: أنت ترى أن مقصود الآية هو نفي المثل عن الله تعالى بينما ظاهرها لا يوحي بذلك.. إذ أنه يوجب إثبات المثل لله تعالى؟

قال الرجل: أجل.. لقد نطقت بما كنت أريد أن أنطق به.. ألا ترى ذلك صحيحا؟

قال ابن طاووس: لقد أجاب العلماء على ذلك، فذكروا بأن العرب الذين نزل بلسانهم القرآن الكريم يقولون مثل هذا في حديثهم.. فهم يقولون مثلا: مثلك لا يبخل، أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه.. ويقول الرجل منهم: هذا الكلام لا يقال لمثلي..

__________

(1) والعلم الحديث أثبت ذلك الآن.. فمع تعدد أفراد العالم المادي في هذه النشأة إلا أنه مركب جميعا من مركبات واحدة محصورة.

الباحثون عن الله (233)

وهو يريد يذلك (لا يقال لي).. وقد قال الشاعر في هذا: (ومثلي كمثل جذوع النخيل)

وهم في ذلك ينحون منحى المبالغة.. فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفياً عمن كان مشابهاً بسبب كونه مشابهاً له، فلأن يكون منتفياً عنه كان ذلك أولى.

قام بعض الحاضرين، وقال: فهل تروي لنا شيئا مما ذكره أئمة الهدى من سلف هذه الأمة وصالحيها في تنزه الله عن الشبيه لتؤيد به ما تقول؟

قال ابن طاووس: أجل.. أروي في ذلك الكثير..

فقد سأل بعضهم الصادق فقال له: أخبرني أي الأعمال أفضل؟ قال: توحيدك لربّك.. قال: فما أعظم الذنوب؟ قال: تشبيهك لخالقك.

وحدث يونس بن ظبيان قال: دخلت على الصادق فقلت: يا ابن رسول الله! إنّي دخلت على بعضهم فسمعتهم يقولون: إنّ لله وجهاً كالوجوه، وبعضهم يقول: له يدان! واحتجّوا لذلك بقول الله تبارك وتعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) ((ص)، وبعضهم يقول: هو كالشاب من أبناء ثلاثين سنة.. فما عندك في هذا يابن رسول الله؟ قال: ـ وكان متّكئاً فاستوى جالساً ـ وقال: اللهمّ عفوك عفوك.. ثمّ قال: يايونس من زعم أنّ لله وجهاً كالوجوه فقد أشرك، ومن زعم أنّ لله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته، تعالى الله عمّا يصفه المشبهون بصفة المخلوقين.. فقوله: (.. خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.. (75) ((ص) فاليد القدرة، كقوله (.. وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ.. (26) ((الأنفال)، فمن زعم أنّ الله في شيء، أو على شيء، أو تحوّل من شيء إلى شيء، أو يخلو منه شيء، أو يشغل به شيء، فقد وصفه بصفة المخلوقين، والله خالق كلّ شيء، لا يقاس بالقياس ولا يشبه بالناس، لا يخلو منه مكان، ولا يشغل به مكان، قريب في بعده، بعيد في قربه، ذلك الله ربّنا لا إله غيره، فمن أراد الله بهذه الصفة فهو من الموحّدين، ومن أحبّه بغير هذه الصفة فالله منه بريء، ونحن منه براء)

وروي أنه قال لهشام: (إنّ الله تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، وكلّ ما وقع في الوهم فهو

الباحثون عن الله (234)

بخلافه)

وعنه أنه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا إنتقال ولا سكون ; بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والإنتقال، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً)

وقال الباقر لجابر: ياجابر.. ما أعظم فرية أهل الشام على الله عزّوجلّ، يزعمون أنّ الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدّس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمر الله تبارك وتعالى أن نتّخذه مصلّى.

ثم قال له: (ياجابر! إنّ الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين، وجلّ عن أوهام المتوهّمين، واحتجب عن أعين الناظرين، لا يزول مع الزائلين، ولا يأفل مع الآفلين، ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم)

الحاجة

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثاني.

قال: الثاني مما ينزه الله عنه هو الحاجة.. فالله تعالى منزّه عن كل الحاجات التي تفتقر إليها الحوادث..

فهو منزه عن الأكل والشّرب، والسِّنة والنّوم، والصّاحبة والولد، والشّريك، والظّهير، ونظائرها من لوازم الحدوث والاحتياج، قال تعالى: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ ((الأنعام: 14)، وقال: (اللَّهُ الصَّمَدُ ((الإخلاص: 2)، وقال: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ((البقرة: 255)، وقال: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ((الجنّ: 3)، وقال: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ((الإسراء: 111)، وقال: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ

الباحثون عن الله (235)

ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ((سبأ: 22)

وقد نطقت جميع أسماء الله الحسنى بالدلالة على هذا.. فمن أسماء الله تعالى: الأوّل، والآخر، والحيّ، والقيوّم، والواجد، والغني، والملك، والقهّار.. وغيرها.. وكل هذه الأسماء تبطل الاحتياج من أصله؛ لأنّها تدلّ على وحدانيّة الربّ، وأزليّته، وأبديّته، وكمال حياته، وقيامه بنفسه؛ فلا يفتقر لغيره، لا في وجوده، ولا في بقائه، ولا في صفاته، وأفعاله، وتدلّ على إقامته لغيره، وعلى عموم قهره، وكمال غناه وملكه، فلا يحتاج ما يحتاجه المخلوق الفقير المحدث من الأكل والشّرب، والسِّنة، والنّوم، والصّاحبة، والولد، والشّركاء والأعوان.

الجهل

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثالث.

قال: الثالث مما ينزه الله عنه هو الجهل.. فالله تعالى وسِع كلّ شيء علمًا، وأحصى كلّ شيء عددًا، فما من شيء قلّ أو جلّ إلاّ أحاط به علمه، وجرى به قلمه، فلا يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، قال تعالى: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ((إبراهيم: 38)، وقال: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ((هود: 123)؛ والغافل الَّذي لا يفطن للأمور؛ إهمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي الَّتي لا عَلَم بها، ولا أثر عمارة، وقال: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ((طه: 52)؛ أي لا يغيب عنه شيء، ولا يغيب عن شيء، أو لا يفوت علمه شيء، ولا ينسى شيء.

وقد نطقت أسماء حسنى كثيرة بالدلالة على كمال علم الله، وكمال إحاطته بكلّ شيء؛ أزلاً وأبدًا، غيبًا وشهادة، وعلى تقديسه عن الجهل بجميع صوره ومظاهره؛ لأنّ إثبات الشّيء نفي لضدّه ولما يستلزم ضدّه عقلاً وسمعًا.

فمن ذلك الأسماء الدالة على شمول العلم، وانتفاء جميع صور الجهل؛ كالعليم، والخبير،

الباحثون عن الله (236)

والمحيط، والواسع؛ أي الَّذي وسع علمه كلّ شيء، وأحاط بما في العالم العلويّ والسّفليّ، فلا يغيب عن علمه شيء.

ومن أسمائه ما يدلّ على كمال أسباب العلم؛ كالسّميع والبصير، والقريب، والرّقيب، والشّهيد، والمهيمن؛ وهو بمعنى الشّهيد؛ أي الحاضر مع عباده، يسمع أقوالهم، ويبصر أفعالهم، فلا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه، أو يفعلونه، قال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ((يونس: 61)

العجز

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الرابع.

قال: الرابع مما ينزه الله عنه هو العجز.. فالله تعالى على كلّ شيء قدير، كما أنّه بكلّ شيء عليم؛ فلا يسبقه شيء، ولا يعجزه ما يريد، قال تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ((الواقعة: 60)؛ أي وما نحن بعاجزين.

وقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ((فاطر: 44)؛ فنزّه تعالى نفسه عن العجز، وذيّل الآية بما يتضمّن علّة التّنزيه عنه من أسمائه، وهما العليم والقدير؛ لأنّ العجز سببه إمّا الجهل بأسباب الإيجاد، أو قصور الإرادة عن فعل المراد.

وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ((ق: 38)

وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ((الأحقاف: 33)

الباحثون عن الله (237)

وقد نطقت بالدلالة على تنزيه الله عن العجز وأسبابه أسماء كثيرة..

منها ما يدلّ على انتفائه؛ لشمول علمه، وكمال أسبابه، وآثاره؛ كالخبير، والسّميع، والحسيب.

ومنها ما يدلّ على انتفائه؛ لكمال قوّته، وشمول قدرته؛ كالقويّ، والعليّ، والوكيل.

ومن هذا الصنف ما يدلّ على انتفاء العجز وكمال القدرة بدلالة المطابقة؛ كالقادر، والقدير، والمقتدر، والمقيت - أي المقتدر بحسب بعض معانيه- وكالقويّ، والمتين، أي تامّ القدرة؛ فلا يشقّ عليه فعل، ولا يلحقه عجز، أو فتور، أو وهن.

الجسمية

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الخامس.

قال: الخامس مما ينزه الله عنه هو الجسمية..

نهض بعض تلاميذه، وقال: كيف تقول ذلك يا شيخنا، وقد رأيت في بعض بلاد المسلمين من يعتبر الجسمية من لوازم الذات.. فلا يتصور ذاتا من غير جسم.. حتى أن بعضهم يذكر جواز لمس اللّه، ومصافحته ومعانقته.. بل إن بعضهم قال: (معبودي جسم، وله جوارح وأعضاء، من يد ورجل، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنين، ومع ذلك فهو جسم لا كالاجسام.. وليس كمثله شيء)

ابتسم ابن طاووس، وقال: أولئك قوم يدعون بالمجسمة.. وهم قوم دعاهم إلى ذلك أمران:

أما أحدهما، فهو أنسهم المفرط بعالم المادة والمحسوسات.. وهو أنس مصحوب بالسذاجة والجهل الذي لا يسمح لهم بتقبل شي غير المادة.. وهو أنس يؤدي الى مقايسة اللّه عز وجل بالإنسان وصفاته.

وأما ثانيهما، فما ورد في النصوص المقدسة من التعابير الكنائية والمجازية حيث لم يستطيعوا

الباحثون عن الله (238)

أن يرتقوا ليفهموها على ضوء لغة العرب وأساليبها في البيان.

قال التلميذ: دعنا منهم.. وحدثنا عن الأدلة التي تلزمنا بتنزيه الله عن الجسمية.

قال ابن طاووس: سأذكر لك أربعة براهين على هذا.. قد تكون كافية لإقناعك.

قال الرجل: فهات أولها.

قال ابن طاووس: الأول هو أن الجسم يقتضي التركيب ذلك أنه مكون من أبعاد ثلاثة، من العرض والطول والعمق، والمركب مفتقر في وجوده الى وجود أبعاضه، وما كان مفتقرا في وجوده فليس واجب الوجود.

قال الرجل: إن ما قام عليه هذا البرهان يحتاج إلى المزيد من التوضيح والاستدلال.. فكيف يتنافى التركيب مع وجوب الوجود؟

قال ابن طاووس: للتركيب ثلاثة أنواع كلها منتفية عن الله تعالى.. أولها: التركب من الأجزاء الخارجية.. والثاني: التركب من الأجزاء العقلية.. والثالث: التركب من الوجود والماهية.

قال الرجل: فما برهان استحالة تركب واجب الوجود من الأجزاء الخارجية؟

قال ابن طاووس: لذلك براهين كثيرة:

منها أن لوجود الجزء تقدما بالطبع على وجود الكل بالبداهة، فيكون مفتقرا إليه، وهو ينافي كونه واجب الوجود.

ومنها أن الكل المركب من جزئين خارجيين ذو جانبين، وجانبه هذا غير جانبه ذاك، فهو بجانبه هذا غائب ومنعدم عن جانبه الآخر، وبجانبه الآخر منعدم وغائب عن هذا الجانب.. وواجب الوجود شديد الوجود في الغاية لا طريق للنقص والقصور إليه.

ومنها أن وجود الكل في الخارج هو بعينه وجود الأجزاء، فلوفرض للواجب أجزاء خارجية:

فإما أن يكون وجود كل واحد من الأجزاء بنفسه بالفعل، فيكون وجود الكل ووحدته

الباحثون عن الله (239)

اعتباريا، فليس الكل واجب الوجود.

وإما أن يكون وجود الكل بالفعل، فيكون وجود كل واحد منها بنفسه بالقوة، وهو ينافي وجوب الوجود، فليست الأجزاء واجبة الوجود، فيلزم تركب الواجب من الأجزاء غير واجبة الوجود.

قال الرجل: وعيت هذا، فما برهان استحالة تركب واجب الوجود من الوجود والماهية؟

قال ابن طاووس: واجب الوجود جلت عظمته ليس له ماهية غير وجوده..

قال الرجل: إن ما تقوله خطير..

قال ابن طاووس: اصبر علي حتى أوضح لك مرادي.. إن مرادي من قولي ذلك هو أن كل موجود ممكن الوجود يتركب من الماهية والوجود، وبعبارة أخرى: كل ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية.. وأما واجب الوجود فماهيته عين وجوده، وبعبارة أخرى: ماهيته إنيته، وليس له ماهية سوى وجوده.

قال الرجل: فما برهان هذا؟

قال ابن طاووس: لهذا براهين كثيرة..

منها أن الماهية لا تقتضي الوجود بذاتها.. بل وجودها في الخارج يفتقر إلى علة توجدها.. ومن البديهي أن وجود العلة غير وجود المعلول، ويتقدم عليه.. ومن هذا يعلم أن واجب الوجود وجود محض، وليس له ماهية غيره، وإن كان له ماهية كان اتصافها بالوجود مفتقرا إلى علة، وكان وجود العلة غير وجوده لا محالة، فكان ممكن الوجود، وهذا خلف.

ومنها أنه لو كان لواجب الوجود ماهية غير وجوده لحكم العقل عند تصورها بكونها في نفسها ممكنى الوجود.. لأن تلك الماهية لا تخلو من أنها: إما ممتنعة الوجود، أو واجبة الوجود، أو ممكنة الوجود.. فإن كانت ممتنعة الوجود لكان منافيا لكونها واجب الوجود لا محالة.

وان كانت واجبة الوجود يلزمها:

الباحثون عن الله (240)

أولا: أن تكون ماهيته مقتضية لوجودها، فيكون وجوده معلولا، فلا يكون وجوده بنفسه واجبا، بل ممكنا.

وثانيا: أن الماهية لأجل كليتها في اللحاظ لا تأبى عن حدوث مصاديق أخرى لها وان كانت بالفعل ذات مصاديق عديدة، والحدوث ينافي وجوب الوجود.

وان كانت ماهيته ممكن الوجود في نفسها، فلا يكون بحسب ماهيته واجب الوجود، وهذا خلف.

فيثبت بعد هذه المقدمات: أن واجب الوجود لا ماهية له، وبعبارة أخرى: ماهيته عين وجوده، ولا يقبل التحليل إلى ماهية ووجود أصلا.

وينتج ذلك أن واجب الوجود - الذي منه وجود جميع الموجودات - هو منبع الوجود والوجود البحت، وصرف الوجود والوجود المطلق.

ونعني بالوجود المطلق: هو الوجود بشرط لا، أي لا حد له، لا المطلق لا بشرط، بمعنى عدم تقيده بحد، فإنه لا ينافي اي حد من الحدود.

والوجود المطلق لا بشرط هو الوجود الصادر منه جلت عظمته، فبأي ماهية تعلق يكون محدودا بحدها، وليست الماهيات إلا حدود الوجود.

