×

 الكتاب: القرآن.. والوعيد والإنذار

الوصف: رواية حول الوعيد والإنذار وعلاقتهما بالموعظة الحسنة

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1444 هـ

عدد الصفحات: 510

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-3-85901-0

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة العاشرة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الخامسة من خصائص القرآن الكريم، خاصية الوعيد والإنذار، وهي من الخصائص المرتبطة بالموعظة الحسنة، والتي اعتبرها الله تعالى صفة من صفات القرآن الكريم، ووظيفة من وظائف الهداة والصالحين ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ومن ورثهم من أئمة الهدى وأتباعهم من الصالحين.

وقد حاولنا أن نجمع في هذا الكتاب النماذج الكثيرة من الآيات الكريمة التي يرد فيها الوعيد والإنذار والتهديد، إما كمقاطع أو كآيات منفصلة، لنتعرف من خلالها على المنهج القرآني في الإنذار والوعيد، ليكون لنا في أسلوبه عبرة وأسوة.

وقد ضممنا إلى ما ورد في القرآن الكريم من الوعيد والإنذار الكثير من الأحاديث التي تفصل المعاني الواردة في الآيات الكريمة أو تؤكدها وتزيد في وضوحها، وذلك بناء على ما ذكرناه من محاولة ربط القرآن الكريم بالسنة المطهرة، قدر الإمكان، مع اشتراط أن تكون السنة موافقة للقرآن.

وقد جعلنا من الأهداف الكبرى للرواية، وخاصة بطابعها الفني، الرد على المرجئة القدامى والجدد، والذين استغلوا بعض المعاني القرآني المرتبطة برحمة الله الواسعة، ليلغوا ما ورد فيه من الوعيد والإنذار والتهديد.

 

القرآن والوعيد والإنذار (14)

المقدمة

هذا الكتاب هو المقدمة العاشرة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الخامسة من خصائص القرآن الكريم، خاصية الوعيد والإنذار، وهي من الخصائص المرتبطة بالموعظة الحسنة، والتي اعتبرها الله تعالى صفة من صفات القرآن الكريم، ووظيفة من وظائف الهداة والصالحين ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ومن ورثهم من أئمة الهدى وأتباعهم من الصالحين.

وهذه الخاصية مرتبطة بخاصية أخرى مكملة لها، وهي خاصية التذكير والتبشير، والتي خصصنا لها الكتاب التاسع من هذه السلسلة، كما أنها مرتبطة بخاصية القصص والاعتبار، والتي خصصنا لها الكتاب العاشر من هذه السلسلة.

ولذلك فإن هذه الكتب جميعا تهدف إلى محاولة استخراج المنهج السليم للوعظ من خلال القرآن الكريم، وذلك بذكر النماذج المختلفة عن آياته المرتبطة بها، والتي تتناسب مع الأحوال النفسية المختلفة.

وقد أشار إلى هذه الخاصية في القرآن الكريم آيات كريمة كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [الأنبياء: 45]، وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19].. وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة، والتي سنتحدث عنها بتفصيل في أثناء الكتاب.

وقد حاولنا أن نجمع في هذا الكتاب النماذج الكثيرة من الآيات الكريمة التي يرد فيها الوعيد والإنذار والتهديد، إما كمقاطع أو كآيات منفصلة، لنتعرف من خلالها على المنهج القرآني في الإنذار والوعيد، ليكون لنا في أسلوبه عبرة وأسوة.

القرآن والوعيد والإنذار (15)

وقد ضممنا إلى ما ورد في القرآن الكريم من الوعيد والإنذار الكثير من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، والتي تفصل المعاني الواردة في الآيات الكريمة أو تؤكدها وتزيد في وضوحها، وذلك بناء على ما ذكرناه من محاولة ربط القرآن الكريم بالسنة المطهرة، قدر الإمكان، مع اشتراط أن تكون السنة موافقة للقرآن، لأن ذلك علامة ضرورية لصحتها، فيستحيل أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أئمة الهدى ما ورد في القرآن الكريم؛ فالكتاب الناطق لا يخالف الكتاب الصامت.

وقد جعلنا من الأهداف الكبرى للرواية، وخاصة بطابعها الفني، الرد على المرجئة القدامى والجدد، والذين استغلوا بعض المعاني القرآني المرتبطة برحمة الله الواسعة، ليلغوا ما ورد فيه من الوعيد والإنذار والتهديد.

ولو أنهم قرؤوا القرآن جميعا، لعرفوا أن الوعيد لا يتنافى مع الرحمة، بل هو من مقتضياتها.. فتربية العباد، والتي هي من مقتضيات كون الله تعالى ربا للعالمين، تقتضي أن يهددهم ويتوعدهم، بل أن يعاقبهم، حتى يستقيم أمرهم.

وهكذا، فإن عدالته تتنافى مع ذلك الفهم السلبي للرجاء والرحمة الإلهية، ذلك أن موازين الله تعالى العادلة تأبى أن تسوي بين الصالح والمنحرف، وبين المظلوم والظالم، وبين صاحب الأخلاق العالية، وصاحب الأهواء النازلة.

ولذلك، فإن فهم القرآن الكريم يجعلنا نقبل كل ما فيه من تبشير أو إنذار.. فمعرفة الله الحقيقية مرتبطة بذلك.. فالله صاحب صفات الجمال والجلال، وهو الرحيم، وهو العادل، وهو الذي يكرم عباده إن أحسنوا، وهو الذي يغضب عليهم إن أساءوا.

وقد حاولنا أن نبرهن على كل هذه المعاني، لا من خلال الجدل والبراهين، ولكن من خلال القرآن الكريم، وما يؤكده من السنة المطهرة، ذلك أن هذه حقائق سمعية نقلية، يعبر

القرآن والوعيد والإنذار (16)

لنا الله تعالى فيها عن نفسه، وعن صفاته وأفعاله، وأدبنا معه يقتضي ألا نجادله فيها، وهل يمكننا أن نجادل شخصا يعبر لنا عما يشتهيه أو ينفر منه.

ولهذا نرى القرآن الكريم يربط بين الجدل في الله، وبين أمثال هذه المفاهيم، ثم يربط بالوعيد والإنذار، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 3 ـ 4]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: 8 ـ 9]

فلذلك كان المنهج السليم في حوار هؤلاء المرجئة هو أن تلقى بين أيديهم هذه الآية الكريمة الكثيرة ليتدبروها، فهي كلام الله الواضح الذي لا يمكن التلاعب به، أو النفور من مقتضياته.

وبناء على هذا حاولنا أن نجمع كل ما ورد في القرآن الكريم من أنواع الوعيد والتهديد والإنذار، وقد رأينا تقسيمها إلى خمسة أقسام، خصصنا كل قسم منها بفصل من الفصول.

أما الفصل الأول، فتناولنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عن الإنذار والتحذير، وتعتبره من وظائف الرسل والهداة العظمى.

وأما الفصل الثاني، فتناولنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عما ورد في القرآن الكريم من أنواع الوعيد، وبالصيغ المختلفة، كالوعيد من خلال الموازنات والمقابلات بين الصالحين وغيرهم، أو كالوعيد المرتبط بالحياة والموت، أو كالوعيد المرتبط بالأهوال والشدائد التي أخبر الله تعالى أن البشر جميعا سيشاهدونها، أو كالوعيد المرتبط بالخصومات والحوارات بين أهل جهنم وغيرهم، أو كالوعيد المرتبط بالتهديدات الخاصة

القرآن والوعيد والإنذار (17)

على أصناف المعاصي.

وأما الفصل الثالث، فتناولنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عن تفاصيل العقوبات التي أعدها الله تعالى لمن لم يلتزم بما دعاه إليه من حقائق وقيم، وقد ضممنا إليه ما ورد في السنة المطهرة من الأحاديث المؤكدة لذلك والمفصلة له.

وأما الفصل الرابع، فتناولنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عن الانحرافات التي تؤدي بأصحابها إلى أن يصبحوا أهلا للوعيد الإلهي، وقد ضممنا إليه ما ورد في السنة المطهرة من الأحاديث المؤكدة لذلك والمفصلة له.

وأما الفصل الخامس، فتناولنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عن التحصينات التي تحمي الملتزم بها من الوقوع في الوعيد الإلهي، وقد ضممنا إليه ما ورد في السنة المطهرة من الأحاديث المؤكدة لذلك والمفصلة له.

أما الرواية التي حاولنا أن نبسط من خلالها المعاني، فهي تبدأ من تألم المؤلف من ظاهرة الإرجاء، والتي استغلها أعداء الدين والقيم لنشر ما يشاءون من الرذائل والانحرافات، والتي تستند إلى تعطيل كل الآيات الكريمة التي تتوعد وتهدد وتنذر، والتي وصل بها الأمر إلى اعتبار جهنم مجرد دار مجازية لا وجود لها، وفي حال وجودها ستظل خاوية لن يدخل أي أحد.

وبعد ذلك الألم الذي وقع فيه تلميذ القرآن الكريم يشرفه الله بأن يدعوه معلمه إلى زيارة قرية لا تختلف في إرجائها عن قريته، وهناك يستمع للوعاظ الذين وفدوا إليها، لتعليم الناس ودعوتهم إلى التدبر في آيات الوعيد والإنذار، وعدم إهمالها.

وغرضنا من هذا طبعا هو طرح هذه المعاني، والتفاسير المرتبطة بها بطريقة مبسطة، بحيث يعبر كل شخص عن فكرته والمعاني التي فهمها، بأسلوب سهل بسيط.

القرآن والوعيد والإنذار (18)

ولذلك تجنبنا ما يذكره المفسرون عادة من التحليلات اللغوية ونحوها، حتى لا يتشتت ذهن القارئ بها، وإنما اكتفينا بالخلاصة مع التصرف فيها بحسب ما يقتضيه المقام.

مع العلم أن علاقتنا بالآيات الكريمة التي أوردناها في هذا الكتاب، قد نتعرض لها في كتب أخرى، بحسب المعاني التي نحتاج إليها فيها، كما شرحنا ذلك سابقا.

القرآن والوعيد والإنذار (19)

البداية

بعد أن طلب مني معلمي تجهيز نفسي لرحلتي الجديدة إلى [القرآن والوعيد والإنذار]، تذكرت الكثير من الوعاظ والدعاة الجدد الذين زعموا لأنفسهم أنهم يحملون مشعل البشارة، لا بالحقائق كاملة وواضحة ودقيقة كما ورد بها القرآن الكريم، وإنما بالحقائق التي تعجب النفوس، وتميل إليها الأهواء.

ولذلك رأى هؤلاء أن ذكر البرزخ وأهواله، أو جهنم وعذابها، أو وعيد الله وإنذاره، صورا مشوهة لله، ينبغي كتمانها ليرضى عباده عنه، مع أنه كان في مقدورهم أن ينظروا إليها باعتبارها من رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، فالله ما هدد عباده، ولا توعدهم، لينتقم منهم، وإنما ليربيهم ويصلحهم، ويجعلهم أهلا لذلك العالم الجميل الذي أعده لهم.

ومما زاد في ألمي ما رأيته من جرأة على أحكام الله وشريعته من الذين أدمنوا الاستماع إلى أولئك الدعاة، حتى صاروا يفخرون بالمخالفة، بل بالفسوق، ويتهمون من ينصحهم، أو يأمرهم بالمعروف، أو ينهاهم عن المنكر بالتشدد والتطرف والتزمت.

ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يدخلون جميع البشر إلى الجنة، من غير اهتمام بدينهم، ولا بأخلاقهم.. وكأن جهنم لم تخلق إلا لأولئك الأعراب البسطاء المشركين الذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما من عداهم، فالجنة كلأ مباح لهم، حتى لو جهروا علانية بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل بربهم.. فالإلحاد عندهم لا يمنع من دخول الجنة، لأن صاحبه لم يقتنع بوجود الله، ولذلك يمكنه أن يحتج على ربه بذلك، وبما أن ربه رحيم، فسيدخله الجنة مباشرة، ليثبت له وجوده وسعة رحمته.

وقد رأيت الكثير من هؤلاء من يعرف الله، أو يعرّف به، لا من خلال ما ورد في

القرآن والوعيد والإنذار (20)

القرآن الكريم من التعريفات، وإنما من خلال صور الرقص المولوي، فإذا أتيته بآية في ذكر جهنم رد عليك ساخرا بأبيات يدعي فيها الحب والعشق، ولست أدري كيف يستقيمان مع الانحراف والفسوق، وهل يمكن أن يتجرأ المحب على عصيان محبوبه.

ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل تعداه إلى أولئك الذين زعموا لأنفسهم أنهم حماة السنة، حيث إنهم كانوا يروون الأحاديث الكثيرة التي تحطم كل ما ورد في القرآن الكريم من الوعيد والإنذار، لأنها تجعل من النطق بالشهادتين وحده كافيا لدخول الجنة مباشرة.. أما كل تلك الذنوب التي ورد الوعيد عليها، فهي ستذهب جميعا بالشفاعة في الآخرة، أو بالحج وقطرات ماء الوضوء في الدنيا.

وهكذا انتشرت الكثير من الروايات الإرجائية، التي تحول من الزنا والسرقة وشهادة الزور وكل الجرائم الإنسانية بما فيها القتل نفسه شيئا بسيطا لا أهمية له، مع أن الله تعالى في القرآن الكريم يتوعد بالعذاب الشديد لأجل قضايا بسيطة جدا، لا تساوي أمامها تلك الجرائم شيئا.

في غمرة تلك الآلام، زارني معلمي الجديد، وقال: هيا بنا.. فقد آن أوان رحلتك الجديدة إلى القرآن والوعيد والإنذار.

قلت: أستجير بالله من وعيده وإنذاره.

قال: ليس هناك من استجارة أحسن من أن تتعلم علمهما.

قلت: كيف؟

قال: من عرف وعيد الله، وأيقن به، خاف وارتدع، ومن خاف وارتدع، وفقه الله تعالى إلى التقوى والصلاح.. ولذلك كان للوعيد دوره في التربية، كما كان للوعد دوره كذلك.

القرآن والوعيد والإنذار (21)

قلت: فلم لا نكتفي بالوعد، كما يفعل كثير من قومي؟

قال: لو علم الله تعالى أن الوعد وحده كاف في الردع عن المعاصي، لاكتفى به، ولسنا أعلم بخلق الله من الله.

قلت: صدقت.. فالقرآن الكريم مليء بالوعيد والإنذار.. لكن المرجئة يأبون إلا أن يغضوا الطرف عنها، وكأن تلك الآيات أنزلت في كتب السابقين، لا على خاتم الأنبياء والمرسلين.

قال: أولئك لم يعرفوا الله تعالى، ولو عرفوه لقدروه حق قدره.. فكمال الله وعظمته تقتضي أن يعد ويتوعد، وينعم ويعذب.

قلت: صدقت.. بل إن تنعيم المجرم والظالم ظلم للمظلوم الذي تألم وتعذب جراء الجرائم التي لحقت به من جرم المجرمين.

قال: فهلم معي إذن إلى المدينة التي تتعلم فيها ما تحتاج لتسجيله لتنشره بين قومك، لعلهم يعودون لكتاب ربهم، ولا يكتموه، فالكتمان تحريف.

ما سرت معه قليلا حتى لاحت لي قرية لا تختلف كثيرا عن قريتي التي أسكنها، وكأنها عينها انتقلت إلى محل آخر.. وفجأة، ونحن نسير إليها، لاح لنا رجل يشبهني تماما، وكأنه نسخة طبق الأصل مني.

وقد استغربت كثيرا عند رؤيته، فرحت أسأله عنه، وعن علاقته بي، فقال: أنا من مدينة استطاع الشيطان أن يستحوذ على الكثير من أهلها بسبب غفلتهم عما ورد في القرآن الكريم من التحذير والإنذار، ولذلك قدمت لقومي بنفر من الوعاظ ليعيدوهم لوعيهم، ويردوهم إلى ربهم.

قلت: ولكنك تشبهني في خلقتي كثيرا.

القرآن والوعيد والإنذار (22)

قال: الله يخلق ما يشاء.. ولا يهمني أن أشبهك في خلقك، ولكن يهمني أن أشبهك في اهتمامك وألمك.. فأنا مثلك أيضا تألمت كثيرا لما عليه قومي، وقد هداني الله تعالى إلى وعاظ ناصحين، ودعاة مخلصين، وقد جئت بهم إلى قومي.

قلت: وما علاقتي أنا بذلك؟

قال: ألم تقدم هذه المدينة لأجل ذلك؟

قلت: ما تعني؟

قال: ألم تر بين قومك من يهون من عذاب الله، ويتوهم أن الله ينعم فقط، ولا يعذب؟

قلت: تقصد المرجئة الذين راحوا يتلاعبون بالحقائق القرآنية المقدسة، ويدنسوها بأهوائهم، حتى تحولت جهنم في أذهان الناس إلى محل للنعيم لا محل للعذاب.

قال: أجل.. فمن قومي من حصل له مثلما حصل لمن ذكرت من قومك.. ولذلك ذهبت إلى مدينة الوعاظ، واصطحبت معي من ينذر قومي ويحذرهم، ليهتدوا سواء السبيل.

قلت: طوائف المرجئة كثيرون.. فمن أيهم قومك؟

قال: من كل الطوائف..

قلت: أفيهم أولئك المحدثون والإخباريون الذين يوردون ما يملأ النفوس بالطمع في فضل الله، ومن غير أي عمل؟

قال: كما يوجد أمثالهم في قومك يوجد أمثالهم في قومي.. فقومي يشبهون قومك، مثلما أشبهك تماما.

قلت: أفيهم من يدعي العرفان، وأن الكشف أداه إلى ذلك؟

قال: كما أنهم يوجدون بين قومك، فإنهم يوجدون بين قومي، وما أكثرهم.

القرآن والوعيد والإنذار (23)

قلت: أفيهم من يستعمل عقله المجرد، ويتوهم أن الله يمكنه أن يخلق الجنة فقط، ولا يمكنه أن يخلق النار.

قال: أجل.. وفيهم من لا يكتفي بحجج العقل، بل يستعمل بعض ما ورد في الأحاديث والأخبار ويسيء فهمها.

قلت: من الصعب محاورة هؤلاء.. وأنا قد جربتهم، فهم لا يتقنون فنا كما يتقنون فن الجدل، حتى أنهم يتوهمون أنه يمكنهم أن يقنعوك بكون الأبيض أسود، وكون الليل نهارا.

قال: صدقت، وقد قال بعضهم وهو يجادلني: إن لفظ العذاب في القرآن الكريم لا يراد به سوى العذوبة.. وعندما طالبته بالدليل ذكر لي أنه الكشف والذوق والوجدان.

قلت: بربك كيف يمكن محاورة هؤلاء؟

قال: لقد عرفت أن هؤلاء لا يجدي معهم الحكماء ولا الفلاسفة ولا المجادلون.. ولذلك أحضرت لهم الوعاظ.

قلت: وهل يمكن للوعاظ أن يقنعوا هؤلاء.. إنهم يكتفون بقراءة القرآن الكريم والأحاديث والآثار، وقد يشرحون ما تدل عليه معانيها.

قال: ولهذا قصدتهم.. فقومي لا يقابلون المجادل إلا بالجدل.. لكنهم إن سمعوا القرآن الكريم خضعوا ولانوا.

قلت: لكنهم سيرمونهم حينها بكونهم مجرد حشوية وإخباريين يرددون النصوص، ولا يعون معانيها.

قال: هم يقولون ذلك بألسنتهم وأهوائهم.. لكن حقائقهم تقول غير ذلك.

قلت: ما تعني؟

قال: الوعاظ الذين سيذهبون إليهم سيتحدثون إلى الفطرة التي تختفي في حقيقتهم،

القرآن والوعيد والإنذار (24)

والتي يحاولون إسدال كل الحجب عليها.

قلت: فأنت تريد أن تعيد لقومك فطرتهم الأصلية.. أو تضبطهم ضبط المصنع كما يقال عندنا.

قال: بل سأعين فطرهم على أهوائهم.. وعقولهم على جدلهم.. وسيكتشفون الحقيقة بعد ذلك بأنفسهم.. ولا يهمني أن يكون ذلك بمحضر الوعاظ، أو وهم بعيدون عنهم.. فدوري ودور الوعاظ لا يتعدى البلاغ والتذكير والإنذار.

 بعد أن قال هذا سرت معه إلى الوعاظ الذين ذكرهم، وقد كانوا في غاية الأدب والاحترام.. وقد قال لي أحدهم، وهو يمسك بيدي بشدة: لا تنس أن تسجل كل ما تسمعه؛ فنحن سنسير إلى قوم لا يختلفون كثيرا عن قومك.. ولذلك نحتاج أن نسمعهم أصواتنا من خلالك.

القرآن والوعيد والإنذار (25)

أولا ـ القرآن.. والإنذار

بعد أن سرنا فترة من الزمن، دخلت مع المرشد والوعاظ إلى مدخل تلك المدينة، وقد فوجئت ببعض الروائح القبيحة التي تنطلق منها.. ومثل ذلك فوجئت بالكثير من المناظر البشعة، فسألت المرشد عن ذلك، فقال: لقد كانت هذه المدينة من أجمل بلاد الله.. لكن أهلها بسبب فسوقهم وفجورهم تحولت إلى ما ترى.

قلت: فكيف انحرفوا عما كانوا عليه؟

قال: لقد كانوا محتمين بحصون الله التي تحميهم.. لكن بعض وعاظهم راح يخرجهم من تلك الحصون، ليلقي بهم في مزابل أنفسهم وأهوائهم ليستحوذ عليهم بعدها الشيطان.

كان أول مجلس لنا في تلك المدنية مرتبطا بما ورد في القرآن الكريم والأحاديث والآثار من الإنذار والهداية.. وقد بدأ المرشد حديثه للحضور بقوله: ها قد جاءكم هؤلاء الضيوف من تلك المدينة المجاورة.. مدينة الوعاظ.. وهم يريدون أن يسمعوكم بعض ما ورد في القرآن الكريم من التحذير والإنذار، فاسمعوا لهم، فإنهم لن يضلوكم عن سواء السبيل.

قال أحد الحضور: وما أدرانا أنهم سيفعلون ذلك.. فما أكثر المضللين الذين يستخدمون القرآن الكريم وسيلة لتضليلهم.

قال المرشد: هم سيكتفون بتذكيركم بالقرآن الكريم وبمعانيه الواضحة التي لا يشك فيها عاقل.. ولكم بعدها أن تقبلوا أو ترفضوا.

توجه أحد الحضور للوعاظ قائلا: لقد ذكر صاحبنا أنكم جئتم لتحذيرنا وإنذارنا.. فهل ترون أن ذلك متناسب مع ديننا الذي يدعو للتبشير لا للتنفير، وللتعريف برحمة الله لا

القرآن والوعيد والإنذار (26)

بغضبه.

قال أحد الوعاظ: يمكنكم أن تقولوا ذلك إن أخذتم ببعض الكتاب، ولم تأخذوا ببعضه الآخر.. ويمكنكم أن تقولوا ذلك إن فسرتم الكتاب بحسب أمانيكم لا بحسب ما جاء به.

قال أحد الحضور: كيف ذلك؟

قال أحد الوعاظ: ألم تسمع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123 ـ 124]

قال أحد الحضور: بلى.. ولكن ما علاقتها بما نحن فيه؟

قال أحد الوعاظ: في الآيتين الكريمتين رد على المشركين الذين قالوا: لن نبعث ولن نعذب.. وعلى اليهود والنصارى الذين قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، وقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]

قال آخر(1): ومعناها أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: (إنه هو المحق) سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان.

قال آخر: ولهذا قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 123] أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] كقوله ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ

__________

(1) تفسير ابن كثير: (2/ 417)

القرآن والوعيد والإنذار (27)

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8]

قال أحد الحضور: لكنك ذكرت أن الآيتين الكريمتين نزلت في المشركين واليهود والنصارى.

قال أحد الوعاظ: فهل وضع الله تعالى قوانين خاصة باليهود والنصارى، وقوانين خاصة لسائر خلقه.. هل ترون أن لله مكاييل مزدوجة أم أنه عادل مع خلقه جميعا؟

آيات ومعان:

سكت الحضور، فقال أحد الوعاظ: عندما ترجعون للقرآن الكريم ستجدون أنه مليء بالإنذار كما أنه مليء بالتبشير، والمؤمن هو الذي يقرؤه جميعا، لا الذي يقرأ ما يملؤه بالأماني ويترك ما يملؤه بالحذر.

قال آخر: لقد ورد في القرآن الكريم الآيات الكثيرة التي تحذر وتنذر، والتي لا يمكن فهم معناها إلا بما تعنيه هذه الكلمة من دلالات.

قال آخر: اسمعوا فقط ما ورد فيه بصيغة [أنذر]، فهي تكفيكم للدلالة على أن الهداية كما تقتضي التبشير تقتضي الإنذار، وأن الهداة إلى الله كما يمارسون وظيفة التبشير يمارسون وظيفة الإنذار.. ذلك أن الإنسان لا يصلحه إلا اجتماع كلا الأمرين.

قال المرشد(1): فحدثونا عن كلمة الإنذار في القرآن الكريم، ودلالاتها.

قال أحد الوعاظ: لقد وردت كلمة (أنذر) وصيغها في القرآن الكريم ١٢٤ مرة، فقد وردت بصيغة الفعل الماضي عشر مرات، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]، أي أنهم بلغوا مراحل من الجحود

__________

(1) مفاهيم قرآنية: (2/354)

القرآن والوعيد والإنذار (28)

والتغلغل في الكفر، فختم الله على قلوبهم، فكفرهم هو الذي أوصلهم إلى هذا الختم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود: 101]، وقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال: 51]

قال آخر: ووردت بصيغة الفعل المضارع مرة، ومنها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الأنعام: 130]

قال آخر(1): ففي هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى وظيفة الرسل عليهم السلام الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الأنعام: 130]، أي إنهم يتلون عليهم الآيات المبينة لأصول الإيمان وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال، وينذرونهم لقاء يوم الحشر بالإعلام بما يكون فيه من الحساب والجزاء لمن كفر بالله وجحد بآياته.

قال آخر: ووردت بصيغة فعل الأمر مرات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: 39]

قال آخر: ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار الناس، فقال: أنذر ـ أيها الرسول ـ الناس يوم الندامة حين يقضى الأمر، ويفصل بين الخلق، فيصير أهل الإيمان إلى الجنة، وأهل الكفر إلى النار، وهم اليوم في هذه الدنيا في غفلة عما أنذروا به، فهم لا يصدقون، ولا يعملون العمل الصالح.

قال آخر: ووردت بصيغة المصدر مرة واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾

__________

(1) تفسير المراغي (8/ 33)

القرآن والوعيد والإنذار (29)

[المرسلات: 6]، أي فالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم بعقاب الله إن هم خالفوا أمره.

قال آخر: ووردت بصيغة اسم الفاعل مرة، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الصافات: 72]

قال آخر(1): ففي هذه الآية الكريمة طمأنة لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وأن الله سيدفع عنه كيد هؤلاء الضالين، كما فعل بالمرسلين من قبله، إذ نجاهم والمؤمنين معهم من كيد الكافرين، الذين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولذلك قال تعالى بعدها: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [الصافات: 73].. وفي ذلك تهديد لهؤلاء المشركين، وجمع بينهم وبين من أهلكهم الله من المكذبين برسل الله، على مورد الهلاك، وسوق لهم جميعا إلى عذاب الجحيم..

قال آخر: ووردت بصيغة اسم المفعول مرات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [النمل: 58]

قال آخر(2): ذلك أن الله تعالى يستعمل كلمة مطر عندما يكون عقابا نتيجة جريمة أو نتيجة طبيعة ما كأن يكون معه ريح وعواصف، أما الغيث فيستعمله مع الرقة والاطمئنان والأمان والخير والبركة والناس محتاجين إلى ماء ليس فيه أذى، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ [الشورى: 28]

قال آخر: ووردت بصيغة المبالغة مرة، ومنها قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ [هود: 2]، وقوله: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188]، وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر: 24]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 991)

(2) مفاهيم قرآنية: (1/ 179)

القرآن والوعيد والإنذار (30)

قال آخر: ووردت بصيغة [الاسم] مرة، ومنها قوله تعالى: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر: 5]

قال آخر(1): أي هذه الأنباء غاية الحكمة في الهداية والإرشاد إلى طريق الحق لمن اتبع عقله وعصى هواه، ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر: 5] أي إن النذر لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب فليس عليك ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى، فإذا بلغت فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]، وقال: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [الشورى: 48]

قال آخر: كما أن القرآن الكريم عبر عن الإنذار بألفاظ أخرى، ومنها التخويف، وهو إدخال الفزع في قلب المخاطبين؛ حثا على التحرز من ارتكاب محظور، كما قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 9]

قال آخر(2): أي: وليخف الذين لو ماتوا وتركوا من خلفهم أبناء صغارا ضعافا خافوا عليهم الظلم والضياع، فليراقبوا الله فيمن تحت أيديهم من اليتامى وغيرهم، وذلك بحفظ أموالهم، وحسن تربيتهم، ودفع الأذى عنهم، وليقولوا لهم قولا موافقا للعدل والمعروف.

قال آخر: ومنها الترهيب، وهو المبالغة في إثارة القلق والاضطراب في نفس السامع من شيء؛ ليتحاشاه، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [النحل: 51]

__________

(1) تفسير المراغي (27/ 79)

(2) التفسير الميسر (ص 78)

القرآن والوعيد والإنذار (31)

قال آخر(1): أي وقال الله لعباده: لا تتخذوا لي شريكا ولا تعبدوا سواي، فإنكم إذا عبدتم معي غيرى جعلتموه لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد، ومعبود واحد، وأنا ذاك، فاتقوني وخافوا عقابي، بمعصيتكم إياي، بإشراككم بي غيري، أو عبادتكم سواي.. وإنما ذكر العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عنه، للدلالة على أن المنهي عنه هي الاثنينية وأنها منافية للألوهية، كما أن وصف الإله بالوحدة في قوله (إنما هو إله واحد) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية وأنها من لوازم الألوهية، أما الألوهية فغير منكرة ولا متنازع فيها.

قال آخر: ومنها التهديد، وهو الوعيد والتخويف بالعقوبة، كما قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ [ق: 20]

قال آخر(2): أي: ونفخ في الصور (القرن) نفخة البعث الثانية، ذلك النفخ في يوم وقوع الوعيد الذي توعد الله به الكفار.

قال آخر: وهكذا نجد القرآن الكريم يقص القصص المختلفة للأمم السابقة التي أنذرت فأعرضت، فأصابها عقاب الدنيا قبل عقاب الآخرة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله في حق قوم نوح عليه السلام لما أعرضوا: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 9 ـ 16]

__________

(1) تفسير المراغي (14/ 92)

(2) التفسير الميسر (ص 519)

القرآن والوعيد والإنذار (32)

قال آخر: ومنها قوله في حق قوم عاد لما أنذروا فأعرضوا: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 18 ـ 21]

قال آخر: ومنها قوله في حق قوم ثمود لما أنذروا فأعرضوا: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر: 23 ـ 31]

قال آخر: ومنها قوله في حق قوم لوط لما أنذروا فأعرضوا: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 33 ـ 37]

قال آخر: ومنها قوله في حق قوم فرعون لما أنذروا فأعرضوا: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر: 41 ـ 43]

قال آخر: وهكذا نجد القرآن الكريم يذكر بأهوال القيامة، وينذر بها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40]

قال آخر: وقال: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: 39]

القرآن والوعيد والإنذار (33)

قال آخر: وقال: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: 18]

قال آخر: وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7]

قال آخر: وقال: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ [إبراهيم: 44]

آيات ومعان:

قال المرشد: أحسنتم.. فحدثونا عن الآيات الكريمة التي تتحدث عن كون الإنذار من وظائف رسل الله العظمى.

قال أحد الوعاظ: لقد وردت الآيات الكريمة الكثيرة تذكر ذلك.. ومنها ما ورد مخبرا عن كون الإنذار وظيفة من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51]

قال آخر: فالآية الكريمة تبين أن أهل الخوف والخشية من الله هم الذين ينتفعون بالإنذار ويستجيبون لمواعظ القرآن وهداياته، فالخوف يرقق قلوبهم، ويطهره من الآفات والأدران، ويمنحهم رؤية واضحة لعواقب الأمور.

قال آخر: ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [الأنبياء: 45]

قال آخر: ومنها قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ

القرآن والوعيد والإنذار (34)

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس: 2]

قال آخر: ومنها قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]

قال آخر: ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 1 ـ 4]

قال آخر: وهكذا أخبر أن الله تعالى أرسل الأنبياء عليهم السلام لإنذار أقوامهم، ومن الأمثلة على ذلك قوله عن إنذار نوح عليه السلام لقومه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [نوح: 1]

قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث النبيين دعاة لدينه، مبشرين من أطاع الله بالجنة، ومحذرين من كفر به وعصاه النار، كما قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: 213]

قال آخر: وقال: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]

قال آخر: وقال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأنعام: 48]

آية ومعان:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ

__________

(1) التفسير الكاشف، مغنية: (4/ 130)

القرآن والوعيد والإنذار (35)

إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس: 2]

قال أحد الوعاظ: أي: لقد استكثر الجاحدون أن يتصل الله بعبد من عباده، ويصطفيه من دونهم، وذلك لأنهم قاسوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم، فإذا لم يتصل الله بهم فينبغي ألا يتصل بغيرهم، وقد رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124] أي أن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من الصفات والمكرمات ما يؤهله للرسالة من دونهم.

قال آخر: وهكذا؛ فإنهم جهلوا نوع الاتصال بالله، وحسبوا أن اتصاله تعالى بمحمد، تماما كاتصال بعضهم ببعض، وهذا ما ترفضه العقول، وقد أجاب الله تعالى عن هذا الوهم في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ [الشورى: 51]

قال آخر: وهكذا؛ فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد جاءهم بما لا يعتقدون ولا يألفون، كما قال تعالى على لسانهم: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 24]، وقد أجابهم الله تعالى بقوله: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنبياء: 54]

قال آخر: وبعد أن بين الله تعالى عجب الكافرين من الوحي إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين حقيقة ما أوحى به إليه، وأنه إنذار وتبشير، إنذار لمن خالف وعصى أمر الله بالعذاب الأليم، وتبشير لمن امتثل وأطاع بالثواب الجزيل، قال تعالى: ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: 2]

قال آخر: وقد عبر عن هذا الثواب بقوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: 2]، وإذا كان هذا هو الوحي أو الموحى به، وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهلا لتحمله وتبليغه، فأين مكان العجب؟ إن الله سبحانه لا يترك الناس من غير رسول أمين يبلغهم عنه ما يريده لهم من الخير، ويكرهه من الشر، ليجتنبوا هذا، ويفعلوا ذلك، ولكيلا تكون لهم الحجة عليه لو

القرآن والوعيد والإنذار (36)

خالفوا، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الأمين على هذه الرسالة والتبليغ من دون الناس، فوجب أن يكون هو الرسول المبلغ عن الله من دونهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى وصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالساحر، فقال: ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس: 2]، وذلك لأنهم أنكروا أن يكون القرآن وحيا من الله، وأيضا عجزوا أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يبق في زعمهم إلا السحر.. وجهلوا أو تجاهلوا أن كل ما في القرآن حقائق لا ريب فيها، وأن السحر كواذب لا تبتنى على أساس.

آية ومعان:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [الأنبياء: 45]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآية الكريمة تنبيه لهؤلاء المشركين الغافلين، الذين إذا ذكروا بآيات ربهم أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من هدى وخير.. وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبي الكريم أن ينخسهم بهذا الأسلوب الزاجر، وأن يقرعهم بتلك المقرعة الموجعة، حتى تتأثر لذلك قلوبهم القاسية، وتستشعر به مشاعرهم المتبلدة، وطباعهم الجافية الغليظة، فهم يعرفون أن ما ينذرهم به النبي، هو وحي يوحى إليه من ربه.. إذ هكذا يقول لهم، وهم لهذا يكذبونه، ويستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء.

قال آخر: فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى الإنذارات في الآيات السابقة بين سبحانه أن الإنذار بوحي من الله، وأنه ليس من عند محمد الذي يستهزئون به، إنما هو من عند الله خالق السماوات والأرض، الذي يلجؤون إليه عندما يحاط بهم ويضرعون إليه إذا مسهم الضر،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 905)، وزهرة التفاسير (9/ 4872)، وتفسير المراغي (17/ 38)

القرآن والوعيد والإنذار (37)

ومن كان ملجأ لهم في شدائد هو منزل العذاب في كفرهم، ولذا قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [الأنبياء: 45]

قال آخر: فالخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره سبحانه بأن يقول لهم ﴿إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء: 45]، و﴿إِنَّمَا﴾ أداة للقصر، والمعنى لا أنذركم إلا بوحي من الله تعالى، فلا أنذركم من عندي، إنما أنذركم من عند الله تعالى، وإن ذلك يوجب عليكم ألا تستهزئوا بالإنذار، لأنكم لا تستهزئون بي إنما تستهزئون بالله العلي العظيم الذي تلجؤون إليه في شدائدكم في البر والبحر، وفي ذلك توكيد للإنذار؛ لأنه صادر عن الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء: 45] ـ مع أن الأمر قائم بينهم وبين النبي على أن ما ينذرهم به هو الوحي ـ في هذا التصريح بأن ما ينذرهم به هو الوحى تشنيع عليهم، وعلى الغفلة المطبقة عليهم، وعلى الظلام الكثيف المخيم على عقولهم وقلوبهم. فهذا الذي ينذرهم به النبي، هو من الإشراق والوضوح بحيث لا يخفى على ذي عقل ونظر أنه وحي من عند الله، ولكن أنى للعمي أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا، وللحمقى أن يعقلوا ويعوا؟ فكان لا بد أن ينخسوا هذه النخسة، وأن يقرعوا بتلك المقرعة، وأن يقال لهم عن هذا النور، إنه نور، وعن هذه الشمس، إنها الشمس.

قال آخر: ثم أردف هذا أن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدى فتيلا، فما حالهم إلا حال الصم الذين لا يسمعون دعوة الداعي فقال: ﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [الأنبياء: 45] أي فما مثلهم إذ لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار على كثرته وتتابعه إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا، إذ ليس الغرض من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من المحرم ومعرفة الحق، فإذا لم يحصل شيء من هذا

القرآن والوعيد والإنذار (38)

فلا جدوى في السمع وكأن لم يكن.

قال آخر: ثم بين سرعة تأثرهم من العذاب حين مجيئه إثر بيان عدم تأثرهم به حين مجيء خبره فقال: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 46] أي ولئن أصاب هؤلاء المستعجلين للعذاب أدنى قسط من عقاب ربك بكفرهم به وتكذيبهم رسوله، ليقولن: إنا كنا ظالمين لأنفسنا بعبادتنا الآلهة والأنداد وتركنا عبادة الذي برأنا وأنعم علينا، وجحدنا لما يجب علينا من الشكر له بالإخلاص في عبادته.

آية ومعان:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى أن أهل الخوف والخشية من الله هم الذين ينتفعون بالإنذار ويستجيبون لمواعظ القرآن وهداياته، فالخوف يرقق قلوبهم، ويطهره من الآفات والأدران، ويمنحهم رؤية واضحة لعواقب الأمور.

قال آخر: وفيها توجيه للنبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن يتجه بدعوته إلى حيث تجد آذانا تسمع، وقلوبا تعي، فإنه حينئذ يرجو لدعوته استجابة ونجحا في نفوس مهيأة للاستماع والتعقل.

قال آخر: والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان مأمورا بأن يدعو الناس جميعا إلى الله، وأن يقوم فيهم بشيرا ونذيرا، إلا أن التفاته إلى من فيهم الاستعداد للاستماع والاستجابة، أولى ممن لا يسمع ولا يعقل، ولا يجيب.. أو قل إن دعوته وما تحمل من هدى ونور ـ وإن كانت موجهة إلى الناس جميعا ـ إنما يفيد منها، وينتفع بهديها، هم أولئك الذين يخشون ربهم، ويخافون عذابه،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 190)، وزهرة التفاسير (5/ 2510)، وتفسير المراغي (7/ 133)

القرآن والوعيد والإنذار (39)

وبهذا يبدو غيرهم وكأنه غير مدعو إلى هذا الخير المساق إلى الناس كلهم، وفي هذا ما فيه من تضييع لهؤلاء الصادين عن سبيل الله، وإهدار لوجودهم بين الناس.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير في ﴿يُحْشَرُوا﴾.. أي أن هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، في حال لبس معهم فيها ولى يتولى أمرهم عند الله، أو شفيع يشفع لهم، فيخلصهم من عذابه ـ هؤلاء هم الذين يعملون للقاء الله حسابا، ومن ثم فإنهم يستمعون لكلمات الله، ويستجيبون لرسول الله، فيكونون ممن رضى الله عنهم، ووقاهم عذاب الجحيم.

قال آخر: والرجاء في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ معلق بهؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم غير مصحوبين بولي أو شفيع، فهذا الخوف من شأنه أن يبعث الإيمان والتقوى في أصحابه.. فهم ـ والحال كذلك ـ على رجاء من التقوى، وعلى مداناة منها، إن هم استقاموا على هذا الطريق، واحتملوا ما يلقاهم عليه من مشقة وأذى.

قال آخر: والآية بمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: 18] وقوله: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس: 11].

قال آخر: وقد يتوهم متوهم من هذا أن الإنذار لا جدوى منه، لكن ليس الناس جميعا كذلك، بل فيهم من تؤثر فيه الموعظة ويجدي فيه الإنذار، فالناس في هذا قسمان: قسم تعتريه الرهبة من الغيب، ويخاف الحشر إن ذكر به، فلم يكن فيه اغترار يقسو به قلبه، ويصرفه عن المنذرات والاستماع إلى داعي الحق، وصنف غلبت عليه شقوته لا تجدي فيه موعظة، ولا يرهب الغيب وما فيه؛ لأنه يعمه في غيه، وهم في غفلتهم ساهون، وهؤلاء لا يجدي فيهم النذير، وهم الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة.

القرآن والوعيد والإنذار (40)

قال آخر: والآية الكريمة تشير إلى أن الإنذار للجميع فلا يختص الذين يخافون دون غيرهم، ولكن الذين ينتفعون به هم الذين يخافون الحشر، وما وراءه من حساب وعقاب.

قال آخر: وهي تشير إلى أن العنصر المميز بين أهل الخير وغيرهم هو الخوف والخشية من الله فأولئك يكون فيهم رأفة، ومع الرأفة يتفتح القلب للهداية، ويدخله النور، ومع الغلظة يكون الظلام، وكأن الغلظة حجارة قوية تجعل ما وراءها في ظلام دامس.

قال آخر: وهي تشير كذلك إلى أن الغرور باعتقاد شفيع يشفع أو ولي يناصر من دون الله تعالى يسد مسالك النور والهداية، فلا بد أن يكون كل الإحساس لله سبحانه وتعالى.

القرآن والوعيد والإنذار (41)

أحاديث وآثار:

قال المرشد: أحسنتم.. فحدثونا ببعض ما ورد في الأحاديث والآثار التي توافق هذه الآيات الكريمة.

قال أحد الوعاظ: من ذلك ما ورد من تحذيرات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة من عذاب جهنم، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه بعض أصحابه عنه قال: سمعت رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يقول: (أنذركم النار!)، حتى سقط إحدى عطفي ردائه عن منكبيه(1).

قال آخر: وقال: سمعت رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار!)، فمازال يقولها، حتى لو كان في مقامي هذا لسمعه أهل السوق، وحتى سقطت خميصة(2) كانت عليه عند رجليه(3).

قال آخر: وعن صحابي آخر، قال: صلى بنا رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، فلما قضى

__________

(1) المصنف لابن أبي شيبة: ج 8 ص 94 ح 20.

(2) الخميصة: ثوب خز أو صوف معلم.

(3) سنن الدارمي: ج 2 ص 786 ح 2708.

القرآن والوعيد والإنذار (42)

الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: (أيها الناس! إني إمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي)، ثم قال: (والذي نفس محمد بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)، قالوا: وما رأيت يا رسول الله‌؟ قال: (رأيت الجنة والنار)(1)

قال آخر: وعن صحابي آخر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقوم يضحكون، فقال: (أتضحكون وذكر الجنة والنار بين أظهركم!؟ قال: فما رئي أحد منهم ضاحكا حتى مات، قال: ونزلت فيهم: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49 ـ 50](2)

قال آخر: وعن صحابي آخر، أنه لما انزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] دعا رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله‌ شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها(3)(4)

قال آخر: وعن صحابي آخر، قال: انخسفت (5) الشمس فصلى رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (أريت النار، فلم أر منظرا كاليوم ـ قط ـ أفظع!)(6)

قال آخر: وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله‌! فما كانت صحف موسى؟ قال: (كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت لم يفرح!؟ ولمن أيقن بالنار لم يضحك!؟)(7)

__________

(1) صحيح مسلم: ج 1 ص 320 ح 12.

(2) مسند البزار: ج 6 ص 174 ح 2216.

(3) البلال: جمع بلل؛ وهو كل ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره.

(4) صحيح مسلم: ج 1 ص 192 ح 348.

(5) قد ورد الخسوف في الحديث كثيرا للشمس.

(6) صحيح البخاري: ج 1 ص 166 ح 421 وص 358 ح 1004.

(7) معاني الأخبار: ص 334 ح 1.

القرآن والوعيد والإنذار (43)

قال آخر: وقال رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم في بعض خطبه: (يا معشر المسلمين، ارغبوا فيما رغبكم الله‌ فيه، واحذروا مما حذركم الله‌ منه، وخافوا مما خوفكم الله‌ به من عذابه وعقابه، ومن جهنم! فإنها لو كانت قطرة من الجنة معكم في دنياكم التي أنتم فيها حلتها لكم، ولو كانت قطرة من النار معكم في دنياكم التي أنتم فيها خبثتها عليكم)(1)

قال آخر: وقال: (ما رأيت مثل النار نام هاربها! ولا مثل الجنة نام طالبها!)(2)

قال آخر: وقال: (كل نعيم دون الجنة صغير، وكل بلاء دون النار يسير)(3)

قال آخر: وقال: (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار!؟)(4)

قال المرشد: أحسنتم.. فحدثونا بما ورد عن أئمة الهدى من ذلك.

قال أحد الوعاظ: من ذلك ما روي عن الإمام علي أنه قال: (ما شر بشر بعده الجنة، وما خير بخير بعده النار، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية)(5)

قال آخر: وقال: (اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم! فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه!؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، وقرين شيطان! أعلمتم أن مالكا إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعا من زجرته!؟ أيها اليفن(6) الكبير، الذي قد لهزه القتير(7)! كيف أنت إذا التحمت أطواق النار بعظام الأعناق! ونشبت الجوامع حتى أكلت لحوم

__________

(1) البعث والنشور: ص 303 ح 546.

(2) سنن الترمذي: ج 4 ص 715 ح 2601.

(3) جامع الأخبار: ص 317 ح 891.

(4) كتاب من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 359 ح 4272.

(5) الكافي: ج 8 ص 24 ح 4.

(6) اليفن: الشيخ الكبير.

(7) لهزه القتير: خالطه الشيب.

القرآن والوعيد والإنذار (44)

السواعد!؟)(1)

قال آخر: وقال: (كفى بالنار عقابا ووبالا)(2)

قال آخر: وقال: (كفى بجهنم نكالا)(3)

قال آخر: وقال: (لا خير في لذة بعدها النار)(4)

قال آخر: وقال يوصي أصحابه: (ألا وإنه لا فقر بعد الجنة، ألا وإنه لا غنى بعد النار؛ لا يفك أسيرها، ولا يبرأ ضريرها)(5)

قال آخر: وقال: (عباد الله‌! ارغبوا في ثواب الله‌، وارهبوا عذابه)(6)

قال آخر: وقال: (اتقوا الله‌ حق تقاته، واسعوا في مرضاته، واحذروا ما حذركم من أليم عذابه)(7)

قال آخر: وقال: (اجعل كل همك وسعيك للخلاص من محل الشقاء والعقاب، والنجاة من مقام البلاء والعذاب)(8)

قال آخر: وقال: (احذروا نارا لجبها عتيد، ولهبها شديد، وعذابها أبدا جديد)(9)

قال آخر: وقال: (احذروا نارا قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد! دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرج فيها كربة)(10)

قال آخر: وقال: (اتقوا نارا حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد، وشرابها

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 183.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 83.

(3) غرر الحكم: ح 7018.

(4) كتاب من لايحضره الفقيه: ج 4 ص 392 ح 5834.

(5) الكافي: ج 2 ص 216 ح 2.

(6) تحف العقول: ص 153.

(7) غرر الحكم: ح 2521.

(8) غرر الحكم: ح 2438.

(9) غرر الحكم: ح 2620.

(10) نهج البلاغة: الكتاب 27.

القرآن والوعيد والإنذار (45)

صديد)(1)

قال آخر: وقال لبعض أصحابه: (اتق الله‌ يا بن حنيف، ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك)(2)

قال آخر: وقال: (كيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إن لم يغفر الله‌ له ويرحمه من ذلك اليوم!؟ لأنه يقضى ويصير إلى غيره، إلى نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وشرابها صديد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، لا يفتر عذابها، ولا يموت سكانها، دار ليس فيها رحمة، ولا يسمع لأهلها دعوة)(3)

قال آخر: وقال في خطبة يذكر فيها جزاء المذنبين يوم القيامة: (أما أهل المعصية فأنزلهم شر دار، وغل الأيدي إلى الأعناق، وقرن النواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل القطران ومقطعات النيران، في عذاب قد اشتد حره، وباب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب(4) ولجب(5)، ولهب ساطع، وقصيف(6) هائل، لا يظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها، ولا تفصم(7) كبولها(8)، لا مدة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى)(9)

قال آخر: وقال: (فالله‌ الله‌ عباد الله‌! فإن الدنيا ماضية بكم على سنن، وأنتم والساعة في قرن وكأنها قد جاءت بأشراطها، وأزفت بأفراطها(10)، ووقفت بكم على صراطها، وكأنها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بكلاكلها(11)، وانصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 120.

(2) نهج البلاغة: الكتاب 45.

(3) الأمالي للمفيد: ص 266 ح 3.

(4) كلب: أي اشتد.

(5) اللجب: الصوت والصياح.

(6) القصيف: صوت هائل يشبه صوت الرعد.

(7) الفصم: أن ينصدع الشيء فلا يبين.

(8) الكبل: قيد ضخم.

(9) نهج البلاغة: الخطبة 109.

(10) الفرط: العلم المستقيم يهتدى به.

(11) الكلكل: الصدر من كل شيء.

القرآن والوعيد والإنذار (46)

من حضنها، فكانت كيوم مضى، أو شهر انقضى، وصار جديدها رثا، وسمينها غثا، في موقف ضنك المقام، وأمور مشتبهة عظام، ونار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، عم(1) قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها)(2)

قال آخر: وقال لبعض أصحابه بعد أن ذكر له نعيم الجنة: (إن فاتك ما ذكرت لك في صدر كلامي لتتركن في سرابيل القطران، ولتطوفن بينها وبين حميم آن، ولتسقين شرابا حار الغليان في إنضاجه، فكم يومئذ في النار من صلب محطوم، ووجه مهشوم، ومشوه مضروب على الخرطوم، قد أكلت الجامعة كفه، والتحم الطوق بعنقه، فلو رأيتهم ينحدرون في أوديتها، ويصعدون جبالها، وقد ألبسوا المقطعات من القطران، وأقرنوا مع فجارها وشياطينها، فإذا استغاثوا، شدت عليهم عقاربها وحياتها، ولو رأيت مناديا ينادي وهو يقول: يا أهل الجنة ونعيمها! ويا أهل حليها وحللها! خلود فلا موت! فعندها ينقطع رجاؤهم، وتغلق الأبواب، وتنقطع بهم الأسباب، فكم يومئذ من شيخ ينادي: واشيبتاه! وكم من شاب ينادي: واشباباه! وكم من امرأة تنادي: وافضيحتاه! هتكت عنهم الستور، فكم يومئذ من مغموس بين أطباقها محبوس، يا لك غمسة ألبستك بعد لباس الكتان، والماء المبرد على الجدران، وأكل الطعام ألوانا بعد ألوان؛ لباسا لم يدع لك شعرا ناعما كنت مطعمه إلا بيضه، ولا عينا كنت تبصر بها إلى حبيب إلا فقأها، هذا ما أعد الله‌ للمجرمين!)(3)

قال آخر: وقال في بعض خطبه: (فتصير ـ يا ذا الدلال والهيئة والجمال ـ إلى منزلة شعثاء، ومحلة غبراء، فتنوم على خدك في لحدك، في منزل قل زواره، ومل عماله، حتى تشق

__________

(1) من التعمية والاخفاء والتلبيس.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 190.

(3) صفات الشيعة: ص 123 ح 63.

القرآن والوعيد والإنذار (47)

عن القبور، وتبعث إلى النشور، فإن ختم لك بالسعادة صرت إلى الحبور، وأنت ملك مطاع، وآمن لا يراع، يطوف عليكم ولدان كأنهم الجمان بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين، أهل الجنة فيها يتنعمون، وأهل النار فيها يعذبون، هؤلاء في السندس والحرير يتبخترون، وهؤلاء في الجحيم والسعير يتقلبون، هؤلاء تحشى جماجمهم بمسك الجنان، وهؤلاء يضربون بمقامع النيران، هؤلاء يعانقون الحور في الحجال، وهؤلاء يطوقون أطواقا في النار بالأغلال، في قلبه فزع قد أعيا الأطباء، وبه داء لا يقبل الدواء)(1)

__________

(1) الأمالي للطوسي: ص 652 ح 1353.

القرآن والوعيد والإنذار (48)

القرآن والوعيد والإنذار (49)

ثانيا ـ القرآن.. والوعيد

بعد أن ذكر الوعاظ للجمهور الحاضر ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث والآثار من الإنذارات والتحذيرات، قال بعض الحضور: قد نسلم لكم بأن في القرآن والحديث الكثير من الإنذارات والتحذيرات.. ولكنها مجرد تهديدات، ولا يمكن أن تُحقق لأن رحمة الله تحول بينها وبين ذلك.

قال أحد الوعاظ: نحن لم نأت هنا لنجادلكم، وإنما جئنا لنقرأ عليكم ما يقول ربنا ونبينا وورثته.. وأنتم في حل بعد ذلك أن تفهموا ما تشاءون، إن رأيتم أن عقولكم وفطركم تسمح بذلك.

قال آخر: ونحب أن ننبهكم إلى أن العاقل هو من يضع دائما أسوأ الاحتمالات، ليحمي نفسه، لا ذلك الذي يملؤها بالأماني؛ فالأماني لا يمكنها أن تغير الواقع أبدا.

قال أحد الحضور: لا بأس.. ما دمتم ذكرتم هذا؛ فحدثونا عما ورد في القرآن الكريم من الوعيد.. لعلنا نعيد النظر في مواقفنا.

مقابلات وموازنات:

قال المرشد: أجل.. وابدؤوا بالحديث عما ورد في القرآن الكريم من النماذج التي يقابل الله تعالى فيها بين جزاء المحسنين، وغيرهم من المنحرفين الظالمين.

قال أحد الوعاظ: هي كثيرة في القرآن الكريم، فعن أيها تريدون أن نحدثكم؟

المشهد الأول:

القرآن والوعيد والإنذار (50)

قال المرشد(1): حدثونا عن قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: 17 ـ 24]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة موازنة بين الذين يتبعون الحق والذين يطلبون الدنيا وزينتها وتكون وحدها مقصدهم ويشركون بالله تعالى، وبين الذين يؤمنون بالله.

قال آخر: وفي أجواء هذه الآيات الكريمة، نلتقي بالساحة التي تتحرك فيها الدعوة بين الذين يتحركون إيجابيا في خط الإيمان والطاعة والانفتاح على الله، وبين الذين ينطلقون سلبيا في خط الكفر والتمرد والتكذيب والصد عن سبيل الله، ثم نواجه النتائج الحاسمة في يوم القيامة، فإذا بالفريق الأول يعيش في رضى الله ورحمته ليخلد في الجنة، أما الفريق الثاني، فيعيش الخسارة الكبرى، والضياع والعذاب الأليم.. وذلك في ظل أجواء مليئة بالحركة

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1116)، وزهرة التفاسير (7/ 3684)، وتفسير المراغي (12/ 17)، ومن وحي القرآن: (12/ 40)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (6/ 493)، والتفسير المنير (12/ 41)، ومفاتيح الغيب (17/ 329)، ومنية الطالبين: 14/ 70.

القرآن والوعيد والإنذار (51)

تحتوي الحاضر والمستقبل، للإيحاء بارتباط الجانب العملي بالجانب العقيدي، وامتداد أجواء الحياة الدنيا في خط الانحراف والاستقامة، إلى الحياة الأخرى، في خط الثواب والعقاب.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾، والمراد بـ ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ الأمر البين الذي تدركه العقول السليمة في غير اعوجاج، ويصح أن يراد به الإسلام؛ لأنه بين لا يأتي إلا بما تقبله العقول ولا ينهى إلا عن الأمر المنكر غير المعقول؛ ولأنه دين الفطرة السليمة.. وقد أسند الله تعالى البينة إلى ربه، للدلالة على أنه الهادي إليها بمقتضى ما ركزه الله تعالى في النفوس، وبمقتضى ما هدى إليه بالرسالات الإلهية.

 قال آخر: وبذلك، فإن البينة هنا هي الاستبصار الذي يتعرف به الإنسان إلى الحق، مستهديا إليه بعقله، فيتعرف إلى الله، ويؤمن به، ولا دليل معه، سوى عقله، الذي ينظر به في هذا الوجود، فيطلعه على أن لهذا الكون وللنظام الممسك به، إلها قديرا، عليما حكيما.. وكثير من الناس تعرفوا على الله، وآمنوا به، عن هذا الطريق، طريق النظر الشخصي، المنقطع عن دعوات الأنبياء، وتوجيهات الرسل.. ففي الإنسان فطرة، ومعه عقل من شأنهما أن يهدياه إلى الله، وأن يكشفا له الطريق إليه، لو أنه ظل محتفظا بسلامة فطرته، حارسا عقله من دوافع الهوى، ونزغات الشيطان.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن لتلك البينة شاهدا من الله تعالى، فقال: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هود: 17]، أي يجيء شاهدا من الله.. وهنا ضميران.. الضمير الأول، في ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ وهو يعود إلى البينة، بمعنى أنها برهان ودليل، أو بمعنى أنها نور من عند الله، يضيء القلوب، وينير البصائر، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 22]، ويكون معنى ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ أي يجيء بعده، أي بعد هذا النور، أو هذا البرهان، أو هذا الدليل شاهد يؤكد صدق هذا البرهان، ويدعم هذا الدليل،

القرآن والوعيد والإنذار (52)

ويلقى إلى هذا النور نورا.. أما هذا الشاهد، فهو القرآن الكريم، وما فيه من دلائل الإعجاز التي من شأنها أن تفتح القلوب للإيمان بالله.

قال آخر: والضمير الثاني في قوله تعالى: ﴿مِنْهُ﴾، ويعود إلى الله تعالى، وقد ذكره الله تعالى في قوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ والشاهد، هو القرآن الكريم، ويكون المعنى على هذا: أيستوى من كان على نور من ربه، بما أودع الله تعالى، فيه، من فطرة سليمة، فينظر إلى هذا الوجود ببصيرة مبصرة، وقلب سليم، حتى يعرف ربه، ويؤمن به، مستهديا إلى هذا الإيمان عن طريق التدبر والنظر.. ثم يزداد معرفة، ويزداد إيمانا واطمئنانا، حين يلتقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستمع إلى كلمات الله، فيجد منها شاهدا مبينا يشهد بصدق ما وقع لنظره وما اهتدى إليه بعقله، من التعرف على الله والإيمان به ـ أيستوى من هذا شأنه ومن ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فلم يهده نظره إلى الإيمان، إذ كان أعمى، ولم يستجب لمن يقوده إليه؟ شتان ما بين النور والظلام، والحق والباطل.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾، والضمير في ﴿قَبْلَهُ﴾ يعود إلى الشاهد، وهو القرآن الكريم.. والمعنى أن من قبل هذا القرآن كان كتاب موسى، وكان هذا الكتاب ﴿إِمَامًا﴾، أي متقدما في الكتب السماوية ﴿وَرَحْمَةً﴾ لما حمل إلى الناس من هدى ونور.. فليس هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ربه حدثا لم يقع في الناس، بل لقد سبقته كتب جاءت من عند الله.. فكيف ينكر هؤلاء الضالون أن يأتي إنسان بكتاب من عند الله؟ وكيف يقولون هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، منكرا متوعدا فقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: 91]

قال آخر: فإذا لم يكن في الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يرون في وجهه أنه من عند

القرآن والوعيد والإنذار (53)

الله ـ عمى منهم، وكفرا وعنادا، فليكن لهم في واقع التاريخ ما يمسك بهم عن المكابرة، أن يقولوا ما أنزل الله على بشر من شيء.. فذلك إنكار لواقع محسوس، حيث هؤلاء الرسل الذين ذكرهم التاريخ، وحيث هذه الكتب السماوية التي يدين بها ألوف البشر.. وهذه التوراة.. كتاب موسى، وهؤلاء هم اليهود الذين يدينون بها.. فكيف يسمح لعاقل عقله أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء؟

قال آخر: ووصف كتاب موسى ﴿التَّوْرَاةَ﴾ بالوصفين المذكورين لأجل أنه يؤتم ويقتدى به في الأمور الدينية، وهو سبب لرحمة الله تعالى لمن عمل به.. وإنما خص التوراة بالذكر لأجل أن البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وردت فيها بشكل أوضح وأوسع من الإنجيل، كما أن وصف التوراة بالإمام لأجل أنها كانت مصدرا لحكم أنبياء بني إسرائيل بمن فيهم عيسى، حيث كانوا يرجعون في تعاليمهم إليها.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، والإشارة هنا بأولئك، موجهة إلى المذكورين في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾، ذلك أن الإيمان بالله، عن طريق الاستدلال العقلي، وعن النظر في ملكوت السماوات والأرض، ثم عن الاستماع إلى آيات الله، وتفهم ما فيها من حق وخير لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان عن معاناة ذاتية، ونظر شخصي.. بحيث يرى الإنسان مواقع الهدى بنفسه، ويتبين وجه الحق بعقله.. وهنا يفتح قلبه للإيمان، وينزله منزلا مطمئنا فيه، لأن إيمانه حينئذ قد جاء إليه عن طريق نظره، وإدراكه، واستدلاله، لا عن تلقين، أو محاكاة.

قال آخر: هذا هو الموقف الذي ينبغي أن يأخذه الإنسان في طريق التعرف على الله والإيمان به.. إنه يبدو وكأنه يقف وحده، لا ينظر إلى غيره مقلدا، أو متابعا.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾، وهو تهديد

القرآن والوعيد والإنذار (54)

لأولئك الذين يقفون من القرآن الكريم موقف المستهزئين المكذبين.. فالنار موعدهم التي يلتقون عندها بعد أن يقطعوا مرحلة عمرهم، وهم يتخبطون في هذا الضلال والظلام.. والأحزاب، جمع حزب، وهم طوائف الضالين، من كل بيت، ومن ربهم.

قال آخر: وفي ختام الآية الكريمة ـ كما هي الحال في كثير من آيات القرآن ـ يوجه الله تعالى الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون درسا عاما لجميع الناس، ويقول: بعد هذا كله من وجود الشاهد والبينة والمصدق بدعوتك، فلا تتردد في الطريق ذاته ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾، لأنه من قبل الله تعالى ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ ولكن كثيرا من الناس ونتيجة لجهلهم وأنانيتهم لا يؤمنون ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

قال آخر: وبعد أن بين الله تعالى أن الناس فريقان: فريق يريد الدنيا وزينتها وفريق على بينة من ربه، قفى على ذلك ببيان حال كل من الفريقين في الدنيا وما يكون عليه في الآخرة، فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا في أقواله، أو أفعاله، أو أحكامه أو صفاته.

قال آخر: وصلة الآية بما قبلها واضحة حيث إنهم وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمفتري، وقالوا ـ كما حكى الله تعالى عنهم ـ ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾، فقابله سبحانه بأنهم هم المفترون لا أنت يا رسول الله.

قال آخر: وأما ما هو المفترى به فيختلف بحسب موارد الآية، فتارة يكون من مقولة العقائد كاتخاذ الشركاء والأولياء والشفعاء له بدون إذنه أو اتخاذ الولد، وأخرى يكون الافتراء في الأحكام كتحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها كما في قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 103]

القرآن والوعيد والإنذار (55)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ أي هؤلاء الذين تقرر أنهم أظلم الظالمين، لأنهم افتروا على الله الكذب ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ وقد أشير إليهم بأداة الإشارة ﴿أُولَئِكَ﴾ بعد أن تحددت صفتهم، وعرفت وجوههم، ليكونوا بمعزل عن المجتمع الإنساني كله، وحتى لا يصيب أحدا شيء من هذا البلاء الذي يحل بهم، فالإشارة إليهم، إلفات إلى ذواتهم، حتى يبتعد الناس عنهم، ويحذروا الدنو منهم، لئلا يؤخذوا معهم، ويساقوا مساقهم.

قال آخر: والعرض على الله، هو عرض شامل للناس جميعا.. ولكن إفراد هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، بالعرض، وحدهم يشير إلى أنهم سيعرضون عرضا خاصا، في ذلك المكان الذي عزلوا فيه عن الناس جميعا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يحصل حينها، فقال: ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾، والأشهاد، هم الرسل، الذين يحضرون عرض هؤلاء المفترين، على ربهم.. ويشهدون عليهم بما كان منهم، من تكذيب بالله، وافتراء عليه، بما كانوا ينسبون إليه سبحانه من صاحبة وولد.. فكل نبي شهيد على من بعث فيهم، كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النحل: 89]، وقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]

قال آخر: وشهادة الرسل على هؤلاء المفترين على الله، هي شهادة تخزي هؤلاء المكذبين المفترين، وتبهتهم، وتدينهم بين يدي الله، وتقيم أسباب الحكم عليهم بالعذاب الأليم.. وفي هذا مضاعفة لآلامهم، حتى لكأن هذه الشهادات قيود وأغلال تمسك بهم أن يفلتوا من العذاب.

قال آخر: وفي إشارة الرسل إليهم بقولهم: ﴿أُولَئِكَ﴾ [البينة: 7] تأكيد لذوات هؤلاء

القرآن والوعيد والإنذار (56)

المجرمين، وإحكام للدائرة المطبقة عليهم، فلا يفلت منهم أحد، ولا يدخل عليهم من ليس منهم.. فهم وحدهم في هذا المكان المنعزل، وفي ذلك المنزل السوء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عقوبة لا تقل خطرا، فقال: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وقد يكون هذا تعقيبا من الرسل بعد أن أدوا الشهادة على هؤلاء الظالمين من أقوامهم، الذين كذبوهم، وآذوهم.. أو قد يكون تعقيبا من النظارة جميعا، من الخلائق التي شهدت هذا العرض، من الناس والملائكة..

قال آخر: وفي وصفهم ﴿بِالظَّالِمِينَ﴾، بدلا من ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ الذي يقتضيه سياق النظم، إشارة إلى أنهم لم يكونوا كاذبين وحسب، بل كانوا متجاوزين الحدود في الكذب، مبالغين فيه، غير مقتصدين، أو واقفين به عند حد.. لقد كذبوا على الله، وكذبوا على أنفسهم، وكذبوا على الناس، وقلبوا وجوه الحقائق قلبا منكرا، فكانوا بهذا كاذبين وظالمين معا.

قال آخر: ثم ذكر الله أفعال أولئك الظالمين فقال: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وهي تشير إلى أن لهم ثلاث صفات، أولاها أنهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فمرة عن طريق إلقاء الشبهة، ومرة بالتهديد، وأحيانا عن طريق الإغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إلى أمر واحد، وهو الصد عن سبيل الله.

قال آخر: وثانيها أنهم يسعون في أن يظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عوجا، كما قال تعالى: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التفسير بالرأي وإخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم، ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.

القرآن والوعيد والإنذار (57)

قال آخر: والثالثة أنهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة، كما قال تعالى: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾، وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الانحرافات، لأن الإيمان بتلك المحكمة الكبرى بعد الموت يفعّل كل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.

قال آخر: وجميع هذه الصفات تجتمع في مفهوم (الظلم) لأن المفهوم الواسع له يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.

قال آخر: وهي تشير كذلك إلى أن الكفر مباءة للآثام، تعيش فيه وتفرخ، ويتبع الإثم إثم مثله، ويأخذ بعضه بحجز بعض في سلسلة متصلة تبدأ بالشرك بالله تعالى ثم بالكذب عليه بتحريم ما أحل الله على أنه من عند الله، والجحود بما أنزل الله والافتراء عليه تعالى وفساد اعتقادهم بأن يعبدوا الأوثان ويقولوا إنهم شفعاؤنا.. وهكذا يكون الشرك كالمعاطن التي تحوم حولها الحشرات والجراثيم وكل الموبقات.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هؤلاء الظالمين، الذين بلغ ظلمهم ما بلغ من الشناعة والفحش، والذين كان تعجيل العذاب لهم، يأخذهم بظلمهم في الدنيا، أمرا تستدعيه الحال.. هؤلاء لم يُعجل الله لهم العذاب في الدنيا، لا لأن قوة تعصمهم من الله، أو ترد عنهم بأسه.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فما كانوا ﴿مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي ما كانوا ليعجزوا الله عن أن يأخذهم بالبلاء والهلاك، كما أخذ الظالمين من قبلهم.. كما أنهم لا يجدون وليا وحاميا لهم غير الله ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ أي ما كان لهم من أولياء يدفعون بأس الله عنهم.

قال آخر: أي أن الله تعالى أخرهم إلى يوم القيامة، حيث إن عقاب الدنيا، لا يستوفى منهم ما هم أهل له من بلاء ونكال، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ

القرآن والوعيد والإنذار (58)

وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ [إبراهيم: 42 ـ 43]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾، وفي ذلك إشارة إلى عذاب الآخرة الذي سيلقونه، وأنه أضعاف مضاعفة لعذاب الدنيا الذي حل بالظالمين قبلهم، وأنهم إذا كانوا قد أفلتوا في الدنيا من عذاب الله، فإنه سيضاف إلى عذابهم في الآخرة، ويضاعف لهم العذاب.

قال آخر: وفيها إشارة أيضا إلى أنهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: 13]، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)(1)

قال آخر: ثم بين علة هذه المضاعفة بقوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾، أي أنهم بإهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين، وسيلتي السمع والبصر لدرك الحقائق، ضلوا السبيل وأضلوا سواهم أيضا.. لأن الحق والحقيقة لا يدركان إلا بالسمع والبصر النافذ.

قال آخر: وذلك لأن الله قد سلبهم السمع والبصر من خلال امتناعهم عن توجيه آذانهم إلى الاستماع، وعدم استفادتهم من بصرهم، وبهذا يتبين أن عدم استطاعتهم للسمع، وعدم كونهم مبصرين، لم يكن ناتجا عن حالة العجز الذاتي عن ذلك، بل عن عجز طارئ كانوا هم السبب فيه، فيما أودعه الله في الأشياء من علاقة المسبب بالسبب، فإذا أراد الإنسان

__________

(1) رواه مسلم برقم (1017)

القرآن والوعيد والإنذار (59)

الاستماع ليسمع، كان السمع أمرا طبيعيا له، وكذلك البصر إذا أراد الإبصار، أما إذا لم يرد ذلك وأغلق أذنيه بإغلاق قلبه، أو أغلق عينيه بإغلاق الجانب المعنوي أو الروحي، فإنه لا مجال لسمع أو بصر، فيكون وزان هذه الفقرة، كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]، وقال: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾ [الملك: 10 ـ 11] مما يوحي بأن المسألة لا تخرج عن إطار الإرادة والاختيار عندهم.

قال آخر: وهذا يشير إلى استحواذ الباطل على أنفسهم ورين الكفر والظلم على قلوبهم، كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]

قال آخر: وهذا يشير إلى أنهم لشدة انهماكهم في الكفر واتباع الهوى والشهوات صاروا يكرهون الحق والهدى، فيثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية وما يثبته من الآيات البصرية، فهم قد ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم فلا يسمعون الحق سماع منتفع ولا يبصرون حجج الله إبصار مهتد.

قال آخر: وهذا التعبير يشير إلى الحالة الواقعية التي هم فيها، وهي أن استماع الحق كان عليهم صعبا وثقيلا إلى درجة يتصور فيها أنهم فقدوا حاسة السمع، فلا قدرة لهم على السمع.. وبديهي أن عدم استطاعة دركهم الحقائق كان نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية، لأنهم هم السبب في ذلك، وهم الذين مهدوا له، وكان بإمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة، لأن القدرة على السبب قدرة على المسبب.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل، فقال: ﴿أُولَئِكَ

القرآن والوعيد والإنذار (60)

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، أي أنهم واجهوا الهلاك الأبدي بكفرهم، مما جعلهم يخسرون كل شيء بخسارتهم قضية المصير، وذلك هو معنى خسارة النفس، لأن الحياة في العذاب، لا تمثل حياة، بل موتا محتوما هو أقسى من الموت الطبيعي، الذي يمنح الإنسان الراحة السلبية لعدم الإحساس معه بالألم والعذاب، بينما لا يذوق الإنسان المعذب بالنار طعم الحياة، ولا يملك راحة الميت، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [الأعلى: 13]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حصيلة أخرى لسعيهم، فقال: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي لم يحصلوا على شيء منه، وذهب كل ما افتروه وكذبوا به على الله، أدراج الرياح، كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لأنه لا يملك من الحقيقة شيئا ليبقى ببقائها، ولا يثمر لهم أية نتيجة، فيما استهدفوه من أطماع ومكاسب.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾، أي لا جدال، ولا شك في نظر أي عاقل ينظر في أحوال هؤلاء الظالمين، وما جنوا على أنفسهم أنهم هم أخسر الناس صفقة، إذ اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 16].. فكما أنهم كانوا بفعلهم المنكر أظلم الظالمين، كذلك هم يوم توفى كل نفس ما كسبت، وينال كل عامل جزاء ما عمل ـ هم أخسر الخاسرين في هذا اليوم، يوم الجزاء.

قال آخر: أما الوجه في أنهم هم الأخسرون، فقد يكون الأساس فيه اعتقادهم بأن الحياة هي الفرصة الأخيرة للإنسان، لإنكارهم لليوم الآخر، ولهذا فإنهم لا ينتظرون أي عقاب على أعمالهم، فيستسلمون لشهواتهم وأطماعهم في استرخاء لذيذ، فإذا بهم يفاجؤون بعذاب ينتظرهم في الآخرة، لا يتوقعون مثله، بينما ينتظر غيرهم من العاصين العذاب، فلا تصدمهم المفاجأة.

القرآن والوعيد والإنذار (61)

قال آخر: وقد يكون ذلك بسبب أن الكافرين يفقدون كل شيء في الآخرة، بينما لا يفقد العاصون الذين لا يخلدون في النار، إذا عذبوا فيها، إلا بعضا من فرص الآخرة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مقابل هؤلاء عاقبة الناجين والفائزين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي أنه إذا كانت النار مثوى الظالمين، فإن الجنة هي دار المتقين، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأسلموا أنفسهم لله، وأخلصوا له الولاء والطاعة، واستقبلوا آيات الله في غير عناد واستكبار، ونظروا إليها بغير استعلاء وازدراء، فعرفوا أنها الحق، فاتبعوه.

قال آخر: وفي المقابلة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.. فهناك شقاء، وبلاء، ونكال، وهنا نعيم، ورحمة، ورضوان.. ولكل منزلة أهلها، والعمل هو الذي يضع كل إنسان موضعه.

قال آخر: ثم عرض الله تعالى الفريقين معا ـ الذين كفروا، والذين آمنوا، أصحاب النار، وأصحاب الجنة ـ في صورة حسية يراها الناس رأي العين، فقال: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ أي مثل فريقي الكافرين والمؤمنين وصفتهما الحسية التي تطابق حالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر في خلقته، والأصم الفاقد لحاسة السمع الذي حرم وسائل العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية، ومن هو كامل حاستي السمع والبصر، فهو يستمد العلم من آيات الله في خلقه بما يسمع من القرآن وبما يرى في الأكوان، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان.. ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ أي هل يستوي الفريقان صفة وحالا ومآلا؟ كلا، إنهما لا يستويان، أتغفلون عن ذلك المثل الجلي الواضح أفلا تتذكرون ما بينهما من التباين والاختلاف فتعتبروا به؟

القرآن والوعيد والإنذار (62)

قال آخر: وفي هذا التشبيه تخريجان.. أولهما تشبيه الكافر بالأعمى الأصم الذي لا يرى الطريق ولا يسمع من يهديه، والمؤمن بالبصير السميع الذي يهتدي ببصره وبإرشاده.. والثاني، تشبيه الكافر بالأعمى في عدم إدراكه، وبالأصم في عدم الإصغاء للهداية والمؤدى فيهما واحد، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 19 ـ 22]

قال آخر: وقد ختم الله تعالى الآية الكريمة موجها القول إلى الناس بقوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ أي لتطلعوا على عمق الأفكار والمواقف بنتائجها الإيجابية والسلبية، وما ينتهي إليه أمر الإنسان في عالم الرفض والقبول.

المشهد الثاني:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1419)، وتفسير المراغي (30/ 10)، ومن وحي القرآن: (24/ 17)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 339)، والتفسير المنير (25/ 235)، ومفاتيح الغيب (31/ 12)، ومنية الطالبين: 30/ 24.

القرآن والوعيد والإنذار (63)

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 17 ـ 40]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هذه الآيات الكريمة بعد أن نبه الله تعالى عباده في آيات كريمة سابقة إلى مجموعة من آياته الدالة على عظمته، وفي هذه الآية الكريمة بين ما اختلفوا فيه ونازعوا في إمكان حصوله وهو يوم الفصل، وقد ذكر لهم بعض ما يكون فيه تخويفا لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضحت الأدلة واستبان الحق، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأنه عظيم وأمر الكائنات فيه على غير ما يعهدون.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ أي إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين والآخرين يثابون فيه أو يعاقبون، ويتمايزون فيه ويكونون مرات ودرجات بحسب أعمالهم كما قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس: 59]، وقد جعله الله حدا تنتهي عنده الدنيا، وتجتمع فيه الخلائق، ليرى كل امرئ ما قدمت يداه، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته.

قال آخر: وسمي يوم القيامة يوم الفصل لأنه تعالى يفصل بين عباده في الحكم والقضاء، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون، وبين الكافرين وبين ما يشتهون، فيفصل بين الوالد وولده، والرجل وزوجته، والمرء وخليله، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [الدخان: 41]، أي يوم لا ينفع قريب قريبا، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو الإغناء، ولا هم يمنعون من عذاب الله، فلا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصر القريب قريبه، كما قال تعالى: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة: 3]

قال آخر: ثم بين الله تعالى هذا اليوم وزاد في تفخيمه وتهويله فقال: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي

القرآن والوعيد والإنذار (64)

الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ أي يوم ينفخ في الصور فتحيون وتبعثون من قبوركم وتأتون إلى الموقف من غير تلبث، وإمام كل أمة رسولها كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71]

قال آخر: والأصل في كلمة ﴿الصُّورِ﴾ دلالتها على بوق يستعمل لإعطاء إشارة التوقف أو الحركة للقوافل أو الكتائب العسكرية وما شابهها من الاستعمالات، وتختلف الإشارة بين المجاميع التي تستعمل البوق، كل حسب ما تعارف عليه.. واستعمل الله تعالى ﴿الصُّورِ﴾ ككناية لطيفة للتعبير عن نهاية الحياة الدنيا، وبداية الحياة الآخرة.

قال آخر: ولا نملك تصورا محددا له إذا كان المراد به معناه الحقيقي، أو أنه كناية عن صيحة داوية تنادي الناس مرة للخروج من الأجداث حيث تدب فيهم الحياة بقدرة الله، ومرة ثانية للاجتماع في يوم الحشر بين يدي الله ليلاقوا الله سبحانه، حيث تجتمع البشرية كلها على صعيد واحد، لأول مرة، بجميع أجناسها وألوانها وبكل أجيالها المتعاقبة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يحصل من اضطراب في نظام الكون، فقال: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾، أي وانشقت السماء وتصدعت، كما قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ [الانشقاق: 1]، وقال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1]

قال آخر: أي أنها فقدت ذلك التماسك الذي لا ترى ـ على أساسه ـ أية ثغرة في بنيانها، فإذا بها تنشق وتنفرج، وتتحول تلك الانفراجات إلى أبواب تسمح بالدخول إليها.. ولكن كيف؟ ولمن؟ إنها علامات استفهام لا تملك المعرفة البشرية جوابا لها، ولكنه المشهد الهائل الذي يهز الكيان بروعته وضخامته، ويثير الخوف بعظمته وإيحاءاته، لأنه يحمل المفاجأة التي لا عهد للإنسان بها، في الهيئة الجديدة للسماء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يحصل للجبال، فقال: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ

القرآن والوعيد والإنذار (65)

سَرَابًا﴾ أي إن الجبال لا تكون في ذلك اليوم على ثباتها المعروف، بل يذهب ما كان لها من قرار وتعود كأنها سراب يرى من بعد، فإذا قربت منه لم تجد شيئا لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أحوال الجبال يوم القيامة بوجوه مختلفة، فأول أحوالها الاندكاك كما قال تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: 14].. ثم ذكر أنها تصير كالعهن المنفوش، كما في قوله تعالى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 5].. ثم ذكر أنها تصير هباء، كما في قوله تعالى: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة: 5 ـ 6].. ثم ذكر أنها تنسف وتحملها الرياح، كما في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النمل: 88].. ثم ذكر أنها تصير سرابا، أي لا شيء كما في هذه الآية الكريمة.

قال آخر: وبعد أن عدد الله تعالى وجوه إحسانه، ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة، وبين أهوال هذا اليوم، وامتياز شئونه وأحواله عن شئون أيام الدنيا وأحوالها ذكر وعيد المكذبين وبيان ما يلاقونه فقال: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي أنها تنتظر وتترقب وترصد استقبال القادمين إليها، لتكون دار الإقامة الأخيرة لهم بعد أن طوفوا بالأرض وقطعوا المراحل الكثيرة من الزمن حتى وصلوا إليها في المرحلة التي توقفت في محطة الموت لتواصل مسيرتها في الحياة الجديدة.

قال آخر: والمرصاد هو المكان الذي يختفى فيه للمراقبة، وكأن جهنم بمجموعها مرصاد ـ من باب المبالغة ـ والذين يراقبون هم ملائكة الله تعالى، فعندما يعبر أحد الطاغين من جانب جهنم أو من فوقها ـ والذي يعبر عنه بالصراط ـ والذي يدل عليه قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 71]، يخرج من بالمرصاد ويأخذ

القرآن والوعيد والإنذار (66)

الطاغي ويزج به في جهنم.

قال آخر: وظاهر الآية يدل على أن جهنم هي المرصاد فهي تميز الطغاة عن الطائعين، فتأخذهم إليها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنها مرجع للذين طغوا وتكبروا ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق، فقال: ﴿لِلطَّاغِينَ مَآبًا﴾، والمآب هو محل الرجوع، والمعنى المنزل والمقر، وقد وصف الله تعالى جهنم بالمآب لأن القبائح والجرائم التي اقترفها الطغاة لها صورة دنيوية وصورة أخروية فهم كانوا في جهنم وإن لم يشعروا بها، فإذا ماتوا وحشروا وأخذوا بالمرصاد، وزجوا في جهنم، فقد آبوا إلى مآبهم ومقرهم الأول.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أن جهنم مستقرهم بين مدة ذلك، فقال: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ أي إنهم سيمكثون فيها دهورا متلاحقة يتبع بعضها بعضا، فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة: 37]

قال آخر: والأحقاب، جمع حقب، والحقب: جمع حقبة.. والحقبة من الزمن، القطعة الطويلة الممتدة منه، وسميت أجزاء الزمن حقبا لأن بعضها يعقب بعضا، ومنه الحقيبة، التي يحملها المرء خلف ظهره، والمراد أن هؤلاء الطاغين الذين أخذوا منازلهم في جهنم، لا يخرجون منها، بل يعيشون فيها أزمانا بعد أزمان، تتبدل فيها أحوالهم: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: 56]، فهم ليسوا على حال واحدة، بل هم في أحوال شتى من العذاب، يتقلبون فيه، وينتقلون من حال إلى حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 19]، وقوله: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [المدثر: 17]، وقوله في آية تالية، في هذه السورة: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ [النبأ: 30]

القرآن والوعيد والإنذار (67)

قال آخر: وقد يراد بذلك اختصاصها ببعض المذنبين من أهل جهنم ممن لهم نجاة يوم القيامة، فيعاقبون فيها فإذا تطهروا يخرجون منها، فقد روي عن الإمام الباقر أنه سئل عن هذه الآية، فقال: (هذه في الذين يخرجون من النار) (1)

قال آخر: وأما لو قلنا بأن الحقبة هي مدة من الزمان مبهمة، فعندئذ يصلح أن ينطبق على الخلود، ويكون كناية عن الدوام فيها والتأبيد، ويشهد على ذلك التعبير بالجمع، فكأنه قال: (لابثين في جهنم حقبا بعد حقب) بلا تحديد ولا نهاية، ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق أنه قال فيها: (هذه في الذين لا يخرجون من النار) (2)

قال آخر: ثم بين الله تعالى أحوالهم فيها، فقال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ أي لا يذوقون في جهنم بردا يبرد حر السعير عنهم إلا الغساق، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم، فهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابا فيسكن عطشهم، ويزيل الحرقة من بواطنهم، ولكن يجدون الماء الحار المغلي، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق، وسائر الرطوبات المستقذرة.. وكأن الله تعالى استثنى من الشراب، أمرين: الحميم، وهو الماء الشديد الحرارة.. والغساق: وهو صديد أهل جهنم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه ينزل بهم شديد عقابه جزاء موافقا للذنب ومقداره، فقال: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾، أي أن الله تعالى جزاهم جزاء موافقا لعملهم في السوء والشناعة، مجانسا له.. وربما يعلل أنهم ارتكبوا الذنب الأعظم وهو الشرك، فيجزون بعذاب أعظم وهو النار.

__________

(1) تفسير العياشي: 2/ 160.

(2) نور الثقلين: 5/ 494.

القرآن والوعيد والإنذار (68)

قال آخر: ويمكن أن يقال: إن ما يجزون به ليس إلا نفس أعمالهم الإجرامية التي ظهرت بوجود أخروي، فخلودهم في النار أحقابا ليس إلا صورة أخروية لإنكارهم وأعمالهم وظلمهم وركوبهم رقاب الناس.

قال آخر: ذلك أنه لو كانت العقوبة أمرا جعليا كالعقوبات الدنيوية، كان للسائل أن يسأل عن وجه الوفاق، ويظن أن العقوبة أعظم مما يستحقه على الذنب، وأما لو قلنا بأن عامة العقوبات أو أكثرها أمور أوجدها الطغاة بأنفسهم في الحياة الدنيوية وقد عادت بنفسها إلى القيامة وظهرت بثوبها الأخروي، فلا موضوع للسؤال، وربما يدل على ذلك كون الجزاء يوم القيامة نفس العمل الدنيوي المجسم بوجود أخروي، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7]

قال آخر: وبعد أن بين الله تعالى على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم فصل أنواع جرائمهم، فذكر أنها نوعان، أما أولها، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم، لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب ولا يتوقعونه.

قال آخر: وذلك ما يشير إلى أن رغبة المرء في فعل الخيرات، وترك المحظورات، إنما تكون غالبا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك في الآخرة، فمن كان منكرا لها لا يقدم على شيء مما يحسن عمله، ولا يحجم عن أمر مما يقبح.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن الاعتقاد بيوم الجزاء له تأثير في ردع النفس عن الوقوع في المعاصي، كما أن إنكاره له تأثير في إغراء النفس لأن تقع في هواها ومشتهياتها.

قال آخر: وفي التعبير عن تكذيبهم بالحساب، بقوله تعالى: ﴿لَا يَرْجُونَ﴾، مع أن الرجاء عادة إنما يكون لتوقع الخير، إشارة إلى أن يوم القيامة، من شأنه أن يكون أملا مرجوا

القرآن والوعيد والإنذار (69)

عند الناس، ففيه الحياة الحق، والخلود الدائم، والنعيم الكامل، وأن مقام الإنسان في الحياة الدنيا هو مقام قلق، وإزعاج، لا ينبغي للعاقل أن يقيم وجوده عليه، بل ينبغي أن يسعى إلى التحول عنه، والنظر إلى ما وراءه، والرجاء في حياة أكرم، وأفضل، وأبقى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]

قال آخر: وأما السبب الثاني للعذاب، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ أي وكذبوا جميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد وبجميع ما جاء في القرآن.

قال آخر: وبعد أن بين الله تعالى فساد أحوالهم العملية والاعتقادية، أرشد إلى أنها في مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى لا يغيب عنه شيء منها فقال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أي إنا علمنا جميع ما عملوا علما ثابتا لا يعتريه تغيير ولا تحريف، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئا مما كانوا يصنعون في الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات، لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاء لا يزول منه شيء ولا يغيب، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه كما قال تعالى: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: 6]

قال آخر: وإنما قال تعالى: ﴿كِتَابًا﴾ ولم يقل:(إحصاء) لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحصى كلام متكلم حتى لا يغيب منه شيء عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: (وكل شيء أحصيناه إحصاء يساوى في ثباته وضبطه ما يكتب)

قال آخر: وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، رتب عليه هذا الجزاء فقال: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ أي فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه كما قال تعالى: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص: 58]

القرآن والوعيد والإنذار (70)

قال آخر: وقد روي عن بعضهم أنه قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾، ذاك أن فيها تقريعا وتوبيخا لهم في يوم الفصل، وغضبا من أرحم الراحمين، وتيئيسا لهم من الغفران.

قال آخر: وبعد أن بين الله تعالى حال المكذبين، أردفه بما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها الله تعالى ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء منه، وفي هذا استنهاض لعوالي الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير، وازديادهم من القربات والطاعات، كما أن فيها إيلاما لأنفس الضالين المكذبين.

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى هذا الوصف بقوله: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ أي إن لمن اتقى محارم الله وخاف عقابه فوزا بالكرامة والثواب العظيم، في جنات النعيم.

قال آخر: ثم فسر الله تعالى هذا الفوز وفصله فقال: ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾ أي بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار لها أسوار محيطة بها، وفيها الأعناب اللذيذة الطعم، مما تشتهيها النفوس، وتقر به العيون، وقد أفردت بالذكر وهى مما يكون في الحدائق عناية بأمرها كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98].

قال آخر: ثم وصف الله تعالى ما في الحدائق والجنات فقال: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ أي وحورا كواعب، وهن أبكار عرب أتراب.. والتمتع بالنساء على هذه الشاكلة مما يتمثله المرء في الدنيا على نحو من اللذة، وإن كنا لا نعلم كنهه في الآخرة، وعلينا أن نؤمن به، وأنه تمتع يفوق به ما هو مثله من لذات هذه الحياة، وأنه يشاكل أحوال العالم الأخروي.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من نعيم الجنة: ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ أي وكأسا من الخمر مترعة ملأى متتابعة على شاربيها.

القرآن والوعيد والإنذار (71)

قال آخر: فهذه هي النماذج التي يعيش فيها المتقون النعم الحسية التي يتلذذون فيها بالفاكهة الشهية، والمظهر الجميل، والنساء الشابات، والشراب المنعش.. وإذا كانت الآيات الكريمة قد حددت هذه الأمور، فإنها لم تقصد التحديد، بل قدمت النموذج للذة الحسية التي يعيش الناس في الدنيا أحلامها واهتماماتها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الجنة تحمل للمتقين كل شيء مما يشتهونه ومما يدعونه، ومما لا حصر له من اللذات الحسية أو الروحية التي لم تخطر على قلب البشر، ولذلك عقب على ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾، أي هناك الحياة النقية الخالصة من العبث الكلامي الذي لا يعبر عن أي معنى نافع للحياة، وهناك الصدق الذي لا يسمح للكذب الذي يبتعد عن الحقيقة، لأنه لا حاجة لما كان الناس في الدنيا يخوضون فيه من اللغو والكذب في مواقع الجدل الذي يقود إلى ذلك.

قال آخر: ولما ذكر الله تعالى أنواع النعيم بين أن هذا جزاء لهم على ما عملوا، وتفضل منه سبحانه فقال: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاء كافيا وافيا.. فهي تمثل الجزاء على العمل، فيما يستحقه الإنسان من خلال وعد الله له، كما تمثل العطاء المحسوب بدقة من خلال التفضل الإلهي عليه، لأن الإنسان مملوك لله بنفسه وبعمله، فلا يستحق على الله شيئا إلا من خلال ما يتفضل عليه به.

قال آخر: وفي العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي في قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ بدلا ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ تكريم للنبي الكريم، وأنه من فضل ربه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿حِسَابًا﴾ إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين.. أولاهما أنه عطاء بحساب، أي حسب منازل المتقين عند الله، وحسب درجاتهم من التقوى،

القرآن والوعيد والإنذار (72)

وثانيهما، أنه عطاء يكفي كل من نال منه، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن نعيم الجنة، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، إلا أنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به، حيث تقبلهم لهذا النعيم، واتساع قواهم له.. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند الله.. وذلك مثل مائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات، وحولها أعداد من المدعوين إليها.. فكل ينال منها قدر طاقته، وشهوته، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها.. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق، وتنتهي به أيام الدنيا، وأن دار العذاب معدة للكافرين، وأن الفوز بالنعيم للمتقين أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفا صفا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا قولا صحيحا، فقال: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ أي إنه سبحانه المالك لشئونهما، المدبر لأمورهما، ولا يملك أحد من أهلهما مخاطبته تعالى بالشفاعة إلا بإذنه.

قال آخر: ثم أكد الله تعالى هذا وقرره بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾، ولا شك في أن قيام الروح والملائكة صفا يوم القيامة، وعدم تكلمهم إلا بإذنه سبحانه، إنما هو امتثال للأوامر الإلهية، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم بأمره يعملون، ولكن في يوم القيامة سيتجلى امتثالهم لله أكثر وبشكل أوضح.

قال آخر: والآية الكريمة تذكر أن الملائكة والروح على جلالة أقدارهم، ورفيع درجاتهم لا يستطيعون أن يتكلموا في هذا اليوم، إجلالا لربهم، ووقوفا عند أقدارهم، إلا

القرآن والوعيد والإنذار (73)

إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولا صدقا وصوابا.

قال آخر: وقد جاءت كلمة ﴿الرُّوحُ﴾ في القرآن الكريم بصور شتى.. فتارة تأتي مجردة عن أية قرينة، وغالبا ما تأتي في قبال الملائكة، كقوله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 4]، وقوله: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: 4]، كما ذكرت كلمة ﴿الرُّوحُ﴾ مع الإضافة، أو صيغة الوصف المقارن كـ ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ في قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102]، وكـ ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ كما في قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء: 193]، وقد أضاف الله تعالى صفة ﴿الرُّوحُ﴾ إلى ذاته المقدسة، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [ص: 72]، وقوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ [مريم: 17]

قال آخر: وقد اختلف في معنى ﴿الرُّوحُ﴾ اختلافا شديدا، فبعضهم يذكر أنه مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها.. ومنهم من يذكر أنه أمين الوحي الإلهية جبريل أشرف الملائكة.. ومنهم من يذكر أنه أرواح أناس يقومون مع الملائكة.. ومنهم من يذكر أنه ملك عظيم الشأن، وأشرف من جميع الملائكة قاطبة حتى جبريل.

قال آخر: وعلى أي حال، فسواء كان ﴿الرُّوحُ﴾ من الملائكة أو من غيرهم، فإنه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفا بانتظار أوامر الله تعالى، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أي من الخلق للتحدث معه، والذين سيتكلمون أو يشفعون لا يقومون بذلك إلا بعد إذنه جل شأنه.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب، وبين عظمة يوم القيامة، أردف ذلك بيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه فقال: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ أي ذلك اليوم متحقق لا ريب فيه ولا مفر منه، وأنه يوم تبلى فيه السرائر، وتنكشف فيه

القرآن والوعيد والإنذار (74)

الضمائر، أما أيام الدنيا فأحوال الخلق فيها مكتوبة، وضمائرهم غير معلومة.

قال آخر: و﴿الْحَقُّ﴾ هو الأمر الثابت واقعا، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماما على يوم القيامة، لأنه سيعطي كل إنسان حقه، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين، وتتكشف كل الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين.. فانه بحق: يوم الحق، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الإنسان إذا ما التفت إلى حقيقة يوم القيامة، فسيتحرك بدافع قوي نحو الله تعالى للحصول على رضوانه بامتثال أوامره، فقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾، أي فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه، ويدنيه من كرامته وثوابه، ويباعد بينه وبين عقابه.

قال آخر: ثم زاد الله تعالى في تخويف الكفار وإنذارهم فقال: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾، أي إنا نحذركم عذاب يوم القيامة وهو قريب، لأن كل ما هو آت قريب كما قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: 46]، وهم ليجدون مقدماته إذا فارقت الروح البدن، فإنه يتكشف لهم ما كان ينتظرهم، ولا يزالون منه في ألم إلى أن يلاقوا ربهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى موعد هذا العذاب بأنه ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾، أي هذا العذاب القريب يوم ينظر المرء ما صنعه في حياته الأولى من الأعمال، فإن كان قد آمن بربه وعمل عمل الأبرار فطوبى له وحسن مآب، وإن كان قد كذب به وبرسوله فله الويل وأليم العذاب، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: 30]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حال الكافر حينها، فقال: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ

القرآن والوعيد والإنذار (75)

تُرَابًا﴾، أي ويقول الكافر من شدة ما يلقى ومن هول ما يرى: ليتبنى كنت ترابا، أي ليتبنى لم أكن من المكلفين، بل كنت حجرا أو ترابا لا يجرى عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب.. وفي الآية إيماء إلى ما يكون عليه المؤمنون من الاستبشار والسرور بما رأوه.

المشهد الثالث:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور: 7 ـ 19]

قال أحد الوعاظ: هذه الآيات الكريمة من سورة الطور، وقد بدأها الله تعالى بخمسة أقسام، هي الطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور.. ثم أوقع هذه الأقسام على وقوع العذاب، الذي هو وجه من وجهي الجزاء يوم القيامة.

قال آخر: ثم عرض الله تعالى بعد ذلك صورة من صور النعيم، الذي حرمه أهل الضلال، الذين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون.. وهو النعيم الذي يراه أهل النار بأعينهم، ويرون فيه أقواما كانوا من قبل موضع استهزاء بهم وسخرية منهم.

قال آخر: وهذا النعيم، كان يمكن أن يكون لهم نصيب منه، ولكنهم صرفوا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 544)، وتفسير المراغي (27/ 19)، ومن وحي القرآن: (21/ 234)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (17/ 159)، والتفسير المنير (27/ 56)، ومفاتيح الغيب (28/ 200)، ومنية الطالبين: 27/ 74.

القرآن والوعيد والإنذار (76)

وجوههم عنه في الدنيا، وسفهوا الذين كانوا يدعونهم إليه، فأبقى لهم ذلك حسرة دائمة، وبلاء طويلا ممتدا لا ينتهي أبدا.. وفي هذا ما يضاعف من عقابهم، ويزيد في شقائهم، على حين أنه يقدم بين أيدي المؤمنين المتقين، ويرفع لأبصارهم في تلك الجنة التي وعدوا بها، فيرونها دانية منهم، يشوقهم لقاؤها، والسعي الحثيث إليها.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ أي إن عذاب يوم القيامة لمحيط بالكافرين المكذبين بالرسل، لا يدفعه عنهم دافع، ولا يجدون من دونه مهربا، جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الشرك والآثام، ودسوا به أرواحهم من التكذيب بالرسل واليوم الآخر.

قال آخر: ثم بين الله تعالى ما يصاحب وقوع العذاب يوم القيامة، فقال: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾، أي إن العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا ويموج بعضها في بعض موجا، وتتحرك في مكانها، وتزول الجبال من مواضعها كسير السحاب، وتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا.

قال آخر: والحكمة في مور السماء وسير الجبال الإعلام بألا عودة إلى الدنيا، لخرابها وعمارة الآخرة، لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها، فإن لم يؤمل العود إليها، لم يبق فيها نفع.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من يقع عليه العذاب وينزل عليه يوم القيامة، فقال: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فهلاك يومئذ للمكذبين الذين يخوضون في الباطل، ويندفعون لاهين، لا يذكرون حسابا، ولا يخافون عقابا.

قال آخر: ذلك أنهم كانوا يخوضون في الأحاديث المطروحة في ساحة الصراع بين

القرآن والوعيد والإنذار (77)

الرسالة وخصومها، تماما كما لو كانت حركة لاعبة لاهية، فيما يخوض فيه الخائضون من إثارة الضجيج وتبادل الصراخ، لينتهي كل شي بعد ذلك إلى الفراغ الذي لا يحمل معه الإنسان أي شيء.

قال آخر: وتلك هي المشكلة التي يعانيها الرسل في مجتمعاتهم عندما يعملون بكل الوسائل المتاحة لديهم على إخراجها من أجواء اللعب إلى أجواء الجدية المسؤولة التي تتابع الواقع الجديد باهتمام وتفكير ليواجهوا الخوف الحقيقي من المصير الأخروي.

قال آخر: وهذا المعنى لا ينطبق على المشركين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل هو يشمل جميع المكذبين حتى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار الناقصة، ويتخذون حقائق عالم الوجود لعبا وهزوا، ولا يعتدون إلا بما يقر به عقلهم القاصر، فهم ينتظرون أن يروا كل شيء في مختبراتهم وتحت المجهر حتى ذات الله المقدسة ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ وإلا فلا يؤمنون بوجوده أبدا.

قال آخر: فهؤلاء أيضا مصداق للذين هم ﴿فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ وهم غارقون في أمواج من الخيالات والتصورات الباطلة، ذلك أن عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس المضيئة في العالم، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادة المظلم وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة، وأن يحلق في كل جهة بنور الوحي ليرى العالم الواسع ويتعرف على مجهولاته وخفاياه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن المجرمين يساقون ويدعون إلى جهنم بالتحقير والمهانة والزجر والعذاب، فقال: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: 13] أي يدفعون إليها بعنف، كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ [الحاقة: 30 ـ 31]، وقال: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الدخان: 47]، وقال: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى

القرآن والوعيد والإنذار (78)

جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مريم: 86]

قال آخر: وعلى العكس منهم المتقون والصالحون إذ يتلقون بكل إكرام واحترام عند باب الجنة، كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73]

قال آخر: ولهذا فليست الجنة والنار ـ كل منهما ـ مركزا لرحمة الله أو عذابه فحسب، بل تشريفات الورود لكل منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يقال لهم تقريعا وتوبيخا، وأول ذلك: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور: 14]، أي عندما كان الرسل يحذرونكم منها، فتسخرون وتعبثون، وتتساءلون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، فما ذا ترون الآن؟ وهل تتذكرون كلماتكم اللامسؤولة التي واجهتم بها الرسل؟

قال آخر: وفي الإشارة إلى النار، دعوة لأهلها إلى ورودها، ونزولهم ضيوفا عليها، ليطعموا مما تقدمه لهم من زاد عتيد تلقاهم به، وتغاديهم وتراوحهم بصنوفه وأكوانه.. وفي هذا مزيد من الاستهزاء وإيلام لهؤلاء الأشقياء، الذين يساقون إلى هذا العذاب الأليم، مثل قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: 49]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه يقال لهم: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾، وهو عرض على أسماع هؤلاء المجرمين المكذبين باليوم الآخر لتلك المقولات الهازئة الساخرة التي كانوا يقولونها عن البعث، والحساب، والجزاء.. وكان من مقولاتهم تلك، اتهام النبي بالكذب، وبالسحر، وأن ما يحدثهم به عن اليوم الآخر ليس إلا من قبيل الشعوذة والخداع.. ولذلك يسألون هذا السؤال التقريعي، الذي لا يجدون له جوابا إلا الإبلاس والوجوم، وإلا الحسرة القاتلة، والندم الأسود الكئيب.

القرآن والوعيد والإنذار (79)

قال آخر: ولهذا يقال لهم: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا﴾ أي أهذا العذاب الذي، تساقون إليه، والذي كان يتلوه عليهم من آيات الله، أسحر هو؟

قال آخر: ذلك أن من أساليب العقاب، أن يوقف المجرم على جسم جريمته، وأن يواجه بها، وأن يذكر بها حالا بعد حال، وخاصة إذا كان بين يدي السلطان القاهر الذي يأخذه بجريمته ويوقع عليه الجزاء الذي يستحقه، فإن جريمته هي التي ساقته إلى هذا البلاء الذي هو فيه، وإنها لهى العدو الذي ألقاه في التهلكة!

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ زيادة في إبلامهم بأن ينظروا في هذا العذاب، وأن يملأوا عيونهم منه، قبل أن يذوقوه بأجسامهم، ويلبسوه ثيابا تقطع لهم من تلك النار الموقدة أمام أعينهم.

قال آخر: ثم ذكروا لهم أن هذا هو الجزاء العادل، ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا﴾ فلن يجديكم الصبر نفعا، لأنه لن ينتهي إلى وضع آخر في تخفيف العذاب أو صرفه عنكم، ولن ينفعكم الجزع لأنكم لن تموتوا وترتاحوا بالموت من ذلك، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فلا مجال لأي تبديل أو تغيير في العذاب، لأن الله أراده لكم، ولا راد لإرادته.

قال آخر: وفي هذا تأكيد على تجسم الأعمال، وعودتها نحو الإنسان، وهي تأكيد جديد أيضا على عدالة الله.. لأن نار جهنم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم، وأشكالها المتبدلة هناك.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى مصير المكذبين، ناسب المقام أن يذكر ما يقابلهم وهم المتقون وذكر مصيرهم كما هو شأن القرآن، لأنه كلما ذكر شيئا عن إحدى الطائفتين يذكر شيئا من مواصفات الطائفة الأخرى.

القرآن والوعيد والإنذار (80)

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى ذكر نعيمهم بقوله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي إن الذين خافوا ربهم وأخلصوا له العبادة في السر والعلن، وأدوا فرائضه، وتحلوا بآداب دينه، وانتهوا عن معاصيه، ولم يدنسوا أنفسهم بالآثام، ولم يدسوا أرواحهم بالذنوب، يجازيهم ربهم جزاء وفاقا بجنات يتنعمون فيها، ويجدون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال في الدنيا، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها، وما صبروا عليه من مكارهها، ابتغاء رضوانه. وهم فيها قرير والأعين طيبو النفوس، لا يشغلهم شاغل، ولا يجدون هما ولا نصبا، ولا يكدر صفو عيشهم مكدر.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ أي إن العاملين بالأوامر الإلهية، المبتعدين عن المحظورات الشرعية هم في بساتين خضراء نضرة تجري العيون والينابيع والأنهار من تحتهم، ويغمرهم نعم كثيرة من الله تعالى، فاكهين متلذذين مستمتعين مسرورين.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم يتمتعون بنعمة أخرى قبل هذه فقال: ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أي وقد نجاهم ربهم من عذاب النار، فلم يمسسهم لظاها، ولم يحسوا بأذاها، فهم قد لابسوا النعم، وجانبوا النقم، وذلك هو الفوز العظيم والنعيم المقيم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه يقال لهم حينئذ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات، واشربوا مما لذ وطاب، هنيئا، لا تخافون أذى ولا غائلة كما تشاهدون مثل ذلك في طعام الدنيا وشرابها، كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال، وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة.

المشهد الرابع:

القرآن والوعيد والإنذار (81)

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: 5 ـ 19]

قال أحد الوعاظ: هذه الآيات الكريمة سبقت بالقسم بأمور أربعة تأكيدا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾، وهي تشبه سورة المرسلات حيث أقسم الله تعالى فيها بأمور خمسة تأكيدا لقوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ [المرسلات: 7]، فالمقسم عليه في كلتا السورتين واحد مضمونا، غير أنهما تختلفان في عدد الأقسام.

قال آخر: وهي تشبه أيضا سورة النازعات التي أقسم الله فيها بأمور خمسة تأكيدا لقوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ [النازعات: 6]، فالجواب في جميع هذه السور الثلاث هو: التأكيد على المعاد.

قال آخر: ولذلك، فإن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ هو المقسم عليه بهذه الأقسام الأربعة، وهو ما يسمى بجواب القسم.. وفيهما إخبار من الله تعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت، هو وعد صادق، لا شك فيه، وأن ﴿الدِّينَ﴾ وهو الدينونة والجزاء، واقع لا محالة.

قال آخر: وفي الإخبار عن الموعود به بأنه صادق، دون القول بأنه ﴿صَدَّقَ﴾ ـ إذ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 504)، وتفسير المراغي (26/ 176)، ومن وحي القرآن: (21/ 198)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (17/ 69)، والتفسير المنير (27/ 9)، ومفاتيح الغيب (28/ 162)، ومنية الطالبين: 27/ 11.

القرآن والوعيد والإنذار (82)

الصدق وصف للخبر، والصادق، وصف المخبر به ـ إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتي، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق بالصدق.

قال آخر: وليست أخبار الله تعالى ـ وهي الحق المطلق ـ بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره، ولكن أهل الضلال والعناد، يشكون في نسبة هذه الأخبار إلى الله، كما أنهم لا يرتفعون بقدر الله وجلاله كثيرا عن المستوى البشرى.. ففي تأكيد الخبر لهم بالقسم، دلالة على تكذيبهم لرسول الله، ثم سوء ظنهم بالله.

قال آخر: ثم أقسم الله تعالى قسما آخر، فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ أي السماء ذات الطرائق المختلفة، وربما يفسر بالسماء ذات الحسن والزينة، نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ [الصافات: 6]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى المقسم عليه، فقال: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾، أي إنكم ـ أيها المكذبون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يدعو إليه ـ على آراء مختلفة وأفكار متناقضة، فتارة ترمون صاحب الدعوة بكونه ساحرا، أو شاعرا، أو مجنونا، أو ممن علمه بشر؛ وأخرى تقولون عن كلام الله تعالى بأنه شعر، أو سحر، أو من أساطير الأولين، وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادعائكم، إذ لا تعتمدون على دليل واضح، ولا تستندون إلى برهان لائح، فإن تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الإعراض عن الحق ليس مختصا بهؤلاء، بل هو شيمة كل مخالف للحق، فقال: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾، أي كل من صرف وخالف الحق، يعرض عن الإيمان بالمعاد والجزاء، أو دعوة الأنبياء.. أي أن إعراضهم عن الدعوة نابع عن وجود العناد واللجاج في قبول الحق مطلقا، سواء أكان من مقولة الدعوة النبوية أم غيرها.

قال آخر: ثم دعا الله تعالى على هؤلاء الأفاكين، فقال: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ

القرآن والوعيد والإنذار (83)

فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم في جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به.. وهذا دعاء عليهم يراد به في عرف التخاطب لعنهم، إذ من لعنه الله فهو بمنزلة الهالك المقتول.

قال آخر: والخراصون هم الذين يبنون أحكامهم وقناعاتهم على الظن والحدس، فيسيئون إلى الحقيقة، عندما يبعدونها عن العناصر اليقينية التي تؤكدها وتفتح عليها أكثر من نافذة.

قال آخر: ونلاحظ أن الله تعالى يصف المشركين بالتخرص في محال مختلفة من القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [يونس: 66]، وقال: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: 20]، وهو يشير إلى أن قضاءهم في المعارف كلها وفي الدعوة النبوية كان مبنيا على الظن والتخرص، ومثلهم في هذا كمثل الذي يرمي ليلا، فإصابته الهدف احتمال ضعيف لا يعتد به، ولذلك صاروا من رماة القول على عواهنه، فيقولون نحن نظن أنه شاعر، أو ساحر، أو مجنون، كل ذلك بلا دليل.

قال آخر: ثم وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾، اي قد غمرهم الجهل والضلال فحجب عنهم نور الحق، وصاروا يظنون ويتخرصون ويطلقون الأقوال جزافا من غير أساس.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى نموذجا عن استهزائهم، فقال: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ أي أن من ضلال هؤلاء الخراصين، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم القيامة، سؤال المنكر له، المستبعد لوقوعه، المكذب به، فيقولون: متى يوم الدين؟ كما ذكر الله تعالى ذلك عن إنكار المنكرين للبعث، فقال: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الملك: 25]

القرآن والوعيد والإنذار (84)

قال آخر: وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان ﴿أَيَّانَ﴾ للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع هذا الأمر، زمانا ومكانا، فلا يقع في مكان، أو في زمان.. وهذه مبالغة منهم في الإنكار والجحود.. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له.

قال آخر: وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجيء هذا اليوم، فإن أحدا منهم لا يترك عبيده وأجراءه في عمل دون أن يحاسبهم وينظر في أحوالهم، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه ـ سدى ويوجدهم عبثا؟

قال آخر: ثم أجاب الله تعالى عن هذا السؤال، وذكر أنه يكون يوم القيامة، فقال: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ أي يحرقون فيها ويقلبون على جمرها.. وأصل الفتن، عرض الذهب وغيره على النار، ليظهر ما فيه من خبث.. وقد عدل عن الخطاب إلى الغيبة، إبعادا للمشركين عن مقام الحضور، وطردا لهم من مقام أهلية الاستماع إليهم، والرد عليهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يقال لهم حينها، فقال: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ أي عذابكم الذي أعد لكم، وهو العذاب الذي يجزى به الذين فتنهم الشيطان، وأغواهم فكفروا بالله، وضلوا عن سواء السبيل.. فالفتنة هنا تجمع بين معنيين، بين الفتنة، أي الضلال الذي كانوا فيه، وبين الفتنة، التي هي النار التي تذيب المعادن، وتصهرها.. فهم فتنة في أنفسهم، ثم تلقاهم يوم القيامة فتنة، هي العذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود.

قال آخر: ويقال لهم: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون وقوعه استهزاء وتظنون أنه غير كائن.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى حال المغترين الذين أنكروا يوم الدين، وكذبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعبدوا مع الله غيره من وثن أو صنم، أردف ذلك

القرآن والوعيد والإنذار (85)

ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جنات النعيم، فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ﴾ تمتد فيها الخضرة امتداد البصر، وتتدلى فيها الفواكه والثمار المتنوعة من الأشجار الكثيرة المختلفة في خصائصها، ﴿وَعُيُونٍ﴾ تتفجر بالماء الصافي الزلال العذب، ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ من النعيم الذي أعده الله لعباده المتقين الذين أحسنوا العمل.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ أي إنهم كانوا في دار الدنيا يفعلون صالح الأعمال، خشية من ربهم وطلبا لرضاه، ومن ثم نالوا هذا الفوز العظيم، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون، كما قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: 24]

قال آخر: وفي ذلك بيان للأسباب والوسائل، التي توسل بها هؤلاء المكرمون من عباد الله، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك اليوم، أي يوم القيامة ـ وهو الدنيا ـ محسنين، فلقيهم الله بإحسان مضاعف، كما قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]

قال آخر: ثم فصل الله تعالى ما أحسنوا فيه فقال: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ أي قد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم، لا يكادون يغفلون عن ذكره، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم.. فإذا نام الغافلون، قطعوا هم ليلهم ترتيلا، وتسبيحا، وصلاة، وذكرا.. والهجوع، هو النوم القليل.

قال آخر: ولعل في ذلك إشارة إلى قوله تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: 2 ـ 4]، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: 20].. هذا إذا قيس القليل من الليل إلى مجموع زمان كل ليلة، فيكون المعنى أنهم يقومون في كل ليلة أكثرها.. وأما إذا قيس إلى مجموع

القرآن والوعيد والإنذار (86)

الليالي فيكون المراد أنهم يقومون في أكثر الليالي، إلا القليل منها الذي تفوتهم فيه صلاة الليل.

قال آخر: ولعل المعنى الأول هو الأفضل بشهادة قوله تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي فهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار.. وفي ذلك إشارة إلى أنهم يرون أن ما قاموا به من تسبيح وذكر، وصلاة، وترتيل لم يستوف ما لله من حق عليهم، في عبادته وتسبيحه، فهم لهذا يستغفرون ربهم، ليتجاوز عن تقصيرهم في حقه.

قال آخر: ولما ذكر الله تعالى أنهم يقيمون الصلاة ثنى بوصفهم بأداء الزكاة والبر بالفقراء فقال: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أي وجعلوا في أموالهم جزءا معينا ميزوه وعزلوه للطالب المحتاج، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطنون إليه ليتصدقوا عليه.

قال آخر: أي أنهم لا يعيشون أنانية الاستحواذ في ملكية المال، ولا يعتبرون المال شأنا خاصا يملكون حرية التصرف فيه بطريقة مختنقة ضيقة بخيلة تتعقد من العطاء ولا ترى نفسها مسئولة عن مشاركة الآخرين فيه، بل يعتبرون الملكية مسئولية إنسانية، ويرون في المال أمانة إلهية تفرض عليهم إدارتها بالطريقة التي تحقق رضى الله الذي أعطى الإنسان المال، ووضع لإنفاقه وتحصيله حدودا، وأراد له مشاركة الآخرين فيه بطريقة أو بأخرى، وأعطاهم وأعطى هؤلاء الآخرين حق الحصول على بعض منه، ولا سيما من كان منهم صاحب حاجة إلى سؤال الناس، أو كان محروما من فرص العيش الكريم، بحيث ينظرون إلى الملكية كوظيفة اجتماعية متداخلة مع الحالة الإيمانية، وإلى المال كأمانة إلهية، ويمارسون ذلك عمليا في الحياة، وهذا ما يجعل الإنفاق من أعمال الخير الذي ينطلق من علاقة المؤمن بالله ليحدد علاقته بالإنسان.

القرآن والوعيد والإنذار (87)

الحياة والموت:

قال المرشد: أحسنتم.. حدثتمونا بما ورد في القرآن الكريم من النماذج التي يقابل الله تعالى فيها بين جزاء المحسنين، وغيرهم من المنحرفين الظالمين.. فحدثونا بما ورد فيه من ذكر الوعيد المرتبط بالحياة والموت.

قال أحد الوعاظ: هو كثير في القرآن الكريم، فعن أيها تريدون أن نحدثكم؟

المشهد الأول:

قال المرشد(1): حدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: 93 ـ 94]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هاتان الآيتان الكريمتان بعد أن بين الله تعالى أن القرآن كتاب من عند الله، ورد على الذين أنكروا إنزاله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه بشر، بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر.

قال آخر: ثم قفى على ذلك بهاتين الآيتين الكريمتين اللتين تتوعدان وتهددان من كذب على الله وادعى النبوة والرسالة، أو ادعى أنه قادر على الإتيان بمثل هذا القرآن، وهذا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 239)، وزهرة التفاسير (5/ 2591)، وتفسير المراغي (7/ 192)، ومن وحي القرآن: (9/ 217)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (4/ 383)، والتفسير المنير (7/ 296)، ومفاتيح الغيب (13/ 66)

القرآن والوعيد والإنذار (88)

الوعيد يتضمن الشهادة بصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأن القرآن من عند الله، ومن الاهتداء به، فأكمل الناس إيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يعرض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب.

قال آخر: ولذلك، فإن في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ حماية للرسل عليهم السلام من أن يكونوا مظنة تهمة في صدقهم، وصدق ما جاءوا به من عند الله.. إذ أن الافتراء على الله، والتلبيس على الناس باسمه، وادعاء النبوة واختلاق ما يكون بين يديها من كلمات الله وآياته.. كل هذا عدوان على الله، وتطاول على ما تفرد به سبحانه من قدرة وعظمة، وفي هذا مهلكة وضياع لكل من يتلبس بمنكر من هذه المنكرات.. وليس ثمة عاقل تسول له نفسه أن يقف هذا الموقف المفضوح، ويعرض نفسه للفضيحة الفاضحة، والخزي المبين بين الناس.. فكيف بأنبياء الله ورسله، وهم دعاة هدى، لا يبغون عليه من أحد أجرا ـ كيف يكون منهم الكذب على الله والتقول عليه بما لم يقل؟

قال آخر: وبذلك، فالذين يصطفيهم الله لحمل رسالته، ويضع بين أيديهم وعلى ألسنتهم كلماته وآياته لا يختلط أمرهم على ذي عقل، ولا تلتبس دعوتهم بدعوة أدعياء النبوة، لما بين النبي والدعي من مفارقات بعيدة، سواء في ذات النبي والدعي، أو في محامل دعوة النبي ودعوة الدعي.. ففي سلوك النبي، استقامة، وصدق، وعفة، وكمال، في كل أموره، ظاهرها وباطنها جميعا، مما لا يكون موضع شك أو إنكار عند أعدائه، فضلا عن أوليائه.. وليس كذلك الدعي الذي لا يمكن أن يقف هذا الموقف المخزي إلا إذا كان على قدر كبير من الوقاحة، والتجرد من الحياء، وعدم المبالاة باتهام الناس له، وتشنيعهم عليه.

القرآن والوعيد والإنذار (89)

قال آخر: وفي محامل رسالة النبي.. النور والهدى، والخير، والعدل، والإحسان.. للناس جميعا.. لا لطائفة من الطوائف، ولا لطبقة من الطبقات.. أما ما تحمل رسالة المدعى ـ إن كان له رسالة ـ فهو الملق والرياء، والاستجابة للعواطف الخسيسة في الناس، وإباحة المنكرات لهم، ودعوتهم إلى تلك المنكرات باسم هذا الدين الكاذب، الذي يباركها ويبارك أهلها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مصير هؤلاء الظالمين الذين افتروا على الله الكذب، وقالوا بما لم يقبله الله، فقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾

قال آخر: وفي هذا العرض يبدو المصير الذي يصير إليه كل ظالم، حين تنتهي أيامه القصيرة في هذه الدنيا، بحلوها ومرها، وبلهوها وعبثها، وإذ هو على مشارف الحياة الآخرة، وملائكة الرحمن يمدون أيديهم لانتزاع ثوب الحياة الذي يلبسه هذا الجسد، الذي كان يمشى في الأرض مختالا فخورا، يحسب أن ماله أخلده.. وما هي إلا لحظات، يعالج فيها سكرات الموت، حتى يكون جثة هامدة، كأنه لقى ملقى على الطريق، بل إنه يصبح سوأة يجب أن تختفي وتتوارى عن الأنظار، وتغيب في باطن الأرض.

قال آخر: وليس هذا فحسب، بل إن ذلك هو بدء لمرحلة جديدة، لحياة أخرى غير الحياة التي كان فيها.. إنه سيبعث من جديد، ويلبس ثوب الحياة مرة أخرى، ولكن لا ليكون مطلق السراح، يلهو ويعبث، بل ليلقى به في جهنم، وليكون وقودا لجحيمها المستعر.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لكل من سمعه أو قرأه، أي ولو تبصر إذ يكون الظالمون ـ سواء منهم من ذكروا

القرآن والوعيد والإنذار (90)

في الآية أو غيرهم ـ في غمرات الموت وهي سكراته وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى ـ لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه، ولا قدرة للبيان على تجلى كنهه وحقيقته.

قال آخر: والبسط في قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ وإن كان يقال للعطاء، إلا أنه يقال أيضا للبلاء والشدة، وقد ذكر في القرآن الكريم كثيرا بمعنى الشدة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ [المائدة: 11]، وقال على لسان المعتدى عليه من ولدى آدم: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 28].. وبذلك، فإن معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أي بالضرب والعذاب الذي لا مناص منه، ولا يمكنهم التخلص منه ولا الخروج.

قال آخر: وفي قول الملائكة عليهم السلام لهؤلاء الظالمين: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ إشارة إلى هذا الأمر الملزم، الذي يحمله الملائكة، لقبض أرواح الظالمين، وأن الملائكة، وهم الموكلون بقبض هذه الأرواح، يحملون هؤلاء الظالمين حملا على انتزاعها بأنفسهم، وإعطائها لهم بأيديهم، وفي هذا تنكيل بهم، وإذلال وقهر لهم، بأن يحملوا حملا على انتزاع حياتهم بأيديهم.. هكذا ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾.. وهل يعطى الإنسان نفسه بيده؟ إنه لأهون عليه كثيرا أن ينتزعها أحد منه قهرا وقسرا، من أن يكون هو الذي يقدم بيديه أعز شيء يملكه، بل كل شيء يملكه.

قال آخر: ولذلك، فإن قوله تعالى ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ كأنه يقال لهم: (سلموا أنفسكم لنا وقد علمتم أن هذا اليوم هو ساعة الأداء لما كسبتم وما قدمتم فتأخذوا جزاءه)، وفي هذا تشبيه لحالهم بحال المدين الذي يلازمه غريمه، فلا يستطيع الهرب منه حتى يؤدي

القرآن والوعيد والإنذار (91)

الدين الذي عليه.

قال آخر: والمراد من عذاب الهون في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ العذاب الذي يكون هوانا، وذلا، واستحقارا لأمرهم.. وإضافة العذاب إلى الهوان إضافة تدل على أن الهوان ملازم للعذاب، فقد استكبروا على الحق، وقالوا غير الحق، فكانت العقوبة من جنس الجريمة، ولقد قال الله تعالى في سبب ذلك: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾

قال آخر: أي السبب في العقاب أمران جمع الله فيهما الظلم كله.. أولهما، أنهم كانوا يقولون على الله غير الحق، فيشركون به، ويقولون إنه ثالث ثلاثة، ويقولون: المسيح إله، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله تعالى، وقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ تَقُولُونَ﴾ تدل على استمرار قولهم، وعدم انقطاعه عنهم، وإصرار عليه؛ لأن ﴿كُنْتُمْ﴾ تدل على الاستمرار، والمضارع يدل على تجدد القول آنا بعد آن.

قال آخر: وثانيهما، أن الآيات البينات الهادية من معجزات دالة، ومن دلائل أخرى فكانوا يعرضون عنها، ويستكبرون، ويظنون أن الالتفات إليها فيه هوان عليهم، وكبرياؤهم منعهم عن الالتفات إلى الحق، فاستكبروا وتجبروا، وخاب كل جبار عنيد وكان الاستكبار متضمنا الإعراض عن الآيات؛ ولذا عدى بـ ﴿عَنْ﴾ التي تدل على التجاوز والاعراض، كما قال تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي كنتم تستكبرون معرضين عن آياتنا الدالة؛ ولأنها قاطعة على الحق وفيها الهداية، ولكن لا تهتدون استكبارا وإعراضا، فنالوا جزاءهم.

قال آخر: ثم بين الله تعالى جزاءهم بعد أن زالت عنهم أسباب الطغيان والكبرياء، فقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، أي جئتم منفردين عن النصراء

القرآن والوعيد والإنذار (92)

الذين كنتم تعتزون بهم، فما لكم من نصراء.. وذهب عنكم افتراؤكم وما كنتم تقولون نحن أعز نفرا.. وذهبت عنكم أموالكم التي كانت تعزكم، وتدفعكم إلى الاستكبار والتطاول بها، وتقولون معتزين نحن أكثر مالا.. ذهب عنكم كل هذا وجئتم إلى الله بأنفسكم منفردين.

قال آخر: وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا.. قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104](1)

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ إشارة إلى حجة البعث على الذين ينكرونه، ويستغربونه، إذ مؤداها أنه خلقكم ابتداء بقدرته، ويعيدكم بقدرته، ومن كان قادرا على الإنشاء، هو على الإعادة أقدر، وهو العزيز الحكيم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى لهم أن كل ما كانوا يملكونه من مال ونسب، وعبيد، وصولة، وسلطان يصبح وراء ظهورهم، فقال: ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ تشبيه لحالهم في أنهم لا يأخذون شيئا معهم كمن ترك ما يملك وراء ظهره، وذهب تاركا له، أو من ولى الأدبار من اللقاء فقد كانوا يغترون بأموالهم، وأصبح لا يعرف ماله، فضلا عن أن يغتر به كما كان في الدنيا، ولم يعد المال إلا لحفظ الحياة بالقوت والكساء والصدقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس)(2)

__________

(1) مسلم (2860)، والبخاري (33490)

(2) مسلم (2958)

القرآن والوعيد والإنذار (93)

قال آخر: وفي هذا تصوير لحالة الضعف المطلق، التي تحيط بالإنسان من كل جهة، ليوحي إليه بأنه لا يملك شيئا إلا بالله، فهو الفقير في وجوده، وهو الفقير فيما يحقق له استمرار ذاك الوجود في تفاصيل أوضاعه، فلا حول له ولا قوة إلا بالله.

قال آخر: ونرى في هذه الآية الكريمة كيف أن الله يصور له الوضع الذي يبعثه فيه إليه فردا ليس معه أحد، كما خلقه من العدم وليس معه أحد.. ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ وإذا كان قد حصل في وجوده الأول على بعض القوة، فيما يحيط به من الناس القريبين منه أو البعيدين عنه، أو فيما يملكه من المال، فإن الله هو الذي أعطاه ذلك، وأراد له أن يحصل عليه ويتنعم به، فهو الذي رزقه الإخوان والأولاد، وهو الذي خوله المال.. حتى إذا شاءت إرادة الله أن يترك ذلك كله، ويرجع كما كان من دون مال أو إخوان أخذه إليه أخذ عزيز مقتدر.. فها هو يقف الآن أمام الله، فردا ضعيفا وحيدا فقيرا لا يملك شيئا ولا يملك أحد أن ينفعه بشيء، أو يعرف عنه أي شيء.

قال آخر: وبذلك، فإن الله يريد للإنسان أن يختزن في ذهنه الصورة، التي توحي بأن كل شيء لديه هو من الله، فلا يجوز له أن يفكر بأي تصرف ينحرف به عنه، وبأي إنسان يطيعه من دونه، لأن مثل هذا الإنسان لن يقف معه عند الشدة، ولن يجده في موقف القيامة.

قال آخر: وهذا ما أراد الله أن يثيره في ذهن الإنسان من هذه الصورة الأخروية التي يشاهد فيها نفسه، وهو يتلفت يمينا وشمالا، ليبحث عن هؤلاء الذين أطاعهم ـ في الدنيا ـ في معصية الله، وخضع لهم، وتمرد على الله لأجلهم ممن كان ينتمي إلى خطهم، ويسير في طريقهم، فلا يجد أحدا منهم.. ويأتيهم النداء من الله في أسلوب السخرية والتبكيت: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ فيما تشركونهم به في العبادة، أو في

القرآن والوعيد والإنذار (94)

العقيدة، فإذا كانوا شركاء ـ كما تزعمون ـ فلا بد لهم من أن يكونوا معكم، ليمنحوكم الحماية فيما يملكون من القوة.. ولكن الحقيقة المرة تفرض نفسها عليهم ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ لأن الروابط التي كانت بينكم لم تكن قوية شديدة، فلم تتماسك، بل تقطعت لدى أول تحد، وأصبحت هباء.. ﴿وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ لأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، فكيف يملكونه لكم.

قال آخر: ونلاحظ أن فاعل الفعل ﴿تَقَطَّعَ﴾ محذوف دل عليه السياق.. ومن السر في حذفه أنه أكثر من فاعل.. فالذي ﴿تَقَطَّعَ﴾ بين الظالمين وبين ما كان لهم، هو أكثر من أمر.. لقد تقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من مال وبنين، وتقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من آلهة اتخذوهم شفعاء لهم عند الله. وتقطع ما بينهم وبين كل وسيلة يتوسلون بها إلى الخلاص من هذا البلاء الذي هم فيه.. وهكذا: لقد تقطعت الأسباب بينهم وبين كل ولى من أوليائهم، أو قوة من قواهم.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ يعني: وغابت عنكم شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء وأوهام الفداء، وقد علمتم بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم.

قال آخر: ونلاحظ أن الآية الكريمة تشير إلى أن المشركين كانوا يستندون في حياتهم إلى أشياء ثلاثة: القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إليها، والأموال التي جمعوها لأنفسهم، والأصنام التي اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإنسان وشفيعة لهم عند الله، والآية الكريمة في كل جملة من جملها الثلاث تشير إلى واحدة من هذه الأمور، وإلى أنها عند الموت تودعه وتتركه وحيدا فريدا.

قال آخر: والآية الكريمة ليست خاصة بالمشركين، ففي ذلك اليوم تنفصم العرى

القرآن والوعيد والإنذار (95)

وتنفصل عن البشر كل العلاقات المادية والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا ليكون سندا لهم يستعينون به في يوم بؤسهم، ولا يبقى سوى الشخص وعمله، ويزول كل ما عدا ذلك، أو يضل عنهم ـ بحسب تعبير القرآن ـ وهو تعبير جميل يوحي بأن الشركاء سيكونون إلى درجة من الصغر والحقارة والضياع أنهم لا يُروا بالعين.

المشهد الثاني:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [النحل: 24 ـ 29]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هذه الآيات الكريمة بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد ونصب البراهين الواضحة على بطلان عبادة الأصنام، وأردف ذلك في هذه الآيات الكريمة بذكر شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وبين أنهم ليسوا ببدع في هذه المقالة، فقد سبقتهم أمم قبلهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم في الدنيا،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 285)، وزهرة التفاسير (8/ 4158)، وتفسير المراغي (14/ 68)، ومن وحي القرآن: (13/ 210)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (8/ 163)، والتفسير المنير (14/ 112)، ومفاتيح الغيب (20/ 197)، وتفسير ابن كثير: (4/ 565)، ومنية الطالبين: 16/ 60.

القرآن والوعيد والإنذار (96)

وسيخزيهم يوم القيامة بما فعلوا، ثم ذكر أنهم حين يشاهدون العذاب يستسلمون، ويقولون ما كنا نعمل من سوء، ولكن الله عليم بهم وبما فعلوا، ولا مثوى لأمثال هؤلاء المتكبرين إلا جهنم وبئس المثوى.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين: أي شيء أنزله ربكم؟ قالوا لم ينزل شيئا، إنما الذي يتلى علينا أساطير الأولين أي هو مأخوذ من كتب المتقدمين، كما قال تعالى حكاية عنهم في آية أخرى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]

قال آخر: وكانوا يفترون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقوالا مختلفة، فتارة يقولون إنه ساحر، وأخرى يقولون إنه شاعر أو كاهن، وثالثة إنه مجنون، ثم قر قرارهم على ما اختلقه زعيمهم الذي حكى الله تعالى ذلك عنه في قوله: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: 18 ـ 24] أي ينقل ويحكى، فتفرقوا معتقدين صحة قوله، وصدق رأيه.

قال آخر: و(الأساطير)، جمع أسطورة، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرات في القرآن الكريم نقلا عن لسان الكفار ضد الأنبياء عليهم السلام تبريرا لمخالفتهم الدعوة إلى الله عزوجل.. وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ ليؤكدوا أنها ليست بجديدة وأن الأيام ستتجاوزها، حتى وصل بهم الحال أن يقولوا: ﴿قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ [الأنفال: 31]

قال آخر: والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروبا من الحق وإضلالا للآخرين، ووصلت بهم الحماقة لأن يعتبروا منشأ الدين من الجهل

القرآن والوعيد والإنذار (97)

البشري، وأنه ليس سوى أساطير وخرافات، ويتوسلون إلى ذلك بما يبثونه في علم الاجتماع، وبصياغة علمية.

قال آخر: أما لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة أخرى، فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية الموضوعة أبدا، بل هم مؤسسوها والداعون لنشرها، إنما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإنساني ويحطم الأغلال الاستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.

قال آخر: وسبب ذلك أنهم يجدون في دعوة الحق مانعا أمام ما يطمحون الحصول عليه، ولذلك نراهم يستعملون مختلف الأساليب لتوهين هذا الدين القيم وإسقاطه من أنظار الآخرين كي تخلو الساحة لهم ليفعلوا ما يشاؤون.

قال آخر: ومن المؤسف أن طرح بعض الخرافات والأفكار الخاطئة في قالب ديني من قبل الجهلة، كان بمثابة العامل المساعد في جرأة هؤلاء ودفعهم لإلصاق تهمة الخرافات بالدين.

قال آخر: ولهذا يحتاج المؤمنون أمام هذه الحال إلى الوقوف بكل صلابة أمام الخرافات ليبطلوا هذا السلاح في أيدي أعدائهم ويذكروا هذه الحقيقة في كل مكان وأن هذه الخرافات لا ترتبط بالدين الحق أبدا، ولا ينبغي للداعية المخلص أن يجعل الخرافات ذريعة لأعداء الدين في محاربته ومحاربتنا، لأن عملية انسجام التعليمات الربانية مع العقل بحد من المتانة والوضوح لا يفسح أي مجال لأن توجه إليه هكذا أباطيل.

قال آخر: ثم بين الله تعالى عاقبة أمرهم فقال: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي وإنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك، لتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامهم وآثام الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة

القرآن والوعيد والإنذار (98)

ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم وإضلالهم لغيرهم واقتدائهم بهم.

قال آخر: وذلك، كما قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: 13]، وكما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)(1)

قال آخر: وقد جاءت كلمة ﴿لِيَحْمِلُوا﴾ بصيغة الأمر، أما مفهومها، فهو بيان نتيجة وعاقبة أعمال أولئك المظللين، كما نقول لشخص ما: لكونك قمت بهذا العمل غير المشروع فعليك أن تتحمل عاقبة ما فعلت بتذوقك لمرارة عملك القبيح.

قال آخر: ولعل السبب في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾، ولم يقل: (كل أوزارهم)، لأن هناك نوعين من الذنوب عند المضللين، نوع ناتج من اتباعهم لأئمة الضلال، ونوع آخر ناتج من أنفسهم.. فما يحمله أئمتهم وقادتهم هو من النوع الأول دون الثاني.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الأتباع الضالين لهم حالتان من التبعية... فتارة يكونون أتباعا للمنحرفين على علم وبينة منهم، والتاريخ حافل بهؤلاء، ويكون سبب الذنب بذلك أوامر القادة من جهة، وتصميم الأتباع من جهة أخرى فيقع على عاتق القادة قسم من المسؤولية المترتبة على هذه الذنوب، ولا يقلل من وزر الأتباع شيء.. وتارة أخرى تكون التبعية نتيجة الغفلة والوقوع تحت شراك وساوس المنحرفين من دون حصول الرغبة عند المتبوعين فيما لو أدركوا حقيقة الأمر، وهو ما يشاهد في عوام الناس عند الكثير من

__________

(1) مسلم (2674)

القرآن والوعيد والإنذار (99)

المجتمعات البشرية.. وفي هذه الحال يكون وزر ذنوبهم على عاتق مضليهم بالكامل، ولا وزر عليهم إن لم يقصروا بالتحقق من الأمر.. ولا شك أن المجموعة الأولى التي سارت في طريق الضلال عن علم وبينة من أمرها سوف لا يخفف من ذنوبهم شيء مع ما يلحق أئمتهم من ذنوبهم.

قال آخر: وفائدة قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ هو بيان أنهم يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وأنهم على الباطل، وفي ذلك تنبيه إلى أن كيدهم لا يروج على ذي لب، وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء، وزيادة تعيير وذم لهم، إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم.

قال آخر: والتعبير ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ في الآية الكريمة ليس دليلا على الغفلة الدائمة للمضلَّلين، ولا يعبر عن سقوط المسؤولية ـ في جميع الحالات ـ على غير المطلعين بحال وشأن أئمة السوء والضلالة، بل يشير إلى سقوط عوام الناس لجهلهم بشكل أسرع من علمائهم في شراك أو شباك المضللين.

قال آخر: ولهذا نرى القرآن الكريم في آيات كثيرة لا يبرئ هؤلاء الأتباع، بل يحملهم قسطا من المسؤولية كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ [غافر: 47 ـ 48]

قال آخر: والمراد من قوله ﴿كَامِلَةً﴾ أنه لا ينقص منها شيء ولا يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا، ولا طاعة مقبولة تكفر بعض تلك الأوزار كما هو حال المؤمنين.

قال آخر: وقصارى القول إن هؤلاء قد دنسوا أنفسهم، واختاروا لها الكيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين، فكانوا السبب فيما احتملوه من الأوزار والآصار، كما كانوا واسطة في تحمل من اتبعوهم هذه الأوزار أيضا، والله تعالى لم يظلهم فيما جازاهم به، بل هم الذين

القرآن والوعيد والإنذار (100)

قسطوا وجاروا على أنفسهم، فاستحقوا هذا الجزاء.

قال آخر: ثم هددهم الله تعالى وتوعدهم فقال: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أي بئس شيئا يرتكبونه من الإثم والذنب ما يفعلون.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن تهمة وصف الوحي الإلهي بأساطير الأولين ليست بالأمر المستجد، وأن غائلة مكرهم عائدة إليهم، ووبال ذلك لاحق بهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيبهم لرسلهم فقال: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي إن حال من قبلهم وقد دبروا الحيل ونصبوا الحبائل ليمكروا بها رسل الله فأبطلها الله وجعلها سبيلا لهلاكهم، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فضعضعت أساطينه، وسقط عليهم السقف، فهلكوا تحته من حيث لا يشعرون بسقوطه ـ فما نصبوه من الأساطين وظنوه سبب القوة والتحصين في البنيان صار سبب الهلاك، كذلك هؤلاء كانت عاقبة مكرهم وبالا عليهم، وذلك يشبه ما ورد في المثل: (من حفر لأخيه جبا، وقع فيه منكبا)

قال آخر: ومن لطيف دقة العبارة القرآنية، أن الآية الكريمة أشارت إلى أن الله عزوجل لا يدمر البناء العلوي للمستكبرين فحسب، بل سيدمره من القواعد لينهار بكله عليهم.

قال آخر: وقد يكون تخريب القواعد وإسقاط السقف إشارة إلى أبنيتهم الظاهرية، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم، وقد يكون إشارة إلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر الله عزوجل، بل لا مانع من شمول الأمرين معا.

قال آخر: وقد ذكر لنا التاريخ قديمه وحديثه بوضوح صورا شتى للعقاب الإلهي،

القرآن والوعيد والإنذار (101)

فإحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع، إضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال، وما قاموا به من تهيئة وإعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم.. كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إلا عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والاقتدار والدوام، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أن هؤلاء يأتيهم العذاب الإلهي وهم بذروة ما يتمتعون به، وإذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن عذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر، فقال: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾، أي ثم إن ربك يوم القيامة يخزيهم بعذاب أليم، ويقول لهم حين ورودهم عليه على سبيل الاستهزاء والسخرية: أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا وتتولونهم، والولي ينصر وليه.

قال آخر: والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والاحتقار لشأنهم، إذ كانوا يقولون: إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا.

قال آخر: وبذلك، فإن المقصود من السؤال والجواب يوم القيامة ليس لكشف أمر خفي، بل هو نوع من العذاب الروحي، وذلك إحقاقا للمؤمنين الذين لاقوا اللوم والتوبيخ الشديدين في الحياة الدنيا من المشركين المغرورين.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مقال الأنبياء والصالحين في شأنهم يوم القيامة، فقال: ﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أي قال الذين أوتوا العلم بدلائل التوحيد وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين كانوا يدعونهم في الدنيا إلى

القرآن والوعيد والإنذار (102)

دينهم، فيجادلون وينكرون عليهم: إن الذل والهوان والعذاب يوم الفصل على الكافرين بالله وآياته ورسله.. ومرادهم بهذه المقالة الشماتة وزيادة الإهانة للكافرين.

قال آخر: ثم بين الله تعالى أن الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم فقال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي الكافرين الذين تقبض ملائكة الموت أرواحهم وهم ظالموا أنفسهم ومعرضوها للعذاب المخلد بكفرهم، وأي ظلم للنفس أشد من الكفر؟

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ يشير إلى أن ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين، لأن الظالم يتلف ملكاته الوجدانية، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.. بالإضافة إلى أن الظلم متى شاع وانتشر في أي مجتمع، فالنتيجة الطبيعية له أن يعود على الظالمين أنفسهم ليشملهم الحال.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حالهم حينئذ من الخضوع والمذلة فقال: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ أي فاستسلموا وانقادوا حين عاينوا العذاب قائلين: ما كنا نشرك بربنا أحدا، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة، وذلك مثل قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾

قال آخر: ثم كذبهم الله تعالى فيما قالوا فقال: ﴿بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي، بل كنتم تعملون أعظم السوء وأقبح الآثام والله عليم بذلك، فلا فائدة لكم في الإنكار والله مجازيكم بأفعالكم.

قال آخر: ثم بين الله تعالى ما يترتب على قبيح أفعالهم فقال: ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ أي فادخلوا طبقات جهنم، وذوقوا ألوانا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي،

القرآن والوعيد والإنذار (103)

خالدين فيها أبدا، وبئس المقيل والمقام دار الذل والهوان لمن كان متكبرا عن اتباع الرسل والاهتداء بالآيات التي أنزلت عليهم، وما أفظعها من دار، وصفها ربنا بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: 36]

المشهد الثالث:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: 47 ـ 54]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هذه الآيات الكريمة بعد أن أمر الله تعالى عباده المؤمنين بجلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 628)، وزهرة التفاسير (6/ 3151)، وتفسير المراغي (10/ 11)، ومن وحي القرآن: (10/ 395)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (5/ 451)، والتفسير المنير (10/ 23)، ومفاتيح الغيب (15/ 490)، ومنية الطالبين: 12/ 190.

القرآن والوعيد والإنذار (104)

التنازع، وفيها نهي عما كان عليه المشركون من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله، ثم قفى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نهيتم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم لم يكتفوا بذلك، بل كانوا ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل الله، وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإعراض عن تبليغ دعوته، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار.

قال آخر: ثم عقب الله على جرائمهم هذه بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي والله عليم بما جاءوا لأجله، ومن ثم فهو يجازيهم عليه في الدنيا والآخرة بمقتضى سننه في ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس.. وفي هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازى عليها أشد الجزاء.

قال آخر: وفي هذا بيان للفرق بين الذين يحاربون من أجل رسالة إلهية، وبين الذين يحاربون من أجل عقدة ذاتية.. وهو نفس الفرق بين المسلمين الذين حاربوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين المشركين الذين حاربوا مع أبي جهل.

قال آخر: وبما أن الشيطان ولي الكافرين يخرجهم من النور إلى الظلمات، ومن الحق إلى الباطل، فلذا قال تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾، أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء

القرآن والوعيد والإنذار (105)

المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه في روعهم، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعتادهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.

قال آخر: وهذا يشير إلى أنهم ما دُفعوا إلى ما فعلوا إلا لوسوسة الشيطان، فالذي حرضهم على ذلك الخروج هو ما زين في نفوسهم من أن لهم الغلب.

قال آخر: وقد ذكر بعض المفسرين الروايات الواردة في تمثل الشيطان بصورة شخص يدعى سراقة، وعن حديثه مع قريش في المعركة، بالطريقة التي تحدثت بها الآية الكريمة، فيما وعدهم به في البداية وما خوفهم منه في النهاية.

قال آخر: لكن أسانيدها ضعيفة، والأحسن من ذلك هو حمل الآية الكريمة على كون الكلام تصويريا يحكي قصة إغرائه، وتزيينه لهم أنهم الأقوياء وكأنه يحدثهم، فيدليهم بغرورهم، ويبث فيهم القوة الزائفة، ويوهمهم أنه جار ولا جوار، وأنه لما اشتدت الشديدة قال: إني بريء منكم، وإني أرى ما لا ترون، وكل هذا تصوير لما جاش في نفوسهم.

قال آخر: وذلك كما ورد في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، فإن الظاهر ورودها مورد الحديث عن الطريقة الشيطانية في الإضلال، حتى إذا وقع الإنسان في الضلال، ابتعد عنه، وتركه يواجه المسؤولية بنفسه.

قال آخر: وهذا ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: 22]

القرآن والوعيد والإنذار (106)

قال آخر: ومع ذلك، فإن ما دلت عليه الروايات ليس بمستحيل، فلا مانع من أن يتمثل الشيطان بصورة رجل ليتحدث مع الناس ويتحدثوا معه من دون أن يبين لهم شخصيته.

قال آخر: والمهم أن الآية الكريمة توحي بأن دور الشيطان كان دور التشجيع وحشد القوة في داخلهم، لأنهم كانوا يعيشون حالة من الخوف والضعف، ولهذا حاول تقويتهم بقوله: ﴿وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ ليستريحوا إلى جواره وليأمنوا به.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى موقف طائفتين من المنحرفين، فقال: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، أما الطائفة الأولى فهم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام.. وأما الطائفة الثانية، فهم الذين في إيمانهم ضعف، حيث تنتابهم الشكوك ويهتز اعتقادهم عندما تعرض لهم الشبهات، أو عندما يواجهون حوادث لم يفقهوا حقائقها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذين الفريقين قالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ في أسلوب من أساليب التنديد بمسيرة المسلمين، وإقدامهم على خوض المعركة الذي قد يعتبرونه نوعا من أنواع التهور؛ فيرجعون ذلك إلى أن دينهم الذي يؤمنون به هو الذي أوقعهم في الغرور، فيما وعدهم به من الدخول في الجنة والحصول على ثواب الله في الآخرة، مما يجعلهم لا يقدرون العواقب فيما تتمخض عنه نتائج الأشياء.

قال آخر: وقد رد الله تعالى على هذا بأن هؤلاء قد أعدوا أنفسهم إعدادا جيدا، ثم واجهوا المعركة بروح واثقة بالنصر من خلال الثقة بالله والتوكل عليه، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي لا يغلب في عزته فيما يريد أن يقضي من قضاء، ولا ينتقص من حكمته فيما يريد أن يخطط من أمور.

قال آخر: ثم صور الله تعالى حالة قبض الملائكة لأرواح الكافرين وما يتمثل فيها

القرآن والوعيد والإنذار (107)

من عنف وإهانة وتحقير، فقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾ أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة، فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضار بين وجوههم وأقفيتهم، قائلين لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾، لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما هائلا يرد الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره.

قال آخر: وهذا تصوير لحال ذلهم الذي يقابل اغترارهم واستكبارهم عن الحق، وضرب الوجوه لا يكون إلا لمن يعاملون بالصغار والهوان، وهذا عقاب معنوي شديد.

قال آخر: ثم بين الله تعالى العذاب المعنوي فقال: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ للإشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بالإحساس به، فهم في إحساس دائم به، يذوقونه ويحسون به، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.. والحريق هو النار المحترقة التي لا يطيقها إحساس محس إلا أن يكون عذابا.

قال آخر: والتعبير بقوله تعالى: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ لا يخلو من تهكم بهم؛ لأنهم فسقوا وذاقوا من الهوى ما ذاقوا، فكأنه يقال لهم: كما ذقتم المتع والشهوات، فذوقوا الحريق، وكأنه يبشرهم.

قال آخر: وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب، فلا يقتضي أن يراه الذين يحضرون وفاتهم، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم يذكرون لهم سبب ما حاق بهم، فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سيء الأعمال في حياتكم الدنيا من كفر وظلم، وهذا يشمل القول والعمل.. ونسب ذلك إلى الأيدي وإن كان قد يقع من الأيدي والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل، من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.

القرآن والوعيد والإنذار (108)

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي وبأن الله لا يظلم أحدا من عبيده، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجرم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها، ولا لوم إلا عليها، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله يقول يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)(1)

قال آخر: وهذا يشير إلى أن العذاب الأخروي هو تمثل للذنوب والخطايا التي ارتكبها العاصي في الدنيا، فلشرب الخمر أو الزنا ـ مثلا ـ وجودان: وجود مادي دنيوي، وآخر وجود برزخي أخروي، وهذا ما يعبر عنه بتجسم الأعمال، والذي تدل عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10]

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ يدل على أن للإنسان سهما وافرا في صنع مصيره، وأنه هو الذي يصنع مصيره بإرادته واختياره، وما يقول به الجبريون في مصير الإنسان وأنه بتقدير من الله تعالى وليس للبشر فيه صنع، باطل يكذبه البرهان وظاهر القرآن، فتقديره سبحانه لا ينافي كون الإنسان مختارا في صنع مصيره.

قال آخر: وصيغة المبالغة (ظلام) في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ تكشف عن وجه البلاء الذي وقع بالمشركين، وأنه بلاء عظيم، وعذاب أعظم، وأن الذي ينظر إليه يجد ألا جريمة توازى هذا العقاب وتتوازن معه، في شدته، وشناعته، حتى ليخيل للناظر أن القوم قد ظلموا، وأنه قد بولغ في ظلمهم إلى أبعد حد، فجاء قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ

__________

(1) مسلم (4/ 1994)

القرآن والوعيد والإنذار (109)

اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ليدفع هذا الوهم الذي يقع في نفس من يرى هذا البلاء الذي حل بهؤلاء القوم الضالين، وهو بلاء فوق بلاء.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ نفي للظلم الكثير المتكرر، وهو لا يعني أن الظلم القليل، ليس بمنفي عنه سبحانه وتعالى، ذلك أن النفي هنا بصيغة المبالغة للإشارة إلى أن المساواة بين المحسن والمسيء ظلم كبير ولا يفعله إلا ظلام للعبيد.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن العدل يوجب أمرين.. أولهما ألا يعاقب المحسن، فإن عقابه ظلم.. وثانيهما أن يعاقب المسيء ولا تأخذ الناس به رأفة، لأنه لم يرحم الناس.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن ما حصل للمشركين تابع لسنة إلهية دائمة تتعلق بالشعوب والأمم والمجتمعات، لئلا يتصور بعض أن ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمرا استثنائيا، ذلك أن من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

قال آخر: وقد ضرب الله تعالى المثل لذلك بآل فرعون، فقال: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، والدأب: الحال والشأن.. أي أن ما فعله الله بهؤلاء المشركين، الذين علوا في الأرض، وبغوا، قد فعله بأمثالهم ممن علوا وبغوا.. ومن هؤلاء آل فرعون، ومن كان قبلهم من الطغاة والظالمين، فقد أخذهم الله بذنوبهم، ولم يعصمهم من عقاب الله، ما كانوا عليه من جبروت وقوة، فإن قوة الله لا تدفعها قوة، وبأسه لا يرده بأس: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

قال آخر: وهذا يعني أن هذا الحكم واقع على كل جبار مفسد متكبر، سواء أكان قبل آل فرعون أو بعدهم.. أن من كان قبل آل فرعون، قد وقعوا تحت هذا الحكم فعلا.. أما من

القرآن والوعيد والإنذار (110)

بعدهم، فمنهم من أخذه الله بهذا العقاب، ومنهم من ينتظر دوره مع حركة الحياة، وسير الزمن.

قال آخر: وهذا يعنى أن من بعد آل فرعون من الظلمة والآثمين، وإن أخذ بعضهم بهذا العقاب، فإن آخرين ـ ومنهم المشركون والمنافقون الذين عاصروا النبوة ـ ينتظرون وقوع هذا الحكم بهم، وأن الباب قد فتح لهم ليدخلوا فيما دخل فيه الظالمون قبلهم.. وفي هذا تهديد، ووعيد لمن كان على هذا الطريق، أو سيكون عليه، لينجو بنفسه، ويأخذ سبيلا غير هذه السبيل التي هو عليها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى قاعدة ذلك، فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وفي ذلك دعوة عامة للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم أن يوجهوا وجوههم إلى الله، وأن يستقيموا على طريق الحق والخير، فإنهم إن فعلوا هذا أمنوا تلك النوازل التي تنزل بأعداء الله، وتدمر ما بنوا، وتخرب ما عمروا.. فالله سبحانه لا يسلب عباده نعمة من نعمه التي فضل بها عليهم، إلا إذا أحدثوا من الأمور ما يعرضهم لانتقام الله منهم، بسلب ما منحهم من فضله.

المشهد الرابع:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 357)، وتفسير المراغي (26/ 66)، ومن وحي القرآن: (21/ 70)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (16/ 375)، ومنية الطالبين: 26/ 121.

القرآن والوعيد والإنذار (111)

بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 22 ـ 32]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة أنواع من الوعيد والتهديد للمنافقين ومرضى القلوب تحذيرا لهم من انحرافاتهم التي يقعون فيها.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾، وفي ذلك بيان للحال التي سينتهي إليها أمر هؤلاء المؤمنين، الذين في قلوبهم مرض، وهو أنهم إذا لم يستجيبوا لدعوة الله سبحانه وتعالى لهم، ولم يسمعوا ويطيعوا، ويجاهدوا في سبيل الله، فإن هذا سينتهي بهم إلى أخذ طريق غير طريق المؤمنين، ثم يمضي بهم هذا الطريق رويدا رويدا إلى الخروج عن الإيمان، إلى ما كانوا عليه من كفر.

قال آخر: وفي إسناد فعل الرجاء ﴿عَسَى﴾ إلى هذه الجماعة من المؤمنين، إشارة إلى هذا الأمر الذي وقع عليه الرجاء، وهو الإفساد، وتقطيع الأرحام، وأنهم إنما يرجونه هم لأنفسهم، بتوليهم، وإعراضهم عن الله.. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وخان إنسانيته، حتى لقد أصبح ما يتمناه لنفسه، ويرجوه لها، هو هذا الشر الصراح: الإفساد في الأرض، وتقطيع الأرحام.

قال آخر: واختصاص ذوي الأرحام بالذكر هنا إشارة إلى أن هذا الذي تولى وأعرض عن الإيمان بالله، لا يرجى منه خير لإنسان، ولو كان فيه خير يرجى، لكان ذلك

القرآن والوعيد والإنذار (112)

في أهله، ولما قطع صلة الرحم بينه وبينهم.. والمراد بالتولي هنا الإعراض عن الاستجابة لدعوة الله والرسول.

قال آخر: وفي هذا تحذير لهم بأنهم إن أعرضوا عن القرآن والتوحيد، فإنهم سيرجعون إلى جاهليتهم حتما، ولم يكن في الجاهلية إلا الفساد في الأرض، والإغارة والقتل وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ووأد البنات.

قال آخر: هذا إذا كانت ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ من مادة (تولي) بمعنى الإعراض، غير أن هناك من احتمل أن تكون من مادة (ولاية)، أي: الحكومة، فيكون المعنى: إنكم إذا توليتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلا الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.. وكأن جمعا من المنافقين قد اعتذر عن الجهاد بقولهم: كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟.. فأجابهم الله تعالى بقوله: ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم، ولم يظهر منكم إلا الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلا تذرع وتهرب، فإن الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة، لا الفساد في الأرض، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود، لا قطع الرحم.

قال آخر: إن هؤلاء يظنون أن الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة، قطيعة للرحم، وفساد في الأرض، أما كل الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية، والدماء البريئة التي سفكوها أيام تسلطهم، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون، كانت قائمة على أساس الحق والعدل.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عقوبة أخرى لهؤلاء، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم الله من رحمته، فأصمهم عن الانتفاع بما سمعوا، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما شاهدوا من الآيات المنصوبة في

القرآن والوعيد والإنذار (113)

الأنفس والآفاق، فلم يكن سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار.

قال آخر: ولا يخفى أن لعن الله تعالى لهؤلاء القوم، وطردهم من رحمته، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق، لا يستلزم الجبر، لأن ذلك جزاء أعمالهم، ورد فعل لسلوكهم وأفعالهم.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عن الخير، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا بين أن حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون، ولكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾

قال آخر: وهو سؤال يتردد في صدور من ينظرون إلى هؤلاء الذين كانوا على طريق الإيمان، ثم لم يلبثوا أن انحرفوا عنه، وضلوا سواء السبيل.. ثم ألقى بهم بعيدا عن دائرة المؤمنين.. فكل من كان بمشهد منهم من المؤمنين، يسأل هذا السؤال: ما بال هؤلاء الأشقياء، قد ألقوا بأنفسهم في مواقع الهلاك، وقد كانت آيات الله بين أيديهم؟ أمع آيات الله يكون عمى وضلال؟ وكيف وهي صبح مشرق، ونور مبين؟

قال آخر: وقد أجابت الآية الكريمة بأن هناك أمرين لا ثالث لهما، هما العلة التي جاء منها هذا البلاء الذي حل بهؤلاء الأشقياء المناكيد.. إما لأنهم لم يتدبروا القرآن، ولم يحسنوا الإصغاء إليه، والاتصال به، والأخذ عنه.. وإما لأنهم تدبروا وأصغوا، وحاولوا أن يتصلوا بالقرآن، ولكن كانت قلوبهم مغلقة، ومختوما عليها، فلا ينفذ إليها شعاع من هدى أبدا.. وسواء أكان هذا أو ذاك، فإن الداء منهم، وفيهم.. وليس من آيات الله، ولا في آيات الله.. فما في آيات الله هدى، وحق ونور.. وهذا مثل قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68]

القرآن والوعيد والإنذار (114)

قال آخر: ولا يصح أن يكون الاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ للتحضيض، بمعنى هلا، لأن التحضيض إنما يكون لمن يرجى منه إتيان ما يحض عليه، وهؤلاء قد سبق الحكم عليهم بأن الله قد لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.. فكيف يدعون بعد هذا إلى تدبر القرآن؟

قال آخر: وقد جاء النظم في قوله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ على خلاف الظاهر، وهو أن يجئ هكذا مثلا: (أم على قلوبهم أقفال).. وبذلك يتحقق إضافة هذه القلوب إلى أهلها، ونسبتها إلى أصحابها، لأن فصل هذه القلوب عن أصحابها، يحقق للقلوب وجودا ذاتيا مستقبلا، فتقوم مقام أصحابها، وهذا يعنى أن القلب هو الإنسان مختصرا، وأنه السلطان القائم على كيان الإنسان، فإذا أفسد القلب فسد الإنسان، وإذا صلح القلب، صلح الإنسان.. كما أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في قوله: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)(1)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن في تنكير القلوب، إشارة إلى أنها قلوب فاسدة، لا يقام لها وزن بين القلوب السليمة، فهي ـ والحال كذلك ـ قلوب ـ مجرد قلوب ـ في صورتها الشكلية، أما في حقيقتها، فهي هواء، وهباء.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن في إضافة الأقفال إلى القلوب ﴿أَقْفَالُهَا﴾ إشارة إلى أن لهذه القلوب أقفالا خاصة بها، مقدرة بقدرها.. فلكل قلب قفله الذي يلائمه.

قال آخر: ولما أخبر الله تعالى بإقفال قلوبهم بين منشأ ذلك فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ أي إن الذين رجعوا

__________

(1) البخاري (52) مسلم (1599)

القرآن والوعيد والإنذار (115)

القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله، الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال، وحسن لهم ما في الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العد.

قال آخر: وهي تشير كذلك إلى جماعة من الذين كانوا يبشرون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته، لكنهم بعد ظهوره ومبعثه، وتعرض مصالحهم للخطر، ولحسدهم وكبرهم، اعتبروا الإسلام دينا باطلا.. ولما كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتآمرهم ضد الإسلام، فإنهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

قال آخر: وتشير كذلك إلى أولئك الذين كانوا قد دخلوا في الإيمان، ثم لم يحتملوا تبعاته، فعادوا إلى الكفر.. ففي ارتدادهم على الأدبار إشارة إلى أنهم كانوا على الإسلام، وأنهم إذ يولون وجوههم إلى المسلمين، يرجعون إلى الوراء شيئا فشيئا، على أدبارهم، على حين أنهم كانوا يواجهون المسلمين.. ثم ما زالوا كذلك حتى بعدت الشقة بينهم وبين المسلمين، وانقطعت بينهم الأسباب.. فهم ينظرون إلى المسلمين، ويحسبون أنفسهم عليهم، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يأخذون طريقا بعيدا عنهم، يسيرون فيه في وضع مقلوب ـ على أعقابهم، فلا يدرون إلى أين تتجه بهم خطواتهم العمياء.

قال آخر: ثم بين الله تعالى سبب ارتدادهم، فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾ من المشركين أو اليهود الذين كانوا يبحثون عن ثغرة في المجتمع الإسلامي لينفذوا من خلالها إليه، فوجدوها في المنافقين الذين كانوا يفتشون عن قوة يستندون إليها، وهذا هو ما جعلهم يقولون للكافرين من المشركين واليهود ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ﴾ مما ترسمونه من مخططات التآمر على الإسلام، فيما تحتاجون فيه إلينا، وقد يفرض علينا

القرآن والوعيد والإنذار (116)

الموقف أن لا نطيعكم في البعض الآخر حتى لا ينكشف اتفاقنا معكم، فتفسد الخطة المرسومة، ولكن هذا الحوار الدائر بين المشركين والمنافقين لم يخف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نتيجة ما عرفه الله منه، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ فيما أسروه لهم من كلمات التآمر.

قال آخر: وهو ما حكى الله تعالى عنهم في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ [الحشر: 11] والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذه الحيل إن أجدت في حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها، وقد مثل ذلك بحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ في يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفر، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟

قال آخر: ثم بين الله تعالى سبب التوقي على تلك الحال الشنيعة فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا في المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضى الله من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له في السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير، وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.

قال آخر: ثم وبخ الله تعالى المنافقين، فقال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ

القرآن والوعيد والإنذار (117)

لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ أي أوقع في ظن هؤلاء المنافقين الذين في قلوبهم مرض، أن الله تعالى سيستر عليهم نفاقهم، ولا يكشف هذا الخبث الذي دسوه في قلوبهم، والذي تغلى مراجله في صدورهم، ضغنا على النبي والمؤمنين، وشنآنا لهم، وكيدا ومكرا بهم؟.. أن يظل نفاقهم مستورا، دون أن يفضحه الله ويفضحهم به على أعين الناس؟ إنهم لواهمون، مخدوعون، بما يصور لهم هذا الوهم.

قال آخر: وقد أنزل الله في فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة: 84] وقوله: ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ [التوبة: 83]

قال آخر: ثم وعد الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيعرفهم له من طرق ثلاثة، فقال: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾

قال آخر: أما الطريق الأول، فالتعرف عليهم بسيماهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾، أي أن الله تعالى قادر على أن يخرج نفاق المنافقين من طوايا أنفسهم، وينسج منه وجوها يلبسونها بدلا من تلك الوجوه الآدمية التي لهم.. فإذا أطل أحدهم بوجهه هذا الذي نسجه له الله سبحانه، من نفاقه ـ قال الناس جميعا: هذا منافق.. ولكن الله سبحانه لم يفعل هذا بالمنافقين، ليكونوا هكذا، فتنة للناس وتقريرا لهم بأنفسهم.

قال آخر: أما الطريق الثاني، فالتعرف عليهم بلحن القول، أي في كناياتهم وتعريضاتهم، وذلك لأن كل جماعة لها أسلوب خاص في الكلام يعبر عن طريقتها في التفكير والتحرك؛ فللمؤمنين طريقتهم التي تعبر عن وضوح الفكرة التوحيدية واستقامة الطريق في هذا الخط، وللكافرين طريقتهم الوثنية التي تعبر عن المستوى المتخلف في عبادتهم للأصنام، وللمنافقين طريقتهم المتلونة المتحركة القلقة الخائفة المذعورة التي لا

القرآن والوعيد والإنذار (118)

تستقر على موقف ولا تثبت على قاعدة.

قال آخر: ولذلك كانوا يتكلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام ظاهره التواضع والإيمان، لكن باطنه الكفر والحقد بطريق التورية والتعريض، كما قال الإمام علي في هذا المجال: (ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه) (1)

قال آخر: وقد عقب الله تعالى على هذا بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي في كل مواقعها وخلفياتها، في سرها وعلانيتها، فلا يخفى عليه شيء منها من قريب أو من بعيد.

قال آخر: أما الطريق الثالث، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، أي إنه سبحانه يبتلي الإنسان بالأمر والنهي، فيتميز به المطيع عن العاصي والمؤمن عن الكافر، ومن ثم يتميز المجاهدون والصابرون عن المنافقين والمتخاذلين، فلا يعبأ بتظاهر المنافقين.

قال آخر: وذلك لأن الإيمان يفرض على المؤمن الكثير من المسؤوليات لتحدي الأعداء في المواقف الجهادية، ويدفعه إلى مواجهة الكثير من الأخطار في ساحات الصراع التي تختلف فيها الأوضاع، وتتباين فيها المواقف، ويشتد فيها البلاء، مما يظهر فيها جهاد المجاهدين، وصبر الصابرين، فيما يتميزون به عن المنهزمين والخائفين والجازعين، وبذلك يختبر الله أخبارهم بما تفصح عنه من طبيعة الأعمال والمواقف والأوضاع التي يتضح الإيمان الثابت بها ويمتاز عن الإيمان المهتز.

قال آخر: ومن الواضح أن قوله تعالى: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾ بمعنى تحقق علمه في الخارج، وظهوره، وإلا فالله سبحانه يعلم ما في القلوب ويعرف ما في الضمائر.

__________

(1) نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 26.

القرآن والوعيد والإنذار (119)

قال آخر: وقد حقق الله ذلك في معركة الأحزاب (الخندق) حيث ابتلي المؤمنون فيها وامتحنوا امتحانا عسيرا، حتى ظن بعضهم أن الله لن ينصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أما المنافقون فقد كشفوا بأقوالهم وأعمالهم عن خبث نفوسهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 12 ـ 13]

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أن المنافقين ستفضح أسرارهم، وأنهم سيلقون شديد الأهوال حين وفاتهم أردف ذلك ذكر حال جماعة من أهل الكتاب كفروا بالله وصدوا الناس عن سبيل الله وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته في التوراة، وما ظهر على يديه من المعجزات، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله، وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة أنه مرسل من عند ربه، لن يضروا الله شيئا، لأن الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومظهره على من عاداه وخالفه، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها، لإبطال دينه ومشاقة رسوله، ولا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون له من الغوائل، وستكون ثمرتها إما قتلهم أو جلاءهم عن أوطانهم.

قال آخر: والمراد بصد الناس عن سبيل الله، منعهم إياهم عن الإسلام بشتى الوسائل، وعن متابعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والانضواء تحت لوائه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ يعني أنهم لا يستطيعون الوقوف أمام إرادة الله، التي تقضي بنصرة رسوله وإقامة دينه، مهما فعلوا من أفاعيل، ومهما مارسوا عليه

القرآن والوعيد والإنذار (120)

من ضغوط، أو تحركوا به من مشاريع، لأن الله بالغ أمره في كل شيء، ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ فتنتهي إلى الخيبة والسقوط، فلا يبقى لهم أية قوة أو سلطة.

أهوال وشدائد:

قال المرشد: أحسنتم.. حدثتمونا بما ورد في القرآن الكريم من الوعيد المرتبط بالحياة والموت.. فحدثونا بما ورد فيه من الأهوال والشدائد المرتبطة بالآخرة.

قال أحد الوعاظ: هي كثيرة في القرآن الكريم، فعن أيها تريدون أن نحدثكم؟

المشهد الأول:

قال المرشد(1): حدثونا عن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 1 ـ 4]

قال أحد الوعاظ: يذكر الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين هول يوم البعث حيث تزلزل القلوب والأرض، فإذا زلزلت الأرض زلزالها اضطربت مع هذه الزلزلة القلوب والنفوس، وزاغت الأبصار واضطربت الأفئدة.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، وهي دعوة شاملة للناس الذين يعيشون الحياة من موقع إنسانيتهم الخالصة، ليتخذوا الموقف السليم من الحياة على قاعدة

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 971)، وزهرة التفاسير (9/ 4937)، وتفسير المراغي (17/ 84)، ومن وحي القرآن: (16/ 9)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (10/ 274)، والتفسير المنير (17/ 150)، ومفاتيح الغيب (23/ 199)، وتفسير ابن كثير: (5/ 389)، ومنية الطالبين: 18/ 205.

القرآن والوعيد والإنذار (121)

الإحساس بخطورة اللامبالاة الفكرية والنفسية، التي تحملهم على الهرب من كل سؤال يتحدى ما اعتادوا من عقائد وأفكار وعادات.. وهي دعوة منفتحة على المسؤولية التي تطل على أعماق الناس، من قاعدة الخوف من النتائج السلبية في الدار الآخرة، لتدفعهم للتحرك على ضوء رسالات الله.

قال آخر: وهذا التعميم الذي يشمل الناس جميعا، بسبب كون أهوال هذا اليوم لا يكاد يتصورها أحد، لأنها تخرج عن دائرة التصور البشرى، وتجئ على صورة لم تقع للناس في حياتهم الأولى، على رغم ما وقع لهم من أهوال، وما نزل بهم من بلاء.. ومن هنا كان الذين يؤمنون بالآخرة، ولا يعملون لها، مطالبون بأن ينتبهوا، وأن يعملوا أكثر مما عملوا.. فإنهم ـ على يقظتهم، وعلى خوفهم من لقاء ربهم، وعلى إعدادهم ليوم اللقاء ـ مع هذا كله أشبه بالغافلين.. فإن الهول شديد، والموقف لا يمكن تصوره.. ومن هنا أيضا كان المؤمن في حاجة دائمة إلى تذكر هذا اليوم، وإلى الحياة معه، وإلى العمل له، وإنه مهما أكثر من عمل، فإنه قليل إلى المطلوب منه لهذا اليوم، لو علم هوله، وتصور صورته.

قال آخر: ثم علل الله تعالى هذا الأمر بقوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ وهي في موضع العلة لما سبق، لأن في زمن وقوع الزلزلة تنقطع عامة الأسباب ولا يبقى للإنسان ما يتمسك به لنجاته عما تحدثه هذه الهزة والرجة العنيفة.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: 1 ـ 2] وقوله: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [الحاقة: 14 ـ 15]، وقوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ [الواقعة: 4 ـ 5]

قال آخر: وهي جميعا تشير إلى أن البعث يحدث ثورة وتبدلا حادا في الكون، الجبال تقتلع من مكانها، وتموج البحار، وتنطبق السماء على الأرض، ثم يبدأ عالم جديد وحياة

القرآن والوعيد والإنذار (122)

جديدة، ويسيطر ذعر شديد على الناس يفقدهم صوابهم.

قال آخر: وظاهر هذا أن هذه الزلزلة تقع قبل النفخة الأولى التي فيها إماتة الناس جميعا، فضلا عن النفخة الثانية التي فيها إحياء الناس، كما قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]، فيقع الزلزال والناس يمارسون حياتهم العادية، فيفاجؤون بهزة عنيفة تؤثر على عقولهم وعواطفهم.. وعلى هذا فقبل قيام الساعة تحدث زلزلة مخيفة، وهي من أشراطها وأماراتها، ثم تتبعها نفخة مميتة، ثم تتبعها نفخة محيية.

قال آخر: وهناك من حمل الزلزلة على الكناية، فذكر أن المراد بزلزلة الساعة رجفان القلوب من خوفها، واضطراب الأقدام من روعة موقعها، واستشهد لذلك بقوله تعالى: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾، يريد من شدة الخوف والوجل والذهول والوهل.

قال آخر: ثم صور الله تعالى الفزع الذي ينال الناس عند رؤية هذه الزلزلة فقال: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾، أي أنه بمجرد رؤية ما يطلع في هذا اليوم، يأخذ على الناس عقولهم، وأسماعهم وأبصارهم.. فتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.. حيث لا يملك أحد ـ مع هذا البلاء ـ شيئا من نفسه، فتتعطل فيه الأجهزة العاملة الإرادية منها وغير الإرادية.. ويصبح مجرد شبح يتحرك كما تتحرك الأشباح.

قال آخر: والظاهر أن الصورة هنا مجازية، والمراد أنه لو طلعت الساعة على الناس في دنياهم، وأرتهم زلزلة منها، لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ولألقت كل ذات حمل حملها.

قال آخر: ويجوز أن يكون المراد بوضع الحمل العموم والشمول، أي كل شيء يحمل،

القرآن والوعيد والإنذار (123)

سواء أكان ما في الأرحام من أجنة، أو ما مع الناس من أمور يشغلون بها، ويحرصون عليها.. وبهذا يكون المراد بذات الحمل: النفس.

قال آخر: ويمكن أن تكون هذه الصورة حقيقية، وأن من يشهد من الناس إرهاصات الساعة، ونذرها، قبل أن تقع، يقع لهم هذا.. فكيف بالساعة نفسها، حين ينكشف أمرها كله؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ثالث انعكاس لهذا الذعر الشديد، فقال: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾، حيث إنه يصدر من السكارى أعمال خارجة عن الاختيار فيميلون يمينا ويسارا فهكذا الناس، فهم أشبه بالسكارى عملا ـ في اضطرابهم وذهول عقولهم ـ وإن لم يكونوا كذلك واقعا.

قال آخر: ثم ختم الله تعالى هذا التحذير بقوله: ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2]: أي عذابه في الدنيا والآخرة، ولذلك فالناس مطالبون بأن يتقوا ربهم ولا يتعرضوا لمخالفة ما يأمر به وينهى عنه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه مع هذه الأهوال العظيمة، والأحداث المزلزلة التي تلقى الناس يوم القيامة، فإن كثيرا من الناس لاهون عنها، مستخفون بها، يأخذون كل حديث عنها مأخذ السخرية والعبث، بهذا الجدل العقيم، الذي يسلم المرء فيه عقله لهواه، فيرمى بالكلام على أي وجه يقع.

قال آخر: وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي ومن الناس من يتعاطى الجدل فيما يجوز على الله من الصفات والأفعال، وما لا يجوز عليه، غير متبع في ذلك حجة ولا برهانا، بل يجهل بحقيقة ما يقول، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا، وأن لله ولدا، وأن القرآن ما هو إلا أسطورة من أساطير

القرآن والوعيد والإنذار (124)

الأولين إلى نحو ذلك من الترهات والأباطيل.

قال آخر: وذم الله تعالى المجادلة بغير علم يشير إلى أن الجدل إذا كان مع العلم والحجة والبرهان لا يذم ولا يقبح، وعليه جاء قوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذا الصنف ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ أي أنه لا يسعى إلى تحصيل علم في الأمر الذي يجادل فيه، وهو البعث، وكأنه أمر لا يعنيه، ولا يريد أن يدخل على نفسه أي شعور به، يزحزح تلك المشاعر التي ارتبط بها بالدنيا.. فهو منقاد لهواه، متبع لشيطانه.. وهو شيطان قوى بالنسبة لهذا الإنسان الأحمق، الذي التقى هواه مع هوى الشيطان.

قال آخر: والمريد المتجرد للفساد، العاري عن الخير، من قولهم شجرة مرداء إذا كان لا ورق لها، ورملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، أي ومن الناس من يتبع في كل ما يأتي وما يذر من شئونه وأهوائه، شياطين من شياطين الإنس والجن الذين يزينون له طرق الغواية، ويسلكون به الطرق التي تزلق به في المهاوي، ويقودونه إلى الأعمال التي تصل به إلى النار، من شرك بالله وعبادة للأوثان والأصنام، وشرب للخمر، ولعب للميسر، إلى نحو أولئك مما يحسنون له عمله، ويكونون له فيه القادة الذين لا يرد لهم قول، ولا يقبح منهم فعل.

قال آخر: ثم وصف الله تعالى ذلك الشيطان بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ أي قدر الله تعالى أن من اتبع ذلك الشيطان، وسلك سبيله، أضله في الدنيا، بما يوسوس له، ويدسي به نفسه، ويزين لها من اتباع الغواية، الفجور، وسلوك سبيل المعاصي والآثام التي توبقه في جهنم وبئس القرار.

قال آخر: والآية، وإن ذمت تولي الشيطان لكن المفهوم منها أمر أعم، فمن تولى

القرآن والوعيد والإنذار (125)

إنسانا بعيدا عن الله سبحانه ووضع زمام أموره بيده، فيكون مصيره مصير من يقتفي الشيطان.

قال آخر: وللإمام علي في خطبه إشارات وتلميحات لما ورد في هذه الآية الكريمة نذكر منها قوله: (إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين؛ ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث، فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو (الذين سبقت لهم من الله الحسنى) (1)

المشهد الثاني:

قال المرشد(2): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير: 1 ـ 14]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى يوم القيامة، وما يكون فيه من حوادث عظام، ليفخم شأنه، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر، ووجدت ذلك أمامها ماثلا، ورأت ما أعد لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته،

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة:50.

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1467)، وتفسير المراغي (30/ 53)، ومن وحي القرآن: (24/ 87)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 445)، والتفسير المنير (30/ 82)، ومنية الطالبين: 30/ 127.

القرآن والوعيد والإنذار (126)

واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا، لا تهويل فيه ولا تضليل.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى من عظائم الآيات التي يعد بعضها من أشراط الساعة ومقدماتها ثمانية مشاهد، وأولها ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، أي انقبض ضوءها المنتشر في العالم، فيتصور أن أضواءها كورت على رأس الشمس كتكوير العمامة على الرأس، وذلك كناية عن برودة الشمس، وانطفاء شعلتها، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها إلى أطراف المجموعة الشمسية؛ أو انضمام بعضها إلى بعض ككور العمامة ولفها بنحو الإدارة، وهو أيضا يلازم جمع ضوئها.

قال آخر: والمشهد الثاني من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾، وهو يحكي عن انكدار النجوم وهي غير الكواكب، فالنجوم ما في ذاتها نور وشعلة، وأما الكواكب فهي تفتقد إلى النور، وإنما تكتسب النور من النجوم التي تدور حولها.. وعلى هذا فالأولى تفسير ﴿انْكَدَرَتْ﴾ لانتسابه إلى النجوم، بالانكدار أي الإظلام، نظير قوله تعالى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ [المرسلات: 8] أي ذهب نورها.

قال آخر: نعم عبر الله تعالى عن ذلك المشهد في مورد الكواكب بالتناثر، فقال: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الانفطار: 2]، أي تساقطت. فالنجوم تتكدر، والكواكب تتساقط.. وعلى كل تقدير فالنظام الذي يسود النجوم والكواكب يبطل من أساسه، فتفقد ضوءها ونظامها.

قال آخر: والمشهد الثالث من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾، وهو يحكي عن تسيير الجبال، ويفسر ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾ [المرسلات: 10]، وقوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ

القرآن والوعيد والإنذار (127)

كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل: 14]، فإذا نسفت الجبال، تفتت صخورها، وتحولت إلى تلال من رمل، وعندئذ تحركها الرياح وتسيرها أنى اتجهت، ثم تغدو غبارا معلقا في الفضاء، كما قال تعالى: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة: 5 ـ 6]

قال آخر: والمشهد الرابع من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾، والمراد بالعشار النوق الحوامل إذا أتت عليها عشرة أشهر، هي أنفس مال عند العرب لا يبدلها بشيء آخر، لكن أهوال القيامة المروعة تبلغ إلى حد ينسى الإنسان أنفس مال عنده، أي يتركه دون أن يفكر له براع أو حافظ.

قال آخر: وهذا على وجه المثل، لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء، ولكن مثل هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.

قال آخر: والمشهد الخامس من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾، وهو من أشراط الساعة، لا مما يقع يوم القيامة، والمراد بحشرها خروجها من غاباتها وأكنانها لأجل الزلزال الشديد الذي تبدل فيه الأرض غير الأرض.. أو أنها تخرج من أكنانها لكن مع اضمحلال الخصائص الوحشية فيها نتيجة لأهوال يوم القيامة، فتجتمع في صعيد واحد.

قال آخر: وقد يراد بحشرها بعثها مثلما يبعث البشر، كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38]

قال آخر: وذكر بعضهم أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ يعني ماتت وهلكت، حيث تقول العرب إذا أضرت السنة بالناس وأصابتهم بالقحط والجرب: حشرتهم السنة: أي أهلكتهم، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم.

القرآن والوعيد والإنذار (128)

قال آخر: وربما يفسر جمعها كسائر الأحياء من بين الجن والإنس على نحو تزول طباعها المتنافرة الوحشية، فيسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي، وترعى البقرة والدب معا.

قال آخر: والمشهد السادس من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾، والتسجير يراد به الامتلاء تارة، والاشتعال بالنار أخرى.. وعلى المعنى الأول فالمراد منه أن البحار تمتلئ وتفيض، بسبب الزلازل العنيفة التي ترج الأرض، حيث تنشأ أمواج عظيمة، فتندفع المياه إلى مسافات بعيدة جدا، وتغرق الأرض، وتسمى مثل هذه الأمواج (الأمواج السنامية)، وقد بلغ ارتفاع هذه الأمواج، عندما وقعت بعض الزلازل، إلى أكثر من (30) مترا.

قال آخر: وإن أريد الثاني فيراد به أنها تصير نارا تضطرم، وليس هذا ببعيد؛ لأن الماء يتركب من عنصرين هما: الأوكسجين والهيدروجين، وهما غازان، الثاني قابل للاشتعال بسرعة، والأول هو العامل الأساسي في احتراق الأشياء، فلو تحققت، لسبب ما، تجزئة للمياه وانفصل الأوكسجين عن الهيدروجين، فإن البحار ستتحول إلى كتلة ملتهبة من النار.

قال آخر: والمشهد السابع من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾، أي جمع كل شكل إلى نظيره، كما قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 22 ـ 23]، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الآية الكريمة: (الضرباء، كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله) (1)

__________

(1) رواه ابن مردويه في تفسيره، كما في الدر المنثور (8/429)

القرآن والوعيد والإنذار (129)

قال آخر: وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون﴾

قال آخر: ويمكن أن يفهم منه ما يفهم من قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [النساء: 57]، وقوله: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الطور: 20]، أي أن لنفوس السعداء نساء في الجنة، ويمكن أن يفهم ـ بقرينة المقابلة ـ أن لنفوس الأشقياء قرائن من أنفسهم، كما قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: 22]

قال آخر: وقد قال الإمام الباقر في تفسير الآية: (أما أهل الجنة فزوجوا الخيرات الحسان، وأما أهل النار فمع كل إنسان منهم شيطان، يعني قرنت نفوس الكافرين والمنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم) (1)

قال آخر: والمشهد الثامن من المشاهد التي تحدث عند قيام الساعة هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾، والمراد بالموءودة، من توأد من البنات، وتدفن حية، بيد أهلها، كما كان كذلك عادة عند بعض قبائل العرب في الجاهلية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: 58 ـ 59]

قال آخر: وسؤال الموءودة يوم القيامة، في مواجهة من وأدها، مع أن الأولى ـ في ظاهر الأمر ـ أن يسأل الجاني لا المجني عليه ـ وفي هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها، ووضعها بين يديه، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة، وليسمع من قتيلته التي ظن أنه سوى حسابه معها، ليسمع منطقها الذي يأخذ بتلابيبه، ويملأ قلبه فزعا ورعبا.

__________

(1) تفسير نور الثقلين: 5/ 514.

القرآن والوعيد والإنذار (130)

قال آخر: وهذا يشير إلى أن حسن الأفعال وقبحها يعلم من جانب العقل، وإن لم ينص عليه الشرع، ولذلك ذم عمل هؤلاء حيث كانوا يقتلون بناتهم بلا ذنب وبلا سبب.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى ما مر من المشاهد، والتي ترجع إلى أشراط الساعة ومقدماتها، ذكر مشاهد عن نفس القيامة وبعث الإنسان للمحاسبة، وأولها ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال أهلها من خير وشر، فتنشر ليقرأها أصحابها فيجازوا بحسبها، كما قال تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 14]، وأما ما هي حقيقة الصحف ونشرها وكيفية قراءة أصحابها، فهي من الأمور الغيبية.

قال آخر: والمشهد الثاني هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾، وربما يكون المراد بالكشط هنا، إزالة هذا الغطاء الذي يخيل للناس، في رؤيتهم الساذجة، أنه يخفي الحقيقة الخفية في السماء، فينكشف كل شيء في داخلها.. ذلك أن الكشط لغة هو سلخ جلد الحيوان عن بدنه، وكأن السماء جلد حيوان يمنع عن مشاهدة ما وراءه، فتزال السماء عن موضعها.

قال آخر: والمشهد الثالث هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾، أي أوقدت وأضرمت، أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان أوقدت إيقادا شديدا، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مس النيران للأجسام الحية، كما قال تعالى: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]

قال آخر: والمشهد الرابع هو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾، أي قربت من أهلها وقربوا منها؛ لأنها أعدت لهم وأعدوا لها، كما قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ [ق: 31]

القرآن والوعيد والإنذار (131)

قال آخر: وهكذا تتمثل صورة التغيير الكوني الهائل الذي تتبدل فيه الصور والأوضاع والمقاييس، لتدخل عالما جديدا يختلف عن عالم الدنيا اختلافا كثيرا.

قال آخر: ويقف الإنسان أمام ذلك كله، ليفكر في نفسه، وفي دوره، وفي موقعه من كل هذا الواقع الجديد، فيخرج من واقع الغفلة إلى عالم اليقظة والوعي العميق، ليصل إلى النتيجة الحاسمة، وهي أن قيمة الإنسان في هذا اليوم تساوي عمله، فلا بد من أن يتعرف إلى حجم عمله ليعرف حجم مصيره.

قال آخر: ولذلك عقب الله تعالى هذه الآيات الكريمة بقوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة، تعلم كل نفس ما كان من عملها متقبلا وما كان منه مردودا عليها، فكثير من الناس كانوا في الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضى عنها، بل هي مبعدة من الله مستحقة لغضبه فالذين يعملون أعمالهم رئاء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح، والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب مليء بالإيمان، عامر بحبه والرغبة في رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.

المشهد الثالث:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يَا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1479)، وتفسير المراغي (30/ 63)، ومن وحي القرآن: (24/ 105)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 475)، والتفسير المنير (30/ 95)، ومفاتيح الغيب (31/ 72)، وتفسير ابن كثير: (8/ 341)، ومنية الطالبين: 30/ 155، والميزان في تفسير القرآن:20/ 263.

القرآن والوعيد والإنذار (132)

أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 1 ـ 19]

قال أحد الوعاظ: مقاصد هذه السورة الكريمة تماثل مقاصد سورة التكوير وسورة الانشقاق، وهي بيان أشراط الساعة، والدعوة إلى الاعتقاد بالبعث، وذكر أشراطه وأحواله وأن النظام السائد سينقضي ويبطل، وأن الإنسان سيجزى بأعماله جميعا.. ثم تتعرض السورة إلى أن لكل إنسان حافظا يعلم ما يفعل، وأن مصير الأبرار هو النعيم، وأن مصير الفجار هو الجحيم، وأن الأمر يوم القيامة بيد الله تعالى، لا تملك نفس معه لنفس شيئا.

قال آخر: وقد افتتح الله تعالى هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة منها أمران علويان هما: انفطار السماء وانتثار الكواكب، وأمران سفليان هما تفجير البحار وبعثرة القبور.

قال آخر: أما انفطار السماء، فقد عبر عنه قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾، أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى، عند خراب هذا العالم بأسره، كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان: 25] وقال: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ [الرحمن: 37] وقال: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ [النبأ: 19]

قال آخر: وهذا مظهر من مظاهر التغيير الكوني الذي يؤذن بقيام القيامة وانتقال الناس إلى عالم جديد، فقد كانت السماء متماسكة منتظمة بحيث لا يستطيع الإنسان، مهما

القرآن والوعيد والإنذار (133)

حدق طويلا، أن يكتشف أية ثغرة في هذا السقف المرفوع، ولكن السماء، في ذلك اليوم المشهود، تتشقق وتمتلئ بالثغرات، وتفتح فيها الأبواب التي يمكن للداخلين، الذين يؤذن لهم بالدخول، أن ينفذوا منها.

قال آخر: أما كيف يحدث ذلك؟ وهل أن هناك أسبابا طبيعية هي التي تؤدي إلى ذلك، أم أن إرادة الله التي تعلقت بتماسك السماء هي التي تتعلق بانشقاقها بشكل مباشر؟ هذه الأسئلة وأمثالها مما لا نملك الوسيلة للحصول على جواب حولها، كما أن معرفته لا تندرج في إطار المسؤوليات الملقاة على عاتقنا.

قال آخر: أما انتثار الكواكب، فقد عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ أي انتقلت عن مواضعها في نظامها المتناسق الخاضع لترتيب معين، الذي يمثل حركته في داخل مداراتها المحدودة التي لا تتعداها لتؤدي مهمتها في النظام الكوني في مواقعها المعينة. ولكنها، في النظام الكوني الجديد، تتساقط وتتناثر في الفضاء وتفقد إشراقها، وربما تغيب في آفاق الضياع.

قال آخر: أما تفجر البحار، فقد عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ أي أزيل ما بينها من حواجز فاختلط عذبها بملحها، وفاضت على سطح الأرض حينا من الدهر، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: 6] أي ملئت وفاض ماؤها، لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد، ووقوع الخلل في جميع أجزائها.

قال آخر: وقد يراد من تفجيرها امتلاؤها وغمرها لليابسة وطغيانها على الأنهار، أو تفجير مائها وتحليله إلى عنصريه: الأوكسيجين والهيدروجين، فتتحول مياهها بذلك إلى هذين الغازين، كما كانت قبل أن يأذن الله بتجميعها وتكوين البحار منهما.. وغيرها من الاحتمالات التي تحاول تقريب ما يحصل من غير أن تجزم به.

القرآن والوعيد والإنذار (134)

قال آخر: أما بعثرة القبور، فقد عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ أي أثيرت وقلب أسفلها أعلاها، وباطنها ظاهرها، ليخرج من فيها من الموتى أحياء.

قال آخر: وهو كناية عن إخراج الأجداث إلى سطح الأرض في بداية انطلاق الناس إلى المحشر، حيث تبعث فيهم الحياة من جديد، ليقفوا وقفة تأمل قبل وقفة الحساب، حيث يتذكرون كل تاريخهم العملي في يقظة ووعي.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه إذا حدثت هذه الأحداث، علمت كل نفس ما قدمت من عمل صالح للآخرة، وما فاتها أن تعمله في الدنيا من خير، قال تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾، مما عملته في حياتها، أو ما أخرته من الأعمال، والتي تمتد نتائجها إلى أمد طويل يبقى بعد الموت، وهو ما سنته من سنن حسنة أو سيئة.. وقد يراد بما قدمت وأخرت ما عملته في أول العمر وما عملته في آخره، فيكون كناية عن الاستقصاء.

قال آخر: كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 23 ـ 24].. وفي تنكير ﴿نَفْسٍ﴾ إشارة وحدة النفوس في هذا اليوم من حيث العلم بما لها وما عليها، فالنفوس جميعها سواء في هذا العلم الذي يكشف كل شيء، حتى لقد أصبحت نفوس الناس جميعا أشبه بنفس واحدة.

قال آخر: ثم خاطب الله تعالى الإنسان بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾، والخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ استدعاء لمعاني الإنسانية التي أودعها الله تعالى في الإنسان، من قوى عاقلة مدركة، من شأنها أن تميز بين الخير والشر، وتفرق بين الإحسان والإساءة، وأن تضع بين يدى الإنسان ميزانا سليما يضع في إحدى كفتيه ما أحسن الله به إليه، ويضع في الكفة الأخرى ما يقدر عليه من شكر، وذلك بإحسان العمل، كما قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]، فإذا رأى الإنسان الكفة التي وضع فيها

القرآن والوعيد والإنذار (135)

إحسان الله إليه ملأى بالعطايا والمنن، ثم لم يضع في الكفة الأخرى شيئا في مقابل هذا الإحسان، بل وتجاوز هذا، فملأ الكفة كفرا بالله، ومحادة لله ولأوليائه؛ فأي إنسان هو؟ وأي جزاء يجزى به؟

قال آخر: وفي اختيار صفة ﴿الْكَرِيمِ﴾ لله تعالى في هذا المقام، من بين صفاته الكريمة جل شأنه، إلفات إلى هذا الإحسان العظيم الذي أفاضه الله على الإنسان، وإلى مقدار جحود الإنسان وكفرانه، وضلاله، مع هذا الفضل الغامر، الذي يجده الإنسان في كل ذرة من ذراته، ومع كل نفس من أنفاسه..

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿مَا غَرَّكَ﴾ إنكار على الإنسان أن يدعوه توالى الإحسان عليه، وتكاثر النعم بين يديه، إلى أن يتخذ من ذلك أسلحة يحارب بها ربه المحسن الكريم.. ذلك أن كرم الكريم، وإحسان المحسن، إذا قوبل ممن أكرم وأحسن إليه، بالاستخفاف، ثم النكران والجحود، ثم بالحرب والعدوان على الحدود، كان من مقتضى الحكمة والعدل معا، أن يؤدب هذا الجاحد المنكر، وأن يذوق مرارة الحرمان، كما ذاق حلاوة الإحسان.. وإلا فقد الإحسان معناه، وذهب ريحه الطيب، الذي يجده الذين يعرفون قدره، ويؤدون حقه.

قال آخر: وقد عبر بعض الشعراء عن ذلك بقوله:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

   وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

 وقال آخر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

   مضر كوضع السيف في موضع الندى

قال آخر: ولا يصح ما تأوله بعضهم من أن في الآية الكريمة حجة لأهل الزيغ والضلال، يلقون بها ربهم، بحيث إذا سئل أحدهم من ربه: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ فيقول في قحة، وبلا حياء: (غرني كرمك)، فذلك مكر بالله، والله أسرع مكرا.

القرآن والوعيد والإنذار (136)

قال آخر: ذلك أن الله كريم كرما لا حدود له.. ولكن هذا الكرم، لا يقع إلا حيث المواقع التي تحيا به، وتثمر أطيب الثمر في ظله.. إنه كرم بحكمة، وحساب وتقدير، كما قال تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8]

قال آخر: ولذلك، فإن وصف الله تعالى نفسه بالكريم دون القهار، إيذانا بأن ذلك مما لا يصلح أن يكون مدارا لاغتراره، وإغواء الشيطان له بنحو قوله: افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثل ذلك في الآخرة، بل هذا يصلح للمبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر كرمه على الإنسان، وإحسانه إليه، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾، أي أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، فعدل خلقه، ومنحه عقلا امتاز به على كثير من المخلوقات، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]

قال آخر: ثم أجمل ما فصله أولا بقوله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ أي ركبك في صورة هي من أبهى الصور وأجملها، وأدلها على بقائك الأبدي في نشأة أخرى بعد هذه النشأة، فإن الكريم يوفى كل مرتبة من الوجود حقها، فمن خص بهذه المنزلة الرفيعة لا ينبغي أن يعيش كما يعيش سائر الحيوان، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذر، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها، ولا فناء بعدها، يوفى فيها كل ذي حق حقه، وكل عامل جزاء عمله.

قال آخر: و﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ للتفخيم، الذي يشير إلى قدرة الله تعالى، وما أودع في جرم الإنسان الصغير، من قوى عمر بها هذه الأرض،

القرآن والوعيد والإنذار (137)

وفتح بها مغاليق كنوزها، واستأهل أن يكون خليفة الله عليها.

قال آخر: والآيات الكريمة تشير بذلك إلى مراحل خلق الإسنان الأربعة، والمتمثلة في أصل الخلقة، والتسوية، والتعديل، والتركيب.. ففي المرحلة الاولى: يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.. وفي المرحلة الثانية، مرحلة التسوية والتنظيم يقدّر الله تعالى خلق كل عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدقة، فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين أعضائه، وما أودع الله تعالى فيها من ألطاف ومواهب وقدرات، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

قال آخر: وفي المرحلة الثالثة يكون التعديل بين (القوى والأعضاء) وتحكيم الارتباط بينها، فالأعضاء في عملها يكمل بعضها بعضا، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية، وهي بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلا بعد أن يؤدي كل من: الأسنان واللسان والغدد وعضلات الفم دورها الموكل بها، ومن ثم تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء، لينتج منه القوة اللازمة للحركة والفعالية... وكل هذا وغيره كثير، قد جمعه الله تعالى في كلمة قصيرة رائعة، فقال: ﴿فَعَدَلَكَ﴾

قال آخر: وفي المرحلة الرابعة: تكون عملية (التركيب) وإعطاء الصورة النهائية للإنسان، فقد تكرم الله تعالى بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات، وأعطى الإنسان فطرة سليمة، وركبه بشكل يكون فيه مستعدا لتلقي كل علم وتربية.

قال آخر: ومن حكمة الله تعالى أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾

القرآن والوعيد والإنذار (138)

[الروم: 22]، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

قال آخر: ومع الاختلاف في المظهر فإن الله تعالى قدر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكل حوائجه ستكون مؤمنة.

قال آخر: وكل هذا أشار إليه بصورة إجمالية قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].. وهذه الآية الكريمة وغيرها تهدف إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته، منذ كان نطفة قذرة، مرورا بتصويره وتكامله في رحم أمه، حتى أشد حالات نموه وتكامله، وتؤكد على أن حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله، وكل حي يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته، ولابد لكل حي ذي لب وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته، ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته، وإلا فمصيره الهلاك الحتمي.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى منشأ الغرور والغفلة، فقال: ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾، أي ارتدعوا عن الاغترار بكرمي لكم، فإنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم، ويدعوه إرشادي لكم، بل تجترئون على ما هو أعظم منه.. فتكذبون بيوم الجزاء والحساب على القليل والكثير، يوم تبعثون للفصل بينكم، فتجازى كل نفس بما عملت، وما قدمت وأخرت.

قال آخر: ولهذا، فإننا لو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين، لرأينا أن الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرد مبررات واهية، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

قال آخر: ثم حذرهم الله تعالى من تماديهم في غيهم ببيان أن أعمالهم محصاة عليهم

القرآن والوعيد والإنذار (139)

فقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ أي أن أعمالكم محصاة عليكم، فقد وكل بكم ملائكة حفظة، كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير وشر، كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17 ـ 18]، وقال: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ [الأنعام: 61]

قال آخر: وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، وكيف يحفظون الأعمال، وهل عندهم أوراق وأقلام، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال، فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس.. كل ذلك لم نكلف العلم به، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر في حقيقته إلى الله.

قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى المراقبين الذين يشهدون على الإنسان بأعماله في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وأولهم الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: 61].. ومنهم الأنبياء والصالحون، كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41].. ومنهم أعضاء بدن الإنسان، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24].. ومنهم جلد الإنسان وسمعه وبصره، كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20].. ومنهم الملائكة، كما قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: 21].. ومنهم الأرض، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ [الزلزلة: 4]

قال آخر: وقد سئل الإمام الصادق عن علة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أن الله عزوجل عالم السر وأخفى، فقال: (استعبدهم بذلك، وجعلهم شهودا على

القرآن والوعيد والإنذار (140)

خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة، وعن معصيته أشد انقباضا، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكف، فيقول ربي يراني، وحفظتي علي بذلك يشهدون.. يذبون عنهم مردة الشياطين، وهوام الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله، إلى أن يجيء أمر الله عزوجل)(1)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، وبين أن العاملين في ذلك اليوم فريقان، وبين مآل كل منهما فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي وإن أهل الثواب وهم الأبرار يكونون في دار النعيم، وإن أهل العقاب وهم الفجار يكونون في دار الجحيم، دار العذاب الأليم يقاسون أهوالها.. وذلك، بناء على حتمية الوقوع المستقبلي، لأن المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

قال آخر: ويمكن أن يراد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ الحال الحاضر، أي: إن الأبرار يعيشون في نعيم الجنة حاليا، وإن الفجار قابعون في أودية النار، كما يفهم ذلك من قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [العنكبوت: 54]

قال آخر: وقد وصف الله تعالى أهل النعيم بكونهم ﴿الْأَبْرَارَ﴾ لأنهم عاشوا البر في الحياة، التزاما بالمنهج الإيماني الذي يدفع الإنسان إلى عمل الخير كله ورفض الشر كله، حتى يتحول ذلك بوعي الإيمان وممارسته إلى ما يشبه العادة اللازمة التي قد تكون صفة من صفات الذات، فالبر العملي في حياة الناس يتحول إلى عنوان من عناوين شخصياتهم، فهم الأبرار الذين إذا رأيتهم رأيت البر ماثلا في وجوههم وكلماتهم وخطواتهم العملية في الحياة،

__________

(1) نور الثقلين، ج5، ص522.

القرآن والوعيد والإنذار (141)

ومواقفهم في مواقعهم الخيرة.. وهؤلاء هم الذين يظلهم الله بظل رحمته يوم لا ظل إلا ظله، وهم الذين يجعلهم في مواقع نعمته في رحاب جنته التي وعد الله بها عباده الأبرار المتقين.

قال آخر: وقد وصف الله تعالى أهل الجحيم بكونهم ﴿الْفُجَّارِ﴾ لأنهم التزموا خط الفجور الذي يبغضه الله، سواء في ذلك الفجور في العقيدة المتمثل في الإنكار من غير فكر ولا حجة، والقائم على الاستكبار الذاتي الذي يمنع الإنسان من مواجهة القضايا المطروحة لديه بمسؤولية، أو الفجور في العمل، المتمثل في التمرد على أوامر الله ونواهيه.. وهذا هو الجزاء الذي يتناسب مع هذا العمل الذي يلتقي مع سخط الله على أصحابه، مما يجعلهم بعيدين عن مواقع رحمته، وقريبين إلى مواقع غضبه في ساحة الجحيم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي هذه الجحيم، التي يلقى فيها الفجار، إنما يصلونها ويعذبون بها يوم الدين، أي يوم القيامة، الذي يكذبون به.

قال آخر: ثم بين الله تعالى أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مهرب فقال: ﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ أي إنهم لا يغيبون عن الجحيم، ولا ينفكون عن عذابها، بل هم ملازمون لها.

قال آخر: ويجوز أن يكون المعنى أنهم ليسوا غائبين عنها في هذه الدنيا، فهم مشرفون عليها، مسوقون إليها بفجورهم، وإن لم يروها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى هول ذلك اليوم، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ وهو استفهام يراد به عرض هذا اليوم على ما هو عليه من هول لا يوصف، ولا يعرف كنهه، لأنه شيء لم تره العيون، ولم تحم حوله الظنون.

قال آخر: أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب، فأنت لاه عن هذا اليوم غير مبال به، وقد كنت خليقا أن تتعرف حقيقة حاله، لتأخذ لنفسك الحيطة، وتتدبر أمرك، ولا تركن إلى

القرآن والوعيد والإنذار (142)

عفو ربك وكرمه وصفحه، فإنك لا تدري ما قدر لك.

قال آخر: ثم زاد الله تعالى ذلك توكيدا وتعظيما فقال: ﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبأ هذا اليوم، وكأنك قد أدركت كنهه، وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال، ولو عرفته حق معرفته للانت قناتك، ورجعت إلى ربك تائبا، وعدت إليه مستغفرا، طالبا الصفح عما قدمت يداك.

قال آخر: ثم بين الله تعالى حقيقة أمره فقال: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ أي يوم لا تستطيع النفس دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا الله وحده.. فكل امرئ مشغول بما هو فيه، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: 123] وقال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 34 ـ 37]

قال آخر: ثم أكد الله تعالى ما سبق بقوله: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ وحده، فلا أحد يحمى أحدا، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.. وقد استأثر الله بالأمر كله، فبيده تصريفه، وإليه المرجع والمآب، وليس هناك قوة لأي شخص، وليست هناك رابطة ذاتية تربط بين الأشياء في مسائل النفع الذي ينتظره الناس من بعضهم البعض، فيما يملكونه من أسباب وأوضاع يستطيعون تقديمها إليهم، فالأمر كله لله، فمن كان يريد الحصول على أي شيء هناك، فليوثق علاقته بالله، فإنه المهيمن على كل شيء هنا وهناك، فلا شيء لغيره، أيا كانت قيمته أو درجته أو مقامه.

قال آخر: وفي اعتبار الأمر لله بيوم القيامة، مع أن الأمر كله لله في جميع الأزمان والأحوال إشارة إلى أن الناس ـ وإن كانوا في الدنيا يظنون أنهم يملكون شيئا، وأنهم يملكون فيما بينهم الضر والنفع ـ فإن هذا الظاهر من أمرهم في الدنيا، لن يكون لهم منه

القرآن والوعيد والإنذار (143)

شيء في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]

المشهد الرابع:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق: 1 ـ 25]

قال أحد الوعاظ: هذه السورة الكريمة تتناول مثل ما تقدمها من سورتي الانفطار والتكوير بيان أشراط الساعة وحضور يوم القيامة واختلاف الناس في مصيرهم.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى في أولها أهوال يوم القيامة، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال، وتخليها عما في جوفها، يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه، وينقسم الناس حينئذ فريقين.. فريق الصالحين البررة، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.. وفريق الكفرة والعصاة، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات، إذ كانوا يظنون أن لا بعث، ولا حساب، ولا ثواب،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1501)، وتفسير المراغي (30/ 88)، ومن وحي القرآن: (24/ 148)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (20/ 52)، ومفاتيح الغيب (31/ 96)، ومنية الطالبين: 30/ 210.

القرآن والوعيد والإنذار (144)

ولا عقاب.

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى السورة بذكر أحداث نهاية العالم المهولة، وأولها ما يحصل للسماء، فقال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ أي انفتحت وتصدعت بحيث فقدت تماسكها القوي،

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حال السماء حينها، فقال: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾، أي استمعت إلى أمر ربها وانقادت وأطاعت تكوينا، وحق لها ذلك، لأنها مخلوقة له، والعالم بأسره لا يخرج عن سلطان قدرته، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، وقال: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11]، فإرادته نافذة في جميع الأشياء.

قال آخر: أي لا يتوهم أحد أن السماء بتلك العظمة بإمكانها إظهار أدنى مقاومة لأمر الله.. بل ستستجيب لأمر الله خاضعة طائعة، لأن إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة، ولا يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جل وعلا.

قال آخر: وكيف لها ألا تسلم لأمره عزوجل، وكل وجودها وفي كل لحظة من فيض لطفه، ولو انقطع عنها بأقل من طرفة عين لتلاشت.. فالسماء والأرض مطيعتان لأمر ربهما منذ أول خلقهما حتى نهاية أجلهما، كما قال تعالى عن قولهما في ذلك: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يحصل للأرض، فقال: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ﴾، ومد الأرض، هو ظهورها كالبساط الممدود، فلا ترى العين المحلقة بعيدا فوقها، جبالا ولا هضابا، وإنما تراها على مستوى واحد، لا عوج فيها ولا أمتا.

قال آخر: والمراد بسطها بإزالة الجبال، كبسط الأديم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا

القرآن والوعيد والإنذار (145)

أَمْتًا﴾ [طه: 105 ـ 107]

قال آخر: فهذا النوع من المد مميت للأرض ومن عليها وما عليها، وكان قبل ذلك مد محيي لها ولمن عليها، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا﴾ [الرعد: 3]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الأرض حينها ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾، وإلقاء ما في الأرض هو إخراج ما فيها من موتى وغيرهم، كما قال تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: 2]

قال آخر: وفي التعبير هنا بلفظ الإلقاء إشارة إلى أنها تلفظ ما فيها لفظا، كما يلقى سقط الجنين من بطن أمه.. وقوله تعالى: ﴿وَتَخَلَّتْ﴾ أي أنها تخلت عما ألقته من بطنها، فلم تمسك به على ظهرها.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾، أي واستمعت وأطاعت أوامره لأنها في قبضة القدرة الإلهية تصرفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء.

قال آخر: وهكذا يوحي استسلام الأرض والسماء لربهما من موقع حقه في التصرف بخلقه كما يريد، باستسلام الخلق الحي العاقل، المتمثل بالإنسان، إليه، لينقاد له من خلال الإرادة الواعية المطيعة، فيخاطبه بذلك، للفرق بينه وبين السماء والأرض، بأن هذين المخلوقين العظيمين مطيعان له على أساس طبيعة التكوين الذاتي فيهما، فيما خلقه فيهما من سر الطواعية له في طبيعتهما، فلا يملكان غير ذلك في حركتهما في نطاق القوانين الطبيعية أو في خارج ذلك، مما يريد الله فعله فيهما.

قال آخر: أما الإنسان، فهو المخلوق الذي ألهمه الله فجوره وتقواه وهداه السبيل ليشكر أو يكفر، فجعل في ذاته الإرادة المتحركة التي تملك القبول بأوامره ونواهيه، كما تملك

القرآن والوعيد والإنذار (146)

الرفض لها، والتمرد عليها، فهو الذي يعيش الاستسلام لله في وجوده التكويني في السنن الطبيعية التي تحكم حركة حياته في تأثره بالواقع الكوني من حوله، ولكنه قد لا يستسلم في أفعاله التي يملك حرية الاختيار فيها. ولذلك، حمله الله بها مسئولية عمله، لأن مصيره يساوي عمله.

قال آخر: وجواب ﴿إِذَا﴾ الذي صُدرت به السورة محذوف لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره، ترون ما عملتم من خير أو شر فاكدحوا لذلك اليوم، تفوزوا بالنعيم.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ أي أيها الإنسان، إنك عامل في هذه الحياة ومجد في عملك، ومبالغ في إدراك الغاية إلى أن تنتهي حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر به وتلهو عنه، وكل خطوة في عملك فهي في الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس، ويعرف كل عامل ما جر إليه عمله.

قال آخر: وذلك يشير إلى أن الحياة ليست فرصة للاسترخاء والنوم والراحة اللاهية المطلقة، وليست مجالا للعبث واللعب واللهو، بل هي فرصة للكدح الذي يمثل الجهد العملي الذي يترك تأثيره على الإنسان في كيانه الجسدي والروحي والشعوري، لأن هناك دورا كبيرا لا بد من أن يقوم به في خلافته عن الله في إدارة شؤون الحياة في الأرض على خط رسالاته، فلا بد له من أن يكدح في فكره لينتج الفكر الذي يخطط للحركة ويدفع نحو التطور، ولا بد له من أن يكدح في نشاطه الجهادي لتملأ الحياة بالدعوة باسمه تعالى والجهاد والحركة الدائبة في سبيله في مختلف المواقع، بما يجعل الحياة كلها حياة الرسالة وللرسالة.

القرآن والوعيد والإنذار (147)

قال آخر: ذلك أن الحياة هي المعمل الكبير الذي أراد الله له أن ينتج الخير في حركة الحق في ساحة الصراع، وجعل الإنسان كادحا حيا أساسيا في تحريك أجهزته، وفي توجيه إنتاجه، فلا مجال للتفكير بالراحة، بل هو الجهد الدائب الذي إذا التقى بالنوم، فلكي يمنحه النوم حيوية جديدة، وإذا عاش مع بعض لحظات الراحة والاسترخاء واللهو، فمن أجل أن يخفف عنه ثقل التعب، وضغط الضعف واختناق الروح، مما يجعل لهذه الأمور معنى يتصل بشروط الكدح، لا معنى يتخفف الإنسان به منه.

قال آخر: وهكذا يخاطب الله الإنسان من موقع إنسانيته، ليكدح إلى ربه كدحا، ليقول له إنه مهما أعطى من جهد، فإنه سوف يلتقي به في يوم القيامة، لتكون طبيعة النتائج منسجمة مع طبيعة الكدح.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الناس حينئذ صنفان، أولهما ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ أي فأما من عرض عليه سجل أعماله وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية.

قال آخر: وقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من نوقش الحساب عذب)، فقيل له: أليس يقول الله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: 7 ـ 9]، فقال: (إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)، وفي رواية: (وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)(1)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن من حوسب هذا الحساب اليسير رجع إلى أهله المؤمنين

__________

(1) البخاري (6537)، ومسلم (2876)

القرآن والوعيد والإنذار (148)

مسرورا مبتهجا، فقال: ﴿وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، وليس أهله إلا الذين ارتضاهم الله أهلا له في مجتمع الجنة، الذي يضم الحور العين، والولدان المخلدين، والملائكة المقربين، والصالحين من أزواج المؤمنين وأولادهم وآبائهم... ليتلقاهم بوجه طافح بالسرور، وقلب مملوء بالشعور بالسعادة، بما غفر الله له من ذنبه، وبما خفف عنه من حسابه، وما أولاه من فضله في نعيم جنته.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى بعض تفاصيل ذلك في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: 19 ـ 21] ودعوة الناس إلى القراءة علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مصير المنحرفين، فقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾، وفي ذلك إشارة إلى أن المجرم حين يرى هذا الكتاب وما طلع به عليه من نذر الشؤم والبلاء يفر منه، ويطرح يديه وراء ظهره بعيدا عنه، حتى لا يمسه، ولكن أنى له أن يهرب منه، إنه لا بد أن يأخذه، فإن لم يمد يده هو إلى أخذه، لحق الكتاب به، وتعلق بشماله حيث بلغت مداها من الارتداد وراء ظهره.

قال آخر: ولعل التعبير بإيتائه كتابه وراء ظهره، وارد على سبيل الكناية التعبيرية عن أن مضمون هذا الكتاب لا يمثل العمل الذي يقدمه الإنسان بين يديه، كما يفعل الواثقون بالنتائج الحسنة لأعمالهم فرحا بها، بل يمثل العمل الذي يطرحه الإنسان وراء ظهره ليخفيه عن الناس، جزعا منه، أو العمل الذي يبقى في الدنيا لأنه لا نصيب له في الآخرة، فكأنه تركه وراء ظهره، فيما يعبر به ذلك عن الدنيا التي استدبرها ليستقبل الآخرة، فلا ينافي ذلك ما ورد من إيتاء الكافرين كتبهم بشمالهم.

قال آخر: وربما فسر بعضهم عدم المنافاة، بأنهم يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لرد

القرآن والوعيد والإنذار (149)

وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ [النساء: 47]

قال آخر: وذكر بعضهم، أنه ليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره.

قال آخر: وعلى أي حال، فإن هذا الإنسان الذي يؤتى كتابه بهذه الطريقة، يراد به الإنسان الذي قضى كل عمره في الجهد والتعب والمشقة في معصية الله والتمرد على رسله، فهو الذي يشعر بالتعاسة والبؤس والشقاء، لأن ما حصل عليه من اللذة في الدنيا، قد تحول إلى الألم الكبير في الآخرة، وأن ما كان يخيل إليه من أوضاع السعادة، قد تحول إلى أوضاع الشقاء.

قال آخر: ولذلك، فإن موقفه، هنا، عندما يدفع إليه كتابه، بهذا الشكل، الذي يوحي إليه بالنتائج السيئة في قضية مصيره، يتمثل بهذا الواقع (فسوف يدعوا ثبورا)، أي أن من أوتي كتابه بهذا الأسلوب، من وراء ظهره، فسوف يصرخ صرخات الثبور، ويولول ولولات الهلاك، نادبا نفسه، ناعيا مصيره.. وكيف لا يكون منه هذا والنار قد فتحت أبوابها له.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه ﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، وفي ذلك إشارة إلى ما كان عليه هذا الضال في الدنيا من غرور بنفسه، وإعجاب بحاله، وبما يسوقه إلى المؤمنين من كيد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين: 31]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى سبب ما حصل له، فقال: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ أي أن هذا الضال ظن أن لن يرجع إلى الله، وأن يبعث بعد الموت، ويحاسب على ما كان منه.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾، وهو

القرآن والوعيد والإنذار (150)

جواب بالإيجاب لما بعد النفي.. أي بلى ليحورن، ويرجعن إلى الله، الذي هو بصير بعباده، يعلم ما يصلحون له، وما يصلح لهم.. وهذه الحياة الأخرى، هي امتداد لحياة الإنسان الأولى على هذه الأرض.

قال آخر: والحياة على أية صورة نعمة من نعم الله، وهي على ما تكون عليه، خير من العدم.. ولو كانت الحياة الدنيا هي غاية حياة الإنسان، ثم عاد بعدها إلى العدم لكان شأنه في هذا شأن أحط الحيوانات، من ديدان وحشرات.. وإرادة الله تعالى في الإنسان أنه مخلوق مكرم مفضل على كثير من المخلوقات.. ومن مقتضى هذا التفضيل والتكريم أن تمتد حياته، وأن يتصل وجوده، وأن ينقل من عالم الأرض إلى عالم السماء.. ولعل هذا هو بعض السر في إضافة هذا الإنسان ـ على ضلاله ـ إلى ربه ﴿إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾

قال آخر: ولفظة ﴿بَلَى﴾ تستعمل في إبطال الكلام المنفي المتقدم، نظير قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]، وقوله: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: 7].. وأما المقام فهو إبطال لزعم من يعتقد أنه لن يحور، أي يرجع، فقال سبحانه: ﴿بَلَى﴾ أي يحور ويرجع؛ وذلك لأن ربه كان بصيرا وعليما بمآله.

قال آخر: ولعل في قوله: ﴿بَصِيرًا﴾ إشارة إلى لزوم المعاد، فإن الله سبحانه يعلم أن الناس بين طائع وعاص ومصلح ومفسد، فرمي الجميع بسهم واحد على خلاف العدل والإنصاف، فلا محيص من محاسبة الناس ومجازاتهم حسب أعمالهم.

قال آخر: ونلاحظ هنا أن الآيات الكريمة قسمت الناس إلى قسمين.. من أوتي كتابه بيمينه وهم أصحاب اليمين.. ومن أوتي كتابه بيده اليسرى من وراء ظهره، وهم أصحاب الشمال.. ولم تذكر الآيات مصير المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين والشمال، كما قال تعالى: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ

القرآن والوعيد والإنذار (151)

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: 8 ـ 11]

قال آخر: ولعل عدم ذكرهم يرجع لسمو مقامهم وطهارة أنفسهم وزكاة قلوبهم، فهم فوق أن يحاسبوا، إذ لا توجد في صحيفة حياتهم نقطة سوداء حتى يحاسبوا عليها.. أو أنهم مذكورون ضمن أصحاب اليمين.

قال آخر: ذلك أنه من الجائز أن لا يكون تقسيم أهل القيامة إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال تقسيما حاصرا لجميعهم، بل تخصيصا لأهل الجنة من المتقين وأهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين وبالشمال لمكان الدعوة إلى الإيمان والتقوى، نظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثم بيان حال المتقين والمكذبين فحسب، وليس ينحصر الناس في القبيلين، ونظيره ما في سورة النبأ والنازعات وعبس والانفطار، والمطففين وغيرها، فالغرض فيها ذكر أنموذج من أهل الإيمان والطاعة وأهل الكفر والتكذيب، والسكوت عمن سواهم ليتذكر أن السعادة في جانب التقوى والشقاء في جانب التمرد والطغوى.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات، أقسم بآيات له في الكائنات، ظاهرات باهرات، بأن البعث كائن لا محالة، وأن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.

قال آخر: وقد ابتدأت بقوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾، وهذه الأقسام المنفية في القرآن، إنما يقسم بها على أمور واضحة، لا تحتاج في تقرير حقيقتها، وتوكيد وجودها، إلى قسم.. فالتلويح بالقسم هنا إشارة إلى أن ما يقسم عليه لا يحتاج إلى قسم لمن عنده أدنى نظر، أو مسكة عقل، فهو في الواقع قسم مؤكد بهذا النفي الذي وقع عليه.

القرآن والوعيد والإنذار (152)

قال آخر: ولذلك فإن العرب اعتادت أن تأتي بمثل هذا القسم حين يكون المقسم عليه أمرا ظاهرا لا يحتاج إلى التوكيد، فكأنه تعالى يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أذكره لكم لأن أمره ظاهر، وثبوته غير محتاج إلى الحلف عليه.

قال آخر: ويرى بعض العلماء أنه إنما يستعمل حين يكون الحلف على أمر جليل القدر عظيم الشأن لا يكفي القسم لإثباته، فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أريد، لأن إثباته أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأمور الهينة والغرض على هذا الوجه تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أول مقسم به، وهو ﴿بِالشَّفَقِ﴾، وهو هذا اللون الذي يلتقي بالحمرة الهادئة الوديعة في حركة النور الذي يفقد وهجه وحرارته، ليكون في لون الحمرة القانية ثم الصفرة، ثم البياض، في هذا الجمال البديع الذي يبعث الروعة في الروح، والهدوء في الشعور الذي يوحي بالظلام في حبات النور التي تلتقي بأمواج الليل، لتبعث فيه مزيجا من الروعة والرهبة الباردة.

قال آخر: وأقسم بـ ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ أي ما ضم وجمع وحمل ما تفرق وانتشر في النهار ليرجع كل واحد إلى سربه وموقعه، ويسكن كل فريق إلى إلفه، ثم قد يشمل ذلك كل ما يضمه الليل من مخلوقات وأوضاع وأشباح وتهاويل، مما يوحي بالجو الغامض الرهيب المزدحم الذي يثير الكثير من المشاعر الخفية التي تجمع بين الوحشة والرهبة والغموض والجلال.

قال آخر: وأقسم بـ ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ وتكامل نوره في الليالي البيض، فيشرق على الكون إشراقة الوداعة التي توحي بالسلام الحلو في قلب الظلام المخيف، فيزيل الوحشة في النفس، ويبعث الحذر في الإحساس، ويطوف بالروح في آفاق الأحلام الجميلة التي تملأ

القرآن والوعيد والإنذار (153)

الإنسان أملا وحبا وانفتاحا على المواقع الرحبة في الحياة.

قال آخر: ويبقى لهذه المشاهد الكونية في الأفق الممتد الذي يودع الشمس اللاهبة في نورها الحار المشتعل، الذي يوحي بالدفء تارة، وبالحريق أخرى، ليلتقي بالشفق الذي يوحي بولادة الليل في خطوات النور المنسحب، ليجتمع الناس في قلب الظلام الذي يوحي إليهم بتلك الجلسات العائلية الحميمة، وبتلك الاجتماعات الروحية الجميلة، ولينطلق القمر بهذا النور الوديع الذي يصبغه الظلام بلونه الهادئ.

قال آخر: ويبقى للإنسان أن يفكر في هذه المشاهد تفكير الباحث عن سر الروعة والجلال فيها، وعن عظمة الخالق فيما توحي به من عظمة الخلق ودقة التدبير.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن جواب هذه الأقسام المنفية التي لوح بها، والتي يخفيها النفي، ويظهرها للمقام، فقال: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ أي لتلاقن أيها الناس أمورا بعد أمور وأحوالا بعد أحوال، إلى أن تصيروا إلى ربكم وهناك الخلود في جنة أو نار.. ويدخل في هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت بالإنسان منذ أن كان نطفة في بطن أمه إلى أن صار شخصا، وما مر به في حياته الأولى من طفولة وشيخوخة، ثم موته، ثم حشره للحساب، ثم مصيره إلى الجنة أو النار.

قال آخر: وفي التعبير بالركوب، عن التحول من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف، إشارة إلى أن ذلك لا يكون إلا على طريق شاق، يلاقى فيه الناس الأهوال والمخاطر.. فهم ينتقلون من نهار، كله سعى وعمل، إلى ليل بطل فيه كل سعى وعمل.. وفي الليل يلتقي المهمومون مع همومهم، على حين يتناجى السعداء مع آمالهم وأحلامهم.. ثم إنهم ينتقلون من الحياة إلى الموت، ثم من الموت يهتدى بها إلى الحق والخير، حين تظلم شمس العقل، وتختفي في ظلمات الحيرة، وبين سحب الشكوك والريب.

القرآن والوعيد والإنذار (154)

قال آخر: ولهذا وقع القسم على تلك الحال التي يركب فيها الإنسان غواشي الضلال، وتلقاه على طريقه المزالق والمعاثر: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ فلا يكون له مفزع حينئذ إلا فطرته، التي يهتدى بها إلى طريق النجاة، كما يفعل الحيوان في تصريف أموره، على ما توجهه إليه غريزته.. فإذا افتقد الإنسان فطرته في هذا الموطن، كان من الهالكين.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب أنكر عليهم استبعادهم له فقال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي فأي شيء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله وأنكروا صحة البعث، وكل شيء أمامهم ينادى بباهر قدرته، ويرشد إلى عظيم سلطانه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من مظاهر كفرهم وضلالهم أنهم ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: 21] فيما يوحي به السجود من معنى الخضوع لله الذي هو عمق حقيقة الوجود الكوني الذي يثير القرآن الحديث عنه من خلال وحي الفطرة، وحركة الحوار، وإيحاءات التأمل التي تدفع الإنسان إلى العمق العميق من إحساسات الخوف الذي يدفع نحو الخشوع في انفتاحه على الله، وفي سجوده له.

قال آخر: ولذلك يراد بـ ﴿السُّجُودِ﴾ هنا الخضوع والتسليم والطاعة، أما السجود المتبادر إلى الذهن بوضع الجبين على الأرض، فهو أحد مصاديق مفهوم السجود، ولعل هذا هو ما ورد في الروايات من سجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قراءته لهذه الآية الكريمة.

قال آخر: ومن الشواهد على هذا المعنى أن السجود بمعنى وضع الجبين على الأرض عند تلاوة القرآن إنما يجب في مواضع محدودة جدا ويستحب في مواضع أخرى، وفي مواضع أخرى لا هو بالواجب ولا بالمستحب، وقد أطلقت الآية الكريمة القول، والإطلاق والحال هذه يراد به التسليم للقرآن.

القرآن والوعيد والإنذار (155)

قال آخر: ثم هدد الله تعالى المكذبين بالعاقبة التي تنتظرهم، فقال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾، وهو إضراب عن هذا السؤال، الذي يستحثهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى توقير آيات الله، والخشوع بين يديها.. فهذا التحريض لهم، لا ينفعهم، ولا يؤثر فيهم.. إنهم كافرون، والكافرون من شأنهم التكذيب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: 96 ـ 97]

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾، وهو تهديد لهؤلاء المكذبين بآيات الله، المنكرين للبعث.. فالله سبحانه أعلم بما يجمعون من محصول ضلالهم وكفرهم.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وهكذا يتحول النبي مع هؤلاء المشركين المكذبين، من منذر إلى مبشر، ولكنه مبشر بالعذاب الأليم لهم.. فهذا ما يبشرهم به، على حين يبشر المؤمنين بجنات النعيم.. وفي التعبير بالبشرى عن العذاب الأليم بدلا من الإنذار به، إشارة إلى أنه لا شيء لهؤلاء الضالين المكذبين يبشرون به في هذا اليوم، وأنهم إذا بشروا بشيء فليس إلا النار، والعذاب الأليم.. وفي هذا تيئيس لهؤلاء الضالين من أي خير.

قال آخر: ثم استثنى الله تعالى المؤمنين، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جزاؤهم من البر والإحسان، لا ينقطع أبدا.. والاستثناء هنا قد يكون منقطعا، لأن هناك انتقالا من الحديث حول الكفار إلى الحديث عن المؤمنين وما ينتظرهم من أجر وثواب.. وقد يكون متصلا، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على ذلك، وكأن الآية الكريمة تقول لهم: إن العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب من

القرآن والوعيد والإنذار (156)

يؤمن منهم ويعمل صالحا وعلاوة على ذلك، سيكون له أجر غير ممنون.

قال آخر: و﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ قد يكون بمعنى غير مقطوع، بل هو ممتد متواصل.. وقد يكون المراد به المن وهو القول الذي يمن به صاحب النعمة على آخذها بما يثقل عليه، فالمقصود أن هذا الأجر لا يستتبع أي كلام يثقل على المؤمنين الصالحين، بل لا يسمعون إلا كلاما طيبا يرتاحون إليه.

قال آخر: وقد يكون المعنى الأول أقرب إلى الاعتبار، لأن المن لا يكون ثقيلا إلا إذا جاء من الناس الذين يتأذى بعضهم بكلام المن من البعض الآخر، لأنه يوجب نوعا من المهانة والذل، أما إذا كان المن من الله، سبحانه، فإنه لا يثير أي شيء في النفس، لأن الله هو صاحب المنة والمن، وإذا جرى المن في كلام الله، فإنما يراد به تذكير عباده بنعمه ليشكروه وليعرفوا فضله عليهم ليعبدوه في مواقع عبادته.

المشهد الخامس:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [القيامة: 1 ـ 15]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة يقسم الله تعالى بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقى، الجانحة إلى العلو، التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1312)، وتفسير المراغي (29/ 145)، ومن وحي القرآن: (23/ 236)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 201)، والتفسير المنير (29/ 253)، ومفاتيح الغيب (30/ 719)، ومنية الطالبين: 29/ 323.

القرآن والوعيد والإنذار (157)

حال إلا أحبت ما تلاها أن هناك حالا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها، في عالم أكمل من هذا العالم، عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين.

قال آخر: وتبدأ هذه الآية الكريمة والسورة جميعا بقسمين غزيرين بالمعاني، وكلاهما يبدآن بـ ﴿لَا أُقْسِمُ﴾، وهذا من الأقسام المنفية، والمراد بها هو التلويح بالقسم، دون إمضائه، ويكون ذلك إذا كان الأمر المقسم عليه أوضح من أن يدل عليه، وأن يؤكد في الدلالة عليه بقسم، لأنه ينزل منزلة البديهيات، وتوكيد البديهيات لا يزيدها عند الذين لا يؤمنون بها إلا إنكارا، واستبعادا.. والتلويح بالقسم، إشارة إلى أنه لو كان الأمر يحتاج إلى قسم لمضى القسم إلى غايته، ولما سلط عليه النفي الذي حال بينه وبين أن يقع على المقسم عليه.

قال آخر: وبذلك، فإن القسم المنفي هنا يكشف عن حال المواجهين بالقسم، وأنهم يكذبون بالبديهيات، ويعاندون في المسلمات، وأنه لو كان في التوكيد بالقسم مقنع لهم، لوقع القسم، ولكن يستوي عندهم الأمران، التوكيد وغير التوكيد.. فهم على أي الحالين لا يؤمنون بما يلقى إليهم من أخبار على لسان النبي، بما يوحى إليه من ربه.

قال آخر: أما القسم المنفي الأول، فهو قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، وسمي بذلك لأجل قيام الحساب والأشهاد والروح والناس، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41]، وقال: (يوم يقوم الأشهاد)، وقال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [النبأ: 38]، وقال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6]، وعلى هذا فوجه التسمية هو قيام الحساب وغيره من الأمور المذكورة.

قال آخر: وقد ذكر بعضهم أن ﴿لَا﴾ في قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ رد على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين، فكأنه قال: لا، كما تظنون، ثم ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون، ليكون فرقا بين اليمين التي تكون جحدا وبين اليمين

القرآن والوعيد والإنذار (158)

المستأنفة.

قال آخر: أما القسم المنفي الثاني، فهو قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ والنفس اللوامة، هي النفس التي ترجع على صاحبها باللائمة لما يقع منه من إثم، وما يقترف من ذنب.. وهذا اللوم من شأنه أن يغير من وضع الإنسان القائم على الإثم، والمتجه إلى المنكر.. فهو قوة معارضة لهذا التيار الذي يدفع به إلى المنكر، وقد يتحول هذا التيار إلى الجهة المضادة لطريق الغواية المتجه إليه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 60 ـ 61]، فمع وجل القلوب، يقع في النفس ما يقع من لوم على ما فرط منها.

قال آخر: وقد قرنت النفس اللوامة بيوم القيامة، لأن ثمرة هذا اللوم، إنما تظهر آثاره يوم القيامة.. فالنفس اللوامة إنما يحملها على اللوم، الخوف من الآخرة، ومن لقاء الله، والوقوف بين يديه.. ولولا الإيمان بيوم القيامة لما راجع المرء نفسه فيما أحدث من آثام، ولما قامت في كيانه تلك النفس اللوامة، التي تقف منه موقف المحاسب قبل يوم الحساب.

قال آخر: والعلاقة الموجودة بين القسمين، هي أن أحد دلائل وجود المعاد هو وجود (محكمة الوجدان) الموجودة أعماق الإنسان، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح، وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة تقوم بتقريعه وتأنيبه وتعذيبه إلى حد أنه قد يقدم على الانتحار للتخلص مما يمر فيه من عذاب الضمير.

قال آخر: ولذلك، فإنه عندما يكون للعالم الصغير ـ أي للإنسان ـ محكمة في قلبه، فكيف يمكن للعالم الكبير ألا يملك محكمة عدل عظمى؟

قال آخر: ومن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي،

القرآن والوعيد والإنذار (159)

ومن هنا تتضح الرابطة الظريفة بين القسمين، أي أن القسم الثاني هو دليل على القسم الأول.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾، وهو دليل على جواب القسم المقدر وهو: لتبعثن.. وتدل على أن المخاطب يستبعد أو يستنكر إمكان جمع العظام الرميم، ويقول في نفسه: هل يمكن أن تجمع هذه العظام المبعثرة في أطراف العالم، ومختلف بقاع الأرض!؟

قال آخر: وقد ورد هذا النوع من الاستنكار في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، حيث كان الناس يتصورون أن جمع العظام أمر محال، والمستنكر يقيس قدرته سبحانه بقدرة نفسه، أي أنه لما كان الإنسان غير قادر على إحياء العظام وجمع شتاتها قاس عليه قدرة الله تعالى كذلك، وهؤلاء هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 67]

قال آخر: وقد أجيب عن هذا النوع من الاستنكار في القرآن الكريم بأجوبة قاطعة، ومن الأمثلة على ذلك أنه أجيب عنه في سورة يس بقوله تعالى: ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: 78]، ثم أشار الله تعالى في الآية التالية بقوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79]، وفي آية أخرى بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: 27]، وفي آية أخرى بقوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: 81].

قال آخر: وفي التعبير بكلمة ﴿يَحْسَبُ﴾ التي هي من الحسبان وتعني الظن، إشارة إلى أن المنكرين لا يؤمنون بما يقولون، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.

قال آخر: ثم رد الله تعالى على ذلك السؤال الاستنكاري بقوله: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ

القرآن والوعيد والإنذار (160)

نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أي بلى إننا نجمع عظامه، مع قدرتنا على تسوية بنانه.. فليس جمع هذه العظام التي أكلها التراب، وأبلاها البلى، هو الذي تقف عنده قدرتنا، بل إن هذه القدرة ستعيد هذه العظام إلى وضعها الأول، وستسوى أدق ما في الإنسان من عظام، وهي عظام البنان، أي الأصابع.. وقوله تعالى ﴿قَادِرِينَ﴾ حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: بلى نجمعها، ونحن قادرون على تسوية بنانه، التي هي أدق هذه العظام، وأصغرها.

قال آخر: وقد ذكر بعض المفسرين أن مسألة الحديث عن تسوية البنان، كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ولا تختل عن مكانها، بل تسوى تسوية لا ينقص معها عضو، ولا شكل هذا العضو، مهما صغر ودق.

قال آخر: ولعل تخصيص البنان بالذكر للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور وخصوصيات التركيب والعدد، إذ تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض والبسط، والأخذ والرد، وسائر الحركات اللطيفة والأعمال الدقيقة والصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان، مضافا إلى ما عليها من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فهي تمثل في خطوطها الدقيقة دليل الشخصية، لأن الناس يختلفون في بصمات أصابعهم، بحيث لا يتفق واحد في ذلك مع الآخر، مهما اقتربت علاقاتهم النسبية، مما يجعل من معرفة طبيعة البصمة سبيلا لمعرفة صاحبها لاكتشاف مسئوليته عن الجريمة ونحوها من القضايا المتصلة بمسؤولية الناس في قضاياهم العامة والخاصة.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾، وهو إضراب على هذا الخطاب الموجه إلى الإنسان الذي ينكر البعث، ويأبى أن يصدق به.. فإن نصب الأدلة له،

القرآن والوعيد والإنذار (161)

وإقامة الحجج بين يديه كل ذلك لا يكشف عمى بصيرته، ولا يوقع في نفسه إيمانا بالبعث، وإعدادا لليوم الآخر، لأنه لا يريد أن يلتفت إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا، ولا يريد أن يقيد نفسه بعالم آخر غير هذا العالم، الذي يعيش فيه مطلقا من كل قيد، مرسلا حبله على غاربه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ أي ليقيم حفرة بينه وبين الحياة الآخرة التي يقال له عنها.. إنه يضع أمام نفسه العقبات التي تصرفه عن الحياة الآخرة، بما يقيم على طريق هذه الحياة من معوقات، هي تعلات وتصورات مريضة، توقع عنده الشك في البعث، وما وراء البعث، حتى يحل نفسه من ملاقاة هذا اليوم، وما يحدث به إليه، عن هذا اليوم وأهواله.. إن ذلك اليوم يقطعه عن الحياة البهيمية التي رضى بها واطمأن إليها، فهو إذا سمع حديثا عن يوم القيامة، حاول جاهدا أن يفسد هذا الحديث، وأن يخرج به من مجال العقل والجد، إلى حيث المهاترة والهزل..

قال آخر: وأصل الفجر، والفجور، من فوران الشيء، وتفجره في قوة وعنف، ومنه قوله تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: 12] ومنه الفجور، وهو التهتك والتبذل، وخلع قناع الحياء.. وفي تعديه الفعل ﴿يُرِيدُ﴾ باللام التي تفيد التعليل ـ مع أن الفعل يتعدى إلى مفعوله بغير حرف ـ إشارة إلى أن هذه الإرادة إرادة عاملة، وأنها ليست مجرد أمنية، أو رغبة، أو خاطرة، تطرق الإنسان، ثم لا تلبث أن تذهب غير مخلفة أثرا.. فالإرادة هنا إرادة مشدودة إلى عزم، وتصميم، على التنفيذ.. وفي طريق التنفيذ تقوم عقبات، فيعمل صاحب هذه الإرادة على تذليلها، ويحتال لإمضائها.. ولهذا ضمن الفعل ﴿يُرِيدُ﴾ معنى الفعل (يحتال).. وهذا يعنى أن الإنسان يغالب قوة متحدية لإرادته وهي الفطرة المودعة فيه، فلا يملك لها دفعا إلا بالمراوغة والاحتيال، وهذا المعنى هو الذي قصده مجنون ليلى بقوله:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

   تمثل لي ليلى بكل سبيل

القرآن والوعيد والإنذار (162)

قال آخر: ثم علل الله تعالى إرادته دوام الفجور بقوله: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ أي يسأل سؤال متعنت مستبعد، متى يكون هذا اليوم؟ ومن أنكر البعث أشد الإنكار، ارتكب أعظم الآثام، وخب فيها ووضع غير عابئ بعاقبة ما يصنع، ولا مقدر نتائج ما يكتسب.

قال آخر: وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الملك: 25]، وقوله: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [المؤمنون: 36 ـ 37]

قال آخر: وهذا يشير إلى أنهم أنكروا البعث لوجهين.. أولهما شبهة تعترض الخاطر، كقولهم إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وسارت في مشارق الأرض ومغاربها، كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أولا، ولهؤلاء جاء الرد بقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾

قال آخر: وثانيهما حب الاسترسال في اللذات، والاستكثار من الشهوات، فلا يود أن يقر بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته، ولمثل هؤلاء قال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة.. أولها ما عبر عنه بقوله: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ أي إذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول ومن عظم ما يشاهد، كما قال تعالى: ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ [إبراهيم: 43]

قال آخر: وثانيهما ما عبر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ أي ذهب ضوءه، كما نعقله من حاله في الدنيا، إلا أن الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، وفي الآخرة لا يعود ضوءه.

قال آخر: وثالثها ما عبر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ أي أدرك

القرآن والوعيد والإنذار (163)

كل واحد منهما صاحبه وطلعا من المغرب أسودين مكورين مظلمين، وقد كان هذا مستحيلا في الدنيا كما جاء في قوله تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ [يس: 40]

قال آخر: وهذا يشير إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الانقلابية لأواخر الدنيا، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع بعض، وهو ما أشير إليه في آيات قرآنية أخرى أيضا، مثل قول تعالى في سورة التكوير: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: 1] أي إذا أظلمت الشمس، وبما أن ضوء القمر من الشمس، وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

قال آخر: وهذا يعنى أن الإنسان سيخرج يوم القيامة من عالمه الأرضي، إلى عالم آخر، تتبدل فيه أحواله، وتتغير في نظره حقائق الأشياء على هذه الأرض، فيرى الشمس والقمر معلقين في هذا الفضاء، كل على هيئته، فلا غروب للشمس، ولا نقصان للقمر.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حال المنكرين للبعث حينها، فقال: ﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ أي يقول الإنسان حينئذ لدهشته وحيرته: أين المفر من جهنم؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم يجابون حينها ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ﴾ أي كلا لا شيء يعتصم به من أمر الله، فلا حصن ولا جبل ولا سلاح يقيكم شيئا من أمره، كما قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ [الشورى: 47]

قال آخر: ثم كشف الله تعالى عن حقيقة الحال وبينها بقوله: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾، أي إلى ربك مرجعك في جنة أو نار، وأمر ذلك مفوض إلى مشيئته، فمن شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: 42]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن مآل الإنسان رهن بما عمل، فقال: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ

القرآن والوعيد والإنذار (164)

بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾، أي يخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]

قال آخر: ثم بين الله تعالى أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهي نعم الشاهد عليه فقال: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾، أي بل الإنسان حجة بينة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، لأن نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما أتى بالمعاذير وجادل عنها، كما قال تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 14]، وقال: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: 21] فلا يقبل من الإنسان عذر في هذا اليوم.. كما قال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [الروم: 57]

قال آخر: وأتت لفظ بصيرة، على تقدير مضاف أي، ذو بصيرة، وذلك حين ينكشف له يوم القيامة كل شيء، فيرى الأمور على حقائقها، ويبصر كل ما قدمته يداه، كما قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]

قال آخر: وقد ورد في الحديث عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع الإمام الصادق، إذ تلا هذه الآية: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾، ثم قال: يا أبا حفص، ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر) (1)

__________

(1) الكافي: 2/296.

القرآن والوعيد والإنذار (165)

محاجات وخصومات:

قال المرشد: أحسنتم.. حدثتمونا بما ورد في القرآن الكريم من الأهوال والشدائد المرتبطة بالآخرة.. فحدثونا بما ورد فيه من ذكر الخصومات بين أهل جهنم.

قال أحد الوعاظ: هي كثيرة في القرآن الكريم، فعن أيها تريدون أن نحدثكم؟

المشهد الأول:

قال المرشد(1): حدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 165 ـ 167]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هذه الآيات الكريمة بعد أن تناولت الآيات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون.. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدد الآلهة.. وعن أولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيما أمام الآلهة المزيقة، ويحبونها حبا لا يليق إلا بالله سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم.. وعن أولئك الذين قد يؤمنون بالله ويدعون محبته، لكنهم في نفس الوقت يوالون الظلمة ويتخذونهم أندادا من دون الله.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 184)، وزهرة التفاسير (1/ 492)، وتفسير المراغي (2/ 38)، ومن وحي القرآن: (3/ 155)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 471)، ومفاتيح الغيب (4/ 174)، وتفسير ابن كثير: (1/ 476)

القرآن والوعيد والإنذار (166)

قال آخر: وهي تقدم لنا بذلك نموذجا من نماذج الانحراف العاطفي والعملي في واقع الناس في الحياة، وهو النموذج المتمثل في أتباع الظلمة وأشياعهم، فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبته، وبين حب الظالمين من أسيادهم وكبرائهم، تماما كما يحب الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات.

قال آخر: ولعل هذا الاتجاه في تصوير حالة التسوية في المشاعر بين الله وبين أئمة الظلم، كان منطلقا من الأساس العملي للواقع الذي يعيشونه، فإن الحب الذي تتحدث عنه الآية ليس الحب الداخلي الانفعالي الذي يتحرك في الجانب الشعوري العاطفي للإنسان، لأن الجو هنا هو جو الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياتهم، بل الظاهر أن المراد من الحب هو الحب العملي ـ إن صح التعبير ـ وهو الذي يتمثل بالاتباع والتأييد والمشاركة والطاعة لما يريدون ولما يخططون من دون قيد أو شرط.

قال آخر: تماما كما هي الحال في محبة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة، وذلك هو التطبيق العملي للإشراك بالله، لأن مثل هذه الإطاعة التي لا تنبغي إلا لله، عندما يقدمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته، فمعنى ذلك أنه قد جعل ذلك المطاع ندا ونظيرا لله فيما يمثله ذلك من إخلاص العمل، وهذا هو الشرك الواقعي الذي لا يرتبط بتعدد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهية، بل يتصل بتعددها على مستوى الطاعة، انطلاقا من العوامل الذاتية المتصلة بالشهوات والأطماع والمنافع التي يحصلون عليها لدى هؤلاء، أو التي يأملون الحصول عليها منهم.

 قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون،

القرآن والوعيد والإنذار (167)

يحبونهم كحب الله ويسوون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبي فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحد.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إشارتان بيانيتان.. أولاهما التعبير ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ فمن للبعضية، أي بعض الناس، وفي ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا، أم كانوا عددا كثيرا فهم مهينون في تفكيرهم، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم، وما يحيط بهم، فضلوا ضلالا بعيدا، والتعبير عنهم بذلك ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس، فليس لهم وصف علم ولا إيمان، ولا شيء من المكارم التي تعلى الإنسان وتسير به في مدارج الرقي، كما تقول عن رجل محتقرا: هذا الآدمي، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي.

قال آخر: والإشارة الثانية، هي أن الله تعالى قال: ﴿يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾، وفيه إشارة إلى أنهم ـ أي الأنداد ـ ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا.. وهم لا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن المشركين لم يتخذوا هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل صاروا ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾، وقد يكون معناه أنهم يسوونهم بالله تعالى في العبودية، والطاعة والرضا بما يعتبرونه مرضيا لهم مع أنهم يرون أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وإذا أنزلت بهم شديدة لا يلجؤون إلا لله، ولا يطلبون كشف الضر إلا منه كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم، فهم يفرقون بين معبوداتهم، وبين الله في شدائدهم، ولا يفرقون في رخائهم.

القرآن والوعيد والإنذار (168)

قال آخر: ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى ﴿كَحُبِّ اللَّهِ﴾ أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى، فهم ينزلون أندادهم منزلة الله تعالى عند أهل الإيمان فيفردونها بالعبادة كما يفرد المؤمنون الله تعالى بالعبادة وحده.

قال آخر: وقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، أي أن المؤمنين لوصفهم بالإيمان ولإذعانهم بالحق ولأنهم يعبدون من يملك النفع والضر، وأنه خالق الكون؛ ولأن حبهم مقصور على الله تعالى، فإنهم بذلك أشد حبا لله، ومظهر حب الله تعالى الإخلاص له، وتسليم الوجه والطاعة له، والخضوع له، ولما يأتي من عنده، فحب الله طاعته، وأن تمتلئ النفس بذكره، وأن يكون حبه كله لله تعالى لا يحب شيئا في الوجود إلا لله، كما قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله) (1)، فالله في قلبه وفي عمله، وقوله واختلاطه بالناس، وهو معه دائما.

قال آخر: ذلك أن الحب الحقيقي يتجه دائما نحو نوع من الكمال، فالإنسان لا يحب العدم والنقص، بل يسعى دوما وراء الوجود والكمال، ولذلك كان الأكمل في الوجود والكمال أحق بالحب.

قال آخر: ونلاحظ أن الآيات الكريمة تثير هنا قضية التابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة، مما يوحي بأن الأساس في الحب هو التبعية لا العاطفة المجردة، كما أننا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آية أخرى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، حيث جعل اتباع النبي من علامات

__________

(1) سنن أبي داود (4061)

القرآن والوعيد والإنذار (169)

الحب ونتائجه.

قال آخر: وقد عالج القرآن الكريم هذا الحب المنحرف لغير الله بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان، فقد يكون من أسبابه شعوره بالقوة التي يملكها هؤلاء الظالمون والمنحرفون فيما يملكون من شؤون الملك والسلطان في الدنيا، فيخيل للناظر أنهم يتمتعون بالقوة المطلقة التي تهيمن على كل الأمور، مما يخلق في أعماق النفس شعورا بالإعجاب الذي يتحول إلى المحبة في كثير من الحالات، ثم تتحول المشاعر إلى رغبة عميقة في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون فيما يأمرونه به أو ينهونه عنه.. ولذلك كشفت هذه الآيات الكريمة ضعفهم الذاتي الذي قد تحجبه مظاهر السلطان في الدنيا، ولكنه يبدو على حقيقته في الآخرة.

قال آخر: ولهذا عقب الله تعالى على ذلك بذكر ما أعد من عقاب شديد لأولئك الذين اتخذوا الأنداد، فقال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾، وذلك عندما يقف الظالمون ليروا العذاب المعد لهم من الله، فيعرفون أن كل مظاهر القوة التي يتمتعون بها أو يتمتع بها غيرهم من الناس، لا قيمة لها ولا أساس.. فها هم يعانون من العذاب الذي يقفون أمامه موقف الذلة المطلقة، والضعف المطلق، فلا يملكون لأنفسهم معه ضرا ولا نفعا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه تنكشف أمامهم حينها الحقيقة المطلقة، وهي ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ فهو الذي يعطي القوة، وهو الذي يمنعها، أو يسيرها، أو يوقفها عند حدودها التي يريد لها أن تقف عندها، وهكذا يتعمق الشعور وهم أمام الحقيقة الأخروية الحاسمة في مصيرهم النهائي، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 165] فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول فيرون الله شديد العذاب للمتمردين والعاصين والمنحرفين

القرآن والوعيد والإنذار (170)

والكافرين.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مصير هؤلاء الذين يتبعون الظالمين فيشعرون بحمايتهم لهم عندما يوحون لهم بأنهم يتحملون مسئوليتهم في كل ما يتعرضون له من صعوبات الحياة ومشاكلها، فقال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزارا فوق أوزارهم، وتتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا، ولكن ذلك لا يجديهم نفعا فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام، فأنى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى قول التابعين حينها، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ أي وقال التابعون: ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدى بكتاب الله وسنة رسوله ثم نعود إلى موضع الحساب، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرؤوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.

قال آخر: وقد بين الله تعالى أن تمنياتهم لو تحققت ما تبرأوا وما عملوا، فقال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: 28]، ذلك لأن غرور الحياة لا يمكنهم من أن يعتبروا، بل ستدفعهم أهواؤهم إلى مثل ما فعلوا أولا فهم في ريبهم يترددون.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى سبب ذلك التصوير الذي صوره لحالهم يوم القيامة، فقال: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾، أي ليس لهم إلا أن يتحسروا، يتحسرون على أموالهم التي كنزوها واستفاد منها غيرهم.. وعلى فرصة الهداية والنجاة التي هيئت لهم فلم يستثمروها.. وعلى عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد.. لكنها

القرآن والوعيد والإنذار (171)

حسرة غير نافعة.. فاليوم الجزاء على ما جنته يد الإنسان من أخطاء، وليس يوم تلافي الأخطاء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم مع هذه التمنيات التي تجعل نفوسهم متلهفة على العودة ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ فنفى الله تعالى نفيا باتا قاطعا خروجهم من النار، وأكد ذلك النفي باستغراق النفي الثابت بالباء وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية.

قال آخر: ونلاحظ من خلال هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى يوجه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطغاة بالبحث عن نقاط الضعف الكامنة في داخلهم، وبالانطلاق في التصور الديني بعيدا إلى يوم القيامة، حيث يقف الأقوياء في موقف الضعف والانسحاق أمام عذاب الله وعقابه.

قال آخر: وهكذا ينطلق المنهج التربوي القرآني في عملية إيحائية ترتبط بالسلب من حيث فقدان الطغاة والمستكبرين للقوة التي تبرر للناس الارتباط بهم في أمورهم الخاصة والعامة وفي قضايا المصير، وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التوحيدية التي تؤكد ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 165] وأن ﴿الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 139] في خطاب الذين يريدون الاعتزاز بغير الله.

قال آخر: فقد جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 139]، وقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر: 10] على أساس ملكية الله للقوة كلها، والعزة كلها، فالله هو مصدر القوة والعزة، ما يفرض على الناس أن يطلبوها منه، ويرتبطوا بقوته وعزته.. هذا هو الخط الأصيل في التوحيد الحركي للإنسان المسلم في العمل والوجدان.

القرآن والوعيد والإنذار (172)

قال آخر: ونلاحظ من الآيات الكريمة كذلك أن المسؤولية في الإسلام فردية، يتحملها الإنسان من خلال عمله، وأن الضغوط الخارجية التي تنطلق من الشعور بسيطرة الأقوياء على الموقف، وحاجة الضعفاء إليهم فيما يملكونه من مال وجاه وسلطة، لا تمثل أي مبرر شرعي للانحراف عن الخط، ثم تبين لهم أن الأساليب التي يتبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشدة، ليشعروا بالأمن من خلال هذه العلاقة، هي أساليب تضليلية لا تثبت أمام الواقع الذي يفرض نفسه، وهو أن هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم، فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب الله!؟

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى أنه سينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كل تبعة أو مسئولية من كل هؤلاء عندما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدنيا قبل الآخرة، ليبدؤوا ـ هنا ـ بالبراءة من هؤلاء المتبوعين، فلا ينفذون مخططاتهم الشريرة التي لا ترضي الله، ولا يطيعونهم في معصية الله، ليتفادوا الموقف الخاسر هناك، وليحصلوا على ما يتمنونه من العودة إلى الدنيا ليعلنوا البراءة كرد فعل لبراءة هؤلاء منهم.

قال آخر: وبذلك فإن الآيات الكريمة التي تتحدث عن خيبة الضعفاء في الآخرة لا تتحدث عن القضية كقصة للإثارة، بل كأسلوب من الأساليب الوقائية التي توجه الإنسان كي يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك، فيكون أكثر وعيا للواقع وللمصير، وبهذا يتحول القرآن إلى كتاب يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي التي لا تعيش في إطاره المحدود، بل تعيش في نطاق الحياة كلها، والله العالم بأسرار آياته.

المشهد الثاني:

القرآن والوعيد والإنذار (173)

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر: 46 ـ 52]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة عرض لأهل النار جميعا، وما يقع بين التابعين والمتبوعين، من ملاحاة، ومخاصمة.

قال آخر: وقد وردت بعد قصة مؤمن آل فرعون، وما ذكره الله تعالى فيها في نهاية كلامه من دعوتهم إلى التفكر في القيامة وعذاب جهنم، ولذلك جاءت هذه الآيات الكريمة لتصف بشكل رائع دقيق تحاجج وتخاصم أهل النار فيما بينهم، وبالذات تحاجج المستضعفين مع المستكبرين.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا.. ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾ أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولولا أنتم لكنا مؤمنين.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1244)، وتفسير المراغي (24/ 78)، ومن وحي القرآن: (20/ 53)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (15/ 277)، والتفسير المنير (24/ 136)، ومنية الطالبين: 24/ 267.

القرآن والوعيد والإنذار (174)

قال آخر: والمراد من ﴿الضُّعَفَاءُ﴾ هنا هم أولئك الذين يفتقدون العلم الكافي والاستقلال الفكري، إذ كان هؤلاء يتبعون زعماء الكفر الذي يطلق عليهم الله تعالى اسم المستكبرين، وكانت التبعية مجرد انقياد أعمى بلا تفكير أو وعي.

قال آخر: وقد ربط الله تعالى بين الضعف والتبعية هنا، لكون تبعيتهم كانت سببا في تقوية مراكز المستكبرين التي يظلمون الناس من خلالها، فقد كان هؤلاء الضعفاء هم القوة الغاشمة التي يسيطر بها الأقوياء على الضعفاء الآخرين، ولولاهم لكان الضعفاء أقوى من المستكبرين، لأن المستكبرين لا يمثلون عددا كبيرا في الأمة، ولا قوة هائلة فيها، لأن قوتهم مستمدة من قوة المستضعفين كما أن كثرتهم العددية ناتجة عن كثرة أتباعهم.. ولهذا كان الضعفاء يحملون كل أوزارهم التي استحقوا بها دخول النار، لأنهم يملكون فكرا يمكنهم من معرفة الحقيقة، ويملكون إرادة تمكنهم من رفض الأوامر والنواهي الظالمة الطاغية، ومواقع للقوة يستطيعون أن يبتعدوا بها عن مواقع الضعف.. فكانت مسئوليتهم في انحرافهم عن الخط المستقيم كاملة.

قال آخر: وذكر الله تعالى للاستغاثة هناك نوع من السخرية والاستهزاء واللوم، ذلك أنه في ذلك اليوم يثبت أن كل ادعاءات المستكبرين مجرد تقولات زائفة عارية عن المضمون والحقيقة.. بالإضافة إلى ذلك، فإن مقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن المستكبرين لم يسكتوا على هذا، بل ذكروا جوابا يدل على ضعفهم الكامل وذلتهم في ذلك الموقف المهول، إذ يحكي الله تعالى على لسان قولهم: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا﴾، أي لو كان بقدرتنا حل مشاكلكم فالأحرى بنا والأجدر أن نحل مشاكلنا وما حل بنا، ولكنا لا نستطيع أن نمنع العذاب عن أنفسنا ولا

القرآن والوعيد والإنذار (175)

عنكم، ولا أن نتحمل عنكم جزءا من العقاب.. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ بفصل قضائه، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، وكل منا كافر، وكل منا يستحق العقاب، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.

قال آخر: وقد ورد هذا المعنى بصيغة أخرى في قوله تعالى في سورة إبراهيم، حيث قالوا جوابا على هذا: ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: 21]، والمقصود بالهداية هنا الهداية الى طريق الخلاص من العذاب.. وبذلك فإن هذين الجوابين لا يتعارضان فيما بينهما، بل يكمل أحدهما الآخر.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه لما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى أن الخزنة ردوا عليهم موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب، فقال: ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي وكنتم ممن قامت عليه الحجة بالبلاغ، فلم تكن هناك أية موانع تمنعكم عن الإيمان، لا من الناحية الداخلية في مضمون الرسالة، ولا من الناحية الخارجية في الرسول الذي حملها، وفي الجو الذي عاشته الدعوة في الأسلوب والحركة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم أجابوهم بقولهم: ﴿بَلَى﴾ أي أتونا فكذبناهم، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة، والبراهين الساطعة، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم.

القرآن والوعيد والإنذار (176)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الملائكة عليهم السلام أجابوهم بقولهم: ﴿فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ أي قالوا لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم.

قال آخر: وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فيأكلون لا يغنى عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ فيجيبونهم: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾)(1)

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى تحاجج أهل النار وعجزهم عن أن ينصر أحدهم الآخر، وبعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون وحماية الله له من كيد فرعون وآل فرعون، ذكر الله تعالى شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء الله ورسله وللذين آمنوا، في هذه الدنيا وفي الآخرة.

قال آخر: وهي تتحدث عن قانون عام ينطق بمضمونه قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، وهي الحماية المؤكدة بأنواع

__________

(1) الترمذي (2586)

القرآن والوعيد والإنذار (177)

التأكيد، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط، والتي يستتبعها الفوز والنصر، النصر في المنطق والبيان، وفي الحرب والميدان، وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشد الأرواح ويجذبها إلى بارئها جل وعلا.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ أي يوم القيامة، حيث يقوم على الناس من يؤدى شهادته عليهم، من رسل الله، ومن جوارحهم التي تقوم شاهدة عليهم.. والتعبير بهذا يشير إلى معنى لطيف، ذلك أن (يوم الأشهاد) هو اليوم الذي تبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالى، وتنكشف السرائر والأسرار لكافة الخلائق، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار أروع ما يكون... إنه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في كرامتهم.

قال آخر: ثم عرّف الله تعالى ذلك اليوم الذي يقوم فيه الأشهاد بأمور ثلاثة.. أولها أنه ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ فلو اعتذروا من كفرهم فلا يقبل منهم، وإن تابوا لن تنفعهم التوبة، وهذا من خصائص يوم القيامة، فإن المعذرة والتوبة تقبل في الحياة الدنيا، لأنها دار العمل خلافا ليوم القيامة، فإنه يوم الجزاء.. وثانيها، أن ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾: أي الابتعاد عن رحمة الله تعالى.. وأي ابتعاد أوضح من عدم قبول المعذرة والتوبة.. وثالثها أن ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ وهي دار جهنم.

المشهد الثالث:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1301)، وتفسير المراغي (24/ 118)، ومن وحي القرآن: (20/ 107)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (15/ 379)، والتفسير المنير (24/ 208)، ومفاتيح الغيب (27/ 555)، وتفسير ابن كثير: (7/ 170)، ومنية الطالبين: 24/ 366.

القرآن والوعيد والإنذار (178)

يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ [فصلت: 19 ـ 29]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هذه الآية الكريمة بعد أن بين الله تعالى كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا، وكيف أذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون، وقد أردف ذلك في هذه الآيات الكريمة بذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم للزجر، وأكثر في الاعتبار لمن اعتبر.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ﴾ أي واذكر أيها الرسول للمعاندين حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعون ويزدجرون حين يساقون إلى النار، ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾: أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرقوا.. وفي هذا إيماء إلى كثرة عددهم وشدة سوقهم ودفعهم.

قال آخر: وسُمى الكافرون والمشركون أعداء الله، لأنهم حرب على الله بحربهم أولياءه، ورسله، والحق الذي جاءوهم به.. وفي وصفهم بالأعداء تهديد لهم ووعيد من الله

القرآن والوعيد والإنذار (179)

سبحانه الذي يقف منه هؤلاء موقف الأعداء المحاربين.. فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وسيرون ما يطلع عليهم من هذه الحرب، من خزى وهوان، وما ينتهي إليه أمرهم من هلاك ودمار، ثم من عذاب أليم في جهنم خالدين فيها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا﴾، و﴿حَتَّى﴾ تعني غاية ما يحشر إليه أعداء الله، وهي النار.. أي أنهم يساقون هذا السوق العنيف إلى النار، حتى إذا ما جاءوها، وبلغوا مشارفها، نصبت لهم موازين الحساب، وعرضت عليهم أعمالهم في كتاب يلقاه كل واحد منهم منشورا..

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه حينها قام من كيان كل منهم شهود يشهدون عليه بما كان منه من منكر وضلال، فقال: ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، أي حتى إذا جاءوا النار التي سيقوا إليها شهد على جرائمهم أشياء ثلاثة.. أولها ﴿سَمْعُهُمْ﴾ وهو يشهد بما سمع من آيات الله، فلم يجد لها عند صاحبه مجيبا، وما سمع من منكر القول وضلال الحديث، فوجد السامع المستجيب.

قال آخر: وثانيها ﴿وَأَبْصَارُهُمْ﴾ وهو يشهد بما رأى من آيات الله الكونية، فلم يجد عند صاحبه الوعاء السليم الذي يحفظ فيه ما رأى، بل إنه كان يرى ما يرى، فيلقى بما رأى في إناء مخروق لا يمسك شيئا، ولا يحتفظ بشيء.. على حين كان هذا البصر إذا علق بشيء من الباطل، وجد من صاحبه المشاعر التي تجسد هذا الباطل، وتقيمه تمثالا يعبده من دون الله.

قال آخر: وثالثها ﴿وَجُلُودُهُمْ﴾ [فصلت: 20]، وهو هذا الثوب الذي يكسو الإنسان، ويحوى كيانه كله، وهو موضع الإحساس فيه، ويمثل حاسة اللمس، إلى جوانب الحواس الأخرى، من السمع، والبصر، والذوق، والشم، التي يحويها كلها الوعاء الجلدي.

القرآن والوعيد والإنذار (180)

قال آخر: وقد فسر بعض العلماء (الجلد) بالفرج، وهو تأويل بعيد، لا تساعد عليه اللغة، وإن كانت الفروج من الجوارح التي تهدد الناس بأقدح الأخطار وأشنعها.. فكان حمل الجلود عليها منظورا فيه إلى إقامة أفصح الشهود وأكثرهم دلالة على جرم المجرمين.

قال آخر: وفسر بعض العلماء المحدثين (الجلد) ببصمات الأصابع، حيث لكل إنسان بصمة أصابعه التي لا يشاركه فيها إنسان غيره، وهذا التأويل محمول فيه الجلد على أنه الذي يكشف عن شخصية الإنسان، وينادى عليه أن هذا هو فلان المجرم فخذوه.

قال آخر: وهذا المعنى أيضا غير وارد فيما سيقت الآية الكريمة له، وهو أن الله تعالى أقام على الكافرين والمشركين والضلال شهودا عليهم من الجوارح التي كانت في الدنيا من القوى المسخرة لهم، والتي كانت نعما من نعم الله الجليلة عندهم، لو أنهم أحسنوا الانتفاع بها.. ولكنهم وجهوها غير وجهتها التي خلقها الله لها.. وكان ذلك عدوانا على هذه الجوارح ذاتها، بتكليفها ما لو كانت لها إرادة لأبت أن تفعله، فلما جاء يوم الحساب، ولم يكن للإنسان سلطان عليها في هذا اليوم، لأن إرادته قد تعطلت تمثلت هذه الجوارح شخوصا، تقف من صاحبها موقف الخصومة، وتنطق بما ارتكب بها صاحبها من منكرات، ليقتص لها الله سبحانه من صاحبها، المعتدى عليها.

قال آخر: وبذلك، فإن الجلود هنا هي الثوب الذي يكسو الكيان الإنساني كله، ويحوى في داخله هذا الهيكل البشرى، وما حوى من مشاعر، وأحاسيس ووجدانات.. فشهادة الجلد، شهادة شاملة لكل ما شهدت به هذه الجوارح من الألسنة، والأيدي، والأرجل، تستدرك ما فات هذه الجوارح أن تشهد عليه، مما لم يكن داخلا في نطاق وظيفتها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم يلومون جوارحهم على أداء الشهادة التي تلزمهم الحجة، فقال: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ أي وقالوا على جهة اللوم والمؤاخذة

القرآن والوعيد والإنذار (181)

لجلودهم حين شهدوا عليهم، لم شهدتم علينا؟ وقد كانوا في الدنيا مساعدين لهم على المعاصي، فكيف يشهدون عليهم الآن؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم أجابوا حينئذ معتذرين: ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي قالوا: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق، بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح.

قال آخر: وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك ذات يوم وتبسم، ثم قال: (ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت؟) قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: (عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال: بلى فيقول: فإني لا أقبل علي شاهدا إلا من نفسي، فيقول الله تبارك وتعالى: أو ليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين!؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارا). قال: (فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بعدا لكن وسحقا، عنكن كنت أجادل)(1)

قال آخر: وهذا يشير إلى أن أعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها، لأنها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

قال آخر: وشهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان قد تكون بسبب أن الله تعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور، وبالتالي القدرة على الكلام.. ذلك أنه لا يوجد مانع من أن يخلق الله تعالى الإدراك والشعور في الأعضاء، فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة، خصوصا وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى.

__________

(1) رواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم (18)

القرآن والوعيد والإنذار (182)

قال آخر: أو أن آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم ـ يوم البروز ـ لأنها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان.. ذلك أن أي كائن في هذا العالم لا يفنى من الوجود، فآثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا، ومن الطبيعي أن تعتبر (الشهادة التكوينية) هذه من أوضح الشهادات وأجلاها، إذ لا مجال لإنكارها، كما في اصفرار الوجه ـ الذي يعتبر عادة دليلاـ على الخوف لا يمكن إنكاره، واحمراره دليل على الغضب أو الخجل.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى أن الجلود قد أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.. فكل شيء ناطق لله سبحانه وتعالى، كما أن كل شيء مسبح بحمده، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44] وهو يشمل النطق المعروف، والذي لا نعرف كنهه، ويشمل إفصاح الموجود عن وجوده، والإبانة عن ولائه لخالقه، بأية صورة من الصور، ومن هذه الصور انتظام الموجود في نظام الوجود، وجريانه على ما أقيم عليه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يجوز أن يكون من قول الله تعالى لهم، تعقيبا على مقول الجلود لهم، وتقريرا لهذا القول.. ويجوز أن يكون من مقول الجلود، ويكون ذلك من شهادتها على أصحابها، الذين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، بل غفلوا عنها، فلم يؤمنوا بأن لهم خالقا واحدا هو الذي خلقهم، وخلق كل شيء.. إذ لو عرفوا هذه الحقيقة، لآمنوا بالله وحده، ولما عبدوا هذه الآلهة التي عبدوها من دونه، ولما صاروا إلى هذا المصير المشئوم الذي ألقى بهم في جهنم.

قال آخر: والمراد بالخلق أول مرة، هو الخلق الذي كان عليه الإنسان، قبل الموت، وهو ميلاده في الحياة الدنيا.. وفي هذه إشارة إلى خلق آخر، وهو البعث.. فالبعث، وهو نشر الموتى من القبور، هو خلق جديد، كما يبدو للأنظار وخاصة أنظار الذين ينكرون البعث، ويظنون أن الموت هو رحلة في محيط الفناء الأبدي، ولهذا كانوا يقولون في أسلوب

القرآن والوعيد والإنذار (183)

إنكاري ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [الرعد: 5]

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازى كل نفس بما كسبت، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.. وفي ذلك إشارة إلى هذا الخلق الآخر، وهو البعث بعد الموت.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن جلودهم وبختهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا فقالت لهم: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ أي وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش بالحيطان والحجب حذرا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى سبب جرأتهم على المعاصي، فقال: ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي، ولكن ظننتم عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون من المعاصي فاجترأتم على فعلها.

قال آخر: وفي ذلك إشارة إلى سوء ظنهم بالله، وأنهم كانوا يظنون أن الله سبحانه لو كان يعلم ما يعملون في جهر، فإنه لا يعلم ما يسرون من أقوال، وأعمال.. ولهذا استتروا وهم يأتون المنكرات من أعمالهم وأقوالهم، ظنا منهم بأن الله سبحانه لا يرى ولا يسمع ما كان منهم في خفاء وستر، ولهذا أراهم الله سبحانه كذب هذا الظن وبطلانه، فأنطق جلودهم التي لا يبدو منها أي عمل، فكانت ألسنة فصيحة، تنطق بكل ما كان منهم من مشاعر وأحاسيس، وخلجات.

قال آخر: فإنطاق الجلود هنا، هو في مواجهة هؤلاء الذين يظنون بالله تعالى هذا الظن، الذي يقوم عندهم بأن الله يعلم جهرهم ولا يعلم سرهم، وهذا ما يشير إليه قوله

القرآن والوعيد والإنذار (184)

تعالى في موضع آخر: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: 13].. ولهذا لم يجر ذكر للألسنة هنا، وهي من الجوارح التي تشهد على أصحابها، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24]، إذ كانوا ـ حسب ظنهم هذا ـ يظنون أن الله يعلم ما ينطقون به.. وهو ظن لا يبلغ مرتبة اليقين عندهم.

قال آخر: ويجوز أن يكون المعنى، وما كنتم لتستتروا لو أنكم علمتم أن معكم شهودا يشهدون عليكم، وهي أقرب شيء إليكم، بحيث لا يفوتها همسة خاطر، أو قشعريرة جلد، أو ذوق لسان، أو حركة يد، أو رجل.. ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، فلذلك اجتراؤكم على اقتراف المنكرات سرا، وما دريتم أن لله جنودا قائمين عليكم يسكنون بين العظم والجلد منكم.

قال آخر: وفي الآية أيضا إيماء إلى أنه لا ينبغي للمؤمن أن تمر عليه حال إلا وهو يفكر في أن الله رقيب عليه، وقد ورد في الحديث عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان، أو ثقفي وقرشيان، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمع كله، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أي وهذا الظن الفاسد الذي قد كان منكم في الدنيا وهو أن الله لا يعلم كثيرا من قبائح أعمالكم ومساويها هو الذي أوقعكم في مواقع التلف والردى، فصرتم اليوم من الهالكين، إذ صرفتم ما منحتم من أسباب السعادة إلى الشقاء، فكفرتم نعم الخالق

القرآن والوعيد والإنذار (185)

والرازق، وانهمكتم في الشهوات والمعاصي، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال الله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23](1)

قال آخر: وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى أن الظن قسمان.. حسن وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، كما قال تعالى حكاية عن بعض الناجين في القيامة: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 20]، وقال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 46]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن الله عز وجل (أنا عند ظن عبدي بي)(2).. وقبيح وهو أن يظن أن الله يعزب عن علمه بعض الأفعال.

قال آخر: ثم أخبر الله تعالى عن حالهم فقال: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾، أي فإن يصبر هؤلاء المشركون على هذا البلاء الذي هم فيه من ظنهم بالله هذا الظن السيء، فالنار هي موعدهم، وهي مأواهم الذي يأوون إليه.. وإن يطلبوا العتبى في طلب الصفح وإصلاح ما أفسدوا، فلن يعتبوا، ولن يقبل منهم تصحيح معتقدهم، بعد أن فات الوقت، وأفلتت الفرصة من أيديهم وهم في الدنيا. أما اليوم ـ يوم الحساب ـ فلا يقبل عمل، ولا تنفع معذرة، كما قال تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7]، وقال حكاية عنهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: 21]

قال آخر: ولما ذكر الله تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على الكفر والمعاصي

__________

(1) مسلم (2877)، أمالي الطوسي 1/ 389.

(2) رواه ابن حبان (1 ـ 3) (1/ 180) (633)

القرآن والوعيد والإنذار (186)

أردف ذلك بذكر السبب الذي من أجله وقعوا في الكفر، فقال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي وسلطنا عليهم إخوانا وأعوانا من شياطين الجن والإنس، فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وما خلفهم من أمر الآخرة، فألقوا إليهم أن لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، فسهل عليهم فعل ما يشهون، وركوب كل ما يتلذذون به من الفواحش.

قال آخر: ومعنى تقييض القرناء من الشياطين خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: 36]

قال آخر: وفي هذا إشارة إلى أن أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهؤلاء المنحرفين من كل مكان، حيث يصادرون أفكارهم، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل، وبذلك انتهوا إلى الوقوع في مستنقع الفساد الذي تغلق بوجهه أبواب النجاة.

قال آخر: ذلك أن سنة الله تعالى جرت على رعاية المؤمنين الصادقين وإمدادهم بالألطاف الإلهية لتثبيت الإيمان في قلوبهم، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22]، كما جرت سنته في حق المجرمين بعد أن تظهر سوء سريرتهم، بتهيئة قرناء سوء لهم يزينون لهم طريق الضلال وارتكاب قبائح الأعمال.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هؤلاء ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ أي فاستقر عليهم العذاب الذي جعله الله للكافرين والمتمردين والمعاندين في إرادته الحاسمة التي تجمع الناس ضمن أمم يجمعها الفكر الكافر، والعمل

القرآن والوعيد والإنذار (187)

الشرير من الماضين والحاضرين، فكما ثبتت كلمة العذاب على السابقين الذين التزموا خط الانحراف، فكذلك هم اللاحقون الذين يتصلون بهم.

قال آخر: ثم علل الله تعالى استحقاقهم للعذاب فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ لأنهم أخذوا بأسباب الخسارة، ولم يأخذوا بأسباب الربح من الإيمان والعمل الصالح.. ولذلك استووا جميعا في الخسار والدمار، واستحقوا اللعن والخزي في الحياة الدنيا والآخرة.

قال آخر: ثم حكى الله تعالى عنهم جناية أخرى، وهى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن أعملوا الحيلة في عدم إسماع الناس له حتى لا يتدبروا معناه، فتشاغلوا حين قراءته برفع الأصوات وإنشاء الأشعار حتى يهوشوا على القارئ ويغلبوا على قراءته، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾، أي أن هؤلاء الضالين من المشركين، وقد اجتمع بعضهم إلى بعض، وتلاقوا على طريق الضلال ـ تشكل منهم هذا الكيد الذي أجمعوا أمرهم عليه، ليكيدوا به للنبي الكريم، وللقرآن الذي يتلوه عليهم، وهو أن يشوشوا على النبي وهو يتلو القرآن، ويكثروا من اللفظ، واللغط، حتى لا تنفذ كلماته إلى الآذان، ولا تصل إليها إلا مختلطة مضطربة.. وقد ظنوا أنهم بهذا العبث الصبياني يسدون منافذ الضوء من تلك الشمس الساطعة إذا هم مدوا أيديهم إليها، وحجبوها عن عيونهم.

قال آخر: وهكذا كانوا يواجهون الدعوة بالأساليب الضاغطة المتعسفة، لأنهم عاجزون عن مواجهة التحديات الفكرية التي يطرحها أمام المستمعين إليه، فيما يطرحه من أفكار، وفيما يحركه من قضايا ومفاهيم وشرائع في الحياة العامة والخاصة للناس.. ذلك أن العاجزين عن مواجهة المنطق بمثله، يلجؤون إلى استعمال القوة الغاشمة، أو إثارة الضوضاء حول العاملين في سبيل الله والداعين إلى دينه.

قال آخر: ولما كان هؤلاء يفتقرون إلى الحجة على مواقفهم وأفكارهم، وكانت الحجة

القرآن والوعيد والإنذار (188)

لله عليهم، فإن الله يهددهم بالعذاب الذي يستحقونه جزاء على ذلك، كما قال تعالى: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي فلنذيقن الكافرين عذابا لا يحاط بوصفه، ولنجازينهم بأسوإ أعمالهم، لأن أعمالهم الحسنة كصلة الأرحام وإكرام الضيف قد أحبطها الكفر، ولم يبق لهم إلا القبيح، ومن ثم لم يجازوا إلا على السيئات.. وفي هذا تعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن، وتهديد ووعيد لمن يصدر منه حين سماع القرآن ما يهوش على القارئ ويخلط عليه في القراءة.

قال آخر: ثم بين الله تعالى العذاب الشديد الذي يحيق بهم فقال: ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ﴾ أي ذلك الجزاء المعد لأعداء الله هو النار.. ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾ أي إنهم مخلدون فيها أبدا، لا انقطاع لعذابها، ولا انتقال منها.

قال آخر: ولا إشكال أن يقال إن النار في نفسها دار الخلد نظير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة، ذلك أن اتخاذ الدار من النار على قسمين: تارة تكون دارا مؤقتة، وأخرى دارا دائمة، فالمتكلم ينتزع من طول اللبث فيها عنوان دار الخلد.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذا جزاء لما عملوا فقال: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ أي هي جزاء لهم على جحودهم بآياتنا، واستكبارهم عن سماعها.

قال آخر: ثم بين الله تعالى أنهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن أضلوهم من شياطين الإنس والجن فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ أي وقال الكافرون وهم يتقلبون في العذاب: ربنا أرنا شياطين الإنس والجن الذين أوقعونا في الضلال ندسهم تحت أقدامنا انتقاما منهم ومهانة لهم، ذلك أن الشياطين على ضربين: جني وإنسي، كما قال تعالى:

القرآن والوعيد والإنذار (189)

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112] وقال: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس: 5 ـ 6]

المشهد الرابع:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ [ص: 55 ـ 64]

قال أحد الوعاظ: بعد أن وصف الله تعالى في آيات كريمة سابقة ثواب المتقين، أردفه في هذه الآيات الكريمة بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متمما له، فيأتي الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين رجاء في الثواب وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها.

قال آخر: وقد بدأت الآيات الكريمة بقوله تعالى: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة.. وفي قوله تعالى: ﴿هَذَا﴾ إشارة إلى المؤمنين وأحوالهم في الجنة، أي هذا شأن.. وشأن آخر، هو شأن الطاغين، من رؤوس أهل الكفر والشرك والضلال.. فهؤلاء لهم شر مآب، وسوء

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1104)، وتفسير المراغي (23/ 131)، ومن وحي القرآن: (19/ 278)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (14/ 539)، والتفسير المنير (17/ 206)، ومفاتيح الغيب (26/ 403)، ومنية الطالبين: 23/ 367.

القرآن والوعيد والإنذار (190)

منقلب، هو هذا العذاب الذي يلقونه في جهنم، التي هي المهاد الذي يجدون فيه متكأهم وراحتهم.. إن لهم في دارهم هذه مهادا ومتكأ، كما للمتقين في دارهم مهادا ومتكأ، وشتان بين مهاد ومهاد.

قال آخر: ثم فسر ذلك بقوله: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي هم يدخلون جهنم ويقاسون شديد حرها، فبئست فراشا هي، كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: 41]

قال آخر: ثم أمرهم الله تعالى أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب، فقال: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ أي العذاب هذا، فليذوقوه، ثم فصل أنواعه، وبين ألوانه، فقال: ﴿حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ أي لهم فيها ماء حار يشوي الوجوه، وماء بارد لا يستطاع شربه لبرودته.. قال بعض الصالحين: (الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة)

 قال آخر: وهذا مقابل لقوله تعالى في المؤمنين: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾، فأهل الجنة يطلبون ما يشتهون، فيجدونه حاضرا.. أما أهل النار، فإنهم لا يطلبون شيئا.. وماذا يطلبون من النار، إلا النار؟.. ومع هذا، فإنهم لا بد أن يطعموا من ثمر جهنم، ويسقوا من شرابها، كما طعم أهل الجنة من فاكهة الجنة، وشربوا من شرابها.. وإنه إذ لم يطلب أصحاب النار طعاما ولا شرابا، فهذا طعام وشراب حاضر بين أيديهم.. هذا حميم وغساق. فليذوقوه.

قال آخر: ثم زاد الله تعالى في التهديد، وبالغ في الوعيد، فقال: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ أي ليس هذا العذاب في الحميم والغساق هو كل شيء مما يعانيه أهل النار، بل

القرآن والوعيد والإنذار (191)

هناك أشكال أخرى، وألوان متنوعة، متماثلة في نتائجها الشديدة القاسية، كالزقوم والسموم وغيرها.

قال آخر: أو أن المعنى: وإذا كان لأهل الجنة حور عين ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ [ص: 52] فإن لأهل النار كذلك أزواجا من شكل هذا الحميم والغساق ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ أي وعندهم إلى جانب هذا الطعام والشراب، من الحميم والغساق، أزواج مشكلة على شاكلة هذا الحميم والغساق.

قال آخر: وبعد أن وصف الله تعالى مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض، فقال: ﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ أي هم يتلاعنون ويتكاذبون، فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم.. أي: إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم.

قال آخر: وهذا مقابل لما ذكره الله تعالى في أهل الجنة الذين تدخل عليهم الملائكة من كل باب، يؤنسونهم، ويحيونهم قائلين ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الزمر: 73]، بينما هؤلاء الطاغين، يرد عليهم بين حين وحين، من يصب عليهم اللعنات، من أتباعهم وأشياعهم.. فإذا أخذوا أماكنهم من جهنم، دفع إليهم ﴿فَوْجٌ﴾ أي فريق من أتباعهم، ﴿مُقْتَحِمٌ﴾ أي يقتحم عليهم مكانهم الضيق الذي هم فيه، ليأخذ له مكانا.. فيلقاهم الذين سبقوهم قائلين: ﴿لا مرحبا بهم، إنهم صالوا النار﴾.. ويجيئهم رد التحية من أتباعهم: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾ أي أنتم الذين دفعتم بنا إلى هذا المصير المشئوم.. ﴿فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ الذي استقر بنا وبكم.

القرآن والوعيد والإنذار (192)

قال آخر: ثم علل الله تعالى استيجاب الدعاء عليهم بقوله: ﴿إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ﴾ أي إنهم ذائقو حر النار مثلكم.. وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر.

قال آخر: وحينئذ يرد عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ أي قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء: بل أنتم أحق منا بما قلتم ﴿لَا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير، وبئس النار المنزل والمستقر.. وهذا كلام يراد به التشفي منهم، لأنه مشترك بينهم، كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: 38]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مقالة أخرى للأتباع ذما لهم أيضا فقال: ﴿قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾ أي قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال: ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب، عذابا مضاعفا في النار، عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)(1)، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾ [الأعراف: 38]، وقال: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 67 ـ 68]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن أهل النار، كمجتمع موحد في الدنيا في شعاراته وعناوينه وتحدياته، يتساءلون عن المؤمنين الذين كانوا معهم هناك، عندما كانت الكلمات القاسية الساخرة العدوانية تنطلق من أفواههم، لترميهم بكل تهمة الشر والإضلال

__________

(1) مسلم (1017)

القرآن والوعيد والإنذار (193)

والانحراف، لأنهم خالفوا عقائد الآباء والأجداد، وتمردوا على أصنام مجتمعهم القبلي أو الطبقي الذي كان يعبدهم من دون الله.

قال آخر: وقد حكى الله تعالى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ﴾ أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار: ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم فقالوا: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ أي ألأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا؟.. وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.

قال آخر: ثم بين الله تعالى أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ أي إن هذا الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضا، حق لا مرية فيه.

المشهد الخامس:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 972)، ومن وحي القرآن: (19/ 186)، وتفسير المراغي (23/ 49)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (14/ 211)، ومنية الطالبين: 23/ 170.

القرآن والوعيد والإنذار (194)

قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: 20 ـ 36]

قال أحد الوعاظ: لقد وردت هذه الآيات الكريمة بعد أن ذكر الله تعالى فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه، وأردف هذا ببيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرطوا في جنب الله، ولات ساعة مندم.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب: لنا الويل والهلاك فقد حل ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على ألسنة الرسل، فكذبناهم وسخرنا منهم، وأنكرنا صدق ما قالوا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن بعضهم أقبل على بعض يتناجون ويقولون: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي هذا هو اليوم الذي يمتاز فيه المحسن بما قدم من عمل عن المسيء الذي دسى نفسه بما ران على قلبه من الفسوق والعصيان، ومحالفة أوامر الملك الديان، وينال كل منهما جزاء ما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيدخل الأول جنات النعيم على فرش بطائنها من إستبرق، ويدخل الثاني في سقر ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ [المدثر: 27 ـ 28]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى خطاب الملائكة بعضهم لبعض فقال: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي تقول الملائكة للزبانية: احشروا

القرآن والوعيد والإنذار (195)

الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب مع أشباههم وأمثالهم، فاجعلوا ذوي المعاصي المتشابهة، بعضهم مع بعض، فاجعلوا الزناة معا، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك، واجعلوا عابدي الأصنام ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معا، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك وكبير المعصية.

قال آخر: ثم زادوا في تأنيبهم وتوبيخهم فقالوا: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ أي فأرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها، وفي هذا زيادة في النكاية بهم والازدراء بشأنهم، إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم.

قال آخر: وفي ذلك أيضا إشارة إلى أنهم وقد أبوا أن يقبلوا الهدى إلى الحق، والخير، في الدنيا، فإنهم سيقبلون الهدى في الآخرة، ولكنه الهدى إلى عذاب الجحيم.. حيث يسوقهم الملائكة سوقا إلى هذا المورد الوبيل.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾، أي احبسوهم هناك على طريق الجحيم، قبل أن تفتح لهم أبواب جهنم، ويلقوا فيها.. إذ لا بد قبل ذلك أن يحاسبوا، وأن يسألوا عما أجرموا.. وهو حساب عسير.. لا يقل هولا عن عذاب الجحيم.. وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس: عن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم كسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)(1)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يسأل عنه هؤلاء الظالمون يومئذ، إذلالا لهم، واستهزاء بهم، ومنها هذا السؤال: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ﴾ أي ما بالكم هكذا مستسلمين، لا ينصر

__________

(1) الترمذي (2416)

القرآن والوعيد والإنذار (196)

بعضكم بعضا، ولا يستنصر بعضكم ببعض؟ أين آلهتكم الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ أين شفاعة الشافعين منهم؟

قال آخر: ثم يذكر الله تعالى أن الظالمين لا يجدون جوابا.. ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ أي، بل هم منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى كيف أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، ليحددوا المسؤولية عن الموقف المنحرف في خط الكفر والضلال، من أجل تحديد النتائج المترتبة على ذلك، عبر تخاصم الأتباع والمتبوعين ليحمل الأتباع المسؤولية للمتبوعين في إضلالهم ليكون في ذلك بعض العذر لهم، أو بعض التخفيف عنهم، فقال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ أي وأقبل التابعون من الكفار، ورؤساؤهم المضلون لهم، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف على طريق الجدل والخصومة، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار، فألقى الأتباع مسئولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال، ورد الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء في الآية بعد.

قال آخر: ثم فصل الله تعالى طريق التساؤل وكيف يحدث فقال: ﴿قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ أي قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر: إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير وتصدوننا عن سلوك طريقه، وترغبوننا فيما تدينون به وتعتقدونه، ومن ثم أضللتمونا وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة.

قال آخر: أو أنكم كنتم تأتوننا من الجهة التي تجتذب نفوسنا فيما تحبه وترغبه، لما في اليمين من معنى الخير والسعادة، كما قيل، باعتبار أن اليد اليمنى هي التي يتناول فيها

القرآن والوعيد والإنذار (197)

الإنسان كل ما يشتهيه ويريده، وذلك على سبيل الإغراء..

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الرؤساء ردوا عليهم وأجابوهم بمجموعة أجوبة، أولها ﴿قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ أي فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم قالوا: إننا ما أضللناكم، بل أنتم كنتم بطبيعة أنفسكم مستعدين للكفر بما دسيتم به أنفسكم من أفعال الشرك والمعاصي، إذ كنتم تشركون بالله سواه من الأوثان والأصنام، وترتكبون أنواع الفجور والآثام ما كان سببا في الطبع على الأفئدة والقلوب حتى لم تعرفوا للحق سبيلا، ولا للخير طريقا.

قال آخر: أو أنكم لم تكونوا مؤمنين في أعماقكم، فلم يدخل الإيمان في قلوبكم من خلال ابتعادكم عن فكره ونهجه، فالتقى طريقكم بطريقنا، ونهجكم بنهجنا، من دون أن تكون هناك أية تبعية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل كان هناك لقاء في الفكر والموقف.

قال آخر: وأما الجواب الثاني، فقولهم مدافعين عن أنفسهم: ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم، لم نجبركم عليه ولم نسلبكم اختياركم، فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون، مسرورة مما تأتون وما تذرون، مائلة إلى الكفر والعصيان، تواقة للسير على سننه واتباع طريقته، فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا، وزينه الشيطان لنا، ووسوس به إلينا، فلبيتم دعوتنا سراعا، وسرتم فيما نحن فيه سائرون، إذ كنتم لذلك مستعدين، ولمثله محبين، فما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة باختياركم، لا جبرا لكم.

قال آخر: وهم يعنون بذلك أنهم لا يملكون الضغط على أفكارهم، لأن الجانب العقلي من شخصية الإنسان لا يقع تحت ضغط القوة الخارجية، لأنه ليس حالة مادية تخضع لضغط مادي، بل هو حالة تتحرك في المعنى، وفي الوعي الداخلي المنفتح على الآفاق الرحبة

القرآن والوعيد والإنذار (198)

من شخصية الإنسان في وجوده الروحي والعقلي.

قال آخر: وأما الجواب الثالث، فقولهم مدافعين عن أنفسهم: ﴿بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ في التركيبة الداخلية لشخصيتكم، فيما يمثله الطغيان من استكبار على الحق، وتجاوز على الحدود المرسومة من قبل الله، فقد سمعتم دعوة الرسول كما سمعناها، ووعيتم الوحي الإلهي كما وعيناه، وكان لكم عقل كما لنا عقل، فجمدتم عقولكم وتمردتم على دعوة الله، فما الذي يجعلكم في موقف المنفعل، ويجعلنا في موقف الفاعل المضل؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم قالوا لهم مدافعين عن أنفسهم: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ﴾ أي ولأجل أنا بطبعنا كنا قوما طاغين، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين، وعن الإيمان بربنا معرضين، ثبت علينا وعيده بأنا ذائقو العذاب لا محالة، إذ كان من عدله أن يجازى كل نفس بما كسبت، ويثيبها بما عملت، وهو الخبير بها وبما اجترحت، وهذا جزاء لا محيص عنه، وهو نتيجة حتمية لما فعلنا باختيارنا، واقتضاه استعدادنا، فلا يلومن كل منا إلا نفسه، ولا يلم بعضنا بعضا، ولا داعى إلى الجدل والخصام وشد النكير، فلا يجنى من الشوك العنب، ولا يعقب الضلال إلا النار، عدلا من ربنا كما وعد بذلك على ألسنة رسله، وكنا بذلك عالمين، ولكنا كنا عن الخير معرضين، وعن اتباعه مستكبرين.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم قالوا لهم: ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبنا أن تكونوا مثلنا وهو غير ملزم لكم، وإنما أضركم سوء اختياركم، وقبح استعدادكم، وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب التي وعدتم به على ألسنة الرسل.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى اجتماعهم في الضلالة وسببه، فقال: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ أي فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة، كما

القرآن والوعيد والإنذار (199)

اشتركوا في الضلال والغواية، وإن كان المغوون أشد عذابا، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارا مثل أوزار من أضلوهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذا عدل منه على مقتضى سننه فقال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين، وفاقا لما تقتضيه الحكمة ويوجبه العدل بين العباد، فيعطى كل عامل جزاء ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

قال آخر: ثم فصل الله تعالى بعض ما استحقوا لأجله العذاب فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي إنهم كانوا إذا لقنوا كلمة التوحيد نفروا منها وأعرضوا عن قبولها، وصعروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته، فقال: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ أي أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلط ويهذى؟ فمثله لا يستمع لكلامه ولا يصغى إلى قوله.. وقد جمعوا في كلامهم بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة، فإنكار الأولى في استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾

المشهد السادس:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 394)، وزهرة التفاسير (6/ 2828)، وتفسير المراغي (8/ 145)، ومن وحي القرآن: (10/ 109)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (5/ 33)، ومفاتيح الغيب (14/ 234)

القرآن والوعيد والإنذار (200)

أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 36 ـ 41]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة ذكر للذين يعصون الرسل، ويكفرون بما جاءوا في مقابل الذين اهتدوا بهديهم.. وفيها إشارة إلى الرحلة الجديدة التي سيأخذون فيها طريقهم إلى جهنم.. فمنذ اللحظة التي تنتزع فيها أرواحهم، يدخلون في عالم جديد، ويأخذون مكانهم بين من سبقهم من الظالمين، من الجن والإنس.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي إن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة وتفضيلا لأنفسهم عليه، أو لقومهم على قومه فأولئك أصحاب النار يخلدون فيها أبدا.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى هنا وصفين لهما هما اللذان أديا بهم إلى عذاب الله تعالى.. أولهما أنهم كذبوا بآيات الله تعالى، مع قيام الأدلة على صدقها.. والثاني أنهم استكبروا عن آيات الله فحسبوا أن اتباع الرسل ينافي عزتهم، وينقص من كبريائهم، فأخذتهم العزة الواهمة بالإثم الحقيقي..

القرآن والوعيد والإنذار (201)

قال آخر: ولذلك لم يخضعوا للحقيقة الإلهية التي تمثلها آياته، كما هو شأن الكثيرين من الناس الذين يمتنعون عن الخضوع للحقائق الفكرية والعملية، لا لوجود شبهة تمنعهم من الرؤية الواضحة، بل لعقدة الكبرياء الذاتي الذي يمنع الإنسان من إجراء أية عملية تغييرية لأسلوبه في التفكير أو طريقته في العمل، أو لقناعاته المتوارثة، تماما ككل المستكبرين على أكثر من مستوى عندما يستسلمون للعقدة الاستعلائية المرضية المستحكمة فيهم، من أجل الحصول على امتيازات لا يستحقونها، أو الوصول إلى مواقع لا يملكونها، ولا حجة لهم فيما يحاولون، ولا عذر لهم فيما يستكبرون.

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها والإذعان لها ذكر أن من أشدهم ظلما من يتقولون على الله الكذب، فينسبون إليه ما لم يقله، فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله.. ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ المنزلة عليهم سواء أكان بالقول أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها أو الاستكبار عن اتباعها أو بتفضيل غيرها عليها بالعمل بها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى جزاءهم وعاقبتهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾، والمراد بالنصيب هنا ما قدر لهم من خير أو شر وسعادة أو شقاء، والمراد من الكتاب كتاب المقادير الذي كتب الله فيه نظام العالم كله، ومنها أعمال الاحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب والدواعي وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلى نحو ذلك.. والمعنى: إن هؤلاء المفترين يصيبهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال، فهم مع ظلمهم وافترائهم على الله لا يحرمون مما قدر لهم إلى

القرآن والوعيد والإنذار (202)

انقضاء آجالهم.

قال آخر: كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: 69 ـ 70]، وقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: 23 ـ 24]، وقوله: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: 20]، وقوله: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: 24]

قال آخر: وقد يراد بالكتاب في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ الكتاب الذي كُتب لهم في الآخرة من حساب وعقاب، إذ يجدون كتابهم قد سجلت فيه أعمالهم، وينالهم هذا النصيب من الكتاب الذي سجل ما فعلوا، والتعبير بـ ﴿نَصِيبَهُمْ﴾ من الكتاب تعبير دقيق يصور عدل الله تعالى فنصيبهم من العذاب هو نصيبهم في أعمالهم، فجزاؤهم مشتق من أعمالهم، فكل نفس تجزى ما كسبت أي جزاؤها من كسبها، فلولا ما كسبت ما عذبت، فعقابهم جزاء وفاق لعملهم.

قال آخر: فذلك الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم يأخذهم بنصيبهم منه من وقت قبض أرواحهم، ولذا قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فـ ﴿حَتَّى﴾ هنا على قول من يقول: إن النصيب هو الأرزاق والمتع والآجال تكون بمعنى (إلى) أو للغاية، أي أنهم يتمتعون بما كتب لهم حتى تجيء إليهم رسل الموت.. ومن رأى أن الكتاب ما كتب عليهم من أعمال تنالهم بالعذاب عليها ـ تكون ﴿حَتَّى﴾ تفريعية أي مبينة تفريعا العذاب من أول نزولها بإحصائها عليهم من أول لقائهم في الآخرة.

القرآن والوعيد والإنذار (203)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، أي أن الملائكة تسألهم على سبيل الزجر والتوبيخ: أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا من دون الله لقضاء الحاجات ودفع المضرات؟ فلتدعوهم لينجوكم مما أنتم فيه من شدة وعذاب.. ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾، أي غابوا وذهبوا، لا ندرى أين مكانهم، ولذلك لا نرجو منهم النفع ولا دفع الضر.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ أي واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم إياهم وعبادتهم لهم كافرين، إذ هم قد زعموا أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين، وحاشا لله أن يتخذ الأعوان والمساعدين، فالله غنى بعلمه المحيط وقدرته الكاملة عن أن يحتاج إلى الأعوان، فإنما يحتاج إليها من يجهل أمور الناس ويعجز عن معرفة أحوالهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الملائكة تقول لهم: ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ﴾ أي تقول ملائكته بأمره يوم القيامة لهؤلاء الكافرين: ادخلوا بين أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس، أي أمم تقدم زمانهم على زمانكم..

قال آخر: وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة واحدة، بل يدخلهم فوجا فيكون منهم سابق ومسبوق، ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقه.

قال آخر: وفي هذا زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر وحملهم على النظر والتأمل في عواقب أمورهم، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم في الهاوية.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذه الأمم من ظلمة الجن والإنس، يعيش بعضها مع بعض في شقاق واختلاف، إذ لا تفاهم بينها، لما اشتملت عليه نفوسهم من أمراض خبيثة،

القرآن والوعيد والإنذار (204)

تزعج أصحابها، وتزعج من يتصل بها، فقال: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ أي كلما دخلت جماعة منهم في النار ورأت ما حل بها من الخزي والنكال، لعنت أختها في الدين والملة، إذ هي قد ضلت باتباعها والاقتداء بها في كفرها كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الأمر لا يقف مع هذه الجماعات عند هذا، بل إنهم حينما تجتمع جموعهم للحساب والجزاء، يتراشقون بالتهم، ويلقى بعضهم على بعض جريمته التي يحملها بين يديه: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ أي إذا أدرك بعضهم بعضا، ولحق آخرهم بأولهم في ساحة الحساب والجزاء: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾ وإضلال الأولين للآخرين هو بسبب متابعة الآخرين للأولين، وجريهم على ما كانوا فيه من ضلال، كما كانوا يقولون في الدنيا إذا جاءهم الهدى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]

قال آخر: وفي طلب الآخرين للأولين مضاعفة العذاب لهم، محاولة يائسة لدفع العذاب الواقع بهم هم، وإلقاء ذنوبهم على آبائهم وأجدادهم الذين اقتفوا آثارهم، وكانوا بهذا من أصحاب السعير.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ رد على أوهام أولئك الذين تابعوا آباءهم وجروا على آثارهم، فإن لهم ضعفا من العذاب كما لآبائهم وأجدادهم العذاب المضاعف، لأن كلا منهم ضل وأضل.. فالأبناء الذين ضلوا بمتابعة آبائهم، قد ضلوا، إذ لم يستعملوا عقولهم، كما أنهم أضلوا أبناءهم من بعدهم.. وهكذا السابق منهم يضل اللاحق، واللاحق يضل من بعده.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ إشارة إلى أن عذابهم روحي

القرآن والوعيد والإنذار (205)

ونفسى، والأول أنكى وأشد ألما، فالرئيس العزيز في قومه إذا دخل السجن مع السفلة وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون وفي جميع ما يعملون، إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة في ألمها كما هي في صورتها، كما قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: 25]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى دفاع الأولين عن أنفسهم، فقال: ﴿وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا مع أن الذنب واحد، وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضى له، فذوقوا العذاب بكسبكم له مهما يكن سببه.

قال آخر: أي أنه إذا كان السابقون قد ضلوا فإن اللاحقين قد ضلوا أيضا، ولم يكن لهم من عقولهم ما يحجزهم عن هذا الضلال، فهم إذن جميعا على سواء في الضلال.. فلم يضاعف العذاب للسابقين ولا يضاعف للاحقين؟.. إنهم ـ سابقهم ولاحقهم ـ ضالون مجرمون.. ولكل ضعف من العذاب.

قال آخر: ويشبه ذلك ما ورد في قوله تعالى في سورة الصافات: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الصافات: 27 ـ 33]

قال آخر: وهذا الخصام الذي بين أهل النار هو عذاب إلى عذاب، حيث يتبرأ بعضهم من بعضهم، ويتمنى بعضهم لبعض مضاعفة البلاء والعذاب، وقد كانوا في دنياهم

القرآن والوعيد والإنذار (206)

أصدقاء، وأحباء، وأقارب، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]

قال آخر: وقال الإمام الباقر في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ برئ بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضا، يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى، ولا اختبار ولا قبول معذرة، ولات حين نجاة)(1)

قال آخر: وقال الإمام الصادق لأصحابه الصادقين: (إذا استقر أهل النار في النار يفقدونكم فلا يرون منكم أحدا، فيقول بعضهم لبعض: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ [ص: 62 ـ 63]، وذلك قول الله‌ عز وجل: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ [ص: 64] يتخاصمون فيكم فيما كانوا يقولون في الدنيا)(2)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى وعيدا جديدا لهؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين عن الإيمان، وبين به أنهم خالدون في النار، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم واستكبارهم عن طاعة ربهم واتباع أوامره، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ أي إن الذين كذبوا بأدلتنا ولم يتبعوا رسلنا وتكبروا عن التصديق بما جاءوا به، وأنفوا من الانقياد لها لا تفتح لهم أبواب السماء.

قال آخر: ومعنى ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ يحتمل أمورا يصح أن تراد كلها،

__________

(1) الكافي: ج 2 ص 31 ح 1.

(2) الكافي: ج 8 ص 141 ح 104.

القرآن والوعيد والإنذار (207)

منها أن المراد أن تغلق أبواب الرحمة في الآخرة، وعبر عن ذلك بأبواب السماء؛ لأن الرحمة تكون في كثير من الأحيان من السماء، فالشمس فيها، وهي مصدر النور والحرارة، والنجوم وبروجها، والقمر وضياؤه، ومنها المطر الذي يكون غيث ورحمة، وذكر أبواب السماء إشارة إلى أنهم سدوا على أنفسهم كل مصادر الرحمة والغفران؛ لأنهم سدوا كل سبل الخير على أنفسهم في الدنيا، فحق عليهم هذا في الآخرة..

قال آخر: ذلك أن السماء في الحس هي المكان الذي يجيء منه المطر، والخير والبركات، ولقد جعل الله تعالى السماء موطنا لذلك، فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]، ولذلك عندما يدعو الإنسان الله تعالى يتجه إلى السماء ضارعا، والله تعالى لا مكان له؛ لأنه منزه عنه.. بالإضافة إلى ذلك، فالسماء علو، والناس يريدون العلو، ويبتغونه.

قال آخر: والاحتمال الثاني، أن يكون المراد أرواحهم، فأرواحهم لا تفتح لها أبواب السماء، بل تغلق دونها؛ لأنها أرواح خبيثة نتنة يتقزز منها أهل السماء والأرض إذ تكون أعمالهم الخبيثة قد أفسدت فطرتها.

قال آخر: والاحتمال الثالث أن يكون المراد أعمالهم، فلا تتفتح لها أبواب السماء؛ لأنها في بعثهم يجزون عليها، ولذلك لا يصعد لهم في حياتهم قول ولا عمل، لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يرفع إلى الله الكلم الطيب والعمل الصالح كما قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى الجزاء الثاني لهم، وهو أنهم لا يدخلون الجنة، وأن ذلك مستحيل عليهم، كاستحالة دخول الجمل في سم الخياط؛ وقد عبر عن ذلك بقوله: ﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾، وهذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا

القرآن والوعيد والإنذار (208)

الأمر، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنة، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الابرة، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنة مطلقا.

قال آخر: و﴿الْجَمَلُ﴾ في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا.. وحيث إن بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر، فقد ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية، لكن أكثر المفسرين رجحوا المعنى الأول.

قال آخر: والعرب تضرب المثل لما لا يكون بنحو قولهم: لا أفعله حتى يشيب الغراب، وحتى يبيض القار، وحتى يدخل الجمل في سم الخياط، وهم يريدون بذلك أنهم لا يفعلونه أبدا، والمراد هنا أن هؤلاء لا يدخلون الجنة بحال.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ أي ومثل هذا الجزاء نجزى به كل من صار الإجرام وصفا لهم، لا من أجرموا جرما بثورة غضب أو نزوة شهوة، ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء: 17]، وقال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى بعض تفاصيل عذاب الكافرين المكذبين لآياته، فقال: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾، والمهاد: المكان الممهد للإقامة فيه، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 6 ـ 7]، وقال: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا﴾ [نوح: 19]

القرآن والوعيد والإنذار (209)

قال آخر: والتعبير عن جهنم بأن لهم مهاد منها فيه نوع تهكم، أي أنه تعالى مهد لهم جهنم بدل الراحة التي كانت لهم في الدنيا، بتمهيد الأرض يتمتعون من خيراتها.

قال آخر: وغواش، جمع غاشية وهي الغطاء، وغطاؤهم هنا نار موقدة، فبعد أن كانوا يلتحفون بالرياش، ويفترشون الوسائد، صار مهادهم جهنم، وغطاؤهم نار مشتعلة تشتعل عليهم، كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: 56]

قال آخر: وخلاصة المعنى أن مهادهم أو فراشهم نار، وغطاءهم نار، والنار تحيط بهم يلتفون فيها وتشوى بها جباههم وجنوبهم، وكل أجسادهم، ولا منفذ منها إلا إليها، فلا يخلصون منها أبدا، وإن ذلك جزاء من كذبوا بآيات الله كافرين بها ظالمين، ولذا قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾، أي كهذا الجزاء الذي جازى الله تعالى به الذين كذبوا بآياته واستكبروا، شأن الله تعالى في جزاء الظالمين، فهو العادل القادر الذي لا يظلم أحدا.

قال آخر: والتعبير هنا بالظالمين، وفي الآية السابقة بالمجرمين؛ لأن الوصفين متحققان فيهما، فهم أجرموا في حق المجتمع فأفسدوه؛ وظلموا أنفسهم، وظلموا الحقائق بما ارتكبوا من معاص، وتعدوا الحدود، ومن تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه، وكان ما ينزل بهم يوم القيامة جزاء وفاقا لما ارتكبوا.

المشهد السابع:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 403)، وزهرة التفاسير (6/ 2844)، وتفسير المراغي (8/ 155)، ومن وحي القرآن: (10/ 128)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (5/ 50)، والتفسير المنير (8/ 213)

القرآن والوعيد والإنذار (210)

فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 44 ـ 51]

قال أحد الوعاظ: تضمنت هذه الآيات الكريمة مشهدا من مشاهد المناظرة والمحاورة، بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، كما كان ذلك الشأن بين المؤمنين والكافرين، في الدنيا، ويتدخل فيها أهل الأعراف ليحاوروا أهل النار بطريقة إنكارية تأنيبية.

قال آخر: وهذا التخاطب لا يقتضي قرب المكان على ما هو معهود في الدنيا، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات، ويرى من أقاصي الجهات.. وماجد الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد وتفصل بينهما ألوف الأميال يقرب هذا أتم التقريب، ويزيدنا فهما له.

قال آخر: وتنطلق هذه الآيات الكريمة في هذا الجو لتثير أمام الإنسان بعض المفاهيم والمواقف، وتوضح بعض المظاهر الاستعراضية التي لا زال البعض يمارسونها في الحياة

القرآن والوعيد والإنذار (211)

الدنيا، فينخدع بها بعض البسطاء في أجواء الغفلة والنسيان.

قال آخر: وهي تبدأ بأصحاب الجنة، وهم ينادون أصحاب النار، ويذكرونهم بما كانوا يجادلونهم به في الدنيا.. حيث كان المؤمنون يقولون: إننا نعمل على وعد من ربنا، بأن من آمن وعمل صالحا، فله جزاء الحسنى، وأن من كفر وصد عن سبيل الله، فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.. وها هم أولاء جميعا ـ المؤمنون والكافرون ـ في يوم الحساب، والجزاء، ولقاء ما وعد الله.. وها هم أولاء المؤمنون قد أنجز الله لهم وعده، وأدخلهم جنته، وها هم أولاء الكافرون، قد أخذهم الله بوعيده، فألقى بهم في جهنم..

قال آخر: وقد عبر عن ذلك قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ﴾، وهو يوحي أن هناك منطقة يشرف فيها أهل الجنة على أهل النار، فيرون بعضهم بعضا، ويسمع أحدهم الآخر.. وربما كان بين هؤلاء وأولئك علاقة معرفة أو قرابة أو جوار في الدنيا، وربما كان بينهم هناك حوار في قضايا الإيمان والكفر وما يؤديان إليه من جنة أو نار، وكان الكفار ينكرون ذلك كله ويسخرون باليوم الآخر، بينما كان المؤمنون يؤكدون ذلك ويخوفونهم ويحذرونهم من نتائج أعمالهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما قاله أهل الجنة لأهل النار، فقال على لسانهم: ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا﴾ أي إن أصحاب الجنة حين استقرارهم في الجنة واستقرار أهل النار في النار ـ إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم يقولون لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقا لا شبهة فيه، وها نحن أولاء نستمتع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال حقا؟

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن أهل النار أجابوهم قائلين: ﴿نِعْمَ﴾ أي وجدنا ما

القرآن والوعيد والإنذار (212)

أوعدنا به ربنا حاكما بلغنا على ألسنة الرسل.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه بعد جوابهم هذا، وقيام الحجة عليهم ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي أذن مؤذن قائلا: لعنة الله على الظالمين لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره يأمره الله بذلك.

قال آخر: ثم بين الله تعالى المراد من الظالمين فقال: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي إنهم هم الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وثوابه، ويمنعون الناس عن سلوكها، ويبغونها معوجة حتى لا يسلكها أحد.

قال آخر: وبغي الظالمين وطلبهم اعوجاج السبيل يجئ على ضروب شتى.. منها تدسية أنفسهم بالظلم العظيم، وهو الشرك فيشوبون التوحيد بشوائب الوثنية، ويشركون مع الله غيره على أنه شفيع عنده ووسيلة إليه، وهو ما نهى الله عنه بقوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5] وقوله: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: 31]

قال آخر: ومنها ظلمهم لها بالابتداع، إذ يبغونها عوجا بما يزيدون في الدين من البدع المحدثات التي لم يرد بها كتاب ولا سنة، ومستندهم في ذلك تأويلات جدلية ومحاولات للتوفيق بين الدين وغيره، أو زيادات في العبادات والشعائر، أو تحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات من الرزق، أو تحليل ما حرم الله، وغيرها.

قال آخر: ومنها ظلمهم لها في الأحكام فيبغونها عوجا بترك الحق، وإقامة ميزان العدل، والمساواة بين الناس بالقسط.. أو ظلمهم لها بالغلو فيها بجعل يسرها عسرا وسعتها ضيقا بزيادتهم على ما شرعه الله من أحكام العبادات والمحظورات والمباحات، مما نزل في

القرآن والوعيد والإنذار (213)

كتابه وصح من سنة رسوله.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى موقفهم من الآخرة، فقال: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾، أي وهم على ضلالهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا متأصلا في نفوسهم، فلا يخافون عقابا على جرمهم، ولا ذما ولو ما على إنكارهم يوم البعث والجزاء.. أي إنهم جمعوا بين الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا، وإنكار البعث والجزاء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ أي بين فريقي أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل كلا منهما من الآخر.. وهذا الحجاب هو السور الذي ورد ذكره في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه حينها يتدخل جماعة آخرون، وهم أهل الأعراف الذين اختلفت أقوال المفسرين فيهم، فمنهم من يذكر أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة، ولا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار؛ فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة والنار، ثم يدخلهم الجنة برحمته.

قال آخر: ومنها أنهم رجال من أهل المنزلة والكرامة مع اختلاف في تحديد شخصيتهم، بين من يقول: إنهم الأنبياء، ومن يقول: إنهم الشهداء على الأعمال، أو العلماء والفقهاء.

قال آخر: كما اختلفوا في تحديد الأعراف على أقوال منها إنه شيء مشرف على الفريقين.. ومنها إنه تل بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.

القرآن والوعيد والإنذار (214)

قال آخر: وبالرغم من هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف الروايات، لكن مع التدقيق والإمعان يتضح أنه لا يوجد أي تناقض ومنافاة، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.. ذلك أنها جميعا تتفق على أن الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنة والسعادة الأبدية.

قال آخر: ومن الطبيعي أن الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة، أما الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيعجزون عن العبور.

قال آخر: كما أنه من الطبيعي أيضا أن تقف قيادات الجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع، يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

قال آخر: وعلى هذا الأساس، فأصحاب الأعراف فريقان: ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة، والأئمة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

قال آخر: وعلى هذا فإن الطائفة الأولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأول من الواقفين على الأعراف، وهم الضعفاء، والطائفة الثانية منها تشير إلى الفريق الثاني من أصحاب الأعراف، وهم السادة والأنبياء والأئمة والصلحاء.

قال آخر: ونرى في بعض الروايات ـ أيضا ـ شاهدا واضحا وجليا على هذا الجمع مثل الحديث المنقول عن الإمام الصادق الذي قال فيه: (الأعراف كثبان بين الجنة والنار، والرجال الأئمة يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنة بلا حساب،

القرآن والوعيد والإنذار (215)

فيقول الأئمة لشيعتهم من أصحاب الذنوب: انظروا إلى إخوانكم في الجنة قد سبقوا إليها بلا حساب، وهو قوله تبارك وتعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ ثم يقال: انظروا إلى أعدائكم في النار، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، ثم يقولون لمن في النار من أعدائهم: هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا ألا ينالهم الله برحمة، ثم تقول الأئمة لشيعتهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم وأنتم تحزنون)(1)

قال آخر: والمراد بالأئمة وشيعتهم هنا هم أئمة الهدى وورثة الأنبياء الصادقين في كل الأزمنة، لا في أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط.. وهم الذين حفظوا دينهم من التحريف والتبديل، ولم يخالفوا وصايا أنبيائهم.

قال آخر: ونحن نقول هذا مع علمنا بأن تفاصيل ما يحدث يوم القيامة أشبه بما لو أردنا أن نصف شبحا من بعيد، في حين أن بين ذلك الشبح وبين حياتنا تفاوتا واسعا واختلافا كبيرا، فما نفعله في هذه الصورة هو أننا نستطيع بألفاظنا المحدودة والقاصرة أن نشير إليه إشارة ناقصة قصيرة.

قال آخر: وربما يعيننا على هذا الوصف أن الحياة في العالم الآخر مبنية على أساس النماذج والعينات الموجودة في هذه الدنيا، فهكذا الحال بالنسبة إلى الأعراف، لأن الناس في هذه الدنيا ثلاث فرق: المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء الإيمان، ولم يدخروا وسعا في طريق المجاهدة.. والمعاندون وأعداء الحق المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين لا يهتدون بأية وسيلة.. والفريق الثالث هم الذين يقفون في هذا الممر

__________

(1) تفسير البرهان، 2/19.

القرآن والوعيد والإنذار (216)

الصعب عبوره، أي في الوسط بين الفريقين، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمة الحق موجهة إلى هؤلاء، فهم يبقون إلى جانب هؤلاء، ويأخذون بأيديهم لإنقاذهم وتخليصهم من مرحلة الأعراف ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين.

قال آخر: ومن هنا يتضح أن تدخل الأنبياء وورثتهم من أئمة الهدى في انقاذ هذا الفريق في الآخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا لا ينافي أبدا قدرة الله وحاكميته على كل شيء، بل كل ما يفعلونه إنما هو بإذن الله تعالى وأمره.

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى الحديث عنهم بقوله: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ أي وعلى أعالي ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها، فيعرفون كلا منهما بسيماهم التي وصفهم الله بها في نحو قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس: 38 ـ 42]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ﴿وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين لهم: سلام عليكم.. وهذا السلام إما تحية ودعاء وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب، هذا إن كان قبل دخول الجنة، فإن كان بعدها فهو تحية خالصة تدخل في عموم قوله تعالى ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 25 ـ 26]

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى الحديث عنهم بقوله: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بعلاماتهم المميزة التي تتمثل فيها أوضاعهم في خط الإيمان أو الكفر، فيما يفكرون ويعملون... فيستطيعون ـ من خلال ذلك ـ تمييزهم ومعرفتهم، ليتحدثوا إليهم حديث المعرفة. ﴿وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾، فتلك هي التحية التي توجه إلى

القرآن والوعيد والإنذار (217)

أهل الجنة، فيما توحي به الجنة من معنى السلام الروحي، على مستوى الأجواء النفسية الداخلية للإنسان تجاه ربه، وتجاه كل ما حوله ومن حوله... وعلى مستوى الأجواء العامة التي تسود آفاق الجنة على مستوى الطبيعة أو الناس...

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾، وربما يكون الضمير هنا عائدا إلى أصحاب الجنة الذين كانوا ـ حين النداء ـ خارج الجنة، فلم يكونوا قد دخلوها بعد، ولكنهم يطمعون في دخولها لما يعرفونه من تاريخهم في الدنيا فيما قدموه أمامهم من أعمال وحسنات.

قال آخر: وربما يكون المقصود بهؤلاء أصحاب الأعراف، لأنهم يتحدثون مع أهل الجنة كفريق مستقل لا يشاركهم في الصفة، وإلا لكانوا منهم.. أما طمعهم في دخول الجنة، فلأنهم ليسوا بمستوى السوء الذي يمنعهم من دخولها، لأنهم ممن استوت حسناتهم وسيئاتهم.

قال آخر: وربما كان هذا القول أقرب إلى سياق الآية، لا سيما بلحاظ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ﴾، أي فشاهدوهم واطلعوا على هول العذاب الذي يلاقونه، فشعروا بالخوف والرعب فدفعهم ذلك إلى الابتهال والدعاء إلى الله ﴿قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرد والعصيان.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ إشارة إلى أن هذه النظرة التي ألقوا بأبصارهم إليها نحو أصحاب النار، لم تكن إلا عن قهر وقسر، بداعي حب الاستطلاع، الكامن في طبيعة الإنسان.. فهم قد صرفوا أبصارهم صرفا، وحولوها بقوة عن مكانها الذي كانت فيه، من النظر إلى أهل الجنة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يقولون حينها، فقال:﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ

القرآن والوعيد والإنذار (218)

أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى ألا يجعلهم مثلهم.

قال آخر: ويلاحظ أن مثل هذا الدعاء، قد يصدر من أهل المنزلة والكرامة في الدنيا، حيث يعبرون عن عظمة الله وخشيتهم منه بذلك، أما في يوم القيامة، فلا نجد ما يوحي بذلك، لأن مجال الأعمال التي يخاف الإنسان من مسئوليتها السلبية ـ حتى بطريق الافتراض ـ قد انتهى بالنسبة إليهم، فعرفوا أنهم مصدر كرامة الله؛ بينما يعتبر ذلك أمرا طبيعيا بالنسبة إلى الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، الذين لا يزالون في خوف من مصيرهم، ولذلك فهم يعملون على إظهار إخلاصهم لله، بإخلاصهم لعباده المؤمنين من أهل الجنة، بإلقاء التحية عليهم؛ كما يعملون على إبراز خضوعهم له وخوفهم منه والإنكار على أهل النار في حوار مختصر معهم مما يؤكد موقفهم القلق الذي يحاول البحث عن أساس للثقة والاطمئنان في أكثر من اتجاه.

قال آخر: وذلك كله لا يمنع من أن يكون أصحاب الأعراف يجمعون كلا الصنفين، أي أئمة الصلاح، وغيرهم ممن لم تسمح لهم حسناتهم بدخول الجنة، كما ذكرنا ذلك سابقا، جمعا بين الروايات.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزون في الدنيا بغناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم أو لحرمانهم من عصبية تمنعهم وتذود عنهم، فقال: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم يوجهون إليهم سؤال توبيخ وتأنيب بحضرة هؤلاء المستضعفين فقيل لهم: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾ أي وقالوا لهم ـ مع

القرآن والوعيد والإنذار (219)

الإشارة إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم في الدنيا ـ: أهؤلاء الذين حلفتم في الدنيا إن رحمة الله لن تنالهم؟ إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة المال.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم يلتفتون إلى أهل الجنة، ليقولوا لهم، بكل محبة وتقدير وتبريك: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أصحاب الأعراف ذكر حوارا آخر بين أهل الجنة وأهل النار، حيث نرى أهل النار وهم يعيشون الجوع والحرمان والعطش والذل والمسكنة، فيتوسلون إلى أهل الجنة أن يعطوهم شيئا مما رزقهم الله من الماء والطعام وغير ذلك مما يحتاجه الإنسان في استمرار حياته، كما قال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾ أي إن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من الماء، ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ أي أعطاكم من خيرات من لبن سائغ للشاربين، وعسل مصفى، وخمر لا غول فيها ولا يصدعون منها.. وغيرها من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن أهل الجنة قالوا جوابا عن هذا الاستجداء: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، أي إن الله قد حرم ماء الجنة ورزقها على الكافرين، كما حرم عليهم دخولها، فلا سبيل لإفاضة شيء منهما عليهم وهم في النار، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم وطعامها من الضريع والزقوم.

قال آخر: وقد وصف أهل الجنة الكافرين بأنهم هم الذين كانوا السبب في هذا المنع والحرمان، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، وهو يشير إلى أن الكافرين جعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكي الأنفس ولا تجعلها

القرآن والوعيد والإنذار (220)

أهلا للتشريف والكرامة، بل هي إما لهو يشغل الإنسان عن الجد والأعمال المفيدة، وإما لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة فهو كأعمال الأطفال، وقد غرتهم الحياة الدنيا بشهواتها ولذاتها من الحرام والحلال، أما أهل الجنة فقد سعوا لها سعيها، وعلموا أن الدنيا مزرعة الآخرة، ومن ثم لم يكن من قصدهم من التمتع بنعم الله إلا الاستعانة بها على ما يرضيه من إقامة الحق والعدل، والاستعداد لحياة أبدية لا نهاية لها.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ إشارة إلى أهل الجنة بأنفسهم، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شيء من هذه النعم لأهل النار، لأنه لا يقل منها شيء بسبب الإعطاء، ولا أنهم يحملون حقدا أو ضغينة على أحد في صدورهم، حتى بالنسبة إلى أعدائهم، ولكن وضع أهل النار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا من نعم الجنة، ذلك أن هذا الحرمان ـ في الحقيقة ـ نوع من (الحرمان التكويني) مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عاقبة أمرهم فقال: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ أي فاليوم نعاملهم معاملة الشيء المنسي الذي لا يبحث عنه أحد، كما جعلوا هذا اليوم منسيا، والمراد من النسيان عدم إجابة دعائهم وتركهم في النار.. ذلك أن النسيان على الله تعالى لا يجوز، لأنه ـ سبحانه ـ لا يغفل عن شيء قل أو جل، وكل شيء عنده في كتاب أحصاه لا يتخلف عن علمه شيء، ولذلك يراد بالنسيان لازمه، وهو الترك، بل بعض علماء اللغة ذكر أن الأصل في معنى النسيان هو الترك.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى أن ذلك في مقابل أمرين أو عقاب لأمرين: أولهما أنهم نسوا لقاء يومهم هذا مع كثرة النذر، ومع إرسال الرسل، ومع أنه يوجبه منطق الحياة، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، يأكل ويلعب كالحيوان، إنما هو مخلوق مدرك، وأن الدنيا

القرآن والوعيد والإنذار (221)

فيها الخير والشر، وأنه لا بد للخير من أن ينتصر، ولا بد للشر من أن ينهزم، وأنه يتناسب مع علو مكانة الإنسان في هذه الأرض.

قال آخر: وثانيهما ﴿وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾، وجحود الآيات إنكار ما تدل عليه من دلائل التوحيد، ومعاندتهم لله تعالى، وتكذيبهم لأنبيائه، فكان نسيان الله تعالى لهم وتركهم في جهنم يصلونها، من مقابل نسيانهم، وجزاء لجحودهم.

المشهد الثامن:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 21 ـ 22]

قال أحد الوعاظ: هاتان الآيتان تصوران الحوار الذي يكون بين العصاة وأولهم الشيطان الذي أقسم ليغوين الناس إلا عباد الله المخلصين، والطبقة التي استغواها ابتداء المتبوعون من ذوي الاستكبار والاستعلاء على الناس بالجاه الدنيوي والمال والعزة.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، أي ظهروا في موقف المسؤولية الحاسم الذي لا يملكون فيه إلا النطق بالحق، بعيدا عن كل عوامل القوة والضعف التي كانت تحكم علاقاتهم في الحياة، فهم الآن متساوون أمام الله بصفتهم الحقيقة

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 166)، وزهرة التفاسير (8/ 4014)، وتفسير المراغي (13/ 143)، ومن وحي القرآن: (13/ 99)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (7/ 493)، والتفسير المنير (13/ 236)، ومفاتيح الغيب (19/ 82)، ومنية الطالبين: 15/ 228.

القرآن والوعيد والإنذار (222)

التي توحدهم جميعا كعبيد أمامه.. وذلك بعد أن بعثهم الله تعالى، ونشرهم من قبورهم وجمعهم يوم الحشر فكانوا أمام الله، وقد كذبوا بلقائه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه في هذا اللقاء يفزع هؤلاء المستضعفون إلى سادتهم هؤلاء، يسألونهم العون في دفع هذا البلاء الذي أحاط بهم، فقال: ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ أي لقد كنا نمثل الفئة المسحوقة التي لا تملك أن تريد أو لا تريد بما تعنيه التبعية في كل شيء.

قال آخر: والآية الكريمة تؤكد لنا كيف واجه الجميع نتائج المسؤولية في عذاب الله، وإن اختلفوا في نوعية العذاب، وتصور لنا موقف أولئك الذين أخضعوا إرادتهم لإرادة الآخرين ولنزواتهم في حين كانوا يستطيعون تحرير أنفسهم وإرادتهم من تلك التبعية، ولكنهم خضعوا أمام مظاهر القوة ومطامع المال التي ساقتهم للسير خلف المستكبرين دون وعي ولا شعور، فهم الآن يستيقظون على ما وصلوا إليه من واقع، ويحاولون التخلص من بعض قسوته على الأقل، متوجهين إلى من كانوا يتبعونهم في كل شيء، طالبين منهم تحمل تبعاتهم في الآخرة، مقابل ما تحملوه من تبعاتهم في الدنيا، تماما كما كان الحال في الدنيا حيث كان الرئيس يقدم لأتباعه الحماية من المتاعب والمشاكل، مقابل ما يقدمونه من خدمات تصل إلى درجة المخاطرة بالحياة.

قال آخر: وتجسد الصورة القرآنية تهرب أولئك المستكبرين، باعتبار الموقف يائسا من كلا الطرفين، فهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، فكيف يملكون لأتباعهم الحماية، حيث لا متسع للحساب، ولا مجال للهروب، بل أمامهم الاستسلام اليائس للمصير.

قال آخر: ولذلك ذكر الله تعالى أنهم لم يجدوا إلا أن يقولوا: ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾، أي لو أرشدنا الله تعالى، وأضاء أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه

القرآن والوعيد والإنذار (223)

ومعونته، لأرشدناكم ودعوناكم إلى سبل الهدى، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم.

قال آخر: وهو جواب ماكر خبيث، يحمل عذرا هو أقبح من ذنب.. فقد ألقى هؤلاء السادة الضالون بضلالهم على الله، ولم يسألوا أنفسهم: لماذا أضلهم الله؟ ألم يكونوا حربا على الأنبياء؟ ألم يكونوا أفواها نافخة لإطفاء كل شعلة من شعل الحق الذي حملوه إليهم.. لقد أضلهم الله لأنهم أرادوا الضلال، واستحبوا العمى على الهدى.

قال آخر: ونفهم من جواب هؤلاء المستكبرين، نوعا من الهروب من طبيعة المسؤولية، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسئولين عن ضلال أتباعهم، لأن الهداية تكون من الله، فإذا لم يوفرها لهم، فكيف يمكن أن يوفروها هم لغيرهم. وفي ذلك تجسيد لغاية اليأس في الموقف.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه لما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ أي ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا أو جزعنا، كما قال تعالى يخبر عنهم: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ [غافر: 47 ـ 48] وقال: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 67 ـ 68]

قال آخر: وبذلك، فإن الله يريد من خلال هذا أن يصور للمستضعفين في الدنيا، كيف تتجسد مواقف الندم واليأس في الآخرة، ليواجهوا واقعهم، مواجهة من سيتحمل مسئوليته وحده، ولذا فإن عليه أن يبدأ الحساب على هذا الأساس.

قال آخر: ذلك أن هؤلاء الضعفاء عكسوا الأمر، فهم بدل أن يعرفوا الحق ليتبعوه

القرآن والوعيد والإنذار (224)

وليعرفوا أهله، اغتروا بمكانة المتبوعين في المجتمع من حيث القدرة والسطوة فجعلوهما دليلا على كون طريقهم حقا، ففي يوم القيامة عندما يبرز هؤلاء بين يدي الله تعالى، تتقطع أنفسهم حسرات، لخضوعهم للقادة الطغاة، الذين لا يملكون الآن أن يدفعوا عنهم قليلا من العذاب.

قال آخر: نعم، هؤلاء الأتباع وإن كانوا ضعفاء في القدرة والمكنة، ولكن عقولهم لم تكن ضعيفة وإنما اغتروا بظواهر الأمر ولم يستنيروا بنور عقولهم، ولذلك صاروا محكومين بالعذاب.

قال آخر: وللإمام علي كلمة قيمة في هذا خاطب بها الحارث بن حوط، عندما قال له: أتراني أظن أن طلحة والزبير وعائشة على باطل؟ فقال: (يا حارث! إنه ملبوس عليك، وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه) (1)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الأتباع لما وقفوا على الحقيقة المرة، وهي عجز القادة عن إغاثتهم ودفع بعض العذاب عنهم، توجهوا إلى مصدر ضلالتهم، وهو الشيطان الذي زين لهم أعمالهم الإجرامية، كما أوجب هو ذلك على نفسه عندما طرد من الجنة، كما قال تعالى حاكيا عنه ذلك: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 39 ـ 40]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الشيطان يبرئ نفسه من مسئولية ضلال كلا الطرفين، التابعين والمتبوعين، مؤكدا حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها، فليست هناك قوة

__________

(1) تاريخ اليعقوبي:2/ 210.

القرآن والوعيد والإنذار (225)

قاهرة تشلها بدون اختيار صاحبها.

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى ذكر حديث الشيطان بقوله: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي وقال إبليس مخاطبا أتباعه من الإنس، بعد أن حكم الله بين عباده فأدخل المؤمنين فراديس الجنات، وأسكن الكافرين سحيق الدركات.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى قوله لهم، وهو ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ أي إن الله وعدكم على ألسنة رسله بالبعث وجزاء كل عامل على عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ووعده حق وخبره صدق، ﴿وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ أي ووعدتكم أن لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب، ولئن كانا فنعم الشفيع لكم الأصنام والأوثان، فأخلفتكم موعدي إذ لم أقل إلا بهرجا من القول وباطلا منه، فاتبعتموني وتركتم وعد ربكم، وهو وليكم ومالك أمركم، كما قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى تنصله من مسؤولية ضلالهم، فقال ـ حاكيا عنه ـ: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي وما كان لي قوة وتسلط تجعلني ألجئكم إلى متابعتي على الكفر والمعاصي ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ أي، ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلال بوسوستي وتزييني، أسرعتم إلى إجابتي، واتبعتم شهوات النفوس، وأطعتم الهوى، وخضتم في مسالك الردى.

قال آخر: وقال لهم: ﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، ولوموا أنفسكم، إذا استجبتم لي باختياركم الذي نشأ عن سوء استعدادكم بلا حجة منى ولا برهان، بل بتزييني وتسويلي، ولم تستجيبوا لربكم وقد دعاكم دعوة الحق المقرونة بالحجج والبينات.

قال آخر: وقال لهم: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ أي ما أنا بمغيثكم مما

القرآن والوعيد والإنذار (226)

أنتم فيه من العذاب فأزيل صراحكم، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من العذاب والنكال.

قال آخر: وقال لهم: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ أي إني جحدت اليوم أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم أي في الدنيا، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: 14]، ومعنى كفره بإشراكهم تبرؤه منه واستنكاره له، وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ [الممتحنة: 4]

قال آخر: وقال لهم: ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي قال إبليس ذلك، قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والنجاة من العذاب، وإنما حكى الله ذلك عنه ليكون تنبيها للسامعين، وحضا لهم على النظر في عاقبة أمرهم، والاستعداد لذلك اليوم الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم ويتذكروا هول ذلك الموقف ورهبته.

المشهد التاسع:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدثر: 38 ـ 56]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1302)، وتفسير المراغي (29/ 139)، ومن وحي القرآن: (23/ 223)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 183)، ومفاتيح الغيب (30/ 714)، ومنية الطالبين: 29/ 304.

القرآن والوعيد والإنذار (227)

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة يعرض الله تعالى حوارا بين أهل الجنة وأهل النار حول الأسباب التي جعلتهم يدخلون النار، وفيها دعوة للتذكر بالقرآن الكريم وخطورة الإعراض عنه.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، أي كل نفس مرتهنة بما كسبت، مأخوذة بما عملت، مجزية بالخير خيرا، وبالسوء سوءا.. وهذه هي المعادلة الإنسانية في حساب الله، فقد جعل الله الإنسان يساوي عمله، وجعل العمل عنوانا للمصير المحتوم في الدار الآخرة، مما يجعل الإنسان مرهونا بعمله، محبوسا في دائرته، فإذا كان عمله خيرا وطاعة، أطلقه الله لينطلق بكل حريته الروحية إلى جنات النعيم، وإذا كان عمله شرا ومعصية اشتد حبسه في دائرة الضيق والضنك، ليدخل إلى سجن جهنم الذي لن يخرج منه أبدا.

قال آخر: ذلك أن كلمة ﴿رَهِينَةٌ﴾ مشتقة من (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت، وإلا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما.. وقد نقل عن أهل اللغة أن أحد معانيها كذلك الملازمة والمصاحبة، وبذلك يكون المعنى: الكل مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

قال آخر: وهي تشير إلى أن ما يكسبه الإنسان من الأعمال الصالحة أو الطالحة يؤثر في نفسيته وجوهره وحقيقته، فتصير ذاته رهنا، حتى يفك نفسه، وما هذا إلا لأن العمل شكل نفسيته وشخصيته، ولذلك صار هو السبب في رفع حقيقته ووضعها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الروم: 10]

القرآن والوعيد والإنذار (228)

قال آخر: والآية الكريمة تشير إلى أن للأعمال السيئة أثر في أفكار وتصورات الشخص ودفع به إلى التكذيب بآيات الله تعالى.. ولذلك، فإن مخالفة شرع الله وتجاوز حدوده، والإمعان في ممارسة البغي والفساد وغير ذلك من الآثام والقبائح يؤثر في نفسية الإنسان، ويبعثه شيئا فشيئا إلى إنكار العوالم الغيبية والحساب والكتاب، وفي النهاية يستهزئ بآيات الله، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

   وصدق ما يعتاده توهم

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هناك جماعة من الناس قد أخلصت لله حتى عاشت الصفاء الروحي والاستقامة العملية في الآفاق الكبيرة المنفتحة على الله في رحاب رحمته ورضوانه، وهم أصحاب اليمين الذين يتميزون عن الناس بعمق العقيدة وامتداد العمل، وإخلاص الروح لله، وهؤلاء هم الذين أطلقهم الله من الارتهان، لأنهم عاشوا مع الحرية بعد ما استطاعوا تحرير إرادتهم من الخضوع للشيطان، ولهذا كانوا في دائرة الاستثناء.

قال آخر: ولذلك استثناهم الله تعالى بقوله: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ وهو مستثنى من قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾.. وهو حكم عام على الناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين، حيث ترتهن كل نفس بما عملت، ثم يعود الله تعالى بفضله على المؤمنين، أصحاب اليمين، فيدخلهم الجنة.. ولو أن دخول الجنة كان مرتهنا بالأعمال، لما دخل أحد الجنة، ولكن الإيمان بالله، والأعمال الطيبة في ظل الإيمان، من شأنه أن يجعل المؤمن أهلا لإحسان الله إليه، ودعوته إلى الجنة، يتبوأ منها حيث يشاء، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل أحد الجنة بعمله)، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله

القرآن والوعيد والإنذار (229)

برحمته)(1)

قال آخر: ثم بين الله تعالى مآل أصحاب اليمين، فقال: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ أي هم في غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم في الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم في سقر؟.. وهو ما يدل على وجود صلة بين أهل الجنة وأهل النار.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن أهل جهنم أجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة.. أولها ما عبروا عنه بقولهم: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ أي لم نكن في الدنيا من المؤمنين الذين يصلون لله، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها.. ولو كنا مصلين لذكرتنا الصلاة بالله تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

قال آخر: والثاني ما عبروا عنه بقولهم: ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا.. والظاهر أن المراد منها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك، وذكر بعضهم أن المراد بها الزكاة المفروضة، لأن ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النار، وذلك ما يدل على أن الزكاة كانت قد فرضت بمكة بصورة إجمالية، وإن كان تشريع جزئياتها وتعيين خصوصياتها كان في المدينة.

قال آخر: والثالث ما عبروا عنه بقولهم: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ أي وكنا نؤيد ما يصدر ضد الحق في مجالس الباطل، حيث نقوم بالترويج لها، وكنا معهم أين ما كانوا، وكيف ما كانوا، وكنا نصدق أقوالهم، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون

__________

(1) البخاري (6467) ومسلم (2816)

القرآن والوعيد والإنذار (230)

ونلتذ باستهزائهم الحق.

قال آخر: و(الخوض في الباطل) له معان كثيرة، فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الوقح، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بافتخار وتلذذ، أو المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، لكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات، وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

قال آخر: والرابع ما عبروا عنه بقولهم: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب، ﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى الله في الدار الآخرة، ولذلك فُسر ﴿الْيَقِينِ﴾ هنا بالموت، لأنه يعتبر أمرا يقينيا للمؤمن والكافر، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت، كما قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، لكن يحتمل أن يكون معناه هنا المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان، وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التفسير الأول.

قال آخر: وتشير هذه الآيات الكريمة إلى أن الكفار مكلفون بفروع الدين، كما هم مكلفون بأصوله، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة، أي الصلاة والزكاة وترك مجالس أهل الباطل، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين، والمؤتين الزكاة، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع، فقال: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾، لأن الكافرين لا شفيع لهم، على حين أن عصاة

القرآن والوعيد والإنذار (231)

المؤمنين يشفع لهم كل من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، ممن رضى الله عنهم، وارتضى شفاعتهم فيمن يشفعون لهم.. وذلك لأن الشفاعة تخضع للقواعد التي يضعها الله للناس الذين يرتضي شفاعتهم ليكرمهم بذلك في الآخرة من خلال حكمته، فلا تتحرك الشفاعة إلا في أجواء الإيمان بالله وبالرسل وبالآخرة بما يستتبعه ذلك من قواعد لضبط القول والعمل على خط المسؤولية، فكيف ينتفع بها هؤلاء الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يؤمنون بالآخرة، ويتحركون في المواقف من دون قاعدة.

قال آخر: وسبب ذلك أن الشفاعة تحتاج إلى عوامل مساعدة، وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية، لا يمكن للماء الزلال أن يحييها.

قال آخر: وكذلك، فإن الشفاعة من الشفع، وهو يعني ضم الشيء إلى آخر، ومعنى هذا أن المشفوع له يحتاج إلى أن يكون قد قطع قسطا من الطريق، لتأتي الشفاعة فتعينه على قطع ما بقي له منها.

قال آخر: والآية الكريمة تؤكد تنوع وتعدد الشفعاء عند الله، كما تؤكد أن للشفاعة شروطا، وأنها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى إعراضهم عن القرآن وتوليهم عنه على الرغم من كل الدلائل والحجج الدالة عليه، فقال: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ أي ما هو السبب الذي يمنعهم من الإقبال على الحقائق الفكرية، المتصلة بعقيدة التوحيد وباليوم الآخر، من خلال الآيات القرآنية التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتفتح عقولهم على آفاق الحق، ليتذكروا

القرآن والوعيد والإنذار (232)

وليفكروا، ليتعرفوا على عمق الفكر الذي يقودهم إلى سلامة المصير!؟

قال آخر: وهو السؤال الذي يطرح نفسه على كل واقع الغفلة المطبقة على عقول الناس الذين يرفضون أية تذكرة تنقذهم منها، وهل هي الألفة التي عاشوها في داخلهم لعقائدهم الضالة، فلا يطيقون الابتعاد عنها، أو هي الامتيازات الذاتية أو الطبقية التي حصلوا عليها في مواقعهم الاجتماعية، فيخافون من زوالها إذا انفتحوا على الإيمان بالله، أو هي حالة التخلف الفكري والانحطاط الروحي اللذين يمنعانهم من الدخول في حالة الوعي الجديدة، المنفتحة على المسؤولية الفكرية والروحية في مضمون الرسالة الجديدة، فلا يجدون أمامهم إلا النوافذ المغلقة.. وهي مشكلة الإنسان البعيد عن الحق في كل زمان ومكان.

قال آخر: ثم شبه الله تعالى توليهم عن القرآن وفرارهم عن التذكرة، بقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾، وهو حال من أحوالهم في إعراضهم عن القرآن، ونفورهم منه.. أي إنهم ما إن يسمعوا آيات الله تتلى، حتى يفزعوا وينفروا كما تنفر الحمر، وقد اشتمل عليها الذعر، حين رأت قسورة أي أسدا، مقبلا عليها.. وسمى الأسد قسورة، أخذا من القسر، والقسوة.. وفي تشبيههم بالحمر المستنفرة من بين سائر الحيوانات التي إذا رأت الأسد فرت من وجهه، لأن الحمار يمثل الغباء والبلادة من بين سائر الحيوان، وبه يضرب المثل في هذا، كما قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: 5]

قال آخر: وفي إسناد الاستنفار إلى تلك الحمر في قوله تعالى: ﴿مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ بدلا من أن يسند الاستنفار إلى من استنفرها، فيقال: ﴿مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ إشارة إلى أن ذلك طبيعة غالبة عليها، وأن من شأنها النفور دائما، دون أن يكون هناك سبب لنفارها.. فهي ذات طبيعة وحشية، لا تأنس في ظل من سكينة أبدا.

القرآن والوعيد والإنذار (233)

قال آخر: وفي وصف الحمر بأنها ﴿مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ بدلا من (نافرة) إشارة أخرى إلى أنها تستدعى هذه الطبيعة الكامنة منها، وتهيجها وتحركها من غير سبب يدعو إليها، كما أن بعض هذه الحمر يستدعى بعضا إلى هذا النفور، فتمضى في طريقها عليه، من غير دافع إلا هذا التقليد الأعمى.

قال آخر: وهذه حال تمثل أهل الضلال أصدق تمثيل، فهم وهذه الحمر المستنفرة على سواء.. ففي طبيعتهم نفور ملازم كل دعوة إلى خير، وهم دائما يتبعون أول ناعق يدعوهم إلى النفور من وجه الحق.

قال آخر: وشُبه القرآن في الآية الكريمة بالقسورة، لما للقسورة من هيبة، تملأ القلوب، وتملك المشاعر.. ثم هو إلى مهابته وسطوته، بعيد عن الدنايا، عف عن القذر لا يأكل الميتة، ولو مات جوعا.

قال آخر: ولم يسم الله تعالى الأسد أسدا، وإنما سماه ﴿قَسْوَرَةٍ﴾، ليكسوه بهذا الاسم ذي الجرس الموسيقى القوى هيبة إلى هيبة، وعظمة، إلى عظمة، الأمر الذي لا يحققه لفظ أسد، الضامر، المبتذل على الأفواه لكثرة تردده.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن المعرضين عن القرآن الكريم لم يكتفوا بالتولي والإعراض عنه، فقال: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ أي إن المسألة قد لا تكون مسألة غفلة أو خوف ونفرة، بل هي حالة الاستكبار الذي يعيشونه في شخصياتهم، فيخيل إليهم أن مستواهم ليس هو مستوى الناس الذين يرسل الله إليهم رسولا لا يملك المستوى الذي يملكونه في الوسط الاجتماعي، بل لا بد من أن ينزل الله على كل واحد منهم كتابا سماويا خاصا به ليتناسب ذلك مع طموحاتهم الذاتية.

قال آخر: وهذا ما يشير إليه الله تعالى في قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى

القرآن والوعيد والإنذار (234)

نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ [الأنعام: 124].. ومقترحهم هذا يعبر عن جهلهم وعنادهم واستكبارهم، فالله تعالى إنما ينزل كتابا على من يصطفيه، بحكمته، من عباده، ويرتضيه من أنبيائه، وهو سبحانه لا يصطفي إلا الصالحين المرضيين، الأخيار المخلصين، فكيف يطمع أولئك الأشقياء أن ينزل على كل واحد منهم كتابا وهم لا يمتون إلى الله بسبب، ولو كان الحق رائدهم، لصدقوا بكتاب نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ففيه من الدلائل والبينات، ما يرشد إليه، ويدل عليه.

قال آخر: وقد لا تكون هذه الطروحات حقيقة فيما يفكرون به، بل قد تكون مسألة تحد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعوهم إليه، ليعطلوا عليه حركة الدعوة في مجتمعاتهم، لأنهم يعرفون أنه لا يستجيب لهم في ذلك لأنه طلب غير معقول وغير واقعي، لأن قضية الرسالة ليست عبثا يخضع للتمنيات، ولكنها حاجة واقعية تنبعث من إرادة الله المنطلقة من الحكمة الإلهية في إرسال رسله وإنزال رسالاته.

قال آخر: وبناء على هذا ذكر الله تعالى أنهم لا يعرضون عنه لهذا السبب، وإنما وهو اصطلاحهم على حب العاجل ورفض الآجل، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾، و﴿كَلَّا﴾ زجر لهم وتوبيخ على اقتراحهم لتلك الصحف المنشرة، أي فهم لا يؤتونها، ثم بين الله تعالى سبب هذا التعنت والاقتراح فقال: ﴿بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾ أي إنما دساهم وطبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها ومن ثم أعرضوا عن التأمل في تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جد الكفاية في الدلالة على صدق دعوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوغ له.

القرآن والوعيد والإنذار (235)

قال آخر: ثم وبخهم الله تعالى على إعراضهم عن التذكرة فقال: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ أي ليس الأمر كما يقول المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه ذكرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكرا ولا معرفا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما هو كالنتيجة لما سلف فقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أي فمن شاء من عباده أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل، فإن نفع ذلك راجع إليه، وبه سعادته في الدارين.

قال آخر: ثم رد الله تعالى المشيئة إلى نفسه فقال: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ أي وما يذكرون هذا القرآن ولا يتعظون بعظاته ويعملون بما فيه إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله، إذ لا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]

قال آخر: ذلك أن للذكرى أسبابها الداخلية في عمق النفس الإنسانية، والخارجية في الظروف المحيطة بها، وذلك من خلال القوانين التي أودعها الله في الطبيعة الإنسانية وما يتصل بها من أوضاع وأحداث، وهي من الأمور الخاضعة لتقدير الله من جهة هذا الرابط بين فعل الإنسان وإرادة الله.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما هو كالعلة لما سلف فقال: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أي فالله هو الحقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو القمين بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا به وأطاعوه.

قال آخر: وفي هذا إشارة إلى أن مشيئة الله العامة المطلقة، عادلة، رحيمة، منزهة عن الجور والتسلط.. فهي مشيئة الخالق في خلقه.. فالخلق في ضمان هذه المشيئة، في رحمة الله، أيا كانت مشيئة الله فيهم.. والله تعالى يقول: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]

القرآن والوعيد والإنذار (236)

تهديدات خاصة:

قال المرشد: أحسنتم.. حدثتمونا بما ورد في القرآن الكريم من ذكر الخصومات بين أهل جهنم.. فحدثونا بما ورد فيه من التهديدات الخاصة بأصناف الجرائم.

قال أحد الوعاظ: هي كثيرة في القرآن الكريم، فعن أيها تريدون أن نحدثكم؟

المشهد الأول:

قال المرشد(1): حدثونا عن قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 11 ـ 31]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة يتوعد الله تعالى ذلك الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1287)، وتفسير المراغي (29/ 130)، ومن وحي القرآن: (23/ 209)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 163)، وتفسير ابن كثير: (8/ 265)، ومنية الطالبين: 29/ 290.

القرآن والوعيد والإنذار (237)

قال آخر: وفيها عرض لصورة من صور المنذرين الذين أنذرهم الرسول فسخروا منه ووقفوا جبهة متحدية له آخذة الطريق عليه إلى الناس وإلى تبليغهم رسالة ربه.. وقد ورد في الروايات أن الموجه إليه هذا التهديد، هو الوليد بن المغيرة.. وبهذا القول ـ إن صح ـ يكون الوليد هو الصورة التي يرى فيها كل مشرك معاند، ذاته ويشهد المصير الذي هو صائر إليه.

قال آخر: وقد بدأ الله تعالى الآيات الكريمة بهذا التهديد الشديد، فقال: ﴿ذَرْنِي﴾ وهو تهديد بالنكال والبلاء وباتجاه عذاب الله كله إلى هذا الإنسان الشقي الموجه إليه هذا الإنذار، ويشبهه قوله تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ [المزمل: 11]، وهو تهديد مزلزل مفزع لهؤلاء السادة المتنعمين، أصحاب تلك الحملة الضالة التي تؤذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقف لدعوته بالمرصاد..

قال آخر: وفي هذا التهديد من الله تعالى للمشركين، بعد دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهجرهم هجرا جميلا، وأن يزايل موقفه من بينهم في رفق إشارة إلى أن يترك النبي الأمر لله، فهو الذي سيتولى حساب هؤلاء المشركين.. فليدع الأمر لله، ولا يقطع ما بينه وبين قومه من أواصر النسب والقرابة.. فهم قومه، وأولى الناس بعطفه، ومودته.

قال آخر: وهذا أسلوب من أساليب التهديد، التي تبدو في صورة من أمسك بيده سيفا، أو رمحا، ثم رفعه في وجه عدوه، الذي يحتمى في ظل صديق أو شفيع، وهو يقول لهذا الصديق أو الشفيع: ذرني، أي اتركني، وهذا الشقي، أضربه الضربة القاضية.

قال آخر: ومن هذا الأسلوب يبدو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الدرع الواقية لهؤلاء الضالين من أن ينزل عليهم غضب الله، وأن هذا الغضب واقع بهم، إذا هم غاضبوا النبي، وحملوه حملا على أن يخلى مكانه فيهم.. وقد كان ذلك، فإنه ما إن بلغ الكتاب أجله لموقف النبي من

القرآن والوعيد والإنذار (238)

هؤلاء المشركين، وخروجه من بينهم مهاجرا حتى تساقطت عليهم سحب العذاب.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أول نعمه عليه، فقال: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾، و﴿وَحِيدًا﴾ حال من فاعل ﴿خُلِقَتْ﴾ أي من خلقته وحيدا، ولم يشاركني في خلقه أحد، ثم دبرت أمره أحسن التدبير، فهو بدل أن يكون شاكرا قابل ذلك بالجحود والطغيان.

قال آخر: وقد يكون في هذا وعيد شديد على تمرده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه، لأنه كان يقول ـ حسبما ورد في الروايات ـ: (أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي نظير)، ولذلك تهكم الله به وبلقبه، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه، فجعله وحيدا في الشر والخبث.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى كيف دبر أمره، وأول ذلك ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا﴾، أي كثيرا في نفسه أو كثيرا في نمائه.. والثاني ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾، أي حاضرين عنده لا يفارقونه لعدم حاجتهم إلى السفر والضرب في الأرض للتجارة لوفرة أموالهم، فكان مستأنسا بهم، مبتهجا بشهودهم.. والثالث ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾، وفي ذلك إشارة إلى سعة نعمته.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على هذه النعم بقوله: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾، أي والعجب أنه يطمع بالزيادة، فما أكثر طمعه وأقل فهمه وشعوره حيث قابل تلك النعم بالكفران والعصيان، وبالإعراض عن رسالة السماء والتنفير منها عنادا واستكبارا، ومع ذلك يطلب الزيادة على ما هو فيه.

قال آخر: وقد رد الله تعالى على أمنيات هذا الضال، وتوقعاته بأن يزداد مالا وبنين، فقال: ﴿كَلَّا﴾، وهي كلمة ردع عنيفة توحي بالرفض الشديد له، فلن يرحمه الله أو يفيض عليه من لطفه، وإنما يملي له ليزداد إثما في دخوله التجربة الحية التي يتميز بها الشاكر من

القرآن والوعيد والإنذار (239)

الكافر.

قال آخر: ثم علل الله تعالى ذلك الردع بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ أي إنه كان معاندا لآيات المنعم، وهي آيات القرآن الكريم التي نزل بها الوحي على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم قال فيها ما قال، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.. وفي الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحق بقلبه، وينكره بلسانه، وهذا أقبح أنواع الكفر.

قال آخر: ثم بين الله تعالى ما يفعله به يوم القيامة فقال: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود، أي أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصائب وأنواع المشاق شبيها بمن يُكلف صعود الجبال الوعرة الشاقة.

قال آخر: ثم حكى الله تعالى كيفية عناده فقال: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ﴾ أي أنه كان يعيش في حيرة الإنسان الباحث عن ثغرة في شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لينفذ منها لتشويه صورته في نظر الآخرين، وعن ثغرة في آيات القرآن، في كلماته وأسلوبه ومعانيه، ليجد فيها بعض النقص الذي يستطيع من خلاله أن يبعد الفكرة التي توحي للناس بأنه وحي من الله، وهكذا فكر، وعصر فكره، وأثار كل الاحتمالات، فلم يصل إلى نتيجة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه بعد تفكيره فيما تلي عليه من آيات الله ﴿وَقَدَّرَ﴾ أي جعل يزن ويقدر كل ما كان يطرقه من أفكار.. ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ أي نظر فيما اجتمع له، من آراء مختلفة في القرآن، أهو شعر أم ليس بشعر.. أم هو كهانة أم ليس من الكهانة في شيء.. أم هو قول مجنون أم ما قائله بمجنون، ولا فيما يقوله إلا أحكم المنطق وأصوب القول.. وهكذا، تدور الخواطر في نفسه، وتصطرع الآراء في عقله، وهو عاجز عن أن يخرج من هذه العاصفة المزمجرة التي احتوته.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى العجب من تقديره، فقال: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، وهذا

القرآن والوعيد والإنذار (240)

أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدث عنه، تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].. وهو هنا دعاء عليه بالقتل، لهذا التقدير العجيب الذي قدره.. إذ كيف يسوغ لمن فكر، أن يقيم ميزانا لأي كلام، مع كلمات الله؟

قال آخر: ثم كرر الله تعالى هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال: ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ أي لعن وعذب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه بعد ذلك ﴿نَظَرَ﴾ أي ثم نظر في أمر القرآن مرة بعد أخرى، لعله يجول بخاطره ما يحبون، ويصل إلى ما يرجون.. ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾ أي ثم قطب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.

قال آخر: ثم أكد الله تعالى ما قبله فقال: ﴿وَبَسَرَ﴾ أي كلح واسود وجهه.. وفي هذا إيماء إلى أنه كان مصدقا بقلبه صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ينكره عنادا، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط، وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه ﴿أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما استنبطه من الترهات والأباطيل، ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ أي إنه

القرآن والوعيد والإنذار (241)

ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدعى، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففي العرب ذوو فصاحة، وفيهم الخطباء الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدا من أهل المعرفة سولت له نفسه أن يعارضه، بل التجئوا إلى السيف والسنان، دون المعارضة بالحجة والبرهان.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: 18 ـ 24] صورة معجزة من صور البيان القرآني، الذي تعجز أدق ألوان البيان مجتمعة أن تتعلق بأذياله.. فبالكلمة، شعرا ونثرا، وبالصورة المتحركة والساكنة، والناطقة والصامتة، وبالموسيقى، ألحانا مفردة ومجتمعة.. وبكل ما عرفت الإنسانية من ألوان الإبانة والتعبير ـ لا يمكن أن تجئ ـ ولو من بعيد ـ بمثل هذه الصورة القرآنية التي صور بها هذا الإنسان الشقي العنيد، ظاهرا وباطنا، فلم تدع الصورة خلجة من خلجات ضميره، أو مسربا من مسارب تفكيره، أو همسة من همسات خاطره، إلا ألقت بها على قسمات وجهه، ونظرات عينيه، وحركات شفتيه، فكانت شخوصا ماثلة للعيان.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه، وفظيع عمله فقال: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عظم خطر النار، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾، وهو كناية عن هول النار وشدة أمرها، تقول العرب: ما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة والتهويل في الأمر.. أي وأي شيء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت في الوصف حدا لا يمكن معرفته، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى لسقر أوصافا أربعة.. وقد عبر عن الوصفين الأول

القرآن والوعيد والإنذار (242)

والثاني بقوله: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾، أي أنها لا تبقي على شيء فيها إلا أهلكته، ولا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته، فكل ما يطرح فيها هالك لا محالة.

قال آخر: وقد يكون المراد أنها تهلك الكافر، ومع ذلك لا تتركه، فإنه إذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد، وهذا من خصائص سقر، ويؤيده قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [النساء: 56]

قال آخر: وقد يكون المراد أنها لا تبقيهم أحياء ولا تتركهم يموتون، فيكون في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [الأعلى: 12 ـ 13]

قال آخر: أما الوصف الثالث لسقر، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾، أي أنها محرقة للجلود، تلفحها بلهبها حتى تسود.

قال آخر: أما الوصف الرابع لسقر، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾، أي عليها من الملائكة تسعة عشر، وهم مالك ومعه ثمانية عشر، كلهم من الملائكة، وهؤلاء يتولون أمر تدبير النار وعذاب المجرمين.

قال آخر: وقد روي في الأخبار أن جعل خزنة جهنم بهذا العدد صار موضع سؤال، بل سخرية وتندر لقريش، فقد روي عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أتسمعون ـ ابن أبي كبشة ـ يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم ـ يعني: العدد الكثير ـ الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ قال أبو الأسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾(1)

__________

(1) مجمع البيان: 10/ 201. وتفسير الطبري: 14/ 195.

القرآن والوعيد والإنذار (243)

قال آخر: وبما أن ذكر هذا العدد صار سببا للحديث بين أوساط المشركين والكفار، واتخذ بعضهم ذلك سخرية، وظن القليل منهم أن الغلبة عليهم ليس أمرا صعبا، فقد أجاب الله تعالى عن هذا في أطول آيات هذه السورة، فقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 31]

قال آخر: وهذه الآية الكريمة تخبر عن ثلاثة أمور غيبية كبرى.. أولها أن الله تعالى جعل خزنة جهنم ملائكة.. والثاني أنه جعل عدتهم تسعة عشر تكوينا.. والثالث أنه أخبر أنه جعل هذا لأهداف ثلاثة.

قال آخر: أما الأمر الأول، أي جعل خزنة جهنم ملائكة، فقد نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾، وقال في موضع آخر: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]

قال آخر: والقصد من ذكر هذا هو قطع رجاء المجرمين في الخلاص من النار، فإن الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة، فإنه ليس بشيء إزاء الملك في قوته ومقدرته، وقد روي في هذا عن الإمام علي أنه ذكر مالكا خازن النيران، فقال: (أعلمتم أن مالكا إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعا من زجرته!) (1)

قال آخر: وأما الأمر الثاني: أي جعل عدة الملائكة تكوينا تسعة عشر، فالله سبحانه

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 183.

القرآن والوعيد والإنذار (244)

هو العالم بسبب ذلك، وليس في الآية الكريمة ما يكشف عن العلة الكامنة وراء التخصيص بهذا العدد، ولذلك لا يصح الاستدلال بالآية على قداسة هذا العدد (19)، كما عليه بعض المنحرفين، لأنه يمكن أن يقال إنه يكفي لتولي أمر تدبير النار وحراستها والقيام بمهمة تعذيب المجرمين، هذا العدد من الملائكة، فكون عدتهم تسعة عشر لا أقل ولا أكثر لا لخصوصية في نفس العدد، بل الخصوصية في المعدود، وفي المهمات الموكلة إلى الملائكة.

قال آخر: ويوضح ذلك أن حاجة الإنسان اقتضت ان يتمتع بحواس يرتبط من خلالها بالعالم الخارجي فكان عدد هذه الحواس تكوينا خمسة، فهذا لا يعطي تقديسا لهذا العدد، بل إن الحاجة ترتفع بالخمس، ولو كانت الحاجة إلى أزيد من ذلك لقرنت بحاسة سادسة.

قال آخر: وأما الأمر الثالث، وهو الإخبار عن عدتهم بأنهم تسعة عشر، فالقصد منه ـ كما يذكر الله تعالى ـ تحقيق خمسة أهداف، أولها أنه تعالى لم يجعلهم على هذه العدة ﴿إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حيث أثار الإخبار عن عددهم في النفوس تساؤلا عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعة عشر ملكا، ولماذا لم يكونوا آلافا، فصار ذلك سببا للاختبار، فالمؤمن يقبله عن رضى واستسلام، والكافر يثير حوله الشك، ويسخر منه، وبهذا يظهر ما تكنه النفوس من خير وشر، وتظهر الأفعال التي يستحقون بها الثواب والعقاب.

قال آخر: وأما الهدف الثاني، فهو أن هذا الإخبار يبعث أهل الكتاب على تصديق القرآن؛ لأن ذلك مما ورد في كتبهم فيقولون في أنفسهم: من أين وقف محمد الأمي على ذلك العدد!؟ فطبع الحال يقتضي أن يقولوا: لم يقف عليه إلا من طريق الوحي، كما قال تعالى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، فاللام، في قوله: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ للغاية، أي الغاية من الإخبار بالعدد.

القرآن والوعيد والإنذار (245)

قال آخر: وفي التعبير بالاستيقان في جانب أهل الكتاب، وبازدياد الإيمان في جانب المؤمنين، مراعاة لمقتضى الحال في كل من الفريقين.. فأهل الكتاب ـ والمقصود به هنا أولو العلم منهم، الذين سلموا من الهوى المضل، الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم، فأهل الكتاب هؤلاء، يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن يقينا بأن ما يتلقاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هو وحي من عند الله.. هذا إلى ما كان عندهم من علم، بهذا النبي، المبشر به في كتبهم، والمبينة صفاته فيها.

قال آخر: وأما الهدف الثالث، فهو أن هذا الإخبار يزيد في إيمان المؤمنين حيث يجدون في القرآن ما يصدقه أهل الكتاب، كما قال تعالى: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا)، أي أن المؤمنين مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات، ومن بعد نزولها.. لكنهم يزدادون إيمانا كلما تلقوا من آيات الله جديدا، يثبت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون، هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب.

قال آخر: وأما الهدف الرابع، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، والذين أوتوا الكتاب هنا، هم مطلق اليهود والنصارى، وليس الذين ذكروا من قبل، والذين هم خاصة علماء أهل الكتاب.. وكذلك المؤمنون هنا، هم الذين لم يقع الإيمان بعد موقعا متمكنا من قلوبهم.. فهؤلاء وأولئك ليس من شأنهم أن يرتابوا بعد هذا الذي جاء في آيات الله من أنباء الغيب عن عدة أصحاب النار، بعد أن تطابق هذا مع ما في التوراة.

قال آخر: وأما الهدف الخامس، فهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، أي لينكشف حال الذين في قلوبهم مرض، وهم المنحرفون من علماء أهل الكتاب، الذين غلبهم الهوى على كلمة الحق أن

القرآن والوعيد والإنذار (246)

ينطقوا بها، والكافرون، هم المشركون الذين مازالوا على شركهم.. فهؤلاء، وهؤلاء، يتخذون من قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ مادة للاستهزاء، والسخرية.. كأن يقولوا مثلا: ما هذه التسعة عشر؟ ولماذا لم تكن عشرين؟ ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾.. وهذا السؤال الإنكاري بصدد التحقير، وكأنهم يعترضون في أنفسهم بأن هذه العدة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجن والإنس؟

قال آخر: وقد تكون اللام في قوله: (ليقول) لام العاقبة، وليست لام الغاية، والفرق بينهما واضح فإن (لام) الغاية تدخل في الغرض الداعي إلى الفعل، كما سبق بيانه في مورد الاستبيان لأهل الكتاب وزيادة الإيمان في المؤمنين، وأما (لام) العاقبة فهي لبيان ما يترتب على الشيء قهرا، كما يقال (لدوا للموت وابنوا للخراب)، فإن الولادة والبناء ليستا لغاية الموت والخراب، بل هما يترتبان عليهما قهرا، وهكذا المقام، فإن الاستفسار قهري يتواجد في أذهان مرضى القلوب والكافرين.

قال آخر: ولما صار الإخبار عن العدة سببا لضلال الطائفتين رد الله تعالى على تساؤلهم هذا بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾، أي هذه الأمثال التي يضربها الله للناس، هي مضلة لبعض الناس، كما أنها هداية لبعضهم.. فمن نظر إليها بقلب مريض، وبصر زائغ، لم يروجه الخير والحق فيها، وارتد إلى الوراء مرتكسا في متاهات الغواية والضلال.. ومن جاء إليها بقلب سليم، وعقل محرر من الهوى ـ رأى الطريق القويم إلى الله، فسلكه، واستقام عليه.

قال آخر: وهذا مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26]

القرآن والوعيد والإنذار (247)

قال آخر: وهذا يعني أن الجعل الخاص سبب لكل من الهداية والضلالة، وليس علة تامة لهما فكل يختار حسب ميوله دون أن يكون إجبارا على أحد الأمرين، فلو زاد إيمان المؤمن فقد زاد عن اختيار، ولو ضل المنافق أو الكافر فقد نتج ذلك عن اختيارهما.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ رد على المستهزئين الساخرين، الذين اتخذوا من عدد التسعة عشر مادة للاستهزاء والسخرية، حتى لقد بلغ بهم القول بأن الله لا يملك من الجند إلا هؤلاء التسعة عشر، ولو كان يملك أكثر منهم لجعلهم عشرين لا تسعة عشر.. وكذبوا وضلوا، فإن جنود الله لا حصر لها، ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى.

قال آخر: ثم ختم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾، والضمير ﴿هِيَ﴾ يعود إلى ﴿عِدَّةٍ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي أن هذه العدة، هي موضع ذكرى، وعبرة الناس.. كما علم منها أهل الكتاب مطابقة ما جاء في القرآن لما في كتبهم، والتزام هذه الكتب جميعها هذا العدد، دون تبديل فيه، أو تحريف له، فيما حرف أهل الكتاب وبدلوا، لأنه لا مصلحة لهم في هذا التبديل، والتحريف.

قال آخر: ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى ﴿سَقَرَ﴾ في قوله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾، ومع سقر الجنود القائمون عليها، وعدتهم تسعة عشر.. فسقر، والجنود القائمون عليها، هي ذكرى للبشر.

قال آخر: أي ليس الهدف إلا إثارة حقائق الآخرة التي تتمثل النار في جنباتها كموقع لعذاب الكافرين والمشركين، كما تنطلق الجنة في رحابها كموقع للنعيم والرضوان الذي يناله المؤمنون من رب العالمين، مما لا مجال فيه للجدل، بل الغاية كل الغاية فيه، هي الذكرى التي تفتح العقل والقلب والروح على ذلك كله، لينطلق الإنسان بعيدا عن أجواء الغفلة،

القرآن والوعيد والإنذار (248)

ليتقي الله في أمره وفي نهيه.

المشهد الثاني:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 79 ـ 82]

قال أحد الوعاظ: هذه الآيات الكريمة تتحدث عن نماذج من سفه المحرفين للأديان والذي لا يقف عند حد، فهم يفترون على الله الكذب، ولا يعلمون الكتاب إلا أماني، وعلمهم ظن والظن لا يغني من الحق شيئا.

قال آخر: ومن هؤلاء اليهود، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخولهم في الإسلام، فقص الله في هذه الآيات الكريمة على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم من تمرد وعناد، وجحود وإنكار.. ولذلك لا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي أنبيائهم.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 101)، وزهرة التفاسير (1/ 283)، وتفسير المراغي (1/ 148)، ومن وحي القرآن: (2/ 101)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 276)، والتفسير المنير (1/ 203)، ومفاتيح الغيب (3/ 563)

القرآن والوعيد والإنذار (249)

هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، والويل كلمة يقولها من يقع في هلكة، وهي دعاء على النفس بالعذاب كما جاء في قوله تعالى حكاية عن الكافرين ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ﴾ [الكهف: 49]، أي أن الهلاك نازل لا محالة بأولئك الظالمين للحق في ذاته ولأنفسهم الذين يكتمون ما أنزل الله تبعا لأهوائهم، ويكتبون الكتاب بمحض أهوائهم، ولإثبات ما يريدون إثباته ومحو ما يريدون محوه وكتمان ما يريدون كتمانه.. فهم بكتابة ما يكتبون قد أخفوا كثيرا، وقد بينه القرآن الكريم أو بين ما وجب بيانه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ فيه تأكيد لبيان أنهم هم مصدر الإعلام به، وأنه لا مصدر له من الله تعالى، يضلون به الأميين منهم، ويعلنونه على أنه من عند الله تعالى، وهم الذين كتبوه وصنفوه، وقد يكون فيه بعض ما جاء عن طريق موسى والنبيين من بعده، لكنه في جملته ليس صادقا في كل ما كتبوا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى سبب فعلهم هذا، فقال: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي ليأخذوا لأنفسهم في مقابلة هذا المحرف ثمنا، وهي الرشى التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها.

قال آخر: ثم كرر الله تعالى الوعيد فقال: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.

قال آخر: وقد روي عن الإمام الصادق في هذا أنه قيل له: إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا، يقلدون علماءهم، فقال الإمام الصادق: (بين

القرآن والوعيد والإنذار (250)

عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أما من حيث الاستواء فإن الله ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما ذم عوامهم، وأما من حيث افترقوا فإن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وأكل الحرام، والرشاء وتغيير الأحكام، واضطروا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه) (1)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم، فقال: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، أي لن يخلدنا الله في عذاب النار لأننا أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار، فلا يعاقبنا إلا كما يعاقب الأب أولاده، والمحب حبيبه، بطريقة تأديبية حميمة يمتزج فيها الحب بالعقوبة بشكل خفيف لا يستمر طويلا، لأن الرحمة تسبق الغضب عندما يتحرك في مثل هذه المواقع، وتلك هي التخيلات النفسية التي تحول الأمنية إلى حقيقة في الواقع.

قال آخر: وهذه هي القاعدة النفسية اليهودية المرتكزة على الذهنية المستعلية التي تنظر إلى الناس من الموقع الفوقي، باعتبار أنهم شعب الله المختار، وأن الناس يقفون في الدرجات الدنيا ليكونوا خدما لهم يلبون حاجاتهم وقضاياهم العامة والخاصة.

__________

(1) الاحتجاج، ص ٤٥٧.

القرآن والوعيد والإنذار (251)

قال آخر: وقد روي في هذا أن أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام، لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فمن لم تدركه النجاة ويلحقه الفوز والسعادة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم، وقال بعضهم: إنها تمسهم أربعين يوما، وهي المدة التي عبدوا فيها العجل.

قال آخر: وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده.. ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.

قال آخر: أي إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقول عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.

قال آخر: ثم بين الله تعالى أن العقاب يكون على قدر العمل، والثواب يكون على قدر العمل، فلا ينظر فيه إلى الذات، بل الجميع خلق الله تعالى، ولا يريد الله تعالى إلا العمل الصالح، والامتناع عن الشر، فقال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾، أي ليس الأمر كما قالوا وزعموا زعما بعيدا عن كل حقيقة، بل المسألة خاضعة لقاعدة ثابتة في ثواب الله وعقابه، مما لا يرجع إلى امتيازات ذاتية لإنسان معين أو شعب معين. ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ عميقة الجذور في ذاته بحيث كان لها الدور الكبير في تغيير كل فكره وعمله في الاتجاه السلبي، ليكون إنسانا محاصرا من كل جهة، فلا ينفذ إلى عقله شيء من الحق، ولا إلى حياته شيء من الخير، فقد أطبقت عليه ضلالته ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ

القرآن والوعيد والإنذار (252)

خَطِيئَتُهُ﴾ من كل جانب، فأينما يتوجه ويتحرك فهناك خطيئة في فكره وفي عمله.

قال آخر: وتعبير الآية الكريمة بكلمة ﴿كَسَبَ﴾ قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظانا أنه يكسب بارتكاب الذنب نفعا، ويتحمل بتركه خسارة، وإلى مثل هؤلاء المذنبين يشير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: 86]

قال آخر: ولعل الشرك الذي لا يغفره الله هو التجسيد الحي لهذه السيئة التي يكسبها الإنسان فتبعده عن الله في توحيد العقيدة والعبادة، ويستغرق في الصنمية التي تحول حياته إلى جدار مسدود لا مجال فيه للأفق الواسع، وإلى كهف مظلم لا ينفذ إليه النور من أية جهة، فيكون هذا الإنسان خطيئة متجسدة في حركة الباطل والشر والفساد في واقعه الداخلي والخارجي.

قال آخر: ولذلك كان جزاؤهم العادل ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن مثل هؤلاء لا يرتبطون بالله بأية رابطة تنفذ منها رحمته وينفتح عليهم رضوانه، مما يجعل الخلود في النار هو النهاية الطبيعية التي ينتهون إليها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى في مقابلهم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ التي أراد الله لعباده أن يأخذوا بها في حياتهم الفردية والاجتماعية وفي علاقاتهم العامة والخاصة، فكانوا التجسيد الفكري للحق، والواقع المتحرك للخير، الأمر الذي يجعلهم في موقع القرب من الله، فلا يزدادون إلا خيرا وطاعة ومحبة وانقيادا له، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فهم أهلها ومجتمعها وهم الذين يمثلون أخلاقيتها المنفتحة على الروح والرضوان، ويجددون لها حيويتها وحركيتها في إنسانيتهم الخيرة التي عاشت مع الله وانتهت إليه في مواقع القرب عنده.

القرآن والوعيد والإنذار (253)

قال آخر: وبذلك فإن الله تعالى يؤكد هنا القاعدة الخاصة بالخلود في الجنة أو في النار، بعيدا عن كل الامتيازات، أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم، فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى الناس في الدنيا، لأن الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز مادي أو معنوي، يتميز به عن غيره، فيجعل له قيمة متميزة لدى سائر الناس؛ أما في الآخرة، فالجميع متساوون أمام الله؛ فلا علاقة لأحد بالله أكثر من غيره، من ناحية ذاتية، لأنهم مخلوقون له، ومن ناحية الصفات، لأنها هبة من الله، فلا مجال هناك إلا للعمل وحده، فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند الله.

قال آخر: ولهذا فإن الخالدين في النار هم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية، فهي محيطة بهم من كل جانب وليست شيئا طارئا مما يحدث للإنسان، كنتيجة لنزوة سريعة.

قال آخر: ذلك أنهم يعتقدونها ثم يعيشونها فكرا وشعورا وعملا، وهؤلاء هم المجرمون المتمردون الذين يواجهون الحق من موقع الوضوح في الرؤية، ولكنهم يصرون على الابتعاد عنه والتمرد عليه، والمتاجرة بكلماته بعيدا عن روحه، والتحريف لآياته.

قال آخر: وهؤلاء هم الذين لا يتطلعون إلى الإيمان بالله بروحية منفتحة تخشع أمام ذكره وتخضع لآياته، وتستسلم لأوامره ونواهيه، بل يمرون مرورا سريعا، تماما كأية فكرة طارئة، أو وهم زائل.

قال آخر: وهؤلاء هم الظالمون الذين يفسدون في الأرض ويبغون فيها بغير الحق، وينازعون الله سلطانه وكبرياءه، عندما يخيل إليهم أنهم آلهة صغار، من خلال نوازع الكبرياء والعظمة الذاتية، التي توحي بها السلطة في مظاهر القوة والسلطان، أو الذين يشركون بعبادة الله غيره، مما يصنعونه بأيديهم من الخشب والحجر وغيرهما مما يصنع منه

القرآن والوعيد والإنذار (254)

الأصنام، أو مما يصنعونه بطاعتهم وخضوعهم من أصنام اللحم والدم من الطغاة والمستكبرين الذين يصنع منهم الأتباع آلهة وسادة، ولولاهم ما كانوا شيئا مذكورا.

قال آخر: هذه هي النماذج التي تكسب الخطيئة من موقع القاعدة، هم أصحاب الخلود في النار، وهم الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء اليهود الذين لم يتركوا خطيئة إلا ومارسوها بكل قوة وعزم وتصميم، من التمرد على الأنبياء، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتحريف كلام الله، والمتاجرة بالأكاذيب والبدع، وغير ذلك، مما يدل على وجود أساس روحي أو فكري للتمرد والطغيان، أو يوحي بأن علاقتهم بالله لا تمثل شيئا كثيرا في حياتهم ليندفعوا ـ من خلاله ـ في طريق الطاعة والتوبة؛ فكيف يرون لأنفسهم هذا الامتياز الإلهي الذي يؤمنهم من الدخول في النار؟

قال آخر: وأما الخالدون في الجنة، فهم الذين عاشوا الإيمان في نفوسهم فكرا وشعورا وروحانية، فهم يقفون أمام الله موقف المؤمن الذي يحس وجوده بمشاعره، كما يتعلقه بفكره، وهم الذين يعيشون الإحساس بالعبودية المطلقة التي تدفعهم إلى الخضوع والخشوع والاستسلام لله في أعمالهم، ولكنهم قد يخطئون ويتمردون نتيجة نزوة سريعة أو هفوة طارئة مما يدخل في حساب الغفلة والنسيان ووسوسة الشيطان، من دون أن يكون هناك أساس نفسي أو فكري يشجع على ذلك ويدفع إليه.

قال آخر: ولهذا نجدهم يتراجعون عند أول حالة انتباه أو تذكر أو يقظة ضمير، كما حدثنا الله عنهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] فهؤلاء هم أصحاب الجنة المتقون، الذين عاشوا روحيتها في روحيتهم، وأخلاق أهلها في أخلاقهم في الأرض قبل أن ينتقلوا إليها.

قال آخر: والآيات الكريمة تنبه العاملين في حقل التوعية والدعوة الإسلامية، أن

القرآن والوعيد والإنذار (255)

يركزوا على هذا الجانب في المفهوم الإسلامي الأصيل للقرب من الله والبعد عنه، فلا يسمحوا للامتيازات الطارئة التي توزع الجنة والنار بين الناس على أساس أنسابهم ـ حتى ولو كان النسب مرتبطا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو على أساس انتماءاتهم المذهبية من دون أن يكون لذلك أي أثر في سلوكهم العملي وتطلعاتهم الروحية، لأن ذلك يتنافى مع المفهوم القرآني، الذي يعتبر الأساس في صحة أي مفهوم وفساده.

قال آخر: فإذا كان القرآن الكريم يطرح القضية في موقع الإيمان والعمل، فكيف يمكن أن نجرد المقياس من العمل فنعتبره ثانويا ونبقي على جانب الإيمان وحده!؟.. ثم هل يمكن أن نكتشف الإيمان الحق إلا من خلال العمل!؟

قال آخر: أما ما يخيل وجوده لدى بعض الناس من عاطفة إيمانية، إزاء بعض المقدسات أو الروحيات، فإنها قد تدخل في نطاق التربية العاطفية، التي يعيشها الإنسان في طفولته أو في بيئته، بعيدا عن جانب العقيدة عنده.

قال آخر: وقد يحاول البعض أن يدخل قضية الاستثناءات المطروحة في باب العام والخاص أو المطلق والمقيد، مما اعتاد الفقهاء والأصوليون إثارته في كل قضية من القضايا الشرعية التي يقف فيها الإنسان بين أمرين، أحدهما يدل على الإطلاق، والآخر يدل على التحديد، فيحملون المطلق على المحدود، فيركزون بذلك الاستثناءات في القاعدة، ونحن لا نمانع في القضية من ناحية المبدأ، فإن هذه القاعدة اللغوية تعتبر من بين القواعد المسلمة في أساليب اللغة العربية.. ولكن هذا لا يجري في الحالات التي تدخل في نطاق الضوابط العامة التي يراد منها التحديد المطلق من أجل إعطاء المفاهيم الأساسية العامة، فقد يدخل ذلك في سياق العموميات أو المطلقات الآبية عن التخصيص أو التقييد ولا سيما في أمثال هذه القضايا التي يشعر معها الإنسان، بأن المفهوم المطروح في الآية ينسجم مع طبيعة

القرآن والوعيد والإنذار (256)

العلاقة التي تربط الله بعباده حيث لا أساس لأي شيء ذاتي في هذا المجال، لتساوي الخلق أمام الله في كل الامتيازات المتوهمة، فلا يبقى إلا العمل المستند إلى الإيمان.

المشهد الثالث:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ [الجاثية: 7 ـ 11]

قال أحد الوعاظ: في هذه الآيات الكريمة تهديد ووعيد بالويل والبلاء، لمن يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها ضائقا بها، منكرا لها، مستعليا ومستكبرا، على الإقبال عليها، فلا يأبه لما يتلى عليه منها، بل يمضي كأن لم يسمع شيئا، كان في أذنيه صمما.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾، والأفاك: صيغة مبالغة من الإفك، والافتراء، وقلب الحقائق.. والأثيم: صيغة مبالغة كذلك من الإثم، وهو اقتراف المنكر، واجتراح السيئات.

قال آخر: وهاتان الصفتان هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال، فلا يكون منهم قبول للحق، ولا تجاوب معه.. إذ كيف يجد الحق له مكانا في نفوس لا تستمرئ إلا الإفك، ولا تستطيب إلا الإثم؟

قال آخر: وهو وصف لهؤلاء الذين انطلقت حياتهم لتكون كلها كذبا في الموقف

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 223)، وتفسير المراغي (25/ 143)، ومن وحي القرآن: (20/ 308)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (16/ 191)، والتفسير المنير (25/ 255)، ومفاتيح الغيب (27/ 672)، ومنية الطالبين: 25/ 334.

القرآن والوعيد والإنذار (257)

والكلمة، فهم يمارسون الكذب على أنفسهم عندما يكذبون على الناس، ويكذبون الحقائق التي يأتي بها الرسل، ويغرون الناس بالكذب في حركة الواقع، وبتكذيب الصادقين، لأنهم لا يطيقون كلمة الصدق، ولا أجواء الحق بعد أن أصبح الكذب عنوانا لشخصياتهم وطابعا لحياتهم.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى لهذا الأفاك وصفين.. أولهما الإصرار والاستكبار، فقال: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾، أي إن هذا الأفاك إذا سمع آيات القرآن تتلى على مسامعه، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية الله وقدرته، ووعده ووعيده، بقي مصرا على كفره، وأقام على ما كان عليه إقامة بقوة وشدة، ولم يتعظ بما يسمع من كلام الله، وتكبر وتعاظم عن الإيمان بالآيات، معجبا بنفسه، وكأنه لم يسمعها، مشبها حاله بحال غير السامع في عدم الالتفات إليها، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]

قال آخر: والصفة الثانية الاستهزاء بالآيات، وقد عبر عنها الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا﴾ أي إذا علم هذا الأفاك من آيات الله شيئا، اتخذ ذلك الشيء هزوا، أي موضوعا للسخرية والتندر مما حوته من المعاني.

قال آخر: أي توجد لدى هؤلاء الجاهلين الأنانيين حالتان.. الأولى: أنهم غالبا ما يسمعون آيات الله فلا يعبؤون بها، ويمرون عليها دون اهتمام وتعظيم، فكأنهم لم يسمعوها أيضا.. والثانية: أنهم إذا سمعوها وأرادوا أن يهتموا بها، فليس لهم من رد فعل إزاءها إلا الاستهزاء والسخرية.. وكلهم مشتركون في هاتين الحالتين، فمرة هذه، وأخرى تلك.

قال آخر: وقد أوعد الله تعالى على الصفة الأولى عذابا أليما في نار جهنم، فقال:

القرآن والوعيد والإنذار (258)

﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم الموجع في جهنم وبئس القرار.. وفي تسمية هذا الخبر المحزن بشرى ـ وهي لا تكون إلا في الأمر السار ـ تهكم بهم، واحتقار لشأنهم، وهو مثل قوله تعالى للكافر: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: 49]

قال آخر: وأوعد الله تعالى على الصفة الثانية عذابا مهينا، فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أي أولئك الأفاكون الذين سبقت صفاتهم لهم عذاب موصوف بالإهانة والذل والخزي بسبب إصرارهم واستكبارهم عن سماع آيات الله واتخاذها موضوع استهزاء واستهانة بالقرآن، والعذاب المهين: هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.

قال آخر: ولم لا يكون الأمر كذلك، وهؤلاء كانوا يريدون أن يضفوا على أنفسهم الهيبة والعزة والمكانة الاجتماعية من خلال الاستهزاء بآيات الله سبحانه، إلا أن الله تعالى سيجعل عقابهم تحقيرهم وذلتهم وهوانهم، ويبتليهم بعذاب القيامة المهين المذل، فيسحبون على وجوههم مكبلين، ثم يرمون على تلك الحال في جهنم، ويلاحقهم مع ذلك تقريع ملائكة العذاب وسخريتهم.. ومن هنا يتضح لماذا وصف العذاب بالأليم في الآية السابقة، وبالمهين هنا، وبالعظيم في الآية التالية، فكل منها يناسب نوعية جرم هؤلاء وكيفيته.

قال آخر: ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب المهين، فقال: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾، أي إن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة، لأنهم متوجهون إليها، كما قال تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: 16]، أي من أمامه، أو إن وراء تعززهم بالدنيا وتكبرهم عن الحق جهنم، فإنها خلفهم وستدركهم.

قال آخر: ويمكن أن يكون التعبير بالوراء مع أن جهنم أمامهم، وسيصلونها في المستقبل ناظرا إلى أن هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم، وهو تعبير مألوف، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر، تركه وراء ظهره، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ

القرآن والوعيد والإنذار (259)

هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: 27]

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن كلمة ﴿وَرَاءَ﴾ من المواراة، وتقال لكل شيء خفي على الإنسان وحجب عنه، سواء كان خلفه ولا يراه، أم أمامه لكنه بعيد لا يراه، وعلى هذا فإن لكلمة ﴿وَرَاءَ﴾ معنى جامعا يطلق على مصداقين متضادين.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد يكون التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول، فمثلا نقول: إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك، أي إن تناول الغذاء يكون علة لذلك المرض، وهنا أيضا تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم المهين.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هؤلاء كانوا يظنون أن أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئا من أثقالهم، فقال: ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾، أي لا يدفع شيئا من العذاب عنهم ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال، كما قال تعالى: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المجادلة: 17]

قال آخر: وسبب التفرقة بين قوله تعالى: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، وقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أن الوصف الأول يدل على حصول الإهانة مع العذاب، والوصف الثاني يدل على كونه بالغا أقصى المراتب في كونه ضررا.

قال آخر: ثم وصف الله تعالى القرآن المجيد بأنه كله هدى مع أنه هاد، تحقيقا للمبالغة، فقال: ﴿هَذَا هُدًى﴾ فمن آمن به واتخذه قائدا وإماما، يطيع أوامره، وينقاد إلى أحكامه، فقد هدي، وأما ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ فلا يتركون، بل ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ والرجز هو أشد العذاب، كما قال تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: 59]

القرآن والوعيد والإنذار (260)

قال آخر: وعلى هذا، فإن الله تعالى وعد الكافرين بأنواع من العذاب، وهي: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.. و﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.. و﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.. و﴿رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾.. فللعذاب درجات تتناسب مع عظم الذنوب والمعاصي.

المشهد الرابع:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: 17 ـ 20]

قال أحد الوعاظ: بعد أن ذكر الله تعالى في آيات كريمة سابقة حال الداعين للوالدين، البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة في الدار الآخرة أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتجين بأن القرون الخوالي لم تبعث، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار.

قال آخر: فقد جاءت هذه الآيات الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 277)، وتفسير المراغي (26/ 21)، ومن وحي القرآن: (21/ 26)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (16/ 272)، والتفسير المنير (26/ 40)، ومفاتيح الغيب (28/ 21)، ومنية الطالبين: 26/ 56.

القرآن والوعيد والإنذار (261)

بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: 15 ـ 16]

قال آخر: وهذا النموذج يعيش بين أبوين مؤمنين، يتعهدانه بالرعاية والحب والحنان، ويبذلان كل ما لديهما من جهد في سبيل تنميته وتربيته، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال، انفصل عن هذا الجو الإيماني ليندمج بالأجواء اللاهية العابثة التي تمنعه عن الجدية في الحياة، وعن المسؤولية في عالم الفكر والعمل، وتدفعه إلى مواجهة المواقف الفكرية العقيدية بطريقة اللامبالاة التي ترفض بشكل سطحي، وتقبل بشكل ارتجالي، فيكفر لأنه لم يلتق الإيمان في مواقع التأمل أو الحوار، وينحرف لأنه ابتعد مع شهواته ولذاته عن خط الاستقامة.

قال آخر: ويبدأ صراعه مع والديه اللذين بلغا سن الكهولة أو الشيخوخة، حول مسألة الإيمان والكفر، فهما، نتيجة امتزاج عاطفتهما بالابن، يعيشان القلق الشديد على مصير ابنهما ومستقبله في الآخرة، ويخشيان أشد الخشية أن يواجه عذاب الله في النار، ولكن ابنهما يعيش الغرور الكافر، والكبرياء الطاغي، ويقف منهما موقف التعنيف والتأنيب والتأفف من هذه الشيخوخة التي تريد أن تقف أمام شهواته ولذاته في معصية الله.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾ في احتقار واستهانة وتأفف، كما لو كانا عبئا ثقيلا عليه، لأنهما يفرضان نفسيهما عليه، ويتدخلان في حياته، في الوقت الذي يرى نفسه في موقع لا يجوز معه لأحد أن يعترض على سلوكه، لا سيما ممن لا يملك الدرجة العليا من الفكر والتقدم في نظره.

القرآن والوعيد والإنذار (262)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه قال لهما: ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ بعد الموت الذي أتحول فيه إلى تراب، بفعل السنين الطويلة التي تفني كل نبضة للحياة التي تتحدثان عنها، ﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ فلم يعد أحد من الأمم التي عاشت في القرون السالفة إلى الحياة ليكون نموذجا حيا للفكرة التي تطرحانها، فلو كان هناك بعث، لرأينا بعضا من هؤلاء، ولكننا لم نر شيئا من ذلك، مما يوحي بأن فكرة البعث أسطورة لا تمت إلى الحقيقة بصلة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى موقف والديه، فقال: ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أي ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثا وتحريضا: هلاكا لك، صدق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، فإن وعد الله الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن أبويه لا ييأسان، بل تستيقظ العاطفة لتركض وراء هذا الولد الذي يخافان عليه من النار، فيما يشبه الاستغاثة ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ﴾ فيطلبان منه أن يغيثهما ويهدي ولدهما إلى الإيمان، ويلتفتان إليه ﴿وَيْلَكَ آمِنْ﴾ بالله وبرسوله وبرسالته وباليوم الآخر، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ فيما توعد به الكافرين من النار وما وعد به المؤمنين من الجنة، فتذكر وعد الله، واعمل على السير في خط النجاة والابتعاد عن خط الهلاك. ولكنه لا يأبه ﴿فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ لأنه يرتكز على الحس المادي الذي ترتبط به كل قضايا الإيمان في نظره.

قال آخر: وفي ذلك إشارة إلى أن هذه الفئة من الأبناء الضالين تحمل عدة صفات.. أولها عدم احترام منزلة الأبوين، والإساءة لهما، لأن ﴿أُفٍّ﴾ في الأصل تعني كل شيء قذر،

القرآن والوعيد والإنذار (263)

وهي تقال في مقام التحقير والإهانة.. وذكر بعضهم أنها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر، وهي قذرة ملوثة، ولا قيمة لها.

قال آخر: والصفة الثانية أنهم ـ بالإضافة إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء ـ يسخرون منه ويستهزئون به، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية الباطلة.

قال آخر: والصفة الثالثة أنهم لا يذعنون للحق، بل قد امتلأت نفوسهم بروح الغرور والكبر والأنانية، على الرغم من أن الأبوين الحريصين يبذلان قصارى جهودهما، وكل ما في وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله الأليم، إلا أنه يأبى إلا الاستمرار في طريق غيه وكفره، ويصر على ذلك، وأخيرا يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عاقبة هذا الصنف من الناس، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾، أي أن هذا الصف من الذين عقوا آباءهم، وخرجوا عن طاعتهم، كما أنهم حادوا الله، وحادوا عن طريق الهدى قد حق عليهم القول، ووقعوا تحت حكم الله على أهل الضلال والكفر في الأمم السابقة من الجن والإنس.. وأولئك هم الخاسرون، الذين خسروا أنفسهم، فكانوا من أصحاب الجحيم.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على هذين الصنفين من الأبناء الصالحين والمنحرفين بقوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، أي ولكل من هذين الصنفين من الأبناء، درجاتهم ومنازلهم عند الله، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة.. ولا يظلم ربك أحدا.

قال آخر: ثم عرض الله تعالى مشهدا من مشاهد القيامة، يُرى فيه الكافرون وقد

القرآن والوعيد والإنذار (264)

وقفوا موقف الحساب، والمساءلة، على ما كان منهم في حياتهم الدنيا، من بغى، واستكبار في الأرض بغير الحق، فقال: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ أي أن النار تطلب مزيدا من الوقود البشري ممن عاشوا في ذهنية حطبية، فلم تكن لهم إرادة مستقلة تنفتح على الله في وعي إيماني، بل كانوا مجرد أتباع هامشيين للمستكبرين وللمضللين، الذين يدعونهم إلى الكفر بالله، والإشراك به، والسير على خط الانحراف في العقيدة والسلوك، مما جعلهم طعما للنار ﴿الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]

قال آخر: وقد ذكر بعضهم أن هذا العرض من باب الكناية، ذلك أن الواقع يفرض أن تعرض النار على الكفار، لأن الذي يملك العقل والإحساس هو الذي تعرض عليه الأشياء الجامدة غير الحية لينفعل بها.. وهذا غير صحيح، فالنار ـ كما ورد في النصوص الكثيرة ـ مخلوق حي يجوع ويشبع، ويتطلب الغذاء الذي يحتاجه، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]

قال آخر: ويظهر من قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ أن الكفار يعرضون على النار كأنهم أمتعة، والنار مشترية لهم، وورد في آية أخرى أن النار هي التي تعرض على الكفار، كما قال تعالى: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾ [الكهف: 100]، وعلى هذا فالنار متاع يشتريها الكفار.

قال آخر: وقد يشير هذا إلى وجود عرضين يوم القيامة: عرض جهنم للكافرين حين تبرز لهم، ثم عرضهم على جهنم بعد الحساب والقضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، كما قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ [الزمر: 71]

قال آخر: ويمكن أن يقال: إن المراد من العرضين شيء واحد وهو رفع الحجب بين الكفار والنار حتى يتفرع عليه الدخول في النار، فإن رفع الحواجز بينهما نوع تعذيب لهم

القرآن والوعيد والإنذار (265)

حيث يشاهدون مصيرهم الأسود الذي لا زوال له.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى كيف يقف هؤلاء أمام النار، قبل أن يأتي الأمر الإلهي بإدخالهم إليها، ليروي الملائكة لهم تاريخهم اللاهي العابث المستهتر المستكبر على الله والناس، والذي تحول إلى هذا المستقبل الحقير المهين، وليتعرف الناس، من خلال هذه الصورة المرعبة، كيفية تفادي الدخول فيما يؤدي إلى ذلك المصير، فقال: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ واستنفذتموها بعد أن أسرفتم فيها، في معصية الله، ﴿وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ فقد كان يخيل إليكم أن الأخذ بمتاع الحياة الدنيا هو المحدد لقيمة الإنسان، فالمرحوم منها لا يملك مستوى الإنسانية في مفهومكم، والآخذ بها هو شخص ذو قيمة في مجتمعكم.

قال آخر: والطيبات التي أذهبها الكافرون في حياتهم الدنيا، هي تلك القوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيهم، من عقل، وسمع، وبصر، ونحوها مما يكون به الإنسان إنسانا، والتي يكشف بها مواقع الهدى والخير.. وقد عطل الكافرون هذه القوى، وأفسدوها حين صرفوها في وجوه الفساد، وفي اصطياد اللذات وجلب الشهوات.

قال آخر: ذلك أن من المسلّم به أن التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمرا مذموما قبيحا، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها.

قال آخر: ومما يلفت الانتباه أن هذا التعبير لم يرد إلا في هذه الآية من القرآن الكريم، وهو إشارة إلى أن الإنسان يعزب أحيانا عن لذات الدنيا ويعرض عنها، أو أنه لا يأخذ منها إلا ما يقوم به صلبه، ويتقوى به على القيام بالواجبات الإلهية، وكأنه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته، غير أن الكثيرين يتكالبون على هذه المتع الدنيوية كالحيوانات

القرآن والوعيد والإنذار (266)

ولا يحدهم شيء في الالتذاذ بهذه الطيبات وإفنائها جميعا، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم، بل يحملون معهم أحمالا من الأوزار، ولهؤلاء يقول الله تعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾

قال آخر: وقد ورد في مصادر الحديث والتفسير روايات كثيرة عن زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، واستنادهم فيها إلى هذه الآية الكريمة، ومنها ما روي عن عمر أنه أتى يوما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مشربة أم إبراهيم ـ وهو موضع قرب المدينة ـ وكان مضطجعا على حصير من الخوص، وجزء من بدنه الشريف على التراب، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل، فسلم وجلس، وقال: أنت نبي الله وأفضل خلقه، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج والحرير، وأنت على هذا الحال!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا)(1)

قال آخر: وروي أن الإمام الباقر أُتي يوما بحلوى، فامتنع من تناولها، فقالوا: أتراها حراما؟ قال: (لا، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه، ثم تلا قوله تعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾(2)

قال آخر: وروي أن الإمام علي اشتهى كبدا مشوية على خبزة لينة، فأقام حولا يشتهيها، وذكر ذلك للحسن وهو صائم يوما من الأيام فصنعها له، فلما أراد أن يفطر قربها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني احملها إليه، لا تقرأ صحيفتنا غدا: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾(3)

__________

(1) نور الثقلين: ٥ / ١٥ / ٢٣.

(2) تفسير البرهان، 4/175.

(3) شرح الأخبار في فضل الأئمة الأطهار: 2/363.

القرآن والوعيد والإنذار (267)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن الملائكة عليهم السلام ذكروا لهم مصيرهم الذي كسبوه بأيديهم، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الذي تعيشون فيه عذاب الإحساس بالمهانة والحقارة والسقوط، والذي تهدر فيه كرامتكم، فلا يكون لكم إلا الهوان والإذلال، إذ كنتم ولا عقل معكم، ولا سمع، ولا بصر، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في هذه السورة: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف: 26]

قال آخر: والتعبير بـ﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾ بمثابة رد فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض، لأن العقوبة الإلهية تتناسب تماما مع نوع الذنب والمعصية، فأولئك الذين تكبروا على خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ذكروا لهم العلة الأولى لذلك المصير، فقال: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ بكل ما يمثله الاستكبار من إذلال للناس المستضعفين، وبغي عليهم، ومصادرة لحقوقهم وأموالهم، واستغلال لطاقاتهم دون حق، وانحراف بهم نحو الباطل في العقيدة والسلوك، مما لا تملكون الحق فيه من أية جهة كانت، لأنكم لا تختزنون في داخلكم القوة الذاتية الكبيرة، التي تمنحكم الكبرياء الأصيلة، كما أن الله لم يجعل لكم ذلك، فلم يسلطكم على عباده، ولم يرفع طبقتكم على الناس الآخرين، بل لم يسلطكم على أنفسكم، وما تملكون من متاع الحياة الدنيا إلا بحدود ما حدده لكم في أحكام شريعته.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن الاستكبار مطلقا قبيح لأن ملاكه الغنى، والإنسان فقير

القرآن والوعيد والإنذار (268)

بالذات، فلذلك يكون قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ قيدا توضيحيا، كما في قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ [النساء: 23]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنهم ذكروا لهم العلة الثانية لذلك المصير، فقال: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ في أوضاعكم المعربدة المستهترة، وفي تصرفاتكم الظالمة الباغية، وفي علاقاتكم المفتوحة على مواقع الخلاعة والمجون، فهذا هو الجزاء العادل لما عشتموه من استكبار وفسق في الحياة، حيث تنعكس صورة الأشياء في الآخرة، وتعيشون واقع المهانة والحقارة بكل ألوان الألم والإذلال.

المشهد الخامس:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [المعارج: 36 ـ 44]

قال أحد الوعاظ: بعد أن وعد الله تعالى في آيات كريمة سابقة المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال، أردف ذلك، وفي هذه الآيات الكريمة بذكر أحوال الكافرين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود، ثم توعدهم بالهلاك الذي لا يستطيع أحد دفعه عنهم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1187)، وتفسير المراغي (29/ 74)، ومن وحي القرآن: (23/ 107)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (19/ 32)، والتفسير المنير (29/ 126)، ومفاتيح الغيب (30/ 646)، ومنية الطالبين: 29/ 174.

القرآن والوعيد والإنذار (269)

قال آخر: وقد روي أنها نزلت في جماعة من المشركين، كانوا يقدمون من كل صوب وحدب، ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمعوه يذكر نعيم الله: (إذا كان هناك معاد فإن حالنا في الآخرة أحسن من حال من آمن بك، كما أن حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم)

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾، أي ما بالهم يتحركون بين يديك ـ يا رسول الله ـ يمينا وشمالا، مسرعين إلى شئون شتى، من جد أو هزل، دون أن يلتفتوا إليك، أو يستجيبوا لدعوتك، ومهطعين، أي مسرعين.. كما في قوله تعالى: ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [القمر: 8]

قال آخر: والمراد بالذين كفروا هنا، الذين دخلوا في الحكم الذي أشار إليه قوله تعالى في الآيات السابقة: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19 ـ 21]، وقد استثنى من هذا الحكم العام على الإنسان المؤمنون، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.. إلى آخر ما وصفهم الله تعالى به من صفات تدنيهم من التقوى، وتقربهم من الله.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى حالهم عند ذلك، فقال: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ وهو بيان لحال المشركين، وهم يهطعون جماعات جماعات، عن يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن شماله، ينطلقون في كل وجه، كما تنطلق الماشية في المرعى.. والعزون: الجماعة، ومنه العزة، وهي تكون غالبا من لوازم الكثرة، وقد ورد في الحديث عن جابر قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون، فقال: (مالي أراكم عزين، ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في

القرآن والوعيد والإنذار (270)

الصف)(1).. ويشبه ذلك قوله تعالى في موضع آخر: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 49 ـ 51]

قال آخر: وفي ذلك إشارة إلى فريق من الناس الذين كانوا يجتمعون حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلقا حلقا، ليستمعوا إليه، لا ليهتدوا بكلامه، وإنما ليستطلعوا كل ما يصدر عنه ليتفرقوا بعد ذلك ويكيدوا للإسلام والمسلمين في اجتماعاتهم التآمرية.

قال آخر: ثم أيأسهم الله تعالى من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يستمعون القول فيتبعون أحسنه فقال: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا﴾ أي أيطمع هؤلاء وهم نافرون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، معرضون عن سماع الحق، أن يدخلوا الجنة التي يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا؟.. كلا لا مطمع لهم في ذلك مع ما هم عليه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى السبب في تيئيسهم منها، فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ أي خلقناهم من نطفة مهينة، فهل يطمعون بدخول الجنة وهم عاكفون على الكفر، معرضون عن الرسول، منكرون للبعث والنشور؟ والحال أن دخول الجنة رهن طاعة الله تبارك وتعالى، والتصديق برسله ورسالاته، والمؤمنون وإن خلقوا أيضا من النطفة، بيد أنهم سموا بالإيمان بالله تعالى، وتصديق أنبيائه ورسله، فأين هؤلاء من هؤلاء؟.. فالاشتراك في المبدأ يعم المؤمن والكافر، ولكن يختلفان في المسير، كما قال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3]، فهذه هي نقطة الافتراق بين المؤمن والكافر فكيف يطمع الكافر بالجنة، ولم يسلك الطريق إليها؟

__________

(1) مسلم (430)

القرآن والوعيد والإنذار (271)

قال آخر: وقد يكون المعنى: أو إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.

قال آخر: ثم توعدهم الله تعالى بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم، فقال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾، لأن الأمر ليس بحاجة إلى القسم لتأكيده، لأنه من حقائق العقيدة التي يفرضها الإيمان بالألوهية التي تملك القدرة المطلقة بطبيعة ذاتها، لا سيما إذا لاحظنا تعدد الشروق والغروب في مواقع النجوم التي تمتد في الفضاء، ولكل واحد منها مشرق ومغرب يختلف عن الآخر في آفاقه ومميزاته.

قال آخر: وربما كان المراد مشارق الشمس ومغاربها المتوالية على بقاع الأرض، فإن الشمس قد تغرب عن قوم، لتشرق على قوم آخرين، وهكذا تتوالى في كل لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، ليطلع مشرق هنا، ويختفي مغرب هناك.

قال آخر: فإذا كان الله قادرا على أن يحرك الشروق والغروب في الكون عن قانونه الطبيعي، فإن من الطبيعي أن يوحي للناس بقدرته على ما هو أقل شأنا من ذلك، أو ما هو مماثل لذلك.

قال آخر: ولذلك قال: ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾، أي إن الذي خلقهم من العدم قادر على أن يعيدهم إليه، ويخلق خلقا جديدا يتميز عنهم بالإيمان والوعي والعمل الخير والانفتاح على عبوديته لله، ولن يستطيعوا أن يعطلوا إرادته، أو يسبقوه في تقديره.

قال آخر: ذلك أن المشكلة التي تواجه القلب الإنساني الذي ينحرف في تصوراته إلى

القرآن والوعيد والإنذار (272)

غير المسار الطبيعي الذي يجب أن ينفتح عليه، هي أنه يستغرق في فكرة واحدة بعيدا عن الانطلاق إلى أفكار أخرى مماثلة أو مقارنة يستدل ببعضها على بعض آخر، تمتد آفاقه إلى أبعد من الأفق الذي يطوف فيه عقله، ولذلك كانت التحديات القرآنية توجه الإنسان إلى التجول الفكري في رحاب الكون ليشاهد عظمة خلق الله، فينتقل منها إلى آفاق عظمته ليؤمن بأن الله لا يعجزه شيء في كل مواقع الخلق في كل مفرداته المتنوعة.

قال آخر: ثم سلى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عما يقولون ويفعلون، فقال: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ أي دعهم في تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم، ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء، يوم تجزى كل نفس بما عملت، لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

قال آخر: ثم فصل الله تعالى أحوالهم في هذا اليوم فقال: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب سراعا يسابق بعضهم بعضا، كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يبتدرون أيهم يستلمه قبل، مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب، تعلو وجوههم القترة، لما أصابهم من الكآبة والحزن.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه، كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة فقال: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا في الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.

القرآن والوعيد والإنذار (273)

المشهد السادس:

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المطففين: 1 ـ 17]

قال أحد الوعاظ: تتوعد هذه الآيات الكريمة على نوع من أنواع الفجور وهو التطفيف في المكيال والميزان، كما تتوعد على نوع آخر مرتبط به، أو مؤد إليه وهو التكذيب بيوم الدين، ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.

قال آخر: وكون هذه الآيات الكريمة نزلت بمكة المكرمة يدل على الانفتاح الإسلامي على المسألة الاقتصادية في بعض مفرداتها، بشكل مبكر، كما تمثل التحدي للواقع الاستكباري الذي كان يتمثل في سلوك الطبقة المترفة من قريش، المسيطرة على التجارة العامة للمنطقة، حيث كانت تستغل هذه القوة الاحتكارية في سبيل ظلم الناس حقوقهم بهذه الطريقة.

قال آخر: وربما كان هذا الاتجاه في المواجهة الحادة للواقع الاقتصادي المنحرف، هو الذي زاد في الهجمة القرشية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر إقامته بمكة في تفكيرهم بقتله أو حبسه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1487)، وتفسير المراغي (30/ 71)، ومن وحي القرآن: (24/ 124)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (20/ 13)، ومفاتيح الغيب (31/ 82)، ومنية الطالبين: 30/ 179.

القرآن والوعيد والإنذار (274)

أو إخراجه من مكة، لأنهم قد يصبرون على هجومه على الأصنام التي يعبدونها من خلال خطه التوحيدي، على أساس أن عقليتهم الدينية في إشراكهم بالله في العبادة قد تمثل حالة تقليدية يمكن أن يتساهلوا فيها فيما يواجهها من تحديات، ولكنهم لا يصبرون على هجومه على أوضاعهم الاقتصادية في معاملاتهم التجارية، لأن ذلك ـ في تطلعاته الإصلاحية المستقبلية المتطورة ـ قد ينسف الأساس العملي لمصالحهم المادية، وهذا مما لا يمكن لهم أن يقروه، لأن قوتهم في المنطقة قائمة على الاقتصاد الاحتكاري.

قال آخر: وهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ أي عذاب وخزى شديد يوم القيامة لمن يطفف في المكيال والميزان، والمطففون هم الذين يخلون بالخط المتوازن للتعامل الاقتصادي بين الناس، القائم على أساس العدل في المعاملة، والذي يؤكد للإنسان أن له حقا وللناس حقوقا، فعليه أن يأخذ حقه منهم دون زيادة، وأن يعطيهم حقهم دون نقصان، ليتوازن الواقع في ذلك، فلا يطغى جانب على جانب، لئلا يؤدي الانحراف عن هذا الخط إلى إثارة البغضاء بين الناس من خلال شعور المظلومين منهم بالحرمان من حقوقهم المشروعة، لا سيما إذا كانوا لا يملكون القوة الاقتصادية المسيطرة على الواقع، مما يجعل من معارضتهم مشكلة كبيرة قد توقع المستضعفين في الخسارة الكبيرة من جانب آخر.

قال آخر: وهذا الخط الرافض للتطفيف هو جزء من الخط الإسلامي العام، الذي يؤكد على المبدأ القائل: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)، و(أحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها) (1)، ليكون المسلم في خلقه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إنسان العدالة الذي يفكر في الواقع من خلال المبدأ لا من خلال الذات، فيربي

__________

(1) نهج البلاغة، الكتاب: 31، ص: 397.

القرآن والوعيد والإنذار (275)

ذاته على أساس التوازن في العلاقات والمعاملات بينه وبين الناس.

قال آخر: والتطفيف ليس مجرد عمل محرم يستوجب فاعله العقاب، بل هو عمل إجرامي يمثل نوعا من السرقة وأكل المال بالباطل، مما يجعل نتائجه الوضعية تفرض رفض ملكية المطفف للزيادة التي أخذها لحسابه، لأن الإسلام لا يمنح أية شرعية لهذا السبب التعاملي للملكية، لأن ذلك منحصر بالتجارة عن تراض.. ولهذا لا تكون التوبة عن هذا الذنب موجبة لزوال المسؤولية، بل لا بد من إرجاع الزيادة إلى أصحابها بطريقة أو بأخرى.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى طريقة عمل المطففين، فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾، أي أنهم يأخذون أكثر مما لهم إذا كالوا أو وزنوا، أو يأخذونه كاملا وافيا ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ على حين يعطون أقل مما عليهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم ﴿يُخْسِرُونَ﴾

قال آخر: أي أنهم اؤتمنوا فخانوا الأمانة، ووضع في أيديهم ميزان الحق، فعبثوا به، واستخفوا بحرمته.. فيستوفون حقهم كاملا إذا أخذوا، ويعطونه مبخوسا ناقصا إذا أعطوا.

قال آخر: والخيانة في الكيل والميزان، ليست كما يبدو في ظاهرها، أمرا عارضا هينا، لا يمس إلا جانبا من حواشي حياة الجماعة، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال في نظام حياتها.. وكلا، فإن هذا الداء، إذا تفشى في مجتمع من المجتمعات، أفسد نظامه كله، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع، مادياتها ومعنوياتها جميعا.. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا، أن تفقد الثقة في معاملاتها، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها، أخذا، وإعطاء.

قال آخر: ذلك أن حياة الناس قائمة على التبادل، والأخذ والعطاء، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شيء، انحل عقد نظامهم، وتقطعت عرى أوثق

القرآن والوعيد والإنذار (276)

رابطة تربط بين الناس والناس، وتجمع بعضهم إلى بعض وهي الثقة.

قال آخر: ولهذا ينبهنا الله تعالى إلى خطورة التبادل، القائم بين الناس ـ أخذا وعطاء ـ والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان، أتى على كل صالحة في حياة الناس.. وهذا ما نراه في دعوة نبي الله شعيب عليه السلام ورسالته في قومه، فهي رسالة، تعالج هذا الداء الذي استشرى في القوم قبل أي داء آخر، بعد داء الكفر، ولذلك لا يقوم بناء، ولا يستنبت خير، إلا إذا اقتلع هذا الداء، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها، فقد قال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام إلى قومه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ [هود: 84]، وقال على لسانه أيضا: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الشعراء: 181 ـ 183]

قال آخر: ولذلك، فإنها قضية حق وعدل.. فإذا افتقد الحق مكانه في قوم، وإذا اختلت موازين العدل في أيديهم، فليأذنوا بتصدع بنيانهم، وانهيار عمرانهم، وبوار سعيهم، وسوء مصيرهم.

قال آخر: وبناء على هذا، فإن التطفيف في الكيل والميزان يشمل أشياء كثيرة أخرى، فمن استأجر عاملا ووقف أمامه يراقبه ويطالبه بتجويد عمله، ثم إذا كان هو عاملا أجيرا لم يراقب ربه في العمل ولم يقم به على الوجه الذي ينبغي أن يقوم به، يكون واقعا تحت طائلة هذا الوعيد، مستوجبا لأليم العذاب، مهما يكن عمله، جل أو حقر.

قال آخر: وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال

القرآن والوعيد والإنذار (277)

الحيل المختلفة.. لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا في عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين.

قال آخر: ثم هوّل الله تعالى من شأن هذا العمل، فقال: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي ألا يطوف في أذهانهم أن هناك يوما يحاسبون فيه على هذه الجريمة الاقتصادية، لينالوا جزاءها بشكل حاسم، لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم؟ فإذا كانوا غير متيقنين من ذلك، فإنهم يرجحونه على الأقل، الأمر الذي يوجب عليهم الاحتياط والحذر عقلا، لأن من شأن العقل في هذه الحالة أن يدفع الإنسان إلى الاحتراس من الضرر المحتمل.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن تطفيف الكيل والميزان واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة، وغيرها من الجرائم لا تصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة ويحاسب على عمله، إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل ولا بخس الميزان ولا ارتكب أي جريمة.

قال آخر: ثم وصف الله تعالى هذا اليوم، فقال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي هذا اليوم هو اليوم الذي يقف فيه الناس للعرض والحساب، ويطول بهم الموقف إعظاما لجلاله تعالى.

قال آخر: ولا يخفى ما في الوصف برب العالمين من الدلالة على عظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف، إذ أن الميزان هو قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض.

قال آخر: ثم أخبر الله تعالى عن الرفض المطلق لكل هذه السلوكات المنحرفة، فقال: ﴿كَلَّا﴾، اي إنه الرفض للتطفيف، ولهذه الغفلة المطبقة على عقولهم، ولهذه الاستهانة بالموقف العظيم بين يدي الله، فهناك الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها عليهم.

القرآن والوعيد والإنذار (278)

قال آخر: وبعد أن ذكر الله تعالى أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد الله به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة أمرهم بالكف عما هم فيه، وذكر أن الفجار قد أعد لهم كتاب أحصيت فيه جميع أعمالهم ليحاسبوا بها، فقال: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ أي إنهم يمارسون فجور المعاملة، فلكل عمل في الحياة تقواه وفجوره، لأن التقوى تمثل الالتزام بحدود الله، كما أن الفجور يمثل تجاوز هذه الحدود، الأمر الذي يؤدي إلى الوقوع في الإثم أو المعصية، وهناك كتابهم الذي يحصي أعمالهم بكل دقة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذا الكتاب في سجين، وهو مكان مطبق، مغلق على هذا الكتاب، وهو مبالغة من السجن، وهو الحبس.. وفي هذا إشارة إلى أن هذا الكتاب ـ لما يضم من شنائع ومنكرات ـ قد ألقى به في مكان بعيد عن الأعين، كما تلقى الجيف، أو يردم على الرمم.

قال آخر: ثم طرح الله تعالى السؤال بالطريقة القرآنية المعهودة التي توحي بالتهويل، إمعانا في الإثارة، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾، ثم فسر هذا، فقال: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ أي كتاب قد جعلت له علامة بها يعرف من رآه أنه لا خير فيه، وهو يجمع أعمال الفجار كلها ويثبتها بحيث لا يفوته شيء منها.

قال آخر: وهو يدل ذلك على أن هذا الكتاب المنكر، والمكان الذي ألقى فيه، قد صار شيئا واحدا، هو هذا الكتاب المرقوم، أي الموسوم بتلك العلامات، والشواهد الدالة على ما ضم عليه من آثام ومنكرات.

قال آخر: وتشير المقابلة بين ﴿عِلِّيِّينَ﴾ التي تمثل الدرجة الرفيعة وبين ﴿سِجِّينٌ﴾، أن هذه الكلمة تمثل الدرجة السفلى، فيكون التعبير بهذه الكلمة عن الكتاب باعتبار مضمونه الذي يؤدي بالإنسان إلى أقصى درجة من الانحطاط فيما هي قضية المصير في

القرآن والوعيد والإنذار (279)

الآخرة.

قال آخر: ذلك أن الله تعالى جعل الفجار في مقابل الأبرار، ووصف كلا بما يقابل الآخر، فقال في حق الفجار: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ [المطففين: 7 ـ 9]، وقال في حق الأبرار: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ [المطففين: 18 ـ 20]، فكل يقابل الآخر ذاتا وصفة.

قال آخر: ثم توعد الله تعالى المكذبين، فقال: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أي شدة وعذاب لمن يكذب بيوم الجزاء، سواء كان بجحد أخباره أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب.. وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم، والمداومة على اقتراف السيئات.

قال آخر: ثم بين الله تعالى أوصاف من يكذب بهذا اليوم، فقال: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق، وعمى عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الجرائم، إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة، لأنه يأبى النظر في أدلتها، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها، إلى أنه يعلل نفسه بالإنكار، ويهون عليها الأمر بالتغافل، أو التعلق بالأماني من نصرة الأولياء، أو توسط الشفعاء، أما من كان ميالا إلى العدل، واقفا عند ما حد الله لعباده في شرائعه وسننه في نظام الكون. فأيسر شيء التصديق باليوم الآخر، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من أوصافه أنه ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي وإذا قرئ عليه القرآن أنكر كونه منزلا من عند الله، وزعم أنه أخبار الأولين، أخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غيره من السابقين، كما قال تعالى:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ

القرآن والوعيد والإنذار (280)

تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 4 ـ 6]

قال آخر: وهذا ما ابتلي به الأنبياء في كل تاريخهم، وهذا ما يعيشه المسلمون في مواجهتهم للتحديات الكبيرة من خلال الحرب الإعلامية التي تشنها عليهم أجهزة الكفر والاستكبار في نطاق الحرب النفسية التي تعمل على إسقاط معنوياتهم وهزيمة مواقفهم، فيما تطلقه عليهم من الكلمات القاسية التي تعمل على الإيحاء للناس بانطباعات سيئة حولهم، كما في كلمات: (الرجعية، والخرافة، والتطرف، والقوى الظلامية)، وما إلى ذلك من الكلمات الحاقدة، التي لا تستهدف إلا الإثارة بعيدا عما هو الحق والباطل في ذلك.

قال آخر: ولذلك من الضروري ألا يخضع العاملون في سبيل الله والمؤمنون بالإسلام على خط الالتزام، للانفعالات السلبية الحاصلة من ذلك، بل عليهم أن يعملوا على درس عمق الحق في خطهم ليصدقوا به من موقع القناعة، وليثقوا بأنفسهم من خلال القوة الداخلية بعيدا عن كل ضعف مما يثيره أمثال هذا المكذب بيوم الدين الذي يقول عن الآيات إنها أساطير الأولين.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى السبب الذي جرأهم على ذلك التكذيب، فقال: ﴿كَلَّا﴾ زجر لكل معتد أثيم يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين، ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها فصارت سببا لحصول الرين على قلوبهم، فالتبست عليهم الأمور ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح، والصدق الواضح، والدليل اللائح.

قال آخر: ذلك أن العمل السيئ، والذي يكسبه الإنسان بسوء اختياره، يترك تأثيرا

القرآن والوعيد والإنذار (281)

سلبيا على قلبه وعقله، فيمنعه من وضوح الرؤية مثل الغشاء الذي يحدث للعين فيمنعها من الإبصار.

قال آخر: وهذا ما تشير إليه كلمة الرين، وهي تعني الصدأ الذي يعلو الشيء، فكأن المعصية تتحول إلى صدأ يطفو على القلب، فلا يستطيع معرفة الخير والشر، فيما تثيره من مفاهيم ضبابية تمنع العقل من الانفتاح على حقيقة الأمور، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا، فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف، وجلاؤها الحديث) (1)

قال آخر: وقال: (إنّ العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتّى تعلو قلبه وهو الرّان الّذي ذكر الله ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14] (2)

قال آخر: وقال: (إذا أذنب العبد كان نقطة سوداء على قلبه، فإن هو تاب وأقلع واستغفر صفا قلبه منها، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذّنب على الذّنب والسواد على السواد حتّى يغمر القلب فيموت بكثرة غطاء الذنوب عليه وذلك قوله تعالى: ﴿بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين: 14] (3)

قال آخر: وقال: (إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد)، قيل: يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: (قراءة القرآن وذكر الموت) (4)

قال آخر: وقال الإمام الباقر: (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا،

__________

(1) الكافي، ج: 1، ص: 41.

(2) الترمذي (3334)

(3) عقاب الأعمال ص 301.

(4) مستدرك الوسائل، ج: 2، ص: 104.

القرآن والوعيد والإنذار (282)

خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عزوجل: بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (1)

قال آخر: وكل هذه الأحاديث تشير إلى أن السلوك العملي السلبي يترك تأثيراته السلبية على منطقة الوعي الفكري والروحي، من خلال الضغط الشعوري الخفي الذي تثيره الخطايا، في خصائصها الخبيثة، في روح الإنسان، بحيث يتجه، في منطلقاته، إلى أفكار ومشاعر تتناسب مع طبيعتها، بينما نجد السلوك العملي الإيجابي، يترك تأثيراته الإيجابية بالمستوى نفسه، ولكن في الاتجاه الآخر.

قال آخر: ولعل هذا ما جعل التأكيد القرآني على تلازم الإيمان والعمل الصالح كقاعدة للفلاح، كما جعل العمل السيئ ملازما للكفر والضلال.

قال آخر: ولهذا يمكن اعتبار التربية العملية في أجواء الأفعال الطيبة وسيلة من وسائل الوصول إلى إيمان الشخص، باعتبار أن العمل الطيب يقود إلى الفكر الطيب الذي يلتقي بالإيمان، كما أن العمل الخبيث يقود إلى الفكر الخبيث الذي يلتقي بالكفر والضلال.

قال آخر: ولهذا السبب نرى أجهزة الكفر والاستكبار تعمل على إفساد الأخلاق العامة للناس في مواقع المستضعفين والمسلمين، لتبعدهم بذلك عن الالتزام الفكري أو الروحي بالخط الإيماني، وذلك يؤدي إلى الخلل الكبير في الشخصية، والانحلال العميق في عناصر التوازن فيها، مما تكون النتيجة فيه وصول مسألة الإيمان في داخلها إلى شيء يوحي باللامبالاة وباللامعنى، ليذوب نهائيا، بفعل المؤثرات الشعورية المضادة في أكثر من صعيد.

__________

(1) الكافي، ج: 2، ص: 273.

القرآن والوعيد والإنذار (283)

قال آخر: ثم بين الله تعالى منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين، ودحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة، فقال: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده كما قال تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ [آل عمران: 77]

قال آخر: وهذا يشير إلى أن الذنوب العقدية والعملية تبعد الإنسان عن الله بما تثيره من غضب الله عليه، فيطرده الله عن رحمته، ويمنعه، بذلك، عن الانفتاح عليه، حتى ليحس بأن هناك حاجزا بينه وبين الله، يشبه الظلمة التي تمنع الرؤية، والكدر الذي يمنع الصفاء.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما يكون لهم فوق ذلك، فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾ أي وبعد أن يحجبوا في عرصات القيامة عن ربهم، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونها يقذف بهم في النار ويصلون سعيرها ويقاسون حرها.

قال آخر: ثم أرشد الله تعالى إلى أنهم حينئذ يبكتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام فقال: ﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي هذا الذي عوقبتم به هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق، كزعمكم أنكم لن تبعثوا، وأن القرآن أساطير الأولين، وأن محمدا ساحر أو كذاب، إلى نحو ذلك من مقالاتكم، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم، وعاينتم بأنفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه.. وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكر وهو يتألم، بأن وسائل نجاته من مصابه كانت في متناول يديه وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريا.

المشهد السابع:

القرآن والوعيد والإنذار (284)

قال المرشد(1): أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: 1 ـ 9]

قال أحد الوعاظ: تعالج هذه السورة مشكلة خلقية مستعصية بين الناس وهي الطعن في الآخرين بالغيبة أثناء غيابهم، أو بالعيب حال حضورهم، ولذلك ورد فيها الوعيد بالعذاب الشديد لكل عياب طعان للناس، ينتقص الآخرين ويزدريهم ويسخر بهم، وهكذا توعدت الذين يحرصون على جمع الأموال في الدنيا، وكأنهم مخلدون فيها، وختمت بردع الفريقين السابقين، وأنبأتهم بمصيرهم الأسود وهو النبذ في نار جهنم.

قال آخر: وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾، و(الهمزة) هو الذي يهمز الناس، أي يؤذيهم بقوارص الكلم جهرة، فيخدش حياءهم، ويمتهن كرامتهم، ليزداد هو علوا وتطاولا على الناس، ولتخف موازينهم إزاء ميزانه، فلا يرتفع أمامه رأس، ولا يشمخ أنف.

قال آخر: و(اللمزة) هو الذي ينقص من أقدار ذوي الأقدار، في غير مواجهتهم، إذ كان لا يستطيع أن يلقاهم وجها لوجه. فيشيع الفاحشة فيهم، ويذيع قالة السوء عنهم.

قال آخر: وبذلك، فإن الهمز واللمز غايتهما واحدة، وهي الحط من أقدار الناس، ومحاولة إنزالهم منازل الدون في الحياة.. وإن كان الهمز بأسلوب العلانية، واللمز بأسلوب السر والخفاء.. ومن كان من شأنه الهمز كان من شأنه اللمز كذلك، والعكس صحيح.. إذ هما ينبعان من طبيعة واحدة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1671)، وتفسير المراغي (30/ 237)، ومن وحي القرآن: (24/ 413)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (20/ 443)، والتفسير المنير (30/ 396)، ومفاتيح الغيب (32/ 283)، ومنية الطالبين: 30/ 629.

القرآن والوعيد والإنذار (285)

قال آخر: ومن الأقوال الواردة في التفريق بينهما أن المراد بالهمزة: المغتاب الذي يغتاب الناس، واللمزة: العياب.. وقيل: الهمزة باليد، واللمزة باللسان.. وقيل: الهمزة بالمواجهة، واللمزة بظهر الغيب.. وقيل: الهمزة جهرا، واللمزة سرا بالحاجب والعين.. وغيرها من الأقوال.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى سبب عيبه وطعنه في الناس، فقال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ أي جمع بعضه إلى بعض في صفوف متراصة، وفي صنوف متعددة، كل صنف منها يأخذ مكانا خاصا به، فهذا ذهب، وذاك فضة، وذا جواهر ولآلئ، وتلك أنعام وزروع، ورياض، وهذه دور وقصور، وأثاث ورياش، إلى غير ذلك مما يعد من عالم المال، ويحسب بحسابه.

قال آخر: وهذا يعني أن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال وتعديده مرة بعد أخرى، شغفا به وتلذذا بإحصائه، لأنه يرى أن لا عز إلا به، ولا شرف بغيره، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته، وهزأ بكل ذي فضل ومزية دونه، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزة ولمزه وتمزيقه أعراض الناس، لأن غروره أنساه الموت، وأعمى بصيرته عن النظر في مآله، والتأمل في أحواله.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن أكثر الناس همزا ولمزا للناس، هو الذي يحرص على جمع المال، ويجعل هذا الجمع كل همه في الدنيا.. ذلك أنه لكي ينفسح له طريق الجمع، ويخلو له ميدان الكسب، يحارب الناس بكل سلاح، فلا يدع في الميدان الذي يعمل فيه إنسانا إلا طعنه الطعنات القاتلة متى أمكنته الفرصة فيه.. بالهمز حينا، وباللمز أحيانا.

قال آخر: ثم إنه من جهة أخرى ـ إذ يجمع ما يجمع من مال ـ حريص على أن يدفع عن هذا المال كل عادية يراها بأوهامه وظنونه، فهو لشدة حرصه على ما جمع، يحسب أن كل

القرآن والوعيد والإنذار (286)

الناس لصوص يريدون أن يسرقوه، أو قطاع طرق يتربصون به.. وهو لهذا يرمي الناس بكل سلاح، ويطعنهم بكل ما يقع لديه.. وكأنهم متلبسون بسرقة ماله الذي جمع.

قال آخر: ثم هو من جهة ثالثة، حريص على أن يقيم له من هذا المال الذي جمعه، سلطانا على الناس، لا بما ينفق عليهم منه في وجوه الخير، ولا بما يمد به يده إليهم من معروف، بل بما يرى الناس من غناه وكثرة أمواله.. وهو لهذا يعمل على إعلاء نفسه بهدم غيره، والحط من منزلته.

قال آخر: وهذا هو الإنسان في أسوأ أحواله، وأخس منازله.. إنه لا يسمو بذاتيته، ولا يرتفع بسعيه في وجوه الخير والفلاح، بل إنه يرتفع على حطام الناس، ويعلو على جثث ضحاياه، الذين يريق دمهم بهمزه ولمزه.

قال آخر: وهذا هو السر في الجمع هنا بين الهمزة، اللمزة، وجامع المال ومكتنزه.. فالهمز واللمز، وإن كان طبيعة غالبة في الناس من أغنياء وفقراء، إلا أنه عند الذين همهم كله هو المال، يعد سلاحا من الأسلحة العاملة لهم في جمع المال، وفي حراسته، وفي التمكين لهم من التسلط على الناس به.

قال آخر: ثم بين الله تعالى خطأه في ظنه فقال: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ أي يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود في الدنيا، وأعطاه الأمان من الموت، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيا أبد الدهر، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيء الأعمال.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿أَخْلَدَهُ﴾ جاء بصيغة الماضي، ويعني أن هذا الهمزة اللمزة يحسب أن ماله قد صير منه موجودا خالدا، لا يستطيع الموت أن يصل إليه، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كل مشكلة،

القرآن والوعيد والإنذار (287)

وهو يملك هذا المفتاح.

قال آخر: وهكذا شأن الحريصين على المال، الذين اتجه همهم كله إلى جمعه.. إنهم لا يذكرون الموت أبدا، ولا يغشون مكانا يذكرهم به، ولا يستمعون إلى حديث يذكر فيه.. فالموت عندهم هو عدو قد قتلوه بأمانيهم الباطلة، وأراحوا أنفسهم منه، فما لهم والحديث عنه؟ وما لهم وما يذكرهم به؟

قال آخر: وبعد أن توعد الله تعالى من هذه صفاته بشديد العقاب، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخلال الممقوتة، من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت، أعقبه بتفصيل ما أعد له من هذا العذاب المحتوم فقال: ﴿كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ أي ازدجر أيها العياب عما خيل إليك من أن المال يخلدك ويبقيك، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل، فإنك والله مطروح في النار لا محالة، لا يؤبه لك ولا ينظر إليك.

قال آخر: و﴿الْحُطَمَةُ﴾ صيغة مبالغة من (حطم) أي هشم.. وهذا يعني أن نار جهنم تهشم أعضاء هؤلاء، ويستفاد من بعض الروايات أن ﴿الْحُطَمَةُ﴾ ليست كل نار جهنم، بل هي طبقة رهيبة في حرارتها.

قال آخر: ثم هوّل الله تعالى أمر هذه النار وعظم شأنها، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾ أي إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك، ولا يقف على حقيقتها عقلك، فلا يعلم شأنها، ولا يقف على كنهها، إلا من أعدها لمن يستحقها.

قال آخر: ثم فسر الله تعالى هذه الحطمة بعد إبهامها فقال: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾ أي إنها النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، إذ هو الذي أنشأها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين، وفي وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تخمد أبدا، بل هي ملتهبة التهابا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها.

القرآن والوعيد والإنذار (288)

قال آخر: ثم وصفها بأوصاف تخالف نيران الدنيا ليؤكد مخالفتها لها، وأولها ما عبر عنه بقوله: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ أي إنها تتغلب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل في الأجواف حتى تصل إلى الصدور، فتأكل الأفئدة، والقلب أشد أجزاء البدن تألما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته، فقد بلغ العذاب بالإنسان غاية لا يقدرها قدرها.

قال آخر: وقد يكون المراد بالاطلاع أن هذه النار العجيبة تعرف أهلها، وكأنها اطلعت على سرائرهم، وما عملوا من منكرات، فتدعوهم إليها، وتمسك بهم، وتشتمل عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى)، وقوله: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: 12]

قال آخر: وفي وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان في أخفى مكان منه، إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولا وأكثر تغلبا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى الوصف الثاني لها، وهو ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ أي إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها، ولا يستطيعون الخروج إذا شاءوا، فهم ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [الحج: 22]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى الوصف الثالث لها، وهو ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾، أي أنهم مشدودون إلى عمد ممددة، قد شدت أغلالهم إليها.. فهم بهذه القيود في سجن، داخل هذا السجن.. والمراد بذلك تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم، والمبالغة في ذلك ليودع في قلوبهم اليأس من الخلاص منها.

قال آخر: وقد يكون المراد بـ (العمد) الإشارة إلى نوع من وسائل التعذيب والجزاء تشبه تلك التي يغل بها الشخص في رجله فيفقد قدرة الحركة، وهذا جزاء ما كانوا يمارسونه من تعذيب للناس الأبرياء في هذه الدنيا.

القرآن والوعيد والإنذار (289)

قال آخر: وقد ذكر بعضهم أنه قد يكون المراد منها أن شعلة من نيران جهنم تسلط على هؤلاء مثل أعمدة طويلة، ذلك أن من الأشعة ما ينتشر بشكل عمودي، وقادرة على النفوذ في جميع الأجزاء الداخلية للإنسان بما في ذلك القلب، ولذلك يستفاد منها في تصوير الأعضاء الداخلية.

القرآن والوعيد والإنذار (290)

القرآن والوعيد والإنذار (291)

ثالثا ـ الإنذار والعقوبات

بعد أن ذكر الوعاظ للجمهور الحاضر ما ورد في القرآن الكريم من الوعيد والتهديد، قام بعض الحضور، وقال: بورك فيكم.. إن ما ذكرتم من آيات القرآن الكريم وما يرتبط بها من معان كافية في الدلالة على أن الله يعد ويتوعد، ويبشر وينذر، وأنه لا يحق لنا أن نفرض أهواءنا على ربنا، ولا أن نعلمه كيف يتعامل مع خلقه.

قال آخر: فحدثونا عن الدار التي خصصها الله تعالى لتأديب الظالمين والمنحرفين وعقوبتهم.

قال آخر: حدثونا عن جهنم، وما أعد الله تعالى فيها من صنوف العذاب، فلا يردع نفوسنا الأمارة إلا أمثال تلك النصوص.

قال آخر: أجل.. رتلوها على مسامعنا، فقد حملتنا الأهواء على كتمها والنفور منها.

أسماء وصفات:

قال المرشد: أجل.. وابدؤوا بالحديث عن الأسماء التي خص الله تعالى بها دار عقابه وعذابه؛ فالأسماء تدل على حقيقة المسمى وصفاته.

النار:

قال أحد الوعاظ: أجل.. وأول أسمائها وأشهرها النار، وقد تكررت في القرآن بهذا الاسم (نار) بدون الألف واللام و(النار) مع الألف واللام، بما مجموعه 145 مرة، وكان المراد منها في موضعا نار جهنم، ومرة واحدة البرزخ، وفي 25 موضعا في المعاني المختلفة للنار في الدنيا.

القرآن والوعيد والإنذار (292)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]

قال آخر(1): أي إذا كشفت هذه التجربة عن العجز الفاضح، وظهر منها أن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الرسول هو رسول الله، لم يكن بد من تصديقه، وتصديق ما جاء به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والامتثال لما يأمر به، وينهى عنه، وإلا فهو العناد الآثم، والكبر الوقاح، المفضي بصاحبه إلى هذا المصير المشئوم: ﴿النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 39]

قال آخر(2): أي وأما الذين لم يتبعوا هداي وهم الذين كفروا بآياتنا اعتقادا وكذبوا بها لسانا، فجزاؤهم الخلود في النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان.. والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد، وفي مثلهم يقول الله تعالى لنبيه: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33] وقد يوجد الكفر بالقلب مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 80 ـ 81]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 42)

(2) تفسير المراغي (1/ 98)

القرآن والوعيد والإنذار (293)

قال آخر(1): فهاتان الآيتان الكريمتان تصوران القاعدة النفسية اليهودية المرتكزة على الذهنية المستعلية التي تنظر إلى الناس من الموقع الفوقي، باعتبار أنهم شعب الله المختار، وأن الناس يقفون في الدرجات الدنيا ليكونوا خدما لهم يلبون حاجاتهم وقضاياهم العامة والخاصة، ولذلك، قالوا: لن يخلدنا الله في عذاب النار لأننا أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار، فلا يعاقبنا إلا كما يعاقب الأب أولاده، والمحب حبيبه، بطريقة تأديبية حميمة يمتزج فيها الحب بالعقوبة بشكل خفيف لا يستمر طويلا، لأن الرحمة تسبق الغضب عندما يتحرك في مثل هذه المواقع.

قال آخر: وتلك هي التخيلات النفسية التي تحول الأمنية إلى حقيقة في الواقع، ولذلك، قال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء اليهود، في حوار جدي يناقش القضية من منطق الحجة، ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ [البقرة: 80] بأن لا يعذبكم إلا أياما معدودة؟ لتكون القضية قضية التزام إلهي بالعهد الذي قطعه على نفسه ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ [البقرة: 80] ولكن أين هو العهد؟ وما مضمونه، وما الحجة فيه؟ ولا نجد لديكم شيئا من ذلك كله، ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 80]؟ فتكذبون على الله وتنسبون إليه ما لم ينزل به سلطانا، وتلك هي الجريمة الكبرى.

قال آخر: ولذلك ذكر الله تعالى القاعدة التي تحكم عالم الجزاء، فقال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81 ـ 82]

قال آخر: حيث يؤكد الله تعالى في هاتين الآيتين القاعدة للخلود في الجنة أو في النار،

__________

(1) من وحي القرآن: (2/ 102)

القرآن والوعيد والإنذار (294)

بعيدا عن كل الامتيازات، أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم، فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى الناس في الدنيا، لأن الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز مادي أو معنوي، يتميز به عن غيره، فيجعل له قيمة متميزة لدى سائر الناس؛ أما في الآخرة، فالجميع متساوون أمام الله؛ فلا علاقة لأحد بالله أكثر من غيره، من ناحية ذاتية، لأنهم مخلوقون له، ومن ناحية الصفات، لأنها هبة من الله، فلا مجال هناك إلا للعمل وحده، فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند الله.

قال آخر: ولهذا كانت قضية الجنة والنار خاضعة للعمل لجهة خلود الإنسان في الثواب والعقاب؛ فأما الخالدون في النار فهم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية، فهي محيطة بهم من كل جانب وليست شيئا طارئا مما يحدث للإنسان، كنتيجة لنزوة سريعة، إنهم يعتقدونها ثم يعيشونها فكرا وشعورا وعملا، وهؤلاء هم المجرمون المتمردون الذين يواجهون الحق من موقع الوضوح في الرؤية، ولكنهم يصرون على الابتعاد عنه والتمرد عليه، والمتاجرة بكلماته بعيدا عن روحه، والتحريف لآياته.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126]

قال آخر(1): أي قال إبراهيم عليه السلام: رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن

__________

(1) تفسير المراغي (1/ 212)

القرآن والوعيد والإنذار (295)

سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد.. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 126] أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: 57]

قال آخر: وقد خص إبراهيم عليه السلام بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته جعل رزق الدنيا عاما للمؤمنين والكافرين ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20] لأن تمتيع الكافرين قصير محدود بذلك العمر القصير، ثم إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بينه الله تعالى بقوله: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126] أي قال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أن عملهم ينتهى بهم إليه.

قال آخر: ذاك أن أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثار وغايات اضطرارية تنتهي بهم إليها وتكون نتيجة لها بحسب ما وضعه الله في نظام الكون من وجود المسببات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضي إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسوقهم، وستكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السنن الموضوعة.

قال آخر: وكل أعمال الإنسان النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضي بصاحبها إلى السعادة أو الشقاء، وهي أعمال كسبية اختيارية فالإنسان متمكن من اختيار الحق وترك

القرآن والوعيد والإنذار (296)

الباطل وترك الخبيث وفعل الطيب بما أعطاه الله من العقل وبما نزل عليه من الوحى، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه وعرضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي وأثرها اضطراري.

قال آخر: وهذه السنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثم يصح أن يقال إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه، وجعل الأرواح المدنسة بالأخلاق الذميمة أو بالعقائد الفاسدة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: 175]

قال آخر(1): هذه الآية الكريمة وردت بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أعمال المنافقين التخريبية المتلبسة بظاهر الإصلاح والتعقل.. إذ أنه كان بمقدورهم أن ينتخبوا أفضل طريق لحياتهم، لأنهم كانوا يعيشون إلى جانب ينبوع الوحي الصافي، وفي جو مفعم بالصدق والإخلاص والإيمان، لكنهم فوتوا على أنفسهم هذه الفرصة الفريدة العظيمة، وأضاعوا ما وهبهم الله من هداية فطرية في ذواتهم، ومن هداية تشريعية في إطار نور الوحي، واشتروا الضلالة وسلكوا طريقا خالوا أنهم يستطيعون به أن يقضوا على الدعوة ويصلوا إلى مآربهم الخبيثة.

قال آخر: وكان في هذه المقايضة الخاطئة خسارتان.. الأولى: ضياع ثرواتهم المادية والمعنوية.. والثانية: فشلهم في تحقيق أهدافهم المشؤومة.. فالإسلام سرعان ما ضرب

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 104)

القرآن والوعيد والإنذار (297)

بجرانه في أرجاء الأرض فاضحا خطط المنافقين.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: 27 ـ 28]

قال آخر(1): ففي هاتين الآيتين الكريمتين إشارة إلى بعض مواقف عناد المشركين، وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون، أو تكون حالهم ـ على الأقل ـ عبرة لغيرهم.

قال آخر: فالآية الأولى تذكر أنهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث أنهم يصرخون: ليتنا نرجع إلى الدنيا لنعوض عن أعمالنا القبيحة، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم، ونصدق آيات ربنا، ونقف إلى جاب المؤمنين.

قال آخر: ثم ترد عليهم الآية الثانية بأن ذلك ليس أكثر من تمن كاذب، وإنما تمنوه لأنهم رأوا في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه ـ من عقائد ونيات وأعمال سيئة ـ مكشوفا أمامهم، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: 28]، غير أن هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة، بل إنها قد حصلت لظروف طارئة، ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إلى هذه الدنيا مرة أخرى لفعلوا ما كانوا يفعلونه من قبل وما نهوا عنه: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: 28] لذلك فهم ليسوا صادقين في تمنياتهم ومزاعمهم ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: 28]

قال آخر: ويتبين من ظاهر ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ﴾ أنهم لم يكونوا يخفون كثيرا من الحقائق عن

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (4/ 252)

القرآن والوعيد والإنذار (298)

الناس فحسب، بل كانوا يخفونها حتى عن أنفسهم، فتبدوا لهم جلية يوم القيامة، وليس في هذا ما يدعو إلى العجب، فالإنسان كثيرا ما يخفي عنه نفسه الحقائق ويغطي على ضميره وفطرته لكي ينال شيئا من الراحة الكاذبة.

قال آخر: ومخادعة النفس وإخفاء الحقائق عنها من القضايا التي تعالجها البحوث الخاصة بنشاط الضمير، فقد نجد الكثيرين من الذين يتبعون أهواءهم يتنبهون إلى أضرار ذلك عليهم، ولكنهم لكي يواصلوا أعمالهم تلك بغير أن تنغصها عليهم ضمائرهم ـ يحاولون إخفاء هذا الوعي فيهم بشكل من الأشكال.

قال أحد الحضور: وسبب ذكر الآية أنهم لو عادوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكرار أعمالهم السابقة هو أن كثيرا من الناس عندما يشاهدون نتائج أعمالهم بأعينهم، أي حينما يصلون إلى مرحلة الشهود، يستنكرون ما فعلوا ويندمون آنيا ويتمنون لو يتاح لهم أن يجبروا ما كسروا، إلا أن هذه تمنيات عارضة تنشأ من مشاهدة نتائج الأعمال عيانا، وتعرض لكل إنسان يشهد بأم عينه ما ينتظره من عذاب وعقاب، ولكن ما إن تغيب تلك المشاهد عن نظره حتى يزول تأثيرها عنه، ويعود إلى سابق عهده، شأنهم في ذلك شأن عبدة الأصنام الذين دهمهم طوفان عظيم في البحر ورأوا أنفسهم على عتبة الهلاك، فنسوا كل شيء سوى الله، ولكن ما أن هدأت العاصفة ووصلوا إلى ساحل الأمان حتى عاد كل شيء إلى ما كان عليه.

قال آخر: وهكذا ورد ذكر هذا الاسم في الأحاديث الشريفة، ومنها قول رسول الله‌ صلى الله عليه وآله وسلم: (اعلموا ـ عباد الله‌ ـ أن العبد يبعث يوم القيامة على ما مات، وقد خلق الله‌ عز وجل الجنة والنار، فمن اختار النار على الجنة انقلب بالخيبة، ومن اختار الجنة فقد فاز وانقلب بالفوز؛ لقول الله‌ عزوجل: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

القرآن والوعيد والإنذار (299)

إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185] (1)

قال آخر: وقال الإمام علي لبعض أصحابه يعظه: (اعلم أن ما قربك من الله‌ يباعدك من النار، وما باعدك من الله‌ يقربك من النار)(2)

قال آخر: وعن بعضهم قال: أشرفت ليلة على علي وهو في صحن الدار، وهو يقول: (النار، ومتى الخلاص من النار!؟)(3)

قال آخر: وعن بعضهم، قال: وقع حريق في بيت فيه الإمام السجاد، وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله‌، النار، يا ابن رسول الله‌، النار، فما رفع رأسه حتى طفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: (ألهتني عنها النار الأخرى)(4)

جهنم:

قال المرشد: أحسنتم.. فحدثونا عن اسم آخر من أسمائها أعاذنا الله منها.

قال أحد الوعاظ: من أسمائها المذكورة في القرآن الكريم [جهنم(5)]، وقد تكررت 77 مرة في القرآن الكريم، ووقعت مضافا إليه، حيث أضيفت إليها كلمة (النار) في تسعة مواضع.. والمراد منها في كل هذه المواضع موضع معاقبة المجرمين في القيامة.

قال آخر: ومن الأمثلة على الآيات الكريمة التي ذكرت جهنم قوله تعالى: