×

الكتاب: القرآن.. والتذكير والتبشير

الوصف: رواية حول التذكير والتبشير وعلاقتهما بالموعظة الحسنة

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1444 هـ

عدد الصفحات: 666

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-3-85901-0

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة التاسعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الرابعة من خصائص القرآن الكريم، خاصية التذكير والتبشير، وهما من الخصائص المرتبطة بالموعظة الحسنة، والتي اعتبرها الله تعالى صفة من صفات القرآن الكريم، ووظيفة من وظائف الهداة والصالحين ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام.

وهذه الخاصية مرتبطة بخاصية أخرى مكملة لها، وهي خاصية الإنذار والاعتبار، والتي خصصنا لها الكتاب العاشر من هذه السلسلة، ولذلك فإن هذين الكتابين منفصلين شكلا، متحدين موضوعا، لأنهما يشتركان في البحث في خاصية الموعظة الحسنة، وكيف تعامل معها القرآن الكريم.

وبناء على هذا، فقد حاولنا في هذا الكتاب أن نجمع بين ذكر النماذج المرتبطة بالتذكير والبشارة في القرآن الكريم مع التطبيق العملي لذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وورثته من الهداة، ولذلك أدرجنا في أكثر المباحث والمطالب ما ورد من الأحاديث والآثار في كل مسألة نطرحها، مع اشتراط موافقة الأحاديث للقرآن الكريم.12345678910

القرآن والتذكير والتبشير (10)

مقدمة

هذا الكتاب هو المقدمة التاسعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الرابعة من خصائص القرآن الكريم، خاصية التذكير والتبشير، وهما من الخصائص المرتبطة بالموعظة الحسنة، والتي اعتبرها الله تعالى صفة من صفات القرآن الكريم، ووظيفة من وظائف الهداة والصالحين ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام.

وهذه الخاصية مرتبطة بخاصية أخرى مكملة لها، وهي خاصية الإنذار والاعتبار، والتي خصصنا لها الكتاب العاشر من هذه السلسلة، ولذلك فإن هذين الكتابين منفصلين شكلا، متحدين موضوعا، لأنهما يشتركان في البحث في خاصية الموعظة الحسنة، وكيف تعامل معها القرآن الكريم.

وقد أشار إلى هذه الخاصية آيات كريمة كثيرة، كقوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 138]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، وقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [النور: 34].. وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة.

وهكذا وصف الله تعالى كتابه بكونه ذكرى للمؤمنين، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]، وقال: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 2]، وقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:

القرآن والتذكير والتبشير (11)

124]، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 51]، وقال: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص: 8]

وأخبر أن من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التذكير، فقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ [الأعلى: 9]، وقال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]

وهكذا أخبر الله تعالى أن من خصائص القرآن الكريم التبشير، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 97]، وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، وقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 102]، وقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 1 ـ 2]، وقوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [الأحقاف: 12]

وأخبر أن من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبرى التبشير، فقال: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء: 105]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفرقان: 56]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، وقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفتح: 8]

 وبناء على هذا، فقد حاولنا في هذا الكتاب أن نجمع بين ذكر النماذج المرتبطة بالتذكير والبشارة في القرآن الكريم مع التطبيق العملي لذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وورثته من الهداة، ولذلك أدرجنا في أكثر المباحث والمطالب ما ورد من الأحاديث والآثار في كل مسألة نطرحها، مع اشتراط موافقتها للقرآن الكريم.

القرآن والتذكير والتبشير (12)

وقصة الرواية تبدأ من تألم الكاتب من السلبيات التي يقع فيها الكثير من الوعاظ، والتي تجعلهم ينصرفون عن الهدي القرآني والنبوي، ليملؤوا مواعظهم بالخرافات والأساطير، أو بالقصص الفارغة، أو بعدم ربط التبشير بما يقتضيه من عمل، أو عدم ربط الإنذار بما يقتضيه من الضوابط.

ثم إنه في موقف من المواقف يصطدم مع بعض الوعاظ، ويتعرض بسببه للأذى من المستمعين له.. وحينها يأتيه معلم الوعظ ليقوده للمدينة التي استطاعت بفضل المواعظ القرآنية أن تتحول إلى مدينة فاضلة.

وهناك يدله على المكان الذي يتعلم فيه أهل تلك المدينة الوعظ، فيذهب إليهم، ويسجل ما يذكرونه، ويتنقل معهم كذلك إلى المحال التي تحتاج للوعظ، ليتعلم المنهج القرآني في ذلك.

وطبعا، فإن هذه الرواية كغيرها، لا يقصد منها الأحداث بقدر ما تقصد المعاني، ومحاولة التيسير والتبسيط، ولذلك حاولنا أن نستوعب عند ذكر كل آية ترتبط بالموضوع ما يتعلق بها من المعاني والتدبرات، ومن التفاسير المختلفة.

وقد وضعنا التوثيقات المرتبطة بالتفسير في بداية كل آية، لأننا نمزج بين التفاسير المختلفة، كما أننا نتصرف في الاقتباسات، لأن الغرض هو تيسير المعاني وتبسيطها، والبعد عما لا نراه مناسبا من التدبرات والتأويلات.

وقد خصصنا الأحاديث والآثار في كل مسألة بمطلب خاص، بعنوان [أحاديث وآثار]، وقد حاولنا أن نرجع في ذلك للمصادر الحديثية المختلفة سواء السنية أو الشيعية، والعبرة فيها كما ذكرنا في محال مختلفة هو الموافقة للقرآن الكريم.

وبناء على عنوان الكتاب، فقد قسمناه إلى فصلين:

القرآن والتذكير والتبشير (13)

الأول: يبحث فيما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تدعو إلى التذكر، وقد رأينا أنه يمكن حصرها في ذكر الله واليوم الآخر، كما قال تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ [النساء:39]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء:59]، وقال: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:99]، وغيرها من الآيات الكريمة.

ذلك أن بناء الدين على هذين الركنين الكبيرين، ولا يمكن للقيم التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام أن تتحقق في الواقع من دون أن يكون هناك إيمان بالله ولا باليوم الآخر.

وقد تناولنا في بحثنا لتذكر الله تعالى نماذج مما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى ذكر الله، والابتعاد عن كل المعيقات التي تحول بين العبد وبينه، والبحث عن كل السبل التي توصل إليه.. باعتباره المقصد الأكبر للدين.. كما ذكرنا ما ورد في الدعوة لتذكر اليوم الآخر، وعلاقته بالحياة الدنيا.

أما الفصل الثاني؛ فتناولنا فيه ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث والآثار من البشارات بالجنة ونعيمها، وأنواع ذلك النعيم، وصفات المستحقين له، مما يربط البشارة بالعمل.

القرآن والتذكير والتبشير (14)

البداية

ما إن طلب مني معلمي تجهيز نفسي لرحلتي الجديدة إلى [القرآن.. والمواعظ البليغة] حتى تذكرت الكثير من المشاهد المؤلمة في حياتي وفي حياة الأمة جميعا.

لقد تذكرت أولئك الخطباء والوعاظ الذين رباهم المستكبرون على أعينهم، حتى إذا ما نضجوا، واكتسبوا قلوب ملايين الجماهير من الناس، راحوا يستعملونهم في نشر الفتن، وسفك الدماء، وتخريب البلاد، وإسقاط كل نظام، وتحويله إلى فوضى، لا يأتي من ورائها إلا الخراب، وبذلك أتاحوا للمستكبرين أن يمسكوا برقاب المستضعفين، ومن غير أسلحة، ولا جيوش.

وهكذا تذكرت أولئك الوعاظ من المرجئة القدامى والجدد الذين يملؤون قلوب الناس بالرغبة في الجنة، ويملؤون أخيلتهم بمشاهدها، من غير أن يكلفوهم بعدها بعمل، ولا مجاهدة، ولا تأديب نفس.. فالله ـ كما يذكرون ـ واسع الرحمة، وما خلق الجنة إلا ليسكنها عباده، محسنهم ومسيئهم، مجتهدهم وكسولهم، لا فرق بينهم جميعا.

وتذكرت أولئك الوعاظ الذين جعلوا من أنفسهم سدنة لأبواب جهنم، يدخلون فيها من شاءوا، ويخرجون من شاءوا.. بل تحولوا إلى ملائكة يسألون الناس عن دينهم، وبحسب إجاباتهم يزفونهم إلى الجنة، أو يزجون بهم إلى قعر جهنم.

وتذكرت وعاظ السلاطين والأمراء والملوك والرؤساء.. أولئك الذين لا هم لهم إلا أن يأكلوا في تلك الموائد الفاخرة، ويجعلوا من وعظهم وسيلة، لا لتحبيب القلوب في الله، وفي التمسك بشريعته، وإنما في التقرب للسلاطين، والعبودية لهم.

وهكذا، جر ذكر الوعظ إلى قلبي الكثير من المآسي.. حتى أني صرت أنتظر ذلك

القرآن والتذكير والتبشير (15)

اليوم الذي أقوم فيه برحلتي التي وعدني بها المعلم، لأتعرف على الوعظ الحقيقي الذي أراده الله منا، ومن كل الوعاظ.

فأنا أعلم أن من أهم خصائص القرآن الكريم كونه موعظة بليغة، تلج إلى أعماق الإنسان، وفي سهولة ويسر، لا لتخربه كما يفعل أولئك الوعاظ المخربون، وإنما لتبنيه على الأسس الصحيحة، ليتحول إلى من وصفهم الله بالمخبتين والأبرار والمقربين وعباد الرحمن.. أولئك الذين امتلأوا بالطهر والقداسة ظاهرا وباطنا.

وقد شاء الله أن تتأخر رحلتي إلى ذلك اليوم الذي بلغ فيه ألمي حالته القصوى.. وذلك حين زارنا بعض الوعاظ الكبار، من الذين يستعملون القصص وسيلة للوعظ والتربية، وأنا خصوصا يعجبني هذا الأسلوب، وأتأثر له، وأستفيد منه.

لكني بعد حضوري لذلك المجلس، بل أثناءه صرت أنظر إلى القصص، كما أنظر إلى السم الذي يُدس في العسل، ليهدم من يتناوله من خلال حبال ذوقه.

لقد جاءنا الواعظ من بلاد بعيدة، لا ليملأنا بحب الله ورسوله ودينه.. ولا ليشوقنا إلى جنان الله التي هي محال القرب والفضل الإلهي.. ولا ليرهبنا من النار، والجرائم التي تتسبب في دخولها.. ولا ليذكرنا بعبر التاريخ كما يذكرنا القرآن الكريم لنعتبر بها.. أو يذكرنا بنعم الله علينا لنحمده عليها، ونستعملها في ذكره وشكره.. وإنما جاءنا ليحدثنا عن ذلك الذي استطاع بسطوته ودهائه وسيوف من اتبعه أن يقضي على من أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعه والولاية له.

لقد قص علينا في خطبته قصة معاوية، لا باعتبارها أحداثا تاريخية تحتاج إلى تدبر لأخذ العبرة، وإنما قصها علينا كما قص علينا القرآن الكريم أحسن القصص.. فقد صور معاوية بصورة النبي.. وصور محاربيه بصورة أقوام الأنبياء من الأجلاف الغلاظ.. ثم صور

القرآن والتذكير والتبشير (16)

دولته بصورة المدينة الفاضلة، التي يجرم من يخطئ في حقها.

لقد شعرت حينها بنفس تلك الآلام التي صرت أشعر بها كلما رُدد لفظ الوعظ أمامي.. وكيف لا أشعر بذلك، وأنا أعلم أن هؤلاء الذين تُملأ عقولهم وقلوبهم بمثل هذه المواعظ، سيتحولون إلى خناجر تفتك بجسد الأمة، وإلى سموم تقتلها قتلا سريعا أو بطيئا.

لذلك شعرت بمسؤوليتي في ذلك المحل؛ فرحت أصيح في الخطيب قائلا: ألم يكفك ما ورد في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة من المواعظ، لتعظنا بها؟

كان الواعظ هادئا، أو يتظاهر بالهدوء، لذلك رد علي بكل برودة: القرآن الكريم والسنة المطهرة شيء متفق عليه، يعرفه جميع الناس.. اسأل آخر شخص، بل آخر صبي، وسيحدثك عن الجنة والنار، وقصص الأنبياء.. أما الذي ذكرته أنا فهو الذي نحتاج أن نذكّر به، لأن أعداء الإسلام يحاولون تشويهه، ولذلك يجب تصويره بالصورة الحسنة، لتمتلئ قلوب المؤمنين بمحبته.

قلت: فبإمكانك بدل معاوية أن تحدثنا عن علي.. ألم يكن علي أولى بحديثك من معاوية؟

ابتسم ببرودة، وقال: وعلي مثل ذلك.. كل الأمة تعرفه وتعترف له وتحبه وتقدره.. ولذلك لا حاجة لتذكير الناس بذلك.. اسأل آخر شخص، بل آخر صبي.. وسيذكر لك أنه يعرفه ويحبه.

قلت: فحدثنا عن بلال ذلك الذي وضعت فوق صدره الصخرة، وظل ثابتا على الحق، لعلنا نتعلم منه الثبات على الحق.

ابتسم، وهو يتثاءب، وقال: وبلال مثل ذلك.. كل الناس يعرفونه ويقدرونه، بل يقدرون الصخرة التي وضعت على صدره.. ولذلك لا حاجة لتذكير الناس بذلك.. اسأل

القرآن والتذكير والتبشير (17)

آخر شخص، بل آخر صبي.. وسيذكر لك أنه يعرفه ويحبه.

لم أدر ما أقول، فقد كان له من البرودة ما يزاحم كل جليد الدنيا.. لكني، وبدل أن أذكر له أسماء أخرى، قلت: ولكنك تعلم ما فعل معاوية بالأمة، والجرائم التي ارتكبها في حقها، وكيف حول الحكم العادل الذي أمرنا الله به إلى ملك عضوض، انحرفت به الأمة تماما عن مسارها.

ما قلت هذا حتى ذاب كل جليد ذلك الواعظ، بل تحول إلى نار ملتهبة، وراح يصيح بكل قوة: رافضي مجوسي يسب الصحابة السابقين المقربين.. كيف تتركونه بينكم؟

ثم لم أدر بعدها إلا بالأيدي والأرجل والأحذية تنهال علي من كل صوب، وكأن صفين قد عادت، ومعاوية وجنوده عادوا من جديد.

ثم لم أدر بعدها إلا وأنا مضمخ بدمائي في الشارع، ووعيي يكاد يغيب عني.. أردت أن أقوم فلم أستطع، وكان المارة يمرون علي، ولا أحد منهم يجرؤ على أن يمد يده لينقذني، فذلك الواعظ ملأ قلوب الجميع نفرة مني.. ويا ويل من يتجاوز تنفيرات الواعظ.

في غمرة تلك الآلام جاءني معلمي الجديد، والذي أخبرني أنه معلم الوعظ الذي أرسله معلم القرآن.. ومسح على جراحي، وقرأ عليها بعض القرآن الكريم، فالتأمت، وعادت إلي قوتي من جديد.

عندما وقفت أمامه بكامل قوتي، قال: هلم بنا إلى المدينة التي تبركت بالمواعظ القرآنية البليغة، فتحولت إلى مدينة فاضلة.. فلا ينال الفضل إلا من تبرك بالقرآن، وجعله قائده وإمامه.

سرت معه إلى أن لاحت لنا أنوار تلك المدينة، فرأيت من جمالها ما لم أكن أتخيله أبدا.. لقد كانت وكأنها قطعة من الجنة.

القرآن والتذكير والتبشير (18)

قلت للمعلم: يا الله ما أجمل هذه المدينة، وما أجمل التصميم الذي صممت به، وكأن مهندسيها استوحوا ما ورد في القرآن الكريم عن الجنة.

قال: أجل.. هم فعلوا ذلك، لكثرة ترديد وعاظهم الحديث عن الجنة.

قلت: كنت أتصور أن المواعظ تبني الجنان في النفوس، لا على الأرض.

قال: عندما تبنى الجنان في النفوس يخرج الله لها نماذج على الأرض.. ولذلك كل ما تراه من بركات هو من فيض نفوسهم التي عُمرت بالإيمان، بسبب تلقيها لمواعظ القرآن.

قلت: فكيف أتيح لهذه المدينة ما لم يتح لغيرها من البلاد؟

قال: الله أكرم من أن يتيح لأي أرض ما لم يتح لغيرها.

قلت: فكيف حصل لها هذا؟

قال: بنفس القرآن الكريم الذي تقرؤه الأمة جميعا.. ذلك القرآن الذي ذكر الواعظ أن الناس جميعا يعرفونه.

قلت: أجل.. هم يهجرونه ويعطلونه.

قال: لكن أهل هذه المدينة، لم يكونوا كذلك.. لقد شربت نفوسهم القرآن من منابعه الصافية التي لم تدنس.. فلذلك فعل فيهم ما أخبر الله تعالى عنه حين قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:57]

قلت: لقد قال بعدها: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58]

قال: أجل.. فكلا الآيتين مترابطتين.. فمن استفاد من مواعظ القرآن الكريم شفي صدره، وتحققت له الهداية، وتنزل عليه حينها فضل الله ورحمته.. وهو نفس ما حصل لأهل هذه المدينة، فقد كانت هذه الآية الكريمة شعارهم.

القرآن والتذكير والتبشير (19)

ما قال ذلك، حتى رأيت بناية ضخمة، وكأنها قصر من قصور الجنة، وقد كتب على بابها بخطوط من نور تينك الآيتين الكريمتين، قلت: يا الله.. ما أجمل هذا القصر العظيم، وكأنه قد تنزل من الجنة.

قال: أجل.. هو كذلك.. لقد عرف أهل هذه المدينة قيمة المواعظ وأثرها في حياتهم، ولهذا خصوها بأجمل المباني، ليتناسق ويتكامل الحس مع المعنى، والظاهر مع الباطن.

قلت: عهدي بالمواعظ ترتبط بالزهد.. لا بتشييد المباني؛ فكيف خصص أهل هذه المدينة أجمل مبانيها لهذا؟

قال: هذه المدينة، وهذه البناية خصوصا يزورها الناس من كل المدن المجاورة.. والكثير منهم يتشبث بالدنيا، ويخاف أن تسلبها المواعظ منه.. ولهذا بدا لأهل هذه المدينة أن يطمئنوا هؤلاء إلى دنياهم وما يشتهونه منها، وأرادوا فوق ذلك أن يثبتوا لهم أن التزامهم لن يفيدهم فقط في الآخرة، بل سيفيدهم في هذه الدنيا أيضا.

قلت: فكيف بدا لهم هذا؟

قال: لقد وجدوه في القرآن الكريم.. ألم تقرأ قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ؟

قلت: بلى.

قال: لقد علم سليمان عليه السلام أن ملكة سبأ متعلقة بعرشها، ولهذا أحضره لها، ليطمئنها عليه.. ويخبرها أن إسلامها لن يحول بينها وبينه.

قلت: أجل.. وقد أكد ذلك ببناء ذلك القصر الممرد من القوارير، والذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل:44]

القرآن والتذكير والتبشير (20)

قلت: وعيت هذا.. فما الذي يقومون به في هذه البناية.. هل تراهم يرددون المواعظ؟

قال: لا.. في هذا القصر يعلمون الذين يحضرون إليه ـ سواء كانوا شبابا أو كهولا أو شيوخا ـ كيف يمارسون الوعظ وفق ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

قلت: وهل جعلوا ذلك خاصا بهم؟

قال: لا.. أهل هذه المدينة لم يكتفوا بما من الله عليهم بالهداية، وإنما راحوا ينشرونها في سائر المدن والقرى، وفي هذا القصر يدربون من يقوم بذلك، ولذلك يفد إليهم الناس من كل البلاد.

قلت: فهلا حكيت لي قصتهم قبل أن يتحولوا إلى ما هم عليه الآن.

قال: لقد كان أهل هذه المدينة غارقين في غيهم وضلالهم.. وقد مر بهم الكثير من الوعاظ الذين لم يزيدوا حياتهم إلا نكدا، وصدورهم إلا مرضا.. لكن الله شاء أن يجعل فيهم من الوعاظ الصالحين من حولوهم عن ذلك الواقع المنحرف إلى هذا الواقع الذي تراه.

قلت: طوبى لهم.. كيف حصلوا على هؤلاء الوعاظ؟

ابتسم، وقال: هم تلاميذي.. وبسببهم وبسبب أمثالهم من المنتشرين في بلاد أخرى، شرفني معلم القرآن بأن أكون معلما للوعظ.

قلت: فكيف بدا لك أن تختارهم تلاميذ لك؟

قال: كما بدا لمعلم القرآن أن يختارك تلميذا له.

قلت: لم أفهم.

قال: لقد جئت إلى هذه المدينة قبل عشرين سنة، وتألمت لحالها كثيرا.. وقد علمت أني مهما بذلت من جهد لوعظهم أو توجيههم، لن يستفيدوا مني.. لذلك رحت أبحث عن

القرآن والتذكير والتبشير (21)

أكثرهم طهارة، وأشرفهم نفسها، لأجعلهم تلاميذ لي.. وقد وجدت اثني عشر منهم بعدد تلاميذ المسيح عليه السلام.

قلت: فالاثنا عشر تلميذا هم الذين حولوا هذه المدينة إلى هذا الوضع الجديد.

قال: ببركات تلمذتهم على القرآن الكريم.. وببركات تنفيذهم للهدي المقدس الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وورثته الصادقون.

قلت: فقد كنت أنت سبب إصلاح هذه المدينة.

قال: الله تعالى هو المصلح.. وما أنا إلا سبب من الأسباب.

قلت: فكل أهل هذه المدينة إذن يعرفونك، ويجلونك.

قال: لا أحد منهم يعرفني غير تلاميذي.

قلت: ما أشد نكرانهم للجميل.

قال: لا تقل عنهم ذلك.. لقد أوصيت تلاميذي ألا يذكروني.. لأني لم أرد لهم إلا أن يتعلقوا بالحق، لا بشخصي، ولا بشخوص تلاميذي.

قلت: لقد ذكرتني بأولئك الوعاظ الذين لا هم لهم إلا جاههم وشهرتهم.. فهم يشيدون بأنفسهم في كل المحال.. وكأنهم يحثون الناس على عبادتهم والولاء لهم، لا عبادة الله والولاء له.

قال: أولئك دعاة لأنفسهم، لا دعاة لله.. الداعي لله هو الذي يتجرد عن كل شيء حتى عن اسمه ورسمه.

قلت: لقد ذكرت لي أن هذه المدينة تحولت إلى هذه الحال الحسنة بسبب مراعاتها لمواعظ القرآن الكريم، فكيف ذلك؟

قال: ليس الخبر كالعيان.. وأنا ما أتيت بك إلى هذه المدينة إلا لتعرف سر ذلك، ثم

القرآن والتذكير والتبشير (22)

تسجله لقومك لعلهم يتعظون، ويعودون إلى القرآن الكريم، وبالفهم السليم، لا بالأهواء السقيمة.

قلت: فهل ستتركني كما فعل بعض المعلمين، لأرى بنفسي ما أحتاج إلى رؤيته.

قال: لا.. سأكون معك، وسأكون دليلك، لأنك لو بقيت وحدك هنا، فلن تخرج أبدا، فمواعظ القرآن الكريم لا نهاية لها.

قلت: فكيف لي أن أسجل ما علي تسجيله في هذه الرحلة؟

قال: كما كنت تفعل في كل رحلاتك.. سر فقط.. وسييسر الله لك من يعلمك.

قلت: لكني أتعجب من رحلتي لهذه المدينة الصالحة.. ألم يكن الأجدى أن أذهب إلى مدينة منحرفة، لأرى تأثير المواعظ فيها؟.. فهؤلاء قد تناولوا أدويتهم، وهم لا يحتاجون لأي موعظة.

قال: ألا تعلم أن الغفلة داء مزمن، والشيطان عدو متربص.. ولذلك فإن من غفل عن أدوية المواعظ التي تحميه وتصلحه، سيقع ضحية نفسه، وسيفتك به شيطانه ويستحوذ عليه.

قلت: ألأجل هذا يهتم أهل هذه المدينة بالمواعظ؟

قال: أجل.. كما تهتمون أنتم بوجباتكم، فلا تغفلون عنها.. هم كذلك لديهم وجبات يومية من المواعظ تحميهم وتسددهم.

قلت: فهل يمكن أن يفشل تلاميذك لو كانوا في بلاد أخرى؟

قال: وكيف لا يفشلون.. وأنت ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغ القرآن الكريم وبأجمل أسلوب، وبأفضل أداء، ومع ذلك وجد من يعارضه، بل يخالفه، بل يحاربه.

قلت: صدقت.. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يأتي يوم القيامة النبي ومعه الفرد

القرآن والتذكير والتبشير (23)

والفردان، والنبي وليس معه أحد.

قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فالمواعظ تحتاج إلى القلوب المتواضعة السليمة التي تتلقاها، وإلا فإنها لن تجدي شيئا.. مثل الدواء الذي يوضع معه ما يعارضه، فهو لن يزيد صاحبه إلا مرضا.

قلت: فدور الواعظ إذن هو أن يؤدي ما عليه، وليس عليه بعدها تحمل أي نتيجة.

قرأ المعلم قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص:56]، ثم قال: ومع ذلك يحتاج الواعظ الصالح أن يغير أساليبه كل حين، كما يغير الطبيب وصفاته إن وجد عدم جدوى أي دواء.

القرآن والتذكير والتبشير (24)

أولا ـ القرآن.. والتذكير

بعد أن قال هذا فارقني، كما كان يفارقني سائر المعلمين، فسرت إلى أن وجدت نفسي أمام باب قصر المواعظ، وفي حديقته الجميلة الملأى بأصناف الزهور.. وقد كان أول ما قابلني باب جميل، كتب عليه بخطوط من نور قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:55]

وقد كان أول من التقيته شاب أخذ بيدي، وهو يقول: لا شك أنك جئت لتؤمن ساعة.

قلت: معاذ الله أن أرغب عن الإيمان الذي أمر الله تعالى به إلى إيمان أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران:72]

قال الشاب: معاذ الله أن أدعوك لذلك الإيمان.. بل دعوتك إلى ذلك الإيمان الذي دعا إليه عبد الله بن رواحة حين قال لبعض أصحابه: (تعال نؤمن بربنا ساعة)، فغضب الرجل، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة)(1)

قلت: أحسنت.. لقد روي أن هذا الصحابي الجليل الشاعر الشهيد كان يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: (تعالوا نؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ونزدد إيمانا، تعالوا نذكره

__________

(1) أحمد (21/ 309)

القرآن والتذكير والتبشير (25)

بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته)(1).. وروي أنه قال لصاحب له: تعال حتى نؤمن ساعة، فقال صاحبه: أولسنا بمؤمنين؟ قال: (بلى، ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا)(2)

قال: صدق في ذلك، فالإيمان الحقيقي هو إيمان الذاكرين، لا الغافلين، والحاضرين، لا الناسين.. فهل يمكن أن تعتبر ذلك الغافل الذي لا يعرف ربه، ولا يذكره، ولا يتذكره في أي محل مؤمنا؟

قلت: هو مؤمن ظاهرا، لكن باطنه يغطي الله بحجب كثيرة تحول بينه وبين معرفته أو التواصل معه.

قال: ولذلك؛ دعوتك لأن تدخل من هذا الباب من أبواب القصر، فهو من الأبواب الضرورية التي لا يمكن الدخول إلى سائر الأبواب قبل الدخول إليه.

قلت: فما هي المعاني الكبرى التي يدور حولها التذكير هنا؟

قال: معان كثيرة.. لكنها تجتمع في اثنين: التذكير بالله، والتذكير باليوم الآخر.. فلا شيء يعالج القلوب الغافلة بمثل التذكير بهما.. ألم تقرأ ما ورد في القرآن الكريم من الجمع تعالى بينهما في مواضع كثيرة.

قلت: بلى.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران:113ـ114]، وقال: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ [النساء:39]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ

__________

(1) ابن أبي شيبة 11/ 43.

(2) البيهقي في الشعب (50)

القرآن والتذكير والتبشير (26)

تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء:59]، وقال: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:99]، وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة.

1. التذكير بالله:

ما إن قرأت تلك الآيات الكريمة حتى فُتح لي باب ذلك الجناح، وقد رأيت فيه أقساما كثيرة جدا، وكأني في مدينة كبيرة، لا في بناية واحدة.. وقد سألت الشاب المرشد الذي دعاني إلى الدخول عن الأبواب التي علي أن أدخلها، فقال: ثلاثة.. تلك التي ترغّب في ذكر الله والتذكير به من خلال معرفة آثاره المختلفة.. وتلك التي تحذر من الحجب التي تحول بين العبد وربه.. وتلك التي تذكر بالطرق التي توصل لله، وتعرف به.

أ. علامات وآثار:

قال لي ذلك، ثم طلب مني أن أسير إلى المجالس التي ترغب في ذكر الله من خلال ذكر الآثار التي يجنيها الذاكرون، والعواقب التي يجنيها الغافلون، وقد سألته عن سر البدء بها، فقال: لقد انتهج القرآن الكريم منهج التبشير والإنذار، أو الترغيب والترهيب.. ذلك أن النفس بما تقتضيه فطرتها، لا تقدم إلا على ما يكون فيه جلب مصالحها، ودرء مفاسدها.. وهل هناك أعلم بالمصالح والمفاسد من الله تعالى الذي خلق كل شيء ودبره أحسن تدبير؟

آثار الذكر وعلاماته:

بعد أن ذكر لي هذا دخلت أول قسم منها، وقد كان أول ما سمعته من أستاذه قوله:

القرآن والتذكير والتبشير (27)

حدثونا بما ورد في القرآن الكريم من الترغيب في ذكر الله تعالى من خلال ما يحدثه الذكر من آثار في النفس والمجتمع، وعلامات ذلك.

قال أحد الطلبة: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:2ـ4]

قال آخر: وقال: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج:34ـ35]

قال آخر: وقال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:23]

قال آخر: وقال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور:36ـ38]

آية ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 110)، وزهرة التفاسير (8/ 3945)، وتفسير المراغي (13/ 100)، ومن وحي القرآن: (13/ 53)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (7/ 405)، ومفاتيح الغيب (19/ 39)

القرآن والتذكير والتبشير (28)

قال أحد الطلبة: المراد بذكر الله تعالى تذكره، في استحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وكل ما له سبحانه من صفات الكمال والجلال.. فإذا ذكر الإنسان ربه، واستحضر جلاله وعظمته، كان من هذا الذكر في ظل ظليل، من جلال الله وعظمته، وفي حمى لا ينال من حياطته، ورعايته، وفي عزة تصغر أمامها عزة كل عزيز في هذه الدنيا، إذ كان معتصمه هو الله القوى العزيز، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران:101]

قال آخر: والذكر الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:28]، ثم يؤكده بقوله: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28] هو الذكر الذي ينبعث عن إيمان، فتهتز له المشاعر، وتدفأ به الصدور، وتطمئن به القلوب.

قال آخر: ولهذا قدم الله تعالى الإيمان على الذكر، حتى يكون للذكر أصل يرجع إليه، ومنطق ينطلق منه، وهو الإيمان.. فإذا ذكر المؤمن بالله ربه، غردت في نفسه بلابل البهجة، وزغردت في صدره عرائس الرضا، حتى ليكاد يكون كله عاطفة ترف بجناحي الصبابة والوجد، وتحلق في سماوات عالية، مشرقة بنور الحق، معطرة بأريج الصفاء والطهر.

قال آخر: ولا يكون الذكر لله ذكرا يثمر هذه الثمرة، التي يطمئن بها القلب، إلا إذا انبعث من قلب عارف بالله، مدرك لما ينبغي له سبحانه، من صفات الكمال والجلال، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية عند ذكر الله، وهو الذي يستثير مشاعر الولاء لله، والإخبات له، فتقشعر الجلود، وتدمع العيون.

قال الأستاذ: فما أهمية الطمأنينة، وما سر ارتباطها بالذكر والإيمان؟

قال أحد الطلبة: إن الاضطراب والقلق من أكبر المصاعب في حياة الناس، والنتائج الحاصلة منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان، والاطمئنان واحد من أهم اهتمامات البشر، وإذا حاولنا أن نجمع سعي وجهاد الإنسانية على طول التاريخ في بحثهم للحصول

القرآن والتذكير والتبشير (29)

على الاطمئنان بالطرق الصحيحة غير الصحيحة، فسوف تتكون لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.

قال آخر: لقد قال بعض العلماء في ذلك: عند ظهور بعض الأمراض المعدية ـ كالطاعون ـ فإن من بين العشرة الأفراد الذين يموتون بسبب المرض ـ ظاهرا ـ أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف، وعدة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة.

قال آخر: ولذلك، فإن للاطمئنان وعدم الاضطراب دور مهم في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الإنسانية، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها، ولهذا السبب ألفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلص منه، وكيفية الحصول على الراحة، والتاريخ الإنساني مليء بالمواقف مؤسفة لتحصيل الراحة، وكيف أن الإنسان يتشبث بكل وسيلة غير مشروعة كأنواع الاعتياد على المواد المخدرة لنيل الاطمئنان النفسي.. لكن القرآن الكريم بين أقصر الطرق من خلال جملة قصيرة، لكنها عظيمة المعنى حيث يقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]

قال آخر: ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والاضطراب لابد من ملاحظة أن ما يحدث من الاضطراب بين البشر يكون إما بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل المظلم، فيحتمل زوال النعمة، أو الأسر على يد الأعداء، أو الضعف والمرض، فكل هذه تؤلم الإنسان، لكن الإيمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم، الله الذي تكفل برحمة عباده.. هذا الإيمان يستطيع أن يمحو آثار القلق والاضطراب ويمنح المؤمن الاطمئنان في مقابل هذه الأحداث ويؤكد له أنك لست وحيدا، بل لك رب قادر رحيم.

قال آخر: وهكذا.. إذا ذكر المؤمن ربه، وقد تلبست به تلك الحال، واستولت عليه هذه المشاعر، قرب من الله، ودنا من مواقع رحمته، وأحس برد السكينة يغمر قلبه، ووجد

القرآن والتذكير والتبشير (30)

ريح الأمن والطمأنينة تهب عليه، معطرة الأنفاس، زاكية الأرواح.

قال آخر: ذلك أن الإنسان إذ يذكر حدثا من الأحداث، أو يستحضر صورة شخص من الأشخاص، له به علقة حب أو بعض، فإنه يجد في كيانه لهذا الذكر، ولذاك الاستحضار ما يهز كيانه، ويثير عواطفه، ويهيج أشجانه، أو يبعث مخاوفه، كما أشار الشاعر إلى ذلك بقوله في مدح أحد الخلفاء:

خليفة الله إن الجود أودية

   أحلك الله منها حيث تجتمع

إن أخلف الغيث لم تخلف مواطره

   أو ضاق أمر ذكرناه فيتســع

قال آخر: فقوله: (أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع) يريد أن يقول من خلاله أنه إذا نزل به ضيق، أو كربه كرب، وجرى ذكر الخليفة في خاطره، كان له من هذا سعة من ضيق، وخلاص من كرب، وراحة من عناء وهم.

قال آخر: ومما يروى في هذا أن قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى، وهو في زحمة الحجيج بمنى، سمع إنسانا يهتف باسم ليلى، فقال:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى

   فهيج أشجان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

   أهاج بليلى طائرا كان في صدري

قال آخر: هذا بعض ما تثير ذكريات الأحداث، وتذكر الأشخاص، في مجال الخير والشر، وفي مقام الحب والبغض.. فكيف يكون الحال عند من يذكر الله، ويستحضر جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما ينبغي له ـ سبحانه ـ من صفات الكمال والجلال؟

قال آخر: إن الذاكر لله على تلك الصفة يجد نفسه في حضرة مالك الملك، القائم على هذا الوجود، والمصرف لكل موجود.. وإذا هو في هذا المقام ذاهل عن كل ما عدا الله،

القرآن والتذكير والتبشير (31)

مستخف بكل ما سواه، موقن بأن ما هو فيه من خير أو شر، هو مما قضى الله به، وأنه لا يكشف الضر إلا هو سبحانه، ولا يسوق الخير إلا هو جل شأنه، فوعى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام:17]، وأخذ من ثمراتها الطيبة المباركة، زادا طيبا مباركا، فيه الشبع من كل جوع، والري من كل ظمأ، والشفاء من كل داء.

قال آخر: وهكذا، فإن الذى يذكر الله وهو موقن به، طامع في رحمته، معتصم بجلاله، محتم بحماه، لائذ بفضله، عائد به، من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين، وبغى الباغين، يجد ربا قريبا منه، سامعا دعاءه مستجيبا له، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، وقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186]

قال آخر: فإذا ذكر الإنسان ربه هذا الذكر الذي يدنيه من ربه، والذي يشهد منه ما يشهد من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ارتفع عن هذا العالم الترابي، واستصغر كل شيء فيه، فلا يأسى على فائت، ولا يطير فرحا، ولا يأشر بطرا، بما يقع لديه من حطام هذه الدنيا.. وهذا هو الاطمئنان الذي يسكن به القلب وتقر العين.. حيث لا حزن، ولا جزع، ولا خوف.. ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]

قال آخر: ذلك أن الداء الذي يغتال أمن الناس، ويقض مضاجعهم، هو ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها.. وإنه لا دواء لهذا الداء إلا باللجأ إلى الله، والفزع إليه، وذلك بذكره، وتذكر سلطانه المبسوط على هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود.. ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54]

القرآن والتذكير والتبشير (32)

قال آخر: وفي التعبير عن الإيمان بالفعل الماضي ﴿آمَنُوا﴾ في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:28] وعن الاطمئنان بفعل المستقبل ﴿تَطْمَئِنُّ﴾ إشارة إلى أن الإيمان حال لا يتحول عنها المؤمن، وأنه لا يوصف بالإيمان إلا إذا كان مؤمنا.. على خلاف الاطمئنان، فإنه غير ملازم للمؤمن في كل حال، وإنما يقع الاطمئنان عند ذكر الله، وكلما ذكر المؤمن ربه، حين تعرض له عوارض القلق والجزع.

قال الأستاذ: فكيف يؤدي الذكر دوره في تحقيق الطمأنينة في نفس المؤمن؟

قال أحد الطلبة: من الأمثلة الواقعية على تلك الطمأنينة أنا نرى الإنسان إذا كان في مواجهة مرض، مثلا.. في نفسه، أو نفس من يحب، ذكر الله الرحمن الرحيم، وذكر قدرته على كشف هذا الضر، ورفع هذا السوء.. وإذا كان في يد سلطان جائر، أو عدو متسلط قاهر، ذكر الله القوى القاهر، الجبار المنتقم.. فأراه ذلك ضآلة هذا السلطان، وصغر شأن هذا العدو.. وهكذا يذكر للذاكر ربه، فيرى في وجهه الكريم، الصفة التي يتجلى بها عليه، فإذا هي السكن لجوارحه، والدواء لدائه، والطمأنينة لقلبه.

قال آخر: وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:180]، فبالاسم الذي ندعو الله به، يتجلى به الله سبحانه علينا، فنرى في ذلك غيوث رحمته وفضله ورضوانه.

قال آخر: ولعل هذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، فالله تعالى لا ينسى، حتى يذكر فيذكر، بل هو جل شأنه يذكرنا دائما، ذكرناه أو لم نذكره.. ولكن المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه، هو أننا إذا ذكرناه وجدناه سبحانه حاضرا في قلوبنا وعقولنا.. وأننا إذا لم نذكره، فهو سبحانه حاضر كذلك، ولكن هذا الحضور لا نحس به، ولا نتأثر له.

قال آخر: فإذا ذكر المؤمن ربه، وجد ربه تجاهه.. وكأنه بتفلته عن ذكر ربه قد بعد

القرآن والتذكير والتبشير (33)

عن الله، فإذا ذكر ربه، وأشرق عليه بنوره السني البهي، كما نص على ذلك الحديث القدسي الذي يقول فيه الله تعالى: (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشى أتيته هرولة)(1)

قال آخر: فذكر الله، وامتلاء القلب بهذا الذكر، يفيض على الذاكر أنوارا من جلال الله وبهائه، وإذا هو في حمى عزيز لا ينال، وفي ضمان وثيق من أن يهون أو يذل لغير الله الواحد القهار.

قال آخر: وأسمى الذكر وأكمله، هو ذكر العارفين بالله، حيث يطلعون منه على ما يملأ قلوبهم جلالا وخشية لله، ويشهدون من كمالات الله ما لا يشهده إلا المقربون، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.. كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم:96]

قال آخر: فهذا الود إنما يناله أولئك الذين يذكرون الله فيذكرهم لله، ويعرفونه فيعرفهم، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ [آل عمران:191]

قال آخر: فهذا الذكر المستبصر، هو الذي يضيء الطريق الذي يسلكه الذاكر إلى ربه، فيرى على ضوء هذا النور، قدرة الخالق وجلاله، وعظمته، فيخشع قلبه وتسكن وساوسه.

قال آخر: وبذلك، فإن الذكر ليس مجرد كلمات يرددها اللسان، وإنما هو نبضات قلب معمور بالإيمان بالله، وخفقات وجدان ريان بالرجاء في الله، والطمع في فضله وإحسانه، وذلك بعد أن يعرف المرء ربه، ويعرف ما ينبغي له سبحانه من كمالات.

__________

(1) صحيح مسلم (8/ 91)

القرآن والتذكير والتبشير (34)

قال آخر: ولذلك، فإن الرجاء الذي يقوم على غير إيمان، ويستند إلى غير طاعة، هو مكر بالله، وخداع للنفس، وعدوان على سنن الحياة التي أقام الله عباده عليها، فجعل لكل عامل عمله، ولكل غارس ثمرة ما غرس.

قال آخر: ولذلك، فإن من الجميل أن يحسن العبد ظنه بربه، بل وأن يبالغ ما شاء في هذا الظن، لكن شريطة أن يكون ذلك الظن نابعا من الإيمان بالله، ومستندا على ما يجد العبد من شواهد القرب من ربه.. فهنا يحق له أن يتمنى على ربه، وأن يدل دلال المحبوب مع محبوبه.

قال الأستاذ: فكيف تجمعون بين هذه الآية الكريمة وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال:2]، والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هاهنا بالاطمئنان؟

قال أحد الطلبة: الجواب من وجوه.. أولها، أنهم إذا ذكروا العقوبات، ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر، لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات.

قال آخر: وثانيها، أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا حقا من عند الله، أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.

قال آخر: وثالثها، أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم

القرآن والتذكير والتبشير (35)

أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:2ـ4]

قال أحد الطلبة: في هذه الآيات الكريمة كشف للصورة الكريمة للمؤمنين، يعرضها الله تعالى لأولئك الذين دعاهم الله إلى طاعته وطاعة رسوله، في شأن الغنائم ليدخلوا في عداد المؤمنين، بما استقبلوا به أمر الله سبحانه من طاعة ورضى.

قال آخر: فالمؤمن حقا، هو الذي يخشى الله ويتقيه، فإذا ذكر الله، أو ذكّر به امتلأ قلبه خشية ووجلا ـ أي خوفا ـ من جلاله وسطوته، وإذا تلى آيات الله أو تليت عليه، خشع لها، وأشرق قلبه بنورها، فازداد بذلك إيمانا على إيمان، ثم انتهى به ذلك إلى أن يكون عبدا ربانيا، يسلم أمره كله لمن بيده الأمر كله.

قال الأستاذ: لقد ذكرت الآيات الكريمة أن المؤمنين حقا هم المخلصون في إيمانهم، وأنهم الذين اجتمعت فيهم خصال خمس.. فحدثونا عنها.

قال أحد الطلبة: أولها ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج:35] أي الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم فزعوا لعظمته وسلطانه أو لوعده ووعيده

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 561)، وزهرة التفاسير (1/ 169)، وتفسير المراغي (9/ 164)، ومن وحي القرآن: (10/ 327)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (5/ 361)، ومفاتيح الغيب (15/ 450)، وفي ظلال القرآن: (3/ 1474)، ومن هدي القرآن: (4/ 13)

القرآن والتذكير والتبشير (36)

ومحاسبته لخلقه، كما قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج:34ـ35]

قال آخر: وهذا يدل على أن المؤمنين يعيشون الشعور بالخشية منه، فيما يتمثلونه من عظمة الله في مظاهر قدرته في خلقه، وفي وحدانيته ووجوده، بالمستوى الذي يشعرون معه بأن الكون كله ظل لوجوده، فهو الحقيقة وكل ما عداه خيال.

قال آخر: لكن هذا الوجل لا يمثل حالة انسحاق يلغي في الإنسان الإرادة، بل يمثل حالة المسؤولية التي تحرك إرادته في الجانب المشرق من الحياة، عندما توحي له بأن حركته ليست محكومة لمزاجه أو مزاج الآخرين، بل هي خاضعة للقوة المهيمنة التي تخطط لإرادته كما تخطط لفكره، وبذلك كان الخوف من الله حافظا لإنسانيته من الانحراف تحت تأثير الضغوط، ورادعا له من الخضوع للشهوات والنزوات المنحرفة، وموجها له للسير في الخط المستقيم.

قال آخر: و(الوجل) ناشئ عن أحد أمرين: فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية واحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة التي ينبغي على الإنسان أداؤها بأكمل وجه امتثالا لأمر الله تعالى.. وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام الله، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له، ومهابته التي لا حد لها.

قال آخر: وتوضيح ذلك أنه قد يتفق للإنسان أن يمضي لرؤية شخص عظيم؛ فيقع تحت تأثير ذلك المقام وتلك العظمة، بحيث يحس بنوع من الرهبة في داخله ويضطرب قلبه حتى أنه لو أراد الكلام لتلعثم، وقد ينسى ما أراد أن يقوله، حتى لو كان ذلك الشخص يحب هذا الإنسان ويحب الآخرين جميعا ولم يصدر عنه ما يدعو إلى القلق.

قال آخر: فهذا الخوف والاضطراب أو المهابة مصدرها عظمة ذلك الشخص، كما

القرآن والتذكير والتبشير (37)

قال تعالى عن القرآن الكريم: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر:21]، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]

قال آخر: وهكذا فإن العلاقة قائمة بين العلم والخوف أيضا، وبناء على ذلك فمن الخطأ أن نعد أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن الخصلة الثانية.

قال أحد الطلبة: الخصلة الثانية أنهم الذين ﴿إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال:2] أي وإذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله وسلم زادتهم يقينا في الإيمان، وقوة في الاطمئنان، ونشاطا في الأعمال، إذ أن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج يوجب زيادة اليقين.

قال آخر: ذلك أن النمو والتكامل من خصائص جميع الموجودات الحية، فالموجودات الفاقدة للنمو والتكامل إما أن تكون ميتة أو في طريقها إلى الموت.. والمؤمنون حقا لهم إيمان حي ينمو غرسه يوما بعد يوم بسقيه من آيات الله، وتفتح أزهاره وبراعمه، ويؤتي ثماره أكثر فأكثر، فهم ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة.

قال آخر: وقد ضرب الله تعالى المثل على ذلك بإبراهيم عليه السلام، حيث أنه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة:260] فمقام الطمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا.

قال آخر: وهذا ما يدل على أن الإيمان يزيد بالعمل الصالح، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة:124]،

القرآن والتذكير والتبشير (38)

وقال في وصف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح في غزوة أحد: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح:4]

قال آخر: وهكذا نرى في صريح القرآن الكريم أن الإيمان يزيد، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لا تزعزعه الرياح، أو راسيا ثابتا، كالجبال.

قال آخر: ولذلك وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان)(1)، وعد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم.

قال آخر: ولهذا يروى في هذا أن الإمام عليا قال: (لو كشف عنى الحجاب ما ازددت يقينا)، وذلك لأن العلم التفصيلي في الإيمان أقوى من العلم الإجمالي، فمن آمن بأن لله علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات ويعلم ذلك علما إجماليا ولو سألته أن يبين لك شواهده في الخلق لعجز.. ولهذا لا يوزن إيمانه بإيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن الله في الكائنات في كل نوع من أنواع المخلوقات.

__________

(1) البخاري: (8)، ومسلم: (51)، والترمذي (2539)

القرآن والتذكير والتبشير (39)

قال آخر: ومهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل، فإن العمل يزكي الإيمان ويقويه، وهو كالماء، والغذاء، يتغذى منه الإيمان ويقوى، وإن الإيمان من غير عمل يجف، ولا يكون مثمرا منتجا، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة، لا يزرعها، ولا يثمرها.

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن الخصلة الثالثة.

قال أحد الطلبة: الخصلة الثالثة أنهم الذين ﴿عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى:36] أي إنهم يتوكلون على ربهم وحده ولا يفوضون أمرهم إلى سواه، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره.

قال آخر: ذلك أنه إذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وجب على الإنسان أن يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، وأن هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأن ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلمه ذلك، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به، فالمؤمن يتوكل على الله وحده وإليه يتوجه فيما يطلبه منه.. أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله في الخلق فهو جهل بالله وجهل بدينه وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.

قال آخر: وهذا يعني أن المؤمنين يسيرون في كل دروب الحياة، وعيونهم مشدودة للسماء، وقلوبهم مفتوحة لله، لا يهزمهم خوف، ولا يثيرهم قلق، كل خطواتهم مدروسة في الدرب الذي يقطعونه، وفي الهدف الذي يتوجهون إليه، ولذلك، فإن كل طاقاتهم مستنفرة متحركة من أجل تحقيق الشروط الموضوعية للوسائل والأهداف، لا يعيشون الاتكالية واللامبالاة والسلبية في أوضاع الحياة ومشاعرهم، بل يعيشون المسؤولية والإيجابية

القرآن والتذكير والتبشير (40)

والحركة المستمرة، حتى إذا واجهوا بعض المصاعب والشدائد والتحديات في أجواء الحاضر والمستقبل، ووقفوا في بعض المراحل أمام احتمالات المجهول، فيما يمكن أن يهدم مشاريعهم، أو يهزم مسيرتهم، أو يوقعهم في مهاوي الخطر، لجأوا إلى الله، وأسلموا أمرهم إليه، فيما لا يملكون الانتصار عليه بالقوة والفكر، وتوكلوا عليه، لتجتمع في داخل نفوسهم عناصر الثقة بالمستقبل، من خلال حركة الإرادة معه في أفكارهم وأعمالهم فيما يستطيعون، ومن خلال حركة الثقة بالله في أجواء الغيب فيما لا يستطيعون، وذلك هو معنى التوكل في شخصية المؤمن؛ حركة في الفكر والإرادة في نطاق الإمكانات، وثقة بالله في عملية استسلام لإرادته وقدرته في نطاق الغيب.

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن الخصلة الرابعة.

قال أحد الطلبة: الخصلة الرابعة أنهم ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [لقمان:4] أي يؤدونها مقومة كاملة في صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر وفي معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع في مناجاة الرحمن، واتعاظ وتدبر في تلاوة القرآن، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن الخصلة الخامسة.

قال أحد الطلبة: الخصلة الخامسة هي ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الأنفال:3] أي وينفقون بعض ما رزقناهم في وجوه البر في الزكاة المفروضة وبالنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين، وفي مصالح الأمة ومرافقها العامة التي بها يعلو شأنها بين الأمم ويكون عليها تقدمها وعمرانها.

قال آخر: وذلك بما يمثله الإنفاق من روحية العطاء في امتداده في حياة الناس، وتأكيده على الشخصية الإنسانية التي لا تعيش الشعور بالذاتية فيما تملكه من طاقات، بل

القرآن والتذكير والتبشير (41)

تحس بالمشاركة للآخرين في ذلك كله، لأنه رزق الله الذي أراد لعباده ألا يحتكروه لأنفسهم، فيما اقتضت حكمته من توزيع أرزاق عباده، على أساس أن يكون رزق بعضهم في يد البعض الآخر، مما يجعل من قضية العطاء حالة تبادلية، فلكل شخص طاقة يعطيها للآخرين، وللآخرين طاقات يمنحونها له.. وهكذا كانت حركة المجتمع في شخصية الفرد، في اتجاه حركة الفرد في شخصية المجتمع، في تفاعل وتعاون وعطاء.

قال الأستاذ: فما سر اختيار الله تعالى لهذه الصفات في هذا الموضع؟

قال أحد الطلبة: ربما كان اختيار هذه الصفات في الحديث عن المؤمنين، لأنها تمثل العناصر البارزة في حركة الإيمان في الداخل، في هذا الخوف الدائم من الله، وفي هذا النمو الحي للإيمان في أجواء المعرفة، وفي هذه الثقة المطلقة بالله أمام المجهول فيما توحي به من وعي للمسؤولية والانضباط أمام روحية الخوف، ومن تطلع دائم إلى المعرفة كأساس لتنمية الإيمان، ومن شجاعة وجرأة أمام تحديات المجهول.

قال آخر: كما أنها تمثل حركة الإيمان في العبادة في الصلاة، من حيث هي المظهر الحي للاعتراف بالعبودية لله، التي هي أساس الحرية في شخصية الإنسان أمام الآخرين، وفي الإنفاق من حيث هو الامتداد الإنساني في حياة الآخرين، فيما يملك من مال وعلم وجاه وطاقة حية متحركة في خط الواقع، ليكون ذلك كله أساسا للتطور والنمو في شخصية الإنسان المسلم في الجوانب الأخرى، التي يتكامل بها الإنسان، وتتقدم بها الحياة.

قال آخر: وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:4]؛ فالمؤمن إيمانا كاملا، ظاهرا وباطنا، هو في مقام كريم عند ربه، يحفه بمغفرته ورحمته، ويفيض عليه من إحسانه وفضله.

قال آخر: ولذلك وصف الله تعالى هؤلاء فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾

القرآن والتذكير والتبشير (42)

[الأنفال:4] الذين صدقوا الله وعده وعهده، وأخلصوا له العمل، فجزاهم الله عن ذلك أفضل الجزاء. ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الأنفال:4] تبعا لدرجاتهم في الإيمان وفي العمل، ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ [الحديد:20] لما أخطئوا فيه. ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [سبأ:4] فيما رزقهم من مال وصحة وعافية وأولاد وجاه، ومن طيبات الحياة الدنيا ولذاتها، مما يعيش فيه المؤمن الشعور برعاية الله له، وكرامته عليه، وذلك هو إحساس المؤمن أمام نعمة الله عليه، فهو يعيش معها الجو الحميم الكريم الذي يعبر عن محبة الله له، كما يستوحي منها الشعور بالمسؤولية في الشكر الروحي والعملي لله في جميع ذلك.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:74] يعني أن أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات هم دون من سواهم هم المؤمنون حق الإيمان، وهو نتيجة لتصديق إذعاني له أثر في أعمال القلوب والجوارح وبذل المال في سبيل الله، وقد روي في الحديث عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (كيف أصبحت يا حارثة؟) قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: (انظر ماذا تقول فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟،)فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربى بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال:(يا حارثة عرفت فالزم)(1)

قال آخر: وروي عن بعض الصالحين أنه سئل: أمؤمن أنت؟.. فقال: (الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ

__________

(1) البيهقي في شعب الإيمان (10591)

القرآن والتذكير والتبشير (43)

إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ [الأنفال:2] فو الله لا أدرى أنا منهم أم لا)

قال الأستاذ: فحدثونا عن الجزاء الذي ذكر الله تعالى أنه أعده لهؤلاء في قوله: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:4]

قال أحد الطلبة: أي لهم درجات من الكرامة والزلفى لا يقدر قدرها، عند ربهم الذي خلقهم وسواهم، وهو القادر على جزائهم على جميل أعمالهم في دار الجزاء والثواب.

قال آخر: والله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات في الدنيا، وفي الآخرة، وعند الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [التوبة:20] وقال في الرسل: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة:253]، وقال في درجات الدنيا وحدها: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام:165]

قال آخر: ولهم بالإضافة إلى ذلك، مغفرة من الله لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة، والكريم تصف به العرب كل شيء حسن لا قبح فيه ولا شكوى.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج:34ـ35]

__________

(1) زهرة التفاسير (9/ 4984)، وتفسير المراغي (17/ 113)، ومن وحي القرآن: (16/ 67)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (10/ 347)

القرآن والتذكير والتبشير (44)

قال أحد الطلبة: في هاتين الآيتين الكريمتين تبشير للمخبتين، أي الخاضعين لله، الممتثلين أمره في رضا واطمئنان.. بالثواب الجزيل والنعيم المقيم، ورضوان الله تعالى، وهو أكبر الجزاء، فرضا الخالق بديع السماوات والأرض غاية أهل الإيمان العليا التي هي فوق كل مبتغى.

قال آخر: والمخبت هو المتطامن المتواضع الذي لا يتعالى، ولا يستطيل على أحد؛ فالتواضع سمة المؤمنين، والغطرسة سمة الكافرين، والذين لم يشرب قلوبهم حب الإيمان، وهم ليسوا أذلاء، بل هم الأعزاء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)(1)

قال آخر: وقد وصف الله تعالى المخبتين الذين بشرهم بأربع صفات هي جماع خصال المؤمن الذي هذبت نفسه، وتجمل بالصبر، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه الله تعالى.

قال آخر: أما الخلة الأولى، فهي هي ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج:35]، والوجل هو الخوف والخشية من الله، لا لأنهم كثيرو الذنوب، إنما هو لاستصغار حسناتهم، واستكثار سيئاتهم وتصورها، فهم من الله تعالى القوي القهار في وجل، ومن خاف الله حذر مخالفته، وحاول طاعته، وسعى في مرضاته.

قال آخر: والوجل صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]، وقال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:23]، وهذه حال الذين يعرفون الله ويتقونه حق تقاته.

__________

(1) مسلم (6544)

القرآن والتذكير والتبشير (45)

قال آخر: والخلة الثانية هي الصبر؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ [الحج:35]، والصبر هو ضبط النفس، وسيطرة العقل، فإذا أصابهم أمر من أمور الدنيا المزعجة لا يهلعون ولا يفزعون، ويضبطون أنفسهم، فلا يكون عليهم شهوة جامحة، فلا يكون الهوى سيدا مطاعا، بل تكون الشهوة أمة لا سيطرة لها، وإن كل شيء من مصائب الدنيا يهون أمام الصابر.

قال آخر: وكذلك، فإن الجزع لا يتحقق إلا من شعور بأن ليس وراء الإنسان قوة تسنده وتعينه وتكشف ضره.. أما المؤمن، فإنه إذا ابتلى بأعظم ابتلاء، لا يجزع، ولا يكرب، ولا يخور، بل يحتمل صابرا، ويثبت للمحنة، وهو على طمع في رحمة الله أن ينكشف ضره، ويدفع بلواه.

قال آخر: والخلة الثالثة هي إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة في ظاهرها وباطنها، فتكون النفس خاشعة خاضعة قانتة تحس النفس بروعتها، وأنها في حضرة ذي الجلال والإكرام وتمتلئ النفس بهيبته، وتخشع لعظمته؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ﴾ [الحج:35] وقد عبر باسم الفاعل لبيان أن الصلاة صارت شأنا من شؤون المؤمن لا يتخلف عنها، والصلاة والصبر فيهما عون للمؤمن على الطاعة، كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:45]

قال آخر: وقد قدم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوب لها، حيث لا تؤدى كاملة إلا مع الصبر، فإذا أديت كانت هي نفسها رصيدا كبيرا تزيد به حصيلة الصبر في كيان المؤمن.

قال آخر: والخلة الرابعة، هي الاتجاه إلى التعاون الاجتماعي، وذلك بمعونة الفقير، وسد الحاجات الاجتماعية والحربية، وهذا قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج:35]، والإنفاق يشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المنثورة، والصدقات تكفر الذنوب، كما قال

القرآن والتذكير والتبشير (46)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار)(1)، ويشمل الذنوب والكفارات، ويشمل الإنفاق في الجهاد كما قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195]؛ لأن ترك الإنفاق في الجهاد يؤدي إلى التهلكة والانهزام.

آية ومعان:

قال الأستاذ(2): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:23]

قال أحد الطلبة: أي أن الله نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن الكريم، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة.. وهو كتاب يشبه بعضه بعضا في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز، وصحة المعاني، وقوة المباني، وبلوغه أعلى درجات البلاغة.. وتثنى فيه القصص وتردد، وتتكرر فيه المواعظوالأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، ويثنى في التلاوة فلا يمل سامعه، ولا يسأم قارئه.

قال آخر: وهي تذكر أنه إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، وتضطرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد، ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة.

قال الأستاذ: هلا وضحتم أكثر.

قال أحد الطلبة: وفي الآية الكريمة إلفات إلى نعمة جليلة من نعم الله، إلى جانب ما ينزل سبحانه من نعم.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها،

__________

(1) سنن الترمذي (2/ 513)

(2) التفسير المنير (23/ 279)، والتفسير القرآني للقرآن (12/ 1143)

القرآن والتذكير والتبشير (47)

وأخرج منها حبا ونباتا، تغتذى منه الأجسام، وإنه يغير هذا الماء، وبما يخرج من الأرض من ثمرات، لا يكون للإنسان ولا لكائن حي حياة.. ثم هو سبحانه بعد أن كفل للإنسان حياته، وللجسم حاجته، أنزل له من السماء ما يحيا به الجانب الروحي منه.. فالإنسان ليس جسدا وحسب، وإنما هو جسد وروح، وهو بهذا الجسد وحده حيوان، ولا تتحقق إنسانيته إلا بالجسد والروح معا.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ [الزمر:23] هو بيان للغذاء الروحي الذي أنزله الله، وهو القرآن الكريم.. فهو حديث الله إلى عباده، وكلماته إليهم.. فأي حديث أحسن من حديث الله؟ وأي كلام أكرم وأطيب من كلامه؟

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر:23].. هو بدل من قوله تعالى: ﴿أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ [الزمر:23].. وهو وصف لأحسن الحديث، وبيان له.. فأحسن الحديث، هو هذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهو كتاب متشابه في جلال قدره، وعلو منزلته، وسمو معانيه.. إنه الحق في آياته وكلماته.. فهو على درجة واحدة في كماله وجلاله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82]

قال آخر: والمثاني: جمع مثنى، وذلك بما فيه من بيان للأمور وأضداد، كالإيمان والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والحسنات والسيئات، والجنة والنار.. والقرآن الكريم في الحالين، هو على مستواه العالي من الكمال والجلال.. فالحديث عن الكفر مثلا، معجز إعجاز الحديث عن الإيمان، لأن هذا وذك من كلام الله.

قال آخر: الاقشعرار، والقشعريرة، الوارد في قوله تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزمر:23] يعني الحال التي تعتري الجسد من أثر رهبة أو خوف، فيموج الجلد بموجات أشبه بمسة الكهرباء.. واقشعرار جلود الذين يخشون ربهم من هذا الحديث المنزل

القرآن والتذكير والتبشير (48)

من عند الله، هو لما يقع في قلوبهم من رهبة وجلال لما يسمعون من كلام الله، الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر:21]، فإذا نزل هذا القرآن على القلوب المؤمنة اهتزت لجلاله، وزلزلت أقطارها لرهبته.. أما غير المؤمنين، الذين لا يعرفون الله ولا يقدرونه قدره، فلا تلمس قلوبهم نفحة من آيات الله، ولا تصوبها قطرة من سماء كلماته.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:23] إشارة إلى حال أخرى من أحوال المؤمنين الذين يخشون ربهم في لقائهم مع آيات الله.. فهم في أول لقائهم مع آيات الله، وفي مفتتح كل سماع إليها، تغشاهم حال من الخوف والرهبة، فتقشعر لذلك جلودهم.

قال آخر: ثم إذا هم أطالوا النظر في آيات الله، وامتد جلوسهم في حضرتها، أخذ هذا الخوف وتلك الراهبة يزايلانهم شيئا، شيئا، حيث تعلوهم السكينة وتظللهم الطمأنينة ويغشاهم الأنس، فتسكن قلوبهم الواجفة، وتهدأ أوصالهم الراجفة، وإذا جلودهم التي علتها أمواج القشعريرة، وشدتها رعدة الخوف، قد استرخت ولانت.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾ [الزمر:23] إشارة إلى القرآن الكريم، وأنه هدى الله، الذي أنزله على رسوله، ليكون هدى للعالمين.. وقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الزمر:23] أي أن هذا الهدى لا يهتدى به إلا من وفقه الله، وشرح صدره للإيمان.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر:23] أي أما من أضله الله وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة ـ فلن يهتدى أبدا، ولن تجدى معه الحجج التي تساق إليه، ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف:17]

القرآن والتذكير والتبشير (49)

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور:36ـ38]

قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تتحدث عن المعنى الذي يختزنه المسجد والجو الذي يحتويه.. وصفة الرجال الذين يمثلون مجتمعه فيما يقولون ويفعلون، والنتائج التي تترتب على ذلك؟

قال آخر: ولذلك، فإن المراد بـ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور:36] المساجد التي جعلها الله مكانا لعبادته، وأراد لخلقه أن يرفعوها في العمران الذي تقوم به أعمدتها ويرتفع به سقفها، وفي العبادة التي أراد الله أن ترتفع أرواح عباده بها إليه، فتعرج إليه في مواقع العبودية، وفي آفاق الصفاء والشروق والنقاء.. وهكذا يريد الله أن ترتفع البيوت بالمعاني الروحية الصافية التي تبني للإنسان إنسانيته، وتحرك دوافعه الإيمانية في الحياة، وتوحي له بالمعاني الخيرة التي تجعل منه إنسان الخير لا إنسان الشر.

قال آخر: وتلك هي مهمة المساجد في المفهوم الإسلامي، أن تكون حضنا لروح الإنسان ومصنعا لبناء شخصيته، ومنطلقا لتأصيل أهدافه، وخطا لتحريك خطواته، وموقعا للبدايات التي يحدد على أساسها خط السير إلى غاياته.. وذلك من خلال أجواء

__________

(1) من وحي القرآن: (16/ 326)، والتفسير المنير (18/ 250)، وزهرة التفاسير (10/ 5197)، وتفسير المراغي (18/ 111)

القرآن والتذكير والتبشير (50)

الذكر والدعاء والخشوع والتلاوة والصلاة.

قال آخر: وليس مهمتها تجسيد الفن والإبداع الإسلامي وتمثيل معاني الجمال، وتحريك الذوق من خلال إبداع الزخرفة وجمال الهندسة وفخامة البناء، فهي مظاهر عظمة مادية بحتة يحاول الكثيرون تأكيدها في أماكن العبادة الإسلامية، لأن الإسلام يريد أن يشمل المسجد البساطة والعفوية التي لا تشغل الإنسان عن انطلاقه الروحي بين يدي الله، فيما توحي به الزخرفة من شواغل البصر التي تشغل الفكر والشعور.

قال آخر: والإذن الوارد في الآية الكريمة يوحي بمعنى الانقياد لله والارتباط به، لحاجة الإنسان إلى صدور الإذن من الله له، فيما يريد أن يقوم به من عمل، وما يريد أن يرفع من بيوت، فليس له أن يبتدع ما لا يعلم أن الله يأذن به، أو ما يعلم أن الله لا يأذن به، من ناحية عامة أو خاصة.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور:36] يعني ما يعنيه الذكر لاسم الله من استحضار ذاته في نفوس عباده، ليكون ذلك منطلقا للشعور بحضوره الدائم في حياتهم، ليدفعهم ذلك إلى المزيد من التوحيد في العبادة، أو في الطاعة، أو في حركة الحياة.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ملامح شخصية المؤمنين المرتادين للمساجد، فقال: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾، أي ينزه الله ويقدسه ويصلي في تلك المساجد في أوائل النهار بكرة وغدوة، وأواخره في الآصال والعشايا رجال لا تشغلهم الدنيا والمعاملات الرابحة عن ذكر الله وحده، وإقامة الصلاة لوقتها، وأداء الزكاة المفروضة عليهم للمستحقين.

قال آخر: وفي وصفهم بـ ﴿رِجَالٌ﴾ إشعار بهمتهم العالية، وعزيمتهم الصادقة، التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه، وشكره وتوحيده وتنزيهه، كما قال

القرآن والتذكير والتبشير (51)

تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب:23]

قال آخر: والمراد بقوله تعالى: ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:36] غير الصلاة، منعا من التكرار. وخص التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة.

قال آخر: وقد بين الله تعالى أحوال هؤلاء الرجال وصفاتهم، فقال: ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:37] أي أنهم لا تلهيهم الحياة وما فيها عن ذكر الله، فهم في ذكر لله دائم، في تجارتهم يذكرون، وفي بيعهم يذكرون، لا يغفلون عن ذكره أبدا.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [النور:37] وهذا من عطف الخاص على العام، ومعنى إقام الصلاة الإتيان بها مقومة مستقيمة بذكر الله تعالى في كل أركانها وكل عباراتها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى السبب في شغل أنفسهم بالعبادة، فقال: ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور:37] أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب:10] وقال: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم:42]

قال آخر: ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ [النور:38] أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة، ليثيبهم الله على حسناتهم التي فعلوها، فرضها ونفلها، واجبها ومستحبها، كما قال تعالى في وصف المؤمنين، وقولهم: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان:10ـ12]

القرآن والتذكير والتبشير (52)

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم.. ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي يجزيهم بأحسن الأعمال، ويضاعف لهم ما يشاء كما قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام:160] وقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:26]

قال آخر: ثم نبه الله تعالى إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور:38] أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب، فهم لما اجتهدوا في الطاعة، وخافوا ربهم أشد الخوف، جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.

آثار الغفلة وعواقبها:

ما إن انتهى الطلبة من حديثهم إلى هذا الموضع، حتى طلب مني بعضهم أن أسير معه إلى قسم آخر، فسألته عنه، فقال: من تعلم ما يرغب في الذكر من خلال ذكر علاماته وآثاره، عليه أن يتعلم ما يرهب من الغفلة وعواقبها.. فالترغيب والترهيب متلازمان، ولا يصح للواعظ المهتدي بهدي القرآن الكريم يكتفي بأحدهما، ما لم يضم إليه الآخر.

قلت: صدقت.. ولهذا أرى القرآن الكريم في أكثر الأحوال يقرن صفات المؤمنين بغيرهم.. كما يقرن الجزاء الحسن بغيره.. حتى تمتلئ النفس رغبة ورهبة.

بعد أن ذكر لي هذا دخلت القسم الخاص بهذا، وقد كان أول ما سمعته من أستاذه قوله: حدثونا بما ورد في القرآن الكريم من الترهيب من آثار الغفلة وعواقبها.

قال أحد الطلبة: من ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ

القرآن والتذكير والتبشير (53)

آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه:124ـ126]

قال آخر: وقال: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:16]

قال آخر: وقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر:19]

قال آخر: وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون:9]

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه:124ـ126]

قال أحد الطلبة: أي ومن أعرض عن ذكرى الذي أذكره به وتولى عنه، ولم يتعظ به فينزجر عما هو مقيم عليه من مخالفة أمر ربه، فإن له معيشة ضيقة شديدة لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا والتهالك على ازديادها والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبا عليه، والبخل راسخا في أعراقه.

قال آخر: وسبب ذلك أنه لا يحصل على شيء من المعيشة إلا وتطلعت نفسه إلى شيء آخر، فيشعر بالقلق والحسرة إذا لم يحصل عليه، فإذا تحقق له ذلك انتقل إلى شيء آخر، فهو

__________

(1) تفسير المراغي (8/ 136)، والتفسير القرآني للقرآن (15/ 1233)، ومن وحي القرآن: (15/ 168)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (10/ 99)، وتفسير الميزان، ج: 14، ص: 226.

القرآن والتذكير والتبشير (54)

محاصر بحاجاته وتمنياته فيما يخلد فيه إلى الأرض، فلا يتجاوزها إلى الآفاق الرحبة التي ينطلق فيها إلى الله سبحانه.

قال آخر: ولذلك فإنه يبقى مختنقا بالآفاق الضيقة، والأجواء الخانقة التي، مهما اتسعت، فإنها تظل في دائرة محدودة تضيق به، فلا تمنحه الإحساس الغامر بالسعادة التي لن تحصل للإنسان إلا بالإشباع الروحي.

قال آخر: حتى المادة التي يغذي بها حاجاته الجسدية، لا تعطيه اللذة إلا إذا ارتفع بها إلى أجواء الروح فأعطاها شيئا من الروحية في النية والجو والحركة.. ومهما امتدت به هذه الحياة الدنيا، ومهما أعطته من مباهجها، فإنها محدودة بالموت الذي يلغى ويفسد كل شيء فيها.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عقوبته في الآخرة، فقال: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124] أي عن الجنة، لأن الجهالة التي كانت له في الدنيا تبقى كذلك في الآخرة، وهذا يصير سببا لأعظم الآلام الروحية له.. فالله تعالى جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه العيش الهنيء الذي لا هم فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو في الآخرة أشد تعبا، وأعظم ضيقا، وأكثر ألما.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى موقف ذلك الغافل في الآخرة، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه:125]، أي قال رب لم حشرتني أعمى عن حجتي وعن رؤية الأشياء على حقيقتها، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله؟، كما قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ [الإسراء:97]

قال آخر: وقد أجاب الله تعالى هذا السائل بقوله: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه:126] أي فكما تركت آياتنا ترك النسي الذي لا يذكر أصلا

القرآن والتذكير والتبشير (55)

وأعرضت عنها؛ فاليوم ننساك فنتركك في النار.

قال آخر: وهذا يشير إلى أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم لها في الدنيا والذي نألفه في الطبيعة، وكون البصير مبصرا لكل مبصر، والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي.. فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك، فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة، وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة، وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها.

قال آخر: وقد يكون التعبير واردا على سبيل المجاز من ناحية العمى والبصر القلبيين اللذين يتصلان بمنطقة الوعي الفكري للإنسان لا بمنطقة الرؤية الحسية.. وليس هذا التعبير بعيدا عن الأسلوب القرآني، فقد جاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46] ما يوحي بأن العمى الفكري والروحي ملحوظ في القرآن، بل هو الأبرز في أجواء الحديث عن الكافرين الذين يعتبرهم لا ينفتحون على الطاقات الحسية من السمع والبصر بشكل واع، فإن لهم عيونا لا يبصرون بها، ولهم آذانا لا يسمعون بها، كما أنهم لا ينفتحون على الطاقة الفكرية التي يملكونها، فإن لهم قلوبا لا يعقلون بها.

قال آخر: ولعل الدليل على إرادة العمى المعنوي القلبي في هذه الآية ما جاء في الآية الأخرى جوابا على تساؤلهم، فقد قال تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾، وذلك فيما يعنيه النسيان من غفلة عنها، ومن بعد عن الصورة الحقيقية للمضمون الفكري لهذه الآيات، لأنه لا يملك الرؤية السليمة التي تجعله يبصر مواقع الهدى في كلمات الله، أو لأنه أهمل التركيز عليها من خلال أجواء اللامبالاة التي يمارسها تجاه الدعوة الإلهية.

قال آخر: ثم قال تعالى بعدها: ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ ولهذا كان جزاء ذلك هو

القرآن والتذكير والتبشير (56)

إهماله يوم القيامة، ونسيانه العملي من قبل الله، بحيث لم يفتح الله له قلبه للأجواء الروحية المنفتحة على السعادة والطمأنينة للروحيين، كما لم يفتح قلبه لله في دار الدنيا، فكان العمى في الآخرة نتيجة للعمى في الدنيا، كما كان نسيانه لله هناك سببا في نسيان الله له هنا، من ناحية عملية. والله العالم بحقائق آياته.

قال آخر: ثم بين الله تعالى شمول هذا العذاب لكل الغافلين، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾، أي وهكذا نعاقب من أسرف، فعصى ربه ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكا.. ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ أي ولعذاب الآخرة في النار أشد مما نعذبهم به في الدنيا وأكثر بقاء، لأنه لا أمد له ولا نهاية.

آية ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر:19]

قال أحد الطلبة: الآية الكريمة تقصد أهل الضلال من المنافقين وغيرهم، الذين خلت قلوبهم من تقوى الله، وخشيته، فلم ينظروا فيما يقدمون لغد، بل شغلوا بما هم فيه من متاع الحياة الدنيا، ونسوا الله، ولم يذكروا عقابه، ولم يستحضروا جلاله وعظمته، فكان هذا النسيان لله، ولجلاله، وعظمته، سببا في نسيانهم لأنفسهم، فلم ينظروا إلى المصير الذي هم صائرون إليه، ولم يروا البلاء المحدق بهم من هذا الضلال الذي هم فيه.

قال آخر: ولو أنهم ذكروا الله، وذكروا حسابه وعقابه، لذكروا وجودهم هذا الذي يسبح في بحار الضلال، ولعملوا جاهدين على إنقاذ أنفسهم مما هم فيه، فكان نسيانهم لله،

__________

(1) منية الطالبين: 28/ 159، والتفسير القرآني للقرآن (14/ 878)، وزهرة التفاسير (6/ 2905)، وتفسير المراغي (28/ 54)، ومن وحي القرآن: (22/ 131)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (14/ 443)

القرآن والتذكير والتبشير (57)

هو الداء الذي ران على قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فلم يروا حقا، ولم تقبل قلوبهم ما هو حق.

قال آخر: ولذلك، فإن النسيان والغفلة من أهم عوامل تعاسة الإنسان، كما قال تعالى بشأن المنافقين: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة:67] أي إنهم نسوا الله، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم.. وقال عن الضالين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص:26]

قال آخر: ولذلك كان القرآن الكريم خير وسيلة لتمزيق حجب النسيان، فهو نور لإزالة الظلمات والغفلة والنسيان، حيث إن آياته تذكر الإنسان بالله وبالمعاد، وتعرف الإنسان قيمة وجوده في هذه الحياة.

قال آخر: وعلى هذا يكون فاعل الفعل أنساهم ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من الفعل ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾ أي: فأنساهم هذا النسيان أنفسهم.. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير لفظ الجلالة العائد على قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾.. بمعنى: نسوا الله فعاقبهم الله بأن أنساهم أنفسهم.

قال آخر: وقد وردت الآية الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:17]، والتي تأمر بمحاسبة النفس والتفكير في مستقبل أمرها، ولذلك ورد فيها الأمر بالمراقبة حتى لا يغفل المؤمنون عن أنفسهم وينسوها بترك أسباب فلاحها، ونجاتها من الهلاك، لأجل نسيان الله سبحانه.

قال الأستاذ: فما سر ارتباط نسيان النفس بنسيان الله؟

قال الأستاذ: ذلك لوجوه كثيرة، منها أن نسيانه تعالى بمعنى نسيان أسمائه الحسنى

القرآن والتذكير والتبشير (58)

وصفاته العليا التي بها ترتبط صفات الإنسان الذاتية من الذلة والفقر والحاجة، فيتوهم الإنسان نفسه مستقلة في الوجود، ويخيل إليه أن لنفسه حياة وقدرة وعلما وسائر ما يتراءى له من الكمال، وعند ذلك يعتمد على نفسه، مع أنه كان عليه أن يعتمد على ربه؛ ويرجو ويخاف الأسباب الظاهرية، مع أنه كان عليه أن يرجو ربه ويخافه؛ ويطمئن إلى غير ربه مع أنه كان عليه أن يطمئن إلى ربه.

قال آخر: أي أنه عندما ينسى ربه، والرجوع إليه، ويعرض عنه بالإقبال على غيره، ينسى نفسه، ذلك أن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود، ليس هذا واقع الإنسان، بل واقعه شيء آخر، إذ هو موجود متعلق الوجود، جهل كله، ذل كله، فقر كله، وهكذا. وماله من الكمال كالوجود والعلم والقدرة والعزة والغنى فإنما هو لربه، وإلى ربه انتهاؤه(1).

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن معرفة الله تعالى أمر فطري جبلت عليه فطرة الإنسان وخلقته، والشاهد على ذلك أن علم النفس قد أثبت أن للنفس الإنسانية غرائز وأحاسيس أربع.

قال آخر: وأولها غريزة حب الاستطلاع، وهي التي تدفع الإنسان إلى اكتشاف المجهولات، وفي ظلها توسعت المعارف وتطورت العلوم وتقدمت، ولولاها لتوقف تطور الحياة البشرية.

قال آخر: وثانيها غريزة حب الخير، وهي منشأ ظهور الأخلاق، وهي التي تدفع الإنسان إلى إقامة العدل ومكافحة الظلم، ولذلك يجد الإنسان من صميم ذاته الميل إلى

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: 18/ 219.

القرآن والتذكير والتبشير (59)

الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة.

قال آخر: وثالثها غريزة حب الجمال، وهي منشأ الفنون الجميلة قديما وحديثا، وسبب ظهور الأعمال السنية المختلفة.

قال آخر: ورابعها غريزة التدين أو الشعور الديني، وهي البعد الرابع في النفس الإنسانية وتعني أن كل فرد من أبناء الإنسان يميل بشكل فطري إلى الله تعالى والاعتقاد به، وينجذب عفويا إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوة الحاكمة على هذا الكون، وقد أوجد اكتشاف هذا الشعور حركة عظيمة في الأوساط العلمية وفي الوقت نفسه قد حط كثيرا من غرور الماديين.

قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى هذا البعد في قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30]

قال آخر: فإذا كانت معرفة الله هي فطرة الإنسان، فالغفلة عن الله غفلة عن النفس وما فيها، فيكون نسيان الله بمنزلة نسيان النفس.

قال آخر: وبذلك يعلم أن ما يذكره الماديون من أن تعلق الإنسان بالله تعالى وعبادته، تعلق بالغير وخروج عن التعلق بالذات، وأنه لابد أن يتعلق الإنسان بنفسه ويخرج كل تعلق بغيره حتى الله والأموال، أمر باطل؛ ذلك أنه إذا كان التوجه إلى الله وما وراء الطبيعة أحد الأبعاد الأربعة والغرائز الموجودة في صميم الإنسان، فالتعلق بالله ليس خروجا عما تقتضيه النفس، بل إجابة لبعض متطلبات الفطرة، وتكون الغفلة عنه خروجا عن التعلقات الذاتية والغرائز الدفينة.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن نسيان الله يؤدي إلى انغماس الإنسان في اللذات

القرآن والتذكير والتبشير (60)

المادية والشهوات الحيوانية، من جهة، ومن جهة أخرى ينسى خالقه، وبذلك يغفل عن ادخار ما يحتاجه في الحياة الأخروية.

قال الأستاذ: فما الفرق في هذا بين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر:19] وقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة:67]؟

قال أحد الطلبة: في الآية الأولى اُعتبر نسيان الله سببا لنسيانهم أنفسهم، وفي الآية الثانية اعتبر نسيان الله سببا لنسيان الله إياهم، ومن المعلوم أن المراد من نسيان الله لهم هو عدم شمول رحمته لهم وهدايته، وبذلك صاروا من مصاديق قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة:7]

قال الأستاذ: فلم نسب الله تعالى نسيانهم أنفسهم إليه سبحانه؟

قال أحد الطلبة: ذلك لأن نسيان النفس متفرع على إنساء الله، وهو من تفرع المسبب على سببه، والمعلول على علته.

قال الأستاذ: فما وجه عدم استلزامه الجبر؟

قال أحد الطلبة: ذلك واضح؛ فالغافل نسي الله عن اختيار، ولذلك استحق مؤاخذة الله، وهو إنساء الله له لنفسه، ولو أنه لم يقم بنسيان ربه، لم ينسه الله نفسه.

قال آخر: ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5]، فكأن فعله سبحانه جزاء لعملهم وفعلهم، وبذلك يعلم أن قوله تعالى: ﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر:19] لا يستشم منه القول بالجبر؛ وذلك لأن الفاعل المختار إذا أوجد العلة يترتب عليه معلوله.

قال الأستاذ: لقد عقب الله تعالى هذه الآية الكريمة بقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ

القرآن والتذكير والتبشير (61)

النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر:20]، فما السر في ذلك؟

قال أحد الطلبة: لقد استعرض الله تعالى في هذه الآية الكريمة طائفتين.. الأولى: الطائفة المؤمنة المطيعة لله، المعتقدة بالبعث والحياة الأخروية، المقدمة لها ما يريحها فيها.. والثانية: الطائفة الكافرة الغافلة عن الحياة الأخروية الواردة إليها بلا زاد ولا ذخيرة.. ومن المعلوم أن الطائفة الأولى هم الفائزون، والثانية هم الخاسرون، ولا يستوي الخاسر مع الفائز؛ لأن أصحاب الجنة لا يتساوون مع أصحاب النار في الدنيا والآخرة.

قال آخر: وقد تكرر نفي الاستواء بين الطائفتين في القرآن الكريم كثيرا، كما قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ [الرعد:16]، وقال: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت:34]، وقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9].. وغيرها من الآيات الكريمة النافية للاستواء بين طائفتين.

قال الأستاذ: فما هو السر في طرح هذه القضايا الواضحة التي لا تخفى على ذي لب، فإن الناس قاطبة يذعنون بعدم استواء الأعمى والبصير والظلمات والنور، والعالم والجاهل، وهكذا ما في المقام من عدم استواء من في النار ومن في جنة النعيم؟

قال أحد الطلبة: إن هذه قضايا واضحة، ولكن تستنبط منها قضايا نظرية هي المقصودة واقعا، وهي نفي الاستواء بين الكافر والمؤمن على وجه الإطلاق.

قال آخر: فالكافر كالأعمى عند الله، والمؤمن كالبصير، ذلك أن الكافر لأجل خلوده إلى الأرض وعدم تجاوزه الماديات، لا يؤمن بما وراء الطبيعة كعالم البرزخ والقيامة، فصار مثله مثل الأعمى لا يذعن إلا بما تلمسه يداه، أو تسمعه أذنه، وأما المؤمن فمثله كمثل البصير يذعن بما لا يذعن به الأعمى.

قال آخر: ومنه يظهر حال نفي الاستواء بين النور والظلمة، فالإيمان نور يهدي به

القرآن والتذكير والتبشير (62)

الله الإنسان إلى مدارج السعادة، والكفر ظلمة لا يهتدي بها إلى شيء، فإذا قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9] فإنه يريد العالمين بما وراء هذا العالم من نظام كامل يدبره، كما يريد ممن لا يعلمون كل جاهل بذلك.

آية ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون:9]

قال أحد الطلبة: بعد أن حكى الله تعالى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء، وأن المؤمنين هم الأذلاء، اغترارا بما لهم من مال ونعمة، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله، وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانا حقا، ويؤدون فرائضه، ويقومون بما يقربهم من رضوانه أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال وأولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [المنافقون:9] يعني: لا يشغلكم تدبير أموالكم، والعناية بشؤون أولادكم، عن القيام بحقوق ربكم، وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم، وللآخرة مثله.

قال آخر: وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 966)، وزهرة التفاسير (8/ 4030)، وتفسير المراغي (28/ 115)، ومن وحي القرآن: (22/ 243)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (18/ 369)

القرآن والتذكير والتبشير (63)

ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف:32]، وقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف:31]

قال آخر: ثم توعد الله تعالى من يفعل ذلك فقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون:9]، أي ومن تلهى بالدنيا وشغلته عن حقوق الله فقد باء بغضب من ربه، وخسرت تجارته، إذ باع خالدا باقيا، واشترى فانيا زائلا وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟

قال الأستاذ: فما سر قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾ [المنافقون:10]

قال أحد الطلبة: في هذه الآية الكريمة حث على المبادرة بطاعة الله، والإعداد لليوم الآخر، قبل فوات الأوان، حين يهجم الموت على غرة أو دون إنذار سابق، فيجد المرء نفسه وقد حضره الموت، وفاته ما كان يراود به نفسه من طاعة الله، ومن فعل الخير، وعندئذ يود أن لو استأنى به الموت قليلا، وترك له فرصة من الوقت، يتدارك فيه ما فات، ويصلح ما أفسد.. ولكن هيهات، هيهات، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل:61]

قال آخر: ولهذا كان من حكمة الحكيم العليم، أن يلفت المؤمنين إلى أنفسهم، بعد أن أراهم الصورة المنكرة للإنسان الضال المنحرف، في هذه السورة ـ سورة المنافقون ـ ليكون لهم فيه عبرة وعظة.. وحتى لا يشغل المؤمن كثيرا بأمر هؤلاء المنافقين، وحتى لا يقف كثير من المؤمنين عند حد النظر إلى هذه الصور المتحركة بين عينيه، التلهي والتسلية.

القرآن والتذكير والتبشير (64)

قال آخر: وقد جاءت هذه اللفتة السماوية إليهم، ليخرجوا بمشاعرهم وتصوراتهم عن هذا الموقف، ولينظروا في أنفسهم هم، وليراجعوا حسابهم مع ذواتهم، فقد يكون فيهم من هو على صورة هؤلاء المنافقين، أو على شبه قريب منها، وهذا يقتضيه أن يصحح وضعه، إن أراد أن يكون في المؤمنين.

قال آخر: أما كيف يقيم ميزانه السليم على طريق الإيمان، فهو أن يكون كما دعا الله المؤمنين إليه في هاتين الآيتين، وهو ألا يشغل عن ذكر الله بالأموال والأولاد، وألا يكون ذلك همه في الحياة الدنيا، فيستغرقه متاع هذه الحياة، ويقطعه عن ذكر الله، وعن النظر إلى الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء.. فإن من يفعل ذلك فقد خسر نفسه، وأوردها موارد الهلاك في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.

قال آخر: فإذا انخلع الإنسان عن سلطان الاشتغال بالأهل والولد، وعن الغفلة عن ذكر الله، كان طلب البذل منه للإنفاق في وجوه الخير، أمرا مقبولا، يمكن أن يمتثله ويستجيب له، حيث خرج من هذا السلطان المتحكم فيه، الآخذ على يده، وهذا هو السر في تقديم النهى على الأمر.. فإن الانتهاء عن المنكر والقبيح، مدخل إلى إتيان المعروف والحسن من الأمور.

قال آخر: ذلك أن الانتهاء عن القبيح أشبه بالشفاء من داء يغتال عافية الجسد، فإذا عوفي الجسد من هذا الداء، كان من الطبيعي بعد ذلك، أن تقوم ملكات الإنسان وحواسه بوظائفها كاملة.. فكما لا يدعى إلى حمل التكاليف والأعباء مريض، كذلك لا يدعى إلى القربات والحسنات من هو مقيم على المعاصي، ملازم للمنكرات.

قال آخر: والتربية الحكيمة لمثل هذا، هو أن يطب له من هذا الداء المتمكن منه، فإن هو أقلع عنه، كان من الممكن الانتقال به من جانب المعاصي إلى حيث البر والإحسان..

القرآن والتذكير والتبشير (65)

ولهذا كان من مقررات الشريعة: أن دفع المضار مقدم على جلب المصالح.

آية ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:16]

قال أحد الطلبة: في الآية الكريمة دعوة إلى أولئك المؤمنين الذين في قلوبهم مرض، من المنافقين وأشباه المنافقين، الذين يعيشون بين المؤمنين، ويحسبون في جماعتهم، ويشهدون مشاهدهم في الحرب والسلم، من الذين لم تطمئن بالإيمان قلوبهم، ولم تخشع لذكر الله وما نزل من آياته إلى إصلاح إيمانهم وتجديده.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد:16] يعني: ألم يحن الوقت الذي تخشع فيه لذكر الله، ولما نزل من الحق، قلوب أولئك المؤمنين الشاكين المترددين؟.. وماذا ينتظرون بعد هذا وقد عاشوا في الإسلام وقتا كافيا، اطلعوا فيه على سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، واستمعوا إلى آيات الله التي يتلوها عليهم؟

قال آخر: وفي تسميتهم مؤمنين، إغراء لهم بتصحيح إيمانهم، وبإخلاء قلوبهم من النفاق، وإخلاص نياتهم لهذا الدين الذي لبسوه ظاهرا، بأن يلبسوه باطنا، وهو أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي ليس من همها قتل المرضى، بل همها الأول هو الطب لدائهم، وتقديم الدواء الناجع لعللهم.

قال آخر: ثم حذرهم الله تعالى أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال: ﴿وَلَا يَكُونُوا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 766)، وتفسير المراغي (27/ 173)

القرآن والتذكير والتبشير (66)

كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:16] أي لا يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم ولم تقبل موعظة ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا في الدين دون دليل ولا برهان، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين في الأعمال والأقوال كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة:13].

قال آخر: والمراد بذلك أن قلوبهم فسدت فقست وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، فتركوا الأعمال التي أمروا بها، واجترحوا ما نهوا عنه.

قال آخر: ثم ضرب الله تعالى المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن في القلوب فقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد:17]، أي إن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدى النفوس الحيارى بعد ضلتها ويفرج الكروب بعد شدتها، ببراهين القرآن ودلائله، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم، ويحييها بعد موتها كما يحيى الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتان، وقد ضرب لكم الأمثال كي تتدبروا وتكمل عقولكم.

ب. حجب وموانع:

ما إن انتهى الطلبة من حديثهم إلى هذا الموضع، حتى طلب مني بعضهم أن أسير معه إلى قسم آخر، فسألته عنه، فقال: من تعلم ما يرغب في ذكر الله من خلال ذكر الآثار التي يجنيها الذاكرون، والعواقب التي يجنيها الغافلون، عليه أن يتعلم ما يحذر من الحجب

القرآن والتذكير والتبشير (67)

التي تحول بين العبد وربه.

قلت: ولم؟

قال: هل تعرف سر قوله تعالى لآدم عليه السلام: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:35]

قلت: أجل.. فالله تعالى حذر آدم وحواء عليهما السلام من الأكل من الشجرة، بعد أن أذن لهم في غيرها، ثم بين عاقبة ذلك، وهي تحولهم إلى ظالمين لأنفسهم.

قال: فهذا ما يفعله الواعظ الحقيقي؛ فهو لا يكتفي بأن يدلك على الحقائق والقيم الجميلة، وإنما يحذرك من العقبات التي قد تقع لك في طريقك، أو الحجب التي تحول بينك وبين الوصول.

قلت: ألهذا حذر الله تعالى من إبليس، وقص علينا قصته في القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:168ـ169]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة:208]؟

قال: أجل.. فمن لم يحذر من عدوه سيقع في شباكه لا محالة.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة:18ـ19]

اتباع الهوى:

كان أول ما سمعته في القسم الخاص بالترهيب من الغفلة، قول الأستاذ مخاطبا

القرآن والتذكير والتبشير (68)

طلبته: تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما ينفرنا من الهوى، واعتباره من الحجب التي تحول بيننا وبين الذكر والتذكر.. فيستحيل أن يجتمع الهوى مع الله في قلب عبد من العباد.

قال أحد الطلبة(1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:23]

قال آخر: في هذه الآية الكريمة عرض لصورة واحد من صور هؤلاء الضالين، الذين عموا عن آيات الله، وفيها يرى كل واحد من أهل الزيغ والضلال وجوده، وينكشف له الداء المسلط عليه.. فهذا المكذب بآيات الله، المعرض عن دعوة الهدى التي يدعوه إليها رسل الله إنما يتبع هواه، وينقاد له، انقياد المؤمنين لله.. فالإله الذي يعبده هذا السفيه الضال، هو ما يقيمه له هواه، ويصوره له سفهه، من معبودات يتخذها من دون الله، من أصنام وغير أصنام.

قال آخر: والاستفهام هنا تعجبي، يراد به الاستهزاء والسخرية من هذا الضال، وفضحه على الملأ وهو عاكف على هذا الضلال الذي يعبده من دون الله.. أي إن لم تكن قد رأيت هذا الإنسان المنكود الضال الذي يعبد هواه، فها هو ذا، فانظر إليه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23] جملة حالية.. أي أنه قد اتخذ إله هواه، في الحال التي أضله الله فيها على علم.

قال آخر: وهذا يعني أن ضلاله ليس مستندا إلى جهل بالفكر، أو بمواقع الهدى، لأن هذا الإنسان قد أخذ بأسباب العلم الذي يمكن أن يصل به إلى مواقع الإيمان أو يعرفه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 245)، وتفسير المراغي (25/ 157)، ومن وحي القرآن: (20/ 327)

القرآن والتذكير والتبشير (69)

وسيلة الالتزام به، لكنه انطلق في خط الهوى الذي تحول إلى غشاء ثقيل غشى بصيرته، وأعمى بصره، فتحول العلم عنده إلى جهل، أو إلى ما يشبهه، الأمر الذي جعله يتحرك في متاهات الضياع.

قال آخر: أما نسبة الإضلال إلى الله، فقد يكون بملاحظة الجانب السلبي المتمثل في إهمال الله له وتركه لنفسه، أو بملاحظة الجانب الإيجابي المتمثل في قانون السببية الذي ربط الله فيه بين الأشياء وجعل اختيار السبب بيد الإنسان، مما لا ينافي عنصر الاختيار في الأفعال.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عاقبة ذلك الهوى المتسلط، فقال: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ [الجاثية:23]، وذلك لأن الهوى عندما يغلب على الإنسان، يمنعه من سماع الحق، أو يشوش عليه ما يسمع، كما يغلق أمام عقله النافذة الواسعة التي يطل بها على الحقائق، ويضع الحواجز التي تمنعه من البحث عن الحقائق والوصول إليها من طريق التفكير العميق، والتأمل الواعي، تماما كما لو كان سمعه وقلبه مختومين بختم مادي يمنعهما من استقبال الكلام النافع، والفكر الصائب.

قال آخر: ومن عواقب تسلط الهوى ما عبر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية:23] أي أن صاحب الهوى يبصر سطح الأشياء الظاهر، من دون أن يحدق فيها تحديقا دقيقا يمكنه من معرفتها في العمق، بالمستوى الذي يملك فيه الوصول إلى معرفة مدلولات الأشياء التي يراها، مما يجعل رؤيته لها رؤية عابرة، لا يستفيد منها شيئا، كما لو لم يبصر أي شيء، لأن وجود السمع والقلب أو عدمه يتساويان عندما لا يحصل الإنسان من الوجود على ما ينير فكره ويغير واقعه.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:23] أي فمن

القرآن والتذكير والتبشير (70)

يوفقه لإصابة الحق، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه، أي لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدى أبدا، ولن يجد لنفسه وليا ولا مرشدا؟

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني المرتبطة بهذا، والتي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت:17]

قال أحد الطلبة: أي أن ثمود عاشوا في أعماق الظلمة الروحية التي أغلقت نوافذ عقولهم عن النور المنطلق من وحي الرسالة ومن نداء الرسول فلم يستجيبوا لنداء التغيير الفكري الذي يجدد حياتهم التي اعتادوها في أوضاعهم وعلاقاتهم.

قال آخر: وهكذا أرادوا البقاء على عمى الشرك الذي يتخبطون في أوحاله، فيما ارتاحوا إليه من طقوس العبادة، وشؤون الحياة، وطبيعة العلاقات، وتركوا لأجله الهدى الذي يدلهم على الله ويعرفهم حقيقة توحيده، وروحية عبادته، وتمردوا على الرسالة وسخروا من الرسول، وهددوه وتوعدوه.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى عاقبة اتباعهم للهوى، فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت:17] أي فأرسلنا عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا، بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله.

قال آخر: وذكر عاقبة المتقين المترفعين على أهوائهم، فقال: ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [فصلت:18] أي ونجينا صالحا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب؛

__________

(1) من وحي القرآن: (20/ 105)، وتفسير المراغي (24/ 118)

القرآن والتذكير والتبشير (71)

فلم يمسسهم سوء ولا نزل بهم مكروه، بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم.

قال آخر: وذلك لأنهم انفتحوا على الإيمان والتقوا بالله من خلاله فأدخلهم في رحمته.. ولأنهم كانوا يتحركون مع النبي في خط الدعوة وخط العمل، وكانوا يشاركونه في الدعوة إلى الله.. ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [فصلت:18] فيلتزمون الحدود التي أرادهم أن يقفوا عندها في حلاله وحرامه، وهذا هو أساس النجاة من العذاب، والحصول على الثواب.

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن بعض ما ورد في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي توافق هذه الآيات الكريمة وتؤكدها وتفصل معانيها.

قال آخر: من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه)(1)، وقال: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى)(2)

قال آخر: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:7]، ثم قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم)(3)

قال آخر: وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم خط خطا ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطا عن يمينه

__________

(1) كشف الأستار عن زوائد البزار(1/ 59)

(2) أحمد(4/ 042 ـ 423)

(3) البخاري، (4547)

القرآن والتذكير والتبشير (72)

وعن شماله ثم قال: (هذه سبل متفرقة، قال: على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153](1)

قال آخر: وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في بعض مواعظه: (إنّ أخوف ما أخاف على أمّتي الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وهذه الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلّ واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فافعلوا، فإنّكم اليوم في دار عمل ولا حساب وأنتم غدا في دار حساب ولا عمل)(2)

قال آخر: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره، ولبست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم أؤته منها إلا ما قدرت له، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضين رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة)(3)

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا بما ورد عن أئمة الهدى مما يدل على هذه المعاني ويؤكدها.

قال أحد الطلبة: من ذلك ما روي عن الإمام علي أنه قال يوصي أصحابه: (أوصيكم بمجانبة الهوى، فإن الهوى يدعو إلى العمى وهو الضلال في الآخرة والدنيا، وإن أول

__________

(1) أحمد(1/ 435) والحاكم(2/ 318)

(2) الخصال ج 1 ص 51.

(3) أصول الكافي ج 2 ص 335.

القرآن والتذكير والتبشير (73)

المعاصي تصديق النفس والركون إلى الهوى)(1)

قال آخر: وقال في مدح أخ له في الله: (وكان إذا بدهه أمران ينظر أيهما أقرب إلى الهوى فيخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها، فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير)(2)

قال آخر: وكتب إلى بعض عماله يقول: (إنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها، ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من النادمين، ألا وإن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره، وإن أشقاهم من اتبع هواه، فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف ورحيم بالعباد)(3)

قال آخر: وقال الإمام الباقر يوصي بعض أصحابه: (توق مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا جهاد كمجاهدة الهوى)(4)

قال آخر: وقال: (إن طبائع الناس كلها مركبة على الشهوة والرغبة والحرص والرهبة والغضب واللذة إلا أن في الناس من ذم هذا الخلال بالتقوى والحياء والأنف، فإذا دعتك نفسك إلى كبيرة من الأمر فارم ببصرك إلى السماء فإن لم تخف ممن فيها فانظر إلى من في الأرض لعلك أن تستحيي ممن فيها؛ فإن كنت لا ممن في السماء تخاف ولا ممن في الأرض

__________

(1) دعائم الإسلام ج 2 ص 350.

(2) نهج البلاغة ص 1226.

(3) وقعة صفّين ص 108.

(4) تحف العقول ص 285.

القرآن والتذكير والتبشير (74)

تستحي فعد نفسك في البهائم)(1)

قال آخر: وقال الإمام الصادق: (لا تدع النفس وهواها فإن هواها في رداها، وترك النفس وما تهوى أذاها؛ وكف النفس عما تهوى دواؤها)(2)

قال آخر: وقال: (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم)(3)

قال آخر: وقال: (لا يحفظ الدين إلا بعصيان الهوى، ولا يبلغ الرضا إلا بخيفة أو طاعة)(4)

قال آخر: وقال: (من كان الهوى مالكه، والعجز راحته، عاقاه عن السلامة، وأسلماه إلى الهلكة)(5)

قال آخر: وقال: (من رعى قلبه عن الغفلة، ونفسه عن الشهوة، وعقله عن الجهل فقد دخل في ديوان المنبهين، ثم من رعى عمله عن الهوى، ودينه عن البدعة وماله عن الحرام، فهو من جملة الصالحين)(6)

قال آخر: وقال يوصي أصحابه: (اعلموا أن ما أمر الله به أن تجتنبوه فقد حرمه، واتبعوا آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا فإن أضل الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى من الله)(7)

__________

(1) نزهة الناظر ص 104.

(2) أصول الكافي ج 2 ص 336.

(3) أصول الكافي ج 2 ص 335.

(4) نزهة الناظر ص 107.

(5) نزهة الناظر ص 107.

(6) مصباح الشريعة ص 4.

(7) روضة الكافي ص 2.

القرآن والتذكير والتبشير (75)

قال آخر: وقال: (الهوى عدو العقل ومخالف الحق وقرين الباطل، وقوة الهوى من الشهوات وأصل علامات الهوى من أكل الحرام والغفلة عن الفرائض والاستهانة بالسنن والخوض في الملاهي)(1)

اتباع الظن:

قال الأستاذ: أحسنتم.. والآن، تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما ينفرنا من اتباع الظن، واعتباره من الحجب التي تحول بيننا وبين الذكر والتذكر، فلا يمكن لمن يسيء الظن بالله أن يعرف الله، ولا أن يتذكره.

قال أحد الطلبة(2): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام:116ـ117]

قال آخر: أي وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله، وأودعه كلماته المنزلة عليك، يضلوك عن الدين الحق، وعن نهج الصواب، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة.

قال آخر: ثم أكد الله تعالى ذلك بقوله:﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [يونس:66] والخرص، والتخرص: هو الحكم على الشيء بلا علم، والأخذ به بلا برهان ولا دليل، ومنه خرص النحلة، وهو تقدير ما تعطى من ثمر قبل أن ينضج ويكتمل، وهو ضرب من المقامرة، قد نهى الشرع عنه، كما قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ [الذاريات:10ـ11]

__________

(1) مصباح الشريعة ص 26.

(2) تفسير المراغي (8/ 12)، التفسير القرآني للقرآن (4/ 301)، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (4/ 443)

القرآن والتذكير والتبشير (76)

قال آخر: والآية الكريمة تشير إلى أن هؤلاء لا يتبعون في عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم، وما هم إلا يخرصون في ترجيح بعض منها على بعض، كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا دون تحقيق لذلك، ولا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على الله فيما ينسبونه إليه من اتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، وتحليل المينة والبحائر ونحو ذلك.

قال آخر: وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن أكثر الناس في هذه الدنيا تغلب عليهم أهواؤهم، وتستولى عليهم نزعات الشر والضلال، وأن أصحاب الهدى وأهل التقوى، هم قلة في هذه الدنيا، وأنهم لو اتبعوا الكثرة لكثرتها لهلكوا مع الهالكين، وضلوا مع الضالين.. وهكذا الخير قليل في أهله، كثير في مضمونه، وأن الشر كثير في أهله، قليل في محتواه.. وكذلك كل نفيس أو كريم، هو قليل الكم كثير الكيف، وكل خبيث وتافه، هو كثير الكم قليل القدر، بخس القيمة.

قال آخر: وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:100]، فهذه الكثرة الغالبة من الضالين، لا يقوم ضلالهم إلا على أوهام وترهات، ولا يستند إلا على أهواء ونزوات.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام:117] بيان لما ينكشف عنه حال الناس عند الله، وأنهم ضالون ومهتدون، وعند الله علم من يضل ومن يهتدى.. ولكل حسابه وجزاؤه عند الله.

قال آخر: وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي في الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، واتباعهم للخرص والظن، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا

القرآن والتذكير والتبشير (77)

هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك الأمم الوثنية، التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء.. وهذا من علم الغيب الذي أوتيه ذلك النبي الأمي، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النذر اليسير من شئون الأمم المجاورة لبلاد العرب.

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [يونس:66]

قال أحد الطلبة: في هذه الآية الكريمة نقد شديد لعقيدة المشركين في ربوبية الأصنام والأوثان ببيان أن ما في السماوات والأرض من عابد ومعبود، مخلوق لله تعالى، ومن ثم مملوك له، فكيف يجعلونهم أربابا ويدعون أنهم شركاء لله؟

قال آخر: والآية الكريمة تعرض بعض مظاهر سلطان الله وقدرته، وأنه سبحانه له ملك السموات والأرض ومن فيهن، فهو وحده الجدير بأن يمجد ويعبد.

قال آخر: ولذلك، فإن قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس:66] يعني أنه إذا كان الأشخاص ملكه ومنه، فمن الأولى أن تكون الأشياء الموجودة في هذا العالم ملكه ومنه، وبناء على هذه فإنه مالك كل عالم الوجود، ومع هذا الحال كيف يمكن أن يكون مماليكه شركاءه؟

قال آخر: ولهذا اعتبر الله تعالى كل دعاوى المشركين ظنونا وأوهاما، قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [يونس:66] أي أنهم يخبطون خبط عشواء في حسابات التخرصات والتخمينات التي لا تملك أساسا ثابتا في العقل ولا في الواقع.

__________

(1) منية الطالبين، 13/ 409، من وحي القرآن: (11/ 338)، والتفسير القرآني للقرآن (6/ 1044)

القرآن والتذكير والتبشير (78)

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ [النجم:23ـ25]

قال أحد الطلبة(1): أي أن المشركين ما يعبدون من دون الله إلا مجرد أسماء، لا مدلول لها، ولا قيمة لمسمياتها.. فهي أسماء ليس وراءها إلا خواء، وظلام.. تعلقت بها أوهام القوم، وأعطتها تصوراتهم هذه المفاهيم الخاطئة التي يتعاملون بها معها.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم:23] دلالة على أن هذه الأسماء ومسمياتها التي تختفي وراءها، لا تستند إلى حجة أو برهان، وأنها لم تقم على دعوة من العقل، أو على كتاب من عند الله.. وإنما هي من مواليد الباطل والضلال، إذ أجاءها العقل لم يجدها شيئا يقف عنده.

قال آخر: ثم بين سبب ما وقعوا فيه، فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم:23]، أي ما يتبع هؤلاء المشركون إلا ما تفيض به ظنونهم الفاسدة، وما تمليه عليهم أهواء أنفسهم المريضة.

قال آخر: ثم بين أنه ليس ثمة ما يسوغ لهم اتباع الظن والهوى، والحال أنه قد جاءهم ما يدلهم على الحق ويكشف لهم عن سقم تصوراتهم، أو كما قال: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم:23] فكان عليهم أن يتبعوا ما جاء من ربهم من أعلام الهدى، وأن يستضيئوا بآياته الكبرى.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ [النجم:24] و(أم)

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1274)، ومنية الطالبين، 27/ 127، ومن وحي القرآن: (21/ 259)، والتفسير القرآني للقرآن (14/ 602)

القرآن والتذكير والتبشير (79)

منقطعة في معرض الاستفهام الإنكاري الذي يرادف النفي، فكأن المسألة هي أن الإنسان لا يحصل على ما يتمناه لمجرد التمني، بل لا بد من أن يكون ذلك منسجما مع طبيعة الأشياء، فإذا كان هؤلاء يؤلهون هذه الأصنام عمليا ويعبدونها من دون الله، لتشفع لهم ولتقربهم إلى الله زلفى، فليس معنى ذلك أن هذا سيحصل في الواقع، لأن هذه الأصنام لا تمثل، لجهة الأسرار الروحية الخفية ودرجة القرب من الله، أي معنى، لأنها ليست شيئا ﴿فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ [النجم:25] فهو الذي يملك الأمر كله، وليس لأحد معه أي شيء أو أي امتياز ذاتي من كل الموجودات الحية وغير الحية.

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة:78ـ79]

قال أحد الطلبة: بعد الحديث عن انحرافات اليهود في الآيات السابقة قسمتهم هاتان الآيتان الكريمتان إلى عامة، وخاصة، أو أميون، وعلماء.

قال آخر: والأميون جمع أمي، والأمي غير الدارس.. وسموا بذلك لأنهم في معلوماتهم كما ولدتهم أمهاتهم، أو لشدة تعلق أمهاتهم بهم، صعب عليهن فراقهم جهلا، ومنعنهم من الذهاب إلى الدراسة.

قال آخر: والأماني جمع أمنية، وفيها إشارة إلى الامتيازات الموهومة التي كان ينسبها اليهود لأنفسهم، كقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة:18]، وقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 276)، والتفسير القرآني للقرآن (1/ 101)، وتفسير المراغي (1/ 151)، والتفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 182)

القرآن والتذكير والتبشير (80)

إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران:24].. ومن المحتمل أيضا أن يكون المقصود من الأماني الآيات المحرفة التي كان علماء اليهود يشيعونها بين الأميين من الناس، وهذا المعنى ينسجم أكثر مع قوله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة:78]

قال آخر: في قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:24] دلالة واضحة على بطلان اتباع الظن في فهم أصول الدين ومعرفة الوحي، بل لابد من التتبع والتحقيق في هذا الأمر.

قال آخر: والآيتان الكريمتان تشيران إلى أن اليهود كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بينا ظاهرا، وأشدهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغش وتدليس، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان.

قال آخر: وفيهما زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان اليهود بفرقهم المختلفة، لأنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها في هداية، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التي وضعها لهم أحبارهم، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم.

قال آخر: ولهذا سبقت الآيتان الكريمتان بقوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:75]، وهي بذلك تشمل كل من سلك سلوكهم أو تصرف مثلهم، فإنه لا محالة سيحجب عن هداية الله مثلما حجبوا.

قال آخر: وهي لا تعني بذلك أي جبر أو إكراه لهم على عدم الإيمان، فبإمكان أي يهودي أن يسلم، لكنه لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا بعد إزالة الحجب التي ذكرتها الآيات

القرآن والتذكير والتبشير (81)

الكريمة.

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:24]

قال أحد الطلبة: بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات الكريمة السابقة أن المشركين قد اتخذوا إلههم هواهم، وأن الله قد أضلهم على علم بحالهم، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم وجعل على بصرهم غشاوة ـ ذكر هنا جناية أخرى من جناياتهم، وحماقة من حماقاتهم، تلك أنهم أنكروا البعث، وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام لا مستند لها من نقل ولا عقل.

قال آخر: وقد خص الله تعالى في هذه الآية الكريمة جماعة من منكري التوحيد، وهم الدهريون الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقا، في حين أن أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهرا بالله، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى ظنونهم الفاسدة على ألسنتهم، فقال: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية:24]، أي كما يموت من يموت منا، يولد من يولد منا وبذلك يستمر النسل البشري: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية:24]، وبهذا فإنهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ؛ فالجملة الأولى تشير إلى إنكارهم المعاد، أما الجملة الثانية فتشير إلى إنكار المبدأ.

قال آخر: وقولهم: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية:24] يعني أن الزمن الذي يترك في

__________

(1) تفسير المراغي (25/ 158)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (16/ 219)، والتفسير الوسيط (3/ 2402)، ومن وحي القرآن: (20/ 330)

القرآن والتذكير والتبشير (82)

استمراره تأثيرا على عناصر الحياة والموجودات فيبلي كل جديد، ويهلك كل وجود هو الذي يعطل دور كل عضو من أعضائنا، ويفني الأجهزة المودعة في خلايانا؛ فنموت عندما تستنفد الحياة طاقتها على البقاء، فلا غيب، ولا خفاء، بل هو الحس الذي يتحرك أمام الأعين، في حركة الوجود والفناء.

قال آخر: وقد ورد التعبير عن هذا أيضا في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام:29]، وقوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [المؤمنون:37]، إلا أن التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب، ولم يرد إنكار المبدأ والمعاد معا إلا في هذه الآية الكريمة.

قال آخر: ومن الواضح أن هؤلاء إنما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم واضطرابهم منه، ذلك أنه قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.

أمراض القلوب:

قال الأستاذ: أحسنتم.. والآن، تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما ينفرنا من أمراض القلوب، واعتبارها من الحجب التي تحول بيننا وبين الذكر والتذكر، فلا يمكن لصاحب القلب المريض أن يعرف الله، ولا أن يتذكره.

قال أحد الطلبة(1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:49]

قال آخر: هؤلاء الذين ذكرتهم الآية الكريمة إما أنهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة، وكانوا يظهرون الإسلام والإيمان ولم يكونوا في حقيقتهم

__________

(1) زهرة التفاسير (6/ 3156)، وتفسير المراغي (10/ 14)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (5/ 455)، والتفسير القرآني للقرآن (2/ 599)

القرآن والتذكير والتبشير (83)

كذلك، أو أنهم من الذين تظاهروا بالإيمان في مكة لكنهم لم يهاجروا إلى المدينة وانضموا في معركة بدر إلى صفوف المشركين، فلما رأوا قلة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا: إن هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إلى هذه الساحة.

قال آخر: والآية الكريمة تذكر أن هؤلاء المنافقين ومرضى القلوب، يقولون عن المؤمنين: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال:49] أي أنه أوردهم موارد الهلاك وسوء المصير.

قال آخر: وهكذا كان المشركون والمنافقون يرددون تلك المقولات المنكرة، ويلقون بها ـ في شماتة وسخرية ـ إلى أسماع المسلمين، فتزيد من آلام جراحهم، وتثقل من هموم أنفسهم، والمسلمون في صمت ووجوم، يمسكون أنفسهم على هموم، ويطوون صدورهم على حسرات وغمرات.. لا يدرون ما يقولون، ولا ما يفعلون.

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة:124ـ125]

قال أحد الطلبة: بعد أن ذكر الله تعالى ضروبا من مخازي المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة، ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لواذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفي المؤمنين.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ [التوبة:124] يشير إلى علامة مميزة من علامات النفاق، وعرض ظاهر من أعراضه..

__________

(1) تفسير المراغي (11/ 51)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (6/ 273)، والتفسير القرآني للقرآن (6/ 922)

القرآن والتذكير والتبشير (84)

فالشك في آيات الله، والتشكيك فيما تحمل من هدى، ومن خير، ومن نور كفر يستره نفاق، وهو نفاق يصرح عن كفر.

قال آخر: ذلك أنه إذا قال قائل هذه الكلمة الضالة: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ [التوبة:124] فيما بينه وبين نفسه، فإلى الله حسابه، وعليه عقابه، أما إذا قالها فبلغت أسماع المسلمين، فذلك كيد يكيد به للإسلام، وحرب خفية بالكلمة المضللة يطعن بها في صدورهم.. فهو بهذا محارب يلقاه المسلمون بما يلقون به المحاربين من أعدائهم.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة:124] رد مفحم للمنافقين، وتكذيب فاضح لنفاقهم، وكفرهم بآيات الله، وضلال أبصارهم وبصائرهم عن الهدى والنور الذي تحمله آيات الله بين يديها؛ فالذين آمنوا، تزيدهم آيات الله إيمانا مع إيمانهم، بما يطالعون فيها من وجوه جديدة تتجلى فيها آيات الله، وتشع منها ألوان مضيئة كاشفة عن عظمة الخالق، وجلاله، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته.

قال آخر: فكل آية جديدة يلقاها المسلمون، وكل سورة جديدة تطلع عليهم من عند الله، هي خير جديد يضاف إلى ما بين أيديهم من خير، وهو نور جديد يمد به ما عندهم من نور، ولهذا فهم يستبشرون بكل آية تنزل عليهم، لأنها تزودهم بزاد جديد من الإيمان والتقوى، وتسير بهم خطوات واسعة إلى الله، تدنيهم من رحمته، وتقربهم من رضوانه.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة:125] بيان لما يحصله المنافقون والذين في قلوبهم مرض، من آيات الله التي تنزل هدى ورحمة للعالمين، فهي إنما تزيدهم عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال، وفسادا إلى فساد، ذلك أنهم أشبه بالهوام والحشرات التي يجرفها الغيث الهاطل،

القرآن والتذكير والتبشير (85)

ويغرقها السيل المندفع، على حين يحيا به كل كائن حي، ويهش له ويهنأ به كل ذي حياة.

قال آخر: وهم في ذلك يشبهون الخفافيش التي يأخذ ضوء الشمس على أبصارها، فتكتحل منه بالعمى، على حين تكتحل الأشياء كلها بهذه الآية المبصرة من آيات الله بالهدى والنور.

قال آخر: والقرآن الكريم يؤكد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة مهمة جدا، وهي أن وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار وجود الأرضية المهيئة والاستعداد للتلقي.. فآيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة، فالذين ينظرون إلى الحقائق بروح التسليم والإيمان والعشق، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درسا يزيد في إيمانهم، ويفعل سمات الإنسانية لديهم، أما الذين ينظرون إلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق، فإنهم لا يستفيدون منها، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم.

قال آخر: ولذلك، فإنهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إلى معاصيهم، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه، ويصرون على رفض كل حقيقة، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم، وبالتالي تتجذر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم، وفي النهاية إغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.

قال آخر: وبتعبير آخر فإن (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها، بل إن روح التقبل و(قابلية القابل) شرط أساسي أيضا.

قال آخر: و(الرجس) يعني الخبيث النجس السيء.. ولا شك أن السوء والخبث الناشئ من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعا من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإنسان وكلامه وسلوكه.

القرآن والتذكير والتبشير (86)

قال الأستاذ: أحسنتم.. فاقرؤوا لنا من القرآن الكريم آيات أخرى تشير إلى أمراض القلوب، وحيلولتها بين العبد وربه.

قال أحد الطلبة: من ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور:47ـ50]

قال آخر(1): أي أن المنافقين يقولون: صدّقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن في قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب:11ـ12]

قال آخر(2): ففي هاتين الآيتين الكريمتين إشارة إلى الموقف الذي واجه فيه المؤمنون الأحزاب.. ففي هذا الموقف ابتلى المؤمنون، وامتحنوا، في إيمانهم بالله.. وكان الابتلاء شديدا، والامتحان قاسيا، لا يصبر عليه، ولا يخلص منه، ناجيا بدينه، سليما في معتقده، معافى في إيمانه، إلا من اطمأن قلبه بالإيمان، وعرف ما لله في عباده من ابتلاء.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب:32]

__________

(1) تفسير المراغي (18/ 121)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 663)

القرآن والتذكير والتبشير (87)

قال آخر(1): فهذه الآية الكريمة تذكر مزايا إيجابية عظيمة لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل واجبات ألزمن بها، وهي تقول لهن: يا أيها النسوة لا شبيه لكن بين بقية النساء، فأنتن أفضل النساء، بشرط التقوى، فعليكن إظهار الحزم في القول، وترك اللين في الكلام، وتميز النطق بالجد والحزم والقوة، حتى لا يطمع في الخيانة من في قلبه مرض.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ [محمد:29]

قال آخر(2): أي أن الله تعالى يبتلي عباده حتى يظهروا على حقيقتهم، ويخرج ما ستروه من أمراض، بل إن الله قادر على أن يعرف رسوله واقعهم بطريق أخرى كأن يجعل على سيماهم وملامحهم علامات النفاق، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [محمد:30]، بل في تضاعيف الكلام تظهر حقيقة المتحدثين، أو ليس المرء مخبوءا تحت لسانه، كما قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد:30]، ولهذا قال الإمام علي: (ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)(3)

الذنوب والمعاصي:

قال الأستاذ: أحسنتم.. والآن، تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما ينفرنا من الذنوب والمعاصي، واعتبارها من الحجب التي تحول بيننا وبين الذكر والتذكر.

قال أحد الطلبة(4): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا

__________

(1) التفسير الوسيط (3/ 2069)

(2) من هدي القرآن: (13/ 263)

(3) نهج البلاغة: الحكمة (26)

(4) من وحي القرآن: (18/ 108)، والتفسير القرآني للقرآن (11/ 487)، وتفسير المراغي (21/ 32)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 139)، التفسير الوسيط لطنطاوي (11/ 71)

القرآن والتذكير والتبشير (88)

السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الروم:10]

قال آخر: المراد بالسوأى الحالة السيئة، وهي تأنيث للسوء، كالحسنى تأنيث الأحسن، وقد يكون المراد منها أنها كناية عن العذاب، باعتبار أنه الأسوأ فيما يصل إليه الإنسان، وبذلك يكون معنى الآية: ثم كان عاقبة هؤلاء الذين أساؤوا العمل، العاقبة الأسوأ، وهي العذاب، لأنهم كذبوا بآيات الله واستهزأوا بها، على أساس أن تكون كلمة (السوأى) اسم كان، وتكون كلمة (عاقبة) خبرا مقدما.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40]، وهو من باب المقابلة، وذلك لأن ما يجزون به، إنما هو سوء بالنسبة لهم، لأنه يسوئهم ويؤذيهم.. أما الجهة التي توجهت به إليهم، فهو ليس منها، وإنما هو فعلهم، عاد إليهم، فالأمر لا يعدو أن يكون فعلا ورد فعل.

قال آخر: وقدم الخبر على الاسم، وأخر الاسم، لإثارة حب الاستطلاع إليه، بحجبه قليلا وراء الخبر، فإذا طلع على أهله لم يجدوا فيه إلا ما يسوء.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الروم:10] ـ هو تعليل لهذا الجزاء السيء الذي جوزوا به، أي لأنهم كذبوا بآيات الله ولم يقفوا عند حد التكذيب بها، بل اتخذوها هزؤا وسخرية، ومادة للعبث والبذاءة، كان هذا جزاؤهم السيء.

قال آخر: وبذلك يكون المعنى: ثم كان العذاب عاقبتهم، أما في الدنيا فلهم البوار والهلاك، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج الله وآياته، وهم أنبياؤه ورسله، وسخروا منهم عنتا وكبرا.

قال آخر: أو يكون المعنى: كانت عاقبتهم في الآخرة أسوأ العقوبات وأقبحها وهي العذاب في جهنم، لأنهم في الدنيا كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق نبينا صلى الله عليه وآله وسلم

القرآن والتذكير والتبشير (89)

وكانوا بها يستهزئون.

قال آخر: وقد تكون كلمة السوأى تعبيرا عن العمل السيئ، وهو المعاصي التي يمارسونها، فتكون مفعولا لأساءوا، وبذلك يكون المعنى: ثم كان عاقبة الذين عملوا الأعمال السيئة التي كان ينهاهم عنها الرسول، أن أمرهم انتهى إلى التكذيب والاستهزاء، لأن تأثير المعاصي في نفوسهم جعلهم في موقع الخط الذي يبرر لهم ما يفعلون، وهو الكفر، مما يجعل جانب الكفر أقرب إلى نمط حياتهم من جانب الإيمان، لأن الإيمان لا يرضى لهم بذلك(1).

قال آخر: وهذا يشير إلى أن أعمال الإنسان وتصرفاته لها نتائج وثمار معينة، ولهذا فإن العمل صالحا ينتج المزيد من التوفيق والهداية في السير إلى الله ومزيدا من الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال:29].

قال آخر: ولهذا، فإن الإنسان إن جنح نحو المنكرات، فإن الظلمات تتراكم على قلبه، ويزداد نهما لارتكاب المحرمات، وقد يبلغ به الأمر إلى أن ينكر خالقه، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، وقال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:26]

قال آخر: ولذلك، فإن الإنسان حر في انتخاب الطريق في بداية الأمر، وهذه حقيقة يقبلها ضمير كل إنسان، ثم على الإنسان بعد ذلك أن ينتظر النتائج الحتمية لأعماله.

قال آخر: وبذلك، فإن الهداية والضلالة ـ في المفهوم القرآني ـ لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطئ، بل إن الهداية ـ المفهومة من الآيات الكريمة الكثيرة ـ

__________

(1) وقد علق الطباطبائي على هذا المعنى بأنه صحيح في نفسه، لكنه مخالف لسياق الآيات مع موافقة المعنى الأول له، (لأن المقام مقام الاعتبار والإنذار، والمناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب، لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أعظمها) (تفسير الميزان، ج: 16، ص: 164)

القرآن والتذكير والتبشير (90)

تعني توفر سبل السعادة، والإضلال: يعني زوال الأرضية المساعدة للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.

قال آخر: وتوفر السبل هو الذي نطلق عليه لقب (التوفيق)، وزوال هذه السبل هو الذي نطلق عليه لقب (سلب التوفيق)، وهما نتيجة أعمال الإنسان نفسه.. فلو منح الله فردا توفيق الهداية، أو سلب من أحد هذا التوفيق، فإنما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.

قال آخر: ويمكن التمثيل لهذه الحقيقة بمثال بسيط، وهو أنه حين يمر الإنسان قرب هاوية خطرة، فإنه يتعرض لخطر الانزلاق والسقوط فيها كلما اقترب منها أكثر.. كما أن احتمال سقوطه في الهاوية يقل كلما ابتعد عنها أكثر، والحالة الأولى هداية والثانية ضلال.

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:14ـ15]

قال آخر: و(ران) فمن (الرين) هو صدأ يعلو الشيء الجلي، واستعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرذيلة، وقد ورد في الحديث تفسيره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أذنب العبد كان نقطة سوداء على قلبه، فإن هو تاب وأقلع واستغفر صفا قلبه منها، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذّنب على الذّنب والسواد على السواد حتّى يغمر القلب فيموت بكثرة غطاء الذنوب عليه وذلك قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14](2)

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1493)، وتفسير المراغي (15/ 168)، وزهرة التفاسير (3/ 1310)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 89)، ومنية الطالبين، 30/ 196.

(2) إرشاد القلوب ص 46.

القرآن والتذكير والتبشير (91)

قال آخر: وقال: (إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه، وإن زاد زادت فذلك الرين الّذي ذكره الله في كتابه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14](1)

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿كَلَّا﴾ ردع وإبطال لقولهم: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المطففين:13] وأن السبب في عدم إيمانهم هو أن ما اقترفوه من أعمال إجرامية قد ﴿رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [المطففين:14]، أي غلب على قلوبهم، وعلاها كما يعلو الصدأ بعض الفلزات، فحجبها عن إبصار ضياء الهدى، ومنعها عن فهم القرآن، ودخول نور الإيمان فيها.

قال آخر: وقوله: ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14] إشارة إلى استمرارهم في اكتساب القبائح والآثام، والآية تدل على أن الإصرار على الذنوب مرة بعد أخرى يؤثر في تفكير الإنسان وقضائه في الموضوعات المختلفة، على وجه لو استمر الإنسان عليها وتوغل في الاعتداء على حدود الله ربما سيكون هذا سببا لتكذيبه بما وراء الطبيعة.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:15]، هو توكيد لهذا الرين الذي غطى قلوبهم، وأنه قد صحبهم إلى الآخرة، فحجبهم الله سبحانه وتعالى عن رؤيته، وعن موقع رحمته وإحسانه، كما حجبوا هم أنفسهم بآثامهم عن رؤية الحق في الدنيا.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المطففين:16ـ17]، أي وليس حجبهم عن الله سبحانه وتعالى في الآخرة، وبعدهم عن مواقع رحمته، هو كل جزائهم في الآخرة، وإن كان جزاء أليما، وعقابا زاجرا، بل إن وراء

__________

(1) روضة الواعظين ج 2 ص 414.

القرآن والتذكير والتبشير (92)

هذا نارا تلظى، يلقون فيها، ويكونون حطبا لها.. ثم لا يتركون هكذا للنار تأكلهم، وترعى في أجسامهم، بل ينخسون بهذه القوارع، بما يرجمون به من كل جانب، من ملائكة جهنم وخزنتها بقولهم لهم: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات:14] فذوقوه لتعلموا أن كان ما كذبتم به حقا أو غير حق، واقعا أو غير واقع: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا﴾ [الأعراف:44]؟

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فاقرؤوا لنا من القرآن الكريم آيات أخرى تشير إلى هذه المعاني.

قال أحد الطلبة: من ذلك ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمة الكثيرة التي تجعل ذلك الران سببا للكفر والعناد، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [الكهف:57] أي لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله، ودلّ بها على سبيل الرشاد، وهدى بها إلى طريق النجاة، فأعرض عنها ولم يتدبرها ولم يتعظ بها، ونسى ما عمله من الكفر والمعاصي أي لم يتفكر في عواقبه، ومن ثم لم يتب منها ولم ينب إلى ربه، ثم علل ذلك الإعراض والنسيان بقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الكهف:57] أي إن ذلك الإعراض منهم بسبب أن جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا ما ذكّروا به، وجعلنا في آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه، والمراد أنه لا يدع شيئا من الخير يصل إليها، فهي لا تعي شيئا من الآيات إذا تليت عليها.

قال آخر: ذاك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد، بما دنسوا به أنفسهم من قبيح الافعال والأقوال، وبما اجترحوا من الكفر والفسوق والعصيان، فأصبح بينهم وبين سماع

__________

(1) زهرة التفاسير (3/ 1310)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (1/ 89)، ومنية الطالبين، 30/ 196، وتفسير المراغي (15/ 168)

القرآن والتذكير والتبشير (93)

الحق حجاب غليظ، فلا ينفذ إلى السمع شيء مما يسمع سماع تدبر واتعاظ، ولا إلى القلب شيء مما يقال فيعيه وينتفع به كما قال: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14] وقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة:7]

قال آخر: وقد تكرر هذا المعنى في غير موضع من القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف:57] أي ومهما كررت أيها الرسول من الدعوة إلى الحق، حرصا منك على نجاتهم وخشية نزول البلاء بهم، فلن يستجيبوا لك، ولن يهتدوا بهداك، لأن الله قد كتب عليهم الضلال، بسوء أعمالهم وقبح طواياهم، فأنى يفيد النصح، وتجدى العظة، ويرق القلب؟

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران:90]، ذلك أن الذين كفروا بعد إيمان قسمان أحدهما يرجى توبته، وذلك هو الذي لم يوغل في طريق الكفر والإمعان فيه، وقد أشار سبحانه بقبول توبته بقوله تعالى مستثنيا له: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ [النور:5]، والقسم الثاني هم الذين كفروا بعد أن آمنوا، ولم يكتفوا بذلك بل لجوا في العناد، واسترسلوا في الغي، واستمروا في مقاومة الحق، فإنهم كلما أوغلوا في الباطل بعدوا عن التوبة والرجوع، ومثلهم كمثل من يسير في صحراء وقد ضل الطريق، فإنه كلما أوغل فيها ازداد ضلاله.. وهذا القسم لا تقبل توبته، لأنه لا يتوب توبة نصوحا.

قال آخر: وقد عبر الله تعالى عن إيغالهم في الشر بقوله: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ [النساء:137] أي أن الكفر درجات، وكل إيغال فيه ازدياد، ذلك لأن الكفر جحود القلب مع قيام الأمارات والأدلة، وكلما اشتد العناد اشتد الجحود، واستغلظت الحجب التي تحول

القرآن والتذكير والتبشير (94)

بين المرء والهداية، فإذا كان الحجاب عن الإيمان بالحق رقيقا أولا، فبالإمعان في العناد يغلظ الحجاب، ويستمر في الغلظ حتى يحكم الإغلاق.

قال آخر: وهو الذي عبر الله عمن تصاب قلوبهم به بقوله تارة: ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [محمد:16]، وتارة ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة:7]، وقوله تعالى مرة ثالثة: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14]، وأولئك هم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران:90]، فنفى سبحانه وتعالى قبول توبتهم.

قال آخر: ولنا أن نفسر نفي قبول التوبة على ظاهره بمعنى أنه قد تقع منهم توبة، ولكنها ليست التوبة التي تُقبل، ونص على قبولها في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى:25]، وعدم قبول توبتهم هذه لأنها بظاهر من القول، أو لأنها فلتات نفسية تحدث أحيانا في حال كرب أو شدة، ثم يعودون لما كانوا عليه.

قال آخر: كما عبر عن ذلك قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [يونس:22ـ23]

قال آخر: أو تكون توبتهم في آخر رمق في الحياة كتوبة فرعون وقد أدركه الغرق، فقد حكى الله تعالى ذلك عنه إذ يقول: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس:90ـ91]، فإن هذه التوبة لَا تقبل؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا

القرآن والتذكير والتبشير (95)

الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء:17ـ18]

قال آخر: ونلاحظ في الآيات الكريمة القصر والتخصيص، فقد قصر عليهم الضلال كأنه لكماله فيهم لا يوجد في غيرهم، ذلك أن السبب في استمرار ضلالهم هو لجاجتهم وعنادهم، فهم كلما لجوا في مقاومة الحق ازدادت نفوسهم بعدا عنه، وكلما بعدوا عنه أوغلوا في الضلال، والإشارة في قوله سبحانه (أولئك) هي إليهم متصفين بما اتصفوا به من كفر بعد إيمان، وازدياد ولجاجة في هذا الكفر والجحود، فتلك الصفات هي السبب في هذا الاستمرار وتأكد الضلال.

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا عن بعض ما ورد في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي توافق هذه الآيات الكريمة وتؤكدها وتفصل معانيها.

قال أحد الطلبة: من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: أيما عبد أطاعني لم أكله إلى غيري، وأيما عبد عصاني وكلته إلى نفسه، ثم لم أبال بأي واد هلك)(1)

قال آخر: وقال مشيرا إلى انفتاح أبواب الجرائم بعد الولوج في الخطيئة: (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه)(2)

قال آخر: وقال: (ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة

__________

(1) الجواهر السنية ص 145.

(2) أحمد(4/ 182، 183) النسائي(2/ 192)

القرآن والتذكير والتبشير (96)

في قوم قط الا سلط الله عز وجل عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر)(1)

قال آخر: وقال في ذكر بعض النماذج والأمثلة على ذلك: (يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولو لا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم)(2)

قال آخر: وقال: (اتقوا الذنوب فإنّها ممحقة للخيرات، إنّ العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الّذي كان قد علمه، وإنّ العبد ليذنب الذنب فيمتنع به من قيام الليل، وإنّ العبد ليذنب الذنب فيحرم به الرزق وقد كان هينا له، ثمّ تلا: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ألا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ

__________

(1) سنن البيهقي(3/ 346) والحاكم(2/ 126)

(2) ابن ماجة(4019)

القرآن والتذكير والتبشير (97)

كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم:17ـ33](1)

قال آخر: وقال في نقيض ذلك، وهو تأثير الأعمال الصالحة في إصلاح القلب: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟) قالوا: لا يبقي من درنه شيئا، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا)(2)

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا بما ورد عن أئمة الهدى مما يدل على هذه المعاني ويؤكدها.

قال أحد الطلبة: من ذلك ما روي عن الإمام علي أنه قال في قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]: (ليس من المؤمن عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدش عود إلا بذنب، ولما يعفو الله تبارك وتعالى عنه أكثر، فمن عجل الله تبارك وتعالى غفر ذنبه في دار الدنيا، فإن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يعود في عفو في الآخرة)(3)

قال آخر: وقال: (ما زالت عنكم نعمة ولا غضارة عيش إلا بذنوب اجترحتموها وما الله بظلام للعبيد) (4)

قال آخر: وقال: (مدمن الشهوات صريع الآفات، مقارن السيئات موقن بالتبعات)(5)

قال آخر: وقال: (لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب، ولا خوف أشد من الموت،

__________

(1) عدّة الداعي ص 211.

(2) البخاري(2/ 528)، ومسلم(667)

(3) الأشعثيّات ص 179.

(4) غرر الحكم ص 100.

(5) غرر الحكم ص 100.

القرآن والتذكير والتبشير (98)

وكفى بما سلف تفكرا، وكفى بالموت واعظا)(1)

قال آخر: وقال: (لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة، ولا تأمن البيات وقد عملت السيئات)(2)

قال آخر: وكان الإمام السجاد يقول في دعائه: (وأعلم أنك للراجي بموضع إجابة، وأن الراحل إليك قريب المسافة، وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك)(3)

قال آخر: وسئل الإمام الصادق عن قوم يجحدون الربوبية، ويجادلون على ذلك، وطلب منه أن يرد عليهم قولهم، فكتب يقول لهم: (نحن نحمد الله على النعم السابغة، والحجج البالغة، والبلاء المحمود عند الخاصة والعامة، فكان من نعمه العظام وآلائه الجسام التي أنعم بها تقريره قلوبهم بربوبيته، وأخذه ميثاقهم بمعرفته، وإنزاله عليهم كتابا فيه شفاء لما في الصدور، من أمراض الخواطر ومشتبهات الأمور، ولم يدع لهم ولا لشيء من خلقه حاجة إلى من سواه، واستغنى عنهم، وكان الله غنيا حميدا.. ولعمرى ما أتى الجهال من قبل ربهم وإنهم ليرون الدلالات الواضحات، والعلامات البينات في خلقهم، وما يعاينون من ملكوت السماوات والأرض، والصنع العجيب المتقن الدال على الصانع، ولكنهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي، وسهلوا لها سبيل الشهوات، فغلبت الأهواء على قلوبهم، واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم، وكذلك يطبع الله على قلوب المعتدين)(4)

__________

(1) اصول الكافي ج 2 ص 275.

(2) اصول الكافي ج 2 ص 273.

(3) مصباح المتهجد: ص 583.

(4) بحار الأنوار: ج 3 ص 152.

القرآن والتذكير والتبشير (99)

قال آخر: ومثل ذلك قال الإمام الرضا لرجل سأله عن سبب احتجاب البارئ عز وجل: (إن الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار)(1)

الظلم والتجبر:

قال الأستاذ: أحسنتم.. والآن، حدثونا بما ورد في القرآن الكريم من الترهيب من الظلم والتجبر، واعتبارهما من الحجب التي تحول بيننا وبين الذكر والتذكر.

قال أحد الطلبة: من ذلك قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت:49]

قال آخر: وقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:13ـ14]

قال آخر: وقال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33]

قال آخر: وقال: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]

قال آخر: وقال: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ

__________

(1) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 132.

القرآن والتذكير والتبشير (100)

نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:45ـ47]

قال آخر: وقال: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:7ـ9]

قال آخر: وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء:99]

قال آخر: وقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر:40]

آية ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت:49]

قال آخر: في هذه الآية الكريمة دليل من أدلة كون القرآن الكريم كلام الله ووحيه، ذلك أن التعبير بـ ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [المجادلة:5] كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عيانا، وتشرق في أرجائه، فدليلها معها.. وهي بذلك مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر، والآيات التشريعية ـ أيضا ـ من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك، إذ هي دليل على صدقها.

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (12/ 419)، والتفسير الوسيط لطنطاوي (11/ 47)، والتفسير القرآني للقرآن (11/ 450)، وتفسير المراغي (21/ 4)

القرآن والتذكير والتبشير (101)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن هذا الكتاب ليس أساطير الأولين اكتتبها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما زعم المبطلون، بل هو آيات بينات واضحات راسخات، في صدور المؤمنين به، الذين حفظوه وتدبروه وعملوا بتوجيهاته وإرشاداته، وعملوا بما فيه من حكم وأحكام وعقائد وآداب.

قال آخر: ووصف الله تعالى المؤمنين بهذا القرآن بالعلم على سبيل المدح لهم، والإعلاء من شأنهم، حيث استطاعوا عن طريق ما وهبهم الله تعالى من علم نافع، أن يوقنوا بأن هذا من عند الله، ولو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

قال آخر: ووجه الدلالة في هذا على حقانية القرآن الكريم هو أن من أهم طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص، فهو أيضا من نسيجهم، ولكن إذا كان من التف حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم، وهم أوفياء له، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص.

قال آخر: ولهذا نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالب هم حماة هذا المبدأ.. وفي روايات كثيرة(1) منقولة عن أئمة الهدى يذكرون أنهم المقصودون بالذين أوتوا العلم، وطبعا.. فليس هذا المعنى منحصرا فيهم، بل هم مصداق جلي من مصاديق هذه الآية الكريمة.

قال آخر: وإذا ما لاحظنا أن بعض الروايات تصرح بذلك؛ فإن ذلك في الحقيقة

__________

(1) تفسير البرهان: 3/254.

القرآن والتذكير والتبشير (102)

إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم، ولا يمنع أن يكون للعلماء، بل لعامة الناس الذين لهم نصيب من الفهم، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضا.

قال آخر: كما أن هذه الآية الكريمة تدل ضمنا على أن العلم ليس منحصرا بالكتاب، أو بما يلقيه الأستاذ على طلبته، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ طبقا لصريح الآيات المتقدمة ـ لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتابا، إلا أنه كان خير مصداق للذين ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [المجادلة:11].

قال آخر: فإذا فما وراء العلم (الرسمي) الذي نعهده، علم أوسع وأعظم، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان، كما ورد في الأثر (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء).. وهذا هو جوهر العلم، أما ما سواه فهو الصدف والقشر.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الآية الكريمة تشير أيضا إلى العلماء من أهل الكتاب، أي أن هذا الكتاب يقع في صدور العلماء من أهل الكتاب موقع المعجزات البينات، حيث تنطق آياته بالحق المبين، يتلقاه منها كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كما قال تعالى ـ كاشفا للمشركين عن عنادهم وضلالهم ـ: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء:197]

قال آخر: أي أنه إذا لم يكن عند المشركين علم يعرفون به قدر هذا الكتاب، ويفرقون به بين ما هو سماوي وما هو أرضي؛ أفلا كان لهم في علم العلماء من أهل الكتاب، بهذا الكتاب، وإيمانهم به، عبرة يعتبرون بها، ومعلم من معالم الهدى، يهتدون به إلى هذا الكتاب؟

قال آخر: وبذلك، فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت:49] إشارة إلى علماء أهل الكتاب، الذين يعرفون الحق في كتاب ثم ينكرونه، من بعد ما عرفوه، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:89]

قال آخر: ووصفهم بالظلم، هو الوصف الحق لهم، إذ كتموا شهادة الحق الذي

القرآن والتذكير والتبشير (103)

عرفوه.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة:140]

قال آخر: وبذلك تتضح الدلالة في الآية الكريمة جميعا، فالنبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، هو الذي جاء بالقرآن الكريم، والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها.. ثم بعد هذا كله، فإن الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات، وهي كلمات ذوات محتوى جلي مشرق، وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.

قال آخر: ولذلك، فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت:49] تذييل المقصود به ذم الذين تجاوزوا كل حق وصدق في أحكامهم وتصرفاتهم.. أي: وما يجحد آياتنا مع وضوحها وسطوعها، وينكر كونها من عند الله تعالى إلا الظالمون المتجاوزون لكل ما هو حق، ولكل ما هو صدق.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:13ـ14]

قال أحد الطلبة: أما قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل:13]، فهو وصف آيات الله بأنها مبصرة، وفيها إشارة إلى ما فيها من هدى مشرق واضح، وأنها تكاد تكون عيونا شاخصة تبصر، وتقود العمى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:14]، تشير إلى أن المعاندين أنكروا هذه الآيات، وتنكروا لها،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 222)، وتفسير المراغي (8/ 131)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (12/ 22)، والتفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 210)، ومن وحي القرآن: (9/ 78)

القرآن والتذكير والتبشير (104)

ورموها بالسحر والخديعة، مع أنهم في قرارة أنفسهم على غير هذا الذي تنطق بهم ألسنتهم في شأنها.. إنهم يرونها أبعد ما تكون عن السحر، وأنها مما لا تطوله يد بشر.. ولكن لما عندهم من جرأة على العدوان، واستكبار على الخضوع للحق، والولاء له.. أنكروا هذا الذي يجدونه في دخيلة أنفسهم لهذه الآيات.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:14] إلفات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكل من عنده استعداد للنظر السليم في وجه الحق وتقبله.. فالذي ينظر، بعين مبصرة، إلى ما حل بهؤلاء القوم، يرى العبرة فيما أخذهم الله به، وأن مصرعهم كان حتما مقضيا به، على كل من يذهب مذهبهم، ويأخذ طريقهم، الذي لا يصلح عليه أمر من يسير عليه، لأنه طريق فاسد، لا يرى عليه إلا المفسدون.

قال آخر: والآيتان الكريمتان تشيران إلى أن الباعث على إنكار فرعون وقومه أمران.. أولهما الظلم.. وثانيهما العلو.. ولعل الظلم إشارة إلى غصب حقوق الآخرين، والعلو إشارة إلى طلب التفوق على بني إسرائيل.. أي إنهم كانوا يرون أنهم إذا أذعنوا لموسى عليه السلام وآمنوا به وبآياته، فإن منافعهم غير المشروعة ستكون في خطر، كما أنهم سيكونون مع رقيقهم بنى إسرائيل جنبا إلى جنب، ولا يمكنهم تحمل أي من هذين الأمرين.

قال آخر: وقد يكون المراد من الظلم ظلم النفس أو الظلم بالآيات، وأن المراد من العلو هو الظلم للآخرين، كما قال تعالى: ﴿بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف:9]

قال آخر: والقرآن الكريم يذكر عاقبة فرعون وقومه باعتباره درسا من الدروس، وعبرة من العبر.. وهو لا يرفع الستار عن هذه العاقبة، لأن قصة هؤلاء الكفرة ونهايتهم الوخيمة ذكرها في آيات أخرى واكتفى هنا بالإشارة الى تلك الآيات ليفهم من يفهم.

القرآن والتذكير والتبشير (105)

قال آخر: وقد اكتفت الآيات الكريمة بوصفهم بالمفسدين بدل ذكر جميع صفاتهم السيئة، لأن الإفساد له مفهوم جامع يشمل الإفساد في العقيدة، والإفساد في الأقوال والأعمال، والإفساد على المستوى الفردي، والمستوى الجماعي، فجمع كل أعمالهم في كلمة ﴿الْمُفْسِدِينَ﴾

قال آخر: ويستفاد من الآيتين الكريمتين أن الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين، ويمكن أن يقع الكفر جحودا وإنكارا بالرغم من العلم بالشيء، أي أن حقيقة الإيمان هي الإذعان والتسليم ـ في الباطن والظاهر ـ للحق، فبناء على ذلك إذا كان الإنسان مستيقنا بشيء ما، إلا أنه لا يذعن له في الباطن أو الظاهر فليس له إيمان، بل هو ذو كفر جحودي، لذلك ذكر الإمام الصادق عند عده لأقسام الكفر الخمسة (كفر الجحود)، وعرفه بقوله: (هو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده)(1)

قال آخر: ومثل هاتين الآيتين الكريمتين قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [النحل:83]، فالمراد بالكفر هنا الستر لنعم الله عن معرفة لها، وغمطها عن تعمد وإصرار.. أي: إن هؤلاء المشركين، يعرفون نعم الله التي عددها في هذه السورة وغيرها، كما أنهم يعترفون بأن خالقهم وخالق السماوات والأرض هو الله، ولكنهم ينكرون هذه النعم بأفعالهم القبيحة، وأقوالهم الباطلة، كقولهم هذه النعم من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا الأصنام، أو كقولهم: هذه النعم ورثناها عن آبائنا.

قال آخر: وجاء التعبير بـ (ثم) لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة بالنعم، فإن من شأن العالم بالنعمة أن يؤدى الشكر لمسديها، وأن يستعملها فيما خلقت له.. وقوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ

__________

(1) الكافي: 2/287.

القرآن والتذكير والتبشير (106)

الْكَافِرُونَ﴾ [النحل:83] أي: وأكثر هؤلاء الضالين، جاحدون لنعم الله عن علم بها لا عن جهل، وعن تذكر لا عن نسيان.

آية ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33]

قال أحد الطلبة: في قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ [الأنعام:33] استجابة لشكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يشكو، وفي هذا تطمين لقلبه، وتثبيت لقدمه، وأن الله يرعاه، ويعلم ما يجد في نفسه من حزن وألم، لما يرميه به قومه من باطل القول، وزور الكلم.. وهم يعلمون أنه الإنسان الذي لا يكذب أبدا.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33] رد اعتبار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هؤلاء الذين اتهموه بالكذب زورا وبهتانا.. وقد كشف الله ما في نفوسهم عنه ورأيهم فيه.. فهم في دخيلة أنفسهم لا يكذبونه.. بل هم يعلمون عن يقين أنه ما قال ولن يقول كلمة الكذب، بل هو عندهم فوق مستوى الشبهة فيما يشين الناس، وينزل من قدرهم.. ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33].. أي إنهم لظلمهم، وعنادهم يرون الحق ويستيقنونه، ثم لا تطاوعهم أنفسهم على الإقرار به، والولاء له.. ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها.. وهكذا يفعل العناد بأهله، ويقطع عليهم الطريق إلى الحق والهدى، ويحجزهم عن الخير والفلاح.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33] تهديد

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 159)، وزهرة التفاسير (5/ 2484)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (4/ 259)، وتفسير ابن كثير (3/ 252)

القرآن والتذكير والتبشير (107)

ووعيد لهؤلاء المشركين.. إنهم لا يكذبون محمدا ولكنهم يكذبون بآيات الله التي بين يديه.. فانظر كيف هذا التناقض العجيب منهم.. يؤمنون بمحمد وبصدقه كإنسان، ويأخذون شهادته على كل ما يقول فيما هو من شئون دنياهم.. فإذا جاءهم بآيات ناطقة من عند الله، وقال لهم إنها كلام الله، وأنه رسول الله بها إليهم، أنكروا عليه هذا القول بنسبتها إلى الله، وقالوا: إنها سحر ساحر، وتلقيات ممسوس.

قال آخر: ولو عقلوا لما وجدوا لهذا القول مستندا من عقل أو منطق.. إذ كيف لا يتهم إنسان بالكذب في حال، ثم يتهم به في حال أخرى، فالإنسان وحدة متكاملة، في خلقه، فإما أن يكون صادقا لا يكذب، وإما أن يكون ممن لا يتحرى الصدق في كل قول.. وقد عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم صادق على وجه واحد، مدة حياته معهم، من مولده إلى مبعثه.. لم تجرب عليه كذبة قط.. فكيف يكذب بعد الأربعين؟ وكيف يكذب أشنع الكذب، وأفحشه، بتلك الدعوى التي يدعيها على الله رب العالمين؟ ذلك محال، بل وأكثر من محال، لأن شواهد الصدق ودلائله ناطقة في كلام الله، مستغنية عن صدق من يجيء إلى الناس بها ويعرضهم عليها.. فكيف إذا كان من يجيئهم بها ويعرضها عليهم، غير متهم بكذب، أو مجرب عليه شهادة زور عندهم؟

قال آخر: و﴿قَدْ﴾ هنا للتحقيق وتأكيد العلم، وقد حاول بعض العلماء أن يجعلها للتكثير، لكن التحقيق جاء من موضوعها لا من ذاتها.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحزنه أن قومه لا يؤمنون، ويفترون الكذب عليه، ولهذا نهاه الله تعالى عن أن يلج الحزن في نفسه لعدم إيمانهم، فقال: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر:8]، وقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء:3]، ولقد كان يحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفرهم، وما يقولون في هذا الكفر من رميهم له بالكذب والافتراء، وأنه ساحر، وأنه مجنون، وأن كتاب الله تعالى أساطير الأولين،

القرآن والتذكير والتبشير (108)

وقد ذكر الله تعالى أنهم لا يكذبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، و(الفاء) هنا تكشف عن محذوف يفيد السببية، تقديره مثلا فلا تحزن لأنهم لا يكذبونك.

قال آخر: والجحود في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33] هو نفي ما في القلب ثبوته، وإثبات ما في القلب نفيه، أي عدم الإذعان للحق، وقد قامت أدلته.. وكثير من العرب كانوا يعتقدون صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم يمارون في الحق، ولا يذعنون، ويجادلون في آياته.

قال آخر: وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع المشركين المعاندين المتصلبين، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة والتصلب والتعنت، بل كانوا يرشقونه بتهمهم، ولذلك كله كان يشعر بالغم والحزن، والله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصبره على ذلك، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط.

قال آخر: ومثل هذا القول شائع بيننا، فقد يرى الرئيس أن مبعوثه إلى بعض الناس عاد غاضبا، فيقول له: (هون عليك، فان ما قالوه لك إنما كان موجها إلي، وإذا حصلت مشكلة فأنا المقصود بها، لا أنت)، وبهذا يسعى إلى مواساة صاحبه والتهوين عليه.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فالآية الكريمة تشير إلى أن الذين يعارضون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم في الحقيقة مؤمنون بصدقه، ولا يشكون في صحة دعوته، لكن الخوف من تعرض مصالحهم للخطر هو الذي يمنعهم من الرضوخ للحق، أو أن الذي يحول بينهم وبين التسليم هو التعصب والعناد.

آية ومعان:

القرآن والتذكير والتبشير (109)

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]

قال أحد الطلبة: في هذه الآية الكريمة تحذير لبنى إسرائيل وتهديد لهم، إن هم سلكوا سبيل الظالمين، واستكبروا في الأرض بغير الحق، ومكروا بآيات الله، وعصوا رسله، وتنكبوا طريق الخير، وركبوا طرق الغي والضلال.. فهؤلاء الذين يتخذون هذا الموقف اللئيم مع آيات الله، سيصرفها الله عنهم، كما انصرفوا هم عنها، فلا ينالون منها خيرا، ولا يجدون فيها هدى، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة:127].. لقد حجبهم الله عن مواقع رحمته، بعد أن أخذوا من آياته هذا الموقف، فأغمضوا أعينهم عنها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يستمعوا لها، إذ كذبوا بها قبل أن ينظروا فيها ويعرفوا وجهها.. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]

قال آخر: أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام:110]، وقال: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]

قال آخر: ثم بين الله تعالى صفات المستكبرين وأحوالهم فقال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأعراف:146] أي إنهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته لا يستفيدون

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 480)، وتفسير ابن كثير: (3/ 474)، وتفسير المراغي (9/ 64)، وزهرة التفاسير (6/ 2949)

القرآن والتذكير والتبشير (110)

منها فائدة ما فلا يؤمنون بها، لأن كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه أو يشك في الطريق الموصلة إليه لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها أو لسوء فهمه لها، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه وتسفر له عن وجهها.

قال آخر: وفي هذا إيماء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه لا يقصدون استبانة الحق وإيضاحه بل يريدون إحداث الشغب والتعجيز، فإن هم أجيبوا إلى طلبهم لم يؤمنوا بما جئت به.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى صفة أخرى للمستكبرين الظالمين، فقال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف:146] أي وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد وهي السبيل المعبدة الواضحة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه ولا يفضلها على ما هو عليه من سبيل الغي، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب والخروج عن جادة العقل والفطرة، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها واختار لنفسه سبيل الرشاد.

 قال آخر: ثم ذكر الله تعالى صفة أخرى للمستكبرين الظالمين، فقال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف:146] أي إنهم إذا رأوا سبيل الغي والضلال هرعوا إليها وخبوا فيها وأوضعوا، بما تزينه لهم نفوسهم من سلوكها والسير فيها إلى آخر الحلبة، وهذه حال لهم شر من سابقتيها، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع الله على قلوبهم وختم على سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فسبيل الحق بغيضة إليهم، وطريقه مكروهة لديهم.

قال آخر: ثم علل الله تعالى ما سلف من صرفهم عن النظر في الآيات وعدم

القرآن والتذكير والتبشير (111)

اعتبارهم بها فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146] أي إننا عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق فيما أمرنا به ونهينا عنه، بالختم على قلوبهم، والغشاوة على أعينهم حتى لا يجد الحق منفذا في الوصول إليها.

قال آخر: أي إن الله لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغي والضلال طبعا، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات والصد عن السبل الموصلة إلى الرشاد وغفلوا عن النظر في أدلتها، لشغلهم بأهوائهم واتباع شهواتهم، وبذا لجوا في الطغيان، وتمادوا في العصيان، واحتقروا ما سوى ذلك مما يهدى عقولهم إلى صوب الحق وسلوك طريقه.

قال آخر: وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179].

قال آخر: ولا شك أن كثيرا من المسلمين الذين تعلموا التعاليم الغربية وغرهم بهرجها وخلبتهم زينتها تنطبق عليهم هذه الصفات، فهم يحتقرون هداية الدين الروحية وأوامره ونواهيه وسائر تعاليمه وما له من تأثير عظيم في النفوس وتوجيه لها إلى الخير، وصد لها عن الشر، والبعد عن الفواحش والمنكرات، ذاك أنهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى وهم عبيد شهواتهم منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم ويسيروا على سنتهم، علهم يصلون في ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه.

قال آخر: ولو ساغ لبنى إسرائيل ألا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من

القرآن والتذكير والتبشير (112)

زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات ومن رائع المدينة مثل ما كان عند فرعون وقومه ولساغ لهم أن ينحدروا في تلك الهوة ويقعوا في تلك الحفرة، ولله في خلقه شئون وهو يصرف الأمور بيده وله الأمر من قبل ومن بعد.

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على كل تلك الصفات بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف:147]، وذلك تهديد بعد تهديد، لمن كذب بآيات الله، ولم يرج لقاء الله.. فمن كان هذا شأنه، فقد حبط عمله، وساء مصيره، وذلك جزاء الظالمين: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سبأ:33]، فهم لم يعملوا إلا شرا، ولم يقدموا إلا سوءا، فلم يكن جزاؤهم إلا ما يسوؤهم ويفسد عليهم وجودهم.

قال آخر: وتشير الآية الكريمة إلى أن الذين كذبوا بآيات الله المنزلة بالحق والهدى، فلم يؤمنوا بها ولم يهتدوا بهديها، وكذبوا بما يكون في الآخرة من الجزاء على الأعمال من ثواب على الخير وعقاب على الشر، تحبط أعمالهم وتذهب سدى، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله، فتصير أعمالهم وبالا عليهم ولا يجزون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي، فأثر في نفوسهم وأرواحهم حتى دساها وأفسدها، فقد مضت سننه تعالى بجعل الجزاء في الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه كترتيب المسبب على السبب، ولا يظلم ربك أحدا في جزائه مثقال ذرة.

قال آخر: وتقييد الله تعالى للتكبر في الأرض بكونه بغير الحق، لا يعني أن هناك تكبرا بحق قط، بل هذا وصف كاشف لبيان مضرة الكبر وفساده، وأن التكبر يجعل المتكبر لا يفكر إلا في نفسه وما يستعلى به على الناس، فإذا غمره كبره في هذا لا يرى إلا من ورائه، فلا يتجه نظره إلى ما يجب عليه، بل يتجه إلى ما يحسبه حقا له، وبذلك ينصرف عن الخير

القرآن والتذكير والتبشير (113)

منصرفه فيصرفه الله عنه، وهذا قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف:146]، فصرف الله تعالى للمتكبرين نتيجة حتمية لانصرافهم لغمرتهم في الكبر، فهو سبب هذه النتيجة وقوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف:146]، هو كشف لحقيقة المستكبرين من الطغاة والحكام، وكل المفسدين في الأرض.

قال آخر: وقد صور الله تعالى تفكيرهم، فقال في نظرهم إلى الحق وإلى الباطل: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا﴾ [الأعراف:146]، وذلك لأن قلوبهم صرفها هواهم عن الحق، فصارت متدرنة بالباطل لا تستسيغ الحق، فكل آية، أي آية مهما تكن واضحة الدلالة بينة الهداية ﴿لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأعراف:146] ولا يصدقون بها، لأنهم عميت عن الحق أبصارهم، وأصبحوا في صمم عنه، فإن القلب إذا أعمي كره الحق، وغفل عن آياته.

قال آخر: ومثل ذلك آل فرعون، جاءتهم العصا فكفروا بها، وجاءت يد موسى بيضاء تلمح بالنور، فأعرضوا، وأصابهم الله بالعذاب، وأصاب أنفسهم وأموالهم وزروعهم، ورأوا آيات فيهم رأي العين، وخضعوا بالحس لله، ولكن ما زالت قلوبهم كافرة فاتجهوا إلى الله رب موسى وربهم، وطلبوا إلى موسى أن يدعو الله ليكشف عنهم، فلما كشف ذهب نور الإيمان، وبقي ما استقر في نفوسهم بسبب الكفر.

قال آخر: وهكذا قال تعالى في تصوير نزوعهم إلى الباطل: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف:146] وذلك لأن الرشد يحتاج إلى عزيمة وقوة نفس، وسيطرة على الشهوات، وحمل على الإيثار، ومنع للأثرة، والذين يستكبرون ويطغون فيهم أثرة، وفيهم شهوات مستحكمة، وهو غالب، ولهذا إذا رأوا سبيل الرشد الذي يعطي لله وللناس حقوقهم فإنهم لا يتخذونه سبيلا لسلوكهم، وطريق حياتهم لأنه يحتاج إلى بصيرة مدركة، وعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة، لكنهم ﴿إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف:146]،

القرآن والتذكير والتبشير (114)

أي إن يروا سبيل الضلال وهو الغي يتخذوه مسلكا لهم؛ لأنه سبيل الأثرة والهوى والشهوات والطغيان فهو يتفق مع نزعة التكذيب لآيات الله تعالى، والغفلة عن هدايتها، والاستكبار الذي أعماهم عن التأمل فيها، وتعرف أسرار الله في مكنونها.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى سبب ذلك الضلال الذي يحولهم من الرشد إلى الغي، فقال سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]، والإشارة في ﴿ذَلِكَ﴾ إلى الحال التي آلوا إليها من استحسانهم للشر وسبيله، واستهجانهم للخير وطريقه ﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف:146]، أي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله، سارعوا بتكذيب آيات الله، فاجتالهم الشيطان عنها، وساروا منحرفين عنها غافلين عن معانيها، ومن سار في طريق منحرفا عن الخط المستقيم أوغل في الانحراف حتى يضل ضلالا بعيدا، وكلما أمعن في السير أمعن في الضلال، حتى لا تكون هداية، أخذهم الكبر فكذبوا بآيات الله ﴿وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]، ففسدت نفوسهم وأذواقهم حتى صاروا يذوقون المر فيحسبونه حلوا، وفسدت مداركهم، فصاروا لا يفرقون بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح، فإن رأوا سبيل الرشد لا يختاروه وإن رأوا سبيل الغي اختاروه وهكذا انحرفت مشاعرهم، وضلت أفهامهم، وإنما يستقيم الفكر إذا استقامت النفس.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى مخبرا عن قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف جرهم الظلم إلى نكران كل تلك الآيات التي كانوا يرونها بأعينهم: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 494)، وزهرة التفاسير (8/ 4392)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (9/ 16)، ومنية الطالبين، 16/ 460.

القرآن والتذكير والتبشير (115)

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:45ـ47]

قال أحد الطلبة: في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ [النجم:27] إشارة كاشفة عن الداء الذي يسكن إلى كيان المشركين، ويفسد عليهم مدركاتهم وتصوراتهم وإيمانهم بالله؛ فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله.. ومن هنا، كانت الصلة بينهم وبين الله قائمة على هذا الضلال والفساد.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء:45] إشارة إلى أن هذا الحجاب، شيء معنوي، غير محسوس، لا يرى، فهو مستور عن نظر القوم.. إنه حجاب مضروب على آذانهم فلا تسمع، وعلى قلوبهم فلا تعقل.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء:46]، بيان لهذا الحجاب المستور، الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين المشركين وبين النبي، وهو يقرأ القرآن، ويرفع منه للناس معالم الهدى.. فهؤلاء المشركون قد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي أغطية كثيفة، أشبه بالجحر الذي يستكن فيه الحيوان، ويعتزل فيه العالم الخارجي، فلا يرى أحدا، ولا يراه أحد.

قال آخر: وكذلك جعل على آذانهم ﴿وِقْرًا﴾ أي ثقلا في السمع، فلا تسمع شيئا.. فقد يحتجب الحيوان داخل كنه عن العالم الخارجي، ولكن يظل مع ذلك متصلا به عن طريق السمع.. أما هؤلاء المشركون، فقد أخذ الله سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم.. فهم أموات غير أحياء، وإن خيل إليهم أو للناس أنهم أحياء.. يسمعون، ويبصرون،

القرآن والتذكير والتبشير (116)

ويعقلون.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء:46] إشارة إلى ما ركب المشركين من ضلال، في تصورهم لمقام الألوهية؛ فهم يقبلون الاستماع إلى أي حديث يذكر فيه الله مع الآلهة التي يعبدونها، أما إذا ذكر الله وحده في قرآن أو غيره، فذلك حديث بغيض إليهم، يلقونه منكرين، بل مذعورين، إذا وقع على آذانهم.

قال آخر: ويشير قوله تعالى: ﴿وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء:46] إلى أنهم صدموا به، فارتدوا على أدبارهم كما ترتد الكرة إذا اصطدمت بحائط.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:47] تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين يستمعون إلى القرآن، بقلوب مريضة، ونيات خبيثة، منعقدة على الكيد، لا تبتغى بهذا الاستماع طلب هدى، أو التماس حق.. وإنما غايتها اصطياد المعاثر، والوقوع على ما يغذى ضلالهم، ويقيم لهم حجة على هذا الضلال.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿بِهِ﴾ إشارة إلى تلك الأجهزة الفاسدة التي صحبوها معهم، ليستمعوا بها إلى القرآن.. فهذا الذي يستمعون به من أجهزة، إن هو إلا قلوب مريضة، وطوايا خبيثة، مبيتة للشر، راصدة للعدوان.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء:47] فصح لهؤلاء المشركين، وهم يستمعون إلى القرآن.. إنهم يستمعون إليه متلصصين، بعيدا عن أن يراهم أحد.. حيث تقع لآذانهم كلمات الله، فيتناجون فيما بينهم بها، ويبحثون عما يقولونه من زور وبهتان فيها.. ثم تنتهي بهم تلك المناجاة إلى هذا الحكم الفاسد، الذي يصدرونه

القرآن والتذكير والتبشير (117)

على القرآن، وعلى النبي لذى يتلو هذا القرآن فيقولون: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:47] أي إن اتبعنا هذا الرجل فلن نتبع ﴿إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:47] قد مسه طائف من الجن، فاضطرب عقله، واحتل تفكيره، وأصبح يهذى بهذا القول الذي يردده، ولا يمل ترديده.. ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [المؤمنون:25]

قال آخر: وفي هذه الآيات الكريمة جواب عن الإشكال الذي يطرحه الكثير حول سبب عدم إذعان الظالمين لما يتطلبه الإيمان، لرغم وضوحه، ودلالة كل الأدلة عليه.

قال آخر: فالآيات الكريمة تذكر أن الحجاب والساتر هو الذي يحول بينهم وبين الإيمان، وهو نفسه التعصب واللجاجة والغرور والجهل، حيث تقوم هذه الصفات بصد حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم، ولا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مثل التوحيد والمعاد وصدق الرسول في دعوته وغير ذلك.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى سبب استماعهم له، فقال: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [الإسراء:47] أي أن الله تعالى يعلم الغرض من استماعهم لكلامك وحضورهم في مجلسك وإذ هم نجوى يتشاورون ويتناجون، ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:47]، أي أنهم لا يأتون إليك من أجل سماع كلامك بقلوبهم وأرواحهم، بل هدفهم هو التخريب، وتصيد الأخطاء ـ بزعمهم ودعواهم ـ حتى يحرفوا المؤمنين عن طريقهم إذا استطاعوا.. وعادة يكون مثل هؤلاء الأشخاص وبمثل نواياهم، قلوبهم موصدة، وفي آذانهم وقر، لذلك لا يجالسون رجال الحق إلا لتحقيق أهداف شيطانية.

قال آخر: فهذه الآيات الكريمة ترسم لنا بدقة أحوال الظالمين والموانع التي تحول دون معرفتهم للهدى، وهي تذكر أن ثمة ثلاثة موانع لمعرفة هؤلاء للحق، بالرغم من

القرآن والتذكير والتبشير (118)

سهولة رؤية طريق الحق، وأولها وجود الحجاب بينهم وبين الحق، وهذا الحجاب في حقيقته ليس سوى أحقادهم وحسدهم وبغضهم والعداوة التي يضمرونها نحوه، فهذا الحجاب بمكوناته هو الذي يمنعهم من النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن يدركوا كلامه، حتى أن الحسنات تتحول في نظرهم إلى سيئات.

قال آخر: وثانيها سيطرة الجهل والتقليد الأعمى على قلوبهم بحيث أنهم غير مستعدين لسماع كلمة الحق من أي شخص كان.

قال آخر: وثالثها أن حواس المعرفة لدى هؤلاء، كالأذن ـ مثلا ـ تنفر من كلام الحق، وتكون كأنها صماء، أما الكلام الباطل فإنهم يتذوقونه ويفرحون به، وينفذ إلى أعماقهم بسرعة، وقد ثبت بالتجربة أن الإنسان إذا لم يكن راغبا بشيء فسوف لا يسمعه بسهولة، أما إذا كان راغبا فيه، فإنه سيدركه بسرعة، وهذا يدل على أن الإحساسات الداخلية لها تأثيرها على الحواس الظاهرة، بل وتستطيع أن تطبعها بالشكل الذي تريده.

قال آخر: أما نتيجة هذه الموانع الثلاثة، فأولها الهروب من سماع الحق، خاصة عندما يكون الحديث عن وحدانية الخالق، لأن هذه الوحدانية تتناقض مع أصول اعتقادات المشركين.

قال آخر: وثانيها، اللجوء إلى توجيهات خاطئة لتبرير انحرافهم، حيث كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتهم مختلفة كالساحر والشاعر والمجنون، وبذلك تكون عاقبة كل أعداء الحق أن أعمالهم الرذيلة تكون حجابا لهم دون الحق والهدى.

قال آخر: وهنا ينبغي القول بأن من يريد أن يسلك الصراط المستقيم، وأن يأمن من الانحراف يجب عليه أولا وقبل كل شيء إصلاح نفسه، فتطهير القلب من البغض والحسد والعناد، وتطهير الروح من التكبر والغرور، وتطهير النفس من جميع الصفات الرذيلة

القرآن والتذكير والتبشير (119)

واجب وضروري، لأن القلب إذا تطهر من هذه الرذائل وأصبح نظيفا نقيا، فسوف يدرك جميع الحقائق، لهذا السبب نرى أن الأميين وأصحاب القلوب النقية يدركون الحقائق أسرع من العالم الذي لم يقم بتهذيب نفسه.

قال آخر: وقد نسبت الآيات الكريمة الحجب إلى الله تعالى، وهي لا تعني (الجبر) وإنما تشير إلى أن هذه الحجب هي بسبب الذنوب والصفات الرذيلة لنفس الإنسان، وإن هي إلا آثار أعماله، ونسبة هذه الأمور إلى الله تعالى يعود إلى أنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق خواص كل شيء، ذلك أن تلك الأعمال الرذيلة والصفات القبيحة لها هذه الخواص.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:7ـ9]

قال أحد الطلبة: في هذه الآيات الكريمة يدحض الله تعالى تبريرات الكافرين بالرسالة، لقد قالوا: كيف يبعث الله إلينا بشرا رسولا يحتاج إلى الطعام، بل وإلى اكتساب المعيشة من الأسواق، فلولا أنزل إليه ملك ليكون معه نذيرا.. أو يستغني عن اكتساب رزقه بأن يلقى إليه كنز أو لا أقل تكون له جنة يأكل منها.. وتطرف الظالمون فقالوا: ليس هذا الذين تتبعونه سوى رجل مسحور.

قال آخر: وقد ذكر المؤرخون وعلماء السيرة أن سادة قريش كعتبة بن ربيعة وأبي

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (9/ 146)، والتفسير القرآني للقرآن (6/ 930)، والتفسير الوسيط (2/ 1783)، ومنية الطالبين، 13/ 235، ومن هدي القرآن: (8/ 397)

القرآن والتذكير والتبشير (120)

سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وغيرهم قالوا: يا محمد، إن كنت تحب الرياسة، وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجعوا في باب الاحتجاج عليه، وقالوا: مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق تريد التماس الرزق؟ أي من كان رسول الله فهو مستغن عن جميع ذلك، ثم قالوا له: سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك، أو يلقى إليك كنز من الذهب تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهبا، أو تزال الجبال، ويكون مكانها جنات تجري فيها الأنهار، فنزلت هذه الآيات الكريمة.

قال آخر: وقد تضمنت الآيات الكريمة هذه خمس شبهات حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجهها المشركون، تتعارض في زعمهم مع صفة النبوة، وأولها أنه لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة علينا، فهو يأكل الطعام كما نأكل، ويحتاج لما نحتاج إليه، أي إنه ينبغي أن يكون ملكا.. وهذا النبي يمشي في الأسواق كما نمشي، طلبا للتكسب والرزق، فلا فضل له علينا، وهو مثلنا، فمن أين يكون تميزه علينا؟.. وهلا أنزل عليه ملك من عند الله، فيشهد على صدق ما يدعيه، ويرد على من خالفه!؟.. وهلا ألقي عليه كنز من السماء، فينفق منه، فلا يحتاج للتردد على الأسواق، لطلب الرزق والمعاش!؟.. وإن لم يكن له كنز، فهلا يكون له بستان يأكل منه، ويعيش من ثمراته وغلاله!؟

قال آخر: وهذه الأوصاف المادية مستمدة من صفات أهل السلطة والنفوذ من الملوك والأمراء والحكام، وفاتهم أن الرسالة الإلهية شيء آخر فوق البشرية.

قال آخر: ثم طعنوا في عقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، مختل العقل، لا يدرك ما يقول، فكيف يطاع فيما يأمر!؟

قال آخر: وقد أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات ببيان التعجب من طرحها، قائلا:

القرآن والتذكير والتبشير (121)

انظر أيها النبي مسريا عن نفسك، ومتعجبا لما يقول هؤلاء المشركون، وتأمل بتلك الأمثلة والأشباه، فهي أقوال باطلة، وأوصاف مفتراة، فلا يجدون طريقا للهدى والاستقامة ومعرفة الحق.. إنهم أخطأوا الطريق فلا يجدون سبيلا لهداية، ولا يطيقونه لتلبسهم بضده من الضلال.

قال آخر: ومن الوجوه التي عالج بها القرآن الكريم هذه الأفكار المريضة ما ذكره من أن قياس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم وضربهم الأمثال له، جعلهم يضلون السبيل، ولعلهم لو تجردوا عن الأحكام المسبقة لم يضلوا عنه.

قال آخر: ومنها أن القرآن الكريم نزل فعلا من عند الله تبارك خيره، وعظم فضله، فلو شاء وقضت حكمته البالغة لجعل لرسوله خيرا من ذلك، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، أو حتى في الدنيا.

قال آخر: ومنها أن سبب جحودهم إحساسهم بالأمن من عذاب الله؛ فهم قد كذبوا بالساعة، ولقد أعد لهم الرب سعيرا ملتهبا، يدعوهم إلى نفسه من بعيد، ويستقبلهم بالتغيظ والزفير، فهو مكان ضيق.. محلهم فيه كمحل الوتد في الحائط، وهم مغلولون ببعضهم مع شياطينهم، وينادون بالويل، ويناديهم الملائكة: ألا أدعوا ويلا كثيرا.. فما قيمة الكنز والبستان، في مقابل قيمة الخلاص من نار جهنم!؟

قال آخر: هكذا يعالج القرآن الكريم النظرة المادية اللامسؤولة بتذكير النفس البشرية بعذاب الساعة، وثواب الله في الجنة.. وهكذا ينسف العقبات ويزيلها عن طريق الإيمان بالفرقان.

قال آخر: وكل ذلك نتيجة المقاييس الخاطئة التي يتبناها الظالمون، فقد تصوروا أن على الرسول الذي بعث إليهم أن يكون خاضعا للمقاييس الجاهلية لاختيار القيادة.

القرآن والتذكير والتبشير (122)

قال آخر: ذلك أن من أهم المقاييس التي كانوا يعتمدونها في تمييز القيادة القوة البشرية، وعدد التابعين والأصحاب.. والقوة الاقتصادية من الثروة والمال.. والسيطرة السياسية، وعادة ما تكون نابعة من القوتين السابقتين.

قال آخر: وهم يذكرون أنه ما دام الرسول لا يمتلك الجنود المجندة حتى يخضعوا لقمعها، ولا تلك الثروة التي تستعبدهم بها الطبقة الرأسمالية، ولا تلك الأراضي الواسعة حتى يحترموه كما يحترمون إقطاعيهم الكبار، فهو لا يستحق ـ إذا ـ قيادتهم.

قال آخر: ولكنهم لم يعلموا أن هناك فرقا شاسعا بين الرسول وقادتهم الجاهليين، فقد ضلوا السبيل لما ضربوا له الأمثال.

قال آخر: ولعلنا نستوحي من قوله تعالى ﴿نَذِيرًا﴾ عن لسان الكفار، ولم يقولوا ﴿بَشِيرًا﴾ أنهم أرادوا أن يكون للرسول قوة قامعة تدعم الرسالة بإذلال الرقاب، وكانوا يريدونها قوة مادية يشاهدونها بأعينهم، أما أن تكون قوة الغيب الالهية هي السند، فهذا ما لم تستوعبه عقولهم التي لم تتحرر من قيد المفاهيم المادية.

قال آخر: وقد دلت الآيات الكريمة كذلك على أن مشركي مكة كانوا يتعجبون من نزول الوحي على رجل مثلهم، ولذلك ثقل عليهم الإيمان به، وما ذلك لأنهم نظروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من منظار مادي حيث إنه ولد بينهم وعاش كما يعيش سائر الناس، ولذلك كانوا يتعجبون من ادعاء النبوة مع أنه يأكل ويمشي في الأسواق.

قال آخر: أما من نظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من منظار آخر، وهو أنه وليد أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة ونشأ في بيت رفيع منزه عن الشرك والوثنية، في ظل كفالة جده عبد المطلب المعروف بالتقى والمتمسك بحبل التوحيد، وحظي برعاية الله تعالى منذ ولد حتى ترعرع، فصار يعتكف في كل سنة شهرا أو شهرين في مكان بعيد عن ضوضاء الوثنية وصخبها،

القرآن والتذكير والتبشير (123)

ويعبد الله وحده، فتنزل عليه بركاته يوما بعد آخر، ويتقرب إلى الله بعباداته الصادقة، فصارت نفسه عندئذ مستعدة لنزول الوحي ومشاهدة أمينه.

قال آخر: وقد أشار الإمام علي إلى طي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدرجات الكمال في عبارة موجزة، فقال: (ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره)(1)، فمن نظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنظار يصدق أنه المؤهل لنزول الوحي عليه دون غيره.

قال آخر: وما ذكرته هذه الآيات الكريمة ليس خاصا بالمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل هو عام لكل الظالمين من أقوام الأنبياء عليهم السلام، حيث إنهم تذرعوا جميعا بمثل هذه الذرائع، كما قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:94]، أي: هل يمكن التصديق بأن هذه المهمة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان.. ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمة وهذه المسؤولية على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة ـ مثلا ـ كي يستطيعوا أداء هذه المهمة بجدارة، إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية!؟

قال آخر: إن هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخص مجموعة أو مجموعتين من الناس، بل إن أكثر الناس وفي امتداد تاريخ النبوات قد تذرعوا به في مقابل الأنبياء والرسل.. فقوم نوح عليه السلام ـ مثلا ـ كانوا يعارضون نبيهم بمثل هذا المنطق ويصرحون: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [المؤمنون:33]

قال آخر: أما قوم هود فقد كانوا يواجهون نبيهم بالقول: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 192.

القرآن والتذكير والتبشير (124)

يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون:33]، ثم أضافت الآية الكريمة من نفس السورة قولهم: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون:34]

قال آخر: والقرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعا في جملة قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:95]، وهو يعني بذلك أن القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه، ومن جنس أتباعه، فالإنسان لجماعة البشر، والملك لجماعة الملائكة.

قال آخر: ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح؛ فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة واسوة، وهذا لا يتم إلا أن يكون القائد من جنسهم، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس، ونفس مكونات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته، فلو كان الرسول إلى البشر من جنس الملائكة الذين لا يملكون الشهوة ولا يحتاجون إلى الطعام والمسكن والملبس، فلا يستطيع أن يتمثل معنى الأسوة والقدوة لمن بعث إليهم.

قال آخر: بل إن الناس سوف يقولون: إن هذا النبي المرسل لا يعرف ما في قلوبنا وضمائرنا، ولا يدرك ما تنطوي عليه أرواحنا من عوامل الشهوة والغضب وما إلى ذلك.. إن مثل هذا الرسول سوف يتحدث إلى نفسه فقط، إذ لو كان مثلنا يملك نفس أحاسيسنا ومشاعرنا لكان مثل حالنا أو أسوأ، لذا لا اعتبار لكلامه.

قال آخر: أما عندما يكون القائد مثل الإمام علي الذي كان يقول: (إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر)(1)، فإن مثله يصلح أن يكون الأسوة

__________

(1) نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.

القرآن والتذكير والتبشير (125)

والقدوة لمن يقودهم.

قال آخر: من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادرا على علاجهم، والإجابة على أسئلتهم، لهذا السبب نرى أن الأنبياء برزوا من بين عامة الناس، وعانوا في حياتهم كما يعاني الناس، وذاقوا جميع مرارات الحياة، ولمسوا الحقائق المؤلمة بأنفسهم وهيأوا أنفسهم لمعالجتها ومصابرة مشكلات الحياة.

آيات ومعان:

قال الأستاذ: أحسنتم.. فاقرؤوا لنا من القرآن الكريم آيات أخرى تشير إلى هذه المعاني.

قال أحد الطلبة: من ذلك ما ورد في القرآن الكريم مما يشير إلى أن الظالم يُحجب عن رؤية آيات الله الواضحة في الأرض والسماء، وفي كل شيء، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء:99]

قال آخر(1): ففي الآية الكريمة رد على هؤلاء المشركين الظالمين الذين يكذبون بالبعث، ويقولون منكرين: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الإسراء:98]، فلو أنهم كانوا على شيء من الإدراك السليم، لرأوا في قدرة الله سبحانه وتعالى ما ينزهها عن العجز.. فهي قدرة قادرة على كل شيء.. ولو لحقها العجز عن شيء ما لما كانت من صفات الكمال الواجبة لله.

قال آخر: فهذا الوجود كله في سمائه وأرضه، هو بعض صنعة هذه القدرة.. وتلك

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 555)، ومن وحي القرآن: (14/ 239)

القرآن والتذكير والتبشير (126)

القدرة التي أوجدت السموات والأرض ومن فيهن، قادرة على أن تخلق مثل ما خلقت.. فالخلق الثاني أهون من الخلق الأول، الذي جاء على غير مثال.. ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم:27]، وبالتالي فإن خلق الناس من جديد، وهم بعض هذا الوجود، هو بالقياس إلى الطبيعة البشرية ـ أهون ـ من خلق السماوات والأرض.. كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر:57]

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء:99] وفي ذكر الظالمين باللفظ الظاهر بدلا من الضمير، الذي يقتضيه السياق ـ في هذا ما يكشف عن حقيقتهم، وأنهم موصوفون بالظلم، لبعدهم عن الحق، ومكابرتهم في الحقائق المسلمة، وافترائهم على الله الكذب.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الصف:7]

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء:99] إشارة إلى أن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعناد ورفضا للحق الثابت، يفرض عليهم تصرفهم ذلك الضلال، ويقودهم إلى الانكماش والاستغراق داخل خصوصياتهم الذاتية، بعيدا عن رحابة الحياة.. وقد يكون من بين مظاهر المشكلة، هذا البخل الذي يمنعهم من الانفتاح على الآخرين في مواقع العطاء، فينعكس ذلك على نظرتهم العامة للحياة وللمسؤولية في حركة الواقع من حوله.

قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر الله تعالى عنه من أن من عواقب الظلم وثماره الضلال المبين الواضح، فقال ـ متحدثا عن المشركين وغفلتهم عن أبسط الحقائق بسبب ظلمهم ـ: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان:11]

القرآن والتذكير والتبشير (127)

قال آخر(1): أي هذا الذي تشاهدونه من السماوات والأرض وما فيهما من الخلق، خلق الله وحده دون أن يكون له شريك في ذلك، ﴿فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان:11]، أي فأخبروني أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان: أي شيء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالفكم وخالق هذه الأشياء التي عددتها لكم؟

قال آخر: ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعى للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه، فقال: ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان:11] أي بل المشركون بالله، العابدون معه غيره في جهل وعمى واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنى لهم أن يرعووا عن غي أو يهتدوا إلى رشد وحق؟

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر:40]

قال آخر(2): يتحدى الله تعالى المشركين في هذه الآية الكريمة في عبادتهم الأصنام والأنداد، ويطالبهم أن يخبروا عن شركائهم الذين يعبدونهم من دون الله، أعبدوهم لأن لهم شركة في خلق السموات والأرض، أم خلقوا من الأرض شيئا!؟.. أم عندهم كتاب أنزله إليهم بالشركة!؟

قال آخر: وإنما أضاف الشركاء إليهم، من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء

__________

(1) تفسير المراغي (21/ 77)

(2) التفسير المنير (22/ 278)، والتفسير القرآني للقرآن (11/ 897)، وتفسير المراغي (22/ 136)

القرآن والتذكير والتبشير (128)

لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال: شركاءكم أي الشركاء بجعلكم.. ويحتمل أن يكون المراد شركاءكم في النار، لقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء:98]

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ﴾ [فاطر:40] سؤال إلى المشركين عن ذات أنفسهم هم.. وهو أنهم إذا لم يجدوا لهذا الذي سئلوا عنه في شأن آلهتهم، جوابا يقبله العقل، بأن لهم شيئا في هذا الوجود في أرضه وسماواته، إذا لم يجدوا في أنفسهم ما يحدث عن آلهتهم تلك بأن لها شيئا أو شأنا في الملك؛ فهل أخذوا هذا الذي أضافوه إلى آلهتهم عن كتاب من عند الله، فهم لهذا على بينة وعلم في شأن آلهتهم، مما علموه من هذا الكتاب؟ ذلك ما لم يكن.

قال آخر: فإذا كان العقل يأبى أن يضيف إلى آلهتهم شيئا، أو يجعل لهم شأنا في هذا الوجود، وإذا لم يكن بأيدي هؤلاء المشركين كتاب من عند الله، أقامهم على هذا الرأي السقيم الباطل الذي رأوه في آلهتهم، فلم يبق إذن شيء يصل بين هؤلاء المشركين وآلهتهم، إلا ما تلقوه من ضلالات الضالين وأهواء ذوى الأهواء منهم.

قال آخر: ولهذا قال تعالى بعدها: ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر:40]، أي إن هذا الذي هم فيه من ضلال مع هذه المعبودات التي يعبدونها، هو من وحي بعضهم إلى بعض بالباطل، ومن تزيين بعضهم لبعض بالخداع والغرور.. وفي الحديث عنهم بضمير الغائب، إعراض عنهم وإنزالهم منزلة الغائب، إذ لم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا، وقد استرخصوا عقولهم، واستخفوا بها..

قال آخر: والخلاصة: إن عبادة هؤلاء إما بدليل من العقل، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئا، وإما بدليل من النقل، وإنا لم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء..

القرآن والتذكير والتبشير (129)

وبعد أن نفى ما نفى من الحجج أضرب عن ذلك، وبين أن الذي حملهم على الشرك هو تقرير السلف للخلف، وإضلال الرؤساء للأتباع، وقولهم لهم: إن هؤلاء شفعاء يشفعون لكم عند الله إذا أنتم عبدتموهم، وإلى هذا أشار بقوله:﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر:40] أي بل إنما اتبعوا في ذلك آراء أسلافهم وضلالهم، وما هي إلا غرور وأباطيل.

أحاديث وآثار:

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا ببعض ما ورد في الأحاديث والآثار التي توافق هذه الآيات الكريمة.

قال أحد الطلبة: من ذلك ما ورد في كتب أسباب النزول ما يصور بعض المشاهد التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:13ـ14]، وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33]

قال آخر: ومن ذلك ما رووه أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).

قال آخر: وعن الإمام علي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب

__________

(1) أسباب النزول، الواحدي، ص: 120.

القرآن والتذكير والتبشير (130)

بما جئت به، فأنزل الله: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33](1)

قال آخر: وفي رواية ثالثة أنها نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب كان يكذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: (ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا)، فأنزل الله الآية(2).

قال آخر(3): ونلاحظ على هذه الروايات، أنها أكدت على محاولة الفصل في التكذيب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به، كما في الرواية الثانية، بينما الرواية الأولى تؤكد صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به مطلقا، لكن التكذيب الظاهري كان من أجل ألا تكون النبوة في بني قصي بالإضافة إلى ما لديهم من السقاية والحجابة والندوة، فليس هناك جحود بآيات الله ولا تكذيب للنبي في الواقع بل في الظاهر، وهذا ما تدل عليه الرواية الثالثة التي نسبت الكلام إلى الحارث بن عامر لا إلى أبي جهل.

قال آخر: وهذا كله لا يتناسب مع سياق الآية التي تثير القضية على أساس الحديث مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعيش الحزن على رفض قومه لرسالته وتكذيبهم له، بادعائهم أن هذا التكذيب ليس موجها ضد النبي شخصيا ليعيش الحزن، بل هي موجهة إلى الله في جحودهم بآياته مما يجعل الجحود لوحيه وليس له بالذات، فإذا كانت المسألة ـ بهذا المستوى ـ فلا ضرورة للحزن، لأن الله الذي جحدوا وحيه سوف يتكفل بهم بما ينزل عليهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وتلك هي قضية الرسل الذين لا يمثلون أنفسهم في رسالتهم،

__________

(1) الترمذي: 5 /261.

(2) أسباب النزول، ص: 120.

(3) من وحي القرآن: (9/ 79)

القرآن والتذكير والتبشير (131)

بل يمثلون الله في دعوته فيتركون الأمر إليه، فهو الذي يملك الأمر كله وهو الذي يواجه عباده بما يستحقون ولن يضره ذلك في شيء.

قال آخر: ولذلك فإننا لا نلتقي مع سبب النزول لأنه لا ينسجم مع السياق العام للآية، بل هو ـ على الظاهر ـ اجتهاد من الرواة في تفسير السبب في مقارنتهم بين فهمهم للآية وبعض الأحداث الحاصلة في بداية الدعوة في الواقع التاريخي للسيرة.

قال آخر: وهذه الروايات توحي بأن هناك من الناس من يؤمن بالدعوة سرا وينكرها علنا لاعتبارات ذاتية أو عائلية أو غير ذلك، خاصة إذا كان اعتناقها يفترض الإيمان بأفكارها ومفاهيمها وصفائها على حساب ما عندهم على هدى.

قال آخر: وقد روي أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت

القرآن والتذكير والتبشير (132)

أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! قال: فقام عنه الأخنس وتركه(1).

قال آخر(2): فهذه الرواية ـ بالإضافة إلى الروايات السابقة ـ توحي بأن هناك عقدة مستعصية كانت تعيش في ذهنيات هؤلاء وتمنعهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تكن قضيتهم قضية كفر ينطلق من فكرة مسيطرة عليهم، بل من واقع منحرف يفرض نفسه على مواقعهم.

ج. طرق ومناهج:

ما إن انتهى الطلبة من حديثهم إلى هذا الموضع، حتى طلب مني بعضهم أن أسير معه إلى قسم آخر، فسألته عنه، فقال: من تعلم ما يرغب في ذكر الله، والعواقب التي يجنيها الغافلون عنه، والحجب التي تحول بين العبد وربه؛ فعليه أن يتعرف على الطرق التي توصل إليه، وتعرف به، وتقرب العبد منه.

قلت: فما سر الاهتمام بهذا؟

قال: الواعظ الحقيقي هو الذي لا يكتفي بدلالة الخلق على الغاية دون أن يدلهم على السبيل إليها.

__________

(1) البيهقي في الدلائل (2/ 207)

(2) من وحي القرآن: (9/ 81)

القرآن والتذكير والتبشير (133)

قلت: فالله هو الغاية.. والطرق والمناهج هي السبيل إليه.

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:35]؟

قلت: أجل.. وقد سمعت معها قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57]

المسارعة والوسائل:

بعد أن ذكر لي هذا سرت معه إلى الأقسام المخصصة للطرق والمناهج، وقد استمعت في أول قسم منها إلى بعض ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الفرار إلى الله والبحث عن السبل المؤدية إليه واستعمال كل الوسائل التي تنتهي بالقرب منه.

آية ومعان:

وقد بدأ الأستاذ حديثه لطلبته بقوله: تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما يرغبنا في السير إلى الله، وينفرنا من النفور منه.

قال أحد الطلبة(1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:35]

قال آخر: تتضمن هذه الآية الكريمة ثلاثة تكاليف يؤدي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح، وأولها اتباع الحيطة والتقوى، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة:35]، وثانيها اختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة:35].. وثالثها الجهاد في سبيل الله، إذ تقول الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (3/ 686)، والتفسير القرآني للقرآن (3/ 1086)، وتفسير المراغي (6/ 109)، وزهرة التفاسير (4/ 2160)، ومن وحي القرآن: (8/ 158)

القرآن والتذكير والتبشير (134)

سَبِيلِهِ﴾ [المائدة:35].. ونتيجة الالتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح، بشرط تحقق الإسلام والإيمان قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:35]

قال آخر: وأهم موضوع تتناوله الآية الكريمة هو الدعوة الموجهة للإنسان المؤمن لاختيار طريقة تؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فكلمة ﴿الْوَسِيلَةَ﴾ في الأصل تعني نشدان التقرب، أو طلب الشيء الذي يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة.

قال آخر: وعلى هذا الأساس، فإن كلمة ﴿الْوَسِيلَةَ﴾ الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة، فهي تشمل كل عمل أو شيء يؤدي إلى التقرب إلى الله تعالى، وأهم الوسائل في هذا المجال هي الإيمان بالله وبنبيه صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل الله، والعبادات كالصلاة والزكاة والصوم، والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرا وعلانية.

قال آخر: وتشمل جميع الأعمال الصالحة، كما قال الإمام علي في خطبة له: (إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقامة الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر، ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال ومنساة في الأجل وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان)(1)

قال آخر: ومما يدخل في الوسيلة أيضا اتباع الأنبياء والصالحين والسير على نهجهم والتماس الشفاعة منهم.. فهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة ﴿الْوَسِيلَةَ﴾، فكل ذلك

__________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 110.

القرآن والتذكير والتبشير (135)

يؤدي إلى التقرب إلى الله.. وحتى عندما نقسم على الله بمقام الأنبياء والأئمة والصالحين فإنه يدل على حبنا لهم، والاهتمام بالدين الذي دعوا إليه، وهو بذلك يعتبر واحدا من المعاني الداخلة في المفهوم الواسع لكلمة ﴿الْوَسِيلَةَ﴾

قال آخر: ولذلك، فإن الذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض هذه المفاهيم لا يمتلكون في الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص، لأن كلمة ﴿الْوَسِيلَةَ﴾ تطلق في اللغة على كل شيء يؤدي إلى التقرب.

قال آخر: ذلك أن المراد من التوسل لا يعني ـ أبدا ـ طلب شيء من شخص النبي أو الصالح، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن ـ عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النبي والصالحين ـ بطلب الشفاعة منهم إلى الله، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم، وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لمنزلتهم، وهو نوع من العبادة وليس في هذا المعنى أي أثر للشرك.

قال آخر: ذلك أن هناك آيات قرآنية أخرى تدل بوضوح على أن التوسل بمقام إنسان صالح عند الله، وطلب شيء من الله عن طريق التوسل بجاه هذا الإنسان عند الله، لا يعتبر أمرا محظورا ولا ينافي التوحيد، فنحن نقرأ ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء:64]، كما نقرأ ذلك في سورة يوسف، حيث إن أخوة يوسف عليه السلام طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم الله، فقبل يعقوب هذا الطلب ونفذه.. ومثل ذلك يشير الله تعالى في سورة التوبة إلى استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:114]، وهذا دليل على تأثير دعاء الأنبياء في حق الآخرين.

قال آخر: والشفاعة حقيقة قرآنية إيمانية دلت عليها الآيات القرآنية التي جعلت

القرآن والتذكير والتبشير (136)

الشفاعة لمن ارتضى مكرمة لعباده المقربين إليه الذين أراد الله أن يكرمهم بالشفاعة لمن أراد الله أن يغفر لهم ويرفع درجتهم في الآخرة، ولا قيمة للحديث عن منافاة ذلك للتوحيد واقترابه من الشرك، إذ التوسل بهؤلاء المقربين طلبا للشفاعة منهم إلى الله ليس توسلا شخصيا موجها إليهم في خصائصهم الذاتية، بل هو طلب من الله بقضاء الحاجة بكرامتهم عنده وأن يشفعهم به، بما لهم من درجة الشفاعة إليه من خلال ما جعله من ذلك.

قال آخر: فليس للعبد ـ وإن كان نبيا ـ أي شأن ذاتي أو قدرة شخصية في ذلك، وليس هناك أي توجه نحوه، إلا من خلال ما جعله الله من ذلك على طريقة استغفار الرسول لهم وطلبه من الله أن يغفر لهم ويقضي حاجتهم.

قال آخر: والآية الكريمة تذكر ـ كذلك ـ أهمية التقوى وضرورتها في السير إلى الله؛ فتقوى الله هي مطلوب كل مؤمن بالله، ورغيبة كل طامع في رضا الله، ساع إلى مرضاته.. ولهذا أمر الله تعالى الذين آمنوا، بالتقوى، في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة:35].. فليس الإيمان ـ مجرد الإيمان ـ هو الذي يطلب من المؤمن، ليكون في عباد الله المؤمنين، وإنما الذي يحقق الإيمان، وينضج ثمرته، هو ﴿التَّقْوَى﴾

قال آخر: والتقوى هي اجتناب محارم الله، وامتثال أوامره، أو هي كما عرفها بعض العارفين: (ألا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك)

قال آخر: والتقوى على تمامها مطلب صعب المنال، غالي الثمن، لا يقدر على الوفاء به إلا من رزقه الله قوة الإيمان، وثبات اليقين، ووثاقة العزم.. وتلك هي بعض الوسائل التي يتوسل بها إلى التقوى، ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة:35] معطوفا على قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة:35]، أي اتقوا الله بابتغاء الوسائل المؤدية إلى التقوى.

القرآن والتذكير والتبشير (137)

قال آخر: وتقوى الله، ووسائلها التي تتحقق بها هي وسائل موصلة إلى الله، مدنية من رضاه ومغفرته.. فليست التقوى مقصودة لذاتها، وإنما هي مرادة لما هو أولى بالمؤمن أن يتعلق به، ويعمل له، وهو القرب من الله، والنزول في رحاب رضوانه.

قال آخر: فابتغاء وسائل التقوى هو في الحقيقة ابتغاء للوسائل المؤدية إلى رضى الله، ومن ثم كان عود الضمير إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى التقوى، التي هي بدورها وسيلة إلى التقرب من الله.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾ [المائدة:35] دعوة إلى الجهاد في سبيل الله بكل أنواعه.. وهو من الجهد، وهو المشقة والتعب، وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة، وكل جهد في الدفاع عن الحق وحمل الناس عليه فهو جهاد في سبيل الله.

قال آخر: أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها، وحملها على النصفة والعدل في جميع الأحوال، وجاهدوا أعدائي وأعداءكم، وأتبعوا أنفسكم في قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة.

قال آخر: ومعنى الجهاد في سبيل الله يتضمن الطريق المستقيم الذي ينتهي إلى الغاية العليا من شرائع النبوة، وهو السبيل الذي يكون فيه صلاح الإنسان، ودفع الفساد في هذه الأرض، وإقامة مجتمع فاضل بين العالمين، يسعى في ظله التقي البر، ويستمتع فيه الفاجر من غير عدوان ولا فساد.

قال آخر: ومعنى الجهاد بذل أقصى الجهد في تحقيق تلك الغاية الإنسانية العليا، وهي الإصلاح في الأرض، ودفع الفساد عنها، وإقامة الحق، وخفض الباطل، وسيادة الفضيلة ودفع الرذيلة.

قال آخر: والجهاد ذو شعب، الأولى جهاد النفس، ومغالبة الأهواء والشهوات،

القرآن والتذكير والتبشير (138)

ومقاومة نزعات الشيطان، ومراقبة النفس، وسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر.. والشعبة الثانية من شعب الجهاد، العمل على تكوين رأي عام فاضل يحث على الخير، ويقاوم الشر، ويمنع الظلم، ويقيم العدل ويحمل الظالمين على الجادة المستقيمة، ويصح أن يسمى ذلك جهادا داخليا؛ لأنه حماية للأمة من الآفات الاجتماعية، ووقاية لها من الشر الذي يقع فيها، فهو جهاد لحماية المجتمع من آحاده كما أن الشعبة الأولى حماية للفرد من آفات نفسه.

قال آخر: والشعبة الثالثة من شعب الجهاد العمل على حماية المجتمع من الظلم الخارجي، ونشر لواء المحبة والمودة بين الشعوب، وجعل العدل يسود العلاقات الدولية، ومدافعة الظالمين.

قال آخر: وهذا النوع من الجهاد ذو ثلاث شعب.. أولاها، نصر الحق بين العالم بالدعوة إليه باللسان والقلم، ومقاومة الشر من أن يستشري بالدعاية للحق والعدل ودفع الظلم.. والثانية، مد الضعفاء بأسباب الحياة ومعاونتهم.. والثالثة، مقاومة الظلم بالحرب العادلة دفعا للظالمين، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:251]

قال آخر: وبما أن الجهاد هو آخر الخط المستقيم، ونهايته، وفيها غايته، وهي تحقيق مجتمع فاضل، والثمرة المرجوة من هذا هو الفوز والفلاح قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:35]، أي أن تلك هي الثمرة المرجوة لهذه النقط الثلاث التي تكون ذلك الخط المستقيم النير، وهو سبيل الله تعالى سبيل الفوز والنجاح.

قال آخر: وأطلق، فلم يقيد بفلاح الدنيا، ولا بفلاح الآخرة؛ ولذلك كان شاملا، فإن الإنسانية إذا تهذبت نفوس الآحاد فيها، فاتخذت وقاية تمنعها من سخط الله تعالى، وإذا اتجهت إلى طلب رضاه والعمل في طاعته سبحانه، وصارت لا تعمل إلا لله تعالى وابتغاء

القرآن والتذكير والتبشير (139)

مرضاته، وجاهدت لإعلاء كلمة الحق في شتى نواحيه، وترابطت برباط المودة والمحبة والعدل والفضيلة ـ إذا كانت الإنسانية كذلك ـ عم الصلاح واندفع الفساد، وتحققت خلافة الإنسان فيها.

قال آخر: والرجاء في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:35] من الناس لا من الله، أي أن المؤمنين إذا اتقوا الله وطلبوا مرضاته وجاهدوا في سبيله، كانت حالهم حال من يرجو الفوز، بل إن عليهم أن يرجوه، لأنهم ساروا في طريقه، وأنه يتميز رجاء المؤمنين حينئذ عن خيبة الكافرين الذين لم يسيروا في ذلك الخط المستقيم؛ ولذا ذكر سبحانه حالهم في مقابل حال المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة:36]

قال آخر: ففي هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، فالمؤمنون يفوزون في الدنيا بنعيم الاطمئنان، والإحساس بالرضوان من الله تعالى، ونصره سبحانه، وتأييده، وفوز الآخرة بالنعيم المقيم، أما الكافرون، فإنهم إن نالوا ظاهرا من الحياة الدنيا، يستقبلهم في الآخرة عذاب مقيم دائم مستمر.. ولو وزنت الدنيا بحذافيرها، وكل ما فيها بعذاب يوم القيامة، ما ساوت شيئا في جانبه وإنهم لو ملكوا الدنيا بما فيها، وأرادوا أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب القيامة، ما قبل منهم ذلك، بل يرد عليهم ما يقدمون.

قال آخر: والنداء في الآية الكريمة موجه للمؤمنين بوصف أنهم مؤمنون؛ لأن مقتضى الإيمان أن يربوا أنفسهم على الخير، وينزعوا منها نوازع الشر، وقد ذكر سبحانه وتعالى الطريق لتربية النفس وتغليب جانب الخير فيها على جانب الشر، وجانب الصلاح على جانب الفساد.

القرآن والتذكير والتبشير (140)

قال آخر: وهنا مسألة لفظية نشير إليها الآية الكريمة، وهي تقديم الجار والمجرور في قوله جل جلاله: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة:35]، فالتقديم هنا للقصر، والتخصيص، والمعنى اطلبوا برغبة وشدة إلى الله وحده الوسيلة إليه والتقرب، فلا تطيعوا سواه إلا في ظل طاعته، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه، فإنه لا تقرب لسواه، ولا محبة إلا لأجله، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (حتى يحب الشيء لا يحبه إلا الله)(1)، فالحب لله والبغض لله هما أقوى دعائم الإيمان، وأن المؤمن يتوسل إلى الله تعالى بالقربات التي شرعها، حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويمتلئ قلبه ونفسه بنوره، فيكون ربانيا.

آية ومعان:

قال الأستاذ(2): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57]

قال أحد الطلبة: المشار إليه هنا باسم الإشارة ﴿أُولَئِكَ﴾ هم المؤمنون الذين يعبدون الله، إلها سميعا بصيرا مجيبا في مقابل أولئك المشركين الذين يدعون خشبا مسندة، أو أحجارا منحوتة.. لا تسمع ولا تبصر.. وشتان بين دعاء ودعاء، وفي الإشارة إلى المؤمنين من غير ذكرهم، تنويه بهم، ورفع لمنزلتهم، وأنهم أعرف من أن يعرفوا.

قال آخر: وقد يراد بهم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء:55] وتعلق هذا الكلام بما سبق، هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم أحق

__________

(1) البخاري، فتح الباري: 1/ 72.

(2) التفسير القرآني للقرآن (8/ 505)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (9/ 34)، ومنية الطالبين، 16/ 479، ومن وحي القرآن: (1/ 65)

القرآن والتذكير والتبشير (141)

فلا تعبدوا غير الله تعالى(1).

قال آخر: وقد يراد بهم معبودات المشركين، والتي وصفت بأوصاف المخلصين من العباد، فهم يعبدون الله لغاية التقرب، ويبحثون عن أقربهم إلى الله حتى يقتدوا به، كما يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.. فإذا كانت آلهتهم المكذوبة بهذه الصفات فأولى لهم أن يكونوا مثلهم.. فالضمائر الستة ترجع إلى الآلهة المكذوبة التي دل عليها لفظ ﴿أُولَئِكَ﴾ إلا ضمير ﴿يَخَافُونَ﴾ يرجع إلى المشركين.

قال آخر: وبذلك يكون قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء:57] خبر لقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ [الإسراء:57].. أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، هم عباد من عباد الله المؤمنين به، يبتغون رحمته ويتخذون الوسائل إلى مرضاته بالطاعات والعبادات، وهم أبدا على رجاء في رحمته، وخشية من عذابه، كما قال تعالى فيهم: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل:50]، وقال: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:19ـ20]

قال آخر: وهذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين، حيث ذكروا أن ﴿أُولَئِكَ﴾ في الآية الكريمة إشارة إلى المعبودين للمشركين، وأن قوله: ﴿يُدْعَوْنَ﴾ بمعنى يعبدونهم.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ﴾ وفي حذف المفعول به، إشارة إلى أنهم يدعون من ينبغي أن يدعى، إذ لا مدعو ـ على الحقيقة ـ غيره، وهو الله سبحانه وتعالى.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء:57] بيان لما يدعو به

__________

(1) تفسير الرازي:20/ 232.

القرآن والتذكير والتبشير (142)

المؤمنون ربهم، وهو أنهم يدعونه مسبحين بحمده، شاكرين لفضله، كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف:28].. وابتغاء الوسيلة، طلبها، وإدراكها.. والوسيلة ما يتوسل به، ويتقرب به إلى الله، من عبادات وقربات.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء:57] إشارة إلى محذوف، تقديره: أيهم أقرب إلى ربه وأكثر توسلا إليه بالطاعات والعبادات.. إذ أنه كلما قرب العبد من ربه، اشتدت خشيته له، لازدياد معرفته بجلاله، وعظمته، فيشتد حرصه على مرضاته، والتفاني في العبودية والعبادة، ليزداد من الله قربا، كلما ازداد طاعة وخشوعا وعبودية.

قال آخر: وتشير الآية الكريمة إلى أن المؤمنين يحاولون التسابق في التقرب من الله تعالى، ففي طريق طاعة الله والتقرب منه اشترك هؤلاء في مسابقة معنوية، حيث يحاول كل واحد منهم أن يتقدم على الآخر في الميدان.

قال آخر: أما القول بأنهم من يسلكون أي وسيلة تقربهم من الله، فاحتماله بعيد جدا، لأن ضمير ﴿هُمْ﴾ في ﴿أَيُّهُمْ﴾، والذي يستخدم لجمع المذكر، لا يتلاءم مع هذا المعنى، بل كان يجب أن يكون ﴿أَيُّهَا﴾ ليستقيم ذلك.. بالإضافة إلى ذلك فإن جملة ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء:57] تقع على شكل مبتدأ وخبر، في حين أنها وفقا لهذا المعنى يجب أن تكون على شكل مفعول أو بدلا عن المفعول.

قال آخر: وقد استخدمت كلمة الوسيلة في القرآن الكريم في موضعين.. أولهما في هذه الآية.. والثاني في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:35]، وفي كليهما تعني (التقرب) أو الشيء الذي يبعث على التقرب، أو النتيجة التي يمكن الحصول عليها من التقرب.

القرآن والتذكير والتبشير (143)

قال آخر: على هذا الأساس فإن هناك مفهوما واسعا جدا لكلمة ﴿الْوَسِيلَةَ﴾ يشمل كل عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة أخرى، لأن كل هذه الأمور تكون سببا في التقرب من الله.

قال آخر: ولهذا قال الامام علي في بعض خطبه: (إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت واعتماره، وصلة الرحم، وصدقة السر، وصدقة العلانية، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان)(1)

قال آخر: وشفاعة الأنبياء والصالحين والمقربين التي تكون مقبولة لله تعالى، كما تصرح بذلك الآيات القرآنية، وتعتبر أيضا من وسائل التقرب.. وينبغي هنا عدم التباس الأمور، إذ أن التوسل بالمقربين من الله تعالى لا يعني أن الإنسان يريد شيئا من النبي أو الإمام بشكل مستقل، أو أنهم يقومون بحل مشاكله بشكل مستقل عن الله، بل الهدف هو أن يضع الإنسان نفسه في خطهم ويطبق برامجهم، ثم يطلب من الله بحقهم، حتى يعطي الله إذن الشفاعة لهم.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء:57] بيان للدوافع التي تدفع المؤمنين إلى دعاء الله سبحانه، وإلى ابتغاء الوسيلة إليه، وهو الطمع في رحمته، والخوف من عذابه.. وتلك هي الحال التي ينبغي أن تقوم عليها الصلة بين العبد وربه وهي منزلة بين الرجاء والخوف.. فالرجاء يدفع المؤمن إلى الإحسان، والتزام الطاعات.. والخوف، بحرسه من العدوان على محارم الله، ومواقعة الآثام والمعاصي.

__________

(1) نهج البلاغة، الخطبة (110)

القرآن والتذكير والتبشير (144)

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57] تعقيب على قوله: ﴿وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء:57] إشارة إلى أن هذا العذاب شديد، حيث يقع بأهله، لا يدفعه عنهم من الله دافع، وهو لهوله وشدته، يحذره ويتوقى الدنو منه، كل من يطلب الأمن والعافية لنفسه.

قال آخر: ولم يأت في النظم القرآني تعقيب على قوله تعالى: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾ [الإسراء:57] كما جاء التعقيب على قوله سبحانه: ﴿وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء:57]، لأن أكثر ما يؤتى الناس من استخفافهم بعذاب الله، أو غفلتهم عنه.. أما الرجاء في مغفرته ورحمته؛ فالناس جميعا واقفون على باب الرجاء، حتى أن أكثرهم عصيانا لله، ومحادة له يتخذون من الطمع في رحمة الله، مدخلا يدخلون به على المعاصي في جرأة فاجرة.

قال آخر: وقد ضرب الله تعالى المثل على ذلك بصاحب الجنتين الذي كفر بربه، وقال لصاحبه، وهو يخاطبه: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف:36]، وهذا مكر مع الله، وتغرير بالنفس.. فمن يرجو ويطمع في رحمة الله، يجب أن يكون ممن يخشاه، ويتوقى محارمه.. فإذا زل، كان طمعه في الله قائما على منطق.. والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56]

قال آخر: وفي الآية الكريمة إشارة إلى الدوافع الروحية التي تدفع المؤمن إلى العبادة.. ذلك أن هناك الدوافع المتحركة من خلال الرغبة في الحصول على الجنة، على أساس الحصول على رضاه، وهناك الدوافع المنطلقة من خلال الرهبة من النار، على أساس البعد عن مواقع سخطه، وهناك الدوافع المنفتحة على الله في مواقع ألوهيته في عظمته في كل صفاته الجمالية والجلالية، على أساس استحقاقه للعبادة في ذاته، بعيدا عن عامل الرغبة أو الرهبة.

القرآن والتذكير والتبشير (145)

قال آخر: وقد يُخيل لبعض الناس أن العبادة الحقيقة تتمثل في الصنف الثالث، لأنها المظهر الحي للخضوع للذات الإلهية، من دون أن يكون هناك أي شيء للعنصر الذاتي للعابد، فيما يحتاج إليه من ربح لمصلحته، أو فيما يبتعد عنه من خسارة لحساب حاجته، فإن الرغبة والرهبة حالتان إنسانيتان تحركان الإنسان نحو ذاته حتى في انفتاحه على الله، أكثر مما تحركانه نحو الله في مواقع ألوهيته.

قال آخر: وهذا ما يشير إليه قول الإمام علي: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار)(1)، ومثل ذلك قوله: (إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(2)، ففي هذه اللفتة التعبيرية إشارة إلى أن الإنسان الذي ينطلق من الرغبة إنسان تاجر يتحرك من الذهنية التجارية، كما أن الذي ينطلق من الرهبة عبد يتحرك من عقلية العبيد الهاربة من كل عقاب، وبذلك، فهما ليستا حالتين في العبادة، بل هما حالتان ماديتان في الاستغراق الإنساني في ذاته، فيما يجلب لها من النفع أو يدفع عنها من الضرر.

قال آخر: ومع ذلك، فليس في ذلك نفي للرغبة والرهبة مطلقا، ذلك أن الخوف والطمع لا يتنافيان مع المعنى العميق للعبادة، لأن الخضوع الإنساني المستغرق في ذات الله المعبود، ينطلق من التفكير في عظمته بحيث يشعر بأنه مشدود إليه في وجوده، ومفتقر إليه في حاجاته، وخاضع له في مصيره، وبذلك، فإن الرغبة أو الرهبة ـ بالمعنى المطلق ـ لا تتعلقان إلا بالذي يملك الأمر كله، من خلال أنه يملك الوجود كله، بحيث لا يغيب عنه شيء منه

__________

(1) نهج البلاغة، قصار الحكم / 237.

(2) عوالي اللآلئ 2/ 11.

القرآن والتذكير والتبشير (146)

ولا يعجز عن شيء فيه، ولا يعجزه أحد من المخلوقين.

قال آخر: ولا سيما إذا كانت مواقع الرغبة أو الرهبة خارجة من دائرة الحس وداخلة في دائرة الغيب، مما لا يتمكن أحد من المخلوقين الوصول إليه، كما هي الجنة والنار.

قال آخر: وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من وعي مسألة العظمة في عمق مسألة الحاجة، على أساس أن ذلك هو الذي يجعله أهلا للعبادة، لأنه الذي يرجع إليه في كل شيء ولا يرجع إلى غيره إلا من خلاله، ولأنه الذي يخاف منه كل شيء، ولا يخاف من أحد إلا من خلاله.

قال آخر: وبذلك يختزن الخوف منه والطمع فيه معنى أهليته للعبادة، الأمر الذي لا يسيء إلى معنى العبادة بل يؤكدها بطريقة أخرى.

قال آخر: وقد جاء في القرآن الكريم التأكيد على استقامة العبادة في هذا الخط، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا﴾ [السجدة:16]، وقوله: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56]، وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء:57]

قال آخر: وعلى هذا الأساس، تنطلق التربية الإسلامية لتؤكد على الجانب الإنساني في التطلعات الذاتية التي يعيشها الناس فيما يتحركون فيه من قضايا وأوضاع، على أساس رغبتهم بما يصلحهم، وخوفهم مما يفسد أمورهم، فإن من الصعب عليهم أن يتجردوا عن ذلك في حركة وجودهم المنفتح على العنصر المادي، من خلال طبيعة الحس المادي في الذات، ولذلك، فقد انفتح الإسلام على هذا الجانب، فلم يبعد الإنسان عنه، ولم يجعله ضد القيمة الروحية، بل وجهه إلى الارتباط بالله في مواقع الرغبة والرهبة على مستوى الدنيا والآخرة، وفي ما هي قضايا النعمة والبلاء في الدنيا، وقضايا الجنة والنار في الآخر، على

القرآن والتذكير والتبشير (147)

صعيد سلامة الذات فيما تحتاجه وفي ما تخاف منه، مما جعل الحس الإنساني الواقعي يلتقي بالقيمة الروحية المنفتحة على الله من خلال حركة الحياة في الوجود الإنساني.

قال آخر: وهذا هو المنهج الإنساني في تهذيب دوافع الإنسان في العمل بدلا من إلغائها، ليتحرك الإنسان من خلال الواقع لا من خلال المثال.

قال آخر: وربما كان من فوائد هذا الاتجاه في العبادة، على صعيد الدوافع الذاتية المتصلة بقضايا الإنسان في تطلعاته إلى الله، أنه يؤكد الشعور بحضور الله الدائم المتحرك في كل مفردات الحياة الإنسانية، من خلال كل الحاجات المتفرقة في الحياة اليومية، بشكل شمولي، والتي يحتاج فيها إلى رعاية الله وعنايته، لارتباطه بالله بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا يغيب عنه الإحساس بالله من خلال أنه لا يغيب عن كل مواقع حياته التفصيلية في جزئياتها وكلياتها.

قال آخر: كما أن ذلك يحرك المضمون العقيدي في داخل إحساسه، فيما يختزنه في داخل عقله من التدبير الإلهي لكل شيء من أمور الإنسان، على أساس علاقة كل شيء به، فتنمو العقيدة في دائرة نمو الحاجات، وتتأكد الطمأنينة النفسية في ذلك كله، من خلال الثقة بالله، الرحمن الرحيم، في حالة الشدة والعسر. فقد ورد أنه: (من أراد أن يكون أغنى الناس، فليكن واثقا بما عند الله جل وعز)، وروي: (فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه)(1)، وبذلك تستريح حاجاته في حركتها في دائرته الشعورية عندما يستريح إيمانه بالله في دائرته العقيدية والروحية.

قال آخر: وإذا كانت الآية الكريمة قد أكدت على التوحيد في العبادة، فقد أكدت

__________

(1) بحار الأنوار: 68/ 440.

القرآن والتذكير والتبشير (148)

على التوحيد في الاستعانة؛ فإذا كان الله لا يريد لنا أن نعبد غيره، فإنه لا يريد لنا أن نستعين بغيره، لتكون الاستعانة به وحده.

قال آخر: وفي الآية الكريمة إشارة إلى ضرورة التوحيد في الاستعانة بالله، وهو لا يعني أن الإنسان لا يملك الاستقلال في أموره، وبالتالي لا بد له من الاستعانة بالله في كل شيء، ليكون فعله مظهرا لفعل الله، فتكون نسبته إلى الله هي النسبة الحقيقية، بينما تكون نسبته إلى نفسه بالطريقة الآلية أو الشكلية.. ذلك أن هذا المعنى يلغي عنصر الاختيار في الإنسان، فيبطل الثواب والعقاب على هذا الأساس.

قال آخر: وإنما يعني أن الإنسان يملك القدرة على الفعل، ولكن من حيث ما أعطاه الله، مع بقاء الارتباط بالله مستمرا في حركة هذه القدرة في وجوده، فهو الذي يمدها بالقوة في طبيعتها، وهو القادر على أن يأخذها منه، فيكون للفعل نسبة إلى الله من خلال أن إرادته هي عمق القوة في قوة الإنسان وحركته، فلولاه لما وجد ولما تمكن من الحركة، ولما استمر في ممارسة إرادته الحركية، كما يكون للفعل نسبة إلى الإنسان الفاعل باعتبار صدوره منه من خلال إرادته المنطلقة من مواقع قوته الكامنة في طبيعة وجوده.. وهذا المعنى يؤكد الاختيار كما يؤكد الإرادة الإلهية في المعونة التكوينية في البدء والاستمرار.

قال آخر: وهذا ما يريد الله للإنسان أن يعيشه في وجدانه العقيدي، وفي إحساسه الروحي، فلا ينحرف به إحساسه بالحركة الإرادية، في وجوده، عن الخط المستقيم في العقيدة الذي يحركه نحو الإحساس بفقره إلى الله، وحاجته إلى إمداده بعناصر البقاء في حركة وجوده، بحيث يستعين به بمنطق وجوده التكويني الفقير إليه في كل لحظة، كما يستعين به بمنطق إحساسه بالعجز الطارئ في كل شدة، ليتأكد عنده الإحساس بالعون التكويني في مسألة الوجود، والعون العملي في مرحلة العجز.

القرآن والتذكير والتبشير (149)

قال آخر: وهذا النوع من التوحيد لا يعني أن الاستعانة بالله تتناقض مع الاستعانة بالآخرين، مما يعيشه الإنسان في كل لحظة من لحظات وجوده، في القضايا التي لا يستطيع الاستقلال فيها بنفسه، بل يحتاج ـ فيها ـ إلى مشاركة الآخرين، أو في القضايا التي لا يستطيع ممارستها بنفسه، بل يحتاج إلى ممارسة الآخرين لها في حياته.

قال آخر: ذلك أن الإنسان لا يستغني عن غيره في تفاصيل وجوده، كما لم يستغن عن غيره في أصل وجوده الفعلي الذي كان محتاجا فيه إلى أبويه، باعتبارهما العنصرين اللذين يدخلان في السبب المباشر للوجود.. وهناك أشياء كثيرة مما لا بد من أن تصدر عن الآخرين بالمشاركة معه، أو بالانفراد، وقد لا يعقل أن يكلف الله الإنسان بأن يبتعد، بتصوره العقيدي، عن هذا الخط، لأنه ليس مقدورا له.

قال آخر: وبذلك، فإن المراد بتوحيد الاستعانة أن يكون منطلقا من إحساس الإنسان بأن الله هو أساس كل قدرة، لأنه من مواقع قدرته كانت قدرتنا على من حولنا وما حولنا، فيما منحنا، سبحانه وتعالى، من ذلك.. وإذا كنا نحتاج إلى مباشرة بعض أفعالنا بمشاركة الآخرين أو بواسطتهم، فإننا نشعر بأن الله هو الذي هيأ لنا ذلك، وهو الذي يمنحهم القدرة على فعل ذلك، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:17]، فإن المقصود فيها ليس المعنى المباشر للرمي من الله سبحانه وتعالى.

قال آخر: وبذلك، فإن القاعدة في العقيدة الإسلامية التوحيدية، تنطلق من الإيمان بأن كل ما في الوجود مظهر لقدرة الله، ووسيلة من وسائل تدبيره للكون، فليس هناك استقلال لأحد فيما هو الغنى الذاتي، بل هناك الغنى المستمد من غنى الله فيما يتحرك به كرمه للمحتاجين من عباده.. ولذلك، بطل التفويض الذي ينطلق من الفكرة الفلسفية القائلة:

القرآن والتذكير والتبشير (150)

(إن الله خلق الخلق ثم فوض إليهم تدبير أمورهم بأنفسهم، بحيث يخلقون أفعالهم من موقع قدرتهم الذاتية من دون أن يكون لله دخل في ذلك)، فإن هذه الفكرة توحي بتعدد الخالق، وانعزال الله عن التصرف في حركة الكون.

قال آخر: ومن خلال ذلك، كان الاعتراف بالتوحيد في الاستعانة، يمثل الإقرار العميق بأن العبد لا يستطيع أن يتحرك إلا من خلال ما يمده الله به من معونة، فيما يملكه من شمولية القدرة في كل مصادرها ومواردها، سواء كانت متمثلة بالقوى البشرية أو الحيوانية أو الجامدة.

قال آخر: وهذا ما يؤكد وحدة التوجه إلى الله والتوسل به، مما يجعل الشخصية الإسلامية مرتبطة به ـ وحده ـ حتى في مواقع حاجاتها الطبيعية المرتبطة، في حركتها الكونية، بقانون السببية، في علاقة الظواهر بأسبابها الكونية أو الاختيارية، فلا تكون الأسباب واسطة في الإرادة، بل هي واسطة في حركة الوجود في علاقة الأشياء ببعضها البعض.

قال آخر: ونلاحظ في الارتباط الإنساني بوحدانية العبادة والاستعانة في خطاب العبد لربه في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، ذلك أن الإنسان لا يحتاج، في حديثه مع الله، وفي طلبه منه، إلى أية واسطة من بشر أو غيره، لأن الله لا يبتعد عن عبده، ولا يضع أي فاصل بينه وبينه، إلا ما يضعه العبد من فواصل تبعده عن مواقع رحمته، وتحبس دعاءه عن الصعود إلى درجات القرب من الله، ولذا أراد من عباده أن يدعوه بشكل مباشر ليستجيب لهم، وحدثهم عن قربه منهم بحيث يسمع كلامهم، وإن كان بمثل الهمس أو في مثل وسوسة الصدور، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾

القرآن والتذكير والتبشير (151)

[ق:16]

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [المؤمنون:54ـ62]

قال أحد الطلبة: بعد أن ذكر الله تعالى ما حدث من أمم الأنبياء السابقين من التفرق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة، ومن فرحهم بما فعلوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركهم في جهلهم الذي لا جهل فوقه، لأنه لا ينجع فيهم النصح، ولا يجدي فيهم الإرشاد فقال: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون:54] أي فذرهم في غيهم وضلالهم إلى حين يرون العذاب رأى العين.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق:17] وقوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر:3].. وقد جُعلوا في غمرة تشبيها لحالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء وغطاه.

قال آخر: ثم بين خطأهم فيما يظنون من أن سعة الرزق في الدنيا علامة رضا الله عنهم في الآخرة فقال: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون:55ـ56]، أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد،

__________

(1) تفسير المراغي (18/ 31)، والتفسير القرآني للقرآن (2/ 649)، و(9/ 1147)، ومنية الطالبين، 19/ 96، ومن وحي القرآن: (16/ 166)

القرآن والتذكير والتبشير (152)

كرامة لهم علينا وإجلالا لأقدارهم عندنا.. كلا، إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا في المعاصي، واستجرارا لهم إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات، إذ هم أشبه بالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في أنه استدراج هو أم مسارعة في الخيرات.

قال آخر: ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ:35]، وقوله: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [التوبة:55]، وقوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران:178]، وقوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران:178]

قال آخر: وفي ذلك تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين، وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدم للحيوان من طعام، كي يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد:12]

قال آخر: فالله تعالى إنما يملى لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمه وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب الله، وحرب أولياء الله، فكانت عليهم بلاء ووبالا.

قال آخر: هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شيء، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.. وفي هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوى صلتهم بالله، ويزيد في حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين.. أما الكافرون فقد يستمع مستمعهم

القرآن والتذكير والتبشير (153)

إلى آيات الله تلك، التي تعرض الكفر وأهله في هذا العرض المخيف، ويرى منه المصير الذي ينتظره، فيرجع إلى نفسه، ويعدل عن موقفه، ويصالح ربه بالإيمان به، والموالاة لأوليائه.

قال آخر: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى هذا: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشه وظلمه)(1)

قال آخر: وقال الإمام علي: (فلا تعتبروا الرضى والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة، والاختبار في موضع الغنى والاقتدار، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون:55ـ56]، فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم)(2)

قال آخر: ثم عرض الله تعالى الصورة الكريمة، التي يكون عليها الذين يسارعون في الخيرات حقا، ويملؤون أيديهم منها، ويكون لهم فيها زاد طيب في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:57ـ61]

قال آخر: وأول صفاتهم أنهم ﴿الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون:57] أي أنهم من خوفهم من عذاب ربهم دائبون في طاعته، جادون في نيل مرضاته، فهم في نهاية

__________

(1) الحاكم 2/447، والبيهقي في "الشعب" (5524)

(2) نهج البلاغة: الخطبة:192 (القاصعة)

القرآن والتذكير والتبشير (154)

الخوف من سخطه عاجلا، ومن عذابه آجلا، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي.

قال آخر: والخشية هي الخوف من العقاب والإشفاق نهاية الخوف.. أو أن الخشية هي الخوف مع التعظيم، وليس مجرد الخوف، وأما الإشفاق فمعناه القلق وعدم سكون النفس من أن تقبل طاعاتهم فصاروا حريصين على الطاعة.

قال آخر: وهي تعني أن هؤلاء الذين عاشوا عظمة الله في عقولهم ووجدانهم، واستشعروا محبته في قلوبهم، وأشفقوا على أنفسهم من خشيته، لأن للعظمة بعدا للحب يدفع للطاعة، وبعدا آخر يدعو للخوف من المعصية.. وهكذا كان هذا الإشفاق المتحرك من موقع الخوف من الله، لا يتمثل في الجانب الشعوري من حياتهم فقط، ليكون مجرد حالة انفعالية طارئة، بل يتمثل في الجانب العملي من سلوكهم أيضا بحيث يصبح برنامجا عمليا للحياة في خط القرب من طاعة الله، والبعد عن معصيته.

قال آخر: ومن صفاتهم أنهم ﴿الَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:58] أي والذين هم بآيات ربهم الكونية التي نصبها في الأنفس والآفاق دلالة على وجوده ووحدانيته، وبآياته المنزلة على رسله ـ مصدقون موقنون، لا يعتريهم شك ولا ريب.

قال آخر: أي أنهم تطلعوا إلى كل مظاهر الحياة، في الكون وفي الإنسان، في أجهزة جسمه، وانطلاقة عقله وروحه، وفكروا في تلك الآيات تفكير الباحث عن الحقيقة، وتعمقوا في أسرارها ليعرفوا دقة الصنع، وإعجاز الوجود، وقارنوا فيما بينها، ووقفوا على سر الوحدة فيها، فعرفوا أن الله وحده هو خالق ذلك كله، ومبدعه ومدبره، وبذلك كان الإيمان بالآيات مقدمة للإيمان بالله.

قال آخر: وهنا تحدد قيمة المعرفة الكونية في حساب الإيمان، فهي ليست حركة عقلية مجردة للاستغراق داخل الفكرة، بل انطلاقة فكرية وروحية، ينفتح الإنسان بها على عالم

القرآن والتذكير والتبشير (155)

آخر يلتقي من خلاله بالله.. فالإيمان لا يرتبط بالحقيقة بطريقة ساذجة، بل يلتقي بها من خلال إعمال الفكر، وتحصيل العلم، لتشكيل قاعدة علمية وعقلية متينة يستند عليها.

قال آخر: ومن صفاتهم أنهم ﴿الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون:59] أي والذين لا يعبدون مع الله سواه، ويعلمون أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له صاحبة ولا ولد.

قال آخر: وكيف يشركون به وهم يرون في آياته المنتشرة في الكون، أن كل ما في الكون مخلوق له، خاضع لإرادته، بوجوده المحدود الذي ينطق بالحاجة إليه، فكيف يكون شريكا له في الألوهية، وكيف يمكن للناس أن يجعلوه شريكا له في العبادة، وهو لا يملك أية خصوصية يستحق بها ذلك، بل على العكس، يملك ما يبعده عن ذلك؟

قال آخر: ومن صفاتهم أنهم ﴿الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60] أي والذين يعطون ما أعطوا، ويتصدقون بما تصدقوا، وقلوبهم خائفة ألا يتقبل ذلك منهم، وألا يقع على الوجه المرضى حين يبعثون ويرجعون إلى ربهم، وتنكشف الحقائق، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه وإن قل، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7ـ8]

قال آخر: أي هؤلاء الذين يعيشون حس الطاعة بشكل مرهف، فيدققون في دوافع كل عمل يأتون به كي لا يدخله الشرك الخفي، ويفحصون جزئياته كي لا يقعوا في الخطأ أو يتجاوزوا بعض الحدود من خلاله.. فإذا أتوا بعملهم ذاك إنفاقا كان أو قولا أو غير ذلك، نجدهم خائفين مشفقين، ألا يقبل الله منهم عملهم ذلك، وأن يحاسبهم عليه إذا رجعوا إليه ووقفوا أمامه ساعة الحساب، حذرا من غفلتهم عن بعض دقائقه وخفاياه.

قال آخر: ويستعمل الإيتاء غالبا في فعل الخير مثل قوله تعالى: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾

القرآن والتذكير والتبشير (156)

[لقمان:4]، وقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة:177] وقوله: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الكهف:65].. ويستعمل الإتيان في فعل الشر غالبا، كما في قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [النمل:54]، وقوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوت:29].. وقد جاءت الآية هنا بلفظ (الإيتاء).. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60]

قال آخر: ويدخل في قوله تعالى: ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ [المؤمنون:60] كل حق يلزم إيتاؤه، سواء أكان من حقوق الله كالزكاة والكفارة وغيرها أم من حقوق العباد كالودائع والديون والعدل بين الناس، فمتى فعلوا ذلك وقلوبهم وجلة، من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره اجتهدوا في أن يوفوها حقها حين الأداء.

قال آخر: وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟ فقال: (لا، ولكن هو الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل ذلك منه)(1)

قال آخر: وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان:8ـ10]، وقد روي عن الإمام السجاد أنه كان في التلبية وهو على راحلته، فخر مغشيا عليه، فلما أفاق، قيل له ذلك، فقال: (خشيت أن يقول لي ربي: لا لبيك ولا سعديك)(2)

__________

(1) الحميدي (275)، والترمذي (3175)

(2) شرح نهج البلاغة لابن ميثم:3/ 421.

القرآن والتذكير والتبشير (157)

قال آخر: وقد يبدو في ترتيب هذه الصفات تقديم وتأخير، وأنها لم تلتزم الترتيب الطبيعي، تصاعدا أو تنازلا، فمثلا، قد يتوهم أن الإيمان بآيات الله ينبغي أن يسبق الخشية من الله، وكذلك عدم الشرك بالله، وهو سابق للخشية من الله، حيث لا تكون الخشية لله إلا من قلب مؤمن بالله، وبآيات الله.. وهذا غير صحيح، فهذه الصفات، وإن أمكن أن تلتقى جميعها في قلب المؤمن بالله، إلا أن المؤمنين على حظوظ مختلفة منها.. فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من الله، وبعضهم يؤمن بآيات الله، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من الله في قلبه.. وبعضهم يعترف بوجود الله، ويقر بوحدانيته إقرارا عقليا، كالفلاسفة ونحوهم، ولا يتلقون عن الرسل، ولا يأخذون مما معهم من آيات الله.. وبعضهم يؤمن بالله، وبآيات الله، وبرسل الله.. ثم يؤتون ما آتوا من طاعات وعبادات وهم في صراع مع أنفسهم، وفي خوف من لقاء الله أن يكونوا قد قصروا.

قال آخر: فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير، ويجاهدوا أنفسهم لتحصيل الخير، حيث يحمل كل منهم في كيانه شرارة من شرارات الإيمان يمكن أن تنقدح في حال من الأحوال، ما دام على أية صفة من تلك الصفات، فتشرق نفسه بنور الله، وإذا هو ـ شيئا فشيئا ـ على هدى من ربه، وعلى طريق الخير والإحسان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:201]

قال آخر: وهذه الأصناف من المؤمنين ـ على قربها أو بعدها من الإحسان ـ يشدها جميعها إلى النجاة، والفلاح، الإيمان بالله.. وحيث يكون الإيمان بالله، فإنه يكون الأمل والرجاء في السلامة والنجاة، وحيث يتعرى الإنسان من الإيمان فإنه لا أمل ولا رجاء في سلامة أو نجاة، وإن فعل أفعال المؤمنين المحسنين.

قال آخر: ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين اجتمعت لهم كل هذه الصفات بقوله:

القرآن والتذكير والتبشير (158)

﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:61].. أي أن هؤلاء المؤمنين الذين تحققت فيهم تلك الصفات جميعها، هم أهل لأن يسددوا ويرشدوا، وأن يكونوا يوما من السباقين إلى الخير، ما داموا في صحبة الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي يقيم في كيانهم نورا يطلع عليهم كلما أظلمت سماؤهم، وظللتها سحب الفتن والأهواء.. فالإيمان بالله، هو المعتصم، ولا معتصم غيره، إذا استمسك به الإنسان فقد ضمن النجاة والفلاح.. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران:101]

قال آخر: وهي تشير إلى أن أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا، ويتعجلون في الدنيا وجوه الخيرات العاجلة التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة في نحو قوله: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران:148] وقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت:27]

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:61] إشارة إلى أنهم يرغبون في الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منا لهم، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به وعدم الرياء في العمل والتصديق مع الخوف منه.

قال آخر: ومعنى ﴿هُمْ لَهَا﴾ [المؤمنون:63] أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، كقولك لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره: أنت لها.. وكقول الشاعر:

مشكلات أعضلت ودهت يا رسول الله أنت لها

 قال آخر: وقد عقب الله تعالى تلك الصفات بقوله: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا

القرآن والتذكير والتبشير (159)

وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [المؤمنون:62]، أي أنه ربما يُتصور أن ما يقوم به هؤلاء من الأعمال الكبيرة ربما يكون فوق الطاقة، ولذلك رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [المؤمنون:62]: أي كل يعمل في ميدان المباراة حسب طاقته، فالثري ينفق حسب طاقته، وغيره ينفق حسب ما يجد.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:113ـ115]

قال أحد الطلبة: بعدما تضمنت الآيات الكريمة السابقة الذم لليهود، بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن الكريم ـ كما هو شأنه دائما ـ يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كل من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحق، ولهذا قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران:113]

قال آخر: أي ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم

__________

(1) زهرة التفاسير (3/ 1366)، والتفسير القرآني للقرآن (2/ 560)، وتفسير المراغي (4/ 35)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (2/ 653)

القرآن والتذكير والتبشير (160)

وممارساتهم، ويحترم ويمدح كل من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحق والإيمان.

قال آخر: وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب، حيث يقول: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:75]، ويقول: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف:159]

قال آخر: وهذا هو منهج الإسلام الذي لا يعادي أحدا على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحق والعدل والخير، لا غير.

قال آخر: وهكذا، فقد فرق القرآن بين اليهود والنصارى، إذ كان موقفهم من الإسلام والمسلمين مختلفا، حيث كان اليهود في وجه عداوة ظاهرة وخفية لدعوة الإسلام ولرسول الإسلام، كما كانوا على كلمة سواء في الكيد لها والمكر بها، على حين كان النصارى على درجات متفاوتة في موقفهم من تلك الدعوة.. تلقاها بعضهم فآمن بها، ودخل فيها، وصار من أهلها.. وتلقاها بعض آخر متوقفا مترفقا، ومباعدا مقاربا.. أما أكثرهم عنادا وأشدهم مجافاة، فقد أنكر الدعوة، ونأى بنفسه عنها.. لا ينالها بسوء، ولا تناله هي بخير.

قال آخر: وقد فسر ذلك ووضحه قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ [المائدة:82ـ84]

قال آخر: وقد جاء قول الله هنا محددا موقف كل من الفريقين من الإسلام؛ فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وهم والمشركون على سواء في هذه العداوة، مع أنهم أهل

القرآن والتذكير والتبشير (161)

كتاب، يلتقي كتابهم ونبيهم مع كتاب الإسلام ونبي المسلمين، بنسب قريب، قريب.

قال آخر: والنصارى ـ لأنهم أهل كتاب ـ هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، إذ خلت نفوسهم من الحقد والحسد للناس، ولأنهم لا يرون احتجاز الخير السماوي عليهم وحدهم، حيث سمحت النصرانية لأن يدخل فيها الناس جميعا من جميع الأجناس والشعوب، على حين احتجزت اليهودية ما نزل من خير سماوي على اليهود.. لا يسمحون لأحد من غير اليهود أن يدين بدينهم أو أن يصبح في المؤمنين به.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ [آل عمران:113].. تفرقة بين أهل الكتاب، وأنهم ليسوا على وضع واحد في موقفهم من الإسلام والمسلمين.. وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين، فإنها لم تحدد أي الفرقتين من أهل الكتاب هو المتجه إليه الحكم في قوله تعالى ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:113ـ115]

قال آخر: وفي إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معا، حكمة، نتبين منها أن في كلا الفريقين من أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ جماعات قائمة على الحق، مؤمنة بالله وباليوم الآخر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. وأن كثرة كثيرة من النصارى يتجه إليهم هذا الحكم.. وقلة قليلة جدا من اليهود يدخلون في هذا الحكم أيضا.. كما يعلم ذلك من حال الفريقين الذي كشفه القرآن في الموقف الذي أشارت إليه الآيات التي ذكرناها من سورة المائدة.

قال آخر: ونرى من صدق القرآن، ودقة أحكامه، أنه لم يجعل الحكم مطلقا في النصارى، ولم يخرج منه اليهود جميعا بلا استثناء.. إذ لا تخلو فرقة من الفرقتين من أخيار

القرآن والتذكير والتبشير (162)

وأشرار، وإن غلب الأخيار في النصارى، وغلب الأشرار في اليهود.. بمعنى أنه ليس كل النصارى على إطلاقهم يقفون من الإسلام هذا الموقف المترفق المسالم، وليس كل اليهود ـ بلا استثناء فرد أو عدة أفراد ـ يكيدون للإسلام هذا الكيد، ويمكرون به هذا المكر الذي يعيش فيه اليهود مع الدعوة الإسلامية.

قال آخر: ويستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا في عبدالله بن سلام وجماعته الذين أسلموا معه، بل شمل هذا المدح من نصارى نجران ومن نصارى الحبشة وأشخاص من أهل الروم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهو كما نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.

قال آخر: وهذا ينطبق على النصارى وغيرهم الذين يهتدون بهدي الإسلام، ويرتضونه عن بينة دينا لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم وفي أمثالهم ممن يكونون في قابل الأيام: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فله أجران)(1)، وعلى هذا يكون تفسير قائمة بمعنى موجودة؛ لأنها قد وجدت حقيقة، وارتضت الإسلام دينا.

قال آخر: وهي تشمل كذلك أهل الكتاب الماضين الذين استقاموا على الحق، ولم يدركوا عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأن القرآن الكريم تكلم عن ماضي أهل الكتاب وحاضرهم، فحاضرهم كان سوءا، وذكر ماضيهم فبين أن بعضه كان سوءا وكان منهم أمة مقتصدة، فهذه الأوصاف في الأمة المقتصدة التي مضت.

__________

(1) البخاري 5 / 126 و127.

القرآن والتذكير والتبشير (163)

قال آخر: ويمكن أن تطلق على المخلصين من أهل الكتاب الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام، وكان فيهم إخلاص للحق وطلب له وإجابة لداعيه إن دعوا إليه، ويكونون داخلين بالقياس على الماضين.. وبذلك تكون آيات الكتاب التي يتلونها على ذلك هي البقية الصحيحة من كتبهم التي تشتمل على أدعية كلها توحيد وضراعة ونحو ذلك من أمثال بعض مزامير داوود، مثل ما جاء في المزمور الخامس والعشرين: (إليك يا رب أرفع نفسي، عليك توكلت، فلا تدعني أخزى، لا تشمت بي أعدائي، كل منتظريك لا يخزون، ليخز الغادرون بلا سبب، طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني، وربني في حقك وعلمني)، وأمثال هذه الأدعية والمناجاة لعلها البقية الباقية من تلك الكتب التي حرف فيها الكلم عن مواضعه.

قال آخر: وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين بصفات منها أنهم ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران:113] أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع.

قال آخر: ومنها أنهم ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [آل عمران:113] أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم، لا إيمانا لا حظ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود، إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكنه إيمان هو والعدم سواء، لأنهم يكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.

قال آخر: وفي هذا إشارة إلى أن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يجعل المؤمن يذعن للحق، ويخلص في كل ما يطلب، ولا يحب الشيء إلا لله، ويكون الله تعالى سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فلا يكون منه إلا ما يكون للحق

القرآن والتذكير والتبشير (164)

جل جلاله، وتكون كل مشاعره وأهوائه تبعا لأوامر الله تعالى ونواهيه. هذا هو الإيمان بالله.

قال آخر: أما الإيمان باليوم الآخر، فإنه يعرف به حقيقة هذه الدنيا، وأنها لعب ولهو، وزينة وتفاخر، وأنه في هذه الحياة الآخرة يلقى الله سبحانه وتعالى، وأنه إذ يلقاه يجد كل ما عمل من خير محضرا، وما عمل من شر يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، وإذا عمل حساب ذلك اللقاء ما أقدم على شر إلا مضطرا أو لماما.

قال آخر: ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدأ والمعاد ـ وصفهم الله بقوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:113] للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:113] للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم.

قال آخر: ومن صفاتهم أنهم ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران:114] أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا، يسعون في تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغي بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغي بالنهى عن المنكر، وفي هذا تعريض باليهود المداهنين الصادين عن سبيل الله.

قال آخر: وهذا هو العمل الذي يفيضون به على غيرهم، ويشعرون بأن عليهم حقا بالنسبة للحق الذي أدركوه، وهو أن يتواصوا بالحق، ويتناهوا عن الباطل، ويأمروا بالمعروف الذي تقره العقول، ولا تنكره الفطرة المستقيمة، فإن المؤمن المذعن للحق يدعو إليه، ولا يسكت على باطل ولا يرتضيه، وتلك صفة أهل الخير من أهل الكتاب، وعلى عكس ذلك أهل الشر، فإنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولذا قال تعالى في أهل الشر منهم: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

القرآن والتذكير والتبشير (165)

[المائدة:78ـ79]

قال آخر: ومن صفاتهم أنهم ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [آل عمران:114] أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأ الذين في قلوبهم مرض، كما وصف الله المنافقين بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:142]

قال آخر: والتعبير بـ (في) دون (إلى) إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال يسارعون إلى الخيرات، لكنه سبحانه وتعالى قال: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [آل عمران:114]، للإشارة إلى أن هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير، في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها، ولا يخرجون منها، فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير، فكان التعبير بـ [في] له موضعه من البيان.

قال آخر: وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفي ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك.. وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة، لأن الأولى التقدم فيما ينبغي تقديمه وهى محمودة، وضدها الإبطاء، والثانية التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (العجلة من الشيطان، والتأني من الرحمن)(1)، وضدها: الأناة، وهى محمودة.

قال آخر: ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران:114] أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين

__________

(1) الترمذي (2012)

القرآن والتذكير والتبشير (166)

صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم، رضيهم ربهم، وفي هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره.

قال آخر: والوصف بالصلاح هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام، فقال: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء:86] وقال حكاية عن سليمان عليه السلام: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل:19]

قال آخر: ولأنه ضد الفساد، وهو ما لا ينبغي في العقائد والأفعال، فهو حصول ما ينبغي في كل منهما، وذلك منتهى الكمال، ورفعة القدر، وعلو الشأن.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى الجزاء المعد لهم، فقال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ [آل عمران:115]، أي أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملا، وإن كانوا قد ارتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما اقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.

قال آخر: والمراد من كلمة (الكفر) هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلا الاعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.

قال آخر: ولذلك ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:115] وهي تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي: أن المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان المسلمون المهتدون

القرآن والتذكير والتبشير (167)

منهم قلة ضعيفة، ومن شأن ذلك ألا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للاضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبدا قليلة كانت أو كثيرة.

قال آخر: وهذه الآيات الكريمة حجة على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنا، وعمل به مخلصا، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين.

قال آخر: كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب، وتقديرا للعدل الإلهي، وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص، إذ لولا هذه الآيات الكريمة لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين.

قال آخر: وننبه إلى أن استقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافي ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصا فيه ـ يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.

الفكر والذكر:

بعد أن سمعت هذا انتقلت إلى قسم آخر، وقد سمعت فيه إلى ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الفكر والذكر والتلاوة وغيرها مما يعرف بالله، ويقرب منه.

آيات ومعان:

وأول ما سمعته من أستاذه قوله: تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما يدعونا إلى الفكر والذكر، واعتبارهما من الطرق والمناهج الكبرى التي توصلنا إلى ربنا، وتقربنا منه.. فلا وسيلة للقرب أعظم من الفكر والذكر.

القرآن والتذكير والتبشير (168)

قال أحد الطلبة(1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران:190ـ194]

قال أحد الطلبة: مع أن جميع الآيات القرآنية الكريمة تتمتع بأهمية كبرى، لأنها جميعا كلام الله، وآياته التي نزلت لتربية الإنسان ونجاته وخلاصه، إلا أن هناك من الآيات ما تحظى وتتميز على سواها ببريق خاص، ومن هذا الصنف هذه الآيات الكريمة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء.

قال آخر: ولهذا أولتها الأحاديث والأخبار المروية أهمية خاصة ومكانة سامية بين غيرها من الآيات، فعن عطاء قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قالت: وأي شأن لم يكن عجبا، أنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام فتوضأ ثم قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره فركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 672)، وتفسير المراغي (4/ 162)، وزهرة التفاسير (3/ 1545)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (3/ 45)، ومن وحي القرآن: (6/ 454)

القرآن والتذكير والتبشير (169)

شكورا، ولم لا أفعل وقد أنزل علي هذه الليلة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:190] إلى قوله: ﴿سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191] ثم قال: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)(1)

قال آخر: وفي رواية عن الإمام علي أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام لصلاة الليل يسوك، ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران:190] إلى قوله تعالى: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191]

قال آخر: وهكذا ورد عن أئمة الهدى الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة، فعن نوف البكالي قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين علي، فكان يصلي الليل كله، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن ـ ويردد هذه الآيات ـ فمر بي بعد هدوء الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين، قال: (يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن دثارا، والدعاء شعارا)(2)

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:190] إشارة إلى أن القرآن الكريم يحدد المنهج في الفكر الذي يلاحق الظواهر الكونية في عملية تأمل وتدبر وتفكير، فليس للإنسان أن يحدق في كتب الفلسفة، بل عليه أن يحدق في كتاب الكون، ليفكر في خلق السماوات والأرض وما يتمثل فيهما من قوانين طبيعية تنظم لهما المسار، وتربطهما بالحكمة في كل الحركات والسكنات والدقائق التي تتعلق بهما، وليرصد حركة الليل والنهار، وكيف تختلف في الزيادة والنقصان

__________

(1) صحيح ابن حبان: (7/ 722)

(2) نهج البلاغة: ج 2 ص 165.

القرآن والتذكير والتبشير (170)

حسب اختلاف الفصول والأزمنة، فيعرف أن هناك سرا عميقا وراء ذلك كله، فيكتشف أن هناك عقلا واسعا كاملا يخطط للكون ونظامه، وإرادة قوية فاعلة قادرة تسيطر عليه وتوجه حركته وتمسكه وتحفظه من الانهيار والضياع.

قال آخر: فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آية للعقول التي تفكر في كل ما حولها ومن حولها، ولأصحابها الذين لا يتحركون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء سلبا أو إيجابا إلا من خلالها؛ وبهذا يلتقي العلم والدين في وجود الله، وفي تكامل الإنسان من خلال هذا الوجود، على أساس النتائج التي يتوصل إليها في أبحاثه ودراساته، لأن الدين لا يدعو إلى الإيمان الأعمى ـ فيما يدعو إليه من إيمان ـ بل يعمل على خط الإيمان المنفتح الواعي المبني على التفكير والتحليل الدقيق.

قال آخر: وفي ضوء ذلك، نستوحي الفكرة التي تنطلق لتؤكد احترام الإسلام للعقل فيما يريد له أن يقوم به من أدوار تتصل بالعقيدة الأساس فيه، فلو لا ثقته بالعقل فيما يحلل وما يستنتج لما اعتبره السمة للناس الذين يتحركون في اتجاه اكتشاف الحقيقة، ليوحي إليهم بأن عظمة الإنسان في عقله، كما أن عظمة العقل في حركته في معرفة الحق من دراسته الفطرية للكون الواسع من حوله، فيما يحيط به، وفيمن يحيطون به.

قال آخر: ثم وصفت هذه الآيات الكريمة أولي الألباب بأنهم ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191] أي أنهم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة الله ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه في جميع أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع.. وهم ـ لذلك ـ لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته.

قال آخر: والتعبير بأولي الألباب في هذه الآية الكريمة وغيرها إشارة لطيفة إلى

القرآن والتذكير والتبشير (171)

أرباب العقول، لأن اللب من كل شيء خيره خالصه، ولا شك أن العقل هو خير ما في الإنسان، وهو عصارة وجوده الإنساني.

قال آخر: ذكر الله تعالى يعني استحضار عظمته والإحساس بجلاله، واستشعار النفس بنعمه، وقد يدخل هذا في معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(1)

قال آخر: فذكر الله يتضمن كل معاني العبودية والإحساس بالألوهية والنعم التي أسبغها على خلقه ظاهرة وباطنة، وذكر الله لب كل عبادة، وغاية كل نسك، لذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت:45]

قال آخر: وقد وصف الله تعالى أولي الألباب الذاكرين بأنهم يذكرون الله تعالى في كل أحوالهم، فهم يذكرونه قائمين، وقاعدين، وهم على جنوبهم، فقوله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191] إشارة إلى أن الذكر يكون في عامة أحوال الإنسان في الحياة.

قال آخر: وقد ظن بعض المفسرين أن المراد بالذكر الصلاة لما روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض أصحابه: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب)(2)، والحق أن الذكر أعم من الصلاة، وأن الصلاة الحقيقية التي تثمر ثمراتها ضرب من ضروبه، وكل العبادات من مسالكه.

قال آخر: وذكر الله تعالى على هذا النحو من أكمل العبادات، ولو ذكر المؤمن ربه في عامة أحواله لساد المجتمع الإنساني كله الوئام، وما كثر الخصام، وما امتشق الناس الحسام،

__________

(1) أبو داود (952)، وابن ماجه (1223)، والترمذي (372)

(2) البخاري (1050)، والترمذي (1213)

القرآن والتذكير والتبشير (172)

بل ما تنازع اثنان، وفوق ذلك من يذكر الله يعلو عن آلام الحياة واضطرابها وما ينزعج له الناس ويتحيرون فيه، ولذا قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]

قال آخر: والآيات الكريمة تشير كذلك إلى أن ذكر الله وحده لا يكفي في الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر في بديع صنعه وأسرار خليقته، ولهذا قال تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران:191] أي ويتفكرون في خلق السموات والأرض، وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل، والحكمة البالغة، والقدرة التامة.

قال آخر: والتفكر هو ترداد الفكرة في النفس لتصل إلى أقصى ما تؤدى إليه.. والفكرة قوة مطرقة للعلم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روى: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله)، إذ كان الله منزها عن أن يوصف بصورة.

قال آخر: والتفكر في السماوات والأرض له ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض، أدناها أن ننظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب وشمس وقمر وأبراج، وما فيها من نظام بديع محكم، وهذه هي النظرة العامة التي تكون لذوي الألباب وغيرهم، لأن هذه النظرة أساس الحس وإشراق المحسوس.

قال آخر: والمرتبة الثانية التفكر في خلقها وأسرار وجودها ونواميسها وقوانينها، وهذا ما يفكر فيه علماء الكونيات الذين يعرفون ما اشتمل عليه الكون من قوى وما أودعها الخالق من أجرام وقوانين لسيرها.

قال آخر: والمرتبة الثالثة وهي أعلاها، وهي النظرة التي تتجه إلى الخالق من وراء المخلوق، فيتدبر الكون وما فيه ليدرك عظمة المبدع، فيتعرف من جمال الصنعة جلال

القرآن والتذكير والتبشير (173)

الصانع، وهذا النوع هو المذكور في هذه الآية وهو أعلى مراتب العبادة.

قال آخر: وهذا النوع الأخير من التفكر يجعل القلب يخضع واللسان يخشع فينطق مستشعرا عظمة الله قائلا: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191]

قال آخر: وتلك الضراعة التي بدت على الألسنة هي أولى ثمرات التفكر، لقد وصلوا بمفكرهم إلى إدراك ربهم فقالوا ﴿رَبِّنَا﴾، ونادوه سبحانه بذلك النداء الخاضع الضارع الشاكر لنعمائه، وقد وصلوا بتفكيرهم وتدبرهم إلى أن هذا الكون لا يمكن أن يخلق باطلا، أي لا يكون لغير غاية، ولا لغير حكمة، فمعنى البطلان هنا العبث وعدم الغاية وإنهم ليعلمون أن ذلك مستحيل على الله تعالى، ولذا أردفوا هذا بقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ﴾، أي تنزهت ذاتك وتقدست، وبذلك ارتفعوا إلى مقام التقديس وهو كمال العبودية والألوهية.

قال آخر: ثم اعترتهم وقد وصلوا إلى هذا النوع من العلم خشية العلماء، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر:28]، ولذلك غلب عليهم الخوف من عذاب الله تعالى، فقالوا مرتبين على تفكرهم ما أدى إليه: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191] فهذه ضراعة إلى الله تعالى أن يقيهم عذاب النار.. والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين: أولهما، أن يوفقهم لتجنب ما لا يرضيه، والثاني، أن يغفر لهم ما أفرطوا في جنبه سبحانه وتعالى.

قال آخر: وقد كان ترتيب الخوف على التفكر له موضعه، لأن نهاية التفكر هو الخوف، إذ ينتهي إلى أعلى درجات الشعور بالمهابة لله تعالى، وهو يجعل المؤمن يستصغر حسناته، ويستكثر سيئاته.

قال آخر: وفي قوله تعالى في مقام التعليل لضراعتهم بالوقاية من النار على ألسنتهم:

القرآن والتذكير والتبشير (174)

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [آل عمران:192] تعظيم لأمر العقاب يوم القيامة، وفيه فوق ذلك شعور بالعدالة إذا وقع العقاب، إذ إنه يكون من ظلم المرتكب، وفيه أيضا بيان أن العقاب إن أراده الله فلا مناص منه، ولا منجاة بنصر ناصر، أو شفاعة شفيع.

قال آخر: وأعظم العقاب ما فيه من الخزي أمام الله واهب الوجود، ومولي النعم وذي الجلال والإكرام، والخزي في أصل معناه الوقوع في بلية، وقد يطلق على الوقوع في البلايا المعنوية بأن يكون قد ارتكب أمرا يتعير به أمام الناس ولا مناص لرد اعتباره، وقوله تعالى ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران:192] يتضمن هذه المعاني، فقد أوقعهم سبحانه في بلية لا يستطيعون التخلص منها، وهم في عار معنوي لأنهم نالوا سخط الله تعالى، وذلك بظلمهم، وقد أكدوا استحقاق المجرمين، وعدم خلاصهم منه بقولهم ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة:72] أي أن المذنبين ظالمون فهم معاقبون بحق ولا ناصر لهم، و﴿مِنَ﴾ دالة على استغراق النفي، أي لا ناصر لهم أيا كان، وفي ذلك إشارة إلى انفراد الله تعالى بالسلطان.

قال آخر: ويستفاد من هذا أن العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإنه مستعد لأن يتحمل كل شيء من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيته، ولهذا فإن أشد عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.

قال آخر: والآيات الكريمة تشير بذلك إلى أن الفوز والنجاة إنما يكون بتذكر عظمة الله والتفكر في مخلوقاته من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم والقدرة، ويتبع ذلك صدق الرسل وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصلة لأحكام التشريع، حاوية لكامل الآداب، وجميل الأخلاق، ولما يلزم نظم المجتمع في هذه الحياة، وللحساب والجزاء على

القرآن والتذكير والتبشير (175)

الأعمال بدخول الجنة والنار.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من أدعيتهم قولهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا﴾ [آل عمران:193]، ذلك أنه إذا كان ذكر الله يربي القلب، والتفكر يهديه، وهما معا يرفعان المؤمن إلى مرتبة الخوف من الله، فإن التذكر لله والتفكر في خلقه يفتح أيضا القلب للتصديق والإذعان للحقائق الدينية، ولذلك كان من ثمرات التفكر إجابة نداء الحق، والإيمان بالله ورسوله والغيب، ولذلك كان شأن أولئك المتذكرين المتفكرين في خلقه أنهم بمجرد أن سمعوا نداء الإيمان أجابوا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى من أدعيتهم قولهم: ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران:193] ذلك أن التفكر والتذكر لله كان سببا في قوة إحساسهم بهفواتهم ونسيانهم حسناتهم وتواضعهم أمام ربهم خاضعين خاشعين، ولذلك طلبوا ثلاثة أمور، أولها الغفران إحساسا بتقصيرهم وفضل ربهم.. وثانيها تكفير السيئات، أي الأمور التي تسيء في ذاتها.. وثالثها أن الله يتوفاهم مع الأبرار، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يسلكوا طريق الاستقامة في الدنيا حتى يخرجوا منها مع المستقيمين الأبرار الأخيار.

قال آخر: ونلاحظ هنا اتصال هؤلاء العقلاء بالمجتمع الانساني اتصالا عجيبا، حيث أنهم تركوا التفرد والأنانية إلى درجة أنهم يطلبون من الله في دعواتهم ألا يجعلهم مع الأبرار والصالحين في حياتهم فحسب، بل يجعل مماتهم ـ سواء أكان مماتا طبيعيا أو بالشهادة في سبيل الله ـ كمماة الأبرار الصالحين أيضا، أو يحشرهم معهم، لأن الموت مع الأشرار موتة مضاعفة، وعناء مضاعف.

قال آخر: والفرق بين الذنب والسيئة، أن السيئة عصيان فيه إساءة، والذنب فيه تقصير وتبطؤ عن الخير والغفران، والتكفير كلاهما ستر، ولكن الأول يتضمن معنى عدم

القرآن والتذكير والتبشير (176)

العقاب، والثاني يتضمن ذهاب أثر الإساءة.

قال آخر: ثم ترقوا في الطلب، فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب، فقالوا: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران:194]، أي أعطنا يوم القيامة ما وعدتنا به على ألسنة رسلك الأكرمين.

قال آخر: وقد أخروا ذلك لشعورهم بهفواتهم أكثر من شعورهم بحسناتهم التي يستحقون عليها الثواب،

قال آخر: وقوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران:194] على حذف مضاف أي ألسنة رسلك، وقالوا على رسلك، ولم يقولوا على رسولك للإشارة إلى أن ثواب المطيع وعقوبة العاصي مما جاء به كل الرسل، ولتأكيد طلب إعطاء الثواب، ومع بلوغهم مرتبة الرجاء كان يغلب عليهم الخوف، ولذلك أردفوا الرجاء بقولهم: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران:194] وختموا ضراعتهم بقولهم: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران:194]. وقد أكدوا رجاءهم في أن يوفوا أجرهم وتغفر لهم ذنوبهم.

قال آخر: ونلاحظ أنهم كرروا في ضراعتهم كلمة ﴿رَبِّنَا﴾، وذلك لأن تفكيرهم وذكرهم أداهم إلى الاعتراف بكمال الربوبية، وقد قال بعض الصالحين في ذلك: (ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم) وقال الإمام الصادق: (من حزبه أمر، فقال خمس مرات (ربنا) أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف كان ذلك؛ قال: اقرؤوا إن شئتم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191]، والمراد من قوله أن نذكر ﴿رَبِّنَا﴾ ضارعين خاضعين خاشعين، مدركين معنى الربوبية والألوهية، ومذعنين لأحكامه.

القرآن والتذكير والتبشير (177)

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى استجابته لدعائهم، فقال: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران:195]

قال آخر: والفاء للترتيب، فالاستجابة معقبة لهذا الدعاء الضارع، وقد أجابهم سبحانه إجابة تدل على كمال عدله، فقد قال: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران:195]، فإذا كان سيجزيهم الجزاء الأوفى فلأنهم عملوا خيرا.

قال آخر: وسبحان الله الشاكر العليم، هم يطلبون الجنة منحة من الله، لأنهم لا يعتقدون أن عملهم يدخلهم الجنة استصغارا لأعمالهم بجوار نعمة رب العالمين عليهم، والله الكريم المنان يبين لهم أن ما ينالون من خير من عملهم، وأن الله إذا لم يثبهم لكان مضيعا لعمل الخير الذي قاموا به، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

قال آخر: ففي الآية الكريمة إشارة إلى عدله ورحمته، وبيان القانون الأمثل للعدل، وهو أن يكون الجزاء من جنس العمل ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7ـ8]

قال آخر: وبين سبحانه تعميم الجزاء لكل عامل بذكر النوعين اللذين خلقهما الله تعالى في هذا الوجود، فقال: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾، أي لا فرق في الجزاء بين الذكر والأنثى.

قال آخر: ويروى في هذا أن السيدة أم سلمة قالت: يا رسول الله ألا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ

القرآن والتذكير والتبشير (178)

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [آل عمران:195](1)

قال آخر: وفي التعبير باللفظ السامي ﴿رَبَّهُمْ﴾ إشارة إلى أن الذي يجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم، وفيه مشاكلة بين لفظ الدعاء والإجابة.

قال آخر: ومعنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران:195] أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، فكلاهما جنس واحد يتمم بعضه بعضا، فلا تحرم الأنثى جزاء ولا يحابى الذكر دونها، فهذا النص السامي فيه تعليل لمعنى التسوية في الجزاء بين الذكر والأنثى.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [النساء:25] يشمل عموم أجناس الناس، أي أنكم جميعا أيها الناس بعضكم من بعض لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض، فالجزاء من جنس العمل أيا كان العامل ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]

قال آخر: وتشير الآيات الكريمة إلى أن استجابة الله تعالى لعباده يصح أن تكون بغير ما طلب، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله، وفي ذلك تنبيه إلى أن العبرة في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه.

قال آخر: وقد بين الله تعالى الأعمال التي استحقت الإجابة من هؤلاء الأبرار، فقال: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [آل عمران:195]، وفي ذلك تعداد للأعمال الصالحات التي قام بها هؤلاء المؤمنون

__________

(1) الترمذي (2949)

القرآن والتذكير والتبشير (179)

الأولون، واستحقوا بها نعيم الجنة، وتوقوا بها عذاب النار.

قال آخر: وهي أمور ثلاثة، آخذ بعضها بحجز بعض، ومتلاقية في معناها ومغزاها، وأولها أنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم فهم هجروا مغانيهم التي تربوا فيها غير راغبين ولا محبين للخروج، بل ملجئين مضطرين.

قال آخر: وثانيها أنهم تحملوا الأذى في سبيل الله تعالى، فهم أوذوا في مكة قبل الهجرة، واستمر الإيذاء بعدها، وكل ذلك في سبيل الله، وفي سبيل الحق وإعلائه، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى.

قال آخر: والثالث أنهم قاتلوا في سبيل الله تعالى فجاهدوا الأعداء واستشهدوا في هذا القتال، فلهم فضلان: فضل القتال والتقدم، وفضل الاستمرار فيه والشهادة في سبيل الحق، وقد بين سبحانه وتعالى هذا الجزاء بقوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:195]

قال آخر: وقد ختم الله تعالى الآيات الكريمة بقوله: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران:195] لبيان اختصاصه سبحانه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده الله تعالى للمحسنين من عباده وما في الدنيا من ثمرات الأعمال لا يعد شيئا.

آيات ومعان:

قال الأستاذ(1): أحسنتم.. فحدثونا عن المعاني التي يدل عليها قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 839)،، وزهرة التفاسير (9/ 4810)، وتفسير المراغي (16/ 163)، ومن وحي القرآن: (21/ 188)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (17/ 57)

القرآن والتذكير والتبشير (180)

وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه:130ـ131]

قال أحد الطلبة: الخطاب في الآيتين الكريمتين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو دعوة له بالصبر على ما يكره من أقوال المشركين المنكرة التي يرمونه بها، وليجعل من تسبيح ربه، وذكره وحمده وشكره، غذاءه الذي يتغذى به، ودواءه الذي يتداوى به، في أوقات مختلفة من الليل والنهار.. قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وفي أجزاء من الليل، وأطراف من النهار.. وبذلك تسكن نفسه ويطمئن قلبه، كما قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [طه:130] مرتبط بقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه:129]، فـ [الفاء] للسببية، أي بسبب أن الله تعالى قد أجلهم ولا يمهلهم، اصبر على ما يقولون، أي تحمل ما يقولون، ولا تلق بالا، ولا تحسبن أن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم لأجل غير بعيد، وهو محقق الوقوع، وما هو محقق الوقوع قريب غير بعيد.

قال آخر: ذلك أن المشكلة ليست فيما يقول المعارضون للوحي من أضاليل، بل المهم هو مدى تأثير هذا القول في ساحة الدعوة.. وهذا ما لا يستطيعون أن يحققوا فيه شيئا كبيرا، لأن الحقيقة سوف تفرض نفسها على الحياة، ولو بعد حين؛ ولذا فإن الصبر يمثل العامل الإيجابي في هذا المجال، لأن هؤلاء سوف يستهلكون كل وسائلهم ويجربون كل أساليبهم، وستتساقط بأجمعها أمام الرسالة في نهاية المطاف، وسيدخل الجميع، بعد ذلك، في دين الله أفواجا عندما ينقشع الضباب عن عيون السائرين.

قال آخر: وقد بين الله تعالى أن تربية النفس على الصبر تكون بالاتجاه إليه واستذكاره في كل الأوقات، ولذلك قال بعد ذلك: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ [طه:130] أي نزهه، و[الباء]

القرآن والتذكير والتبشير (181)

للدلالة على مصاحبة الحمد للتنزيه، أي نزه ربك عن أن يتركهم، حامدا ربك على أنه أعطاك القوة وهو لهم قاهر، وتفاءل ولا تتشاءم، واعلم أن الله معك غير متخل عنك.

قال آخر: وذلك لأن التسبيح تعظيما وتنزيها لله عن كل ما يلصقه به المشركون والكافرون، يفتح آفاقا واسعة من الشعور بالقوة المستمدة من الله العظيم المنزه عن كل عيب، ويجعل المؤمن يعيش الإحساس بالاحتقار لكل من عداه مهما بلغت قوته.. كما أن الحمد الذي يتحرك مع التسبيح سوف يطل به على كل صفة كمال وجلال لله سبحانه فينفتح له الحق كله، والخير كله، والكمال كله، والجلال كله، بما تمثله كلمة الله من آفاق المطلق الذي لا حدود له.

قال آخر: وهكذا يكون التسبيح بالحمد انطلاقة روحية تخفف من أثقال الجهد الشديد الذي قد يسقط الإنسان من خلاله في حالة من الإعياء، أو اليأس، ويقوده ـ بعد ذلك ـ إلى التراجع أو الانسحاب، لأن اللقاء بالله ـ والعيش معه من خلال الذكر ـ في تسبيح الله وحمده، يعطي الإنسان الشعور بتجدد القوة وتعاظمها، وبحيوية النشاط وفعاليته، ويدفعه إلى الامتداد تحت عناية الله ورعايته، قبل أن يبدأ يومه، لتكون بدايته من موقع الاستعداد ليوم عمل رسالي جديد في الدعوة وفي الجهاد، وقبل أن يبدأ ليلته، لينفض عنه سلبيات ما عاناه في يومه من صدمات وتحديات، فلا تترك تأثيرها على مشاريعه في الليل، وليخطط لنشاط روحي إسلامي في الليل بعيدا عن الانسحاق تحت تأثير الضغوط النفسية والمادية من حوله.

قال آخر: ولهذا، قال تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه:130]، ثم قال بعدها: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾ [طه:130]، أي إذا امتد الليل، وانفتح في أعماق الكون، فسبح بحمد ربك لتعيش الصفاء الروحي الذي ينفذ إلى فكرك وقلبك

القرآن والتذكير والتبشير (182)

ووجدانك من ينابيع النور الإلهي الروحاني الذي يحول الليل إلى إشراقة روحية ممتدة في كل زوايا النفس، وجنبات العقل، ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ [طه:130] أي وسبحه في فتراته التي تتوزع في مواقيته، للمقابلة بين الليل والنهار، تماما كما هي المقابلة بين ما قبل بدايته ونهايته، ليكون التعبير شاملا للوقت كله في مجملة، وفي بداياته بطريقة بلاغية.

قال آخر: وربما استفاد البعض الإشارة في توزيع التسبيح على الأوقات، أن المقصود بذلك هو الصلوات الخمس وليس ذلك واضحا من التعبير، بل ربما نستفيد مما يأتي من التأكيد على الصلاة، أن الحديث عنها ليس مقصودا هنا، وإن كان الأمر ممكنا بلحاظ بعض الاعتبارات.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه:130]، أي لتطمئن وترتاح إلى اتصالك بالمبدأ الأعلى في تسبيح وتحميد وتمجيد ومناجاة موصولة بالله، في رعايته ولطفه ورضوانه، مما يجعلك راضيا بكل شيء يحدث لك من حلو الحياة ومرها، وبؤسها ونعيمها، وسعادتها وشقائها، لأن ذلك لا يمثل مشكلة للمؤمن ما دام يتحرك في محبة الله ورضاه.

قال آخر: ثم دعا الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى القناعة بقسمة الله ونعمته، فقال: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ [طه:131]، وهو نهى يراد به النصح والإرشاد، وذلك بألا يلتفت النبي والمؤمنون إلى ما بين أيدى هؤلاء المشركين من أموال وبنين وألا يقع في نفسه، أو أنفس المؤمنين، أن ذلك الذي أمد الله بعض المشركين، به، من نعمة، هو تكريم لهم، وإحسان منه سبحانه وتعالى إليهم، بل هو ابتلاء وامتحان لهم، ليرى منهم سبحانه أيشكرون أم يكفرون؟.. وها هم أولاء قد كفروا به، وحادوه، وحاربوا رسوله، وبهذا تحولت هذه النعم إلى سيئات وأوزار، تضاف إلى رصيدهم مما كسبوا من سيئات وأوزار.

قال آخر: والتعبير عن هذه الزخارف، وغيرها من أسباب القوة الظاهرة بـ ﴿زَهْرَةَ﴾

القرآن والتذكير والتبشير (183)

تدل على أمرين أحدهما أنها كالزهرة، والزهرة عمرها قصير، فهي لا تبقى طويلا، والثاني الإشارة إلى أن متعة الدنيا بريق لا يكون بعده قوة حقيقية، فهي متع كالسراج المزهر سرعان ما ينطفئ.. ذلك أن غاية هذه الزهرات إلى انطفاء، وهي اختبار لهم، ولذلك قال تعالى: ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾، أي لنعاملهم معاملة المختبرين فيزدادوا طغيانا على طغيانهم، وتنكشف حقيقة أمرهم، ويعرف ما فيهم من غي وشر.

قال آخر: والتعدية بقوله ﴿فِيهِ﴾ دون التعبير بالباء، وللإشارة إلى أنهم مغمورين في فتنة دائمة قد أحاطت بهم فهم يسارعون فيها من جنبة إلى جنبة وقد أحيط بهم.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه:131] إشارة إلى ما بين يدي النبي الكريم من رزق عظيم.. وهو القرآن الكريم، ثم تلك الرسالة الشريفة التي اصطفاه الله لها، وتخيره لتبليغها عنه إلى عباده؛ فأي رزق خير من هذا الرزق؟ وأي عطاء أكرم وأوفر من هذا العطاء؟ إنه أشرف قدرا، وأعظم أثرا، وأخلد ذكرا من كل ما في هذه الدنيا من مال ومتاع.

قال آخر: والرزق هو ما يعطيه الله لعباده من أسباب النفقة وقد يطلق على المعاني؛ لأنها غذاء القلوب وقوت العقول، ويكون ذلك من باب المجاز، وقد رزق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين أنواعا ثلاثة من الرزق أولها وأعلاها وأكملها الهداية.. وثانيها: المال الطاهر النقي.. والثالث: القوة في ذات أنفسهم كما بدت في الجهاد، وهذا خير؛ لأنه أبقى في ذاته، وأبقى لأن له جزاء يوم القيامة، وهو النعيم المقيم.

أحاديث وآثار:

قال الأستاذ: أحسنتم.. فحدثونا بما ورد في القرآن الكريم والأحاديث والآثار مما يدل على ضرورة الاهتمام بمعرفة النفس، واعتبارها من المعارج التي يعرج بها السالك

القرآن والتذكير والتبشير (184)

لمعرفة ربه.

قال أحد الطلبة: من ذلك قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:20ـ21]، وقوله: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية:4]، وقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت:53]، إذ تصرح هذه الآيات الكريمة بأن العلامات والدلالات الكامنة في وجود الإنسان لمعرفة خالق العالم هي كثيرة، ولهذا جاء التعبير القرآني بلفظ (آيات) بالجمع لا بالمفرد، بل لا يستطيع الإنسان أن يكون عارفا بنفسه حقا وغير عارف بالله.

قال آخر: ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)(1)

قال آخر: وروي أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألته: متى يعرف الإنسان ربه؟ فقال: (إذا عرف نفسه)(2)، وقال: (أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه)(3)

قال آخر: وروي في بعض الأخبار أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل اسمه مجاشع، فقال: يا رسول الله، كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (معرفة النفس)(4)

قال آخر: وقال الإمام علي: (عجبت لمن يجهل نفسه، كيف يعرف ربه!؟)، وقال: (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه)(5)

__________

(1) عوالی اللآلئ: ج 4 ص 102.

(2) الأمالي للسید المرتضی: ج 1 ص 198.

(3) روضة الواعظين: ص 25.

(4) عوالی اللآلئ: ج1 ص246.

(5) عيون الحكم والمواعظ: ص 460.

القرآن والتذكير والتبشير (185)

قال آخر: وقال الإمام الصادق: (العجب من مخلوق يزعم أن الله يخفى على عباده وهو يرى أثر الصنع في نفسه؛ بتركيب يبهر عقله، وتأليف يبطل جحوده)(1)

قال آخر: ومنها ما روي عن الإمام الصادق أنه قال في تفسيرها: (إنه خلقك سميعا بصيرا، تغضب وترضى، وتجوع وتشبع؛ وذلك كله من آيات الله تعالى)(2)

قال آخر: ومما يروى في هذا عن هشام بن سالم، قال: حضرت محمد بن النعمان الأحول، فقام إليه رجل فقال له: بم عرفت ربك؟.. قال: بتوفيقه وإرشاده وتعريفه وهدايته، قال: فخرجت من عنده، فلقيت هشام بن الحكم، وهو من أجلاء أصحاب الإمام الصادق وأفضلهم في علم الكلام، فقلت له: ما أقول لمن يسألني فيقول لي: بم عرفت ربك؟.. فقال: إن سأل سائل فقال: بم عرفت ربك؟ قلت: (عرفت الله جل جلاله بنفسي؛ لأنها أقرب الأشياء إلى، وذلك أنى أجدها أبعاضا مجتمعة، وأجزاء مؤتلفة، ظاهرة التركيب، متبينة الصنعة، مبنية على ضروب من التخطيط والتصوير، زائدة من بعد نقصان، وناقصة من بعد زيادة، قد أنشئ لها حواس مختلفة، وجوارح متباينة؛ من بصر وسمع وشام وذائق ولامس، مجبولة على الضعف والنقص والمهانة، لا تدرك واحدة منها مدرك صاحبتها، ولا تقوى على ذلك، عاجزة عند اجتلاب المنافع إليها ودفع المضار عنها، واستحال في العقول وجود تأليف لا مؤلف له، وثبات صورة لا مصور لها، فعلمت أن لها خالقا خلقها، ومصورا صورها، مخالفا لها على جميع جهاتها)(3)

قال الأستاذ: فهلا حدثتمونا عن سر اعتبار معرفة النفس سبيلا لمعرفة الله تعالى.

__________

(1) بحار الأنوار: ج 3 ص 152.

(2) تفسير القمی: ج 2 ص 330.

(3) التوحيد: ص 289.

القرآن والتذكير والتبشير (186)

قال أحد الطلبة(1): ذلك يرجع إلى أن الإنسان إذا نظر إلى نفسه، نظرا سليما واعيا، عرف بعض ما للخالق سبحانه وتعالى، من عظمة، وجلال، وعلم، وقدرة.. حتى يخرج من هذا التراب الهامد، هذا الإنسان العاقل، المدرك، المتكلم.. وبهذا يعلم الإنسان أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه ـ لم يخلق إلا بالحق، ولم يخلق لهوا وعبثا.. وأن كل مخلوق في هذا الوجود هو بعض منه، وأنه لن تنتقض لبنة من بناء هذا الوجود أبدا.. فكل كائن فيه ـ وإن صغر ـ دوره الذي يقوم به في وحدة هذا النظام الممسك بالوجود، وله فلكه الذي يدور فيه، كما تدور النجوم في أفلاكها.. تشرق، وتغرب.. ولكنها لا تفنى، ولا تندثر.

قال آخر: والإنسان كائن من الكائنات ذات الشأن العظيم في هذا الوجود، فكيف يقع لعقل عاقل أن تنتهي حياة هذا الإنسان بتلك الدورة القصيرة التي يدورها في فلك الوجود، والتي هي سنوات معدودة يقضيها في هذه الدنيا؟ ألهذا خلق الإنسان؟ ولهذا كان خلقه على تلك الصورة العجيبة التي استحق بها أن يكون خليفة لله في هذه الأرض؟

قال آخر: والعجب أن هذا الإنسان على عظمته وعقله وعلمه، وهذا الابتداع والابتكار والصنع العجيب كان أول يومه على صورة نطفة صغرى لا قيمة لها.. لكن ما أن استقرت في الرحم حتى تكاملت بسرعة وتبدلت يوما بعد يوم ولحظة بعد أخرى فإذا هذه النطفة التي لا قيمة لها تغدو إنسانا كاملا سويا.. خلية واحدة هي أصغر جزء في بدن الإنسان تشكل بناية ضخمة متداخلة عجيبة، أو على حد تعبير بعض العلماء تعادل (مدينة صناعية)

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 486)، والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (17/ 90)، ومن وحي القرآن: (21/ 204)

القرآن والتذكير والتبشير (187)

قال آخر: وقد قال بعض علماء الأحياء يشير إلى هذا: (إن هذه المدينة العظمى مع آلاف الأبواب أو البوابات المثيرة وآلاف المعامل والمخازن وشبكات المجاري والتأسيسات الكثيرة والارتباطات والأعمال الحياتية المختلفة.. كل ذلك في مساحة صغيرة جدا بمقدار خلية من أكثر الأمور تعقيدا وإثارة، إذ لو أردنا أن نهيئ تأسيسات مثلها ـ ولن نستطيع أبدا ـ لكان علينا أن نشغل مساحة آلاف الهكتارات من الأرض وعليها البنايات والماكنات المختلفة المعقدة لنصل إلى مثل هذه الخطة، إلا أن الطريف أن جهاز الخلقة جعل كل ذلك في مساحة تعدل خمسة عشر ميلونيم الميليمتر فحسب)(1)

قال آخر: وهكذا، فإن الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة، وخاصة عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الأخر كل منها آية عظمى من آيات الله.

قال آخر: وهكذا إذا ما غاص الإنسان في عالم نفسه المملوء بالأسرار، وجد نفسه في متاهات من العوالم المتنوعة، لا يخرج من عالم إلا ليدخل في عالم آخر مستقل عنه، دون أن يصل إلى نهايته، بل يبقى هناك مجال الوصول إلى اكتشاف جديد ومعرفة جديدة في كل العوارض والطوارئ التي تتصل بحركة الوجود في داخله وخارجه، مما يدل دلالة واضحة بالرؤية العقلية والحسية على القدرة الخالقة الحكيمة التي تدبر ذلك كله، وتخطط له.

قال آخر: وقد أشار الإمام علي إلى ذلك بقوله: (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم،

__________

(1) أسرار خلق الإنسان، من ص33 إلى 36.

القرآن والتذكير والتبشير (188)

وحل العقود، وكشف الضر والبلية عمن أخلص له النية) (1)

قال آخر: وسئل: ما الدليل على إثبات الصانع؟ فقال: (ثلاثة أشياء: تحويل الحال، وضعف الأركان، ونقض الهمة) (2)

قال آخر: وروي أن رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، بماذا عرفت ربك؟ فقال: (بفسخ العزم، ونقض الهم؛ لما هممت فحيل بيني وبين همي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، علمت أن المدبر غيري) (3)

قال آخر: وروي أن بعض الزنادقة قال للإمام الصادق: (ما منع إلهكم إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته؛ حتى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟)، فقال له الإمام الصادق: (ويلك! وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؛ نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك) (4)

قال الأستاذ: فهلا شرحتم لنا هذه الكلمات.

__________

(1) غرر الحكم: ج 4 ص 357.

(2) جامع الأخبار: ص 39 ح 28.

(3) بحار الأنوار: ج 3 ص 55.

(4) الكافي: ج 1 ص 75.

القرآن والتذكير والتبشير (189)

قال أحد الطلبة(1): نحن نلاحظ أنه تطرأ في الحياة الخاصة لكل إنسان حالات وحوادث متنوعة، وهى تعبر عن تدبير المدبر من جهة، وأن لا تأثير للإنسان نفسه في إيجادها من جهة أخرى، كأنه يعتزم بجزم على القيام بعمل، ثم ينصرف عنه من دون أي دليل عقلي خاص يمتلكه، ثم يتبين بعد ذلك أنه لو كان فعله لكان في ضرره؛ فمن ذا الذى حال بينه وبين عزمه القاطع وأنقذه من الخطر؟

قال آخر: إن التأمل في هذه التجربة ـ كما لوحظ في كلام أئمة الهدى ـ يوصل الإنسان إلى نتيجة، هي أن مدبر حياة الإنسان غيره، وما هو إلا الله الحكيم العليم القدير، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:24]، فالله سبحانه هو الذى يحول بين الإنسان وقلبه، ويسبب فسخ عزيمته ونقض همته.

قال آخر: وعلى هذا المنوال نلاحظ أن الطفولة، والشباب، والشيخوخة، والضعف، والقوة، والهمة، والمرض، وسائر الحالات التي تعرض للإنسان، والتي هي خارجة عن إرادته وتدبيره، تعبر عن حكم مدبر سواه.. وهذا في الواقع فرع من معرفة الله عن طريق معرفة النفس.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن لحل مشكلات الحياة ودفع بلياتها طريق آخر غير الطرق العادية والمادية المعروفة، وذلك هو التقوى، والتوكل، والإخلاص، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق:2ـ3]

قال الأستاذ: فهل ورد ما يدل على معان أخرى لدور معرفة النفس في معرفة الله

__________

(1) موسوعة معارف الكتاب والسنة: 3/348.

القرآن والتذكير والتبشير (190)

تعالى؟

قال أحد الطلبة: أجل.. ومن ذلك ما ورد في الاستدلال بحدوث النفس والعالم على الله، كما قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور:35ـ36]

قال آخر: ومن ذلك ما روي عن الإمام علي أنه قال: (الحمد لله الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه علي وجوده.. مستشهد بحدوث الأشياء علي أزليته، وبما وسمها به من العجز علي قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء علي دوامه)(1)

قال آخر: وقال الإمام الصادق لما سئل: ما الدليل علي أن للعالم صانعا؟ ـ: (أكثر الأدلة في نفسي لأني وجدتها لا تعدو أحد أمرين: إما أن أكون خلقتها وأنا موجود، وإيجاد الموجود محال.. وإما أن أكون خلقتها وأنا معدوم؛ فكيف يخلق لا شيء؟.. فلما رأيتهما فاسدتين من الجهتين جميعا علمت أن لي صانعا ومدبرا)(2)

قال آخر: وفي حديث آخر، قال: (وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أن أكون صنعتها أنا، أو صنعها غيري؛ فإن كنت صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين: إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة؛ فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا، فقد ثبت المعني الثالث أن لي صانعا؛ وهو الله رب العالمين)(3)

الصبر والصلاة:

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 185.

(2) روضة الواعظين: ص 39.

(3) التوحيد: ص 290.

القرآن والتذكير والتبشير (191)

بعد أن سمعت هذا انتقلت إلى قسم آخر، وقد سمعت فيه إلى ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الصبر والصلاة والمجاهدات الروحية وغيرها مما يعرف بالله، ويقرب منه.

آيات ومعان:

وأول ما سمعته من أستاذه قوله: تعالوا نتدبر ما ورد في القرآن الكريم مما يدعونا إلى الصبر والصلاة، واعتبارهما من الأركان الكبرى للسير إلى الله فلا وسيلة للقرب أعظم من الصبر والصلاة.

قال أحد الطلبة(1): من ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:43ـ46]

قال آخر: ففي هذه الآيات الكريمة يخاطب الله تعالى بني إسرائيل الذين وقفوا أمام الرسالة والرسول، ليعطلوا المسيرة ويشوهوا الصورة ويخلقوا البلبلة والارتباك في الذهنية المسلمة، من أجل أن يزلزلوا عقيدة المسلمين ويهزوا قناعاتهم.

قال آخر: وقد كان اهتمام الإسلام بالحوار معهم لتحقيق هدفين، أولهما، بيان الأسس التي تجمع بين الإسلام وبين غيره من الديانات، للانطلاق من ذلك إلى إقامة الحجة على اليهود، من خلال القواعد والقضايا المشتركة المسلمة لديهم، مما يفسح المجال لارتكاز الحوار على أسس واضحة وعملية، ويوفر المناخ الملائم له، بالإضافة لتصحيح الانحرافات

__________

(1) من وحي القرآن: (2/ 8)، وتفسير المراغي (1/ 103)، والتفسير القرآني للقرآن (1/ 79)، وزهرة التفاسير (1/ 213)

القرآن والتذكير والتبشير (192)

الطارئة التي أدخلها اليهود في الكتاب مما لم ينزل به وحي الله.

قال آخر: وثانيهما كشف حقيقة هؤلاء اليهود من خلال ذكر الواقع العملي الذي يعيشون فيه، وذلك بفضح أساليبهم الملتوية، وتوضيح انحرافهم عن الخط الذي يدعون الناس إليه ويهملونه في سلوكهم العملي.

قال آخر: وقد كان تركيز القرآن الكريم بالكلام على اليهود وبني إسرائيل، على نحو لا نجده مع عموم أهل الكتاب لأن اليهود كانوا يمثلون القوة الدينية الكبرى المتحركة التي وقفت ضد الإسلام منذ انطلق كقوة في حياة الناس في المدينة.. أما النصارى من أهل الكتاب، فلم يكن لهم دور كبير في مواجهة الإسلام من ناحية عملية، بل ربما كان لهم دور إيجابي في بداية عهد الدعوة، إذا لاحظنا هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة، واحتضان ملكها النجاشي المسيحي لهم، وانسجامه مع الآيات القرآنية التي تلاها المسلمون المهاجرون عليه فيما يتعلق بشأن المسيح وأمه، فلم يبق هناك إلا المشكلة الفكرية في موضوع فهمهم للتوحيد ولشخصية السيد المسيح وعلاقته بالله، فكانت مساحة الحوار بالمستوى الذي تمثله المشكلة الفكرية من خطورة.

قال آخر: والخطاب في الآيات الكريمة وإن كان لبنى إسرائيل، إلا أنه لا تمنع خصوصيته من عموميته، وبهذا يكون الخطاب لكل من يحسن القول، ولا يحسن العمل، ويندب الناس إلى الخير، ويأمرهم به، ولا ينظر إلى نفسه، ولا يحملها على أخذ حظها من هذا الخير الذي يدعو إليه.. وفي ذلك ظلم للنفس، وخسران مبين.

قال آخر: وقد دعا الله تعالى بنى إسرائيل في هذه الآيات الكريمة إلى صالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة لتطهر نفوسهم كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هي مظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس، لما فيها من بذل المال

القرآن والتذكير والتبشير (193)

لمواساة عيال الله وهم الفقراء، ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة، فالغنى في حاجة إلى الفقير، والفقير في حاجة إلى الغنى كما ورد في الحديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

قال آخر: ثم أمرهم بالركوع مع الراكعين، أي أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلوا صلاتهم، وقد حث على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين، ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء أو يجلب لهم السراء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)(1)

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:43] دعوة للاندماج بالصلاة في جماعة المسلمين، والائتلاف معهم في جماعاتهم، وإما بالخضوع المطلق لله رب العالمين، أو الأمران معا وهو الصلاة في جماعة، والخضوع بالائتلاف مع الراكعين، والاندماج فيهم.

قال آخر: ذلك أن المقصد الأعلى في الصلاة إظهار الحاجة إلى المعبود، والافتقار إليه بالقول أو بالفعل أو بكليهما، وإقامتها، هي التوجه إلى الله بقلب خاشع والإخلاص له في الدعاء، وهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله، أما الصورة فليست مقصودة لذاتها، ومن ثم اختلفت في الشرائع بحسب الأديان والأزمان، ولكن الروح لا تغيير فيه ولا تبديل باختلاف الأنبياء.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:44]، وهو خطاب لبني إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم، ويرضى به

__________

(1) البخاري 2 / 109 و110.

القرآن والتذكير والتبشير (194)

سائرهم، فيلامون جميعا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3]

قال آخر: وقد كان أحبار اليهود في كل أدوارهم ـ عندما صار التدين شكلا لا روح فيه، ومظهرا لا حقيقة له ـ يذكرون للناس حقائق دينية، لا يعملون بها، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم، وينكرونها أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفي أمرهم.

قال آخر: ولذا خاطبهم الله تعالى مستنكرا تلك الحال فيهم، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم، ويستنكره الله تعالى عليهم، وإنكار الواقع توبيخ، وبيان أنه لا يصح، ولا ينبغي أن يكون، والبر هو الخير، وهو ضد الإثم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف الإثم بأنه (ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)(1)

قال آخر: ونلاحظ في كلمة ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة:44] أنها ليست مجرد جملة اعتراضية يراد بها تصوير حالتهم أمام الارتباط بالكتاب، بل هي لفتة نقدية للواقع في

__________

(1) مسلم: (4632)

القرآن والتذكير والتبشير (195)

معرض الإيحاء لهم بالاستغراق فيما يتلونه من آيات الله من أجل وعي أعمق وسلوك أفضل، لما في ذلك من التأنيب والتبكيت حيث يعيشون الغفلة العميقة عن أنفسهم في الموقف الذي يملكون فيه حضور الوحي الذي يهز الغفلة في أعماق النفس، بصرخة الحق ويقظته.

قال آخر: ونلاحظ في كلمة: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات:138] أن الآية تريد أن تثير في نفوسهم الشعور بأن المشكلة لديهم ليست مشكلة علم، ليصار إلى توجيههم نحو الأخذ بأسباب العلم، بل هي مشكلة تجميد للعقل في المسائل التي تدخل في حساب التمييز العملي بين الحسن والقبيح.

قال آخر: وننبه إلى أن الآية الكريمة لا تعني أن على الإنسان الذي لا يملك الإرادة القوية في إخضاع خطواته العملية لمبادئه، أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لئلا يكون ممن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، مما يجعل من هذه الفريضة فريضة على الذين يملكون العصمة في العمل فيما يجب وفي ما يحرم.. فالآية الكريمة ليست واردة في هذا الاتجاه، بل كل ما هناك أنها تريد أن تثير في نفوس العاملين في سبيل الدعوة إلى الله، بأسلوب التوبيخ والتأنيب، الشعور بضرورة التخلص من هذه الازدواجية بين موقف الداعية وموقف المؤمن، للتوصل إلى الوحدة بين الكلمة والموقف، لأن ذلك يتصل بنجاح الدعوة عندما يعظ الداعية الناس بأقواله وأفعاله، وبشخصية الداعية عندما تستقيم خطاه في اتجاه خطوات فكره وإيمانه.

قال آخر: أما قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي من القضايا الواجبة التي لا ترتبط بالممارسة العملية لما يأمر به الإنسان ولما ينهى عنه كشرط للوجوب لتكون فريضة للمعصومين عمليا، لأن من واجب الإنسان أن يخوض صراع الإيمان والضلال على

القرآن والتذكير والتبشير (196)

جبهتين: داخلية يصارع فيها الانحراف في خطواته، وخارجية يصارع فيها الضلال في حياة الآخرين.

قال آخر: وعلى ضوء ذلك، كان الجهاد الأكبر جهاد النفس، والجهاد الأصغر جهاد أعداء العقيدة بالحرب، يسيران جنبا إلى جنب كفريضتين شرعيتين، لأن المسلمين الذين جاهدوا الكفار بالسلاح وجاهدوا الكفر بالدعوة، لم يكونوا معصومين، بل كانوا يعصون الله وينحرفون عن الخط في بعض الحالات ثم يرجعون إلى هداهم عندما ينتبهون ويتذكرون.

قال آخر: وبذلك فإن الآية الكريمة ليست في معرض عدم جواز الجمع بين سلبية العمل وإيجابية الدعوة، بل هي في مقام التوبيخ والإثارة ضد هذا الواقع من أجل تصحيح السلوك واستقامة المسيرة، ليجتمع للداعية وعي الدعوة وسلامة التطبيق، لئلا يتخذ الآخرون من انحراف الداعية مبررا للعذر في الانحراف، ووسيلة لمحاربة الدعوة.

قال آخر: وبعد أن بين الله تعالى سوء حالهم، وذكر أن العقل لم ينفعهم والكتاب لم يذكرهم، أرشدهم إلى الطريق المثلى، وهى الاستعانة بالصبر والصلاة، فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة:45]، والصبر الحقيقي إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات التي تشق عليها، والتفكر في أن المصائب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له والتسليم لأمره، والاستعانة به تكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها وحرمانها لذاتها.

قال آخر: وتكون بالصلاة لما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر، ولما فيها من مراقبة الله في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجى فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات، وقد ورد

القرآن والتذكير والتبشير (197)

في الحديث أنه صلى الله عليه