ومنها أنه لو كان لواجب الوجود ماهية لا يخلو أن تكون إما عرضا أو جوهرا، فإن الجوهر هو ماهية إذا وجد وجد في نفسه، والعرض ماهية إذا وجد وجد في غيره.

والجوهر جنس عال يفتقر تحققه في الخارج إلى تعينه في ضمن نوع من أنواعه، ويفتقر إلى فصل هو المعين لذلك النوع.

فلو كان لواجب الوجود ماهية لافتقرت إلى جزئين: ما به الاشتراك، وما به الامتياز، والافتقار ينافي وجوب الوجود.

مضافا إلى أن الجوهر ممكن الوجود، ولذلك يوجد في ضمن الوجودات الممكنة.

الباحثون عن الله (241)

التفت ابن طاووس للرجل، وقال: لقد ذكر سلفنا الصالح من العلماء والأولياء هذا المعنى، فقد قال علي وهو يذكر الله: (ومن حده فقد عده).. وقال السجاد: (إن اللّه لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية؟)

قال الرجل: عرفت البرهان الأول.. فهات البرهان الثاني.

قال ابن طاووس: البرهان الثاني هو تناهي الجسم وكونه محفوفا بالإعدام من الجوانب الستة.. والواجب يمتنع تطرق العدم إليه بوجه من الوجوه.

قال الرجل: فما البرهان على ذلك؟

قال ابن طاووس: إن البراهين على هذا كثيرة:

منها: أنه لو كان الجسم غير متناهي الأبعاد، نفرض فيه نقطة خرج منها خطان حصل منهما زاوية، وامتد الخطان بامتداد الجسم، فلو كان الجسم غير متناه امتد الخطان إلى غير النهاية، ولما كان مقدار الانفراج بين خطي الزاوية بنسبة مقدار امتداد الخطين، استلزم كون الخطين غيرمتناهيين، فيكون الانفراج بينهما أيضا غير متناه، وذلك يناقض كونه محصورا بين الخطين.

ومنها: أنه إذا فرض خط ممتد إلى غير النهاية، ونفرض هناك كرة في جانب الخط غير المتناهي تدور حول محور الخط المتصل بين قطبيها اللذين أحدهما فوق الخط غير المتناهي والآخر تحته وقبل شروعها في الدوران نفرض خطا خارجا من الكرة عمودا على خط المحور موازايا للخط غير المتناهي، يمتد معه إلى غير نهاية، فإذا دارت الكرة إلى جهة الخط غير المتناهي يتقاطع الخط الخارج من الكرة مع الخط غير المتناهي نقطة فنقطة.

فأول نقطة تقاطع الخطين هي نقطة من الخطين لا نقطة للخطين في امتدادهما بعد تلك النقطة، وإلا لكان التقاطع فيها قبل التقاطع في تلك النقطة.

فثبت أن أول نقطة التقاطع آخر نقطة من الخطين، فالخطان متناهيان لا محالة، وقد فرض كونهما غير متناهيين، وهذا خلف.

الباحثون عن الله (242)

ومنها: برهان التطبيق، وهو أنه لو فرضنا ستة خطوط خرجت من نقطة من داخل الجسم إلى الجهات الست ممتدة بامتداد الجسم، ثم قطعنامن كل خط قطعة من جانب تلك النقطة.

فلو فرضنا تطبيق محل القطع من الخط على النقطة المبتدئ منها أصل الخط قبل القطع، فإما أن يمتد إلى غير النهاية، فيكون الزائد مثل الناقص، وهو ممتنع، أو يقصر عنه بمقدار تلك القطعة، فيكون متناهيا، وكذا أصل الخط لزيادته عليه بمقدار تلك القطعة فقط لا اكثر، فثبت تناهي أبعاد كل جسم.

ويمكن تقرير البرهان بدون فرض التطبيق بأنه: إن كان باقي الخط بعد قطع قطعة مساويا لأصل الخط قبل القطع لزم مساواة الجزء للكل، وهو محال، وإن كان أقل منه لزم كونه متناهيا، وكذلك أصل الخط، لكونه أزيد منه بمقدار تلك القطعة فقط.

قال الرجل: عرفت البرهان الثاني.. فهات البرهان الثالث.

قال ابن طاووس: البرهان الثالث هو أن كل جسم حادث.. ولذلك يستحيل أن يكون واجب الوجود جسما.

قال الرجل: فما الدليل على ذلك؟

قال ابن طاووس: لذلك أدلة كثيرة..

منها أن الجسم لا ينفك عن الحركة أو السكون بالبداهة، فإن الجسم إما ساكن في مكان، أو متحرك من مكان إلى مكان آخر لا محالة.

ومعنى الحركة: هو الكون في الآن الاول في مكان، وفي الآن الثاني في مكان آخر.. ومعنى السكون هو الكون في الآن الآول في مكان والكون في الآن الثاني في ذلك المكان بعينه.

فكل جسم قد تشكل من كونين: الكون في الآن الأول في مكان، والكون في الآن الثاني في ذلك المكان أو مكان آخر.

وهذا يؤدي إلى أن الكون في الآن الأول في مكان، والكون في الآن الثاني في ذلك المكان أو

الباحثون عن الله (243)

مكان آخر، وجودان متمايزان، يمكن أن يوجد أحدهما ولا يوجد الآخر.

وذلك لأن لكل جسم له وجود خاص، وتشخص يتمايز به عن الأجسام الأخرى ويغايرها، وذلك التشخص هو الكون في زمان خاص في مكان خاص (1).

ولما كان منبع التشخص هو الوجود وكان تشخصه بذاته، كانت اللوازم والمشخصات كلها منبعثة من نفس وجود الجسم، فيكون تبدل الكون في زمان خاص في مكان خاص مستلزما لتبدل وجود ذلك الجسم.

وبما أن الكون هو الوجود، فتبدله هو تبدل الوجود، فالجسم لايزال يتبدل وجوده، وله في كل آن وجود غير وجوده في الآن السابق عليه، وغير وجوده في الآن اللاحق عليه.

فالحركة والتبدل إنما هو في وجوده لا في أمر خارج عن وجوده يكون له وجود آخر، فالحركة في ذاته وجوهره، فثبت أن كل جسم له حركة جوهرية.

وهذا كله يؤدي إلى أن حقيقة الحركة هي الوجود والعدم.. آنا فنا.

فكل جسم يوجد وينعدم آنا فآنا، وكل وجود له في آن مسبوق بعدمه وملحوق بعدمه.

نعم، لو لوحظ ماهية الجسم، فليست الحركة والسكون داخلة في ماهيته، بل هما خارجتان عن ماهية الجسم عارضتان عليها، وأما وجودالجسم وكونه ليس مغايرا لوجوده وكونه في الآن الأول، بداهة أنه ليس له وجودان في آن واحد، أحدهما وجوده، والثاني وجوده في ذلك الآن، بل ليس له إلا وجود واحد، فتبدله في الآن الثاني هو انعدام وجوده في الآن الأول ووجود وجود آخر له.. وهكذا في الآنات المتوالية إلى آخرها، وإن كان لوجوداته في الآنات المتوالية صورة متصلة ويقال له جسم واحدباعتبارها، كما أن الصورة الاتصالية للحركة تقتضي إطلاق حركة واحدة عليها من أولها الى آخرها.

وهذا كله يؤدي إلى أن الجسم لا يزال حادثا يتجدد حدوثه في كل آن، والحادث في كل آن

__________

(1) وهذا بعينه ما تنص عليه النظرية النسبية من اعتبار الزمان بعدا رابعا متمما لسائر الأبعاد.

الباحثون عن الله (244)

غير الحادث في الآن المتقدم عليه.

وبهذا كله يثبت استحالة كون الجسم واجب الوجود، فواجب الوجود تعالى ليس بجسم بالضرورة، لأنه يمتنع عليه العدم، ومنه وجود جميع الموجودات، وهو مكون جميع الكائنات.

قال الرجل: عرفت البرهان الثالث.. فهات البرهان الرابع.

قال ابن طاووس: البرهان الرابع هو ما ورد في النصوص المقدسة الكثيرة من نفي كل مستلزمات الجسمية عن الله.. والتي سنعرف بعضها عند الحديث عن تنزيه الله عن المحل الزماني والمكاني.

قال الرجل: فما تقول فيمن وقع في التجسيم.. هل تكفره.. أم تراك تكتفي بتبديعه؟

قال ابن طاووس: لا هذا، ولا ذاك.

قال الرجل: كيف ذلك، وأحسنهم حالا من يقول بتبديعك، وتبديع من يقول بقولك؟

قال ابن طاووس: أنا لا أجرؤ على تكفير مسلم أو تبديعه لرأي رآه، أو اعتقاد اعتقده أداه إليه اجتهاده.. هكذا علمنا نبينا.. وهكذا علمنا ورثته من بعده.

الزمان

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السادس.. حدثنا عن تنزه الله عن الزمان..

قال: يكفيكم في تنزيه الله عن الزمان معرفتكم باسمين عظيمين من أسماء الله الحسنى.. هما (الأوَّلُ) و(الآخِرُ)

قالوا: فما الذي يدل عليه هذان الاسمان؟

قال: كل حادث مخلوق مرتبط بالزمن.. والله وحده هو الذي لا يجري عليه الزمان.. فهو

الباحثون عن الله (245)

أقدس من أن يؤثر فيه الزمان، أو يتأثر بالزمان، لأنه هو خالق الزمان (1):

فهو الموجود قبل كل موجود، لأنه هو الخالق لكل موجود، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) ((الأنعام)، وقال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) ((الزّمر)

وهو الباقي بعد كل موجود.. فالذّوات كلّها فانية وزائلة إلاّ ذاته المقدّسة، فإنها منزّهة عن هلاك المحدثات وزوالها، قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ((القصص: 88)، وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) ((الرّحمن)، وقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ((الفرقان: 58)

وهذا ما تنطق به أسماء الله الحسنى.. كالحيّ، والقيّوم، والآخر، والباقي، والوارث وغيرها..

المكان

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السابع.. حدثنا عن تنزه الله عن المكان..

قال: يكفيكم في تنزيه الله عن المكان معرفتكم باسمين عظيمين من أسماء الله الحسنى.. هما (الظَّاهِرُ) و(البَاطِنُ)

__________

(1) ذكر الفخر الرازي البرهان على هذا في تفسير معنى (الأول)، فقال: (وأما التقدم الزماني فباطل، لأن الزمان أيضاً ممكن ومحدث، أما أولاً فلما بينا أن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد، وأما ثانياً فلأن أمارة الإمكان والحدوث فيه أظهر كما في غيره لأن جميع أجزائه متعاقبة، وكل ما وجد بعد العدم وعدم بعد الوجود فلا شك أنه ممكن المحدث، وإذا كان جميع أجزاء الزمان ممكناً ومحدثاً والكل متقوم بالأجزاء فالمفتقر إلى الممكن المحدث أولى بالإمكان والحدوث، فإذن الزمان بمجموعه وبأجزائه ممكن ومحدث، فتقدم موجده عليه لا يكون بالزمان، لأن المتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان، وإلا فيلزم في ذلك الزمان أن يكون داخلاً في مجموع الأزمنة لأنه زمان، وأن يكون خارجاً عنها لأنه ظرفها، والظرف مغاير للمظروف لا محال، لكن كون الشيء الواحد داخلاً في شيء وخارجاً عنه محال، وأما ثالثاً فلأن الزمان ماهيته تقتضي السيلان والتجدد، وذلك يقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فالجمع بينهما محال، فثبت أن تقدم الصانع على كل ما عداه ليس بالزمان ألبتة)

والعلم الحديث يؤكد هذا، فهو يذهب إلى أن الزمان كالمكان كلاهما حادث.

الباحثون عن الله (246)

قالوا: فما الذي يدل عليه هذان الاسمان؟

قال (1): أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان.. أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له، والخلاء الذي لا غاية له، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ، ولا لاستقراره منزل.

فالأول والآخر صفة الزمان.. والظاهر والباطن صفة المكان.. والحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً.. ووسع الزمان أولاً وآخراً.. وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزهاً عن المكان والزمان.

قالوا: زدنا إيضاحا.

قال: اقرأوا هذه الآيات بعين البصيرة لتعلموا أن الله خالق المكان أعظم من أن ينسب إلى مكان.

قال ذلك، ثم راح يرتل بخشوع هذه الآيات..: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ((الحديد:4).. (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ((المجادلة:7).. (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ((التوبة:40).. (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ((طه:46).. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ((النحل:128).. (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ((الأنفال:46).. (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ((البقرة:249).. (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) ((البقرة)

__________

(1) هذا الكلام المهم للفخر الرازي في التفسير الكبير.

الباحثون عن الله (247)

قال بعض الحاضرين: فما البرهان العقلي على تنزيه الله عن المكان؟

قال ابن طاووس (1): لقد ثبت في العلوم العقلية بأدلة كثيرة – لس هذا موضع ذكرها - أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي، وإما البعد المجرد والفضاء الممتد، وليس يعقل في المكان قسم ثالث.

بناء على هذا، فقد ثبت أن أجسام العالم متناهية، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء، ولا مكان ولا جهة، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم.

وإن كان المكان هو الثاني، فإن طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز.. وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون.. وكل ما كان كذلك كان محدثاً بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول.. وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين.. فيلزم كون الإله محدثاً، وهو محال.

فثبت بهذا أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات.

قال بعض الحاضرين: فما تقول في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) ((طه)؟

قال ابن طاووس: أقول فيها ما قالت العرب، فالقرآن نزل: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ((الشعراء)

قال الرجل: فما قالت العرب؟

قال ابن طاووس: لقد قال شاعرهم:

اذا ما بنو مروان ثلت عروشهم... وأودت كما أودت إياد وحمير.

يريد: إذ ما بنو مروان هلك ملكهم وبادوا.

وقال آخر:

أظننت عرشك... لا يزول ولا يغير

__________

(1) هذه البراهين ذكرها الرازي في تفسيره.

الباحثون عن الله (248)

يعني: أظننت ملكك لا يزول ولا يغير.

فعرش اللّه تعالى هو ملكه.. واستواؤه على العرش هو استيلائه على الملك.. والعرب تصف الاستيلاء بالاستواء، كما قال شاعرهم:

قد استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق

يريد به: قد استولى على العراق.

لقد قال شيخنا الطبرسي في تفسيره لذلك: (يعني استقر ملكه واستقام، وإنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العرب، كقولهم: استوى الملك على عرشه: اذا انتظمت أمور مملكته، وإذا اختل أمر ملكه قالوا: ثل عرشه، ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير، ولا يجلس على سرير أبدا) (1)

قال الرجل: فلم لا تقول بظاهر النص كما يقول به بعض أهل هذه الحلقات التي تحيط بنا؟

قال ابن طاووس: لأن ذلك يؤدي إلى محالات كثيرة.. أشار إليها العقل والنقل..

قال الرجل: أنا لا أريد إلا النقل.. فالعقل معقول دون معرفة حقيقة ربه.

قال ابن طاووس: لقد قال تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية ((الحاقة: 17) فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملاً للإله، فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً، ومحفوظاً حافظاً، وذلك لا يقوله عاقل.

وقال تعالى: (والله الغنى ((محمد: 38) فحكم بكونه غنياً على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة.

وعندما طلب فرعون حقيقة الإله من موسى - عليه السلام - لم يزد موسى - عليه السلام - على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال: (وَمَا رَبُّ العالمين ((الشعراء: 23) ففي المرة الأولى قال: (رَبِّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ((الدخان: 7)، وفي الثانية قال (رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين ((الشعراء: 26)، وفي المرة الثالثة: (قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا إِن

__________

(1) مجمع البيان.

الباحثون عن الله (249)

كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ((الشعراء: 28) وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية.. وأما فرعون فإنه قال: (ياهامان ابن لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى ((غافر: 36، 37)، فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى، وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة.

قال آخر: فما تقول في النصوص التي توهم المكان؟

قال ابن طاووس: أفهمها على ضوء النصوص التي لا توهم المكان.. فالمحكم يحمل على المتشابه.

قال الرجل: ألست تفر بذلك إلى التأويل؟

قال ابن طاووس: ما دامت العرب وجميع الأجناس تقصد في كلامها الظاهر والمؤول.. فلا حرج في أن ينزل القرآن بجميع ذلك.. ففيه الظاهر المحكم، وفيه المؤول المتشابه الذي اختص الراسخون في العلم بعلمه.

قال الرجل: ولكنهم يذكرون أن التأويل تعطيل.

ابتسم ابن طاووس، وقال: فقد رموا أنفسهم بالتعطيل إذن؟

قال الرجل: كيف تقول ذلك؟

قال ابن طاووس: فما يقولون في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) ((المجادلة)

قال الرجل: يقولون: هو معهم بعلمه.

قال ابن طاووس: أرأيت إن قلت لك: كنت مع فلان البارحة.. فما تفهم منها؟

قال الرجل: أفهم منها أنك كنت عنده.

قال ابن طاووس: بذاتي أم بعلمي؟

الباحثون عن الله (250)

قال الرجل: بذاتك.. هذا هو ظاهر اللفظ.

قال ابن طاووس: فهم قد تركوا ظاهر اللفظ إذن..

قال الرجل: ذلك صحيح.

قال ابن طاووس: وهذا هو التأويل.. ويستحيل عليهم أن لا يقعوا فيه..

قال الرجل: ولكنهم غلبوا بذلك نصوصا أخرى.

قال ابن طاووس: هم بين أمرين.. بين أن يغلبوا التنزيه الذي دلت عليه النصوص، ودل عليه معها العقل.. وبين أن يغلبوا نصوصا موهمة يوجهونها كما يشاءون، ويؤولون غيرها كما يشاءون.

قال الرجل: ولكنهم يروون عن بعض السلف أقوالا تؤيد أقوالهم.

قال ابن طاووس: أعظم السلف وأشرفهم آل بيت رسول الله (.. وكلهم يقول بما أقول..

قال الرجل: فهل تروي لنا من ذلك شيئا؟

قال ابن طاووس: لقد حدث إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا: يابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله (أنّه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا)، فقال: لعن الله المحرّفين للكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله (كذلك، إنّما قال (: (إنّ الله تبارك وتعالى يُنزل ملكاً إلى السماء الدنيا كلّ ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أوّل الليل فيأمره فينادي: هل من سائل فاُعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ياطالب الخير أقبل، ياطالب الشرّ أقصر ; فلا يزال ينادي بهذا إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السماء) حدّثني بذلك أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن رسول الله () (1)

وحدث ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان؟

__________

(1) انظر: بحار الأنوار: (ج 3 ص 314 ب 14 ح 7)

الباحثون عن الله (251)

فقال: تعالى الله عن ذلك.. قلت: فلِمَ أسرى نبيّه محمّد (إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماء وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.. قلت: فقول الله عزّوجلّ: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) ((النجم)، قال: ذاك رسول الله (دنا من حجب النور، فرأى ملكوت السماوات، ثمّ تدلّى (فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.

وحدث يونس بن عبدالرحمن قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر: لأي علّة عرج الله بنبيّه (إلى السماء، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان؟ فقال: (إنّ الله لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، لكنّه عزّوجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبهون، سبحان الله وتعالى عمّا يصفون)

-\--\-

كان إلى جنب حلقة (ابن طاووس) حلقة لفتت انتباهي، فقد كان الأصوات ترتفع فيها بقوة، وكأنها تريد أن تزاحم بها صوت (ابن طاووس) وتلاميذه.

لست أدري كيف تخلصت من ذلك اللجام الذي كان يلجم لساني الحديث، فقلت لابن طاووس: من هؤلاء؟.. ومن هو زعيم حلقتهم؟.. ولم يرفعون أصواتهم هكذا؟

ابتسم ابن طاووس، وقال: هؤلاء إخوان لنا فيهم العلماء.. وفيهم طلبة العلم.. وقد اعتزلوا حلقتنا لخلافهم معنا في بعض ما ذهبنا إليه من العلم..

قلت: فما هي الآراء التي خالفوكم فيها؟.. وما أدلتهم على ذلك؟

قال: لا يحسن أن يحدث عن المرء إلا لسانه.. فاذهب إليهم واسألهم.

الباحثون عن الله (252)

قلت: ألا تعتبرني معتزليا (1) بذلك؟

قال: لا.. كلنا مسلمون.. نحن وهم.. نحن اختلفنا في بعض المسائل.. ولنا من الأدلة ما نرى أنه قطعي.. ونحن نستند إليه.. ولهم كذلك من الأدلة ما يرون قطعية.. ومن الحرج العظيم أن نلزمهم بما نراه من آراء.

قلت: ألست تبدعهم؟

قال: أنا مبلغ عن الله.. وداعية إلى الله.. لا قاض.. ولا ديان.. الله تعالى هو القاضي، وهو الديان الذي يحكم بيننا كما يحكم بين الخلائق جميعا فيما اختلفوا فيه.

قال ذلك، ثم أشار إلي أن أجلس إلى حلقتهم..

وقد فعلت.. ولكني لا أريد أن أبث إليكم الآن ما سمعته فيها لأني لا أرى أنها تنسجم مع عقولكم (2)..

2 ـ قداسة الأفعال الإلهية

قلنا: لقد عرفنا المدى الذي وصل إليه المسلمون في تقديسهم لذات ربهم.. فحدثنا عن موقفهم من تقديس أفعاله.

قال: في سوق من أسواق قم.. رأيت رجلا يلتف الناس حوله، وقد سمعتهم يطلقون عليه

__________

(1) لا نريد بالمعتزلي هنا الفرقة المعروفة.. إنما ذكرنا هذا هنا من باب السخرية من القضايا التي فرقت الأمة مع كونها لا تستحق كل ذلك العناء.

(2) أشير هنا إلى مدرسة أهل الحديث والتي قعد قواعدها ابن تيمية وغيره، قد كنت ذكرت تفاصيل آرائها في الطبعة السابقة، لكني عدلت عن ذكرها هنا، لأنا شرطنا في هذه السلسلة الجديدة ألا نذكر إلا ما يتوافق فيه المنقول مع المعقول، وآراء أهل الحديث في هذه المسألة تصطدم مع كليهما.

الباحثون عن الله (253)

لقب (مؤمن الطاق) (1)، فهرعت معهم إليه، لأسمع ما يقول.

وقد كان من حسن حظي أن سائلا سأل مؤمن الطاق عن الموضوع الذي كنت أبحث عنه، فقد قال له: يا مولانا.. نرى بعض الناس يصفون ربنا بأوصاف لا يرضونها لأنفسهم.. فما تقول في ذلك؟

قال: وما يقولون؟

قال الرجل: إنهم يصفونه بالماكر، والمستهزئ، والكائد.. ويعتبرون ذلك من أسماء الله الحسنى.. ويستدلون لذلك من القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ((آل عمران: 54)، وقوله: (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ((البقرة: 14 - 15)، وقوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا ((الطّارق: 15، 16)

__________

(1) أشير به إلى أبي جعفر الاَحول، الصيرفي، الكوفي، وهو حمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي بالولاء (ت 160 هـ)، المتكلّم المناظر الفقيه الملقب بمؤَمن الطاق، أو (صاحب الطاق)، وإنّما سمّي بالطاق لاَنّه كان صيرفياً في (طاق المحامل) من أسواق الكوفة.

وكان رأساً في العلم والعمل، ثقة، كبير الشأن.. صحب الاِمام جعفر الصادق، وأخذ عنه العلوم والمعارف، وروى عنه، كما عدّ من أصحاب الاِمام موسى الكاظم.

وكان من أحذق أصحاب الصادق، ومن أحبّ الناس إليه، وقد صحّ عنه أنّه كان يقول: (أربعة أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً: بُريد بن معاوية البجلي، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو جعفر الاَحول)

كان أبو جعفر كثير العلم، متفوّقاً في معارفه، قوياً في حجته، تعددت فيه نواحي العبقرية والنبوغ، فهو عالم بالفقه والكلام والحديث، ذكره ابن النديم، فقال: (كان حسن الاعتقاد والهدي، حاذقاً في صناعة الكلام، سريع الخاطر والجواب)

وكان يتمتع بشخصية فذة، ذا فهم ثاقب وفطنة وذكاء، وكان معروفاً بعلم الكلام وقوة الحجّة، وكثرة المناظرة وخاصة في مسألة الاِمامة، حيث كان محبّاً لاَهل البيت منقطعاً إليهم، مجاهراً ـ برغم قسوة الظروف وجور الحكام ـ في القول بفضلهم، وكان يتفوّق دائماً في مناظراته لما عُرف به من سرعة الجواب، وقوة العارضة، وقد ذكر له ابن النديم والخطيب البغدادي وغيرهما عدة مناظرات، فمن أرادها فليرجع إلى كتبهم.

وننبه إلى أن بعض خصومه نسبوا إليه جملة من الاَقوال والآراء التي لا تليق بعقيدته وشأنه كزعمهم بأنّه كان من المشبهة، وانّه كان يقول: إنّ اللّه تعالى إنّما يعلم الاَشياء إذا قدرها، والتقدير عند الارادة، وللاِرادة فعل، إلى غير ذلك من المزاعم التي هو منها بريء، والتي لم تثبت.. وإنما ذكرناه هنا لأجل بيان فضله وتنزيهه مما نسب إليه.

الباحثون عن الله (254)

ابتسم مؤمن الطاق، وقال: من حدثكم عن سبع (1) ينسبها لربه، فقد كذب.. فربنا أجل وأكرم من أن يتصف بها.

قالوا: فما هي؟

قال: المكر، والظلم، والبخل، والخلف، والإهمال، والعبث، والضرر.

المكر

قال الرجل: كيف تنفي المكر عن الله، والآية صريحة في ذكره.. فالله تعالى يقول: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) ((آل عمران)، ويقول: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ((الأنفال)

قال: المكر في اللغة وفي عرف الناس يراد به أمران:

أما أحدهما، وهو المشهور المتعارف عليه بينهم، وهو ما ينفيه كل عاقل عن الله، فهو (التَّبْييت بشيءٍ خفِيً يضرّ الخَصْم).. فالذي يمكر ويبيت شيئاً خفيّاً بالنسبة لعدوه ضعيف لا يملك القدرة على المواجهة، فلذلك يلجأ إلى أن يبيت من ورائه.. ولو كانت عنده قدرة على المواجهة فلن يمكر؛ لذلك لا يمارس المكر إلا الضعيف..

لأن الضعيف إن أصاب فرصة استغلها حيث يظن أنه قد لا تتاح له فرصة ثانية؛ لذلك يندفع إلى قتل خصمه. أمَّا القوي فهو يثق في نفسه وقدراته، ولذلك يعطي خصمه فرصة ثانية وثالثة، ثم يعاقب خصمه على قدر ما أساء إليه.

هذا هو المعنى الأول، وهو مستحيل على الله تعالى بدلائل النصوص المقدسة الكثيرة التي تنزهه عن الضعف والعجز.

__________

(1) السبع هنا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهو ما جرينا عليه في (رسائل السلام) من دلالة السبع على المثال لا على الحصر، بخلاف الأربع التي اعتبرناها دالة على الحصر.

الباحثون عن الله (255)

وأما المعنى الثاني، وهو صرف الغير عمّا يقصد خيراً كان أم شرّاً.. فلا حرج في نسبة ذلك لله.. وهذا ما أرادته الآيات الكريمة..

فالله تعالى في قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) ((آل عمران) يخبرنا أن أعداء المسيح - عليه السلام - الذين وضعوا الخطط الشيطانية للوقوف بوجه الدعوة التي جاء بها قد صرفوا عن غايتهم، وأن الله - لكي يحفظ حياة نبيّه ويصون الدعوة - مكَرَ أيضاً فأحبط كلّ ما مكَروه.

ومثل ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ((الأنفال)، فهذه الآية تصور تلك الجهود التي بذلها المشركون للصد عن دين الله، وهم غافلون على ما يدبر لهم مما لا يعلمونه، ولا يستطيعون أن يعلموه.

لقد قال سيد قطب يصور سر هذا التعبير وما يفرزه من مشاعر، فقال: (الصورة التي يرسمها قوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ((الأنفال) صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون.. والله من ورائهم، محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون!

إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟

والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير؛ فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور) (1)

سكت مؤمن الطاق قليلا، ثم قال: لقد ورد الدلالة على هذا المعنى في القرآن باسم آخر هو (الاستدراج)

__________

(1) في ظلال القرآن.

الباحثون عن الله (256)

قالوا: ما الاستدراج؟

قال: لاشك أنكم تعلمون أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة، بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد، وقد يكون استدراجاً له، كما قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ((الأعراف: 182)

فمعنى الاستدراج أن يعطي الله عبده كل ما يريده في الدنيا بناء على رغبة العبد في ذلك، ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده، فيزداد بذلك كل يوم بعداً من الله.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الاستدراج بالمكر، قال تعالى: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون ((الأعراف: 99)

وعبر عنه بالخداع، فقال: (يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ((النساء: 142)، وقال: (يخادعون الله والذين ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ ((البقرة: 9)

وعبر عنه بالإملاء، فقال: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرًا لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً ((آل عمران: 178)

فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات (1).

قام بعض الحاضرين، وقال: إنك أردت أن تزيل شبهة، فأوقعتنا في أخرى.

قال مؤمن الطاق: وما هي؟

قال: كيف يملي الله لهؤلاء، ويمكن لهم؟.. ألا ترى أنه تعالى يعينهم بذلك على الشر والضلالة؟

قال مؤمن الطاق: إن ذلك يستدعي فهم سر الابتلاء والتكليف.. فالله تعالى شاء بحكمته أن يمتحن عباده ليميز الطيب منهم عن الخبيب، وأن يقيم الحجة عليهم بذلك.. وذلك يقتضي

__________

(1) انظر: التفسير الكبير للرازي.

الباحثون عن الله (257)

لا محالة إمهالهم وأعطاء الفرص المختلفة لهم.. فلا يمكن أن يتحقق الامتحان من غير هذا.

قال الرجل: ولكن كيف يكون هذا، ونحن نرى من الكفار من يعيش مرغدا ويموت مترفا لا يصيبه جرائر ذنوبه ولا تهلكه كثرة معاصيه.. فهل لهذا المتمرد من الوجاهة ما جعله بمنأى من عدالة الجزاء الإلهي؟.. وما السر في هذا التمييز الذي تحيرت له الألباب، بل صار فتنة تصد القلوب عن دين الله (1

قال مؤمن الطاق: إن الجواب عن هذا الاعتراض هو أن عدالة الله المطلقة، ورحمته التامة الشاملة، والتي سبقت غضبه تتيح لهذا المتمرد من الفرص، وتبلغه من الحجج ما يكفي لعودته، فإن استمر على بغيه أخذ أخذ عزيز مقتدر بمجرد تسليم روحه.

ولذلك علل الله تعالى عدم تعجيله بالعقوبة بمغفرته ورحمته، فقال تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ((الكهف:58)

وأخبر تعالى أن كل القرى التي نزل عليها العذاب لم ينزل عليها إلا بعد الإمهال الكافي لإقامة الحجة، قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ((الرعد:32)، وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ((الحج:48)

ويضرب تعالى الأمثلة على ذلك بالأمم التي أصابها العذاب، ولم يصبها إلا بعد فترة طويلة من الإمهال وإقامة الحجة، قال تعالى مسلياً نبيه (في تكذيب من خالفه من قومه: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ((الحج:44)

وقد ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ((النازعات:

__________

(1) انظر الجواب المفصل على هذا الإشكال في رسالة (أسرار الأقدار)

الباحثون عن الله (258)

من الآية 24) وبين إهلاكه أربعون سنة)

بل قد أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أمهل قوم نوح - عليه السلام - كل تلك الآماد الطويلة، وبعد تلك الفرص الكثيرة، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ((العنكبوت:14)

فالإمهال إذن رحمة من الله، أو هو فرصة ممنوحة من الله للظالمين، قد يستغلونها بالرجوع إلى الله، وقد ينتكسون بأن يضاعف لهم العذاب، كما قال (: (إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ((هود:102)) (1)

والأمر الثاني أن امتحان الخلق يقتضي ستر أكثر ما يتعرض له الخلق من الجزاء، لأن تعجيل الجزاء قد يجعل الخلق جميعا في صف واحد، صف الخير أو صف الشر بحسب الجزاء، كما قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ((الزخرف:33) أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لجعلنا للذين كفروا ذلك الترف الموصوف في الآية.

ولهذا ورد في النصوص الكثيرة الإخبار بأن ما أعطي الكفار من النعيم لا يدل على مرضاة الله، بل قد يدل على سخطه،، قال تعالى مصححا فهوم الكفار الخاطئة: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ((المؤمنون:55 ـ 56)، وقال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ((آل عمران:178)

ولهذا ورد بعد هذه الآية الإخبار بأن هذا الابتلاء هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويميز

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الباحثون عن الله (259)

بين الراغب في الله، والراغب في المتاع الأدنى، قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ((آل عمران:179)

ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن تعجيل الجزاء قد يؤثر في الابتلاء، ولذلك قال تعالى: (.. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.. (179) ((آل عمران)

ولهذا يرد في القرآن الكريم الإخبار بأن الجزاء الحقيقي هو الجزاء المعد في الآخرة، قال تعالى مخبرا عن جزاء المؤمنين: (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ((الزخرف: من الآية 35) وقد ورد هذا المعنى عقب ذكر زخارف الحياة الدنيا التي يتهافت عليها الغافلون.

وفي نفس الوقت ينهى تعالى المؤمنين من الإعجاب بما أوتي الكفار من النعيم، قال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ((التوبة:55)

فما أمهل به هؤلاء الغافلون ليس دليلا على أي تفضيل لهم، يقول (: (لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبدا) (1)

فهذا الإمهال ـ إذن ـ كما ينطوي على معاني الرحمة والعدل، وينطوي على معاني الانتقام ممن لم يعرف للنعمة حقها ولا للإمهال حقه، ينطوي كذلك على سر الامتحان الذي يقتضي ستر الجزاء حتى لا يكون الناس أمة واحدة في الخير أو في الشر.

الظلم

قالوا: وعينا هذا، فحدثنا عن الثاني.. حدثنا عن تنزه الله عن الظلم.

قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة الإخبار عن تقديس الله تعالى عن الظلم، قال تعالى: (

__________

(1) رواه الترمذي وغيره.

الباحثون عن الله (260)

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران:182)، وقال تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ ((غافر: من الآية 31)، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)

وقد ورد في النصوص ما يبين تنزه الله عن جميع صور الظّلم ومظاهره المختلفة؛ كإضاعة ثواب المحسن، أو نقصه، أو مساواته بالمسيء، أو مواخذة العبد قبل قيام الحجّة عليه، أو بما لم يعمله، أو بجرم غيره، أو بزيادة على ذنبه، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ((البقرة: 143)، وقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ((طه: 112)؛ والهضم الانتقاص من الحسنات.

ومن مظاهر تنزيه الله عن الظلم تنزيهه عن التّكليف بما لا يطاق، وعن المعاجلة بعقوبة العصاة، قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ((البقرة: 286)، وقال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ((النّحل: 61)، وهذا من كمال عدله، ومن كمال رفقه ولطفه أيضًا؛ فإنّ الله لطيف، رفيق يحبّ الرّفق؛ فلا يكلّف عباده ما لا يطيقون، أو يأخذهم بالتكاليف الشاقّة دفعةً واحدة، أو يعاجلهم بالعقوبة قبل وجود شرطها، وانتفاء مانعها؛ ولهذا يمهلهم، ويستأني بهم، ولا يهلك على الله إلاّ هالك.

وممّا يتضمّن التّنزيه عن المعاجلة بالعقوبة مع ما ذكر من الأسماء اسم الحليم، والصّبور، والعفوّ، والغفور؛ فإنّ الذّنوب تقتضي ترتّب آثارها من العقوبات العاجلة، ولكن حلم الله على عباده، وصبره عليهم، ومحبّته للعفو عنهم، تقتضي إمهال العصاة، وعدم معاجلتهم بالعقوبة؛ ليتمكّنوا من الإتيان بأسباب المغفرة، فيتجاوز عن خطيئاتهم؛ ولهذا يعافيهم، ويرزقهم، رغم جرائرهم وجرائمهم.

قال رجل من الحاضرين: فما سر تنزه الله عن الظلم؟

قال مؤمن الطاق: لأن الظالم لم يظلم إلا لكونه محفوفا بأنواع من النقص كثيرة.. فهو محفوف

الباحثون عن الله (261)

بالفقر.. والبخل.. والجهل.. والجور.. والضعف.

أما الله تعالى فقد تنزه عن كل ذلك (1):

فلله تعالى كمال الغنى.. فمن أسماء الله الحسنى (الغنيّ، والواسع، والواجد).. ولذلك هو لا يحتاج لأحد من خلقه حتَّى يضيع حقّه، أو ينقصه شيئًا منه، قال تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ((آل عمران: 108)، ثم قال بعدها: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ((آل عمران: 109) وهو يشير بذلك إلى أنه منزه الظّلم؛ لكمال غناه عن خلقه؛ إذ كلّ ما في السموات والأرض ملكه وفي قبضته.

وقال تعالى في آية أخرى مشيرا إلى هذا المعنى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ ((النِّساء: 147)؛ أي لا منفعة له في عذابكم إن شكرتكم وآمنتم؛ فإنّ ذلك لا يزيد في ملكه، كما إن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه.

ولله تعالى كمال الكرم؛ فهو الكريم، الجواد، الوهاب، المجيد، الشّكور، فلا يضيع عنده سعي العاملين لوجهه، بل يضاعفه بكرمه وجوده أضعافًا مضاعفة، قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ((النِّساء: 147)؛ أي يشكر عباده على طاعته؛ فيتقبّل العمل القليل، ويعطي عليه الثّواب الجزيل، ويعطي بالعمل في أيّام معدودة نعمًا غير محدودة.

ولله تعالى كمال العلم؛ فاسم العليم، والخبير، والسّميع، والبصير، والحفيظ، والحسيب، ونظائرها تدلّ على كمال إحاطته تعالى بأعمال العباد علمًا وكتابةً؛ لمجازاتهم بالعدل؛ فكلّ عامل مرتهن بعمله؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ((الكهف: 49)، وقال: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ

__________

(1) استفدنا الكثير من المعلومات الواردة هنا من كتاب (دلالة الأسماء الحسنى على التّنزيه)، إعداد: د / عيسى بن عبد الله السّعدي، كليّة التربية بالطائف / قسم الدراسات الإسلاميّة.

الباحثون عن الله (262)

بِهِ عَلِيمٌ ((البقرة: 215)؛ أي مهما صار منكم من فعل معروف فإنّ الله يعلمه، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنّه لا يظلم أحدًا مثقال ذرّة.

ولله تعالى كمال العدل؛ فالله هو العدل، المقسط، المؤمن (1) لكمال عدله.. وهو الفتّاح؛ أي القاضي بالحقّ؛ فلا يجور أبدًا، ولا يضيع مثقال ذرّة من خير أو شرّ، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ((غافر: 20)

انظروا إلى الإشارة التي تحملها فاصلة النص.. فاسم السّميع والبصير يدل بالنّص والفحوى على مناط تفرّد الربّ بالحكم بين عباده؛ وهو كماله ونقص ما يدعى من دونه؛ فالله هو الكامل في سمعه وبصره؛ ولهذا كان هو الحكم وحده قدرًا وشرعًا، وجزاءً.

ولله تعالى جميع الكمالات التي يفتقر إليها الظالم.. فهو العليّ، والكبير، والجميل، والحميد، ولهذا يضع الأشياء في مواضعها؛ ولا يتصوّر أن يقع منه ظلم أَلْبَتَّة، قال تعالى: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ((غافر: 12)

وهو الواسع الذي يوسع على عباده في أحكامه الدينية؛ فلا يكلّفهم ما لا يطيقون، ويوسّع عليهم في أحكامه القدريّة؛ فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويوسّع عليهم في أحكامه الجزائيّ؛ فلا يؤاخذهم بكلّ معصية، بل يتجاوز، ويعفو، ويغفر؛ لأنّه العفوّ، والغفور، والغفّار، ولا بُدّ أن تتحقّق متعلّقات هذه الأسماء، وتظهر آثارها.. وفي الحديث قال رسول الله (: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ) (2)

البخل

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثالث.. حدثنا عن تنزه الله عن البخل.

__________

(1) وهو في أحد التّفسيرين بمعنى الَّذي أمن عذابه من لا يستحقّه.

(2) رواه مسلم.

الباحثون عن الله (263)

قال: البخل ينافي كمال غنى الربّ وكرمه؛ ولهذا حين قال شاس بن قيس اليهودي: (إِنَّ ربّك بخيل لا ينفق) أنزل الله تعالى قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ((المائدة: 64)؛ فطردهم الله من رحمته بمقالتهم المنكرة، وعاقبهم قبل ذلك بأن جعل هذا الوصف لازمًا لهم في الدّنيا؛ فغلّت أيديهم، وكانوا أبخل النّاس وأجبنهم.

ولهذا أنكر الله مقالة اليهود، وعظّم فريتهم، وأوعدهم عليها بأعظم العقوبات؛ فحين قال فنحاص بن عازوراء: (إِنَّ الله فقير ونحن أغنياء يقترض منّا)، أنزل الله تعالى قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ((البقرة: 181)؛ فأوعدهم على هذه المقالة المنكرة، وعلى رضاهم بأفعال أسلافهم الشّنيعة؛ وهي قتل الأنبياء تمرّدًا وعنادًا لا جهلاً وضلالاً، أوعدهم على ذلك بأعظم العقوبات؛ وهي النيران المحرقة، الَّتي تطّلع على الأفئدة؛ جزاءً وفاقًا، وما ربّك بظلاّم للعبيد.

وأسماء الله الحسنى تبطل ظنون السوء الَّتي ظنّتها يهود بربّ العالمين؛ فإنّ من أسمائه الغنيّ، والجواد، والوهّاب، والكريم، والواجد، والمجيد، والواسع، وهي كلّها تدل على كمال غنى الربّ وجوده، قال تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ((النِّساء: 131)؛ أي أنّ له الغنى التامّ من كلّ الوجوه؛ لكماله، ومن سعة غناه أنّ خزائن السموات والأرض بيديه، وأنّ جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات.

وجود الله تعالى على خلقه نوعان:

أما أولهما، فهو الجود المطلق عن أي قيد؛ ولا يخلو عنه مخلوق من المخلوقات؛ فإن الله وسع غناه كلّ فقر، وعمّ جوده جميع الكائنات، قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ((النّحل: 53)

وأما الثّاني، فهو الجود المقيّد بسؤال السّائلين؛ فمن سأل الله بصدق، وطهارة ممّا يمنع القبول

الباحثون عن الله (264)

أعطاه سؤاله، وأناله مطلوبه، دون أن ينقص ذلك ممّا عنده شيئًا؛ لكمال غناه، وسعة خزائنه.

وفي الحديث قال رسول الله (: (قال اللَّهِ تَعَالَى: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) (1)

الخلف

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الرابع.. حدثنا عن تنزه الله عن الخلف.

قال: إخلاف الوعد والوعيد يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ((يونس: 55)، وقال: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ((إبراهيم: 47)

قال رجل من الحاضرين: فما سر تنزه الله عن الخلف؟

قال مؤمن الطاق: لقد تنزه الله عن ذلك لما في الخلف من العبث المنافي لحكمة الإله الحقّ؛ فإنّ أصل الحقّ المطابقة والموافقة.. وبما أن أفعال الربّ مطابقة للحكمة، وأقواله مطابقة لما عليه الشّيء في نفسه؛ لهذا كله كانت أفعاله تعالى وأقواله كلّها حقًّا، ووعده ووعيده كلّه حقًّا وصدقًا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ((النِّساء: 122)

فصدق الله يقتضي تحقّق وعده ووعيده، وعدم الخلف فيهما؛ لأنّه الإله الحقّ؛ فلا يكون كلامه إلاّ حقًّا؛ أي مطابقًا لما عليه الشّيء في نفسه؛ ولهذا سمّى نفسه بالمؤمن؛ فإنّه في يدل في بعض معانيه على المصدّق؛ أي المصدّق لرسله بما يظهره لهم من آياته، ومصدّق المؤمنين ما وعدهم من الثّواب، ومصدّق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.

__________

(1) رواه مسلم.

الباحثون عن الله (265)

ويدل على استحالة إخلافه تعالى لوعده ووعيده، أو تبديله لكلماته كثير من أسماء الله الحسنى:

منها (العليم، والخبير، والشّهيد، والمهيمن، والرّقيب، والسّميع، والبصير)؛ فإنّ هذه الأسماء تدلّ على علم الله تعالى التامّ المحيط بما دقّ أو جلّ من أعمال العباد (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ((النّجم: 31)

ومنها (القدير، والعزيز، والقهّار، والمقيت، والمتين)؛ فإنها تدلّ على تفرّد الربّ بالقدرة التامّة؛ فلا شيء يمنعه من إنفاذ وعده ووعيده في المحلّ الَّذي تقتضيه حكمته.

ومنها (الرّحيم، والرؤوف، والغنيّ، والبرّ، والشّكور)؛ فإنّ هذه الأسماء ونظائرها تقتضي إيصال الثّواب الموعود لأهله وعدم إخلافه.

ومنها (الحكيم، والحكم، والعدل، والمقسط، والفتّاح)؛ فإنّ عدل الله وحكمته يتضمّنان وضع الأشياء في مواضعها؛ فلا يعاقب من لا يستحقّ العقاب، ولا يخلف من يستحقّ الثّواب.

الإهمال

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الخامس.. حدثنا عن تنزه الله عن الإهمال.

قال: إهمال الله لعباده يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ((القيامة: 36)، وقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) ((المؤمنون)؛ أي تنزّه وتقدّس عن هذا الظنّ السيء؛ لأنّه عبث وسفه ينافي حكمته.

ومثله في الدلالة قوله تعالى في تينك الآيتين الكريمتين: (.. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) ((المؤمنون)، فإنّ كونه ربًّا للعرش فما دونه يدلّ على تنزيهه عن إهمال العباد، وتركهم سدى، بلا

الباحثون عن الله (266)

أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب؛ فإنّ اسم (الربّ) إمّا أن يدلّ على صفة معنى، ويفسّر بمعنى: المالك، والسيّد، وإمّا أن يدلّ على صفة فعل، ويفسّر بمعنى: المربّي.

فإن فسّر بالمعنى الأوّل، فمن آثار الملك والسؤدد أنّ الربّ يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرّف في مماليكه بأنواع التصرّفات.

وإن فسّر بالمعنى الثّاني فالمربّي هو المصلح، والمدبّر، والجابر، والقائم؛ وهذا يتضمّن التربية العامّة والخاصّة.

قالوا: وما الفرق بينهما؟

قال مؤمن الطاق: تربية الله لخلقه نوعان: عامّة، وخاصّة..

أما العامّة، فهي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، الَّتي فيها بقاؤهم في الدّنيا..

وأما الخاصّة، فتربيته لأوليائه؛ فيربّيهم بالإيمان، ويوفّقهم له، ويكمّلهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه.

فحقيقة الرّبوبيّة تتضمّن التّنزيه عن إهمال العباد مطلقًا؛ أي في جميع شؤون معاشهم ومعادهم.

قال بعض الحاضرين: لقد اعتدنا منك أن تذكر لنا الأسماء الحسنى الدالة على نوع التنزيه.. فما الأسماء الحسنى التي ترى أن لها علاقة بتنزيه الله عن الإهمال.

قال مؤمن الطاق: كل أسماء الله الحسنى تدل على ذلك.. وبوسعك أن تقرأها جميعا على هذا الأساس لترى مدى ارتباطها به.

قال الرجل: فهلا وضحت لنا بضرب بعض الأمثلة التقريبية.

قال مؤمن الطاق: سأضرب لك أمثلة تقريبية ببعض الأسماء التي لها صلة مباشرة بهذا المعنى:

الباحثون عن الله (267)

فمن ذلك اسمه تعالى (الحسيب)؛ فإنّه يفسّر بالكافي؛ وهو بالمعنى العام الَّذي يكفي العباد جميع ما يهمّهم من أمر دينهم ودنياهم، فيوصل إليهم المنافع، ويدفع عنهم المضار.. وبالمعنى الأخصّ هو الَّذي يكفي من توكّل عليه كفاية خاصّة يصلح بها دينه ودنياه.

ومن ذلك اسمه تعالى (اللّطيف)، فقد فسّر بـ (من اجتمع له الرّفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه)، يقول الزجّاج في ذلك: (اللّطيف يفيد أنّه المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون)

ويختصّ أولياء الله بلطف خاص يتضمّن أعلى درجات الإحسان والإصلاح؛ وهو أن ييسّرهم لليسرى، ويجنّبهم العسرى، وقد يكون ذلك بشيء من الابتلاءات والمحن.

ومن ذلك اسمه تعالى (الجبّار)؛ فقد فسّر بمعنى المصلح؛ بناءً على أنّه مشتقّ من جبر لا من أجبر؛ يقال: جبر العظم إذا صلح كسره، وجبر الله مصيبته؛ إذا أصلح حاله، وعوّضه عمّا فاته، يقول الرّازيّ في ذلك: (الجبر أن تغني الرّجل من فقر، أو تصلح عظمه من كسر)

وعلى هذا فالجبّار الَّذي يصلح أحوال عباده؛ فيجبر الكسير والمصاب، ويغني الفقير، ويعزّ الذّليل، وييسّر على المعسر، ويجبر قلوب الخاضعين لجلاله جبرًا خاصًّا بما يفيض عليها من معارف الإيمان وأحواله.

وهذا المعنى مستقرّ في قلوب عامّة المؤمنين؛ ولهذا يسأل كلّ واحد منهم ربّه الجبر كلّ صلاة، وهو إنّما يريد هذا الجبر الَّذي حقيقته إصلاح العبد، ودفع المكاره عنه.

ومن ذلك اسمه تعالى (الحفيظ)؛ فإنّه يفسّر بمعنى الحافظ لعباده ممّا يكرهون. وحفظه لخلقه نوعان؛ عامّ وخاصّ؛ فالعامّ حفظه لجميع المخلوقات بهدايتها لمصالحها، كما قال تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ((طه: 50)

والحفظ الخاصّ حفظ أوليائه في مصالح دنياهم وفي دينهم؛ فيحفظهم حال حياتهم من

الباحثون عن الله (268)

الشّبهات والشّهوات، ويحفظ عليهم دينهم عند الوفاة، فيتوفّاهم على الإيمان. وهذا الحفظ متفاوت بين المؤمنين بحسب ما عند كلّ واحد منهم من محافظة على أمر الله ونهيه.

ومن ذلك اسمه تعالى (الرزّاق)؛ أي كثير الرّزق؛ فهو الَّذي يوصل لجميع خلقه كلّ ما يحتاجونه في معاشهم وقيامهم، ويوصل لأوليائه رزقًا خاصًّا يتضمّن رزق القلوب بالإيمان، والأبدان بالمال الحلال.

فهذه الأسماء الحسنى جميعا وغيرها تدل على عناية الملك الحقّ بعباده، وتربيتهم تربيةً عامّة وخاصّة، يستحيل معها إهمالهم لا في أمور معادهم، ولا في أمور معاشهم.

وهذه المعارف تثمر في القلوب الحيّة محبّة الله، والتّأله له خوفًا وطمعًا؛ وهي أعظم مقامات الإيمان، وأصوله الكبرى الَّتي يقوم عليها بناؤه.

العبث

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السادس.. حدثنا عن تنزه الله عن العبث.

قال: العبث يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ((الحج)، وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) ((الحج)

انظروا كيف سمى الله تعالى نفسه حقا.. ولهذا، فإنه تعالى لا ينسب إليه إلاّ الحقّ؛ فقوله حقّ، وفعله حقّ، ودينه حقّ، ولقاؤه حقّ، ووعده ووعيده حقّ؛ فكل شيء منه تعالى مطابق للحكمة البالغة المنافية للسّفه، والعبث، والخلف.

يقول بعض العلماء في ذلك، وهو الرّاغب الأصفهاني: (أصل الحقّ المطابقة والموافقة، كمطابقة رِجْل الباب في حَقِّه؛ لدورانه على استقامة، والحقّ يقال على أوجه:

الأوّل: يقال لموجِد الشّيء بسبب ما تقتضيه الحكمة؛ ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، قال

الباحثون عن الله (269)

تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ((الأنعام: 62).

الثّاني: يقال للمُوجَد بحسب مقتضى الحكمة؛ ولهذا يقال: خلق الله كله حقّ، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ((الأنعام: 73)

الثّالث: في الاعتقاد للشّيء المطابق لما عليه ذلك الشّيء في نفسه؛ كقولنا: اعتقاد فلان في الجنّة والنّار حقّ، قال تعالى: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ((البقرة: 213)

الرّابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الَّذي يجب؛ كقولنا: فعلك حقّ، وقولك حقّ، قال تعالى: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ((يونس: 33)؛ أي تحقّق قدره السّابق فيهم؛ بمعنى وقع ووجب؛ ولهذا يستعمل في الواجب، والثّابت، واللازم) (1)

وبناء على هذا، فإن الحقّ ـ تبارك وتعالى ـ منزّه عن العبث تنزيهًا مطلقًا؛ لمنافاته حكمته البالغة، وحمده، وكماله..

وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر هذا المعنى لتستقيم النفوس على معرفة ربها، ولا تظن به السوء.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) ((ص)؛ وذلك لأنّ هذا الظنّ ينافي أسماء الربّ تعالى؛ فالحكيم الحقّ منزّه عن أن يخلق شيئًا عبثًا أو سفهًا؛ لأنّ أفعاله حقّ؛ أي مطابقة للحكمة، ومفعولاته حقّ؛ أي متحقّقة وكائنة بعلم الله وحكمته؛ ولهذا كانت مشتملةً على الحكمة، وآيلة لها.

وقال تعالى في آية أخرى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ((الأنعام: 73)؛ فالحق سابق لخلقها، ومقارن له، وغاية له؛ ولهذا أتى بالباء الدالّة على هذا المعنى دون اللام المفيدة للغاية ليس غير؛ والحقّ السّابق للخلق صدورها عن علم الله وحكمته؛ ولهذا كانت كلّها حقًّا،

__________

(1) مفردات القرآن.

الباحثون عن الله (270)

أي متقنة، مطابقة للحكمة، لا نقص فيها ولا خلل.

ومثل ذلك قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ((النّمل: 88)، وقوله: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ((السّجدة: 7)، وقوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ((الملك: 3)، فهذا الإحكام والإتقان هو الحقّ المقارن للمخلوقات؛ ولهذا كانت أدلّة وبراهين على أصول الإيمان؛ لتقود النّاس للحقّ الغائي؛ وهو معرفة الربّ وعبادته، وإنجاز وعد الله لمن أطاعه، وإنفاذ وعيده فيمن عصاه.

قال بعض الحاضرين: فما الأسماء المشيرة إلى هذه المعاني التي ذكرتها؟

قال مؤمن الطاق: كل أسماء الله تشير إلى ذلك.. كاسم الحميد، والرّشيد، والجميل.. فهذه الأسماء الثلاثة تدلّ على كمال ذات الربّ وصفاته؛ وأنّ له من الأفعال أجملها، وأرشدها، وأحمدها، وهذا يحيل أن يكون في شيء من أفعال الله ـ تعالى ـ عبث أو سفه.

وكاسم الحقّ والحكيم ففيهما دلالة واضحة على نفي العبث في الخلق، واستحالته.

الضرر

قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السابع.. حدثنا عن تنزه الله عن الضرر.

قال: الإضرار بالخلق يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله..

قاطعه رجل من الحاضرين، وقال: كيف تقول هذا، ونحن نجد من أسماء الله الحسنى اسم (الضار)؟

قال مؤمن الطاق: الضار النافع.. لا الضار وحده.

قال الرجل: وما الفرق بينهما؟

قال مؤمن الطاق: ما الفرق بين الجراح الجارح.. والجارح وحده؟

قال الرجل: الفرق عظيم.. فالجراح لا يجرح إلا لينفع.. بينما الجارح وحده قد يجرح للضرر

الباحثون عن الله (271)

المجرد.

قال مؤمن الطاق: فهكذا هذا الاسم.. فهو اسم مقترن مقترن بالنافع لا يجوز فصله عنه.. فقد ذكر العلماء أن الأسماء المقترنة أو المزدوجة لا يجوز أن تطلق على الربّ مفردةً؛ لأنّها تجري مجرى الاسم الواحد الَّذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض؛ فالمانع يجب أن يقرن بالمعطي، وهكذا الضارّ بالنّافع، والمذلّ بالمعزّ، والمحيي بالمميت؛ وذلك لأنّ هذه الأسماء لا تدلّ على الحسن والعلوّ المطلق إلاّ إذا قرن كلّ اسم بمقابله؛ وحينئذٍ تفيد الثّناء على الربّ بمعاني الرّبوبيّة، وكمال التصرّف في الخلق؛ عطاءً ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وإحياءً وإماتةً.

قال الرجل: هلا زدتنا توضيحا؟

قال مؤمن الطاق (1): من أسماء الله تعالى ما يسمى به مطلقاً من غير قيد، وهي الأسماء المشتقة الدالة على معاني الجلال والكمال والجمال والكمال مثل: الرزاق، الخالق، الباريء، المصور، العزيز، الحكيم، الرحمن، الرحيم، السميع، البصير، القوي.. فهذه كلها أسماء تطلق على الله تعالى من غير قيد أو شرط.

أما النوع الثاني من الأسماء، فمايطلق على الله تعالى مقيدا، ومن القيود ما يسميه العلماء قيد المقابلة والجزاء، ومن ذلك قوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ((الأنفال: 30)، فمكر الله تعالى بهم لما مكروا.. فلا يجوز أن يؤخذ منها أسماء مطلقة، فنقول: إن من أسماء الله تعالى الماكر أو المكَّار.. هذا ليس من أسماء الله تعالى ولا يجوز أن نسمي الله تعالى بشيء من ذلك.

و كذلك الأسماء التي قد يتوهم فيها أو منها العجز أو النقص أو العيب فالله تعالى منزه عنها.. انظر في قول الله تعالى: (وَإِن يُّرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ((الأنفال:71)، فلم يقل الله تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فخانهم الله)، لم

__________

(1) انظر: شرح مقدمة القيروانى للشيخ أحمد النقيب.

الباحثون عن الله (272)

يقل هذا، لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، والخيانة من صفات المنافقين والله تعالى يتنزه أن يصف نفسه بصفة من صفات المنافقين، ولا يسمي نفسه أبداً باسم من أسماء المنافقين.

قال رجل من الحاضرين: لا بأس.. ولكن ما تقول في اسم (المنتقم).. فنحن نجده في تعداد أسماء الله الحسنى؟

قال مؤمن الطاق: لا.. لم يصح اعتبار هذا اسما.. فلا تسم الله بما لم يسم به نفسه.

قال الرجل: وما تقول في الرواية الواردة به؟

قال مؤمن الطاق: لا شك أنكم تعلمون أنّ الرواية التي ورد فيها ذكر أسماء الله الحسنى من إدراج بعض الرواة، وليست من كلام النَّبيّ (.. لقد قال الصنعاني في ذلك: (اتّفق الحفّاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة)، وقال ابن تَيْمِيَّة: (اسم المنتقم ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النَّبيّ ()

قال الرجل: ولكن الله تعالى قال: (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ((الرّوم: 47)، وقال: (فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ((الزّخرف: 55)

قال مؤمن الطاق: الانتقام هنا بمعنى العقاب.. وقد قيده الله بهؤلاء المجرمين.. فلا يصح اعتباره اسما لأجل هذا.

قال رجل من الحاضرين: فما تقول في خلق الله للشر؟

قال مؤمن الطاق: المؤمن يتأدب مع الله تعالى، فلا ينسب إليه الشر بحال من الأحوال.. فليس من الله إلا الخير، وقد قال (: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِى يديك، والشر ليس إليك) (1)

فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى.. فلا يضاف إلى ذاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك أبدا، وهو المحمود على ذلك كله

__________

(1) رواه أحمد ومسلم.

الباحثون عن الله (273)

فيستحيل إضافة الشر إليه (1).

ولهذا ينزه الله تعالى في الأسلوب القرآني من نسبة الشر إليه، فالطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي نسبة أفعال الإحسان والرحمة والجود إلى الله تعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم:

ومنها قوله تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ((الفاتحة:7)، فإنه تعالى ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبنى الفعل للمفعول، فقال: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وقال في الإحسان: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}

ومنها قول إبراهيم الخليل - عليه السلام -: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ((الشعراء:78 ـ 80)، فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض نسبه إلى نفسه، ولم يقل: (أمرضني) وقال: (فَهُوَ يَشْفِينِ}

ومنه قول الخضر - عليه السلام - في السفينة: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ((الكهف:79)، فأضاف العيب إلى نفسه، وقال في الغلامين: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك ((الكهف: من الآية 82) فأضاف الإرادة إلى الله.

ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى أي اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر فى مفعولاته كقوله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ((الحجر:49)، وقال بعدها: (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ((الحجر:50)، ومثل ذلك قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

__________

(1) انظر: طريق الهجرتين:166.

الباحثون عن الله (274)

رَحِيمٌ ((المائدة:98)

ولذلك نفى المحققون من العلماء – كما ذكرنا - صحة تسمية الله تعالى باسم (المنتقم)، فهو ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبى (، وإنما جاء في القرآن مقيدا، كقوله تعالى: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ((السجدة: من الآية 22)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ((آل عمران: من الآية 4)

أما الحديث الذي في عدد الأسماء اللحسنى الذى يذكر فيه المنتقم – إن صح- فقد ذكر في سياقه البر التواب المنتقم العفو الرؤوف، زيادة على أن الصحيح أنه ليس من كلام النبى (.

قال الرجل: لا بأس.. سلمت لك بهذا.. ولكن مع ذلك بما أن الضرر والشر موجودان.. فلا بد لهما من موجد.. وبما أن الله موجد كل شيء.. فالله هو موجدهما (1).

قال مؤمن الطاق: إن الشر المحض يستحيل وجوده في هذا الكون.. لأن كل ما نتوهمه أو نراه شرا قد يكون خيرا متلبسا بصورة شر، أو شرا انحرف عن مساره مع بقاء أصل الخيرية فيه.

ولهذا خلق الله تعالى ما نراه من الدواب الشريرة، أوالأفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب، فلم يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما.

فالخير هو المقصود من الخلق، والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ لا قصد الغايات والنهايات، فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال، كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل.

قال الرجل: فما تقول في تعذيب الله للمجرمين والظالمين.. أليس في ذلك ضرر بهم؟

قال مؤمن الطاق: لا.. يستحيل على الله أن يريد الضرر بعباده..

قال الرجل: ولكن النصوص كلها تخبر بذلك.

قال مؤمن الطاق: صدق ربنا ونبينا..

__________

(1) ذكرنا الردود على هذا النوع من الإشكالات بتفصيل في (أسرار الأقدار)

الباحثون عن الله (275)

قال الرجل: فكيف توفق بين ما ذكرت وما ذكرت النصوص المقدسة؟

قال مؤمن الطاق: لقد ذكرت النصوص المقدسة السر من وراء ذلك العذاب الذي يصيب المجرمين.. لقد ورد فيها ما يدل على تأثير البلاء في تطهير الفطرة وتقويمها، كما قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ((السجدة:21)، فأخبر تعالى أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته.

وبين الله تعالى سنته في ذلك بقوله تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ((النساء:147)

وهذه الآية ـ التي جمعت قانون الله في الثواب والعقاب ـ دليل على أن الحكمة تقتضي كون العذاب مصلحة مؤقتة تقتضيها الرحمة المقترنة بالحكمة.

لقد قال سيد قطب معلقا على هذا مبينا جمال هذه السنة مقارنة بما تحفل به الديانات الأخرى من وثنية: (وأخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة، الموحية المؤثرة العميقة.. أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع، والأجر العظيم.. لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد.. فما به - سبحانه - من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب. وما به - سبحانه - من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق. وما به - سبحانه - من رغبة ذاتية في عذاب الناس كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات.. وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله.. مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله.. وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس) (1)

ومن النصوص الدالة على هذا المعنى كذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ((التوبة: من الآية 120)، فقد أخبر تعالى أن

__________

(1) في ظلال القرآن: 2/ 786.

الباحثون عن الله (276)

يكتب لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً.

ومنها قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ((آل عمران:141)، فأخبر تعالى أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص وتطهير وتصفية للمؤمنين.

وينص على هذا المعنى قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) ((الشورى)، وفي هذا تبشير وتحذير، تبشير بالتطهير من الذنوب بالمصائب، وتحذير بالمصائب من المعاصي، فالعدل يقتضي الجزاء، والرحمة تقتضي التطهير.

قال الرجل: فلماذا لا يغفر الله للعاصين مباشرة، ويدخلون الجنة من غير مقاساة للعذاب، فتغلب الرحمة الغضب؟

قال مؤمن الطاق: إن العدل الإلهي يقتضي المجازاة، كما أن الرحمة الإلهية تقتضي الإحسان، فكان الجمع بينهما، هو إصلاح هذه النفوس لتصلح بعدها للرحمة الإلهية.

-\--\-

التفت إلينا صاحبنا (فريدريك ماكس مولر)، وقال: هذا حديثي في تلك البلدة المعطرة بعطر الإيمان.. ومع أولئك العلماء والصالحين.. لقد عشت في صحبتهم أياما جميلة.. لكن كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فنسيت تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

لقد بعتها جميعا بثمن بخس حقير..

ولكن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك الصحبة الشريفة..

الباحثون عن الله (277)

رابعا ـ الحميد

في اليوم التالي استيقظنا على أصوات صياح شديد ممتلئ بالسرور والنشوة، وهو يقول: هلموا يا من انقطعت بكم السبل، وتهتم في البحث عن الحقيقة.. فأرسطو يريد أن يحدثكم عن الحقيقة.. أرسطو يريد أن يحدثكم عن ربكم، فقوموا إليه، فعساكم تخرجون بحديثه من الهوة السحيقة التي أوقعتكم فيها أهواؤكم.

أسرعت كما أسرع الجمع إلى مصدر الصوت، فوجدنا رجلا منا، كنت أراه كثير الهيام بالجدل العقلي، فقد كان لا يفتر عن الحديث مع كل من رآه.. وكان مغرما بالتقسيمات والتصنيفات حتى كان كما يقال: يقسم الشعرة بجدله، ويقطع الحديد بتحليلاته..

وقد كنت أحسبه لذلك أبعد الناس عن ربه، وعن البحث عنه، فقد كان كثير الاشتغال بالتصنيف.. بتصنيف كل ما يراه وتحديده، والبحث عن ماهيته حتى أنه في تلك الفترة القصيرة التي مكثنا فيها في ذلك المحل رأيته قد جمع أصنافا كثيرة من الحجارة والتربة والقواقع.. بل وأوراق الأشجار.. ثم رأيته يصنفها تصنيفات بديعة مشتغلا بها عن كل شيء.

هذا ما عرفته عنه.. ولهذا كان عجبي شديدا عندما سمعته يصيح بصياحه ذلك..

قال له رجل منا، بعد أن اجتمع كل الجمع إليه: أين هو أرسطو؟.. ومتى قدم إلينا؟.. وكيف قدم؟

ابتسم صاحبنا، وقال: هو أمامكم.. أنا هو أرسطو (1)..

__________

(1) أشير به إلى (أَرسْطو) (384 - 322 ق. م) كان من أعظم فلاسفة عصره وأكثرهم علما ومعرفة ويقدر ما اصدر من كتابات بـ 400 مؤلف ما بين كتاب وفصول صغيرة.. وتنقسم مؤلفاته إلى ثلاث مجموعات: 1 - المؤلفات الشعبية، وقد كانت لعامة الجمهور خارج مدرسته.. 2 - المذكرات، وهي تصنيفات من مواد البحوث والسجلات التاريخية أعدَّها بمساعدة تلاميذه؛ لتكون مصدرًا للمعلومات التي يحتاجها العلماء الدارسون.. 3 - المقالات.. وهي تمثل تقريبًا كلَّ مؤلفات أرسطو التي سَلمت من الضياع وبقيت حتى الآن.. وقد كانت المقالات مؤلفةً للطلاب داخل المدرسة فقط.

الباحثون عن الله (278)

قال الرجل: لقد احتلت علينا.. لقد تصورنا أن أرسطو بذكائه وعقله وحكمته قد قدم إلينا من زمنه الغابر ليعرفنا بالحقيقة التي تهنا في البحث عنها.. فلا يصلح في هذا المحل أحد مثل أرسطو.

ابتسم أرسطو، وقال: فأنا أرسطو.. إن لم أكنه بلحمه وشحمه وعظمه.. فأنا هو بعلمه وعقله وحكمته.. لقد سماني والدي أفلاطون يوم ولدت أرسطو.. كما سماه جده سقراط أفلاطون..

نحن عائلة لا تهمها إلا الفلسفة.. لقد كنا نرى أن العقل هو الأداة الوحيدة التي يتميز بها الإنسان عن غيره من الأشياء، فلذلك نذرنا نفوسنا له.. فكانت مجالسنا كلها مجالس بحث ونظر وتحقيق وتدقيق.. ولم نكن نتمتع بشيء كما نتمتع برؤية الحقائق أو البحث عنها.

وقد كان من الحقائق التي شغلتنا فترة من حياتنا الحقائق المرتبطة بالألوهية..

وقد بدأت فيها كما بدأ أرسطو.. لقد توصلت بعقلي إلى نفس ما وصل إليه سميي أرسطو.. فقد كنت أعتقد أن الله واجب الوجود كائن أزلي، مطلق الكمال، لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة.. منذ كان العمل طلبا لشيء، والله غني عن كل طلب، وبما أن الإرادة اختيار بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال، فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول.

وكنت أعتقد أنه ليس مما يناسب الإله أن يبتدئ العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر، ولا جديد ولا قديم، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه.

ولهذا كنت أعتقد أن الإله الكامل المطلق الكمال: لا يعنيه أن يخلق العالم، أو يخلق مادته الأولى، وهي الهيولي ولكن لهذه الهيولي قابلية للوجود، يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها من النقص

الباحثون عن الله (279)

إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك وتعمل بما فيها من الشوق والقابلية ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار.

ولهذا، فقد كنت أعتقد أن الله يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها، ويتنزه عن الإرادة لأن الإرادة طلب في رأيه، والله كمال لا يطلب شيئا غير ذاته، ويجل عن علم الكليات والجزئيات، لأنه يحسبها من علم العقول البشرية، ولا يعني بالخلق رحمة ولا قسوة.. لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه.

قلنا: فهذه هي العقيدة التي تريد أن تلقننا إياها؟

قال: لا.. لا.. لقد ذكرت لكم أن هذه هي بداية حياتي.. أو هي بداية مراحل تفكيري.

قلنا: ولكن هذه هي نهاية أفكار أرسطو.. ألم تكتف بما انتهى إليه؟

قال: لقد كنت مكتفيا.. بل كنت مغرورا في اكتفائي إلى أن التقيت برجل حطم ما بنيته أو ما بناه لي أرسطو.. لقد كان رجلا عظيما.. ولكن صحبتي له للأسف كانت كالبرق الذي يضيء، ثم سرعان ما يختفي.

وما ندمت عليه هو أنني بغروري وأحلامي انصرفت عنه، واتبعت تلك التقسيمات والتصنيفات التي لم تغن عني شيئا.

قلنا: إن ما تقوله خطير.. لكأنك تتهم أرسطو نفسه بالعجز.

قال: أجل.. أنا أتهمه كما أتهم عقلي.. فالرب العظيم أعظم من أن نتصرف في كمالاته بعقولنا.. لقد رحت كما راح سميي أرسطو نفرض على الإله قيودا كثيرة.. لقد رحنا نحد من صلاحياته في هذا الوجود.

قلنا: ولكنك ذكرت أنك كنت تعتقد في إلهك الكمال المطلق.

ضحك بصوت عال، وقال: أجل.. ولكنه كان أقرب إلى العدم المطلق منه إلى الكمال المطلق.

قلنا: فمن علمك الكمال المطلق لإلهك؟

الباحثون عن الله (280)

قال: هذا ما أريد أن أحدثكم عنه.. وهذا ما تأسفت على عدم صحبته.. لقد كان رجلا من المسلمين.. كان اسمه (محمد الباقر) (1)

__________

(1) أشير به إلى (محمّد الباقر) (57 ـ 114 هـ)، وهو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب خامس أئمة أهل البيت بجسب مذهب الإمامية.

قال النووي: سمّي بالباقر، لاَنّه بقر العلم، أي شقّه، فعرف أصله وخفاياه.

وقد عاش الباقر في مطلع صباه، المحنة الكبرى التي مرّت على أهل البيت في كربلاء، وشاهد بعدها المصائب التي حلّت بأهل البيت، ومحبيهم من الحكام الطغاة فاتجه في ذلك الجو المشحون بالظلم إلى الدفاع عن مبادىَ الاِسلام، ونشر تعاليمه، فالتفّ حول الاِمام الآلاف من العلماء، وطلاب العلم لدراسة الفقه، والحديث، والتفسير، والفلسفة، والكلام، وغير ذلك من العلوم حتى أُطلق على تلك الحلقات التي كانت تجتمع في مسجد المدينة اسم الجامعة.

قال الشيخ محمد أبو زهرة: وما زار أحد المدينة إلاّ عرّج على بيت محمد الباقر يأخذ عنه، وكان ممّن يزوره من يتشيّعون لآل البيت في السر، ومن نبتت في نفوسهم نابتة الانحراف، إذا فرخت في خلايا الكتمان الذي ادرعوا به، آراء خارجة عن الدين، فكان يصدّهم، ويردّهم منبوذين، مذمومين. وكان يقصده أئمة الفقه كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وأبي حنيفة شيخ فقهاء العراق. وكان يرشد من يجيء إليه وقد أحصى الشيخ الطوسي في رجاله ستاً وستين وأربعمائة ممّن روى عن الباقر.

حدّث عنه: أبان بن تغلب الكوفي، وأبو حمزة الثمالي، والحكم بن عُتيبة، وربيعة الرأي، والاَعمش، وزرارة بن أعين، وعبد اللّه بن عطاء، وعبد الرحمن الاَعرج، والاَوزاعي، ومؤَمن الطاق، وخلق كثير.

قال فيه حقه عبد اللّه بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر الباقر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلّم. ويعني الحكم بن عتيبة.

وعن سلمة بن كهيل: في قوله تعالى: {لآياتٍ للمُتَوَسِّمِين} (الحجر:75)، قال: كان أبو جعفر منهم.

وقال ابن سعد: (كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الاَئمة أبو حنيفة وغيره)

وقال ابن كثير: (كان ذاكراً خاشعاً صابراً، وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضاً عند الجدال والخصومات)

وقال الذهبي: (وكان أحد من جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسوَدد، وكان يصلح للخلافة)

وقال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: (هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، متفوق درّه وراضعه، ومنمق دُرّه وواضعه، صفا قلبه، وزكا عمله، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة اللّه أوقاته، ورسخت في مقام التقوى قدمه، فالمناقب تسبق إليه، والصفات تشرف به)

وممّا أثر عنه من الحكم والمواعظ قوله: (عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد)

وقال: (إنّ اللّه خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرنّ من الطاعة شيئاً، فلعل رضاه فيه، وخبأ سخطه في معصيته، فلا تحقرنّ من المعصية شيئاً، فلعل سخطه فيه، وخبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرنّ أحداً فلعلّه ذلك الولي)

وقال: (إنّ أسرع الخير ثواباً البرّ، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه، وأن يوَذي جليسه بما لا يعنيه)

قال ابن كثير: هذه كلمات جوامع موانع، لا ينبغي لعاقل أن يغفلها. (انظر: موسوعة أصحاب الفقهاء)

الباحثون عن الله (281)

لقد اجتمعت به مع جمع من أصدقائي الفلاسفة.. ورحنا نناقشه في إلهه بما معنا من الفلسفة.. وقد غلبنا جميعا لأنه كان يملك مع العقل الذي يملكه الفلاسفة عقلا آخر لم نكن نملكه.. كان يملك وحي ربه.. وربه أعرف بذاته وبكمالاته من عقولنا.

ولذلك بزنا جميعا..

ولولا غرورنا لتركنا ذلك العقال الذي عقلتنا به عقولنا وسرنا خلفه إلى ربنا.

قلنا: فكيف التقيت به؟

قال: في يوم من الأيام اجتمعت مع أصدقائي من (جمعية محبي الحكمة) (1) في حديقة خارج أسوار أثينا بالقرب من أيكة مخصصة لعبادة الإله (أبولو ليكيوس).. وقد كنا نتحدث حينها عما كنت أحدثكم عنه عن الإله صاحب الكمال المطلق.. والذي هو أقرب إلى العدم المطلق..

وكان معنا حينها بعض رجال الدين المسيحيين ممن جمعتهم بأصحابنا من الفلاسفة عقد مودة وصداقة، وكانوا جميعهم ينتمون إلى مدرسة دومينيكانيه بنابولي.. وكان أهمهم بالنسبة لنا (القديس توما الأكويني).. ذلك الذي تنسب إليه (الفلسفة المدرسة) أو (فلسفة المدرسيين).. تلك الفلسفة التي حاولت المزج بين فكر أرسطو، والفكر اللاهوتي..

بعد أن أنهينا حديثنا، فوجئنا برجل غريب يدخل علينا.. كان كالشمس أو قريبا من الشمس، فلذلك انبهرنا بالنظر إليه عما كنا فيه.. قال لنا: مرحبا بفلاسفة زمانهم.. أنا (محمد الباقر) رجل من (آل محمد) نبي المسلمين، وقد جئتكم لأبشركم بالإله الذي بشر به جدي محمد.

قال أحدنا، وكان عنيفا شديدا: لم نسمع بفيلسوف اسمه (محمد).. في أي بلدة من بلاد

__________

(1) أقصد بها الفلسفة.. فكلمة (فلسفة) مشتقة من اللغة اليونانية القديمة، وقَدْ تُترجمُ بـ (حبّ الحكمة).. والفلاسفة في العادة يكونون متشوّقين لمعرفة العالم، والإنسان، والوجود، والقيم..

الباحثون عن الله (282)

اليونان كان يقيم؟

ابتسم محمد الباقر، وقال: وهل الفلسفة حكر على بلاد اليونان؟

قال صاحبنا: لا.. هي ليست حكرا.. ولكن لعلك لا تعرف أن الشعوب تختلف في اهتماماتها.. نحن اليونانيين اهتممنا بالعقل.. وغيرنا من الشعوب اهتمت بالزراعة أو برعي الأغنام أو بالصيد.. أو بغيرها من شؤون الحياة.

وقد كان لاهتمامنا بالعقل أثره في رقي عقولنا.. ولذلك نحن نربأ أن نسمع أحاديث الرعاة والفلاحين البسطاء الذين هم كالقدمين بالنسبة للرأس.

قال الباقر: الحكمة أشرف من أن تقيد بشعب.. وفضل الله أوسع من أن يضيق بخلقه.

قلنا: إن كنت تريد أن تحدثنا بالعقل.. فعندنا من العقل ما وصل إلى غايته.

قال الباقر: هناك العقل المجرد.. وهناك العقل المسدد.

قلنا: فأنت ترى أن عقولنا مجردة؟

قال الباقر: تلك نعمة من الله عليكم تحتاجون إلى شكرها.. وإلى تسديدها.

قلنا: فبم نسددها؟

قال الباقر: الله الجواد الكريم الهادي البديع يستحيل أن يترك عباده هملا.. لقد أرسل إليهم الرسل.. وأنزل عليهم الكتب.. وتجلى لهم فيها.. فمن لم يمزج عقله المجرد بتسديد الله سقط في أوحال عقله.

قلنا: ولكنا لا يمكننا أن نرفض عقولنا المجردة لأي عقل آخر.

قال الباقر: يستحيل أن يتعارض العقل المسدد مع العقل المجرد..

قلنا: لا بأس.. سنقبل بك أن تجلس معنا في هذا المجلس بشرط أن تحدثنا بما يقوله العقل المسدد، وما يقوله العقل المجرد.. لنرى مدى التوافق بينهما.

قال الباقر: وأنا أقبل ما تعرضونه علي.. فاختاروا ما تريدون أن تتحدثوا فيه.

الباحثون عن الله (283)

قلنا: لقد حددت أنت موضوع الحديث عندما أردت أن تبشرنا بإله محمد.

أراد الباقر أن يتحدث، فقاطعه توما، وقال: أنا أعرف محمدا ودين محمد.. وقد سمعتهم يتحدثون في بلاد الإسلام بأن لله أسماء حسنى.. فما تقول في ذلك؟

قلت: وما يقول العقل أيضا.. فنحن لا يهمنا إلا ما يقوله العقل؟

قال الباقر، وهو يتوجه بالحديث إلينا، وإلى توما: سأحدثكم بما يقوله قرآننا، وما يقوله نبينا، وما يقوله الكتاب المقدس، وما يقوله العقل المجرد.

قلنا: نحن لا نقبل أن تلقننا.. فسنناقشك في كل كلمة تقولها نرى أن عقولنا لا تستسيغها.

قال الباقر: لكم ذلك.. ولكن لا تخرجوا بنا إلى الجدل.. فلن يتعلم صاحب جدل.

قلنا: لك ذلك.. سنسلم لك بكل ما تقنعنا به.. ولن نجادلك في شيء.

قال الباقر: لقد ذكر صاحبكم أنه سمع في بلاد المسلمين من يتحدث عن أسماء الله الحسنى.

قلنا: فما أسماء الله الحسنى؟

قال: هي الأسماء التي تعرف الله بها إلى عباده.. فالله تعالى ذكر لنا في كتبه المقدسة ما يدلنا عليه، ويعرفنا به.

قلنا: فالكتب المقدسة إذن هي مظان أسماء الله الحسنى؟

قال: بعض أسماء الله الحسنى.. فالله لا يحاط به.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: بما أن أسماء الله تدل على كمالات الله، وبما أن كمالات الله لا نهاية لها، فأسماؤها الحسنى كذلك لا نهاية لها.. وما ورد في كلمات الله المقدسة التي أوحاها إلى أنبيائه هي بعض ما يمكن للإنسان أن يتعرف عليه من هذه الأسماء بحسب طاقته المحدودة.

لقد أشار رسول الله (إلى هذا، فقد كان يقول في دعائه: (أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛

الباحثون عن الله (284)

أن تجعل القرآن ربيع قلبي..) (1)

قلنا: فتستحيل معرفة كمالات إلهك إذن؟

قال: أجل.. فالله لا يحاط بمعرفته..

قال رجل منا: ومن لم يحط بمعرفته تستحيل معرفته..

قال آخر: فأنت تدلنا على مستحيل إذن.

قال: لا.. للمعرفة مراتب مختلفة (2).. فلو أن قائلا قال: (لا أعرف الله) كان صادقا، ولو قال: (أعرف الله) كان صادقا أيضا.

قال الرجل: أليس النفي والإثبات لا يصدقان معا، بل يتقاسمان الصدق والكذب، فإن صدق النفي كذب الإثبات، وبالعكس؟

قال الباقر: ذلك إذا اتحد وجه الكلام.. أما إذا اختلف فإنه يتصور الصدق في القسمين.. وذلك كما لو قال قال قائلكم لأخيه: (هل تعرف سقراط؟)، فإن قال: (وهل سقراط ممن يجهل شأنه.. أو هل في العالم من لا يعرفه..) كان صادقا بقوله هذا.. ولو قال: (ومن أنا حتى أعرف سقراط.. هيهات لا يعرف سقراط سوى سقراط أو من هو مثله أو فوقه، ومن أين لي أن أدعي معرفته أو أطمع فيها) كان صادقا أيضا.

وهكذا، فلو عرضنا خطا منظوما على عاقل، وقلنا: هل تعرف كاتبه، فإن قال: (لا)، صدق ولو قال: (نعم كاتبه هو الإنسان الحي القادر السميع البصير سليم اليد العالم بصناعة الكتابة.. فإذا عرفت كل هذا منه فكيف لا أعرفه)، فهذا أيضا صدق.. ولكن الأحق والأصدق قوله: (لا أعرفه)، فإنه بالحقيقة ما عرفه، وإنما عرف احتياج الخط المنظوم إلى كاتب حي عالم قادر سميع بصير سليم اليد عالم بصناعة الكتابة ولم يعرف الكاتب نفسه، فكذلك الخلق كلهم لم يعرفوا إلا

__________

(1) رواه أحمد وابن حبان.

(2) انظر: المقصد الأسنى للغزالي.

الباحثون عن الله (285)

احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبر حي عالم قادر.

قال الرجل: دعنا من هذا.. وحدثنا عن السبل التي يمكن لعقولنا أن تتعرف بها على الله.. وما علاقة ذلك الأسماء الحسنى؟

قال: لمعرفة الله سبيلان.. أما أحدهما فقاصر، وأما الآخر فمسدود.

قال الرجل: فما السبيل القاصر؟

قال: السبيل القاصر هو ذكر الأسماء والصفات، وذلك عن طريق التشبيه بما عرفناه من أنفسنا.. فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا.. فحياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه، بل لا مناسبة بين البعيدين..

وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم، لكن يقطع التشبيه بأن يقال: (.. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. (11) ((الشورى)، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين.

وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا: (إن الله سميع)، ولا الأكمه يفهم معنى قولنا: (إنه بصير)، ولذلك إذا قال القائل: (كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء؟) فنقول: (كما تعلم أنت الأشياء)، فإذا قال: (فكيف يكون قادرا؟)، فنقول: (كما تقدر أنت)، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم - أولا - ما هو متصف به ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه.

فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم لم يتصور فهمه أبدا، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه، وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا، فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه، فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة، وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم.

الباحثون عن الله (286)

قلنا: عرفنا السبيل الأول.. فما السبيل الثاني.. ذلك الذي نعته بالسبيل المسدود؟

قال: هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا.. وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى.. وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير.. وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى.

ولهذا، فإنه يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله.. بل على هذا المنوال يمكن أن يقال بأنه يستحيل أن يعرف النبي غير النبي.. وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه.. بل يمكن أن يقال على هذا المنوال: لا يعرف أحد حقيقة الموت، وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت، ودخول الجنة أو النار، لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة، ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها، والنار عبارة عن أسباب مؤلمة، ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه، وهو ألم النار، وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات.. فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات، بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

قال رجل منا: فما النهاية التي تنتهي إليها معرفة العارفين بالله؟

قال: نهاية معرفة العارفين بالله عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله.. فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا فقد عرفوه.. أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته، وهو الذي أشار إليه قائلهم: (العجز عن درك الإدراك إدراك)، بل هو الذي عناه سيد البشر (حيث قال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، ولم يرد به أنه

الباحثون عن الله (287)

عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه، بل معناه: (إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك)

ولهذا، فإنه لا يحظى مخلوق بملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة.. وأما اتساع المعرفة فإنها تكون في معرفة أسمائه وصفاته.

قال رجل منا: فكيف تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله إذن ما دام الأمر كما ذكرت؟

قال: لقد ذكرت لكم أن السبيل لذلك هو معرفة أسماء الله الحسنى.. فهي الباب الوحيد المفتوح لمعرفة الله.. وفي هذه الأسماء تتفاوت مراتب الخلق.. فليس من يعلم أنه تعالى عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطلع على بدائع المملكة وغرائب الصنعة ممعنا في التفصيل، ومستقصيا دقائق الحكمة، ومستوفيا لطائف التدبير، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله عز وجل.

قلنا: وعينا هذا.. فهلا انتقلت من الجملة إلى التفصيل..

قال: سلوني ما بدا لكم.. وستجدون من أسماء الله ما يدلكم على كمالات الله، وأنه أهل لكل حمد وثناء ومجد.

1 ـ الحق

قام أولنا، وكان اسمه (بروتاجوراس) (1)، وكان من السفسطائيين، وقد جرته

__________

(1) هو من أشهر الفلاسفة السوفسطائيين، وتعد آراؤه مصدراً لمذهب هؤلاء الفلاسفة، ولد في مدينة أبديرا حوالي عام 480 ق. م.. وقد طاف في أنحاء اليونان، ثمّ استقر به المقام في أثينا، وضع ً كتابا بعنوان (الحقيقة) شكك فيه في وجود الآلهة، اعتبر الإنسان مقياس الأشياء جميعاً، ولكون أفراد الناس كثيرين فإنّ إحساسات الناس متعددة ومتناقضة أحيانا ً، والحواس هي وسيلة الإدراك الوحيدة ومالا يدرك بها فليس موجوداً. جاء في أول كتابه: (لا أستطيع أن أعلم إن كانت الآلهة موجودة أم غير موجودة، فإنّ أموراً كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم، أخصها غموض المسألة وقصر الحياة)، وقد اتُهم بسبب ذلك بالإلحاد، وحكم عليه بالإعدام، وأحرقت كتبه علناً، ففر هارباً، ومات ً غرقا أثناء فراره سنة 410 ق. م (انظر الفلسفة اليونانية د. بيصار ص 72)

الباحثون عن الله (288)

سفسطته إلى الإلحاد.. فكان لا يؤمن بالله، وكان يعتبر أن كل ما يقال عنه مجرد أوهام شخصية لا علاقة لها بالواقع.. بل كان يرى فوق ذلك أن الحقيقة المطلقة غير موجودة، لأن الحقائق تتعدد بتعدد الأشخاص واختلاف أحوالهم.

قام، وقال: إن مبدأ كل كمال هو الحقانية.. والتي تعني وجوب الوجود وثبوته وعدم علاقته بأي تبعية؟

نظر إليه الباقر، وكأنه قرأ أفكاره التي كان يدافع عنها كل حين، وقال: أنت بقولك هذا تذكر اسما من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في كتبه المقدسة.. دلت عليه كل الدلائل.

قال: فما هو؟

قال الباقر: هو اسم الحق (1).. فالله هو الحق المبين..

لقد ذكر ربنا هذا الاسم فقال: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ) (الأنعام:62)، وقال: (فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَل بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلماً ((طه:114)، وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ((الحج:6)

قال بروتاجوراس: فما يعني هذا الاسم؟

قال الباقر: بما أنا اتفقنا على أن نقرب معاني أسماء الله بما نعيشه في حياتنا (2)، فأجبني.. إذا

__________

(1) الحق في اللغة اسم للموصوف بالحقية وإظهار الحقيقة، وهو يأتي على عدة معان، منها المطابقة والموافقة، ومنها الثبات دون الزوال، ومنها المتوحد عمن سواه خلاف الشرك والظلم.. والله سبحانه وتعالى في حق ذاته باق لا يزول.. وسنته ثابتة جارية لا تحول.. ودينه ثابت في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وكل صفاته حق فهي كاملة جامعة للصدق، فيها الكمال والجمال والجلال.

(2) استفدنا التقريبات والتوضيحات المذكورة هنا من شرح العلامة محمد راتب النابلسي لشرح أسماء الله الحسنى من خلال دروسه الصوتية المنتشرة بكثرة على النت.

الباحثون عن الله (289)

كان معك جهاز كهربائي، وكنت بحاجة إلى طاقة كهربائية، ثم توجهت إلى مأخذ كهربائي ووضعت فيه الشريط، ولم تر الآلة تتحرك، فماذا تستنتج من هذا؟

قال: أستنتج أن المأخذ ليس فيه كهرباء.

قال الباقر: ولو توجهت إلى مأخذ آخر ووضعت فيه الشريط فاشتغلت الآلة، فماذا تستنتج؟

قال: أستنتج أن المأخذ فيه كهرباء.

قال الباقر: فأول المأخذين باطل.. وأما الثاني فحق؟

قال: يمكنك أن تقول ذلك.

قال الباقر: فهذا أول ما يدل عليه اسم الحق.. فالله هو الحق الوحيد، وإذا توجهت إلى غيره فلن تجد شيئاً، بل لن تجد إلا سراباً في سراب.. لن تجد إلا وعودا كاذبة، وأقوالا فارغة، وكلمات طنانة، لكنها هراء في هراء.. أما إذا توجهت إلى الله، فستجد كل شيء..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: (والذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) ((النور)

قال ذلك، ثم التفت إلى الجمع المحيط به، وقال: إن أخطر ما في الحياة أن نتجه إلى جهة لا تملك شيئاً، وأخطر ما فيها أن تعتقد اعتقاداً غير صحيح ليس له مرتكز واقعي.. وأخطر كلام نقوله أن ننطق بشيء لا يرتبط بالواقع.

ولهذا، فإننا إذا كنا مع الحق، فإننا سنشعر بسعادة كبيرة لا نهاية لها.. قد تسألون لماذا؟

والجواب هو أننا في ذلك الحين نكون مع الثابت ومع الموجود، ولا يخيب من كان مع الثابت، ولا يضل من كان مع الموجود..

هذا إذا كنا مع موجود ممكن، فكيف إذا كنا مع موجود واجب..

الباحثون عن الله (290)

قال: ما تعني؟

قال الباقر: أنتم تعلمون أن الحق مقابل للباطل (1).. وبما أن الأشياء تستبان بأضدادها، وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا، وإما حق مطلقا، وإما حق من وجه باطل من وجه.. فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا.. والواجب بذاته هو الحق مطلقا.. والممكن بذاته الواجب بغيره هو حق من وجه باطل من وجه، فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل، وهو من جهة غيره مستفيد للوجود فهو من هذا الوجه الذي يلي مفيد الوجود موجود فهو من ذلك الوجه حق ومن جهة نفسه باطل.

وانطلاقا من هذا، فإن أحق الموجودات بأن يكون حقا هو الله.. وأحق المعارف بأن تكون حقا هي معرفة الله.. وأحق الكلمات بأن تكون حقا هي الكلمات المعبرة عن معرفة الله.. ذلك لأن الحق يطلق على الوجود في الأعيان، وعلى الوجود في الأذهان وهو المعرفة، وعلى الوجود الذي في اللسان وهو النطق.

فأحق الأشياء بأن يكون حقا هو الذي يكون وجوده ثابتا لذاته أزلا وأبدا، ومعرفته حقا أزلا وأبدا، والشهادة له حقا أزلا وأبدا.. وكل ذلك لذات الموجود الحقيقي.

والله تعالى هو الحقيق بكل ذلك:

فالله تعالى واجب الوجود لذاته من غير حاجة لأي علة أو سبب، وكل ما عداه دائم الافتقار إليه في وجوده، ولهذا فهو هالك من حيث ذاته، كما قال تعالى: (.. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.. (88) ((القصص)، وهو كذلك أزلا وأبدا، ليس ذلك في حال دون حال، لأن كل شيء سواه أزلا وأبدا من حيث ذاته لا يستحق الوجود، ومن جهته يستحق، فهو باطل بذاته حق بغيره.

والمعرفة بالله حق في نفسها، لأنها مطابقة للمعلوم أزلا وأبدا، ومطابقتها لذاتها لا لغيرها، بخلاف العلم بوجود غيره، فإنه لا يكون إلا ما دام ذلك الغير موجودا، فإذا عدم عاد ذلك

__________

(1) انظر: المقصد الأسنى.

الباحثون عن الله (291)

الاعتقاد باطلا، وذلك الاعتقاد أيضا لا يكون حقا لذات المعتقد لأنه ليس موجودا لذاته، بل هو موجود لغيره.

والشهادة لله بالوحدانية وغيرها هي أحق الأقوال لأن الناطق بها صادق أبدا وأزلا، لذاته لا لغيره..

2 ـ الحي

قام الثاني، وكان اسمه (طاليس)، وقد كان شديد الولع بجده الفيلسوف الكبير (طاليس) (1).. وكان في كل أحاديثه معنا يردد ما كان يردد جده من أن أنّ الماء هو أصل الأشياء ومبدؤها، منه بدأت وإليه تنحل، وأنه هو الجوهر الأساس الذي تولدت عنه كل الموجودات، وأنّه قابل لكل صورة، ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما، وأنه هو علّة كل مبدع (2)، وأنه حين جمد الماء تكونت الأرض، وحين انحل تكون الهواء، ومن صفوة الهواء تكونت النّار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتغال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب.

قام في ذلك المجلس، وقال: لاشك أن من أسماء إلهك الماء.. فالماء هو أصل الموجودات.. وهو حياة الحياة..

ابتسم الباقر، وقال: الماء صنعة الله.. والحياة هبة الله.. ويستحيل أن يفتقر واهب الحياة

__________

(1) (طاليس) (550 - 624 ق. م) وهو من أَوّل وأشهر فلاسفة اليونان، وهو أحد الحكماء السبعة، درس العلوم دراسة عميقة، عمل مهندساً بحرياَ، واستطاع أن يضع تقويماً بحرياً للملاحين يحتوي على إرشادات وقواعد فلكية كانت لها آثارها القيمة في تاريخ الملاحة البحري. (انظر الفلسفة اليونانية: بيصار ص 55، الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون: د. عزت قرني ص.24)

(2) هو يريد بهذا أن الماء هو مبدأ التركيبات الجسمانية، لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية.. لكنه لما أعتقد أنّ العنصر الأول هو قابل كل صورة، أي منبع الصور كلها، فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها، ولم يجد عنصراً على هذا النهج، مثل الماء فجعله المبدع الأول في المركبات، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية. (الملل والنحل 3/ 121)

الباحثون عن الله (292)

للحياة.. فلا يهب الحياة إلا الحي الذي لا يموت..

قال طاليس: فمن أسماء إلهك إذن (الحي)

قال الباقر: أجل.. لقد ذكر الله هذا الاسم في كلماته المقدسة، فقال: (الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم ((البقرة: 255) وقال: (وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم ((طه: 111) وقال: (هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ((غافر: 65)

وذكره في كلماته السابقة إلى أنبيائه، ففي (يوشع 3: 9 - 10): (وَقَالَ يَشُوعُ لأَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ: تَعَالَوْا إِلَى هُنَا وَاسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبّ إِلَهِكُمْ. بِهَذَا تَعْرِفُونَ عَنْ يَقِينٍ أَنَّ اللهَ الحَيَّ مَوْجُودٌ بَيْنَكُمْ، وَأَنَّهُ يَطْرُدُ مِنْ أَمَامِكُمُ الكَنْعَانِيِّينَ وَالحِثِّيِّينَ وَالحِوِّيِّينَ وَالفِرِزِّيِّينَ وَالجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَاليَبُوسِيِّينَ)

قال طاليس: نحن نعرف الحي منا.. ولكنا لا نعرف كيف يكون ربك حيا؟

قال الباقر: فمن الحي منا؟

قال طاليس: لقد ذكر أصحابنا أنه المدرك الفعال.. فمن لا فعل له أصلا ولا إدراك فهو ميت..

قال الباقر: فما أقل درجات الحياة؟

قال طاليس: أن يشعر المدرك بنفسه.. فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت.

قال الباقر: وما أكمل درجات الحياة؟

قال طاليس: أكمل درجات الحياة تكون لمن دخلت جميع المدركات تحت إدراكه، وجميع الموجودات تحت فعله حتى لا يشذ عن علمه مدرك، ولا عن فعله مفعول.

قال الباقر: أذلك هو الحي الكامل المطلق؟

قال طاليس: أجل..

قال الباقر: فذلك هو الله عز وجل.. فهو الحي المطلق، وكل حي سواه فحياته بقدر إدراكه

الباحثون عن الله (293)

وفعله، وكل ذلك محصور في قلة.

سكت طاليس قليلا، ثم قال: ولكن مع ذلك يمكنك أن تقول بأننا أيضا نتمتع بحياة مطلقة كحياة إلهك.. فنحن نعيش حياة ملء السمع والبصر، فيمكن لعقولنا أن تتجول في الأكوان مهما دقت أو ترفعت، ويمكن لأقدامنا أن تسير حيث تشاء.. ولعلك قد سمعت برحلتنا إلى القمر..

ابتسم الباقر، وقال: ولكن حياتنا مع ذلك متوقفة على زمن محدود، وعلى أجهزة محدودة، فعمر الإنسان بعمر شرايينه، وعمره متعلق بقلبه وشرايينه ودسامات قلبه، ومتعلق بجهازه العصبي، ومتعلق بعمل الدماغ، ومتعلق بالكليتين، فلو أن البول احتبس في الكليتين ست ساعات تتوقف الكليتان، وإذا توقفت الكليتان ينتهي الإنسان فلا يعيش الإنسان ثلاث ساعات من دون كبد، إذا تشمع تشمعاً كاملاً خلال ثلاث ساعات يموت.. وهكذا، فقد جعل الله للموت أسبابا لا يمكن عدها (1).. أما الله تعالى فهو الحي الذي لا يموت، لأنه حي بذاته، فلا يستمد حياته من أي جهة من الجهات.

3 ـ القيوم

قام الثالث، وكان اسمه (أنكسماندريس)، وكان فخورا بجده (أنكسماندريس) (2)، وكان شديد الاختلاف مع صديقنا (طاليس) بالرغم من أنهما أبناء بلدة واحدة، ومن مدرسة فلسفية واحده..

فقد كان (أنكسماندريس) – خلافا لطاليس- يرى أنّ الماء ليس هو أصل الكون، وذلك لاستحالة اليابس بالحرارة إلى المائع، فالجامد سابق على الماء، والماء بذلك ليس أصلا للكون.. بالإضافة إلى أن الماء معين ومحدود، ويستحيل أن يكون المبدأ الأول معيناً محدودا ً، وإلاّ لما تولّدت

__________

(1) انظر درس النابلسي في شرح اسم الحي في موقعه على الانترنت.

(2) هو (أنكسماندريس) (547 - 611 ق. م) فيلسوف مالطي، وهو ثاني فلاسفة المدرسة (اليونية).

الباحثون عن الله (294)

منه الأشياء المتميزة المحدودة.

وكان يرى أنّ الأشياء كانت في البدء شيئاً واحداً وجدت فيه جميع المعاني متعادلة متكافئة، وبفعل التطور والحركة حدثت انفصالات واجتماعات بين بعضها والبعض الآخر بنسب معينة وبمقادير متفاوتة فتكونت عنها الأشياء الطبيعية..

ولذلك، فقد كان يرى أن المادة اللامتناهية ثابتة غير حادثة، وأنها أبدية، وأن الحركة الدائمة هي التي تعمل على تغيير الأشياء التي من صفاتها التحول والتغير.. والتغيير يحصل بشكل آلي مجرد وبمحض الصدفة، فليس هناك علّة فاعلة، وليس هناك غاية من وراء الفعل (1).

قام في ذلك المجلس، وقال: لا يكفي أن يكون الكامل حقا وحيا.. بل لابد أن تكون له القوامة الكاملة على الأشياء، وإلا كان كماله قاصرا؟

قال الباقر: أنت بكلامك هذا تذكر اسما من أسماء الله الحسنى، هو اسم (القيوم)، وقد ورد ذكره في كلمات الله المقدسة التي أوحاها لأنبيائه..

ففي القرآن الكريم.. (وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلماً (111) وَمَنْ يَعْمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلماً وَلا هَضْماً (112) ((طه)

قال أنكسماندريس: فما يعني هذا الاسم؟

قال الباقر: قال الباقر: إن هذا الاسم يدل على أن الله قائم بذاته، ومقوم لكل ما عداه.

قال أنكسماندريس: إن كونه قائما بذاته يستدعي أن لا يكون عَرَضاً في موضوع، ولا صورة في مادة، ولا حالاّ في محل أصلاً.. لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته؟

قال الباقر: صدقت.. والله كما وصفت لا يفتقر لمحل.

قال أنكسماندريس: والقائم بذاته يستدعي أن تكون ماهيته غير مركبة من الأجزاء.. وذلك

__________

(1) انظر: الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ص.26.

الباحثون عن الله (295)

لأن كل مركب مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وجزؤه غيره، وكل مركب فهو متقوّم بغيره، والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته، فلا يكون قيوماً.

قال الباقر: صدقت.. والله كما وصفت.

قال أنكسماندريس: والقائم بذاته يمتنع كونه متحيزاً، لأن كل متحيز فهو منقسم، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة، لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون.

قال الباقر: صدقت.. والله كما وصفت.

قال أنكسماندريس: والقيوم لكل ما سواه يستدعي أن يكون كل ما سواه مُحْدَثاً، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير، لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً.

قال الباقر: صدقت.. والحقيقة كما وصفت.

4 ـ العليم

قام رابعنا، وكان اسمه (فيثاغورث)، وكان دائم الذكر لسميه الفليسوف الرياضي (فيثاغورث بن منسارخس) (1)، وكان يرى - كما يرى سميه - أن أصل الكون هو العدد، لأنّه أشبه بعالم الأعداد منه بعالم الماء أو النّار أو الهواء، فالعدد أوّل مبدع أبدعه الباري تعالى، وأوّل العدد الواحد، وأن مبادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، لأنّ الموجودات أعداد، والعالم على هذا مر كّب من عدد ونغم، والموجودات ليست إلا محاكية لنماذجها الأولى اللازمة لها وهي الأعداد، وما يتصور من مفارقة بينها فإنما هي في الذهن فقط لا في الحقيقة والواقع، ولا يمكن

__________

(1) هو (فيثاغورث بن منسارخس) ولد سنة 572 ق. م في جزيرة ساموس من بلاد اليونان، سافر فيما بعد إلى مصر ثم استقر في جنوب إيطاليا وهناك أسس مدرسته. (الفلسفة اليونانية: د. بيصار، ص 60)

الباحثون عن الله (296)

للأشياء أن يتمايز بعضها عن بعض إلا بالعدد.. فمثلاً الأطول يتميز عن الأقصر والأكبر عن الأصغر بزيادة وحدات وعدد فقط، لا بزيادة شيء خارج عن العدد، وكذا الّنغم الذي تتكون منه الفواصل الموسيقية، لا يتميز عن غيره إلا بتناسب بين وحداته المختلفة تجعل من مجموعها صوتاً ونغما يألفه السمع (1).

قام في ذلك المجلس، وقال: إن كون إلهك حيا قيوما يستدعي كونه عليما.. فلا يمكن أن تتحقق الحياة والقيومية بصورتها الكاملة لغير العالم.

قال: صدقت.. ولذلك، فإن من أسماء الله الحسنى (العليم) (2).. قال تعالى في القرآن الكريم يذكر هذا الاسم: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ ((لقمان:34)، وقال: (قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ((النمل:65)

قال فيثاغورث: دعنا من النصوص المقدسة.. وحدثنا بما تقوله عقولنا المقدسة.. فما برهان علم الله من العقل؟

قال الباقر: ألا ترى إلى هذا الكون الرحب الممتلئ بمظاهر التناسق والحكمة والإبداع في كل

__________

(1) الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ص.32.

(2) وقد نص على هذا الاسم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِي