×

الكتاب: القرآن.. والعزاء والشفاء

الوصف: رواية حول العزاء القرآني للنفوس المتألمة

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1443 هـ

عدد الصفحات: 561

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72127-9

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة السابعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثانية من خصائص القرآن الكريم، خاصية العزاء والسلوى وشفاء ما في الأنفس والصدور، والتي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، إضافة إلى أن الله تعالى يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بكونها رسالة بشارة، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا ورحمة للعالمين.. وهذا المعنى هو نفسه المعنى الذي يحمله العزاء والسلوى والشفاء.

وبناء على هذا حاولنا في هذه الرواية أن نحصي الآلام الكبرى التي تعتري النفوس، ثم الأدوية القرآنية التي تُعالج بها، مع تبسيطها وتيسيرها وتوضيحها بالمشاهد والشواهد التي تيسر التعامل معها.

وقد قسمنا الكتاب بحسب الآلام التي تعتري النفوس إلى خمسة أقسام، هي:

1. المتألمون، سواء كانوا مرضى، أو ممن فقدوا أحباءهم، وغيرهم.

2. الفقراء والمساكين الذين يتألمون بسبب فاقاتهم وحاجاتهم المادية.

3. المستضعفون الذين يتألمون بسبب ضعفهم وهوانهم وتسلط المتكبرين عليهم.

4.المخطئون الذين يتألمون بسبب أخطائهم، وقد يتوهمون أنها لا تُغفر.

5.المحبطون واليائسون والمكتئبون، والذين يتألمون بسبب كل ذلك.

وبما أن أمثال هذه المعاني تحتاج إلى المبلّغ والمبيّن الذي يستطيع أن يستعمل الأدوية القرآنية بطريقة صحيحة، فقد جعلنا بطل هذه الرواية هو من يقوم بذلك.. والرواية تحمل الكثير من المشاهد التي رآها تلميذ القرآن في رحلته إلى تلك البلاد التي عاين فيها أولئك المتألمين، وكيف تحولوا إلى سعداء بفعل تعليمات ومواعظ معلمهم الكاظم، والتي كان يستقيها من القرآن الكريم.

القرآن.. والعزاء والشفاء (9)

مقدمة

هذا الكتاب هو المقدمة السابعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثانية من خصائص القرآن الكريم، خاصية العزاء والسلوى وشفاء ما في الأنفس والصدور، والتي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44]، ففي الآية الكريمة جمع بين خاصيتين من خصائص القرآن الكريم، أولاهما: خاصية هدايته العقول والقلوب إلى الحق، وهداية الأنفس إلى القيم التي تمثله، وهي التي عرضنا لها في الكتاب السابق.. وثانيهما خاصية الشفاء، والتي من مضامينها علاج ما في الأنفس من آلام، وهي تعتمد على خاصية الهداية، فلولا الهداية ما تحقق الشفاء، ولذلك قُدمت الهداية على الشفاء.

وهكذا نجد ارتباط الشفاء والرحمة بالقرآن الكريم، وهو ما يؤكد علاقة الشفاء بعلاج الآلام النفسية، كما قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث المروي في المصادر السنية والشيعية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب

القرآن.. والعزاء والشفاء (10)

الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا)(1)

فهذا الحديث يتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم من وصفه بالشفاء والرحمة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحقق ذلك، مرتبط أيضا بما ورد في القرآن الكريم من كون القرآن لا يزيد الظالمين إلا خسارا، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا في هذا الدعاء أن نطلب من الله تعالى أن يوفر فينا القابلية للرحمة والعزاء القرآني، حتى تتحول حياتنا جميعا بسببه إلى ربيع كما ورد في الحديث.

إضافة إلى هذا، فإن الله تعالى يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بكونها رسالة بشارة، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا.. وهذا المعنى هو نفسه المعنى الذي يحمله العزاء والسلوى والشفاء.

وبناء على هذا حاولنا في هذه الرواية أن نحصي الآلام الكبرى التي تعتري النفوس، ثم الأدوية القرآنية التي تُعالج بها، مع تبسيطها وتيسيرها وتوضيحها بالمشاهد والشواهد التي تيسر التعامل معها.

ولذلك، فإن هذا الكتاب مثل الكتاب السابق يدخل فيما أطلقنا عليه لقب [التأويل العملي]، والمقصود منه الاستفادة من القرآن الكريم، سواء في تحقيق الهداية أو في تحقيق العزاء والسلوى والشفاء، فكلاهما مما يحتاج إليه الإنسان، لأنه لا يمكن أن يعيش في ضلالة، ولا يمكن أن يعيش في شقاء، فالشقاء والألم قد يحجبه عن الهداية.

وكذلك، فإن رحمة الله بعباده لا تتوقف عند دعوتهم للإيمان به، أو الالتزام بما دعا إليه، وإنما تشمل كل جوانب الحياة، لتملأها بالسكينة والأمان والطمأنينة، وهو ما تشير

__________

(1) رواه أحمد: 2/ 168، صحيح ابن حبان: 3/ 253، الحاكم: 1/ 690؛ الدعوات: ص 54، بحار الأنوار: 95/ 279.

القرآن.. والعزاء والشفاء (11)

إليه الآيات الكثيرة في وصف تأثير القرآن الكريم في الأنفس، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]

وقد قسمنا الكتاب بحسب الآلام التي تعتري النفوس إلى خمسة أقسام، هي:

1. المتألمون، سواء كانوا مرضى، أو ممن فقدوا أحباءهم، وغيرهم.

2. الفقراء والمساكين الذين يتألمون بسبب فاقاتهم وحاجاتهم المادية.

3. المستضعفون الذين يتألمون بسبب ضعفهم وهوانهم وتسلط المتكبرين عليهم.

4.المخطئون الذين يتألمون بسبب أخطائهم، وقد يتوهمون أنها لا تغفر.

5.المحبطون واليائسون والمكتئبون، والذين يتألمون بسبب كل ذلك.

وقد قسمنا فصول الرواية بحسب هذه الأقسام، وذكرنا الأدوية القرآنية لكل صنف من هذه الأصناف، مع توضيحها وتيسير معانيها، وانتقاء التفاسير المبسطة لها، لأن الغرض ليس البحث العلمي فيما تحويه الآيات الكريمة من معان وقضايا، وإنما بيان دورها وأثرها في علاج النفس من آلامها، مع العلم أننا سنتطرق إلى نفس تلك الآيات الكريمة في محالها المناسبة لها في السلسلة للبحث في القضايا المرتبطة بها.

ولهذا اخترنا أيسر التفاسير وأسهلها لغة وأسلوبا، بحيث يستطيع عوام الناس وغير المتخصصين فهمها بسهولة، ولذلك تصرفنا فيها وفي عباراتها، حتى لا تحجب عن المعاني المراد تبليغها في هذا الكتاب، لأن المقصود أن تصل إلى الجميع لتحقق هدفا مهما من أهداف القرآن الكريم هدف الرحمة والعزاء، والذي قد يكون وسيلة بعد ذلك للهداية الشاملة.

وبما أن أمثال هذه المعاني تحتاج إلى المبلّغ والمبيّن الذي يستطيع أن يستعمل الأدوية

القرآن.. والعزاء والشفاء (12)

القرآنية بطريقة صحيحة، فقد جعلنا بطل هذه الرواية هو من يقوم بذلك، وقد أطلقنا عليه لقب [المعلم الكاظم]، وقد اخترنا هذا الاسم لدلالته على الإمام موسى بن جعفر الكاظم، والذي امتحن بأنواع البلاء، فصبر ورضي، بل كان يعيش الجنة وهو ظلمات السجن.. بالإضافة إلى أن كلمة الكاظم نفسها لها هذه الدلالة النفسية.

والرواية تحمل الكثير من المشاهد التي رآها تلميذ القرآن في رحلته إلى تلك البلاد التي عاين فيها أولئك المتألمين، وكيف تحولوا إلى سعداء بفعل تعليمات ومواعظ معلمهم الكاظم، والتي كان يستقيها من القرآن الكريم.

وبما أنه لا يمكن الإحاطة بكل ما في القرآن الكريم من العزاء والسلوى والشفاء، فقد اخترنا نماذج وشواهد عن كل ناحية من النواحي، بحيث تدل على غيرها.

القرآن.. والعزاء والشفاء (13)

البداية

بداية هذه الرحلة الجديدة كانت مؤلمة جدا بالنسبة لي.. فقد مرضت فيها مرضا شديدا، جعلني مقعدا في الفراش لا أستطيع الكتابة ولا المطالعة ولا البحث.

وصادف أن حصل لي معها فاقة مادية، جعلتني أضطر إلى الاقتراض من ناس لم أكن أتصور أنهم سيذلونني بذلك الشكل عندما مددت يدي إليهم طالبا أن يعيروني بعض النقود، لأشتري ما يلزمني من دواء، وحاجات أساسية.

ولم يكتفوا بذلك الإذلال الذي مارسوه معي عند إعطائي ما طلبته منهم، بل أضافوا إليه إذلالا جديدا عندما راحوا يدقون بيتي بعد أسبوع واحد، وقبل حلول موعد الأداء، يطلبون مني أن أعيد لهم ما أقرضوني إياه، وأنهم مضطرون إليه، فاعتذرت إليهم بعدم توفر المال لدي حينها، لكنهم رفضوا أن يقبلوا عذري، بل جمعوا علي الجيران، وراحوا يلطخون كل ما وفره الله لي من سمعة طيبة لدى جيراني.

وقد زاد من ألمي أن أحد أولئك الجيران، والذي كنت أقف معه في كل شدة، راح يصيح في بصوت عال: لم نكن نظنك هكذا.. ألهذه الدرجة تحتال على أموال الناس، وتأخذها من غير حق؟.. ويل لك من ربك.

وراح آخر يقرأ علي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34]، ثم يردفها بشرح مفصل يجمع فيه بيني وبين هؤلاء الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.

وراح آخر يذكّرني بالآخرة، ويقول لي بكل قسوة: ماذا تقول لربك، وأنت تأكل

القرآن.. والعزاء والشفاء (14)

أموال الناس بالباطل؟.. هيئ نفسك لنيران جهنم التي ستحرقك، وتحرق معك كل ذلك الرياء الذي كنت تتظاهر به أمامنا إلى أن كشفك الله على حقيقتك.

وهكذا تحول الجميع إلى خطباء وواعظين، وتحولت معهم إلى أبي جهل أو أبي لهب أو ابن أبي أو بلعم بن باعوراء..

والمشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل إني عند ذهابي للمسجد، ومع كونه بعيدا عن بيتي إلا أني وجدت الجميع ينظر إلي باحتقار وازدراء.. وعندما انتهينا من الصلاة، أخبرني بعضهم أن الإمام ينتظرني.. فذهبت إليه، وكنت أتصور أنه سيسألني عن سر ما حصل.. لكني وجدته يخاطبني بكل قسوة، وأمام الكثير من المصلين قائلا: لم نكن نظن أبدا أنك هكذا.. ألا تعلم أن الصلاة الحقيقية هي التي ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وأن أكل أموال الناس بالباطل ظلم واعتداء، ومصيره جهنم.. ألم تسمع حديث المفلس؟.. أم أنك تريد أن تكون من المفلسين يوم القيامة؟

وهكذا راح يلقي خطبة طويلة أمام الملأ من الحاضرين، دون أن يتيح لي أن أنبس ببنت كلمة لأبين ما حصل، ووجه الضرورة التي جعلتني أقترض، والموعد الذي حددناه لإرجاع القرض.

بعد أن أصابني كل ذلك المرض والألم والحاجة والضعف والخذلان.. سرت هائما على وجهي، لعلي أنسى بعض ما أصابني من آلام.. ولم أدر كم سرت، ولا أين ذهبت إلى أن وجدت نفسي في محل غريب، وبين قوم غرباء، لم أرهم إلا في ذلك اليوم.. وهنا بدأت رحلتي إلى [القرآن.. والعزاء والشفاء]

القرآن.. والعزاء والشفاء (15)

أولا ـ القرآن.. وعزاء المتألمين

كان أول من صادفته في هذه الرحلة شيخا كبيرا، ممتلئا وقارا، كان يجلس تحت ظل شجرة، وكان يبدو عليه الإعياء والألم، فقد كان يتنفس بصعوبة شديدة.. وعندما رآني أشار إلي بيده، فذهبت إليه، فقال لي: هل لك يا بني أن تسير بي إلى بيتي؟.. هو قريب من هنا.. لكني كما ترى لا أستطيع السير إلا بمعونة من يأخذ بيدي.

مددت يدي إليه، وسرت به حيث أشار لي، وعندما دققت الباب فتح لي شاب، وقال لي بأدب: شكرا جزيلا لإحضارك لجدي.. لقد شغلتني جدتي ببعض شؤونها عنه وعن إحضاره.

ثم طلب مني أن أدخل بيتهم، لكني رفضت، فقبض الشيخ على يدي، وهو يقول: ما كان لتلميذ القرآن الكريم أن يرفض مؤمنا يدعوه إلى الدخول إلى بيته.

تعجبت من قوله هذا، وقلت: هل تراك تعرفني؟

فابتسم، وقال: دعك من السؤال عما لا يعنيك.. وهيا ادخل البيت، ولا تنس أن تسجل كل ما تراه وتسمعه.. فقد بدأت رحلتك الجديدة.

دخلت البيت، وهناك رأيت أحفاده وأولاده، يرحبون بي، وكأنهم يعرفونني سابقا، أو أنهم معي على ميعاد.. وكان بيتهم متواضعا جدا.. لكنه مع ذلك كان مليئا بالفرح والسعادة، فقد كانوا يتبادلون أطراف الحديث بينهم بأدب جم، وبلباقة عالية.

سألت أكبرهم عن الشيخ المريض، فقال: هذا والدي كاظم.. وهو مريض منذ فترة طويلة جدا، لكنه ـ كما ترى ـ صابر محتسب، لا يشكو حاله لأي أحد.. وعلى الرغم من الآلام الكثيرة التي مر بها في حياته، إلا أنا لم نر منه إلا الابتسامة المشرقة، والفرح الدائم.

القرآن.. والعزاء والشفاء (16)

قلت: هل تراه يتناول عشبة من الأعشاب المفرحة التي تجعل صاحبها يفرح ويبتسم من دون سبب؟

ابتسم، وقال: أجل.. هو يتناول القرآن الكريم كل يوم.. فهو يجمعنا في الغدو والآصال، ويطلب منا أن نقرأ له شيئا من القرآن الكريم، ثم يعقب عليه بما يجعلنا نعيش تلك المعاني التي نقرؤها.. ومن خلالها عرفنا سر سعادته وفرحه وعدم تأثير مرضه فيه، فهو على الرغم من أن الأطباء أخبرونا قبل أكثر من عشرين سنة، أنه لن يعيش أكثر من شهر واحد.. لكن ها أنت كما تراه لا يزال حيا يُرزق، وبكامل وعيه وعقله.. بل إنه استطاع أن ينوب عنا في تربية أولادنا وتوجيههم، بل توجيه أهل بلدتنا جميعا وغيرهم، بما لا يستطيعه غيره.

ما انتهى الولد الأكبر من حديثه هذا، حتى رأينا جميع أهل البيت، نساء ورجالا وشبابا وأطفالا يحلقون حول الكرسي الذي يجلس عليه الشيخ الكبير، ثم رأيت الشيخ يقول ـ وهو يلتفت لولد صغير ـ: لقد وصلت الدورة إليك البارحة يا حسن، فاقرأ لنا آية أو آيات من القرآن الكريم لنعيش بعض معانيها، مع ضيفنا هذا، والذي هو مثلكم تلميذ من تلاميذ القرآن الكريم.

1. الحب والمودة

قرأ حسن بصوت جميل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف:31]

قال الشيخ: حسبك ما قرأت.. أخبروني.. ما الذي تفهمونه من الآية الكريمة؟

القرآن.. والعزاء والشفاء (17)

قال أحدهم (1): الآية الكريمة واضحة، فهي تذكر أنه لما سمعت امرأة العزيز بغيبة النسوة إياها واحتيالهن في ذمها، أرسلت إليهن تدعوهن لزيارتها، وهيأت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد، وما يأكلنه من الطعام، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن الطعام، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن، فلما رأينه أعظمنه وأجللنه، وأخذهن حسنه وجماله، فجرحن أيديهن وهن يقطعن الطعام من فرط الدهشة والذهول، وقلن متعجبات: معاذ الله، ما هذا من جنس البشر؛ لأن جماله غير معهود في البشر، ما هو إلا ملك كريم من الملائكة.

قال الشيخ: فما تفهمون من الآية الكريمة غير هذا؟

قال أحدهم، وهو أكبرهم (2): في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإكبار والإعظام ـ وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن وإرادتهن ـ بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع ـ طبقا للناموس الكوني العام ـ وهو خضوع الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير؛ فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والأفكار فأنساها.. ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها.

قالت امرأة (3): لقد ذكرت لنا مرة ـ يا أبي ـ أن في الآية الكريمة إشارة إلى أنه إذا جاز هذا في حق البشر، فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى، لأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك الملك تمنع القلب عن الشعور بهم، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازي فلأن يجوز في

__________

(1) التفسير الميسر (ص 239)

(2) تفسير الميزان، الطباطبائي (11/ 80)

(3) مفاتيح الغيب (1/ 214)

القرآن.. والعزاء والشفاء (18)

حق خالق العالم أولى.

قالت أخرى (1): ولذلك، ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الحب إذا كان على ظاهر القلب، ولم يخرق شغافه، كان العبد مع دنياه، وآخرته، بين ذكر، وغفلة، فإذا دخل سويداء القلب، وخرق شغافه نسي العبد دنياه وأخراه، وغاب عن نفسه وهواه، وضل في محبة مولاه.. ولذلك قيل لعاشقة يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: 30] أي: في استغراق في المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها، وقد قال الشاعر معبرا عن ذلك:

تالله ما طلعت شمس ولا غربت... إلا وذكرك مقرون بأنفاسي

ولا جلست إلى قوم أحدثهم... إلا وأنت حديثي بين جلاسي

ولا شربت لذيذ الماء من ظمإ... إلا رأيت خيالا منك في الكاس

إن كان للناس وسواس يوسوسهم... فأنت والله وسواسي وخناسي

لولا نسيم بذكراكم أفيق به... لكنت محترقا من حر أنفاسي

وقال الشاعر الآخر:

خيالك في وهمي، وذكرك في فهمي... ومثواك في قلبي، فأين تغيب؟

قال آخر: لقد كنت تقول لنا دائما يا أبي ـ إذا ما أصابنا أي ألم ـ: (أول ما تكسرون به سورة الأنين الذي قد يتخذه الشيطان رماحا تحاربون بها ربكم هو أن تغيبوا عن الأنين برب الأنين.. فتتخذوا من هذا الذي أراد الشيطان أن يجعله نصبا ليستل عقولكم وقلوبكم وأرواحكم ليضمكم إلى حزبه، معراجا تعرجون به إلى ربكم)

قال آخر: وكنت تذكر لنا قول بعض الحكماء: (كلما استعظمتَ المصائب المادية عظُمَت، وكلما استصغرتَها صغُرت)(2)، وضرب لذلك مثلا، فقال: (كلما اهتم الإنسان بما

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 594)

(2) اللمعة الثانية، ص 17.

القرآن.. والعزاء والشفاء (19)

يتراءى له من وهْم ليلاً يضخم ذلك في نظره، بينما إذا أهمله يتلاشى.. وكلما تعرض الإنسان لوكر الزنابير ازداد هجومُها وإذا أهملها تفرقت)، ثم قال: (فالمصائب المادية كذلك، كلما تعاظمها الإنسان واهتم بها وقلق عليها تسربت من نافذة الجسد إلى القلب واستقرت فيه، وعندها تتنامى مصيبةٌ معنوية في القلب وتكون ركيزةً للمادية منها فتستمر الأخيرة وتطول.. ولكن متى ما أزال الإنسانُ القلقَ والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحمته، تضمحل المصيبةُ المادية تدريجياً وتذهب، كالشجرة التي تموت وتجف أوراقُها بانقطاع جذورها)(1)

قال آخر: وذكرت لنا قوله: (إن الإنسان مثلما يخفف حدة خصمه باستقباله بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سورة العداوة وتنطفئ نار الخصومة، بل قد تنقلب صداقة ومصالحة، كذلك الأمر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهب أثره)(2)

قالت أخرى: وحكيت لنا عن بعض الصالحين أنه أخبر عن القدرة العجيبة التي يتحملها المنشغل بالله، لما سئل: هل يجد المحب ألم البلاء؟ فقال: لا، قيل: وإن ضرب بالسيف قال: (نعم وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة، ضربة على ضربة)

قال آخر: وذكرت لنا ـ نقلا عن بعضهم ـ مثلا يشرح سبب بطلان إحساس المحبين بالآلام، وهو الرجل المحارب، فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه الجراح، وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه.. ثم بين علة هذه الحالة وقانونها الذي لا يختص بالمحبين لله، فقال: (وكل ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتمّ

__________

(1) اللمعة الثانية، ص 17.

(2) اللمعة الثانية، ص 17.

القرآن.. والعزاء والشفاء (20)

له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه؟)(1)

قال آخر (2): وذكرت لنا عن بعضهم أنه قال: مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيدا منهم، فتقدمت إليه فأردت أن أكلمه فقال: ذكر الله تعالى أشهى فقلت: أنت وحدك؟ فقال: معي ربي وملكاي فقلت: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له، فقلت: أين الطريق؟ فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال: أكثر خلقك شاغل عنك.

قال آخر (3): وذكرت لنا عن بعض الصالحين أنه قال يحكي عن نفسه: مررت برجل وقد ضُرب ألف سوط ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر.

قال الشيخ: بورك فيكم أبنائي.. وقد صدقتم في كل ما ذكرتموه، ولذلك فإن أعظم عزاء يقدمه الله تعالى لعباده لينسوا كل آلامهم، هو ملء قلوبهم بمحبته حتى لا ينشغلوا به عن سواه.. فالحب يحرق كل ما عداه.. ولذلك فإن القرآن الكريم هو العزاء الأكبر للمؤمنين، لأنهم يسمعون فيه كلام ربهم، وأعظم سعادة للمحب أن يسمع كلام محبوبه.

قلت من حيث لا أشعر: لكن سيدي.. أخشى إن سجلت كل ما ذكرتموه أن يتوهم قومي أن مرادكم بالانشغال عن البلاء عدم مواجهته.

قال الشيخ: لا يا بني.. ومعاذ الله أن نقصد هذا، لأنه يخالف ما أمرنا الله تعالى به من إعداد العدة لكل طارئ، لكن مرادنا عدم الاستغراق في البلاء، والغفلة عن المصالح

__________

(1) إحياء علوم الدين: 4/ 347.

(2) إحياء علوم الدين: 4/ 399.

(3) إحياء علوم الدين: 4/ 348.

القرآن.. والعزاء والشفاء (21)

الكثيرة التي قد يفوتها ذلك الانشغال، وأهمها ترك الرسالة التي كُلف بها الإنسان لأجل ما حصل لمطيته من عطب.

قلت: فهلا ضربت لي على ذلك مثالا أشرح لهم به هذا؟

قال: أجبني.. من كُلف بمهمة خطيرة يتوقف عليها مصير حياته جميعا، فحصل لمطيته في الطريق ما منعها من السير السليم، فماذا يفعل؟

قلت: هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يتوقف مشتغلا بإصلاحها، منشغلا عن المهمة الخطيرة التي كُلف بها، ولو أدى ذلك إلى فناء عمره في إصلاحها.. وإما أن ينظر إلى مدى استعدادها للإصلاح، فإن أطاق إصلاحها أصلحها، لأنها ستختصر له الكثير من مشاق الطريق، فإن أبت الإصلاح تركها، واعتمد على وسائل أخرى يصل بها إلى تحقيق مهمته.

قال: وهكذا حال المنشغل عن بلائه والمنشغل به، فالمنشغل به ضيع مصلحتين: مطيته التي قد لا يفيده إصلاحها، ومهمته التي لا تساوي معها مطيته شيئا.. أما المنشغل عنها، فإنه وإن ضيع مطيته، فقد حفظ مهمته، بل قد يُرزق بالسعي ما يعوضه عما فاته.

قال أحد الأبناء: بالإضافة إلى ما ذكر سيدي الوالد؛ فإن هناك ثمارا أخرى جليلة لما ذكروه، فالأطباء ـ في كل الأزمنة ـ ينصحون بالانشغال عن الداء، ويعتبرونه أسلوبا حكيما من أساليب الشفاء، فخطر أكثر الأمراض هو ما تسببه لصاحبها من أنواع الإزعاج، وهو ما يؤثر بعد ذلك على الصحة، فإذا ما انشغل المريض عن مرضه بأي شاغل كان ذلك علاجه أو مقدمة لعلاجه.

قال الشيخ: بورك فيك يا بني، لقد ذكرتني ببعض الصالحين كان له أخ، وكان يقربه ويقبل عليه، فاعتل، فعاده، فقال:

مرض الحبيب فعدته... فمرضت من حذري عليه

وأتى الحبيب يعودني... فبرئت من نظري إليه

فالنظر إلى الحبيب والانشغال به كاف في إعادة القوة الحافظة للصحة، وفيه انشغال عن الأوهام التي يسببها فراغ القلب.

قلت: صدقت.. وقد ذكرني هذا بقول بعضهم معبرا عن هذا المعنى:

لقد هاج الفراغ عليك شغلا... وأسباب البلاء من الفراغ

وقول آخر، وهو يبين قدرة الروح على ترميم أدواء الجسد:

دواؤك فيك وما تشعر... ودواؤك منك وما تبصر

وتحسب أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر

قال الشيخ: بورك فيكم جميعا.. والآن.. واصل يا حسن القراءة.

قرأ الحسن قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 33 ـ 34]

قال الشيخ: حسبك يا بني.. هل رأيتم أبنائي، كيف فضل يوسف عليه السلام السجن الذي يجمع بين كل أنواع البلاء على ما هو فيه الرخاء.. لكونه في السجن سيكون مع محبوبه، من غير أن يصرفه أي حجاب عنه، ولذلك لم يهتم بالبلاء، بل راح يطلبه.. لأن البلاء مع القرب خير من الرخاء مع البعد.

ما إن قال الشيخ هذا، حتى سمعنا المؤذن يؤذن بالصلاة، فهرعنا إليها، وقد رأيت من حال الشيخ في صلاته ما يفوق العجب.. ثم رأيته بعدها يمسك المصحف بتعظيم شديد، ثم يقرأ بعض آياته بخشوع، ثم التفت إلي، وقال: أخبر قومك أن القرآن الكريم هو

القرآن.. والعزاء والشفاء (22)

العزاء الأكبر للمؤمنين المحبين لربهم.. فهم لا يقرؤون الحروف والكلمات فقط، وإنما يعيشونها، فقد تجلى الله لعباده في كلماته ليروه بقلوبهم من خلالها.

وبعد أن تناولنا وجبة العشاء، جلس مع أولاده وأحفاده يتبادلون أطراف الأحاديث حتى النكت منها، وكانوا يضحكون ملء قلوبهم، وبسعادة تغمرهم جميعا.

وعندما أوى كل واحد منا إلى فراشه، وفي جوف الليل، رأيته يقوم من نومه، ويتوضأ وضوء خفيفا، ثم يهرع إلى الصلاة، وبخشوع عظيم.. وبعد أن صلى بعض الركعات، رفع يديه إلى السماء، وراح يدعو بمناجاة المحبين المروية عن الإمام السجاد، قائلا (1): إلهي، من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا، إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك، وبوأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهلته لعبادتك، وهيمته لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك، وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيرته من صالحي بريتك، واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كل شي ء يقطعه عنك.

ثم قال (2): إلهي، يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة، يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال المحبين، أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائدا عن عصيانك، وامنن بالنظر إليك علي، وانظر بعين

__________

(1) بحار الأنوار: 94/ 150.

(2) بحار الأنوار: 94/ 148.

القرآن.. والعزاء والشفاء (23)

الود والعطف إلي، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الإسعاد والحظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين.

ثم بكى بكاء شديدا، وراح يردد بتضرع: يا رب.. لقد حان الوقت الذي وعدتنيه، فعجل لي بلقائك، فإن قلبي يتفطر إليك شوقا.

ثم رأيته يسجد سجدة طويلة، جعلتني أتخوف عليه، فذهبت إلى أكبر أبنائه، وأيقظته، وأخبرته بما سمعت، وما رأيت، فبكى، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. لقد حقق الله له طلبه.

فذهبنا إليه، وحركناه، فوجدناه ميتا، والعجب أن جميع أهله بعد أن علموا، لم يحدثوا أي ضجة، بل بكوا بكاء رقيقا، وهم يرددون: الحمد لله، لقد حقق الله له أمنيته بلقائه.. وكما طلب.

كان ذلك هو المشهد الأول في رحلتي، والذي عرفت من خلاله تأثير القرآن الكريم في غيبة الإنسان عن كل الآلام التي تحيط به، نتيجة حبه لله تعالى، والذي يجر بالضرورة إلى حب كلامه.. وبذلك يصبح القرآن الكريم هو المحل الذي يلتقي فيه المؤمن مع من يحبه، وهل يمكن لمن يسمع كلام محبه ألا يتعزى؟

لقد ذكر لي أحد أبناء الشيخ هذا، وقال: لقد عاش والدنا عمره جميعا يلهج بمحبة الله، ولذلك كان دائم السعادة، وكان يقول لنا: إن كان يعقوب عليه السلام قد عاد إليه بصره وسعادته بقميص حبيبه يوسف عليه السلام، فكيف لا نمتلئ بالسعادة، وكتاب ربنا وكلماته المقدسة بين أيدينا.. فبقدر حبنا لها، يكون حبنا له؟

2. الرضى والتسليم

القرآن.. والعزاء والشفاء (24)

أما المشهد الثاني، فقد تعلمت منه دور الرضى في علاج الآلام، وكيف علمنا القرآن الكريم ودربنا على أن نكون راضين بالله، كم قال تعالى عن خير البرية: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]

ويبدأ المشهد من المقبرة التي اجتمع فيها أهل تلك البلدة ليؤبنوا ذلك الشيخ الفاضل، والذي لم أكن أتصور أن له تلك المكانة، ولا ذلك التأثير.

وحتى يتجلى المشهد واضحا، لنعرف من خلاله دور المعاني الوجدانية السامية في السمو بالحياة في كل مجالاتها، فسأنقل بعض ما ذكره أهل تلك البلدة أثناء الإدلاء بشهاداتهم في ذلك المجلس الذي جمعهم عند تأبينه.

قال أحدهم: بما أنكم جميعا أثنيتم على معلمنا الفاضل الذي جعله الله تعالى سببا لهدايتنا، وحبنا للقرآن الكريم وتعلقنا به، فاسمحوا لي أن أذكر لكم أني لولاه لكنت الآن ربما في مستشفى الأمراض العقلية.. لقد مررت بأزمات حادة، جعلتني أكاد أفقد صوابي، لكنه جاء، وبكل لطف وحنان، وقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 ـ 157]، ثم أخبرني أن كل ما نزل بي من بلاء إنما هو اختبار إلهي ليمتحن صدقي ووفائي لإيماني.

ثم راح يرغبني بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة في فضل الرضى عن الله، والجزاء العظيم للراضين عنه كما قال تعالى عن النفس المطمئنة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 ـ 30].. وهكذا

القرآن.. والعزاء والشفاء (25)

بقي يسليني ويعزيني بالآيات القرآنية الكثيرة إلى أن زال كل ما بي من ألم، وتحولت إلى الطمأنينة التي استطعت بها أن أتدارك كل ما فاتني، وأن أعيش الحياة بصورتها الجميلة، لا بصورتها الممتلئة بالآلام.

قال آخر: ومثلك أنا.. فقد رآني مرة متألما من بلاء نزل بي، فحدثني بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)(1)، ثم قال لي: أول جزاء للراضي عن الله أن يرضى الله عنه ويرضيه، فإذا أرضاه الله رزقه من السعادة والسرور ما يهون أمامه كل ألم.. ثم حدثني بما ورد في أخبار موسى عليه السلام أن بني إسرائيل قالوا له: سل لنا ربك أمرا إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فقال موسى عليه السلام: (إلهي قد سمعت ما قالوا)، فقال: (يا موسى قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم)

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(2).. ثم ذكر لي أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) دليل على أن الخيرية والتي تعني الرضا والسرور لا ينالها إلا من تحقق بحقيقة الإيمان.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني عن بعض العباد أنه قال: إني أذنبت ذنبا عظيما، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة ـ وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب ـ فقيل له: وما هو؟ قال: (قلت مرة لشيء كان، ليته لم يكن)، وذكر لي أن الصالحين لا يهمهم شيء مما قد يصيب وجودهم في الدنيا بقدر ما تهمهم علاقتهم بربهم.. وذكر لي أن همة الصالحين

__________

(1) أبو نعيم في الحلية (1/ 106)

(2) مسلم (2999)، وابن حبان (2896)

القرآن.. والعزاء والشفاء (26)

منصرفة للبحث عن رضوان الله، والخوف من سخطه، ولا يهمها بعد ذلك ما يحل بها، فهي تبحث عن رضى الله عنها لا عن رضاها هي على الله.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قلت له مرة: يا معلم.. كيف أتحقق بهذا الرضى الذي يمسح عن قلبي كل الآلام؟.. وكيف ألتحق بركب الأولياء الشاربين من هذه العين؟.. فقال: بترتيل أسماء لطفه، والنظر في جميل صنعه، والاستغراق في سابق إحسانه، والأمل في جميل أفضاله.. فقلت: فكيف أستعمل هذا العلاج؟.. فقال: أرأيت لو أحسنت إلى أحدهم دهرك جميعا بمعشار ما أحسن الله إليك، بل بمعشار المعشار، أترضى أن يسخط عليك.. قلت: كلا.. فهذا فعل الجحود.. قال: فكيف لا ترضى على من لا خير إلا منه، ولا فضل إلا في يديه الكريمتين؟

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد ذكر لي مرة قول بعض الصالحين: إن الله تعالى من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم، فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه؟ قيل: نعم، قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه.. ثم ذكر لي أن الرضى عن الله هو ما يوجبه حسن الخلق مع الله، ولو تأمل المعترض على ربه حقيقته لوجدها أهون من أن تعارض الحق، فكيف يجسر على ذلك، وهو لا يعدو أن يكون حفنة تراب؟

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي مرة: إذا اشتقت أن تلبس لباس الرضى، وتسكن مع الراضين في جنة الأمن والفرح والسرور، فردد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء الذي يسأل الله فيه أن يرزقه بالرضى بالقضاء فلا ينال ما عند الله إلا من يد الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب

القرآن.. والعزاء والشفاء (27)

والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)(1).. وردد معه: (اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر)(2).. ثم قال لي: إن صدقت في دعائك، وألححت فيه كما يلح الغريق طالبا النجدة، فسسيرزقك الله فهم حقيقة الرضا، والشرب من شرابه.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني مرة عن بعض الصالحين الذين لقيهم في بعض أسفاره، فقال (3):خرجت وأنا أريد الرباط، حتى إذا كنت بعريش مصر، أو دون عريش مصر، إذا أنا بمظلة وإذا فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وإذا هو يقول: اللهم إني أحمدك حمدا يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا، فقلت: والله لأسألنه أعلمه أم ألهمه إلهاما؟.. فدنوت منه، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: إني سائلك عن شيء أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده عليها؟ أم على أي فضيلة من فضائله تشكره عليها؟ قال: أليس ترى ما قد صنع بي؟ قلت: بلى قال: فوالله لو أن الله سبحانه صب علي السماء نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت له إلا حبا، ولا ازددت له إلا شكرا.

ثم ذكر لي أن هذا الرجل الصالح قال له: إن لي إليك حاجة، بني لي كان يتعاهدني لوقت صلاتي، ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، انظر هل تحسه لي؟ قال:

__________

(1) النسائي في المجتبى 3/ 55، وفي الكبرى (1229)

(2) الطبراني في كتاب الدعاء (3/ 1456 رقم 1406) والبزار في مسنده (4/ 57 رقم 3187)

(3) الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (ص 68)

القرآن.. والعزاء والشفاء (28)

فقلت: إن في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله، فخرجت في طلبه، حتى إذا كنت بين كثبان من رمال، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف آتي هذا العبد الصالح من وجه رفيق فأخبره الخبر، فأتيته، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: إني سائلك عن شيء أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، قلت: أنت أكرم على الله منزلة أم أيوب عليه السلام؟ قال: بل أيوب عليه السلام كان أكرم على الله مني، وأعظم منزلة عند الله مني.. قلت: أليس ابتلاه الله فصبر، حتى استوحش منه من كان يأنس به وصار غرضا لمرار الطريق؟ قال: بلى.. قلت: فإن ابنك الذي أخبرتني من قصته ما أخبرتني، خرجت في طلبه، حتى إذا كنت بين كثبان من رمال، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام يأكله، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ثم شهق شهقة فمات رحمه الله.

ثم ذكر لي معلمنا كيف يسر الله تكفينه ودفنه، ثم قال: بت في مظلته تلك الليلة أنسا به فلما مضى من الليل مثل ما بقي منه، إذا أنا بصاحبي في روضة خضراء، عليه ثياب خضر، قائما يتلو القرآن الكريم، فقلت: ألست أنت صاحبي؟ قال: بلى، قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.

وعندما أبديت تعجبي مما حكاه لي، قال لي (1): ما تنكر من حال هذا الولي؟.. والاه، ثم ابتلاه فصبر، وأعطاه فشكر؟.. والله لو أن ما حنت عليه أقطار الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، وأتى عليه الليل والنهار، أعطاه الله أدنى خلق من خلقه، ما نقص ذلك

__________

(1) الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (ص 68)

القرآن.. والعزاء والشفاء (29)

من ملكه شيئا.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني مرة، وقد بلغت حالا شديدة من البلاء، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36]، ثم قال لي: إن لم تستطع أن تبلغ تلك الدرجات الرفيعة التي نزلها الأولياء، فنالوا بها الفرح والرضوان، فلا تنزل إلى دركات المعرضين المعارضين لله، فتخسر خسارتين عظيمتين: تخسر ربك الذي لا يرضى أن يعارَض في ملكه أو يعقب عليه في تدبيره.. وتخسر صحتك وراحتك التي لن يعوضها اعتراضك.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني مرة، وقد بلغت حالا شديدة من البلاء، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22]، ثم قال لي (1): للحياة نظامها المتوازن الخاص في حركة النظام الكوني وفي واقع الإنسان، على مستوى الفرد والجماعة، فلكل ظاهرة سببها، ولكل موجود قانونه الخاص، مما يجعل من حركة الأحداث في حياة الأفراد والجماعات حالة محسوبة في كل أوضاعها من حيث ظروفها المحيطة بها، ومن حيث الإرادة التي تديرها.. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يحمل الإنسان في وعيه الفكرة التي توحي بخضوع كل أوضاعه وأفعاله للتقدير الإلهي الذي يقدر لكل شيء حركة وجوده في علاقة المسببات بأسبابها، فليست هناك حالة طارئة، وليست هناك صدفة في أوضاع الحياة وهذا ما تؤكده هذه الآية الكريمة.

ثم قال لي (2): فقوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 41)

(2) من وحي القرآن (22/ 41)

القرآن.. والعزاء والشفاء (30)

[الحديد: 22] أي من أحداث الحياة التي تثير الآلام وتحرك الأحزان وتربك المشاعر، مما يصيب الإنسان في نفسه وأهله وماله إلا فيما يكتبه الله في اللوح المحفوظ أو نحوه مما يسجل فيه أحداث الوجود، أو فيما يقدره الله في علمه الغيبي المنفتح على الأشياء قبل وجودها لأنه هو الذي يمنحها الوجود، فيحيط بها في كل أسرارها وأوضاعها، فتكون كلمة الكتاب كناية عن العلم الإلهي، وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: 22] أي قبل خلقها في تقديره لكل حدود وجودها.. وقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22] أي فيما ينظم به الحياة في تقديره الذي لا تتخلف فيه إرادته عن المراد، من خلال قدرته المطلقة التي لا يعجزها أي شيء.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قرأ علي قوله تعالى مخبرا عن أثر هذه المعرفة في النفس الإنسانية: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:23]، ثم قال لي (1): عدم الفرحة بما آتاهم من صفات المتحررين من رق النفس، فقيمة الرجال تتبين بتغيرهم ـ فمن لم يتغير بما يرد عليه ـ مما لا يريده ـ من جفاء أو مكروه أو محنة فهو كامل، ومن لم يتغير بالمسار كما لا يتغير بالمضار، ولا يسره الوجود كما لا يحزنه العدم ـ فهو سيد وقته)، ثم قال لي: إذا أردت أن تعرف الرجل فاطلبه عند الموارد فالتغير علامة بقاء النفس بأي وجه كان.

وعندما سألته أن يوضح لي أكثر، قال لي (2): إن من شأن المؤمن بالله أن يرضى الرضا المطلق بكل ما يصيبه من محبوب أو مكروه.. فالإيمان، ولاء، ورضى، وتسليم، ولا يجتمع إيمان واعتراض على حكم أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وذلك هو عزاء المؤمن عند كل

__________

(1) لطائف الإشارات، القشيري (3/ 543)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 783)

القرآن.. والعزاء والشفاء (31)

مصيبة، وروح نفسه عند كل كرب.. وهو لطف من لطف الله بعباده المؤمنين، الذين تخفّ عندهم المصائب، ويستساغ لديهم طعم المكاره.. أما غير المؤمنين، أو من في قلوبهم مرض من المؤمنين، فإن وقع المصائب عليهم أليم، ونزول المكاره بهم بلاء لا يحتمل.. وهذا من العقاب المعجّل في الدنيا لمن لا يؤمنون بالله.. فإن أي مكروه يصيبهم في الدنيا ـ وهيهات أن يسلم أحد من مكارهها ـ يقطع نفوسهم حسرة، ويملأ قلوبهم كمدا.

ثم قال لي (1): هذا في مقام المكروه، أما في مقام المحبوب، فإن المؤمن إذا أصابه خير، ولبسته نعمة، لم يحمله ذلك على الزهو والاختيال، ولم ينظر إلى ما أصابه من فضل إلّا على أنه ابتلاء من الله، وأنه مطالب بحقّ الشكر على ما أنعم به عليه، كما قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40]، أما غير المؤمن، أو المؤمن الذي في قلبه مرض، فإن النعمة التي تقع ليده من عند الله، تفتح له طرقا إلى الاستعلاء والزهو، فيخيل إليه أن ذلك لمزيّة فيه، ولتفرده بصفات ليست لغيره، وأنه بهذا مالك أمر نفسه، قادر على أن يملك أكثر مما ملك، ويبلغ من الحياة والسلطان أكثر مما بلغ.. فلا يرضى بما أصاب، ولا يقنع بما حصّل، ولو ملك الدنيا جميعا.

ثم قال لي (2): وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 23] إشارة إلى أن هذا الذي لا يضيف وجوده إلى الله، ولا يقف بالنعم التي يسوقها الله إليه في محراب الحمد والولاء لله، هو في معرض التعرض لسخط الله وغضبه، وحسبه بهذا شقاء وبلاء.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قرأ علي قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن:11]، ثم قال لي: إن العوض الإلهي في

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 784)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 784)

القرآن.. والعزاء والشفاء (32)

هذه الآية عن النقص الذي جلبته المصيبة هو الهداية المرتبطة بقلب الإنسان، وهي الهداية الحقيقية التي تجر إلى المعرفة التي لا يشوبها الجهل، وإلى العلم الذي لا يختلط مع الأهواء.

وعندما طلبت منه توضيحا أكثر، قال لي (1): المؤمن الحقيقي هو الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيبه من خير ومن شر فهو بإذن الله.. وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها، ذلك أنها أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها.. ولذلك يحس المؤمن بالله في كل حدث، ويرى بقلبه الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء.. يصبر للأولى ويشكر للثانية.. وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال.

وعندما سألته عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11]، ذكر لي أن معناها أنه يفتح قلبه على الحقيقة اللدنية المكنونة، ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها.. ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح، ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور.. ولهذا عقب الله تعالى عليها بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].. فهي هداية إلى شيء من علم الله، يمنحه لمن يهديه، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب، وكشف الأسرار.. بمقدار.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3588)

القرآن.. والعزاء والشفاء (33)

[البقرة: 155 ـ 157]، ثم قال لي (1): ابتلاهم بالنعمة ليظهر شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم في الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قسمه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، ابتلاهم بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال لتزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم.. ثم قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155] يعنى الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه.

وعندما سألت عن زيادة توضيح، قال (2): يقال للصادقين عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق: والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشئ من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة.. ليظهر الصادق في الطلب بالثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليه أنوار الربوبية، من الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155] الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.

وعندما طلبت منه زيادة تفصيل، قال: لولا قيمة الصبر وتبعيته للرضا عن الله، لما ذكر في القرآن الكريم في أكثر من سبعين موضعاً، ولذلك، فإن كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]

ثم قال لي: لقد ذكر الله للصابرين ثماني كرامات: أولها: المحبة، فقال: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ

__________

(1) لطائف الإشارات، القشيري (1/ 139)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 187)

القرآن.. والعزاء والشفاء (34)

الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146].. والثانية: النصر، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]، والثالثة: غرفات الجنة، فقال: ﴿يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الفرقان: 75]، والرابعة: الأجر الجزيل، فقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة، كما قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]، والصلاة والرحمة والهداية، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 157]

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد كنت بحمد الله صاحب نعمة ورخاء، لكن الله تعالى ابتلاني ببعض البلاء، فصرت محبطا مكتئبا، وتوقفت عن كثير من الأمور التي كنت أقوم بها، وقد لقيني حينها، وقال لي: استعذ بالله من أن تكون من أهل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]، ثم قال لي (1): الواجب على العبد أن يكون عبدا لله في جميع الحالات، لا يختار لنفسه حالا على حال، ولا يقف مع مقام ولا حال، بل يتبع رياح القضاء، ويدور معها حيث دارت، ويسير إلى الله في الضعف والقوة، وقد قال بعض الصالحين: سيروا إلى الله عرجى ومكاسير.. وقال آخر: لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء.. وقال آخر في مناجاته لربه: (إلهي قد علمت، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء)

ثم قال لي: كن عبد المحول، ولا تكن عبد الحال، فالحال تحول وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدا لله، ولا تكن عبدا لغيره.

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 518)

القرآن.. والعزاء والشفاء (35)

ثم أنشدني قول الشاعر:

لكل شيء، إن فارقته، عوض... وليس لله، إن فارقت من عوض

ثم قال لي (1): من الناس من يعبد الله على حرف على طرف من الدين، غير متمكن فيه، فإنه أصابه خير، وهو ما تسر به النفس من أنواع الجمال، اطمأن به، وإن أصابته فتنة، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال، انقلب على وجهه.

ثم قال لي (2): من الناس من يكون على جانب، غير مخلص.. لا له استجابة توجب الوفاق، ولا جحدا يبين الشقاق، فإن أصابه أمن وخير ولين اطمأن به وسكن إليه، وإن أصابته فتنة أو نالته محنة ارتدّ على عقبيه ناكسا، وصار لما أظهر من وفاقه عاكسا.. ومن كانت هذه صفته فقد خسر في الدارين، وأخفق في المنزلتين.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني أعترض على بلاء نزل بي، فقال: لا تعترض.. فالاعتراض يجمع الجهل بأشكاله وألوانه.. والمعترض يجهل نفسه ومصيره، وعواقب أموره، والله الذي يدبر أمورنا، علام الغيب: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59]

ثم قال لي: لا تعترض.. فإن ما تراه مما تكرهه رحمة من رحمات الله، ولطف من خفي ألطافه ساقه إليك في ثوب ما تكره ليمتحن عبوديتك، ويملأ قلبك بحسن الظن به:

رب أمر تتقيه... جر أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه... وبدا المكروه فيه

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:216]

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 518)

(2) لطائف الإشارات (2/ 532)

القرآن.. والعزاء والشفاء (36)

وعندما سألته توضيحا لهذا المعنى، قال (1): الآية الكريمة تتمة لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، وتعني أن الله تعالى فرض الله على المؤمنين الجهاد في سبيل الله، بعد أن منعهم منه مدة من الزمن في مرحلة قاسية كانت مصلحة الدعوة فيها الأخذ بأسباب الصبر، والدفع بالكلمة الطيبة، والبعد عن رد التحدي بمثله حتى يمتد الإسلام في ساحته، ويستعد لتركيز قواعده في موقع قوة جديد، بحيث لا يملك الآخرون إسقاطه بقوتهم، لأنه يملك آنذاك قوة الرد في ساحة المجابهة.

ثم ذكر لي أن الطبيعة الإنسانية لا تنسجم مع كل الأعمال الشاقة أو الخطرة التي قد تؤدي إلى الألم أو الجرح أو الموت، لأن الإنسان مفطور على حب الراحة والحياة، فيكره ـ بطبيعته ـ كل ما يسلبه ذلك.. ولذلك فإن هذه الكراهة الذاتية لا تتنافى مع رغبة المؤمنين بالجهاد طلبا لمرضاة الله، وطمعا في الحصول على ثوابه، لأن الإنسان يرغب في الأعمال الشاقة، أو الأسفار الخطرة، أو نحو ذلك، من أجل تحصيل المزيد من المال أو الجاه أو السلطة، أو القرب من الله تغليبا للمصلحة الراجحة أو الملزمة على المفسدة المرجوحة أو غير الملزمة.

ثم ذكر لي أن الله تعالى عقب على ذلك بهذه القاعدة العامة، فقال (2): ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، وفيها عزاء للنفوس ومواساة لها في حمل هذا المكروه، وإساغة ما فيه من مرارة، إذ ليس كل ما تستقبل النفوس من مكروه شرا لا خير فيه، وليس كل ما تستقبل من محبوب خيرا لا شر معه، فقد يركب المرء المكروه فيحمله إلى مواقع الخير، ويركب المحبوب فيسوقه إلى مهاوى الردى. والأمور دائما بخواتيمها،

__________

(1) من وحي القرآن (4/ 181)

(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 239)

القرآن.. والعزاء والشفاء (37)

المحجبة وراء الغيب، والكائنة في علم الله، والمحكومة بقضائه وقدره.. وما فرضه الله علينا فالخير كله فيه، وإن اقتضانا جهدا، وحملنا أعباء، فإنه لا أجر بلا عمل، ولا عمل إلا ببذل، وعلى قدر المشقة يكون الجزاء.

ثم ذكر لي السر في ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، ففيها (1): يؤكد الله تعالى بشكل حاسم أنه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكموا أذواقهم ومعارفهم في الأمور المتعلقة بمصيرهم، لأن علمهم محدود من كل جانب ومعلوماتهم بالنسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر، وكما أن الناس لم يدركوا شيئا من أسرار الخلقة في القوانين التكوينية الإلهية، فتارة يهملون شيئا ولا يعيرونه اهتماما في حين أن أهميته وفوائده في تقدم العلوم كبيرة، وهكذا بالنسبة إلى القوانين التشريعية فالإنسان لا يعلم بكثير من المصالح والمفاسد فيها، وقد يكره شيئا في حين أن سعادته تكون فيه، أو أنه يفرح لشيء ويطلبه في حين أنه يستبطن شقاوته.

ثم ذكر لي أن هؤلاء الناس لا يحق لهم ـ مع الالتفات إلى علمهم المحدود ـ أن يعترضوا على علم الله اللامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهية، بل يجب أن يعلموا يقينا أن الله الرحمن الرحيم حينما يشرع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحج فكل ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.

ثم ذكر لي أن هذه الحقيقة تعمق في الإنسان روح الإنضباط والتسليم أمام القوانين الإلهية وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه بالعالم اللامحدود، والمتمثل في علم الله تعالى.

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 102)

القرآن.. والعزاء والشفاء (38)

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني مرة أعترض على بعض ما نزل علي من بلاء، فقال: لا تعترض؛ فإن كل مقادير الله خير لك إن استقبلتها ببصيرة الإيمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر وكان خير له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(1)

ثم قال لي: لا تعترض.. وكن كذلك العبد الصالح الذي لم تغره مباهج جنة صاحبه، وقال في ثقة المؤمن: ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾ [الكهف:40]

ثم قال لي: لا تعترض.. فإن من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره، فإن العارفين يشهدون المنن في المحن، والعطايا في البلايا.. ومن تمام عبوديتك أن تجري عليك مقادير الله بأنواعها، وتهب عليك رياح البلاء لتمتحن عبوديتك.

ثم قال لي: كيف تعترض، وأنت لن ترقى في مقامات العبودية إلا بهذا الذي تعترض عليه؟.. وكيف تعترض، وأنت لن تكون صابرا، ولا متوكلا ولا راضيا ولا متضرعا ولا مفتقرا ولا ذليلا ولا خاضعا إلا باستقبالك لمقادير الله ببصيرة الإيمان؟.. وكيف تعترض، وأنت تعلم أن رضاك عن ربك زرع لرضى ربك عنه، بل رضاك عن ربك علامة على رضا ربك عنك، فلو لم يرض عنك لم ترض عنه.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال يدعوني للرضى عن الله تعالى: لا تعترض.. فإن جميع ما يحدث في الكون أثر من آثار أسماء الله وصفاته، وفيض من فيوضات مشيئته وحكمته، فإن لم ترض بمقادير الله خاصمت أسماء الله وصفاته، وخاصمت الله بمخاصمتها؟

__________

(1) مسلم (2999)، وابن حبان (2896)

القرآن.. والعزاء والشفاء (39)

ثم قال لي: لا تعترض.. فإن حكمه تعالى فيك ماض، وقضاؤه فيك عدل، كما أخبرك الناصح الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ماض في حكمك عدل في قضاؤك)(1).. وكيف لك أن تعترض، وأنت تعلم أنه لا تبديل لكلماته ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؟.. وكيف لك أن تعترض، وقد علمت كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره؟

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: لا تعترض، وسلم لربك، فقد فوضت أمرك إليه، ومن ضرورات التفويض الرضى التام باختيارات المفوض.. وكيف لك أن تعترض، وأنت عبد محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل يتلقاها بالرضى به وعنه؟.. وكيف لك أن تعترض، وأنت تدعي محبته، والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه؟

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: لا تعترض.. فإنك باعتراضك تعبد الله على حرف، فتتلون كما تتلون رياح المقادير، والعبد الكامل ثابت على عبودية سيده، لا تزعزعه الرياح، ولا تجتثه عن غايته الأعاصير.

ثم ذكر لي أن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم حصاد نبات الاعتراض، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم عليه السلام.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: لا تعترض.. فإن اعتراضك عن اختيار الله لك ناشئ من جهلك بالله، فكلما قويت معرفتك صرت كالريشة في مهب الرياح، تقلبها الرياح كما شاءت، فلا تعترض ولا تختار.

__________

(1) مسند أحمد (6/ 247)

القرآن.. والعزاء والشفاء (40)

ثم ذكر لي أن من عرف أن البلايا من مولاه وسيده الذي هو أرحم به من والدته ووالده، كيف يبقى له بالألم إحساس؟.. أم كيف لا يتلذذ به كما يتلذذ بالنعمة سائر الناس؟

ثم أنشدني قول الشاعر:

وخفف عني ما ألاقي من العنا... بأنك أنت المبتلي والمقدر

وما لامرئ عما قضى الله معدل... وليس له منه الذي يتخير

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأنه سبحانه هو المبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدار، هو الذي عودك حسن الاختيار.

ثم قال: كيف تعترض، والله يراك ويسمعك، وهو ما أنزل عليك البلاء إلا ليختبر موقفك، فهل ترضى أن تسقط في الاختبار؟

ثم قال (1): لا تعترض.. فإن السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجود وخير، فالحياة تتكامل بالحركة، وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات الاسماء، وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلما متحركا لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الأجر الأخروي.

ثم قال (2): اعلم انه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، وعليك الصبر؛ لأن وجودك واعضاءك وأجهزتك ليست بملكك أنت، فأنت لم تصنعها بنفسك، وأنت لم تبتعها من أية شركة أو مصنع ابتياعا، فهي ملك لآخر. ومالك تلك الأشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء.

وعندما طلبت منه أن يوضح لي ذلك، قال (3): هب أن صانعا ثريا ماهرا يكلف

__________

(1) المكتوب الثاني عشر: 54.

(2) المكتوب الثاني عشر: 54.

(3) الكلمات: الكلمة السادسة والعشرون: 554.

القرآن.. والعزاء والشفاء (41)

رجلا فقيرا لقاء أجرة معينة ليقوم له لمدة ساعة بدور النموذج، لإظهار صنعته الجميلة وثروته القيمة، فيكلفه بلبس القميص المزركش الذي حاكه، والحلة القشيبة المرصعة التي نسجها، ويطلب منه أن يظهر أوضاعا وأشكالا شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقص ويبدل، ويطول، ويقصر، وهكذا.. فهل يحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: (إنك تتعبني وترهقني وتضيق علي بطلبك مني الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وأنك تشوه الجمال المتألق على هذا القميص الذي يجمل هندامي ويزين قامتي بقصك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟)

ثم قال: هكذا الأمر بالنسبة للصانع الجليل سبحانه وتعالى ـ ولله المثل الاعلى ـ الذي ألبسك قميص الجسد، وأودع فيه الحواس النورانية المرصعة كالعين والأذن والعقل، فلأجل إظهار نقوش أسمائه الحسنى، يبدلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في أوضاع مختلفة، فكما أنك تتعرف على اسمه (الرزاق) بتجرعك مرارة الجوع، تتعرف على اسمه (الشافي) بمرضك.

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني مرة عن بعضهم أنه قال أمام بعض الصالحين: اللهم ارض عني، فقال له: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقيل له: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قال: (إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة)

ثم عقب عليه بقوله: لقد أشار إلى أن للمصيبة سرورا عند العارف كما أن للنعمة سرورا، لأن ما يلحظه العارف في ثنايا المصيبة يبدد الظلمات التي ينفخها الحزن واليأس.

وقد سألته حينها قائلا: فهل للرضى من لذة؟

فقال: أجل هي لذة لا تقل عن لذة الحب، بل إنه لا يمكن أن يرضى من لا يحب،

القرآن.. والعزاء والشفاء (42)

كما لا يحب من لا يرضى، ألم تعلم بأن الرضوان أعلى الدرجات؟.. ألم تعلم أن الصادقين مع ربهم، لا يزال رضاهم بالله ورضاهم عنه رائد علاقتهم بربهم إلى يوم يلقونه، كما قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة:119]

ثم قال: بل نجد في القرآن الكريم أن كل الآيات التي تتحدث عن الرضوان المتبادل بين الله تعالى وعباده الصالحين مرتبطة بالجنة، وكأنها تشير إلى أن الرضوان جنة أخرى من جنان الله، وهي جنة لا تختص بالآخرة، بل تعجل للمؤمنين في الدنيا.

ثم ذكر لي سبب ارتباط الرضوان بالجنة في قوله تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة:8] فقال: (ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما)(1)

ثم استدل بذلك بقوله تعالى ـ وهو يخاطب النفس المطمئنة التي لا تُقبض انتزاعا ـ كما تقبض أرواح المتمردين على الله ـ وإنما تُقبض بأمرها بالرجوع إلى بارئها فتطير شوقا إليه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر:27،28]، وقوله ـ وهو يخبر عن حزبه الذي اعتبر رضوانه فوق كل رضوان ـ: ﴿، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

__________

(1) مفاتيح الغيب (12/ 469)، والفخر الرازي يخالف ـ بهذا ـ الأسلوب الجاف الذي يتعامل به المتكلمون عادة مع مثل هذه الأمور، وقد عقب على قوله هذا بقوله: (وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له)، وقد بين الغزالي علة إنكار بعض المتكلمين للرضى بقوله: (اعلم أنّ من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصوّر؟ فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة، فأما إذا ثبت تصوّر الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أنّ الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب)، إحياء علوم الدين: 4/ 347.

القرآن.. والعزاء والشفاء (43)

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا مْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:22]

قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد ذكر لي أن الرضى عن الله شامل لكل ما جاء عن الله تشريعا كان أم قضاء، فلا فرق بينهما، فكلاهما مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

واستدل للأول بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب:36]

واستدل للثاني بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:164]، وقوله في أول السورة: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:14] أي معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.

3. الرغبة والطمع

بهذا الحديث انتهى المشهد الثاني ليبدأ المشهد الثالث، والذي تعلمت منه دور الرغبة والطمع في فضل الله في العزاء والمواساة والتسلية، بل قد رأيت ذلك رأي العين، ورأيت معه الجزع والاضطراب الذي يصيب من لم يتحققوا بهذا العلاج القرآني.

ويبدأ المشهد من تلك المقبرة نفسها.. فقبل انصراف الناس منها، وسماعهم لما فيها من المواعظ المرتبطة بتأبين الشيخ، قال أحدهم بصوت عال: أرجو ممن وصلت النوبة إليه في عيادة المريض أن يذهب إلى مصحة البلدة، فهناك بعض المرضى ممن يحتاجون إلى عزائكم ومواساتكم وتشجيعكم.. وأنتم تعلمون فضل عيادة المريض، ولا حاجة لتذكيري لكم بذلك.. فاذهبوا واحتسبوا ذلك عند الله.. ولا تنسوا أن تطبقوا كل ما ورد في الوصايا من

القرآن.. والعزاء والشفاء (44)

آداب العيادة.

التفت إلى رجل كان بجانبي، وسألته عن معنى النوبة التي ذكرها، وهل يمكن أن تكون عيادة المريض نوبة؟ فقال: هذا وضع خاص بنا في هذه البلدة، وهو من السنن الحسنة التي سنها لنا معلمنا الكاظم رحمه الله، وقد رأينا جدواها.. ولذلك نحاول الحفاظ عليها، فإذا مرض أي شخص منا، نتداول على زيارته جميعا، وذلك حتى ننال جميعا أجر العيادة من غير أن نضيق عليه.

قلت: فهلا دللتني على ذلك لأتشرف بالزيارة مثلكم.

قال: أجل.. بل هو واجب عليك.. فأنت لم تأت إلى عالمنا إلا لتسمع حديثنا وتسجله، لعل قومك يشعرون بعظمة القرآن الكريم، فيلجؤوا في كل حال يداوون به جراحهم، ويسعدوا به حياتهم.

سرت معه، ومعنا جمع من الناس إلى مصحة البلدة، وهناك وجدنا رجلين يرقدان في غرفة من غرفها.. أما أحد الرجلين، فقد كان مستبشرا فرحا مسرورا، وكأنه في متنزه لا في مصحة.. وأما الثاني فكان قلقا مضطربا مكتئبا، وكأنه يرى الموت بعينيه.. والعجيب أننا عندما سألنا الطبيب عن كليهما، أخبرنا أن الأول المستبشر يعاني من أمراض كثيرة، وهو يعلم بها، وبأضرارها، بينما الثاني داؤه بسيط محدود، وقد تعجب هو كذلك من ذلك التناقض البادي بينهما.. لكنه بعد سماعه لحديث المريض، أدرك السبب، وأخبرنا أنه سيستعمله وسيلة من الوسائل التي يعالج بها مرضاه.

وحتى لا أثقل عليكم، فسأذكر بعض الحوار الذي جرى بيننا وبين المريض المؤمن المحتسب، وخصوصا ما يرتبط بالرغبة ودورها في مواساة المتألمين.

لقد بدأ حديثه بقراءة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18]، ثم

القرآن.. والعزاء والشفاء (45)

قال: أنا مشغول في هذه الأيام عن عد أمراضي التي يخبرني بها الأطباء بعدّ النعم العظيمة التي أفاضها الله علي، ولا يزال يفيضها.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: إن حالي يشبه حال تلك المرأة الصالحة، حين عثرت، وانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.. وأنا مثلها أعد جوائز فضل الله تعالى علي في هذا المرض أو في هذه الأمراض، ولذلك لا أبالي بكثرتها، لأن لكل مرض ثوابه، ولكل ألم جزاؤه.

قلنا: فكم عددت منها؟

قال: هي كثيرة كما ذكر ربنا، ولا يمكن إحصاؤها.. ولهذا ترون أن الله تعالى أمر بتبشير الصابرين، فقال: ﴿وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ﴾ [البقرة:155 ـ 157]، وأنتم تعلمون أن البشارة لا تكون إلا على نعمة وفضل.

سكت قليلا، ثم قال: ولهذا ذكر الله تعالى كثرة الخير المخزن في طيات ما نكره، فقال: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء:19]، وقد قال بعضهم تعليقا على الآية: (لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك)

وقد حدثني معلمي الكاظم الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كان يبشر فيها المبتلين بأنهم سيكونون موضع غبطة الخلق يوم القيامة عندما يعاينون ما أعد الله لهم من جزاء، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن

القرآن.. والعزاء والشفاء (46)

جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)(1)

ثم ذكر لي حديث بعض الصالحين، وهو يشير إلى بعض تلك النعم: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني)

وحدثني عن بعض الصالحين أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس، وهنؤوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال: (إن في العلل لنعما لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد، الخيار)

قلنا: فهلا ذكرت لنا بعضها، أو مجامعها.

قال: أجل.. ويسرني ذلك، سأذكر لكم نعمتين كبيرتين، كان معلمي الكاظم كثيرا ما يحدثني عنهما لمواساتي وعزائي.. أولاهما نعمة التطهير، والثانية نعمة الثواب.

الشاهد الأول

قلنا: فحدثنا عن النعمة الأولى.. نعمة التطهير؟

قال: أنتم تعلمون أن الله تعالى برحمته ولطفه يحب عباده المتطهرين، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، فلذلك يهيء لهم من أسباب الطهارة ما يغسل به الأدران عنهم.. ولذلك قال تعالى في المطر الذي أنزله يوم بدر: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [لأنفال:11]، وقال في الصدقات: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً

__________

(1) الترمذي كتاب الزهد رقم (2403)

القرآن.. والعزاء والشفاء (47)

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:103]، وقال في المحسنين: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر:35]

وأذكر في هذا أن معلمنا الكاظم، مر بي ذات يوم، وأنا مهموم حزين، فقال لي: هل يحزن من به قذارة وأوساخ إذا ما أتاح الله له من يطهره؟

فقلت: مجنون من يفعل ذلك.. وهل هناك عاقل يرغب عن الطهارة؟

قال: فإن الله تعالى ينزل على عباده من أسباب الطهارة ما يجعلهم أهلا لكل فضيلة.. والبلاء من هذه الأسباب.. ولهذا قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 11]، أي (إلا المؤمنين فإنهم لصبرهم على ما به أُمروا، وعما عنه زجروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزّلات.. لهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجر على إحسانهم.. والفريقان لا يستويان)(1)، كما قال أحدهم.

أحبابنا شتّان واف وناقص... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض

ثم حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)(2).. وذكر لي أنه عندما نزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ [النساء:123] بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها)(3)

وذكر لي أنه عندما دخل عبد الله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه وجده وهو يوعك وعكا شديدا، فقال: إنك لتوعك وعكا شديدا، إن ذاك بأن لك أجرين، قال: (أجل ما من

__________

(1) لطائف الإشارات (2/ 127)

(2) مسلم (2573)، والبيهقي 3/ 373.

(3) مسلم (2574)، والترمذي (3038)

القرآن.. والعزاء والشفاء (48)

مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر)(1)، ثم قال: ولذلك يتخلص المؤمن في مرضه ـ بقدر سعة صبره ورضاه ـ من كل الذنوب التي رانت على قلبه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل المريض إذا برأ وصح كالبردة تقع من السماء في صفائها ولونها)(2)

ثم حدثني عن بعضهم أنه قال: (تقول الملائكة: يا رب، عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه قالوا: يا رب، لا يضره ما أصابه من الدنيا، قال: ويقولون: عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، فإذا رأوا عقابه قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا)(3)

ثم ذكر لي أن هذا هو السبب في ورد النهي عن سب المرض، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم السائب، فقال: (ما لك يا أم السائب تزفزفين؟) قالت: (الحمى، لا بارك الله فيها)، فقال: (لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)(4)

ثم ختم حديثه بقوله: إن البلاء رحمة من رحمات الله.. ولا ينبغي أن يسب عاقل رحمة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبشر المرضى، فقد عاد صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من وعك كان به فقال: (أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار)(5).. وعاد أم العلاء، وهي مريضة فقال: (أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)(6)

__________

(1) البخاري (7/ 149 (5647)

(2) الترمذي: 4/ 411.

(3) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 166)

(4) ابن ماجه (2887)، وأبو يعلى (198)، والطبري 2/ 310.

(5) الترمذي (2088)، وابن ماجه (3470)، والحاكم 1/ 345

(6) أبو داود (3092)

القرآن.. والعزاء والشفاء (49)

سألته حينها عن سر كون البلاء مطهرا من الذنوب، فقال: لأجل ما يحدثه في القلب من ترفع عن الدنيا، وعدم تعلق بها، ونوع من الزهد فيها، فحب الدنيا رأس كل خطيئة.

فقلت له: البلاء نعمة من هذا الوجه يجب الفرح بها.. ولكن الألم مع ذلك موجود؟

فابتسم، وقال (1): أجل.. هو ضروري، وهو يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجانا، أو يسقيك دواء نافعا بشعا مجانا، فإنك تتألم، وتفرح، فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح، فكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذى يؤلم في الحال وينفع في المآل.. وعكس ذلك من دخل دار ملك للنظر فيها، وعلم أنه يخرج منها لا محالة، فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار.. فإن ذلك وبال عليه وبلاء..

فقلت: لم؟.. فقد رأى حسنا.

فقال: لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه، ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه، فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه، وهكذا الدنيا، فهي (منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم، وهم خارجون عنها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة)(2)

الشاهد الثاني

قلنا: حدثتنا عن النعمة الأولى.. فحدثنا عن النعمة الثانية.. نعمة الثواب؟

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 130)

(2) إحياء علوم الدين: 4/ 130.

القرآن.. والعزاء والشفاء (50)

قال: أجل.. فهي النعمة التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96]، أي (1): الذي عندكم عرض حادث فان، والذي عند الله من ثوابكم في مآلكم نعم مجموعة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.. أو ما عندكم أو ما منكم أو ما لكم أفعال معلولة وأحوال مدخولة، وما عند الله فثواب مقيم ونعيم عظيم.. أو ما منكم من معارفكم ومحابكم آثار متعاقبة، وأصناف متناوبة، أعيانها غير باقية وإن كانت أحكامها غير باطلة، والذي يتصف الحقّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفات أزلية ونعوت سرمدية.

ثم سكت قليلا، وكأنه يتذكر شيئا، ثم قال: لقد قال لي معلمي الكاظم يوما: حين تزاح الغشاوة التي تكسو العيون في الدنيا، فتفسد بسببها المقاييس يدرك الخلق الكنوز التي كان يخفيها البلاء، فيودون ما أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)(2)

فسألته عن مظاهر هذا الثواب، فقال: ثلاثة.. وهي بحسب حال المبتلى من الرضى والصبر والتوكل.. فسألته عن أولها، فقال: أولها تخفيف حسابهم يوم القيامة إن صبروا واحتسبوا، وهذه نعمة عظيمة، ذلك أن أعظم ما يخافه كل مؤمن هو الحساب.. أن تنشر صحفه، فيعاين جرائمه.. أو يفضح بين الخلائق.. وهو موقف صعب جدا.. فأحدنا لا يطيق الوقوف في محكمة الدنيا ليحاسب، فكيف يطيق الوقوف في محكمة الآخرة؟

ثم ذكر لي بعض ما ورد من البشارات لأهل البلاء الحاصلين على هذا النوع من الثواب، ومنها روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها لمم فقالت: (يا رسول الله، ادع الله أن

__________

(1) لطائف الإشارات (2/ 318)

(2) الترمذي (2403)

القرآن.. والعزاء والشفاء (51)

يشفيني) قال: (إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)، قالت: (بل أصبر ولا حساب علي)(1).. ومنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويُصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم)(2)

أذكر أني قلت له حينها: هذه بشارة عظيمة ترفع المبتلى إلى درجات تفوق درجات الشهداء والمتصدقين.

فقال: وليس ذلك على الله بعزيز، فإن من المبتلين من يموت في اليوم مائة مرة، بينما الشهيد لا يموت إلا مرة واحدة، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن (الطاعون شهادة لكل مسلم)(3)

فسألته مستغربا: أهذا احتقار للشهادة؟

فقال: معاذ الله أن أقول ذلك.. فلولا عظمة الشهادة ما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف.

فسألته عن سر هذا الجزاء، فقال: لأن البلاء الذي يقع على المؤمن المحتسب يطهره من ذنوبه، فلذلك إن عظم البلاء، وصبر عليه المبتلى، لقي الله وليس عليه ذنب يحاسبه عليه، وقد روي في هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعود زيد بن أرقم وهو يشتكي عينيه فقال له: (يا زيد، لو كان بصرك لما به كيف كنت تصنع؟)، قال: (إذا أصبر وأحتسب)، قال: (إن كان بصرك لما به ثم صبرت واحتسبت لتلقين الله عز وجل

__________

(1) ابن حبان (2909)، والبغوي (1424)

(2) البيهقي في السنن 3/ 375، وفي الشعب (9921)

(3) الدارمي 2/ 207، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (777)، والطبراني في الكبير (7328)

القرآن.. والعزاء والشفاء (52)

وليس لك ذنب)(1)

حينها سألته عن الثواب الثاني، فقال: الثواب الثاني هو الجنة.. دار السعادة الأبدية، فقد قرن الله تعالى الصبر بالجنة، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22 ـ 24]، أي (2): والذين صبروا على مشاق الطاعة وترك المخالفة.. أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى.. فعلوا ذلك ابتغاء وجه ربهم طلبا لرضاه، لا فخرا ولا رياء، ولا طلبا لحظ نفساني.. وأقاموا الصلاة المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال فرضا ونفلا، سرا وعلانية إن تحقق الإخلاص.. أو سرا لمن لا يعرف بالمال، وجهرا لمن يعرف به لئلا يتهم، أو ليقتدى به.. ويدرؤن بالحسنة السيئة أي يدفعون الخصلة السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالا لقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96]

ثم ذكر لي أن هؤلاء الذين قاموا بكل هذا، هذا هو جزاؤهم: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22]، أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلها، وهي: الجنة التي فسرها بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ [الرعد: 23] أي: إقامة، يدخلونها مخلدين فيها، فيدخلونها ومن صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ في العمل مبلغهم، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم.

ثم حدثني بما ورد في الأحاديث الشريفة مما يؤكد ذلك، ويبين أن البلاء الذي

__________

(1) مسند أحمد (20/ 42)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 22)

القرآن.. والعزاء والشفاء (53)

يصاحبه الرضا والصبر يقود صاحبه إلى الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه)(1)

ومثل ذلك ما روي عن عطاء قال، قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)(2)

ومثلهما ما روي عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة الخولاني، فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد)(3)

بعدها سألته عن الثواب الثالث، فقال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132]، أي (4): لكل درجاتهم ومنازلهم عند الله، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة،.. ولا يظلم ربك أحدا.. فـ (المحسن في روح الثواب متنعّم، والمذنب في نوح العذاب متألم)(5).. ومثل ذلك ما أشارت إليه الآيات الكثيرة كقوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 162 ـ 163]، وقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ

__________

(1) البخاري (5/ 2140)

(2) البخاري (5652)، ومسلم (2576)

(3) ابن حبان (2948)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (581)

(4) التفسير القرآني للقرآن (13/ 279)

(5) لطائف الإشارات، القشيري (1/ 504)

القرآن.. والعزاء والشفاء (54)

وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75]، وقوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأحقاف: 19]

حينها سألته عن علاقة البلاء برفع الدرجات، فذكر لي الحديث الذي يبين ذلك، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى)(1)، وقوله: (ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيصبر إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة)(2)

ومثل ذلك ما روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)(3)

ثم حدثني ببعض ما ورد في الأخبار الإسرائيلية التي لا تتعارض مع القرآن الكريم، ومنها ما روي أن رجلا قال لموسى عليه السلام: يا موسى، سل الله لي حاجة يقضيها لي هو أعلم بها؛ ففعل موسى؛ فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله؛ فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: (يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة)(4)

ثم حدثني بما وردت به الأحاديث الشريفة من استمرار ثواب المبتلين، حتى ولو لم

__________

(1) أبو داود (3090)

(2) أمالي المحاملي رواية ابن يحيى البيع (ص 332)

(3) عبد بن حميد (146)، والدارمي (2783) والحاكم 1/ 41.

(4) تفسير القرطبي (16/ 31)

القرآن.. والعزاء والشفاء (55)

يعملوا، ما دامت نياتهم مرتبطة بالعمل، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 91 ـ 92]

ومن تلك الأحاديث التي ذكرها لي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه اغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له)(1)

ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل، ما دام محبوسا في وثاقي)(2)

ومثله ما ورد في الأثر الإلهي: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح)(3)

وذكر لي ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن مجرد الاسترجاع عند تذكر المصيبة له ثوابه عند الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب)(4)

سكت قليلا، ثم قال: أذكر حينها أني ذكرت له ما ورد في الأحاديث والروايات

__________

(1) شعب الإيمان (7/ 181)

(2) مسند أحمد (11/ 423) وابن أبي شيبة 3/ 230.

(3) المعجم الأوسط للطبراني (5/ 74)

(4) ابن ماجه (1600)، وأبو يعلى (6777) و(6778)

القرآن.. والعزاء والشفاء (56)

الشريفة من أمثال قول الإمام علي: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار)(1)

ومثله قول الإمام الصادق: (العبّاد ثلاثه: قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ خوفا، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلبا للثّواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّا له فتلك عبادة الأحرار)(2)

ومثلهما قول الإمام الباقر: (إنّ الناس يعبدون اللّه على ثلاثة أوجه، فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفا من النار، فتلك عبادة العبيد وهي رهبة، ولكنّى أعبده حبّا له عزّ وجلّ فتلك عبادة الكرام)(3)

فقال لي بهدوء: أئمة الهدى أعظم وأشرف من أن يخالفوا ما ورد في القرآن الكريم من الإخبار عن طمع المؤمنين والصالحين في فضل الله.. فالطمع في فضل الله لا يتنافى مع محبته ولا صدقه ولا إخلاصه.

فسألته عن كيفية التوفيق بين ما ذكره وما ورد في تلك الروايات، فقال: الإخلاص والتجرد لا يتنافيان مع الرغبة والطمع في حد ذاتهما، وإنما باعتبار موقف المتحلي بهما؛ فإن كان قصده من العمل الرغبة والطمع المجردين، بحيث لو لم يوفر له ما يرغب فيه يترك العمل؛ فإن ذلك قادح في الإخلاص ومؤثر فيه؛ فقصد العمل في الحقيقة ليس ذات الذي طلب منه العمل، وإنما تلك المطامع والأجور التي وفرها له.

ثم ذكر لي أن أئمة الهدى أنفسهم يذكرون الجنة ورغبة الصالحين وطمعهم في أن ينالهم فضل الله، فيدخلونها، ومن ذلك ما روي عن الإمام في وصفه للمتقين، حيث قال:

__________

(1) نهج البلاغة ج 2 ص 197.

(2) اصول الكافي، ج 2، ص 84.

(3) علل الشرائع، ج 1، ص 41.

القرآن.. والعزاء والشفاء (57)

(عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون)(1)

ومثل ذلك قوله في أول خطبة في خلافته: (الفرائض، الفرائض! أدوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة)(2).. وقوله في بعض خطبه: (عباد الله، أوصيكم بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة)(3)

ثم قرأ لي ما ورد في القرآن الكريم من وصف الله تعالى للمؤمنين ذوي المراتب العالية بالطمع في فضل الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]، وقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]

ومثل ذلك حدثني بما ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة، والتي يذكر فيها الجزاء الذي أعده الله للمؤمنين أصحاب الأعمال الصالحة، ولو كان ذلك قادحا في الإخلاص لما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم قال لي ناصحا: لا تصغ لمن يحتقرون الجنة ونعيمها، ويتوهمون أن ذلك من الكمال؛ فما كان للكامل أن يحقر ما عظم الله، أو يجحد فضل الله على عباده بما أعده لهم من النعيم.. والكامل هو الذي يتعامل مع كل صفة أو فعل إلهي بما يقتضيه؛ فإن ذكر النعم

__________

(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم (193)

(2) نهج البلاغة، الخطبة رقم (167)

(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم (191)

القرآن.. والعزاء والشفاء (58)

شكرها، وإن ذكر البلاء تعوذ منه، وصبر عليه إن نزل به، وإن ذكر الله أحبه وعبده وأخلص له.

ثم ضرب لي مثالا يقرب ذلك، فقال: أرأيت إن كان لك أستاذ تحبه وتحترمه كثيرا، وتشعر أنك تستفيد منه.. فكلفك بالقيام بحل مسألة من المسائل الصعبة، وأخبرك أن حلك لها سيفيدك كثيرا في مستقبلك العلمي.. وأخبرك أنك من خلالها يمكنك أن تنتقل إلى مركز من مراكز الأبحاث الكبرى، وقد تنال هناك الجوائز الكثيرة، فرحت ـ بناء على ما ذكره ـ تقوم بحل تلك المسألة، وتفرح بتكليفه لك بها، وأنت تشعر أنك ستقوم بذلك، حتى لو لم يعدك بما وعدك به.. فيكفي عندك أن يطلب منك ذلك.. لكنك في نفس الوقت فرحت بطلبه، وزاد في تشجيعك، لأنه يتيح لك فرصا أخرى للعلم والبحث.. فهل ترى ذلك قادحا في إخلاصك لأستاذك؟

ثم طبق هذا المثال على ما سألته، فقال: هكذا الأمر بالنسبة للمؤمنين المخلصين الذين يشعرون أن عبادتهم لله ليست لطلب العوض، وإنما لكونه يستحق العبادة.. ولكن ذلك لا يعني احتقار الهدايا التي وعدهم بها، لأن في احتقارها إساءة لمن أهداها.. بالإضافة إلى أن طمع المؤمنين في الجنة ليس لما أتيح فيها من النعيم الحسي فقط، بل لما فيها من النعيم المعنوي، وأولها الظفر بالقرب الإلهي، ومعية الصالحين والأولياء.. فالجنة ليست مرقصا كما يتوهم الغافلون، بل هي مسجد لعبادة الله والتعرف عليه والتواصل معه.. ولذلك فإن حنين الصالحين إليها لا يختلف عن حنينهم للمساجد في الدنيا.. بل حنينهم لها أشد، لأنهم يلاقون فيها كل أنبياء الله وأئمة الهدى الذين امتلأت قلوبهم شوقا إليهم.

ثم قرأ علي من القرآن الكريم ما يبين دور الرغبة في فضل الله تعالى في تزكية النفس والارتقاء بها في سلم الكمال، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ

القرآن.. والعزاء والشفاء (59)

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 82]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [العنكبوت: 58]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [هود: 23]، وقوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [مريم: 60]، وقوله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [الزمر: 74]، وقوله: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: 72]، وقوله: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 63]

وغيرها من الآيات الكثيرة التي تعتبر العمل الصالح شرطا من شروط دخول الجنة، وهو يطلق على كل المكارم التي تتحلى بها النفس المطمئنة، سواء كان القصد منها الترقي في درجات التحقق، أو درجات التخلق.

وهكذا حدثني معلمي الكاظم عن الكثير من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث لا نكاد نجد عملا صالحا إلا وله الجزاء الخاص به؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمارس دوره التربوي في هذه الأمة من خلال التبشير والإنذار الذي اعتبره الله تعالى من وظائفه المكملة والمساعدة على وظيفة التزكية، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث بعض أصحابه عنه، قال: شهدت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ثم قرأ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ

القرآن.. والعزاء والشفاء (60)

قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 16، 17])(1)، فهذا الحديث يبين منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التزكية، وتوظيفه لنعيم الجنة في ترغيب المؤمنين في الأعمال الصالحة.

ومثل ذلك حدثني بما ورد من الأحاديث في الدعوة لتعميق الحقائق الإيمانية في النفس كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)(2)

ومثله ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: دلني على عمل أعمله، يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار قال: (تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك) فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تمسك بما أمر به دخل الجنة)(3)

ومثله ما ورد في الدعوة لقراءة القرآن الكريم أو بعض آياته وسوره، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)(4)، وقوله: (سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية، خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، وهي سورة تبارك)(5)، وقوله: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)(6)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للسجود، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار)(7)

__________

(1) البخاري (6/ 230)، و(8/ 396)، ومسلم (2824)

(2) البخاري (3435) ومسلم (28)

(3) مسلم (13)

(4) النسائي في سننه الكبرى (9848)

(5) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127): الطبراني في الصغير والأوسط.

(6) ابن حبان (167) والطبراني في الكبير (9/ 132 رقم 8655)، (10/ 198)

(7) مسلم (81)

القرآن.. والعزاء والشفاء (61)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للطهارة وإسباغها، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من مسلم يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)(1)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للاستغفار، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)(2)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لبعض الأذكار، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح في دبر كل صلاة عشرا ويحمد عشرا، ويكبر عشرا، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمس مائة في الميزان، ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويسبح ثلاثا وثلاثين، فذلك مائة باللسان وألف في الميزان)(3)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لذكر الله في محال الغفلة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيتا في الجنة)(4)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لطلب العلم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه

__________

(1) مسلم (234)

(2) البخاري (6306)

(3) أبو داود ((5065) والنسائي ((1347) والترمذي (3410)

(4) الترمذي (3428 ـ 3429) والحاكم (1/ 538 ـ 539)

القرآن.. والعزاء والشفاء (62)

علما سهل الله له به طريقا في الجنة)(1)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للصلاة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة)(2)، وقوله: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة)(3)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لبعض القيم الروحية والاجتماعية، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)(4)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للصيام والترغيب فيه، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجنة بابا، يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد)(5)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للحج والعمرة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة)(6)

ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للجهاد في سبيل الله، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)(7)

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي يقترن فيها العمل الصالح بالفضل الإلهي،

__________

(1) مسلم ((2699)

(2) البخاري (574) ومسلم (635)

(3) أبو داود ((1420) وابن ماجه ((1401) وابن حبان (1729) وأحمد (5/ 315) والبيهقي (1/ 361)

(4) الترمذي ((2485) وابن ماجه (3251)

(5) البخاري ((1896) ومسلم ((1152)

(6) البخاري (1773) ومسلم (1349)

(7) البخاري (2787) ومسلم (1876)

القرآن.. والعزاء والشفاء (63)

ولولا تأثير ذلك الترغيب في النفس، ومساهمته في تزكيتها وترقيتها، ما استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم ختم معلمي الكاظم حديثه هذا بقوله: لذلك احذر من أولئك الذين يسخرون من مثل هذا، وهم في نفس الوقت قد يتصارعون على فتات الدنيا القليل.. فالعجب ممن يزهد في جنة الله التي هي دار أنبيائه وأوليائه في نفس الوقت الذي يتكالب فيه على الدنيا، ويتوهم أنه من العارفين الحكماء.

ما إن انتهى المريض من حديثه، وسرد ذكرياته عن معلمه الكاظم، حتى سمعنا المريض الثاني، والذي كان إلى جواره، يبكي بكاء شديد، ثم يقوم من مكانه، ويقبل رأس المريض الذي حدثنا، ويقول له: أرجوك.. سلمني المصحف الذي كنت تقرأه دائما.. أظن أنه العلاج الأكبر الذي يشفيني من همومي وأحزاني.. فالداء الذي تسلط على جسدي لا يساوي شيئا أمام ذلك الداء الذي أصاب روحي ونفسي.. وويل لي إن لقيت ربي، وأنا بهذه الحال.

وقد سر المريض الأول كثيرا بهذا الطلب، وسلمه مصحفا كان لديه، وسلم الطبيب مثله، وقد تعجبنا لوجود مصاحف كثيرة لديه، وسألناه عن سر صحبتها له، فقد كان يكفيه أن يكون لديه مصحف واحد، فقال لنا: منذ ملأ معلمي الكاظم نفسي بتلك المعاني، ومنذ أصبح القرآن الكريم ربيع روحي وأنسها، صرت أحمل المصاحف دائما، وكل ما رأيته مهموما أو مبتلى أو حزينا، طلبت منه أن يقرأه، ليعالج به كل آلامه.. فالقرآن هو كتاب الهداية الأعظم، كما أنه كتاب العزاء الأعظم.

وقد أخبرنا الطبيب بعد أن التقيت به قبل عودتي إلى أهلي بأن المريض الثاني، قد تحسن بعد ذلك المشهد كثيرا، ثم لم يلبث أن غادر المصحة، وهو بكامل صحته، بل أضاف

القرآن.. والعزاء والشفاء (64)

إليها صحة جديدة كان يفتقدها.

4. التأديب والتذكير

هذا هو المشهد الثالث، والذي لا يزال تأثيره الكبير في نفسي إلى الآن، وأما المشهد الرابع، والذي تعلمت منه دور الابتلاء والمحن في التربية والهداية والإصلاح، ومن ثم دوره في العزاء والمواساة والتسلية، فقد بدأ بعد مغادرتي للمصحة، حيث صادفت في الطريق مقهى مكتوبا عليه [مقهى التأديب والتذكر]، فتعجبت في سبب اختيار صاحب النادي لهذا الاسم.

وعندما دخلت إليها وجدت ناسا كثيرين مجتمعين، يرتشفون القهوة والشاي، وفي نفس الوقت يستمعون لأحاديث بعضهم بعضا.. وهو ما أثار استغرابي كثيرا، فلم أعهد ذلك في مقاهي قريتنا، ولا ما أعرفه من المدن.. وسأحكي لكم ما سمعته مما يرتبط بهذا الجانب.

الشاهد الأول

قال أحدهم: أما وقد جاء دوري، فسأحدثكم عما ذكره لي معلمنا الكاظم رحمه الله عندما رآني مهموما حزينا بعد بلاء شديد نزل بي، لقد قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الانبياء:87]، ثم قال لي (1): من تحققت له سابقة العناية لا تبعده الجناية، ولا تخرجه عن دائرة الولاية، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله، على قدر الجناية وعلو المقام، ثم يرد إلى مقامه.

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 493)

القرآن.. والعزاء والشفاء (65)

فسألته عن توضيح ذلك، وسره، فقال: إن الله تعالى له عناية خاصة بأهل الخصوصية من عباده، حيث يؤدبون على أقل شيء لشدة قربهم، ثم يُردون إلى مقامهم.. ولهذا، فإن يونس عليه السلام خرج من غير إذن خاص، فأدبه ربه، ثم رده إلى النبوة والرسالة.

ثم ذكر لي أن هذا التأديب هو الذي وقع لآدم عليه السلام بعد أكله من الشجرة التي نهي عنها.. فقد ابتلي ليؤدب أمام أوامر ربه، وليعرف مدى عداوة الشيطان له، فكان ظاهر بلائه نقمة، وباطنه رحمة، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [لأعراف:22]

أذكر أني حينها قلت له مستغربا: ولكنه ـ مع ذلك ـ وللأسف ـ خرج من الجنة.

فقال: نعم.. وقد كان من أكبر نعم الله عليه أنه خرج من الجنة.

فتعجبت، وقلت: ما هذا ـ يا معلم ـ أكانت الجنة نارا حتى يكون خروجه منها نعمة؟

فقال: لم تكن نارا، ولكن سكونه إليها هو النار.. لقد انقلب آدم عليه السلام بعد خروجه من الجنة شخصا آخر.. فعندما خرج منها بأسياف البلاء ـ تحقق فيه ما أريد منه من منصب الخلافة العظيم الذي خلق له.

ثم ذكر لي كلاما لبعضهم على لسان الحضرة الإلهية يقول فيه مخاطبا آدم عليه السلام: (يا آدم لا تجزع من قولي لك: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [لأعراف:24]، فلك ولصالح ذريتك خلقتها.. يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.. يا آدم لا تجزع من قولي لك: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾ [البقرة:216]، يا آدم! لم أخرج إقطاعك إلى غيرك، إنما نحيتك عنه؛ لأكمل عمارته لك،

القرآن.. والعزاء والشفاء (66)

وليبعث إلي العمال نفقة ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ [السجدة: 16])(1)، ثم قال: (تالله ما نفعه عند معصيته عز ﴿اسْجُدُوا﴾ [الفرقان: 60] ولا شرف ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ﴾ [البقرة: 31]، ولا خصيصة ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، ولا فخر ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [ص: 72]، وإنما انتفع بذل ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23])(2)

الشاهد الثاني

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة في حالة شديدة، فحدثني بما ورد في القرآن الكريم من الإخبار بابتلاء الله لعباده بسبب الذنوب التي يقعون فيها، وذكر لي أن هذا الابتلاء يشبه تماما تقريع المعلم لتلميذه رادعا له ومؤدبا.

ثم قرأ لي قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، وقال (3): إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره.. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص لم يستوحش منها، بل يفرح بها إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح لعلمه أن ذلك زيارة وترقية.

ثم قال لي: إن الآية الكريمة تبيّن بوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي إلا ما كان من البلاء المتعلق بالمقربين من الأنبياء والصديقين، فله نواح أخرى غير هذا.

ثم ذكر لي ما روي في الحديث من أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من

__________

(1) الفوائد:35.

(2) الفوائد:36.

(3) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 221)

القرآن.. والعزاء والشفاء (67)

اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر)(1)

وأذكر أني حينها سألته عن وجه كون التأديب نعمة، فقال: لقد كانت ملاحظة الصديقين لهذا سبب سرور عظيم، فقد لحظوا عناية الله بهم وتأديبه لهم، وغابوا بهما عن ألم الأنين الذي حل بهم، ولهذا قال الإمام على: (ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، ثم قال: (يا علي ما أصابكم من مرض أوعقوبة أوبلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه)(2)

وأذكر أني حينها قلت له: إني أرى البلاء لا ينزل على الأفراد فقط، بل هو يعدوها إلى المجتمعات، فهل هو من التأديب؟

فقال: أجل.. فإن الله برحمته ولطفه وحكمته يرسل تنبيهاته للمجتمعات حتى تعود إلى ربها وتتأدب بين يديه.

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]، ثم قال (3): إن كل هذا الفساد الذي ظهر على هذه الأرض، وشمل برها وبحرها، هو من صنع الناس، لأنهم هم الخلفاء عليها، وهم أصحاب الإرادات العاملة فيها.. إن كل ما على هذه الأرض من كائنات، إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها، دون أن تخرج عليها.. ولهذا كان كل نوع من الكائنات على طريق واحد، لا اختلاف فيه بين فرد وفرد.. والإنسان وحده،

__________

(1) البيهقي في شعب الإيمان (9356)

(2) مسند أبي يعلى (1/ 352)

(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 529)

القرآن.. والعزاء والشفاء (68)

هو الذي يعيش في الجماعة الإنسانية ذاتا مستقلة، لها تفكيرها، ولها أسلوبها في الحياة.. ومن هنا كان التغيير والتبديل في المجتمعات الإنسانية، وكانت الحروب الدائرة بينها، وكانت هذه الانحرافات والضلالات في العقائد والمعاملات، من كفر بالله، وكذب، وغش، وخداع، ونفاق.. إلى غير ذلك مما تمتلئ به دنيا الناس من مساوئ ومقابح.

ثم ذكر لي أن في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41] تنبيه إلى أن العلة في ذلك ليس الانتقام وإنما التأديب.

ثم استدل لذلك بقوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ [النساء:147]، ثم قال (1): هذه الآية الكريمة من الآيات التي توجب حسن الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين: الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوّن السبيل على العبد حين رضي منه بقالته وحالته.

ثم قال (2): ربنا الكريم العظيم يخاطبنا في تلك الآية الكريمة، ويذكر لنا أنه لا حاجة له في عذابنا، فلا يشفى به غيظا ولا يدفع به ضررا، أو يستجلب به نفعا لأنه غني عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض، فإن زال بالإيمان والشكر، ونقى منه قلبه، تخلص من تبعته.. وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعم أولا فيشكر شكرا مبهما، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به.

الشاهد الثالث

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة في حالة شديدة، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ

__________

(1) لطائف الإشارات (1/ 380)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 581)

القرآن.. والعزاء والشفاء (69)

بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [لأنفال:53]، ثم قال (1): إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها.. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر.

وعندما سألته عن زيادة توضيح لما ذكره، قال: لقد وردت هذه الآية الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 52]، وتعني (2): أن عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك، في استمرارهم على الكفر والمعاصي، كعادة آل فرعون والذين مضوا من قبلهم، ثم فسر دأبهم فقال: ﴿كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 63] الدالة على توحيده، المنزلة على رسله، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [غافر: 21] كما أخذ هؤلاء، ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 52] لا يغلبه في دفعه شيء.

ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي حل بهم، بسبب ذنوبهم وكفرهم لأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم فيبدلها بالنقمة، ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [لأنفال:53] أي: حتى يبدلوا ما بأنفسهم، من حال الشكر إلى حال الكفر، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية.

ثم ذكر لي أن هذه سنة اجتماعية قرآنية لا يمكن تخلفها، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آية أخرى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 340)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 340)

القرآن.. والعزاء والشفاء (70)

بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11]، أي (1): إن لهذا الإنسان الذي يسر القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار في ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس في وضح النهار، موكل به من قبل الله، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كل نفس يتنفسه، وكل خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. وقوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11].. أمر الله هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54] والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير الله، وحكمه، وقضائه في عباده.

فسألته عن سر الجمع بين ذكر الله تعالى لنعمة المعقبات الحفظة وتغيير الله للنعم بحسب أحوال عباده، فقال (2): في قوله تعالى في أول الآية: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11] ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من الله، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع في نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفية أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هي أشبه بالآلات المصورة، أو المسجلة.. تصور ما يقع، وتسجل ما يحدث، دون أن تتدخل في مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد.. ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 80)

(2) التفسير القرآني للقرآن (7/ 81)

القرآن.. والعزاء والشفاء (71)

ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه.. وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان حرية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه الله سبحانه وتعالى له.. فالناس يبذرون الحب.. والله سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرا..

ثم قال لي (1): وفي تعليق تغيير أحوال الناس بتغير ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هي جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها هي السلطان الآمر للإنسان، والموجه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيرت النفس اتجاه مسيرها، تغير تبعا لذلك سير الإنسان في الحياة.. وفي إضافة التغيير إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة الله سبحانه وتعالى هي التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هي التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير.. ومعنى هذا، أن إرادة الله سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل في محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، في محيط إرادة الله العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج في تحركها وعملها عن إرادة الله، كما قال تعالى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: 4]، وقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]

الشاهد الرابع

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة في حالة شديدة، فقال لي: المحن آداب الله عز وجل لخلقه، وتأديب الله يفتح القلوب والأسماع والأبصار.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 82)

القرآن.. والعزاء والشفاء (72)

ثم قال: إن الله تعالى ليمتحن العبد، ليكثر التواضع له، والاستعانة به، ويجدد الشكر على ما يوليه من كفايته، ويأخذ بيده في شدته، وإن دوام النعم والعافية، يبطران الإنسان، حتى يعجب بنفسه، ويعدل عن ذكر ربه.

ثم أنشدني قول الشاعر:

لا يترك الله عبدا ليس يذكره... ممن يؤدبه أو من يؤنبه

أو نعمة تقتضي شكرا يدوم له... أو نقمة حين ينسى الشكر تنكبه

ثم قال: البلاء مدرسة من مدارس الله لتأديب عباده.. ألا تراهم يدربون الجنود بالجوع والعطش؟.. ألا ترى كيف درب الله تعالى موسى عليه السلام برعي الغنم.. ودرب يوسف عليه السلام بالسجن؟.. فكذلك رحمة الله اقتضت أن يذيقنا بعض البلاء ليتربى في نفوسنا ما يعجز الترف على تربيته.

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر:37]، ثم قال: من الأقوال في تفسيرها أن المراد بالنذر الأمراض (1)، وقد ورد في الحديث: (الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض)(2)

ثم قال (3): وقد ورد في الآثار ما يدل على هذا المعنى، فقد روي أن بعض الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت عليه السلام: أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغير السمع والبصر، فإذا لم يتذكر من نزل به ولم يتب، فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولا بعد رسول ونذيرا بعد نذير؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي

__________

(1) القرطبي: 14/ 354.

(2) المرض والكفارات لابن أبي الدنيا (ص 73)

(3) ذكره القرطبي في التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (199)

القرآن.. والعزاء والشفاء (73)

ليس بعدي نذير، فما من يوم تطلع فيه شمس ولا تغرب إلا وملك الموت ينادي: يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة وأعضاؤكم قوية شداد.. يا أبناء الخمسين قد دنا وقت الأخذ والحصاد.. يا أبناء الستين نسيتم العقاب وغفلتم عن رد الجواب فما لكم من نصير: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر:37]

أذكر أني سألته حينها قائلا: ما وجه كون التذكير بهذا نعمة؟

فقال: إذا علم المؤمن بقرب أجله سارع إلى المبادرة، قبل أن يفوت الأوان.. وليس ذلك فقط، بل إن البلاء في صوره المؤلمة يجعل صاحبه يقلع عما هو فيه من الغي، فلا يلقى الله وهو في سكرات غيه.

ثم حكى لي عن بعضهم قوله: إن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من وفيات هنا وهناك، تقطر ذلك الألم المرير إلى نفس كل إنسان، وتنذره دوما بمصيره المحتوم، فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيم معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم ذلك العذاب الأليم (1).

ثم قال لي (2): أيها المسكين الشاكي من المرض.. إن المرض يغدو كنزا عظيما لبعض الناس، وهدية إلهية ثمينة لهم.. وباستطاعة كل مريض أن يتصور مرضه من هذا النوع، حيث أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الأجل مجهولا وقته، إنقاذا للإنسان من اليأس المطلق أو من الغفلة المطلقة، وإبقاء له بين الخوف والرجاء، حفظا لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الخسران.. أي أن الأجل متوقع مجيئه كل حين، فإن تمكن من الإنسان

__________

(1) الكلمة الثالثة عشرة، ص 158

(2) اللمعة الخامسة والعشرون: 326.

القرآن.. والعزاء والشفاء (74)

وهو سادر في غفلته يكبده خسائر فادحة في حياته الأخروية الأبدية.. فالمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكر بالآخرة ويستحضر الموت في الذهن فيتأهب له.. بل يحدث أن يربحه ربحا عظيما، فيفوز خلال عشرين يوما بما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة.

وكعادة معلمنا الكاظم في ضرب الأمثال، فقد حكى لي مثالا رائعا، قال فيه (1): كان هناك فَتَيان ـ يرحمهما الله ـ ورغم كونهما أميين من بين طلابي، فقد كنت ألحظ بإعجاب موقعهما في الصف الأول في الوفاء والصدق وفي خدمة الايمان، فلم أدرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت أنهما كانا يعانيان من دائين عضالين، وبإرشاد من ذلك المرض أصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم، فنسأل الله أن تكون سنتا المرض والمعاناة اللتان قضياهما في الحياة الدنيا قد تحولتا الى ملايين السنين من سعادة الحياة الأبدية.

ثم سكت برهة، وقال (2): ومالي أذهب إلى أصحابي.. سأحدثك عن نفسي.. حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدها قد اعتلت أيضا فاتفقت الشيخوخة والمرض معا على شن الهجوم علي، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عني.. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت أن عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثت صائحا مثلما صاح نيازي المصري:

__________

(1) اللمعة الخامسة والعشرون: 326.

(2) اللمعة السادسة والعشرون: 345.

القرآن.. والعزاء والشفاء (75)

ذهب العمر هباء، لم أفز فيه بشيء

ولقد جئت أسير الدرب، لكن

رحل الركب بعيدا وبقيت

الشاهد الخامس

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة حزينا متألما، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155 ـ 157]، ثم قال لي: لقد أخبر الله تعالى عن صلاته ورحمته بهؤلاء الصابرين، فهل تعرف معنى ذلك وقيمته؟

فأجبته بالنفي، فقد كنت أمر على هذه الآية الكريمة مرور الكرام، من غير أن أتأمل معناها أو أعيشه، فقال لي: هذا الجزاء هو فوق الأجزية.. بل لا تعدله أي جائزة أخرى.

فسألته عن سبب ذلك، فقال: لأن صلاة الله على عباده تعني تقريبه لهم، وهو ما يعني تطهيرهم وتأديبهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الحجاب إلى المشاهدة، وهل هناك جزاء أعظم من ذلك؟

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ [الأحزاب:43]، وقال: البلاء نافذة عظيمة من نوافذ التعرف على الله والتقرب منه، والتعرف على الله هو النور الذي يرفع كل الظلمات، والحق الذي يقضى به على كل باطل.

ثم ذكر لي الحكمة التي تقول: (إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها أن قل عملك؛ فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك.. ألم تعلم أن التعرف هو مورده

القرآن.. والعزاء والشفاء (76)

عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك)(1)

وعندما طلبت منه توضيحها قال لي (2): إذا تجلى لك الحق تعالى باسمه الجليل أو باسمه القهار وفتح لك منها بابا ووجهة لتعرفه منها، فاعلم أن اللّه تعالى قد اعتنى بك، وأراد أن يجتبيك لقربه ويصطفيك لحضرته، فالتزم الأدب معه بالرضا والتسليم وقابله بالفرح والسرور ولا تبال بما يفوتك بها معها من الأعمال البدنية، فإنما هي وسيلة للأعمال القلبية، فإنه ما فتح هذا الباب إلا وهو يريد أن يرفع بينك وبينه الحجاب.. ألم تعلم أن التعرفات الجلالية هو الذي أوردها عليك لتكون عليه واردا، والأعمال البدنية أنت مهديها إليه لتكون إليه بها واصلا، وفرق كبير بين ما تهديه أنت من الأعمال المدخولة والأحوال المعلولة وبين ما يورده عليك الحق تعالى من تحف المعارف الربانية والعلوم اللدنية.

ثم قال لي (3): فطب نفسا أيها المبتلى بما ينزل عليك من هذه التعرفات الجلالية والنوازل القهرية، ومثل ذلك كالأمراض والأوجاع والشدائد والأهوال وكل ما يثقل على النفس ويؤلمها كالفقر والذل وإذية الخلق وغير ذلك مما تكرهه النفوس، فكل ما ينزل بك من هذه الأمور فهي نعم كبيرة ومواهب غزيرة تدل على قوة صدقك إذ بقدر ما يعظم الصدق يعظم التعرف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أشدّكم بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل)(4)

ثم قال لي (5): إذا أراد الله أن يطوي مسافة البعد بينه وبين عبده سلط عليه البلاء حتى إذا تخلص وتحرر صلح للحضرة كما تصفي الفضة والذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك، ولذلك ما زال الصالحون يفرحون بهذه النوازل، ويستعدون لها في كسب المواهب،

__________

(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 45.

(2) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 45.

(3) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 46.

(4) عبد بن حميد (146)، والدارمي (2783) عن أبي نعيم، والحاكم 1/ 41.

(5) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.

القرآن.. والعزاء والشفاء (77)

وقد كان بعض شيوخنا يسميها ليلة القدر، ويقول: (كل الخيرة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر)، وذلك لأجل ما يجتنيه العبد منها من أعمال القلوب التي الذرة منها أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.

ثم قال لي (1): اعلم أن هذه التعرفات الجلالية هي اختبار من الحق، ومعيار للناس، وبها تعرف الفضة والذهب من النحاس.. فكثير من المدعين يظهرون على ألسنتهم المعرفة واليقين، فإذا وردت عليهم عواصف رياح الأقدار ألقتهم في مهاوي القنوط والإنكار.. ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.. والعجب كل العجب ممن يطلب معرفة اللّه ويحرص عليها فإذا تعرف له الحق تعالى هرب منه وأنكره.

ثم ذكر لي أقسام الناس تجاه هذا النوع من التعرفات الجلالية، وهي ثلاثة: قسم عقوبة وطرد.. وقسم تأديب.. وقسم زيادة وترقّ.

وقد سألته عن أولها، فقال (2): ذلك جزاء من يسيء الأدب فيعاقبه الحق تعالى، ويجهل فيها فيسخط ويقنط وينكر، فيزداد من اللّه طردا وبعدا.

وسألته عن الثاني، فقال: هو الذي يسيء الأدب فيؤدبه الحق تعالى، فيعرفه فيها وينتبه لسوء أدبه وينهض من غفلته فهي في حقه نعمة في مظهر النقمة.

وسألته عن الثالث، فقال: هو الذي تنزل به هذه التعرفات من غير سبب، فيعرفه فيها ويتأدب معها ويترقى بها إلى مقام الرسوخ والتمكين.

ثم قال لي (3):إذا أردت أن يسهل عليك الجلال فقابله بضده وهو الجمال، فإنه ينقلب جمالا في ساعته، وكيفية ذلك أنه إذا تجلى باسمه القابض في الظاهر، فقابله أنت بالبسط في

__________

(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.

(2) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.

(3) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.

القرآن.. والعزاء والشفاء (78)

الباطن فإنه ينقلب بسطا، وإذا تجلى لك باسمه القوي فقابله أنت بالضعف، أو تجلى باسمه العزيز فقابله بالذل في الباطن.. وهكذا يقابل الشي ء بضده قياما بالقدرة والحكمة.

ثم حكى لي عن بعض شيوخه أنه قال (1): ما هي إلا حقيقة واحدة إن شربتها عسلا، وجدتها عسلا، وإن شربتها لبنا، وجدتها لبنا، وإن شربتها حنظلا وجدتها حنظلا، فأشرب المليح ولا تشرب القبيح.

__________

(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.

القرآن.. والعزاء والشفاء (79)

ثانيا ـ القرآن.. وعزاء الفقراء

هذه هي المشاهد الأربعة التي تعلمت فيها بعض ما ورد في القرآن الكريم من العزاء الخاص بالمبتلين والمتألمين والمرضى.. وهي تشمل غيرهم أيضا.

بالإضافة إليها وجدت في تلك البلدة المملوءة بالبصيرة والسلوى معاني أخرى ترتبط بالعزاء والشفاء.. وكان منها هذه المشاهد الخاصة بعزاء الفقراء.

1. الافتقار والاضطرار

وأولها المشهد الذي رأيت فيه نعمة الافتقار والاضطرار رأي العين، وقد بدأ هذا المشهد بعد خروجي من مقهى التدريب والتذكير، حينها رأيت كهلا يحمل على ظهره بعض الحطب، وهو يقول لي: هل يمكنك أن تعينني إلى حمله خارج أطراف البلدة.. فمسكني هناك؟

قلت: تمنيت لو تمكنت من ذلك، لكني مشغول بمهمة كُلفت بها، ولذلك لا أستطيع أن أترك أقلامي وقراطيسي لأحمل معك حطبك، ولو كنت في وضع آخر لسعيت إلى ذلك من دون تردد.

أخرج لي كيسا من جيبه، وقال: ضع أقلامك وقراطيسك هنا.. ثم سر معي.. فتلاميذ القرآن لا يرفضون أي دعوة مهما كانت الظروف.

عندما ذكر لي تلمذتي للقرآن الكريم استحييت من نفسي، وتذكرت كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رسول رب العالمين صاحب المهام والتكاليف الكثيرة، ومع ذلك كان يحمل عن الكّل كَله، من دون أن يصرفه عنه ما كلف به.

القرآن.. والعزاء والشفاء (80)

وقد شاء الله أن يكون ذلك الحمال صاحب أول مشهد من مشاهد العزاء الخاص بالفقراء والمحتاجين.. وهو مشهد الافتقار والاضطرار.

وقد بدأ حواري معه بعد أن رأيته يعلق على جبهته قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:6 ـ 7]، فتعجبت من وضعه لها، فسألته عنها، فقال: هذه الآية الكريمة هي المفتاح الذي بدأت به حياتي الجديدة، والتي منّ الله علي بها بعد لقائي بمعلمنا الكاظم.. وهي أول ما سمعته منه من القرآن الكريم، وبعدها صار المصحف رفيقي الدائم، بل صار أشد ضرورة لي من الهواء الذي أتنفسه، والماء الذي أشربه.

قلت: عهدي بهذه الآية الكريمة تتلى على الطاغين المستكبرين، لا على المتواضعين من أمثالك.

قال: أنت تراني الآن فقيرا متواضعا.. لكني لم أكن كذلك قبل لقائي بمعلمنا الكاظم.. كنت حينها غنيا مترفا مستكبرا متجبرا.. وقد ظلمت أهل البلدة جميعا، بعد أن استوليت على أموالهم وأراضيهم، ثم سخرتهم في خدمة جشعي.. وحينها جاء معلمنا الكاظم بنفسه، ومن دون أن يحمل أي سيف أو عصا، بل كان يحمل المصحف فقط.. وراح يذكرني بالله، ويقرأ لي القرآن الكريم، ويعلمني من الحكمة ما جعلني أتنازل عن كبريائي، وأرجع لأهل البلدة أراضيهم، بل دفعت لهم لأجل إبراء ذمتي كل ما لدي من المال، واكتفيت من الحياة بما تراه الآن مني.

قلت: لقد كان في إمكانك أن تحتفظ ببعض المال، لتعيش حياة أرفه وأسعد.

قال: لقد رأيت ما فعله البطر والرفاه بي، فصرت أتحسس منه.. خشية أن أعود إلى ما كنت عليه.

قلت: فهلا حدثتني عن لقائك بمعلمك الكاظم، وكيف استطاع أن يؤثر فيك كل

القرآن.. والعزاء والشفاء (81)

ذلك التأثير؟

قال: لقد صرت بحمد الله بعد ذلك المجلس أحد تلاميذه المقربين.. ونلت منه علوما ومواجيد كثيرة.. لكني لن أحدثك منها إلا بما أُذن لي فيه.

قلت: وما أذن لك فيه.

قال: الافتقار والاضطرار، فهما أول نعم الله على الفقراء والمساكين والمحتاجين.. لكن منهم من يرى هذه النعمة، ومنهم من لا يراها، بل يفضل عليهم البطر والتجبر والتكبر.

قلت: كيف ذلك؟

الشاهد الأول

قال: لقد أخبر الله تعالى بأن رؤية الإنسان لغناه، تجعله طاغية ظالما متعديا لحدوده، ولذلك يكون الافتقار، وكل ما يؤدي إليه نعمة من النعم تخلص الإنسان من الطغيان، وتعيده إلى وضعه الطبيعي.

وقد ذكر لي معلمي الكاظم ما ورد في القرآن الكريم مما يدل على اعتباره سنة من السنن التي لا تبديل لها.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى:27]، وقد قال لي بعد قراءته للآية الكريمة (1): إن عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته.. ثم ذكر لي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله يحمي عبده المؤمن ـ أي: مما يضره الدنيا وغيرها ـ كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 216)

القرآن.. والعزاء والشفاء (82)

الهلكة)(1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء)(2)

وعندما سألته عن مزيد توضيح، قال (3): المراد ببسط الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج، بل كل إنسان مكفول له الرزق الواسع، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره، ويبدو في ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد مجتمع سعيد، يعيش في رفه ورغد، ويحيا في سلام وأمن.. إذ ماذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسد مطالبه وتقضى حوائجه.. ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى ـ إذا كان له وجود ـ تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كل حاجة الإنسان في أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحب التملك والسلطان.. والإنسان في سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسد جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه، فهو لا يرضيه أبدا أن يكون في مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو في سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع.

ثم قال لي بأسف وحزن (4): وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هي موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتص

__________

(1) البيهقي فى شعب الإيمان (ح 10451)

(2) الترمذي (3036) والبيهقي فى الشعب (ح 1450)

(3) التفسير القرآني للقرآن (13/ 53)

(4) التفسير القرآني للقرآن (13/ 54)

القرآن.. والعزاء والشفاء (83)

البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس في أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء، لا لشيء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. كما قال الشاعر العربي الجاهلى، الذي ضرب المثل بقبيلة (بكر) حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت:

إن الذئاب قد اخضرت براثنها... والناس كلهم بكر إذا شبعوا

ثم قال (1): فكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم، فوسع على بعض، وضيق على بعض، حتى يعمر الكون، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، وحتى يشغلوا بمطالب العيش، وحتى يكون في هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على بعض إلى السعى والعمل في وجوه الأرض.. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى في طلب الرزق، لكان شغلهم كله، هو البغي والعدوان.. فالذين بسط الله سبحانه وتعالى لهم الرزق، هم غالبا مثار بغى وعدوان، وقليل منهم من يشكر الله، ويذكر فضله، فيرعى حق الله فيما خوله من نعم، وبسط له من رزق.

الشاهد الثاني

وعندما طلبت منه أن يضرب لي مثلا على ذلك قال (2): لقد ضرب الله سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم، بقارون، فقد قال تعالى في حقه: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: 76]، كما ضرب مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود عليه السلام، حيث قال تعالى على لسان أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 55)

(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 55)

القرآن.. والعزاء والشفاء (84)

الْخِطَابِ﴾ [ص: 23]

وعندما سألته عن قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: 27]، قال (1): أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ [العنكبوت: 62]، ولهذا عقب الله تعالى عليها بقوله: ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]، وفي ذلك إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده، لأنه خبير عليم بهم، بصير مقدر لما هو أصلح لهم.. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا في الأرض، ولما صلح لهم أمر فيها.

ثم قال (2): وفي هذا التقدير في توزيع الرزق بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس، أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك، فإن هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة، وهي سنة الابتلاء والامتحان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15] وسنة أخرى وهي سنة المكر والاستدراج، كما قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: 44 ـ 45].. فسنة الإصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: 154]، أو يغير النعمة ويكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]

أذكر أني حين قال هذا سألته قائلا: لكن يا معلمنا.. لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذه السنن، فلماذا إذن نرى أشخاصا لهم رزق وفير، وقد أفسدوا وطغوا كثيرا في الدنيا، ولم

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 55)

(2) تفسير الميزان، ج: 18، ص: 56 ـ 57.

القرآن.. والعزاء والشفاء (85)

يمنعهم الخالق، سواء على مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟

وقد أجابني بقوله (1): إن بسط الرزق أحيانا قد يكون أسلوبا للامتحان والاختبار، لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال، وقسم يختبرون في صحتهم، وآخرون يختبرون في محال أخرى.. ولذلك قد يكون بسط الرزق لبعض الأفراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، ولذلك نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل، كالخوف، والقتل، والتلوث الخلقي، والقلق بأنواعه المختلفة.. فأحيانا تكون الثروة غير المحدودة نوعا من العقاب الإلهي الذي يشمل بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أما إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها.

حينها سألته متعجبا: هل يعني هذا أنه متى ما كان الإنسان فقيرا، فإن عليه ألا يسعى للتوسع في الرزق، لأن الله تعالى جعل مصلحته في هذا الفقر؟

فأجابني بقوله (2): إذا كانت قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه، فإن هذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتما، بل بسبب أعماله، ولهذا، فإن القرآن الكريم يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة.. ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده، ورغم ذلك تُغلق الأبواب في وجهه، فعليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر، فلا يجزع، ولا ييأس، ولا ينطق بالكفر، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الله تعالى.

الشاهد الثالث

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 529)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 530)

القرآن.. والعزاء والشفاء (86)

في طريقنا مررنا على شجرة، وأمامها بعض الحجارة، فطلب مني الحمال أن نجلس قليلا، فجلسنا، ثم راح يواصل حديثه قائلا: لقد كنت كثير السؤال لمعلمنا الكاظم، وكان يجيبني برحابة صدر، ولم يضق بأسئلتي أبدا على الرغم من أني كنت حينها متعجرفا مستكبرا، لم أرد للناس حقوقهم.. ولا تبت من استغلالي لأراضيهم بغير حق.

وأذكر من أسئلتي حينها قولي له: لماذا لم تُهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟

وقد أجابني حينها بقراءة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21]، ثم قوله (1): في هذه الآية الكريمة يخاطبنا ربنا ويقول لنا: ليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك، وإنما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون، ولكن الحكمة اقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعا لحساب دقيق، حتى الأرزاق إنما تنزل إليكم بقدر..

ثم قال لي (2): من عرف أن خزائن الأشياء عند الله تقاصرت خطاه عن التردد على منازل الناس في طلب الإرفاق منهم، وسعى في الآفاق في طلب الأرزاق منها، قاطعا أمله عن الخلق، مفردا قلبه لله متجردا عن التعلّق بغير الله..

ثم قال (3): عرف القسمة من استراح عن كد الطلب فإن المعلوم لا يتغير، والمقسوم لا يزيد ولا ينقص، وإذا لم يجب عليه شيء لأحد فبقدرته على إجابة العبد إلى طلبته لا يتوجب عليه شيء، ولهذا يقال: أراح قلوب الفقراء من تحمل المنة من الأغنياء مما يعطونهم، وأراح الأغنياء من مطالبة الفقراء منهم شيئا، فليس للفقير صرف القلب عن الله سبحانه

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (8/ 52)

(2) لطائف الإشارات (2/ 267)

(3) لطائف الإشارات (2/ 267)

القرآن.. والعزاء والشفاء (87)

إلى مخلوق واعتقاد منة لأحد، إذ الملك كله لله، والأمر بيد الله، ولا قادر على الإبداع إلا الله.

الشاهد الثالث

بعد أن استرحنا قليلا تحت ظل الشجرة، وقف الحمال، وقال: هيا بنا نكمل المسير، وسأقص عليك بعض ما ذكره لي معلمنا الكاظم.

قلت: أرى أن الطريق صعبة جدا، فكيف تتحملها؟

قال: منذ امتلأت بالمعاني التي ملأ معلمي الكاظم بها قلبي صرت أراها كالجنة، بل أسجد لله تعالى شكرا لأنه جعلني أسير هذه الطريق الصعبة، بدل تلك الطريق التي كنت أسير عليها، والتي كانت نهايتها جهنم.

قلت: ولكني أراها طريقا مليئة بالحجارة القاسية.

قال: ولكني أراها مثل الزهور والرياحين.. فالله تعالى حماني بهذه الطريق من أن أصبح وقودا للنار، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]؟.. لقد اخترت عمدا أن أمر كل يوم على هذه الطريق، حتى أتذكر هذه الآيات الكريمة، فترتدع نفسي عن كل ما قد ينحرف بها.

قلت: لكن ذلك متعب شاق؟

قال: وهو كذلك محدود من كل الجهات.. من جهة محله.. أو من جهة الزمن الذي يستمر فيه؛ فالله تعالى برحمته لم يبتل مني في هذا السير الشاق إلا أعضاء محدودة، أو محال محدودة، ورزقني بدله من العوض ما يهون علي ذلك الألم، أو ما أستأنس به بدل ذلك المفقود.

القرآن.. والعزاء والشفاء (88)

أذكر أني كنت مرة عند معلمي الكاظم، وكانت المرة التي أعلنت فيها توبتي بين يديه، وقد كان يردد حينها قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء:104]، ثم قال مخاطبا أصحابه (1): القوم شاركوكم في إحساس الألم، ولكن خالفوكم في شهود القلب، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون، فلا ينبغى أن تستأخروا عنهم في الجد والجهد.

ثم قال (2): لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم، ولا تفشلوا عن السير إلى حضرة ربكم، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها، فإنها تألم مثلكم، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم، فإذا ارتاضت وتحلت صار المر عندها حلوا، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها، فدوموا على سياستها ورياضتها، فإنكم ترجون من الله الوصول، وبلوغ المأمول، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات، فاعكسوا مراداتها، حتى تطمئن في حضرة ربها، فتأمن غوائلها، فليس بعد الوصول رجوع، ولا إلى العوائد نزوع، والله غالب على أمره.

وقد سأله بعضهم حينها قائلا: ما وجه الإشارة في الآية الكريمة؟

فقال: لقد رزق الله المؤمنين الرجاء عوضا عن الألم الذي أصابهم، وهو ما يخفف من حدة البلاء، ويجعله محدودا لا يتجاوز إلى أرواحهم التي هي محل الرجاء.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155]، وعقب عليها بقوله: فقد ذكر الله تعالى أن البلاء يكون بشيء من الخوف والجوع، أي بقليل منهما، وبنقص من الأموال والأنفس

__________

(1) لطائف الإشارات (1/ 359)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 556)

القرآن.. والعزاء والشفاء (89)

والثمرات، أي ذهاب بعضها فقط وبقاء البعض الآخر.

ثم قال: إن الله تعالى ذكر في الآية أمرين: ذكر الابتلاء بصيغة المحدودية، وذكر التبشير بصيغة الإطلاق، فلم يحدد الجوائز المرتبطة بالبشارة.. وذلك لينمحق البلاء في البشارة، بالإضافة إلى انمحاقه في محدوديته.

ثم ضرب لنا مثالا على ذلك، فقال: إذا جاز أن نمثل البلاء بشيء، فإن أقرب شيء إليه هو الحفرة التي تدمل الأرض بالجراح.. فإذا كانت الحفرة محدودة من حيث حجمها، ثم ملأناها بأكياس.. لا من الرمل.. بل من الذهب الخالص.. بل بما هو أشرف من الذهب وأغلى قيمة.. أيبقى للحفرة وجود؟

قلنا: لو أن الأمر كذلك لتمنى صاحب الحفرة أن تكون حفرته أخدودا عظيما، بل بحرا عميقا، بل محيطا لا حدود له.

قال: الأمر كذلك.. ولكنكم لا تبصرون.

الشاهد الرابع

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة:124]، ثم عقب عليها بقوله: لقد أخبر الله تعالى بأنه ابتلى إبراهيم عليه السلام بكلمات، أي ببعض البلاء، لا بكل البلاء، ومثل ذلك ما ذكر من أنواع البلاء التي حصلت للأنبياء عليهم السلام، فهي كلها من البلاء المحدود، والذي ينتهي غالبا بالفرج والتوسعة.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، ثم قال: لقد أخبر الله تعالى أن من أسباب المصائب الذنوب، وأنه برحمته لا يعاقب على كل الذنوب، بل لو عاقب عليها لما ترك على ظهرها من دابة، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر:45]

القرآن.. والعزاء والشفاء (90)

ثم قال: أنتم ترون أن كل بلاء الدنيا من مرض وفقر وحاجة يصبح محدودا غاية المحدودية عندما ننظر بهذه النظرة.. لأننا لا نقارنه ببلاء مثله، وإنما نقارنه بقدرة الله التي لا تحد، مع مشيئته النافذة في خلقه، فالله مع كونه ابتلانا إلا أنه ابتلانا بشيء محدود لا قيمة له بجنب ما صرفه عنا.

ثم حكى لنا حكاية رجل الصالح، فقال (1): كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحا فقال: عسى أن يكون خيرا، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيرا، ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال عسى أن يكون خيرا، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدره الله تعالى.

ثم قال لنا: فقد كانت هذه المصائب كبيرة لحظة نزولها، لكنها كانت بدلا عن مصائب أكبر، فنابت المصائب الصغيرة عن الكبيرة.

ثم قرأ علينا قوله تعالى في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام حين خرق السفنية، كما قال تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف:79]، ثم قال: لقد كانت هذه المصيبة صغيرة، وأقل بكثير من أن يسلبوا السفينة، وهكذا حين قتل الغلام، وهي مصيبة كبيرة في نفسها، لكنها صغيرة إذا ما قورنت بنتيجتها، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 349)

القرآن.. والعزاء والشفاء (91)

فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ [الكهف:80 ـ 81]

قال ذلك، ثم نظر إلي، وأنا لا أزال على حالتي من التعنت والكبر، وقال: ولذلك فإن الصالحين يعتبرون أن من نعم الله تعالى عليهم في البلاء والفاقة أنها كانت في الدنيا، ولم تكن في الدين.. وكانت في الجسد، ولم تكن في الروح.. وتعلقت بالدنيا، ولم تتعلق بالآخرة.

ثم قال: لا يفقه سر هذا إلا من عرف نسبة الدين إلى الدنيا، ونسبة الروح إلى الجسد، ونسبة النشأة الأولى إلى النشأة الآخرة..

ثم ضرب لنا مثالا يقرب لنا هذا، فقال: صاحب المطية الذي تعرض لحادث، مات فيه من مات لكنه نجا، وتأثرت مطيته، فإن هذا وإن تأسف على ما أصابها، إلا أنه يحمد الله على أن المصيبة حلت بالمطية، ولم تحل به.

ثم قال (1): إن المصيبة التي تعد مصيبة حقا والتي هي مضرة فعلا، هي التي تصيب الدين، فلابد من الالتجاء الى الله سبحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع.. أما المصائب التي لاتمس الدين فهي في حقيقة الأمر ليست بمصائب، لأن قسما منها تنبيه رحماني يبعثه الله سبحانه الى عبده ليوقظه من غفلته.. أما القسم الآخر من المصائب فهو كفارة للذنوب، وقسم آخر أيضا من المصائب هو منحة إلهية لتطمين القلب وإفراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسان، وإشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.

ثم قال لنا: وهناك ناحية أخرى مهمة يمكن الاعتبار منها هنا تخفف من البلاء وتجعله محدودا، بل تكاد تلغيه.. وهي محدودية آلام الدنيا مهما عظمت بآلام الآخرة ومصائبها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا

__________

(1) اللمعة الثانية: ص 16.

القرآن.. والعزاء والشفاء (92)

يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء:25 ـ 207]، أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأمهلناهم برهة من الدهر وحينا من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم؟.. لأنهم في ذلك الحين يدركون قصر عمر الدنيا التي كانوا يتفانون من أجلها.

ثم قرأ علينا ما يؤكد ذلك من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغ﴾ [الاحقاف:35]، وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات:46]

ومثله ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك من نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)(1)، فلحظة واحدة في الجنة تنسي أشد الناس بؤسا في الدنيا كل ما عاناه فيها.

2. الدنيا والآخرة

ما إن وصل الحمال في حديثه إلى هذا الموضع حتى بدا لنا مسكنه البسيط المتواضع، وقد رأينا أمامه جمعا من الناس، ينتظرونه.. لكنه عندما رآهم تغير تغيرا شديدا، فتصورت أن هؤلاء دائنين، يشبهون ذلك الذي دق علي باب بيتي بقسوة.. لكني علمت أن الأمر مختلف عن ذلك تماما.. وهنا يبدأ المشهد الثاني من مشاهد العزاء والسلوي المرتبط بالفقراء

__________

(1) مسلم (8/ 135)

القرآن.. والعزاء والشفاء (93)

والمحتاجين.

سألته عنهم، فقال: هؤلاء هم الذين كنت قد ظلمتهم بأكل حقوقهم والاستيلاء على أراضيهم.. وكلما رأيتهم أتألم ألما شديدا.

قلت: ولكنك ذكرت أنك أرجعت لهم حقوقهم وأراضيهم.. فكيف ظلوا يطالبونك؟

قال: لا.. هم لا يطالبونني.. هم أكرم من ذلك.. إنما يأتون كل حين ليتفقدوني، ويقدموا لي مما منّ الله عليهم به من رزقه ما أجدني أتعفف عنه، ولا أحتاج إليه، لكنهم يصرون علي أن أقبل منهم.. بل يعتبرونه حقا لي.

عندما وصلنا إليهم، بادروا بتحيته ومعانقته بحرارة شديدة، ثم قال أحدهم، وهو أكبرهم: أرجو ألا تلومنا، فنحن نعمل بوصايا معلمنا الكاظم.. أم أنك تعتبره معلمك وحدك؟

قال: معاذ الله.. فأين أنا وأين أنتم.. فأنتم السابقون، وأنا الضعيف المقصر اللاحق بكم؟

قالوا: لكنك سبقتنا.. وأنى لنا أن ندركك.. وقد سمعنا من معلمنا من الثناء عليك ما جعلنا نغبطك، بل نتبرك بك.

لم يجد الحمال ما يقول، لكنه أدخلهم بيته، وقدم لهم بعض اللبن، ثم شكرهم على ما قدموه له من الهدايا، ثم قال: أعظم هدية تقدمونها لي أن تُسمعوني بعض ما فاتني من كلام معلمنا الكاظم، ليسمعه معنا تلميذ القرآن، ويسجله لقومه.

قال أحدهم: أجل.. وما جئنا إلا لذلك، فقد علمنا بتشرفه بالحضور إلى بيتك.

الشاهد الأول

القرآن.. والعزاء والشفاء (94)

قال آخر: لقد كان معلمنا يعزينا كثيرا بذكر المقارنات بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ويقول لنا: الفقير الحقيقي هو الذي يبقى أبد الآباد على فقره، أما الذي يفتقر لسنين معدودة، ثم يتحول إلى الغنى الأبدي، فهو ليس فقيرا، بل هو الغني الحقيقي.

وكان يستشهد لنا على ذلك بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:156]، وعندما سألناه عن وجه الإشارة فيها، قال: كلمة الاسترجاع تحمل دلالة عظيمة على محدودية الحياة الدنيا، والبلاء المرتبط بها؛ فالمؤمن المبتلى عندما يتذكر أنه سيرجع إلى ربه، وستنتهي برجوعه كل أصناف البلايا.. يحس بعزاء عظيم.

ثم ضرب لنا مثالا على ذلك، فقال: أرأيتم لو أن مسجونا سجن أياما معدودة.. وكان آمر السجن رحيما، فكان يرسل له كل يوم من يملؤه بالبشر، ويقول له: (إن هي إلا أيام وتعود إلى أهلك ومالك) ألا يستبشر هذا المسجود ويستأنس؟.. قلنا: بلى.. قال: فالله تعالى المبتلي لم يرسل لنا من يؤنسنا بذلك، بل هو الذي ملأنا بالأنس، فأخبرنا برجوعنا إليه ليمسح عنا كل دمعة، ويبرئ لنا كل جرح.

ثم قال لنا: لهذا المعنى التفت السحرة إلى المدة التي يمكن لفرعون أن يعذبهم فيها، وقد وجدوها قصيرة لا تساوي شيئا أمام ما عند الله، فقالوا له عندما وضعهم في ذلك الخيار الصعب: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه:72]

ثم قال: ولهذا يعبر الله تعالى عن عذاب الآخرة وبلائها بكونه: ﴿أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه:127] ليملأ القلوب المتألمة بالأنس بانتهاء عذابها المحدود.

أذكر أني حينها قلت له: لا ـ يا معلم ـ فهي آية تخويف لا تأنيس.

فابتسم، وقال: هي تخويف وتأنيس.. هي كالزرع الذي يسقى بماء واحد، ويفضل

القرآن.. والعزاء والشفاء (95)

بعضه على بعض في الأكل، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد:4]، فذلك مطره النازل إلى الأرض، وهذا مطره النازل على القلوب.

ثم ذكر لنا ما حدث به الأحنف بن قيس قال: ما سمعت بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن من كلام أمير المؤمنين علي حيث يقول: (إن للنكبات نهايات، لا بد لكل أحد إذا نكب من أن ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها)(1)

الشاهد الثاني

قال آخر: بورك فيك أخي الكريم.. واسمحوا لي أن أسرد لكم بعض ذكرياتي مع معلمنا الكاظم.. لعلكم لا تعلمون أني قبل أن يمن الله علي بالهداية على يد معلمنا، كنت من المستغرقين في حب الدنيا، والحزن على ما فاتني منها، لدرجة أني تأثرت ببعض الطوائف التي تدعو إلى صراع الأغنياء مع الفقراء، وتصور التاريخ كله صراعا بينهما، وتلغي الأديان لأجل ذلك، وتعتبرها أفيونا للشعوب.

لكني ما إن جلست مع معلمنا، حتى تغيرت أفكاري تماما، وصرت أعيش السعادة بكل معانيها.. ذلك لأن الحياة الدنيا صغرت في عيني، وصار كل همي الدار الآخرة، وما أعد الله فيها للصالحين من عباده، ولهذا لم أعد أبالي بالغنى والفقر، ولا بالأغنياء وثرواتهم، ولم أعد أحسدهم عليها، لأن الدنيا أقل من أن يُحسد عليها.

__________

(1) شعب الإيمان (7/ 223)

القرآن.. والعزاء والشفاء (96)

لقد كان معلمنا يقوم بمقارنات كثيرة بين الدنيا والآخرة، ليرفع هممنا إلى الدار الآخرة.. وقد سمعته مرة يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 32]

وقد سألناه حينها عن سر وصف الحياة الدنيا باللعب واللهو، فقال (1): لأن كل شيء فيها يدل على ذلك.. فمدة اللهو واللعب قليلة سريعة الانقضاء والزوال، ومدة هذه الحياة كذلك.. واللعب واللهو لا بد وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره، ولذات الدنيا كذلك.. واللعب واللهو، إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور، وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور، لا يبقى اللعب واللهو أصلا، وكذلك اللهو واللعب، فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين، أما العقلاء والحصفاء، فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو، فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل، إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور، أما الحكماء المحققون، فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور، وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة.. بالإضافة إلى ذلك، فإن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة.. وكل هذا يدل على أن اللذات والأحوال الدنيوية مجرد لعب ولهو، وليس لهما حقيقة معتبرة.

ثم سألناه عن سر وصف الآخرة بكونها خيرا للمتقين، فقال (2): كل خيرات الدنيا مهما عظمت خسيسة، وكل خيرات الآخرة حتى لو قلت شريفة.. فخيرات الدنيا ليست إلا قضاء شهوات محدودة، وهي في نهاية الخساسة، بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان، فالجمل أكثر

__________

(1) مفاتيح الغيب (12/ 515)

(2) مفاتيح الغيب (12/ 515)

القرآن.. والعزاء والشفاء (97)

أكلا، والذئب أقوى على الفساد والتمزيق، والعقرب أقوى على الإيلام.. ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف، فكان يجب أن يكون الإنسان الذي وقف كل عمره على الأكل أشرف الناس، وأعلاهم درجة، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك، بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتا مستقذرا مستحقرا يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس، ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال ببعض شهواتهم يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس، وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص.

ثم قال لنا (1): ومما يؤكد ذلك أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعا وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر.. بالإضافة إلى أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء.

وعندما سألناه عن لذات الآخرة، قال (2): أول ما يدلكم على شرف تلك اللذات هي أنه حتى لو تساوت الدنيا والآخرة في الفضل والمنقبة، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في القيامة معلوم قطعا، وأما الوصول إلى الخيرات الموعودة في الدنيا فغير معلوم، بل ولا مظنون، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم، وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة، ثم أمسى أسيرا حقيرا.

ثم قال لنا (3): حتى لو فرضنا أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوما آخر في الدنيا، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا؟ أما كل ما

__________

(1) مفاتيح الغيب (12/ 516)

(2) مفاتيح الغيب (12/ 516)

(3) مفاتيح الغيب (12/ 516)

القرآن.. والعزاء والشفاء (98)

جمعه من موجبات السعادات، فإنه يعلم قطعا أنه ينتفع به في الدار الآخرة.. وحتى لو فرضنا أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خاليا عن شوائب المكروهات، وممازجة المحرمات المخوفات، ولذلك قيل: من طلب ما لم يُخلق أتعب نفسه ولم يرزق.. وحتى لو فرضنا أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل.

ثم أنشدنا قول الشاعر:

أشد الغم عندي في سرور... تيقن عنه صاحبه انتقالا

ثم قال لنا (1): بالإضافة إلى ذلك كله، فإن السعادات الروحانية سعادات شريفة عالية باقية مقدسة، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.

الشاهد الثالث

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد تشرفت بالجلوس معه ذات يوم، وكنت حينها مستغرقا في الحياة منشغلا بها عن كل شيء، فقال لي (2): من وطّن النفس على الدنيا وبهجتها غرته بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها، ثم إنها تخفى الصّاب في شرابها، والحنظل في عسلها، والسراب في مآربها تعد ولا تفى بعداتها، وتوفى آفاتها على خيراتها.. نعمها مشوبة بنقمها،

__________

(1) مفاتيح الغيب (12/ 516)

(2) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)

القرآن.. والعزاء والشفاء (99)

وبؤسها مصحوب بمأنوسها، وبلاؤها في ضمن عطائها، والمغرور من اغتر بها، والمغبون من انخدع فيها.

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، ثم قال (1): من اعتضد بعتاده، واغترّ بأولاده، ونسى مولاه في أوان غفلاته.. خسر في حاله، وندم على ما فاته في مآله.

ثم قال لي (2): زينة أهل الغفلة في الدنيا بالمال والبنين، وزينة أهل الوصلة بالأعمال واليقين.. فهؤلاء زينتهم لظواهرهم، وهؤلاء زينتهم لعبوديته، وافتخارهم بمعرفة ربوبيته.

وعندما استوضحته عما ذكره، قال (3): ما كان للنّفس فيه حظّ فهو من زينة الحياة الدنيا، ويدخل في ذلك الجاه وقبول المدح، وكذلك تدخل فيه جميع المألوفات والمعهودات على اختلافها وتفاوتها.. وكل ما كان للإنسان فيه شرب ونصيب فهو معلول.. إن شئت في عاجله وإن شئت في آجله.. ولذلك لا يبقى إلا ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ [الكهف: 46]، وهي ما كان خالصا لله تعالى غير مشوب بطمع، ولا مصحوب بغرض..

ثم قال (4): كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية لبقائهما كمالا فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه.

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ

__________

(1) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)

(2) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)

(3) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)

(4) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 275)

القرآن.. والعزاء والشفاء (100)

قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]، وقال (1): في هذه الآية الكريمة يكشف الله تعالى عن الصورة الحقيقة لهذه الدنيا، التي ينخدع لها الناس، ويفتنون بها، ويبيعون من أجلها آخرتهم، ويقطعون بسببها كل صلة تصلهم بالله رب العالمين.. فهذه الدنيا، وما يموج فيها من ألوان الزخارف والمتع، وصور الجاه والسلطان، لا تعدو أن تكون زرعا، زها واخضر، وأزهر، وأثمر، ثم جاء الوقت الذي يُحصد فيه.. فإن لم يُحصد، قطعت الأرض صلتها به، فصار هشيما، وحطاما تذروه الرياح كما تذرو التراب، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45] فيخرج الحى من الميت، ويخرج الميت من الحى، ويقيم من الأرض الجديب جنات وزروعا، ويحيل الجنات والزروع إلى جدب وقفر.. وكذلك يخلق الناس من تراب، ثم يعيدهم ترابا، ثم يردهم بشرا سويا.

الشاهد الرابع

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني متأسفا على بعض ما فاتني من حطام الحياة الدنيا، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: 7، 8]، ثم قال (2): في هذه الآية الكريمة يكشف الله تعالى عن حقيقة الحياة الدنيا التي صرفت الغافلين عن النظر في آخرتهم، وأن هذا المتاع الذي في هذه الدنيا، إنما جعله الله سبحانه وتعالى زينة لها، حتى يكون للناس نظر إليها، واشتغال بها، وعمل جاد نافع فيها.. وفي هذا ابتلاء لهم، وامتحان لما يحصلون منها.. فالذين يأخذون حظهم من الدنيا ولا ينسون نصيبهم من الآخرة، هم الفائزون، والذين يجعلون

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 626)

(2) التفسير القرآني للقرآن (8/ 584)

القرآن.. والعزاء والشفاء (101)

الدنيا همهم، دون التفات إلى الآخرة، هم الذين خسروا أنفسهم، وباعوها بالثمن البخس.. فهذه الدنيا وما عليها، ومن عليها.. كل هذا إلى زوال، ولا يبقى من ذلك إلا ما ادخره المؤمنون المحسنون من زاد طيب في دنياهم، ليوم الحساب والجزاء.

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [القصص: 60، 61]، ثم قال (1): ربنا العظيم الكريم العالم بمصالحنا يقول لنا في هذه الآية الكريمة: أي شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياما قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، وما عند الله من النعيم الدائم في الدار الباقية ثوابا لأعمالكم خير من ذلك لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة..

ثم قال لي (2): ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ [القصص: 60] فهي مجرد حاجة طارئة تعيش مع الناس برهة من الزمن، فيما يستمتعون به منها من شهوات، وما يتزينون به من زينة، ثم تتبخر الشهوات مع الموت، فتموت، وتزول الزينة، مع كل غبار العمر ورياح الفناء.. ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الشورى: 36] لأنه النعيم الخالد في جنة الرضوان وفي رحمة الله ورضوانه، فليس هناك موت يفني النعمة، وليست هناك طوارئ تزيل الزينة وتفسدها، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: 138] لتفكروا كيف تختارون مواقعكم فيما تختارونه من مواقفكم، وكيف تميزون بين ما تبقى تبعته وتزول لذته، وبين ما يفنى تعبه وعناؤه ويبقى أجره وثوابه!؟

ثم قال (3): وليست المسألة هي أن تتركوا طيبات الحياة، كأساس للقرب عند الله،

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 265)

(2) من وحي القرآن (17/ 320)

(3) من وحي القرآن (17/ 321)

القرآن.. والعزاء والشفاء (102)

ولكن المسألة هي أن لا تتركوا الإيمان في فكره وحركته، لتأخذوا بالشهوات وتفضلوها عليه على أساس النظرة الحسية التي ترتبط بالأشياء بشكل مباشر من خلال السطح، بدلا من النظرة المعنوية الرسالية التي تنفذ إلى عمق الأمور، فتنفتح على الخير كله في رحاب الله.

ثم قال (1): ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ [القصص: 61] فيما أردناه منه من الإيمان والعمل الصالح والالتزام بالرسالة والرسول، ليحصل على الجنة والرضوان فيما يلتقيه في يوم القيامة، ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 61] فذاق من لذائذها وشهواتها، واستمتع بزينتها وزخارفها، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، وترك الإيمان وخط التقوى، ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [القصص: 61] الذين يقفون بين يدي الله ليحاسبهم على مواقفهم في الكفر والعصيان، فلا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا، فكيف يفكر هؤلاء الكافرون؟ وكيف يفضلون النتائج الزائلة على النتائج الدائمة!؟

الشاهد الخامس

قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني متأسفا على الاستعلاء الذي يمارسه الأغنياء بسبب غناهم على الفقراء، وذل الفقراء أمام الأغنياء بسبب حاجتهم، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 31 ـ 32]، ثم قال (2): إن هؤلاء الذين وصفتهم يشبهون هؤلاء الذين وصفتهم هاتين الآيتين الكريمتين، فهؤلاء الجاهلون الجاحدون قالوا: إن منصب الرسالة منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال

__________

(1) من وحي القرآن (17/ 321)

(2) تفسير المراغي (25/ 85)

القرآن.. والعزاء والشفاء (103)

عظيم الجاه، ومحمد ليس بذاك، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف، فأنكر الله عليهم ذلك وجهلهم وعجب من حالهم بقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: 32] أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم؟.. أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها؟ فهم ليسوا لها بأهل، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون.

ثم ذكر لي ما رد به الله تعالى على هذا الجهل الذي وقع فيه المشركون، فقال (1): لقد بين الله تعالى خطأهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32] أي إننا في هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوينا بينهم فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغير نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.. وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك في أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا في منصب الرسالة؟.. ثم علل ما سلف بقوله: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32] أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل، خير مما يجمعون من حطام الدنيا، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.

لست أدري كيف اعترضت عليه حينها، وقلت: ولكن مع ذلك يظل للدنيا جمالها

__________

(1) تفسير المراغي (25/ 86)

القرآن.. والعزاء والشفاء (104)

الذي لا نستطيع أن ننكره، قال: أجل.. ولكنه جمال لا يساوي شيئا أمام جمال الدار الآخرة، ولذلك قال تعالى رادا على الجاهلين الذين بنوا أحكامهم ومقاييسهم على الحياة الدنيا: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا﴾ [الزخرف: 33 ـ 35] أي (1): لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر، ويرغبوا فيه، إذا رأوا سعة الرزق عندهم، لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة، ومصاعد من فضة، وسررا من فضة، عليها يتكئون، وزينة في كل ما يرتفق به من شئون الحياة، ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد، سريعة الزوال، فهى متاع الحياة الفانية فقال: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 35] أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عد ولا إحصاء، أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي، وعمل بطاعته، وآثر الآخرة على الدنيا.

3. الغنى والثروة

بهذا الحديث انتهى المشهد الثاني من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الثالث، والذي تعلمت منه المفهوم الحقيقي للغنى والثروة، وللأغنياء والأثرياء، وهو مفهوم قضى على كل تصوراتي البدائية نحوهما.

ويبدأ المشهد من دق شديد لباب بيت الحمال، حيث كنا نجتمع مع أولئك النفر الطيبين، فاستأذننا الحمال، ثم خرج، وعاد بعد فترة قصيرة، وهو يقول لنا: أظن أننا

__________

(1) تفسير المراغي (25/ 86)

القرآن.. والعزاء والشفاء (105)

محتاجون للذهاب إلى بيت جارنا، فقد سمع بكم، وطلب حضوركم إليه.. وهو جار كريم، وأنا لا أستطيع أن أرفض له أي طلب.

فسألوه عنه، فقال: إنه مضحك البلدة.. ذلك الذي يوزع الضحكات والابتسامات والنكات في كل محل يكون فيه.

لست أدري كيف نطقت حينها، وقلت: يمكنكم الذهاب، أما أنا فلا أظنني محتاجا لمن يضحكني أو يلقي علي النكت، فبين قومي منها الكثير.. وما حضرت إلى هنا إلا لأسجل العزاء والسلوى، لا الغفلة والضحك.

ابتسموا جميعا، وقال أحدهم: نعم هو مضحك البلدة، وزارع الابتسامات بين أهلها، ولكنه مع ذلك رجل صالح تقي.. يضحك أمام الناس، ويبكي إذا ما خلا مع ربه.

قال آخر: أجل.. هو لا يضحك الناس إلا احتسابا لوجه الله، لأنه يعلم الأجر العظيم الذي يناله من يدخل السرور على المؤمنين.

قال آخر: ولذلك كان معلمنا الكاظم يحبه كثيرا، ويستمع إلى نكاته ويضحك لها، ولم ينهه أبدا عن ترديدها.

عندما قالوا هذا لي، استحييت من نفسي، ثم خرجت معهم، لأفاجأ بما لم يكن في حسباني، فقد كان البيت الذي يسكن فيه هذا الذي ملأ حياته وحياة الناس ضحكا وابتسامة بيت متواضع جدا، وليس فيه شيء من الأثات ولا المتاع.. وكانت ثياب هذا المضحك أيضا بسيطة جدا ومتواضعة، وقد قلت في نفسي حينها: لو كان هذا الرجل بين قومي لما عرف فمه الابتسامة ولا الضحك.

لكنه عندما حدثنا عن ذكرياته مع معلمه، وحدثنا عن المعاني التي تحول إليها بعد صحبته له، عرفت السبب، وعرفت معه دور القرآن الكريم في ملأ حياة المؤمنين الصادقين

القرآن.. والعزاء والشفاء (106)

بالسعادة.

وقد بدأ المضحك حديثه بقوله: شكرا جزيلا لحضوركم.. والشكر الخاص لتلميذ القرآن الكريم.. وفي الحقيقة بمجرد أن سمعت أنه في بيتكم طلبت من ولدي أن يدعوه، ويدعوكم معه.. فربما تكون قصتي صالحة ومناسبة لما يكتبه.

الشاهد الأول

ثم قال: لعل أكثركم لا يعلم أني في فترة حياتي السابقة، والتي لم أتشرف فيها بصحبة معلمنا الكاظم، كنت امرؤا شديد الاكتئاب، وكنت ثقيلا مع كل من أجلس إليه، لأني فشلت في كل المشاريع التجارية التي دخلت فيها، وسرعان ما أصابني الإفلاس، وأصابتني معه الكآبة.. لكن جلسات محدودة لي مع معلمنا غيرتني تماما.

فقد قال لي في أول جلوس لي معه: أرأيت إن كان لك جار.. هو فقير.. ربما يكون أفقر منك.. ثم جاء بجوهرة مغشوشة، فعلقها في جيد امرأته، أو جاءك بكنز يلمع كالذهب، ولكنه ليس ذهبا، ثم ذهب يتعالى عليك، ماذا كنت تفعل؟

قلت له حينها: أرحمه، أو أضحك عليه.

فقال: أكنت تتمنى أن يكون لك مثله؟

قلت: لا، لأنه لا يملك إلا السراب والهباء، ثم يغالط نفسه به.

قال: كيف يغالط نفسه به؟

قلت: لأنه إذا جاء وقت الحاجة لن يغني عنه ذهبه شيئا.

قال: إذن هو كذلك السراب الذي ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ [النور: 39]

قلت: أجل.. هو كذلك.

القرآن.. والعزاء والشفاء (107)

قال: فكل أغنياء العالم الذين تمتلئ قلوب الفقراء حسدا أو نقصا عند رؤاهم، هل تغنيهم أموالهم وذراريهم وقصورهم شيئا وقت الحاجة.

قلت: أما في الدنيا، فنعم.

قال: ما الدنيا إلا أيام تروح وتنقضي.. فبعد الدنيا.

قلت: لا تنفعهم، فلم أر أحدا تُدفن كنوزه معه.

قال: أرأيت لو دفنت كنوزه معه، هل تغني عنه من أمره شيئا؟

قلت: كيف تغنيه، وهو لن يطول به المقام حتى يأكله الدود، فيصير هيكلا عظميا ينخره التراب؟

قال: أرأيت لو حنطوه، وحفظوا جثته وزينوها بالحلي والحلل التي جمعها، أكان ذلك يغني عليه شيئا؟

قلت: كيف يغني عليه، وهو رمة بالية، والحمار يظل حمارا، ولو كسي وزين ما زين؟

قال: فخبرني ما فائدة هذا المال الذي لا تجده أحوج ما تكون إليه؟

لم أجد ما أجيبه به، لكني قلت: لكن.. ما البديل؟

قال: أن تبحث عن المال الذي تجده في كل وقت.

قلت: لكن.. ما الفرق بينهما؟

قال: الأول سراب، والثاني ماء، ومن أجهد نفسه مع السراب لن يصل إلى الماء.

قلت: وكيف أصل إلى الماء؟

قال: بالبحث عن رب الماء، ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور:39]

القرآن.. والعزاء والشفاء (108)

الشاهد الثاني

ثم قال لي: هل تعلم تأويل هذه الآية؟

قلت: هذه الآية الكريمة تشبه قوله تعالى عن الغافلين الجاحدين: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103 ـ 104]، وقوله: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30]، وقوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 37]، وقوله: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [المجادلة: 18].. وكل هذه الآيات الكريمة تشير إلى أنه ليس كل ما نعتقد صحته صحيحا فعلا، فقد يكون الواقع خلاف ذلك تماما.

قال: أحسنت.. فالأوهام التي تسيطر على عقل الإنسان هي التي تجعله يتخيل أن صفائح الحديد المحماة، هي سبائك ذهب.. وإلا فإنه لو أبصر بعقله لفرق بينهما.

قلت: لم أفهم ما تقصد؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: 34 ـ 35]؟

قلت: بلى.. ولكني أعلم أن معناها الظاهر هو (1): إن الذين يمسكون الأموال، ولا يؤدون زكاتها، ولا يخرجون منها الحقوق الواجبة، فبشرهم بعذاب موجع.. فيوم القيامة

__________

(1) التفسير الميسر (ص 192)

القرآن.. والعزاء والشفاء (109)

توضع قطع الذهب والفضة في النار، فإذا اشتدت حرارتها أحرقت بها جباه أصحابها وجنوبهم وظهورهم، وقيل لهم توبيخا: هذا مالكم الذي أمسكتموه ومنعتم منه حقوق الله، فذوقوا العذاب الموجع؛ بسبب كنزكم وإمساككم.

قال: أجل.. وهي تدعونا من خلال ذلك إلى أن ننظر إلى كل مال جاءنا من غير طريق حلال، وكأنه نار خالصة، وعذاب ليس فوقه عذاب.. وتدعونا كذلك إلى أن نقدس نظرتنا إلى الأثرياء عن الحسد والمطامع، لأنهم بين أن يكونوا صالحين، فعلينا حينها أن نتبرك بهم، أو يكونوا منحرفين، فحينها ننظر إليهم بشفقة وحزن، لأن أموالهم ليست سوى سجون وزنازن يعتقلون فيها.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [الكهف:42]، فقلت: هذه قصة هلاك مال رجل غره ماله.

قال: لم يغره ماله فقط، بل استعبده من دون الله، ألم تسمع قوله بعد ندمه: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [الكهف:42]؟.. فالآية الكريمة تدعونا إلى أن ننظر إلى كل ما نمتلكه ونغتر به بأنه فان أو سيفنى.

ثم قال: وهذه حقيقة من حقائق الأبد، فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص:88]، وقال: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ [الرحمن:26 ـ 27]

ثم نظر إلي، وقال: لا يتعلق بالهالك إلا هالك.. ولا يتعلق بالفاني إلا الفاني.. فارفع همتك لتطلب الباقي الذي لا يفنى، والخالد الذي لا يبيد، فلا خير في شيء يفنى ويبيد.

الشاهد الثالث

القرآن.. والعزاء والشفاء (110)

كنت لا أزال حينها متثاقلا إلى الحياة الدنيا، فلذلك قلت: بما أننا كلنا هالكون، فلذلك ترانا نتعلق بالهالكين.. فهل علينا لوم في ذلك؟

فابتسم، وقال: نحن هالكون، ولكن فطرنا مملوءة بحب الحياة، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ [طه:120]، فلولا أن الله ملأ فطرة الإنسان بحب الخلود ما جاءه الشيطان من هذا الباب.

ثم قال: ولهذا.. فإن من أراد الحياة الخالدة يحتاج إلى التعلق بالخالد الذي لا يموت، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان:58]، ففي الآية الكريمة دعوة لأن نخرج من سجون الأكوان لنتحرر بالعودة إلى رب الأكوان.

قلت: ألهذا نرى الله تعالى يخبر عن هلاك الأموال، وذهاب العز عن أهله، كقوله تعالى عن أصحاب الجنة: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [القلم:19 ـ 20] أي (1): أنهم بعد أن دبروا هذا التدبير السيء، وأكدوه بالقسم، أوقع الله بهم العقاب الذي استحقوه بتدبيرهم السيء هذا.. فطاف على جنتهم طائف من الله سبحانه، وهم نائمون، يحلمون بلقاء جنتهم مصبحين، يقطفون كل ثمارها غير مبقين على شيء، وإذا هي وقد عريت من كل ثمر، وفي قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ [القلم: 19] إشارة إلى أن هذا الطائف المرسل إليها من عند الله، قد وضع يده عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلم يبق مما مرت عليه يده من ثمارها شيئا.

قال: أجل.. فقد كان ما حل بتلك الجنة من أكبر نعم الله عليهم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1095)

القرآن.. والعزاء والشفاء (111)

قلت: كيف تقول هذا؟.. هذه عقوبة، وليست نعمة.

قال: كل نعمة تحجبك عنه عقوبة.. وكل عقوبة توصلك إليه نعمة.. فلولا أن الله تعالى ابتلاهم بهذا البلاء، لما قالوا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [القلم: 29]، وغلة هذه المقولة أعظم من كل غلة كان يمكن أن يظفروا بها.

الشاهد الرابع

لقد كان ذلك هو اللقاء الأول لي به، ولم أكن أفكر أبدا أن ألتقي به ثانيا، لكني وبعد أن عدت إلى بيتي بتلك الأحزان والكآبة رحت أتأمل ما قاله، فوجدت أنه لا يتكلم إلا عن الحقيقة التي نهرب منها إلى الواقع الذي يكذب علينا..

بعدها ذهبت إليه، وقد صحبني بعض الأثرياء، فسألته عن سر زيارته له، فقد كنت أتصور أنه يعزي الفقراء والمحتاجين فقط، فقال: نحن جميعا بحاجة إلى العزاء.. نعم نحن لدينا الأموال، ولكنا نفتقر إلى ما يفتقر إليه كل الناس من الطمأنينة والراحة والحرص على المستقبل الطيب.. وقد تعلمت منه بحمد الله أن أكون خادما لإخواني في مالي، لا خادما لمالي.. وهو لم ينهني أبدا عن الكسب الحلال، بل نهاني أن يوقعني حرصي على الكسب في الحرام.

وعندما دخلنا إليه، وجدناه مع نفر من الناس، وهو يقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 79 ـ 80]، ثم قال (1): هذا المشهد يصور مواقف البشر جميعا.. لا موقف

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2713)

القرآن.. والعزاء والشفاء (112)

المعاصرين لقارون فقط.. فهم ينقسمون بين طائفة تقف أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت.. وطائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله.. وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه.. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى، ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.

ثم سكت قليلا، وقال (1): فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفسا، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد.. وهؤلاء هم ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [سبأ: 6].. العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم.. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 80]، أي ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون.. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون.. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم.. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها.. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون.. وعند ما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة.. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2713)

القرآن.. والعزاء والشفاء (113)

ثم نظر إلي، وقال (1): وعند ما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل القدرة الإلهية لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما، ولذلك قال تعالى تعقيبا على تلك الآيات الكريمة: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81].. هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة ابتلعته الأرض، وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا، وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.. وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس وردتهم الضربة القاضية إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال.

كان معلمنا الكاظم يحكي لنا قصة قارون التي تعودنا سماعها من القصاص بطريقة مؤثرة حية جعلتنا نشعر وكأن كل واحد منا يمكن أن يكون قارونا من حيث لا يشعر.

وقد طلبنا منه حينها أن يكمل لنا الحديث عما ورد في القرآن الكريم من المشهد الأخير لقصة قارون، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 82]، فقال (2): لقد وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما آتى قارون، وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة.. وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله، فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب، ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف، إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء.. وعلموا أن الكافرين لا

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2713)

(2) في ظلال القرآن (5/ 2713)

القرآن.. والعزاء والشفاء (114)

يفلحون. وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين.

ثم قال (1): وهكذا تنتهي قصة قارون، ويسدل الستار على مشاهدها بانتصار القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة، والتي رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان.. ولذلك عقب الله تعالى على تلك المشاهد بقوله: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].. أي تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم ـ العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية ـ تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق، تلك الدار الآخرة ﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾ [القصص: 83].. فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله، ومنهجه في الحياة.. أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا، ولا يبغون فيها كذلك فسادا، أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة، تلك الدار العالية السامية.. ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83] الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه.. وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه، الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها، والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [القصص: 84]

الشاهد الخامس

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2714)

القرآن.. والعزاء والشفاء (115)

سكت المضحك قليلا، ثم قال: سأحكي لكم ذكرى أخرى من ذكرياتي معه.. وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم.. لكني أشعر بأنس عظيم كلما تذكرت تلك المجالس التي جلست فيها إليه، ولهذا ترون أني أحكيها لكل من ألتقي به.. حتى أولئك الذين أجلس إليهم لأضحكهم، فإني أتحين كل فرصة لأذكر لهم لقاءاتي به، لتبدد ما قد سربته لهم من الغفلة.

لقد ذهبت إليه مرة، فسمعته يقرأ قوله تعالى عن السامري: ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ﴾ [طه: 97]، ثم قال للجالسين حوله، وقد كانوا من الفقراء البائسين: نعم هذه الآية الكريمة تتحدث عن عقوبة السامري.. ولكنها مع ذلك تمتلئ بالسلوى للفقراء، والتربية للأغنياء.. انظروا.. لقد عاقب الله تعالى السامري بمرض يحرمه من المجتمع.. فهو لا يود أن يمس أحدا، أويلاقي أحدا.. وهذا يعني أنه عندما أراد الله أن يعاقب السامري بما تقتضيه فطرته من مخالطة المجتمع، هل أزال المجتمع وحرمه منه؟

قلنا: لا.. المجتمع كان موجودا على مرمى بصره.

قال: فهل قبض الله روحه ليحرمه من رؤية المجتمع؟

قلنا: لا.. بل بقي حيا وموجودا.

قال: لكن كيف حُرم من المجتمع مع أنه كان في المجتمع؟

قال أحدنا: لقد ذكرت أنه ابتلي بمرض يحرمه من المجتمع مع أنه في وسطه وبين أفراده.

قال: لقد حدثتكم سابقا أن المال الذي استعبد الأغنياء والفقراء إما أن يذهب أو يذهب بصاحبه.. وهذه الآية الكريمة تضيف إلى ذلك سلوى جديدة، حيث تقول للذي ألهاه غناه: نعم قد تبقى مع المال.. ولكنه لن ينفعك.. بل ستمتلئ حسرة وأنت تنظر إليه..

القرآن.. والعزاء والشفاء (116)

ستصير كالعيس في البيد يقتلها الظمأ، ولو كان الماء فوق ظهورها محمول.

ثم قال: لعلكم تلاحظون أن الأشياء قد تكون موجودة أحياء، وبوفرة.. ولكنا مع ذلك لا نجد أي متعة، ونحن نتناولها.. وسبب ذلك أن التلذذ ليس بالأشياء.. وإنما بما يخلقه الله فينا من السكينة التي تستقبل التلذذ وتتمتع به.. واللذة من الله لا من الأشياء.. ولهذا قد نأكل كسرة يابسة، ويضع الله في ألسنتنا من التلذذ بها ما لا نجده في أشهى المأكولات.

ثم سكت قليلا، وقال: وهذه حقيقة أشار إليها، بل يصرح بها قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الانبياء:69].. فالله تعالى لم يطفئ النار، وإنما جعل في إبراهيم عليه السلام من السكينة والإيمان ما تتحول به النار بردا وسلاما.

ثم قال: ويشير إلى هذه الحقيقة العظمى كذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لأنفال:43]،فالله تعالى جعل في هذه الرؤيا ما يطمئن القلوب ويملؤها بالثقة.. وليس الأمر قاصرا على الرؤى، بل هو شامل للواقع.. لكل واقع.. ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [لأنفال:44]

قلنا: وعينا هذا.. وهو عزاء عظيم.

قال: فاعبروا منه إلى سائر الحواس.. فالله الذي يتصرف في الأعين يتصرف في اللسان والآذان وفي كل جوارح الإنسان ولطائفه.. ولذلك فإن الله تعالى الكريم مع كل عبادة، يرزق الفقراء الراضين المسلّمين أمرهم إلى ربهم من الراحة واللذة والسلوان ما لا يجده الأغنياء، وفي كل الترف الذي يتناولونه، والذي قد يصير حجابا بينهم وبين السعادة الأبدية.

القرآن.. والعزاء والشفاء (117)

الشاهد السادس

ثم قال لنا المعلم: الخلق خلق الله.. واللذات نعم من نعمه، يوزعها لمن يشاء، وكيف يشاء.. وهي في حقيقتها لا علاقة لها بالأشياء.. ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:33 ـ 35]؟

قلنا: بلى.. سمعناها.. فما علاقتها بهذا؟

قال: إن الله يخبرنا بأن السعادة ليست في الأشياء.. وهي مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124]، وقد عبر عن هذا الضيق بالضنك ليشير إلى أن حياة هؤلاء قد تكون واسعة من حيث الأشياء.. ولكنها ضيقة، بل ضيقة جدا من حيث بركات الأشياء، وما فيها من أصناف اللذات.

طلبنا منه مزيد توضيح للآية الكريمة، فقال (1): الحياة التي تكون مقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع.. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه.. ضنك الحيرة والقلق والشك.. ضنك الحرص والحذر.. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت.. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله، وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان.

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2355)

القرآن.. والعزاء والشفاء (118)

سألناه حينها عن تتمة الآيات الكريمة، وهي قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 124 ـ 127]، فقال (1): أي أن ذلك الذي عاش حياته في ضنك، لا يهتدي الطريق إلى الجنة، لأن الطريق مسدود أمامه، بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله..

وذلك لأن (النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، والذي نألفه في الطبيعة، وكون البصير مبصرا لكل مبصر، والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي، لا دليل على عمومه للنظام الأخروي، فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك، فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة، وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة، وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها)(2)

4. الوجدان والفقد

بهذا الحديث انتهى المشهد الثالث من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الرابع، والذي تعلمت منه معنى الوجدان والفقد، وأثرهما في العزاء والسلوى، لا للفقراء فقط، بل لكل الناس.

ويبدأ المشهد من ذلك المجلس نفسه، لكن ليس من أولئك الحاضرين معنا، وإنما من عجوز كانت في البيت، هي أم المضحك.. فقد طلب منا أن نستمع لحديثها، لأنها كانت في

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 169)

(2) تفسير الميزان، ج: 14، ص: 226.

القرآن.. والعزاء والشفاء (119)

يوم من الأيام تلميذة من تلامذة الكاظم النجباء.

الشاهد الأول

جاءت الأم، وكان اسمها مريم، وقالت: لقد استمعت لحديث ابني.. وأنا أريد أن أحدثكم أيضا بحديثي.. وفي حضور تلميذ القرآن، حتى ينقله لقومه لعلهم يستفيدون منه.

ولا أخفيكم أني كنت قبل أن أتشرف بالتلمذة على معلمي الكاظم مثل سائر الناس مشغولة بالدنيا، وأحب أن أنال منها كل شيء.. لكني بعد مجلس واحد من مجالس معلمي، وفي المسجد الذي كان غاصا بالرجال والنساء تغيرت نظرتي للحياة تماما.

لقد قرأ علينا حينها قوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:37]، ثم قال: أرأيتم لو أن ملكا يملك كل مزارع الدنيا ومصانع أغذيتها طلب من فلاحيه وعلمائه أن يأتوه بفاكهة واحدة من الفواكه التي كانت تأكلها مريم عليها السلام وهي في محرابها، أكانوا يطيقون؟

قلنا: كلا، فطعامهم من الشهادة، وذلك من الغيب، وما أبعد البون بين الغيب والشهادة.

قال: فمريم عليها السلام إذن كانت أغنى منهم جميعا؟

قلنا: في هذه الحالة، يمكن أن نقول: نعم.

قال: وفي غيرها، يمكنكم أن تقولوا: نعم أيضا، لأن الذي أعطى الطعام يمكن أن يعطي غيره.

ثم قال: سأضرب لكم مثلا يوضح هذا: لو رأيتم بستانا جميلا، فيه من الفواكه

القرآن.. والعزاء والشفاء (120)

والثمار ما فيه، ونازعتكم نفوسكم إلى ثماره، فما هو أقرب طريق إلى ذلك؟.. ستقولون: أقرب طريق إلى ذلك أن نستأذن صاحبه في الأخذ منه.. وهذا صحيح.. لكن.. لو أنكم تقربتم من صاحبه من غير أن تطلبوا منه شيئا، ثم وفرتم من الأسباب ما يجعلكم أحباء في عينيه وقلبه.. أليس يغدق عليكم حينها ثمارا كثيرة وفواكه لذيذة.

قلنا: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فلو كان تقربكم أعظم، وكان هذا البستان الذي يملكه ذلك الغني جزءا من مائة ألف جزء من بساتينه؟

قال أحدنا: حينها سيعطيني البستان جميعا، بل ربما يعطيني بساتين أخرى أفضل وأعظم.

قال: فهكذا فعلت مريم عليها السلام.

قال أحدنا: وماذا فعل الأغنياء الذين يتيهون بغناهم؟

قال: لقد اغتنموا ظلام الليل، فسطوا على شجرة من أشجار ذلك البستان، فاقتطفوا ثمرة من ثمارها، ثم اقتتلوا فيما بينهم أيهم يملكها، وقد كان في إمكانهم أن يأخذوها في ضوء النهار، وبدون أن يقتتلوا؟

الشاهد الثاني

سكتت قليلا، ثم قالت: وهكذا سمعته في بعض المجالس يقص علينا قصة امرأة فرعون، وقولها: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ﴾ [التحريم: 11]، ثم أنشد قول الشاعر (1):

إنى لأحسد جاركم لجواركم... طوبى لمن أضحى لدارك جارا

يا ليت جارك باعني من داره... شبرا لأعطيه بشبر دارا

__________

(1) لطائف الإشارات (3/ 609)

القرآن.. والعزاء والشفاء (121)

ثم قال (1): لقد كانت امرأة فرعون في موقع السلطة العليا التي يملكها زوجها، فكانت في مقام الملكة لشعبها، وكانت الدنيا بكل زخارفها وزينتها وشهواتها ولذاتها، تحت قدميها، ولكنها رفضت ذلك كله عند ما اكتشفت الإيمان بالله، وعاشت في خط العبودية له، وذاقت طعم مناجاته في حالة الخشوع الروحي والخضوع الجسدي في لحظات السجود الذي كان يرتفع بروحها إلى الدرجات العليا الروحانية في رحاب الله، فاحتقرت زوجها وملكه، وكل هؤلاء الخاضعين له، المتزلفين له، اللاهثين وراء ماله وسلطانه، ليحصلوا على شيء منهما، ورأت نفسها غريبة بينهم، لأنها تعيش غربة الروح والفكر والشعور عن كل أوضاعهم وعاداتهم ومنطقهم الكافر، ونظرت إلى الدار الواسعة التي هي في رحابة القصور الملكية التي تحيط بها الجنائن النضرة وتجري الأنهار من تحتها، فشعرت بالاختناق الروحي فيها، فصرخت فيما يشبه الاستغاثة في خلوتها الروحية بين يدي الله الذي كانت تراه بعين إيمانها القلبي، ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ [التحريم: 11]

ثم راح يسألنا: هل تعلمون سر ذلك؟..

لم ينتظر منا أن نجيبه، بل قال (2): لأنه البيت الذي تعيش فيه في جنة رضوان الله، وتحس فيه بسعادة الروح إلى جانب نعيم الجسد، فلا تحس بأي حزن مما يحس به الناس في الدنيا، لأنه لا يوجد هناك أي حرمان يوحي بالألم أو بالحزن الداخلي.. هذا هو الحلم الكبير الذي تطلعت من خلاله امرأة فرعون إلى السعادة المطلقة.

ثم طلبت من الله أن ينجيها من فرعون وعمله، فقالت: ﴿وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ [التحريم: 11] في علوه الاستكباري، وفي ظلمه للمستضعفين من الناس، وفي طغيانه

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 329)

(2) من وحي القرآن (22/ 330)

القرآن.. والعزاء والشفاء (122)

على الحياة والحقيقة، وفي تمرده على الله، فإني لا أطيق الحياة معه، لأني أتصوره كما يتصور الإنسان الوحش إذا أقبل عليه أو عاش معه، ولذا، فإن نجاتي منه هي حلم حياتي الكبير.. ﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11] الذين يمثلون المجتمع الفرعوني الذين يزينون له طغيانه وجبروته، ويضخمون له شخصيته، ويدعمون ظلمه واستكباره، ليكونوا قاعدة الظلم الذي يمارسه فيما يشرعون له من قوانينه، وفي ما ينفذونه من خططه ومشاريعه.

سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا نجد في هذه المرأة المؤمنة التي عاشت في أعلى درجات السلم الاجتماعي، التي يضعف الأقوياء أمامها فيسقطون وتسقط معهم مبادئهم، المثال الحي للمرأة القوية التي تجمعت فيها كل عناصر القوة، من الروحية العالية، والإرادة الحديدية، والوعي العميق لكل خلفيات الواقع الفاسد الذي يحيط بها، لتعطي الدرس الكبير لكل الذين يتعللون في تبرير انحرافهم بالبيئة الفاسدة التي يعيشون فيها، فلا يملكون إلا الخضوع لضغوطها الشديدة، لتقول لهم بأنهم لم يبلغوا في انحراف مجتمعهم ما بلغه مجتمعها الخاص والعام من خطورة الانحراف، ولم يعيشوا في قلب الإغراء كما عاشت فيه، ولكن الفرق بينها وبينهم، أنهم عاشوا الانبهار بالواقع المحيط بهم، عند ما استغرقوا فيه، فسقطوا في أوحاله، أما هي فقد ارتفعت بروحها وعقلها عنه، وحدقت فيه تحديقة الإنسان الواعي الذي يريد أن يرى العمق الداخلي ليكتشف ما في داخله من أوساخ وأدران ونقاط ضعف، ليتخذ موقفه من خلال وعي العمق، لا من خلال سذاجة السطح، وبذلك، استطاعت أن تتجاوز الضعف الأنثوي، لترتفع إلى درجة القوة الإنسانية الإيمانية التي تتقدم فيها على الرجال في إرادتها القوية وقرارها الحاسم، لتكون أمثولة للرجال والنساء

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 331)

القرآن.. والعزاء والشفاء (123)

من المؤمنين، ليرتفعوا إلى مواقع السمو التي بلغتها من خلال الوعي الإيماني في شخصيتها الإنسانية.

سكت قليلا، ثم قال: هل تعلمون سر طلبها الجار قبل الدار؟

قلنا: أجل.. وقد كان ذلك من أدبها.

قال: ليس ذلك من الأدب فقط.. بل قد عبرت عن حقيقة من الحقائق الكبرى.. ذلك أنه لا لذة للجنة.. ولا لأي شيء من غير الله.. فلولا الله، وحضور الله لكانت الجنة خرابا على أهلها، ولهذا يتوعد الله تعالى الجاحدين بالحجاب، فيقول: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:15]، ولهذا قال العارفون: (ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء، ومهربنا من الحجاب)

قال أحدنا: أهم يستهينون بالجنة، أم تراهم يحتقرون النار؟

قال: معاذ الله أن يفعلوا ذلك.. ولكنهم انشغلوا بالله عن كل شيء، فلم يتصوروا سعادة من دون الله.. ألا ترون المحبين كيف يغفلون عند رؤية محبيهم عن الآلام التي تحيط بهم!؟.. ولذلك يذكرون أن نار الفراق إذا استولت على القلب غلبت النار المحرقة للأجسام، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام.. وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد.. وليس هذا في الآخرة فحسب، بل في الدنيا شهادات كثيرة عليه، (فقد رؤي من غلب عليه الوجد، فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه، وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب، واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث إنه يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر

القرآن.. والعزاء والشفاء (124)

برابطة التأليف الممكن في الأجسام، فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطه تأليف أشد إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاماً)(1)

5. النظر والعناية

بهذا الحديث انتهى المشهد الرابع من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الرابع، والذي تعلمت منه معنى النظر والعناية، وأثرهما في العزاء والسلوى، لا للفقراء فقط، بل لكل الناس.

وقد بدأ هذا المشهد بدق باب المضحك، ثم خروجه، ثم عودته إلينا، وهو يقول: لقد اجتمع الجيران جميعا في الساحة، وهم يطلبون منا أن نحضر إليهم، ويبدو أنهم قد سمعوا بحضور تلميذ القرآن، ويودون الحديث إليه.

فخرجنا جميعا، وقد وجدنا جمعا كبيرا من الناس، يتحلقون في حلقة كبيرة، فجلسنا إليهم، وما لبثنا أن سمعنا أحدهم، وهو أكبرهم يقول: لقد سمعنا بحضور تلميذ القرآن إلى حينا البسيط هذا، ونحن نريد أن ندلي له ببعض الشهادات التي قد يراها نافعة لينشرها بين قومه.. وبما أني أكبركم سنا، فاسمحوا لي أن أبدأ أنا.

الشاهد الأول

ثم سكت قليلا، وقال: منذ كنت صغيرا، وحارتنا هذه مشهورة بكونها حارة الفقراء والمعدمين والمساكين.. وذلك ليس بسبب كسلنا أو كسل آبائنا وأجدادنا، وإنما لأن حرفنا التي تعلمناها لم تكن تسمح لنا بتجاوز هذه الحال البسيطة التي نعيشها.

ولذلك كان الأثرياء من قريتنا أو من غيرها يفدون إليها بصنوف الصدقات

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 25)

القرآن.. والعزاء والشفاء (125)

والهدايا، والتي كنا نتقبلها منهم، ونشكرهم عليها.. لكن أعظم الهدايا التي قدمت إلينا كانت هدايا معلمنا الكاظم، فهو عندما قصدنا كان خاوي اليدين من أي هدية أو صدقة.. فهو لم يكن ثريا ولا صاحب مال، ولذلك جاء فقط بالكلمات.. والتي لم نلق لها بالا في البداية، لكنا بعد ذلك عرفنا أن تلك الكلمات أفضل من جميع كنوز الدنيا، فهي التي جعلتنا نتخلص من فقرنا.. بل نشعر أننا أغنياء في فقرنا.. وسأقص عليكم أنا باعتباري أكبركم بعض ما ذكر لنا، ثم يقص عليكم غيري من الذين تنوروا بكلماته ما سمعوه منه.

في أول زيارة له إلينا قرأ قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى:3]، ثم قال: اقرؤوا هذه الآية الكريمة، وكأنها أنزلت عليكم.. فالله تعالى يخاطبكم جميعا بأنه يعلم حالكم، وأن حالكم لا تدل على أنه قلاكم أو ترككم..

ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:52]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة إشارة إلى المجتمع الذي يريد الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل عليه بالدعوة إليه، وليس المجتمعات الغنية اللاهية المستكبرة التي أغلقت قلوبها عن كل النداءات التي ترهق الإحساس، وتحرك الشعور، وتقود الإنسان إلى خط المسؤولية النابضة بحركة الحياة المسؤولة، والتي ابتعدت عن كل الأجواء الروحية التي تدفع الخطوات في طريق السلام الأمين.. فإن هذه المجتمعات لا تمثل في حساب الدعوة، القيمة الكبيرة، فيما يتداوله الناس من حسابات القيم، لأن الإسلام لا يعطي القيمة للجهات المنتفخة بالكبرياء والخيلاء، بل يعطيها لتلك الجهات الجدية المنفتحة على المستقبل

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 120)

القرآن.. والعزاء والشفاء (126)

في قلق الإنسان أمام قضية المصير، لذا رأينا الله يوجه رسوله، وكل داعية يسير في خط الرسالة إلى أن ينظر الى الناس من خلال ما يحملونه في داخلهم من الخوف على المصير، فمن كان سائرا في أجواء اللامبالاة أمام ذلك، فلا مجال للحديث معه إلا لإقامة الحجة عليه، أو إخراجه من هذا الجو اللامسؤول، فلا يتوقف الداعية أمامه طويلا، لأن في ذلك تضييعا للجهد بلا فائدة، فقد أغلق هذا الإنسان قلبه عن كل شيء.

ثم قال لنا (1): أما الذين يعيشون إشراقة الخوف من الله، عند ما يذكر أمامهم اسمه، أو تخطر في أفكارهم فكرة الوقوف بين يديه، ويتصورون خطورة الموقف الذي يشعرون معه بالوحدة الموحشة التي لا يملكون معها وليا ولا شفيعا من دون الله.. فلا بد للرسول وللداعية من أن يشعر بأن أمثال هؤلاء هم الذين تتحرك الدعوة في حياتهم، لأن الخوف من الله، يربطهم بالكلمات المنطلقة من وحيه في عملية تأمل وتدبر وتفكير ويدفعهم ذلك إلى القناعة والالتزام الدقيق بالخط العملي للفكر الإسلامي العميق.

سكت قليلا، ثم قال (2): من هم هؤلاء؟ إنهم الفقراء الطيبون، الذين لم يرهقهم ترف الغنى بمغرياته وانفعالاته، ولم يحجب قلوبهم عن البساطة الطاهرة التي تلتقي بالحقيقة والعفوية والطهر، هؤلاء الذين لا يشعرون بأن الرسالة تفقدهم الامتيازات التي يملكونها كما يتصور الأغنياء المترفون، بل يحسون بأنها تمنحهم فرصا لم تكن لهم وتفتح لهم أبوابا كانت مغلقة عليهم، وتوحي لهم بالمعاني الجديدة لإنسانيتهم، وبالآفاق الرحبة لوجودهم.. وبذلك تبرز الرسالة في وعيهم، كمنطلق للإشراق الروحي والانساني فيما يشبه الحلم الوردي الجميل، وهذا ما يفسر أن جنود الرسالات في بدايات الدعوة، هم

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 121)

(2) من وحي القرآن (9/ 121)

القرآن.. والعزاء والشفاء (127)

الفقراء والبسطاء في الأغلب، لأنهم يفهمونها جيدا من خلال ارتباطها بالجانب الإنساني والروحي للحياة.. أما الآخرون من الأغنياء والمستكبرين، فإنهم يقفون في خط المواجهة المضاد الذي يشعر بالرسالة، كما لو كانت الخطر الزاحف على كل وجودهم بالموت.

ثم راح يسألنا قائلا: ما تفهمون من نهي الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن متابعة المشركين، وأمرهم له بالحرص على هؤلاء الفقراء، ووصيته بهم وثنائه عليهم، ولو على حساب بعض المكتسبات الظرفية؟.. ألا يدل على شيء؟

قلنا: على ماذا غير ما ذكرت، وما ذكر المفسرون؟

قال: ما محل الشخص الذي تحرصون عليه، وتغيروا أن يُطرد أو يهان أو يرمى، ولو كان في ذلك حصول مضرة لكم؟.. ألستم تفعلون ذلك مع أحب الناس إليكم؟

أجبناه بالإيجاب، فقال: ولذلك فإن الله تعالى الذي يوصي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بهؤلاء، ويأمره بالحرص عليهم، ينطبق عيه ما قلنا.

قال أحدنا، وكان أعقلنا: إن في هذا إشارة جميلة.

قال: بل سلوى عظيمة تطرب لها نفوس الفقراء، وأغنية جميلة تبشرهم بأنهم، وإن رموا وطردوا فإنهم عند الله بمكان.

الشاهد الثاني

قال آخر: وأذكر أنه قرأ لنا في ذلك المجلس ما ورد في القرآن الكريم من النهي عن طرد الضعفاء والفقراء، كقوله تعالى في قصة لسان نوح عليه السلام: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا

القرآن.. والعزاء والشفاء (128)

أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: 111 ـ 115]، ثم عقب عليها بقوله (1): في هذه الآيات الكريمة ثناء عظيم على هؤلاء المحتقرين المطرودين، فهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام.. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة.. ومن ثم فهم الملبون السابقون؛ فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم، القائمة على الأوضاع المزيفة، المستمدة من الأوهام والأساطير، التي تلبس ثوب الدين، ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة، قيمة الإيمان والعمل الصالح، قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين، بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم.

سكت قليلا، ثم قال (2): ولذلك أجابهم نوح عليه السلام الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ويحدد اختصاص الرسول، ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون.. والكبراء يقولون دائما عن الفقراء: إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف، ولذك، فإن نوحا عليه السلام يقول لهم: إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان.. وقد آمنوا.. فأما عملهم قبله فموكول إلى الله، وهو الذي يزنه ويقدره، ويجزيهم على الحسنات والسيئات، وتقدير الله هو الصحيح ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: 113] بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله. وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: 115]

التفت إلينا ليرى تأثير كلماته فينا، ثم قال (3): فلما واجههم نوح عليه السلام بحجته

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2607)

(2) في ظلال القرآن (5/ 2608)

(3) في ظلال القرآن (5/ 2608)

القرآن.. والعزاء والشفاء (129)

الواضحة ومنطقه المستقيم وعجزوا عن المضي في الجدل بالحجة والبرهان، لجأوا إلى ما يلجأ إليه الطغيان كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان.. لجأوا إلى التهديد بالقوة المادية الغليظة التي يعتمد عليها الطغاة في كل زمان ومكان، عند ما تعوزهم الحجة، ويعجزهم البرهان: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116].. وأسفر الطغيان عن وجهه الكالح، وكشف الضلال عن وسيلته الغليظة، وعرف نوح عليه السلام أن القلوب الجاسية لن تلين.. هنا توجه نوح إلى الولي الوحيد، والناصر الفريد، الذي لا ملجأ سواه للمؤمنين: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 117 ـ 118].. وربه يعلم أن قومه كذبوه، ولكنه البث والشكوى إلى الناصر المعين، وطلب النصفة، ورد الأمر إلى صاحب الأمر: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ [الشعراء: 118] يضع الحد الأخير للبغي والتكذيب: ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 118].. واستجاب الله لنبيه الذي يتهدده الطغيان بالرجم، لأنه يدعو الناس إلى تقوى الله، وطاعة رسوله، لا يطلب على ذلك أجرا، ولا يبتغي جاها ولا مالا: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ﴾ [الشعراء: 119 ـ 120].. وهكذا في إجمال سريع. يصور النهاية الأخيرة للمعركة بين الإيمان والطغيان في فجر البشرية، ويقرر مصير كل معركة تالية في تاريخ البشرية الطويل.

سكت قليلا، ثم قال: هل رأيتم القيمة التي يحتلها أولئك الفقراء الذين اتهمهم قومهم بكونهم أراذل؟.. لقد كانوا هم العقلاء الوحيدين من قوم نوح عليه السلام، ولذلك منّ الله تعالى عليهم بالنجاة، بل بصحبة نبيه، وشرفهم بعد ذلك بذكرهم في القرآن الكريم لنتذكرهم دائما، ولا نطردهم كما يفعل البغاة والظلمة.

قرأ عليه أحدنا ـ وكان متعلما ـ حينها قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿وَيَا

القرآن.. والعزاء والشفاء (130)

قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود:30]، فقال معلمنا يسأله: أتعلم وجه الإشارة فيها؟

قال الرجل: في هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى عن مقالة نبيه نوح عليه السلام، وأنه قال: (من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه إن طردتهم وأبعدتهم عني؟)، فالاستفهام هنا للإنكار، أي لا ينصرني أحد من ذلك، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم.

قال المعلم: أتدري السلوى التي يحملها هذا الكلام لقلوب الفقراء؟

قال: ما هي غير ما ذكرت؟

قال المعلم: هل تعرف الدرجة التي يحتلها النبي في سلم الكمال؟

قال: هي درجة عظيمة لا يمكن تصورها.

قال المعلم: أيمكن تشبيهها بدرجة الوزراء!؟

قال: وأين تقع الوزارة أمام النبوة؟

قال المعلم: فإذا أرسل الملك إلى وزيره يهدده بالعزل أو بالسقوط والانهيار أو بالهزيمة بسبب عامي من الناس، ألا يكون لذلك العامي محلا عظيما في نفس الملك!؟

قال: أجل، لأن تفريط الملك في وزيره الذي هو ساعد من سواعده لا يكون إلا بسبب وجيه، وأمر خطير.

قال المعلم: فكذلك هذا، ولله المثل الأعلى.. واحذر رعونة التشبيه وأكداره، فقد أرسل الله ملك الملوك إلى الأنبياء عليهم السلام الذين يعملون بأمره يحذرهم من المساس بهؤلاء البسطاء.. وذلك لا يكون إلا للمكانة العظيمة التي أقامها الله لهم، مقابل المكانة التي وضعها البشر لهم، فقد قال تعالى عن موضع الفقير في دنيا البشر على لسان نوح عليه

القرآن.. والعزاء والشفاء (131)

السلام: ﴿وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 31]، فقد أخبر الله تعالى أن موقف البشر من هؤلاء المحرومين هو الازدراء، وهو الاحتقار، وقد نسب الازدراء إلى الأعين، مع أن الحاسة لا يتصور منها أن تعييب أحدا، لأنها سبب الازدراء، فلرؤيتهم لهم بتلك الحالة احتقروهم، فالإنسان عندهم مكرم لمظهره، ومنبوذ به.. وذلك يدل على أن المزدرين من هؤلاء الأغنياء لا ينظرون إلى الحقائق، بل يكتفون بالخيوط الواهية التي تكفن بها الحقائق.

ثم قال لنا: وفي ذلك دعوتان.. للفقير والغني.. أما الفقير، فهي دعوة له لئلا ينشغل بما هو فيه من الفقر الذي ازدراه الناس بسببه، بل يبحث عن مواطن الغنى التي لا يبصرونها.. وأما الغني، فلئلا يجعل حكمه على الناس قاصرا على ما تمليه عينه، فقد تدله أذنه أو جوارحه الأخرى أو قلبه على كمالات في الفقير ينتفع بها في الدنيا والآخرة.

الشاهد الثالث

قال آخر: أما أنا، فبعد أن سمعت منه تلك الكلمات التي رفعت عني كل الآلام النفسية التي كنت أعانيها بسبب فقري وحاجتي، رحت إليه في مدرسته، لأجلس بين تلاميذه البسطاء، وقد سمعته يسألهم عن بعض الأحكام الشرعية، وقد كنت أتصور في البدء أنه سيتحدث عن أحكامها، لكنه لم يكتف بأحكامها، بل راح يملؤهم بالعزاء والسلوى من خلالها.. سأحكي لكم بعض ما جرى في ذلك المجلس، وهو مما لا يمكنني أن أنساه.

لقد قال لهم سائلا: ما كفارة الظهار؟

قال أحدهم: لقد نص عليها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ

القرآن.. والعزاء والشفاء (132)

اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة:4]

قال المعلم: فما كفارة من حنث في اليمين المعقدة؟

قال أحدهم: لقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة:89]

قال المعلم: فما كفارة صيد المحرم؟

قال أحدهم: لقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [المائدة:95]

وبعد أن تحدث عن الأحكام الشرعية المرتبطة بتلك الآيات الكريمة، قال: إن الله تعالى بكرمه ولطفه يوزع العزاء والسلوى في كل محل، حتى ضمن الأحكام الشرعية.. ففي هذه الآيات الكريمة تنبيهات تحمل تنظيمات تشريعية تخلص الفقراء من العزلة التي قد يضربها عليهم الأغنياء.. فقد كان في إمكان الله تعالى أن يرتب غرامة مالية على كل ذنب من الذنوب تدفع لبيت المال الذي يتولى دفعها للفقراء.. أو كان في إمكانه أن يجعل نفس العقوبة، ولكن يجعلها في مسكين واحد.. ولكن شاء الله أن يجعل تلك الكفارات إطعام ستين مسكينا ليكون البحث عن المساكين المستحقين جزءا من الكفارة.

قال أحدهم: فما فائدة ذلك العناء الذي يجعل الشخص يبحث عن هؤلاء المساكين؟

قال المعلم: في بحثه عنهم تعرف منه عليهم.. وفي تعرفه عليهم وتكافله معهم

القرآن.. والعزاء والشفاء (133)

تخليص لهم من العزلة التي قد تفرض عليهم.

لست أدري كيف قلت له حينها أعبر عما في نفسي: سيدي.. إن الفقير في الحقيقة لا يؤلمه فقره، بقدر ما تؤلمه نظرات الناس.. ولا يؤلمه جوعه وبرده فقد يصيب الغني من الجوع ما يصيب الفقير، وقد يصيب الفقير من الشبع ما يصيب الغني.. لكن تؤلمه زنازن العزلة التي يرى نفسه قد وضع فيها.

قال المعلم: ولذلك إن رُفع هذا الوهم، وقيل للفقير: فقرك ليس علامة إبعاد.. كما أن غنى جارك ليس علامة ود، فكلاهما ابتلاء رباني لتمحيص القلوب، حينها ستزول كل المعاناة النفسية.. فكل معاناتنا بسبب ما نحمله من أوهام.

ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر:16]، ثم قال (1): فهذه الآية الكريمة تقول لنا: إن الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه في الظاهر، يقول ربي أكرمني، ويبطر ويتكبر، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، ويقنط ويتسخط.. كلا لينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما، وليعلما أنه اختبار من الحق، فمن شكر النعم، وأطعم الفقير والمسكين، وأبر اليتيم والأيم، كان من الأبرار، وإن عكس القضية كان من الفجار، ومن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومن عكس القضية كان من البعداء.. فمن نظر الإنسان القصير ظن النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسط الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوان، وقبضها عنه إحسان، وقد قال الحكيم: (ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك)

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (7/ 301)

القرآن.. والعزاء والشفاء (134)

وعندما سألناه توضيحا أكثر لذلك قال (1): الله تعالى يعرفنا بحقائق الوجود، والقيم التي تحكمه، حتى لا نقع أسرى لغفلتنا والقيم التي ننسجها بأوهامنا، كما قال تعالى في صفة الكفار الجاحدين: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: 11]

ثم قال (2): وهذا خطأ كبير، ومن وجوه كثيرة.. أولها: أن سعادة الدنيا وشقاوتها في مقابلة ما في الآخرة من السعادة والشقاوة كالقطرة في البحر، فالمتنعم في الدنيا لو كان شقيا في الآخرة فذاك التنعم ليس بسعادة، والمتألم المحتاج في الدنيا لو كان سعيدا في الآخرة فذاك ليس بإهانة ولا شقاوة، إذ المتنعم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالسعادة والكرامة، والمتألم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالشقاوة والهوان.. وثانيها: أن حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام فيها لا يدل على الاستحقاق، فإنه تعالى كثيرا ما يوسع على العصاة والكفرة، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وإما يحكم المصلحة، وإما على سبيل الاستدراج والمكر، وقد يضيق على الصديقين لأضداد ذلك، فلا ينبغي للعبد أن يظن أن ذلك لمجازاة.. وثالثها: أن المتنعم لا ينبغي أن يغفل عن العاقبة، فالأمور بخواتيمها، والفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر، فلا ينبغي أن يقضي على نفسه بالإهانة مطلقا.. ورابعها: أن النفس قد ألفت هذه المحسوسات، فمتى حصلت هذه المشتهيات واللذات صعب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها، أما إذا لم يحصل

__________

(1) مفاتيح الغيب (31/ 155)

(2) مفاتيح الغيب (31/ 155)

القرآن.. والعزاء والشفاء (135)

للإنسان شيء من هذه المحسوسات رجعت شاءت أم أبت إلى الله، واشتغلت بعبودية الله فكان وجدان الدنيا سببا للحرمان من الله، فكيف يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا، مع أن ذلك أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات.. وخامسها: أن كثرة الممارسة سبب لتأكد المحبة، وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق، فكل من كان وجدانه للدنيا أكثر وأدوم كانت محبته لها أشد، فكان تألمه بمفارقتها عند الموت أشد، والذي بالضد فبالضد، فإذن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت، وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت، فكيف يقال: إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة؟

ثم قال لنا (1): لا يمكنكم أن تفهموا هذه الوجوه، أو أن تعيشوا معانيها، ما لم تمتلئ قلوبكم بالإيمان باليوم الآخر، ولهذا يقرن الله تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، كما قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113 ـ 114]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8]، وقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 177]

ثم قال: فالإيمان باليوم الآخر ركن من أركان العزاء والسلوى، ولولاه لتشوهت معرفتنا بالله، لأننا قد لا نرى عدالته ورحمته وحكمته في هذا العالم، بقدر ما نراها في ذلك العالم.

الشاهد الرابع

__________

(1) مفاتيح الغيب (31/ 156)

القرآن.. والعزاء والشفاء (136)

قال آخر: أما أنا، فقد سمعته في بعض مجالسه التي شرفنا بها في حارتنا هذه يقرأ قوله تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود:27]، ثم قال لنا: الله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبر عن الشبهات التي وقفت حجابا بين الملأ المتمالئين على الأنبياء عليهم السلام، الذين ملأوا القلوب هيبة، والمجالس أبهة، وبين الوصول إلى الحق.. وأول تلك الشبهات كون نوح عليه السلام بشرا مثلهم.. والثانية كونه ما أتبعه إلا أراذل القوم.. والثالثة كونهم لا يرون لهم فضلا، لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل (1).

ثم راح يسألنا قائلا: هل تعلمون بالجواب الذي رد به نوح عليه السلام على هذه الشبه؟

ثم أجاب نفسه قائلا: لأهمية ذلك الجواب، ولكل المؤمنين، وفي كل الأجيال قصه علينا القرآن الكريم، فقد أخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده، ولا يسألهم على ذلك أجرا.. وأنه مكلف بأن يدعو الشريف والوضيع، فمن استجاب له فقد نجا.. وأخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس هو بملك من الملائكة، بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات.. وأخبرهم بأن ما في نفوس من تصوروهم أراذل من قومه فاحتقروهم وازدروهم لا يعلم حالهم عند الله فإن كانوا مؤمنين، فلهم جزاء الحسنى.

ثم قال: إن أول من يستنشق الروائح العطرة لهذه الآيات الكريمة هم الفقراء

__________

(1) مفاتيح الغيب (17/ 337)

القرآن.. والعزاء والشفاء (137)

والمستضعفون.. فانشغال النبي بالدفاع عنهم، وبيان قيمتهم وحرمتهم ومكانتهم عند الله، يدل على الموضع الذي يحتله هؤلاء!؟

قلنا: لم نفهم بعد.. وضح ما تريد.

قال: ألا تستشهدون باقتران العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آي القرآن الكريم على فضل العمل الصالح لاقترانه بالإيمان الذي هو أشرف الأعمال؟

قلنا: بلى.

قال: ألا تستشهدون بعظم حق الوالدين لاقترانهما بتوحيد الله وعبوديته؟

قلنا: بلى، كثيرا ما نفعل ذلك.

قال: فكذلك هنا.. فاقتران ذكر الأنبياء عليهم السلام بذكر المستضعفين يدل على أنهم محل نظر وعناية خاصة من الله تعالى.

سكت قليلا، ثم قال: هل تعرفون كم لبث نوح عليه السلام في قومه؟

قال أحدنا: هو ما نص عليه القرآن الكريم، فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً﴾ [العنكبوت: 14]

قال: فكم المدة التي كان يتكلم فيها مع قومه؟

قال أحدنا: وهذا أيضا وارد في القرآن الكريم، فقد قال تعالى حاكيا عنه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح:5]، وكأنه عليه السلام لاجتهاده في الدعوة إلى الله لا يسكت ليلا أو نهارا.

قال: فكم ترى يكون قد تكلم من الكلمات؟

قال أحدنا: لو كتب كلامه كتبا لملأ بها سهول الأرض وجبالها.

قال: فاختيار الله تعالى لهذه الكلمات المدافعة عن المنبوذين ليذكرها في القرآن

القرآن.. والعزاء والشفاء (138)

الكريم، ألا يدلكم على المكانة التي هيأها لهم، وشرفهم بها؟.. لا عند نوح عليه السلام فحسب، بل عند الله، لأن القرآن الكريم لم ينزل ليؤرخ لقوم نوح عليه السلام، وإنما أنزل ليذكر الحقائق العظمى التي ينبني عليها الوجود.

رحت حينها أسأله قائلا: ولكن ما سبب إقبال الفقراء على الحق وإعراض الملأ أغنياءهم وكبراءهم عنه؟.. ولماذا يكون هؤلاء الأراذل المستضعفون أسرع الناس إلى الحق، فقد قال تعالى في الآيات السابقة: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي﴾ [هود: 27]؟

التفت إلي، وقال: لأن الفضل صدقة الله، والصدقات لا تكون إلا للفقراء والمساكين، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60]؟

قلت: بلى.. ولكن ما وجه الإشارة في الآية الكريمة، فإني لا أفهم منها إلا أنها تعدد أصناف المستحقين للزكاة؟

قال: هي كذلك، ولكن الذي قالها يتصدق أيضا.. ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نام عن حزبه وقد كان يريد أن يقوم به، فإن نومه صدقة تصدق الله بها عليه، وله أجر حزبه)(1)

ثم قال: الأغنياء الذين سماهم القرآن الكريم [ملأ] امتلأوا بغناهم وما لديهم من أشياء، فلذلك لا يستطيعون تقبل صدقات الله التي تمتلئ بها خزائنه، والتي تفيض على كل الوجود، بينما الفقراء، يشعرون بفاقتهم الذاتية، وفراغهم العظيم، فلذلك كانوا مستعدين لصدقات الله، ولذلك بمجرد أن يشع نور من أنوار الله يكونون أسرع الناس إليه.

__________

(1) الموطأ لابن وهب (ص 108)

القرآن.. والعزاء والشفاء (139)

قلت: هنيئا إذن للفقراء بهذا الفضل الإلهي.. وواحسرتاه على الأثرياء لحرمانهم منه.

قال: لا تقل هذا.. فالله تعالى لم يحرم الأثرياء من فضله.. لكن فيهم من يحرم نفسه، مثلما يفعل الفقراء الذين يحرمون أنفسهم من فضل الله، فيجمعون بين الحرمانين.

قلت: لم أفهم.

قال: ليست العبرة بكون الثري ثريا، بل العبرة بشعوره بثرائه، فقد ترى الفقير مستعليا، وترى الغني متواضعا، ولهذا قد يتحقق الغني بالافتقار الذي يؤهله لدخول قصور فضل الله، وقد يحرم الفقير الذي ملأ عيني قلبه بما عجز عن تحقيقه لجيوبه.. فعينه بصيرة، ويده قصيرة.

ثم قال: ويدل لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولاينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)(1)

الشاهد الخامس

قال آخر: أما أنا، فقد سمعته في بعض مجالسه يرتل بصوته الجميل الخاشع قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام:53]، ثم قال (2): كان أكثر ما دخل على زعماء قريش وسادتها الذين آثروا الكفر على الإيمان، واستحبوا العمى على الهدى، وصدهم عنها، أن سبقهم إليها جماعات ممن لم يكونوا أصحاب سيادة أو رياسة فيهم، بل كانوا من الفقراء والمستضعفين والأرقاء من الرجال والنساء.. فأنف هؤلاء السادة أن ينضموا إلى ركب العبيد، وحسبوا أن الدين والدنيا على سواء، وأن من كان عزيزا في الدنيا، فهو سيد وعزيز في الدين، وبدا لهؤلاء

__________

(1) مسلم (107)، وأبو عوانة 1/ 40، والبيهقي 8/ 161.

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 194)

القرآن.. والعزاء والشفاء (140)

السادة أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه ما يرفع من مقام السادة، أو حتى يحتفظ لهم بمكانهم الذي هم فيه.. وإذن فزهدهم في هذا الدين، وصرف وجوههم عنه هو الموقف، الذي ينبغى عليهم أن يلتزموه، وأن يدعو هذا الدين للعبيد والإماء، ومن هو مثلهم ضعفا وفقرا، فلن يزيدهم هذا الدين، إلا فقرا وضعفا.. هكذا كان تقدير السادة والزعماء من مشركى قريش، وهكذا كان تصورهم للرسالة الإسلامية، وما تحمل من هدى ونور.

سكت قليلا، ثم قال (1): وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: 11].. ولهذا، فإن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: 53] هو بيان لهذا الموقف الذي وقفه سادة قريش وكبراؤها من دعوة الإسلام، وأنهم إنما ضلوا الطريق إلى الإيمان بالله بسبب أن جماعة من المستضعفين والفقراء قد سبقوهم إليه، فقد كان ذلك فتنة لهم، وكان لسان حالهم يقول ما حكاه القرآن عنهم: ﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: 53] يقولونها تهكما وسخرية.. إذ كيف يختار الله لدينه منهم من هم أنزل الناس منزلة فيهم؟.. وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].. فالله سبحانه وتعالى هو الذي اختار هؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام، ودعاهم إلى مائدته، وأقامهم في الصفوف الأولى منها، لما علم سبحانه وتعالى من قبولهم لدعوته، وشكرهم لفضله ونعمته.. أما هؤلاء السادة المتكبرون، فليسوا أهلا لأن يدعوا من الله، ولا أن يكونوا في السابقين إلى مائدة الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 195)

القرآن.. والعزاء والشفاء (141)

سألناه حينها عن العزاء الذي تحمله هذه الآية الكريمة ومثيلاتها لأمثالنا من الفقراء والمساكين، فقال: الله تعالى في الآية الكريمة يخبر عن القصد من بلائه واختباره لعباده، فهو يبتليهم بالفقر والغنى، ومن النتائج التي تنتج عن ذلك البلاء أن يقول المستكبرون المتعالون: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام:53]، فرد الله تعالى عليهم بكونه أعلم بالشاكرين.. أي إن الله تعالى يعلل مننه على عباده الذين قربهم بكونهم من الشاكرين.

قلت: فلم يكون فضل الله وجميل اختياره مرتبطا بالشاكرين؟

قال: أرأيت لو أنعمت على بعض إخوانك بنعم، وقدمت لهم خدمات أرهقتك، فنظر بعضهم إليك شزرا، وانصرف.. وقال بعضهم: (ما هذه الخدمات الحقيرة، والعطايا الصغيرة؟).. وجاء بعضهم فقبل يديك، ومسح على رجليك، وقال الثاني: (نحن في خدمتك، فجزيت عنا كل خير).. أي هؤلاء تفضله بعد ذلك بالعطاء إذا سنحت لك السوانح، ودر عليك اللطف؟

قلت: الشاكرين.. لا شك في ذلك، فكيف يمتد عطائي للجاحدين، بل إني لو استطعت أن أسلبهم ما أعطيتهم، وأخرج طعامي من بطونهم أو أحوله سما لفعلت.

قال: وكذلك الحق تعالى مع كرمه العظيم، فإنه قد يسلب هؤلاء نعمهم، كما قال تعالى عن قرى سبأ لما أعرضوا عن شكر الله: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ:16]

قال أحدنا: فما علاقة ذلك بالمستضعفين، أليس الشكر مطلوبا من الأغنياء، والصبر مطلوبا من الفقراء؟

قال: بل الشكر والصبر مطلوب منهما جميعا.. لأن الشكر والصبر عبادتان لا تختلفان عن الصوم والصلاة، فهل قال أحد: إن الصلاة خاصة بالأغنياء، والصوم خاص بالفقراء؟

القرآن.. والعزاء والشفاء (142)

قلت: لا.. لم يقل أحد بذلك.. ولكن على ماذا يصبر الأغنياء والنعم لديهم متوافرة؟

قال: على عدم استفزاز النعم لهم استفزازا يجعلهم يعبدون أنفسهم ولا يعبدون الله.

قلت: وماذا يشكر الفقراء؟

قال: أقل شيء يشكرونه أن الله لم يجعل لهم من الغنى ما يحول بينهم وبين تبصر الحق.. ولذلك عقب الله تعالى الآية السابقة بقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام:53]، فالغني قد ينشغل بالنعم وما تتطلبه عن شكرها.

سكت قليلا، ثم قال: ولذلك، فإن الله تعالى ذكر مواجهة المترفين لأنبيائهم في مواضع عدة من القرآن الكريم، كقوله تعالى مبينا سنة ذلك: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ:34].. ومثل ذلك ربطه بين مصير القرى والمترفين، بل يبين أن المترفين هم سبب هلاك الأمم والحضارات، كما قال تعالى مبينا هذا القانون: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ [الاسراء:16]

قلت: ما السبب الذي جعل الترف حائلا بين المترفين والحق؟

قال: الترف.. فالمترف مستغرق في ترفه مستعبد له، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود:116]، فالمترفون استهواهم ترفهم، فاستعبدهم من دون الله، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط تعس وانتكس، وإذا شيك فلا

القرآن.. والعزاء والشفاء (143)

انتقش)(1).. ثم عقب على ذلك بذكر نواحي الفضل التي يحتويها الفقر والحاجة المصاحبة للإيمان، فقال: (طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)

ثم راح يسألنا قائلا: أتدرون ما سر هذا الاقتران؟

ثم أجاب نفسه بقوله: أما الأول، فإنه لانشغاله بترفه، وما يتطلبه ترفه عمي عن الكون جميعا، وعمي عن رسالته في هذا الوجود، وأما الثاني الذي لا يملك شيئا، فقد كان فقره سببا في رؤيته الأشياء على حقيقتها.

طلبت منه أن يوضح ذلك بمثال، فقال: أرأيت إن وضع مترف من المترفين في قصر عظيم، له في كل لحظة زينة جديدة، وطعام جديد، فهو دائما في ظل الجديد، أكان يمكنه أن يجد الوقت لرؤية السماء، أو شعاب الوادي، أو فيافي الصحراء، أو تأمل النجوم في الليل؟

قلت: لا يمكنه ذلك، فلن يخرج من قصره العامر ليصيبه غبار الفيافي.

قال: فكذلك هؤلاء المترفين الذين عصبوا عيونهم بخيوط الحرير، وكبلوا أقدامهم بقيود الذهب، ووضعوا على رقابهم أغلال اللآلئ.. أما المستضعفون، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي يمثلهم أحسن تمثيل، وهو ذلك الأشعث الأغبر الذي إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، فهو لا يبالي بشيء، ولا يخاف شيئا.. ولهذا كانت رؤية الفقير للحقائق أيسر.. ولهذا يقول تعالى لهؤلاء المترفين في الآخرة مستهزئا: ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ [الانبياء:13]، ويقول معللا

__________

(1) البخاري (3/ 1057)

القرآن.. والعزاء والشفاء (144)

سر ما حصل لهم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ [الواقعة:45]

6. التعفف والاستغناء

بهذا الحديث انتهى المشهد الخامس من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد السادس، والذي تعلمت منه معنى التعفف والاستغناء، وأثرهما في العزاء والسلوى، والأسباب التي تجعل المؤمن عفيفا مستغنيا.

وقد بدأ هذا المشهد من ذلك المحل نفسه، وقد تحدث فيه إمام الحارة التي كنا فيها، والتي تُجمع عنده الصدقات، ثم يقوم بتفريقها بين أهل الحارة، وقد بدأ حديثه بقوله: اسمحوا لي أن أتحدث أنا أيضا، لا باعتباري من تشرفت بإمامتكم في الصلوات، ولكن بكوني تلميذا بسيطا لمعلمي الكاظم، وللتلاميذ الذين تتلمذوا على يديه.

وقبل أن أبدأ حديثي أود أن أذكر لكم، بأني في هذه الحارة ـ قبل أن يزورنا المعلم ـ كنت أعاني كثيرا في توزيع الهدايا والصدقات التي يجلبها لي بعض الناس، حيث كنت أتعرض للعتاب بل التوبيخ من الكثيرين، لأني قدمت غيرهم عليهم، لكن الأمر اختلف تماما بعد زيارة المعلم، حيث كنت أحتار فيمن يقبلها، لأن الكل كان يطلب مني أن أسلمها لغيره، ويخبرني أنه أولى بها منه.

وسأذكر لكم ما ذكره لي أربعة من الذين كنت أتلقى منهم قبل زيارة المعلم جميع أنواع التوبيخ بسبب عدم تقديمي لهم على غيرهم، وقد سألتهم جميعا عن سر ذلك التغير الذي حصل لهم.. وكل منهم ذكر لي ناحية من نواحي ضعف البشر، والتي تطهر القلب من الذل لهم.

القرآن.. والعزاء والشفاء (145)

وأولها: الفقر.. فالبشر جميعا فقراء.. والفقير لا يمد يده لفقير مثله.. وثانيها: البخل، فالأغنياء يكنزون أموالهم، ويخافون إهدارها على المحتاجين.. وثالثها: الظلم.. فالكرماء قد يضعون كرمهم في المواضع التي لا تصيب المحتاجين.. ورابعها: العجز، فحاجات الإنسان أكثر من أن يسدها فقير وظالم وبخيل وعاجز.

الشاهد الأول

أما الأول، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد قرأ علي عند جلوسي إليه أول مرة قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل:62]، ثم قال: من أكبر نعم الله عليك أن لا تحتاج إلا إليه، وأن لا تمد أعناق همتك إلا إليه، وأن (لا تتعد نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال)

ثم قال: هل تعلم من هو الكريم الحقيقي.. ذلك الذي ينبغي أن نمد أيدينا إليه؟

سكتُّ، فقال (1): إنه الله الكريم المطلق، فهو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولا لمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجا، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء.. ولا يتحقق هذه الصفات بكمالها أحد من خلق الله.. فمثل هذا الكرم لا يمكن أن يكون إلا ممن خزائنه لا تنفذ.. أما خزائننا فسريعة النفاذ.. ولو امتلأت ففينا من البخل ما يمنع التكرم بها.

ثم قال: لقد قال لي بعض شيوخي عندما رآني أمد يدي إلى بعض الأثرياء: (لا ترفعن

__________

(1) المقصد الأسنى (ص 117)

القرآن.. والعزاء والشفاء (146)

إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعا؟ من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه، فكيف يستطيع أن يكون لها عن غير رافعا؟)

ثم دعاني إلى قراءة ما ورد في القرآن الكريم عند ذكر الله تعالى للإنسان، والسلبيات الكثيرة التي يتصف بها، والتي تجعله غير مؤهل لأن يصبح غوثا لغيره، وكيف يكون كذلك، وهو ليس غوثا لنفسه.. فقد ذكر الله تعالى أنه كثير النسيان، وناكر للجميل، وأنه موجود ضعيف، وأنه ظالم وكافر، وأنه بخيل قتور، وأنه عجول، وأنه مجادل خصيم، وأنه موجود قليل التحمل والصبر، يبخل عند النعمة، ويجزع عند البلاء، وأنه طاغية عند الغنى.

ثم قال لي: ويجمع كل ذلك كون البشر جميعا ـ أغنياءهم وفقراءهم ـ فقراء.. فالفقر ليس خاصا بفلان من الناس، ولا بدولة من الدول، بل هو سمة الكون جميعا.. أما الغني الوحيد في هذا العالم فهو الله تعالى.

ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15]، ثم قال (1): إن ربنا الكريم يقول لنا في هذه الآية الكريمة: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله في دقيق الأمور وجليلها، وفي كل لحظة.. لا يستغني أحد عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، إذ لا قيام للعبد إلا به، فهو مفتقر إلى الله، إيجادا وإمدادا.. ولهذا جاء لفظ [الفقراء] معرفا للمبالغة في وصف فقرهم، وكأنهم لشدة افتقارهم، وكثرة احتياجهم، هم الفقراء دون غيرهم، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به.

ثم حكى لنا عن بعضهم أنه قال: الخلق محتاجون إلى الله في كل نفس، وطرفة، ولحظة، وكيف لا، ووجودهم به، وبقاؤهم به؟.. والله هو الغني عن الأشياء كلها، الحميد

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 529)

القرآن.. والعزاء والشفاء (147)

المحمود بكل لسان.

ثم قال لنا (1): ولم يسم الله تعالى عباده بالفقر تحقيرا لهم، بل سماهم بذلك تعظيما لهم، لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني أغناه عن أشكاله وأمثاله.. ولهذا وصف الله تعالى نفسه بكونه حميدا ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كل غني نافعا بغناه، إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم، حمده المنعم عليهم.

ثم ذكر لنا السر في تعقيب الآية الكريمة بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر: 16]، فقال: لما ذكر الله تعالى افتقارهم إلى نعمة الإيجاد، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد، بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ [فاطر: 16] أي: إن يشأ يفنيكم كلكم، ويردكم إلى العدم فإن غناه بذاته، لا بكم، ويأت بخلق جديد يكون أطوع منكم، أو بعالم آخر غير ما تعرفون.. وما ذلك الإفناء والإنشاء على الله بعزيز بممتنع.. ولهذا كان فقر الخلقة عاما لكل أحد، في أول حال وجوده ليبديه وينشيه، وفي ثاني حال بقائه ليديمه ويبقيه.. وقد أشار إلى ذلك بعض الحكماء، فقال: (نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل موجود منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، أنعم أولا بالإيجاد، وثانيا بتوالي الإمداد)

ثم حدثنا عن أنواع الفقر، فذكر أنه على أربعة أقسام: فقر من الدين، وفقر من اليقين، وفقر من المال، وفقر مما سوى الله.. فالأولان مذمومان، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع، حتى لو ملك صاحبهما الدين ومن فيها.. والثالث: إن صحبه الرضا فممدوح، وإلا فمذموم.. والرابع: هو مطلب القاصدين والعارفين، وهو الغيبة عما سوى الله، والغنى بالله.. وهو ينشأ عن التحقق بالفقر ظاهرا وباطنا لأن الفقر من وصف العبد،

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 529)

القرآن.. والعزاء والشفاء (148)

والغنى من وصف الرب، فمن تحقق بوصفه أمده الله بوصفه، كما قال بعض الحكماء: (تحقق بوصفك يمدك بوصفه، تحقق بفقرك يمدك بغناه، تحقق بذلك يمدك بعزه)

وقد حكى لنا في هذا الكثير من حكم الحكماء الناتجة عن تدبر القرآن الكريم، ومنها قول بعضهم (1): (لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى، ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى، حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه.. فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا بالسر إليه، ومنقطعا عن الغير إليه، حتى يكون عبوديته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع)، وقال آخر: (من استغنى بالله لا يفتقر، ومن يتعزز بالله لا يذل)، وقال آخر: (الفقر خير للعبد من الغنى لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال)، وقال آخر: (صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء)

ثم ذكر لي أنه التقى به في مجلس آخر، فسمعه يقول (2): إن البشر في حاجة دائمة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم، وهو المحمود بذاته، وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسير.

وعندما سئل عن سبب ذلك، قال (3): الناس في حاجة إلى أن يُذكّروا بهذه الحقيقة، لئلا يركبهم الغرور، وهم يرون أن الله جل وعلا يعنى بهم، ويرسل إليهم الرسل ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور.. ويركبهم

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 530)

(2) في ظلال القرآن (5/ 2937)

(3) في ظلال القرآن (5/ 2937)

القرآن.. والعزاء والشفاء (149)

الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله، وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئا في ملكه تعالى، والله هو الغني الحميد، وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته، ويفيض عليهم من رحمته، ويغمرهم بسابغ فضله، بإرسال رسله إليهم، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء.. إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلا وكرما ومنا، لأن هذه صفاته.. لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئا بهداهم، أو ينقصون من ملكه شيئا بعماهم، ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل.

ثم قال (1): إن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه، حين يرى نفسه، وهو الصغير الضئيل الجاهل القاصر، الضعيف العاجز، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل.. والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض، والأرض تابع صغير من توابع الشمس، والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم، والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة ـ على ضخامتها الهائلة ـ متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده.. وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله، ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية.. ينشئه، ويستخلفه في الأرض، ويهبه كل أدوات الخلافة ـ سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته ـ لكن هذا المخلوق يضل ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره، فيرسل الله إليه الرسل، رسولا بعد رسول، وينزل على الرسل الكتب والخوارق، ويطّرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2937)

القرآن.. والعزاء والشفاء (150)

الأخير للبشر قصصا يحدث بها الناس، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات، ومن عجز وضعف، بل إنه ـ سبحانه ـ ليحدث عن فلان وفلان بالذات، فيقول لهذا: أنت فعلت وأنت تركت، ويقول لذاك: هاك حلا لمشكلتك، وهاك خلاصا من ضيقتك.. كل ذلك، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض، التابعة الصغيرة من توابع الشمس، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس، والله ـ سبحانه ـ هو فاطر السماوات والأرض، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة.. بمجرد توجه الإرادة.. وهو قادر على أن يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة..

ثم قال (1): البشر خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته، وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران.. فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية، إلى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة.. والقرآن الكريم يلمس بالحقائق قلوب البشر لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس، ولأنه هو الحق وبالحق نزل، فلذلك لا يتحدث إلا بالحق، ولا يقنع إلا بالحق، ولا يعرض إلا الحق، ولا يشير بغير الحق.

ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر، يقول: الفقر في حقيقته هو الحاجة، وهي ليست مختصرة فيما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاجات، بل هي كل شيء وهبه الله تعالى لعباده ابتداء من وجودهم، وانتهاء بالأرزاق التي تفاض عليهم في كل حين.

ثم ذكر لهم أصناف الحاجات التي يحتاج الخلق إلى سدها.. وهي كثيرة جدا، ففي

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2938)

القرآن.. والعزاء والشفاء (151)

الإنسان من الحاجات بحسب عدد خلاياه.. بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه.. لأن الفقر هو الحاجة.. وفي كل ذرة حاجة من الحاجات.. وفاقة تستدعي أن تسد.

ثم قال: إن كل تلك الثروات التي يمتلكها الأغنياء.. والخزائن التي يوصدونها.. والأموال التي يرصدونها لا يسدون بها إلا حويجات قليلة.. بل في الحقيقة لا يسدون شيئا.

ثم ذكر لهم موعظة بعضهم لبعض الأمراء، حين دخل عليه، وبيده كوز ماء يشربه، فقال له: عظنى، فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه؟.. قال: نعم.. فقال: لو لم تعط إلا بملكك كله، فهل كنت تتركه؟.. قال: نعم.. قال: فلا تفرح بملك لا يساوى شربة ماء.

الشاهد الثاني

أما الثاني، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد حدثنا عن البخل الذي يتصف به البشر، حتى لو وفر الله تعالى لهم بعض الغنى.. ولذلك فهم لا يستحقون أن نذل لهم، أو نمد أيدينا إليهم.

ثم ذكر لي أنه سمعه في بعض مجالسه يذكر أن الله بحكمته أعطى الأغنياء بعض ما قد تمس إليه حاجة الفقير ليبتلي الغني بالفقير، والفقير بالغني، ثم استدل ذلك بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام:165]، ثم عقب عليها بقوله (1): في هذه الآية الكريمة بيان لنعمة من نعم الله الكبرى على بنى آدم خاصة، إذ جعلهم ﴿خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 165] وفي هذا ما فيه من تكريم لهم، وإحسان إليهم، ففي قوله تعالى:

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 358)

القرآن.. والعزاء والشفاء (152)

﴿خَلَائِفَ﴾ [فاطر: 39] إشارة إلى مكانة الإنسان، وسمو قدره، وأنه ليس مكرما في جنسه وحسب، بل هو مكرم في كل فرد من أفراده.. فكل إنسان هو خليفة الله في هذه الأرض، وأنه ـ وإن كان عضوا في المجتمع الإنسانى ـ فليس ذلك بالذي يذهب بشيء من مقومات شخصيته، أو يجور على هذا الوضع الكريم الذي وضعه الله فيه.. فهو خليفة الله، أيا كان مكانه في المجتمع.. غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا، قويا أو ضعيفا.. إنه خليفة الله في الأرض، ومن واجبه أن يعمل بمقتضى هذه الخلافة، ويجمع إلى يديه أسبابها ومقوماتها..

ثم قال (1): هذا هو الإنسان كما ينظر إليه القرآن الكريم.. إنسان كريم على الله، خلع عليه خلع الخلافة، وتوجه بتاجها، وجعل درة هذا التاج هو عقله الذي يستطيع به أن يبلغ من السمو ما يشاء.. وإنه لمن ظلم الإنسان لنفسه، ومن استصغاره لوجوده، أن يسف وينحدر عن هذا المستوي الكريم الذي رفعه الله إليه، فيتحول إلى كائن حيوانى ذليل، يُقاد فينقاد، ويستذل فيذل، حتى لينعزل عن العالم الإنسانى، ويصبح على غير الخلق السوى الذي خلقه الله عليه.. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: 4 ـ 5]

ثم قال (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165] إشارة إلى أن هذا المستوى الكريم الذي وضع الله سبحانه الإنسان فيه، ليس على درجة واحدة، وإنما هو درجات، بعضها فوق بعض، وإن كان أدنى هذه الدرجات لا ينزل بالإنسان عن درجة الخلافة التي أعده الله لها، فإن نزل الإنسان عن هذه الدرجة فقد نزل عن إنسانيته، وتحلى عن مكانه بين الناس.. أما هذا التفاوت الذي بين الناس فهو في مراتب الفضل، ابتداء من درجة الخلافة، إلى جميع الكمالات التي تمكن من

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 359)

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 359)

القرآن.. والعزاء والشفاء (153)

أسبابها وتؤكد من سلطانها.. وفي هذا التفاوت الذي بين الناس، وفي درجات التفاضل المقسومة بينهم، يتحرك الناس، فيلحق المتأخر بالمتقدم، ويسعى المتقدم ليلحق بمن تقدم عليه وفضله، أو ينزل عن مكانه الذي هو فيه ليأخذه غيره.. وهكذا يتحرك الناس في الحياة صعودا وهبوطا، ويتبادلون المواقف، ويتنازعون منازل الفضل، وبهذا تظل ريح الحياة في حركة دائمة مجددة. يتنفس فيها الناس أنفاس الأمل، والقوة، والحياة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165] أي ليمتحنكم فيما أودع في كل منكم من قوى، هي رصيد كل منكم في سوق الحياة، وفي هذه السوق يكون العمل، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.

ثم قال (1): وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 167] إشارة إلى أن كل عمل يحمل جزاءه معه، جزاء معجلا، يجده الإنسان في الدنيا، قبل أن يلقى الجزاء عليه في الآخرة.. فالأعمال الطيبة تفوح منها ريح طيبة على صاحبها، فيجد فيها رضى النفس، وراحة الضمير، وحسن الأحدوثة، وسلامة العاقبة.. والأعمال الخبيثة تهب منها على صاحبها ريح خبيثة تزكم أنفه، وتخنق صدره، وتفسد حياته، وتضل سعيه.. هذا هو الجزاء السريع العاجل في الدنيا لكل عمل.. ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ [الأعراف: 167].. أما في الآخرة، فهناك الحساب والجزاء، لأعمال الإنسان جميعها، حيث تسوى أعماله خيرها وشرها، ويوفى الجزاء العادل عليها، وهذا الجزاء المعجل والمؤجل معا، تحفه مغفرة الله، وتمسه رحمته، ولولا ذلك لهلك الناس جميعا، ولما نجا منهم أحد.. ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 360)

القرآن.. والعزاء والشفاء (154)

يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]، وكون الله بصيرا بعباده، يقتضى أنه عالم بما فيهم من ضعف إنساني، إن لم تمسسهم رحمة الله، وتحف بهم مغفرته لم يكن للناس جميعا سبيل إلى الخلاص والنجاة، وهذا ما يكشف عنه سر الجمع بين ما عند الله من عقاب سريع، وما عنده من مغفرة ورحمة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 167]

ثم ذكر لي أنه عندما طلب منه توضيحا أكثر لذلك، قال له: إن قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 165] يدل على أن الله تعالى جعل في أيدي بعض الناس ما يوصلون به الفضل الإلهي لعباده، فهم خلفاء في توصيل هذا الفضل، بدليل قوله تعالى بعدها: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الأنعام: 165]، أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ [الزخرف: 32]، وقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ [الاسراء:21].. لكن أكثر الخلائق يحبسون هذا الفضل، لما في طبعهم من البخل، كما قال تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: 128]، أي أن الشح طبع فيهم يغذونه بسلوكهم المنحرف.

ثم أخبرني أنه سأله عن سر ذلك، وقال: لكن لماذا غذوا بالشح الفطري، لماذا لم يغذوا بالكرم الفطري؟.. فأجابه المعلم بقوله: لأن الكرم الذاتي من صفات الغني، وليس ذلك إلا الله، أما الخلائق فلفقرهم وحاجاتهم اللامتناهية يخشون دائما نفاذ ما عندهم، فيبخلون على الخلائق به.

ثم ذكر لي أنه حدثه عن الفرق بين كرم الصالحين، وكرم غيرهم، فقال: الصالحون يكرمون من خزائن الله لا من خزائنهم، فلذلك لا يعرفون البخل.. لأن البخيل يبخل بما

القرآن.. والعزاء والشفاء (155)

يملك، وهم يعتقدون أنهم لا يملكون شيئا مع الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا)(1)، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التفت إلى عرش الله العظيم، فظهرت له الأرض جميعا كشيء لا وجود له.. ولذلك وصف الله تعالى بصاحب العرش، ليذكر بلالا بأنه لا ينفق من عنده، وإنما ينفق من عند الله.

ثم قال: وفي هذا عزاء عظيم.. فالفقير الذي ينشغل برؤية عرش الله، وخزائن الله لا يمد يده لأي أحد من الناس، بل يكتفي بمدها لله، فماذا يساوي الخلق جميعا أمام أبسط مخلوقات الله.. وهذا أيضا يجعل الفقير يشعر بفقر الخلق جميعا، فلا يحسدهم ولا يسألهم، ولا يتمنى أن يحصل له ما حصل لهم، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء:32]، لأن التمني يبدأ بجحود فضل الله، وينتهي بتمني زوال فضل الله، فلذلك نُصحوا بدل الغرق في أودية الأماني أن يتوجهوا إلى المعطي والمتفضل، فمن أعطى أولا يعطي آخرا، ومن أعطى لفلان لا يعجز عن العطاء لفلان، وهذا أكبر علاج للحسد الذي يقع من الفقراء للأغنياء، بل هو أكبر علاج لأمراض الطبقية الاجتماعية، فالطبقية ليست محصورة في الغنى والفقر.

الشاهد الثالث

أما الثالث، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد تعلمت منه ما أترفع به عن مد يدي للخلائق، لأنهم ـ إضافة إلى فقرهم وبخلهم ـ قلما يعرفون مواضع الحاجات، فيضعونها فيها، ولهذا وصف الله تعالى الإنسان بالظلم، فقال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً

__________

(1) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص 118)

القرآن.. والعزاء والشفاء (156)

جَهُولاً﴾ [الأحزاب:72]

وعندما سألته عن معنى الآية، قال (1): الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمن قام بهاتين الخصلتين كان أمينا، وإلا كان خائنا.. والمعنى: إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبت وأشفقت واستعفت منها، مخافة ألا تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب.

وعندما سألته عن الظلم والجهل الذي وصف به الإنسان، قال (2): إن هذا الوصف ليس واقعا على الإنسان في جنسه كله، وإنما هو واقع على من خان الأمانة من بني الإنسان، ونزل عن هذا المقام الرفيع الذي له في الكائنات، وبهذا استحق أن يوصف بأنه (ظلوم) أي عظيم الظلم، لأنه ظلم نفسه، فلم يقدرها قدرها، ولم يحفظ عليها مكانتها.. وإنه ليس أظلم ممن يظلم نفسه، ويبخسها حقها، وهو (جهول) لأنه لم يعرف قدر نفسه، ولم يحتفظ بهذا السلطان الذي له في هذا العالم.. ومن جهل نفسه فهو أجهل الجاهلين..

ثم قال (3): فوصف الإنسان بأنه ظلوم جهول، هو في الواقع إشارة إلى تلك الخسارة العظيمة، التي خسرها الإنسان بتضييع الأمانة التي كانت بين يديه، والتي ـ حين تخلى عنها ـ فقد كل شيء، ونزل من القمة إلى القاع.. وهذا أسلوب من أساليب البلاغة في إظهار عظمة الشيء، بذم من فرط فيه وقصر في حفظه، وحراسته.. كما يقال عن إنسان كانت بين يديه فرصة عظيمة مسعدة، فأضاعها بإهماله وتواكله، فلا يجد إلا من يلوم ويقرع بمثل هذه

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 468)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 768)

(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 768)

القرآن.. والعزاء والشفاء (157)

الكلمات: غبى.. جاهل.. وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72] تعقيبا على قوله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ [الأحزاب: 72].. وإنما هو تعقيب على محذوف، تقديره: (وحملها الإنسان فلم يحسن حملها، ولم يؤدها على وجهها.. وإنه بهذا التقصير كان ظلوما جهولا)

ثم استدرك قائلا (1): ويمكنك أن تقول: إنه كان ظلوما جهولا، أي كان من شأنه الظلم والجهل، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48] أي من شأنها ذلك، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل، فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه، وبعضهم ترك الظلم، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: 82]، وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، وقال في حق المؤمنين عامة: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: 7] وقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]

ثم ذكر لي أنه التقى به في مجلس آخر، وهو يذكر التبريرات التي يستعملها الظلمة للفرار مما وجب عليهم من حقوق، ومنها ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يّس:47]، ثم قال (2): لقد وردت هذه الآية الكريمة بعد آيات تبين السبب في مقولتهم الخاطئة هذه، وأولها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [يس: 45] أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزل الله من الآيات: احذروا ما

__________

(1) مفاتيح الغيب (25/ 188)

(2) تفسير المراغي (23/ 16)

القرآن.. والعزاء والشفاء (158)

مضى بين أيديكم من نقم الله ومثلاته التي حلت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله، ﴿وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ [يس: 45] أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات.. أعرضوا ونأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين.. ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم فقال: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [يس: 46] أي وما تجيء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان به، ومعرفة صدق رسوله.. والخلاصة: إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.

ثم قال (1): وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يّس:47]، وهذا جواب خبيث ماكر، يكشف عن كفر غليظ، فهم في سبيل الغلب بالمماحكة والجدل، يؤمنون بالله، ويؤمنون بمشيئته في خلقه، وبتصريفه المطلق لكل أمر.. فيقولون ردا على قول الله أو الرسول أو المؤمنين لهم: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ [يس: 47] يقولون: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس: 47] أي: (إن تلك هي مشيئة الله في هؤلاء الجياع الذين ندعى إلى إطعامهم.. إن الله أراد لهم أن يجوعوا، ولو

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 938)

القرآن.. والعزاء والشفاء (159)

أراد أن يطعمهم لأطعمهم.. فإنه قادر، وخزائنه لا تنفد، فلم يدعوننا نحن إلى إطعامهم، وهو القادر، ونحن العاجزون، وهو الغنى ونحن الفقراء؟ إن أنتم أيها المؤمنون ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 47] لا تعرفون الله، ولا تقدرونه قدره).. وهذا الرد من المشركين الظالمين، هو رد من خذله الله، وأضله على علم.. فهم إذ يدعون إلى الإيمان بالله، لا يسمعون، ولا يعقلون.. وهم إذا دعوا إلى ما تقتضيه دواعى المروءة الإنسانية، من الإحسان إلى إخوانهم الفقراء، يقيمون من الله، ومن علمه وقدرته حجة كيدية، يبطلون بها الدعوة التي يدعون إليها.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، معترفين بمشيئته في خلقه، لاستجابوا لما يدعوهم الله إليه، من الإنفاق في سبيل الله.

ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر يستدل على الظلم الذي يقع فيه العباد بإرشاد الله تعالى لهم إلى المستحقين للزكاة، كما قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:273]، ثم قال (1): إن الله تعالى يحدد في هذه الآية الكريمة خمس صفات لمن يستحقون أن يُتصدق عليهم.. وأولها: الإحصار في سبيل الله، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها، وحبسوا أنفسهم لها، وحينها تجب نفقتهم في بيت المال.. وثانيها: العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 273].. وثالثها: التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدى الناس،

__________

(1) تفسير المراغي (3/ 49)

القرآن.. والعزاء والشفاء (160)

فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: 273].. ورابعها: أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع، ولا برثاثة في الثياب، فرب سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رث الثياب، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه، وحسن بزة فتحكم عليه في لحن قوله، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [البقرة: 273].. وخامسها: ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية، وقد يكون المعنى أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)(1)، ولذلك فإن السؤال محرم لغير ضرورة، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)(2)، والمِرة القوة، والسوى هو السليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم)، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: (ما يغديه أو يعشيه)(3)

ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر يستدل على الظلم الذي يقع فيه العباد بإرشاد الله

__________

(1) البخاري، 1479.

(2) عبد الرزاق (7155)، والطيالسي (2271)، والترمذي (652)، والدارمي 1/ 386.

(3) ابن حبان (545) و(3394)، والبيهقي 7/ 25.

القرآن.. والعزاء والشفاء (161)

تعالى لهم إلى الآداب التي ينبغي عليهم مراعاتها عند التصدق على الفقراء والمحتاجين، وقد كان في مجلسه حينها بعض الأغنياء، وقد قال مخاطبا له: أرأيت لو زرت طبيبا ليعالج جرحا طفيفا أصابك، فأخذ هذا الجراح أدواته فداوى جرحك.. وعندما أردت أن تشكره أو تعطيه جزاء على خدمته، لم يطلب جزاء ماديا على ذلك، بل جعل جزاءه أن يمسك سكينه، ويضع في قلبك جرحا بدل الجرح الذي في يدك؟

قال الغني حينها: أقاتله إن هم بذلك، فإني أرضى أن تجرح يداي جميعا، بل جميع أطرافي، ولا أرضى أن يُجرح قلبي، فهو المحرك الذي يضخ الحياة لأعضائي وأجهزتي.

قال المعلم: وهكذا يفعل المتكرم الذي يضع بعض فضلاته في يد هؤلاء المساكين، ثم يمسك سكينه، ويقطع قلوبهم إربا إربا.. ولذلك اعتبر الله تعالى المن أخطر من الفقر، فالمن يصيب الروح والقلب والحقيقة الإنسانية، بينما الفقر لا يصيب إلا بعض أجزاء الإنسان الظاهرة.

ثم قال لنا: ولهذا اعتبر الله تعالى القول المعروف والكلمة الطيبة التي تقال للفقير تطمينا له واحتراما لشخصه أفضل من الصدقة التي يتبعها أذى، قال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:263]، و(سبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء، فهناك جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب الإنفاع بعقاب الإضرار، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار، فكان هذا خيرا من الأول)(1)

ثم قال (2): فقد وضع الله تعالى دستورا لحسن المعاملة بين الناس في هذه الآية

__________

(1) مفاتيح الغيب (7/ 43)

(2) تفسير المراغي (3/ 32)

القرآن.. والعزاء والشفاء (162)

الكريمة، واعتبر أي كلام حسن ورد جميل على السائل، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى، لأنه وإن خيب رجاءه فقد أفرح قلبه وهون عليه ذل السؤال.. أما الصدقة التي يتبعها أذى فهى مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء، ومن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء.

ثم قال: ولهذا نهى الله تعالى عن المن والأذى، واعتبره محبطا للصدقات، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:264]، فقد شبه الله تعالى صدقاتهم بالتراب الذي يكون على صخر أملس، يراه الناس ترابا غنيا، ولكن مطر الأذى إذا نزل عليه تركه أملس يابساً، لا شيء عليه من ذلك التراب.. وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند اللّه، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب.

ثم قال: وهكذا شبه الله تعالى مآل أعمالهم، فقال: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة:266]، وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن يحسن العمل أولاً، ثم ينعكس سيره فيبدل الحسنات بالسيئات، فيبطل بعمله الثاني ما أسلفه من العمل الصالح، فيخونه سلوكه هذا أحوج ما يكون إليه.

الشاهد الرابع

أما الرابع، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد تعلمت منه ما أترفع به

القرآن.. والعزاء والشفاء (163)

عن مد يدي للخلائق، لأنهم ـ إضافة إلى فقرهم وبخلهم وظلمهم ـ ممتلئون بالعجز الذي يتصف به البشر جميعا، حتى لو وفر الله تعالى لهم بعض الغنى والكرم والعدل.. ولذلك فهم لا يستحقون أن نذل لهم، أو نمد أيدينا إليهم.. وعندما ذكرت له أن العجز، صفة المستضعفين، وهي بالفقراء ألصق، فهم إن لم يقعد بهم عجز قواهم الصحي قعد بهم عجز جيوبهم، فعيونهم بصيرة وجيوبهم قصيرة، قال لي: بل الخلق كلهم عاجزون، لا ينفعون ولا يضرون ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)(1)

ثم قال لي: إن شئت أن تعرف عجز الخلائق، فقارن قوتهم التي يتيهون بها، ويتصورون أن لهم القدرة على مصارعة الكون بها بما تراه من مظاهر القوة في الكون.

عندها قلت له: إن عقلي ليتيه عندما يحاول إجراء مثل هذه المقارنة، إن الكون أعرض بكثير، والإنسان أضعف بكثير.. إنه يُسحق سحقا.

فقال لي: ومع ذلك ظهر فيكم من يدعي القوة التي يستعلي بها على الله.. وقد قص الله تعالى علينا نماذج من ذلك، فذكر نموذج عاد، فقال: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، أي (2): أنهم كانوا يتمتعون بالقوة الجسدية التي غرتهم، ذلك

__________

(1) الترمذي (2516)، والطبراني (12988)

(2) من وحي القرآن (20/ 103)

القرآن.. والعزاء والشفاء (164)

أن الله زادهم بسطة في الجسد، ولهذا شعروا بالتفوق والعلو على الآخرين الذين كانوا أضعف منهم قوة، وهو ما جعلهم يتحسسون ضخامة الشخصية في مواقعهم وامتيازاتهم، كما يتحسس البعض ضخامة أجسادهم، فتحدث لديهم عقدة التفوق التي تدفعهم إلى الاستكبار والاستعلاء على الآخرين بما يخلقه ذلك من أنانية في الذات وفي الموقف الفكري والعقدي الذي لا يخشع لفكر الآخرين، وإن كان حقا، ولم يكتفوا بذلك، بل وقفوا وقفة استعراضية للقوة التي يملكون حتى خيل إليهم أنهم يملكون قوة المطلق فقالوا، وهم يتطلعون إلى من حولهم: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: 15].. ولكن المسألة ـ لديهم ـ مجرد وهم كبير لا أساس له.. فهم يملكون بعض القوة، ولكن من الذي منحهم تلك القوة؟.. ثم ما قيمتها أمام قوة الله التي هي سر القوة في كل شيء؟.. فلا قوة لأحد مهما كانت عظمته، بدون قوة الله، ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ [فصلت: 15] من العدم وأعطاهم نعمة الوجود بكل مفرداتها التفصيلية ﴿هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: 15] لأن قوته تمتد في كل شيء، وتتسع لكل شيء ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، وتلك هي مشكلتهم المعقدة وهي جحود الآيات الإلهية في الوجود والكلمة التي تطل على الحق في إشراقة الوضوح، ولكنهم لا يواجهونها بعمق وواقعية وانتباه.

ثم قال لي: وهكذا كان مصير كل من ادعوا القوة والقدرة واستكبروا لها.. هكذا كان مصير ثمود، وفرعون، والقرى الكثيرة التي أشار إليها القرآن الكريم من غير أن يسميها.. لقد هلكوا، ولم تنفعهم قواهم التي تاهوا بها على الله، كما قال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي

القرآن.. والعزاء والشفاء (165)

الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة:69]، أي (1): أن هؤلاء وقعوا في الفتنة بالقوة، والفتنة بالأموال والأولاد.. فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض، لأنهم يخشون من هو أقوى، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته، وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد، فيحرصون على شكر نعمته، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته.. وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.. ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [التوبة: 69]، وبطلت بطلانا أساسيا، لأنها كالنبتة بلا جذور، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر.. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة: 69] الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل.

سكت قليلا، ثم قال: ثم ذكر الله تعالى نماذج عن هؤلاء الذين اغتروا بقوتهم، ولم يلتفتوا لعجزهم، ليدعو للعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون، فقال: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70]، أي (2): هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون.. هؤلاء ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [التوبة: 70] ممن ساروا في نفس الطريق؟ ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ [التوبة: 70] وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب ﴿وَعَادٌ﴾ [التوبة: 70] وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية ﴿وَثَمُودَ﴾ [التوبة: 70] وقد أخذتهم الصيحة ﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [التوبة: 70] وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم ﴿وَأَصْحَابُ

__________

(1) في ظلال القرآن (3/ 1674)

(2) في ظلال القرآن (3/ 1674)

القرآن.. والعزاء والشفاء (166)

مَدْيَنَ﴾ [التوبة: 70] وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ [التوبة: 70] قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين.. ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [التوبة: 70] فكذبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70]

ثم قال (1): إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر، وتعميها النعمة فلا تنظر، وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف، ولا تتوقف، ولا تحابي أحدا من الناس.. وإن كثيرا ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين، عندئذ تحق عليهم كلمة الله، وعندئذ تجري فيهم سنة الله، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وهم في نعمائهم يتقلبون، وبقوتهم يتخايلون، والله من ورائهم محيط.

ثم ذكر لي أنه التقى به في مجلس آخر، وهو يقول ـ مخاطبا الملتفين حوله ـ: لقد ضرب الله لكم أمثالا عن عجز الخلائق، حتى لا تذلوا لهم من دون الله.. ومنها هذا المثل الذي يعبر عن الواقع بكل دقة.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج:73]

ثم قال (2): انظروا كيف استعمل الله تعالى الذباب بدل غيره ليضرب به الأمثال.. والذباب صغير حقير، ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون ـ ولو اجتمعوا

__________

(1) في ظلال القرآن (3/ 1674)

(2) في ظلال القرآن (4/ 2444)

القرآن.. والعزاء والشفاء (167)

وتساندوا ـ على خلق هذا الذباب الصغير الحقير، وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل.. لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل.. لكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل، دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير.. ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري، فيقول: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: 73].. والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا.. وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده، وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير، وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس: يسلب العيون والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح.. إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد.. ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير.

سكت قليلا، ثم قال (1): وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز.. ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها.. لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب، ولكنه الأسلوب القرآني العجيب، ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73] ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب، وفي أنسب الظروف.. والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة يندد بسوء تقديرهم لله، ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2444)

القرآن.. والعزاء والشفاء (168)

[الحج: 74].. ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذبابا ولو تجمعت له، بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه! ما قدروا الله حق قدره، وهم يرون آثار قدرته، وبدائع مخلوقاته، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير.. ما قدروا الله حق قدره، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه الذباب، ويدعون الله القوي العزيز.. إنه تقرير وتقريع في أشد المواقف مناسبة للخشوع والخضوع.

ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر، وهو يردد قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:41]، ثم قال (1): أي مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء يبتغون عندهم النصرة، ويطلبون منهم الرعاية والحماية، ويريدون منهم جلب النفع ودفع الضرر، ليكونوا لهم قوة يركنون إليها، وقاعدة يرتكزون عليها، وملجأ يلجأون إليه، كمثل العنكبوت اتخذت بيتا لتأوي إليه، وتحمي نفسها مما حولها من الأخطار، لكنه لا يحمل من البيت إلا اسمه، ذلك أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون، ويفكرون بعقولهم، لأنه لا يملك أساسا، ولا يدفع حرا ولا بردا، ولا يمنع من شيء، فالشوكة تمزقه، والريح تنسفه.. وهكذا هو موقع هؤلاء الأولياء من دون الله، فهم لا يرتكزون على أية قوة ذاتية من أية جهة من الجهات، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا وحياة ولا نشورا، فكيف يملكونه لغيرهم.. وإذا كان الأمر على هذا المستوى، فقد تأخذ القضية طبيعة القاعدة العامة التي تشمل كل جوانب الحياة، في كل مواطن الولاية التي يركن الناس فيها

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 55)

القرآن.. والعزاء والشفاء (169)

إلى بعض الأشخاص الذين لا تلتقي ولايتهم بولاية الله والرسول، بل تلتقي بمواطن الكفر والضلال، فيما تتخذه لسيطرتها من مواقع ووسائل وأهداف.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [العنكبوت: 42] ويعلم طبيعته، ولا يجهل أمره، لأنه هو الذي خلقه، وهو الذي يدبره، ويمنحه ما يحتاج إليه فيما هو شرط امتداد وجوده، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 42] الذي لا يغلبه شيء ويتقن تدبير خلقه بأفضل طريقة، وأحسن تدبير.

ثم ذكر لي أنه سأله حينها قائلا: فكيف أتخلص من خيوط العنكبوت التي أرتبط بها، ويرتبط الضعفاء بها؟

فقال المعلم: بأن تعلم بأنها خيوط عنكبوت.. أرأيت لو وقعت في البحر، وحام بك الموت ليلتهمك، فرأيت حبلا متينا مرتبطا بسفينة ضخمة فيها كل وسائل الإنقاذ، أكنت تتعلق بذلك الحبل الذي يوصلك إلى سفينة النجاة، أم تتعلق بخيوط عنكبوت تراها من بعيد كما يرى الظمآن السراب؟

7. الإحسان والتفضل

بهذا الحديث انتهى المشهد السادس من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد السابع، والذي تعلمت منه معنى الإحسان والتفضل، وأثرهما في العزاء والسلوى، والأسباب التي تجعل المؤمن محسنا ومتفضلا.

الشاهد الأول

وقد بدأ هذا المشهد بعد استيقاظي صباحا في بيت المضحك، حيث سمعت صبيين يتحدثان، قال أحدهما: الحمد لله رب العالمين، لقد تمكنت اليوم من جمع المبلغ اللازم لشراء

القرآن.. والعزاء والشفاء (170)

خمسة دفاتر، ومثلها من الأقلام، لأسلمها لمعلمي ليضعها في خزانة القسم، لكل من يحتاج إليها.

قال الثاني: ولكنك أنت أيضا محتاج، فلم لا تشتريها، ثم تحتفظ بها في بيتك، لتستعملها حال الحاجة إليها؟

قال الأول: وأين ثواب الإحسان؟

قال الثاني: الإحسان يكون من المحسنين الذي يملكون ما يكفيهم.

قال الأول: فأين الإيثار؟.. فقد أخبر الله تعالى عن الصالحين، وكونهم ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كانوا فقراء معوزين، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]

قال الأول: بورك فيك، وما أعظم ما استدللت به، لكن كيف فهمت هذا المعنى من الآية الكريمة؟

قال الثاني: لقد سمعت تفسيرها قبل فترة من معلمنا الكاظم، وفي زيارة له إلى حارتنا، ومنذ ذلك الحين، وأنا أحاول كل جهدي أن أحيي هذه السنة العظيمة التي مارسها أولئك الصالحون.

قال الأول: فهلا حدثتني بما سمعت.

قال الثاني: أجل.. فقد بدأ معلمنا الكاظم حديثه بقراءة تلك الآية الكريمة، ثم قال (1): أي والذين سكنوا المدينة، وأُشرب قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك

__________

(1) تفسير المراغي (28/ 43)

القرآن.. والعزاء والشفاء (171)

المهاجرين، لهم صفات كريمة، وشيم جليلة تدل على كرم النفس، ونبل الطباع.

ثم ذكر أول صفاتهم، وهي أنهم يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وبينهم، وأسكن المهاجرين في دور الأنصار معهم، وقد روي أن بعض المهاجرين قال: (يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة في قليل، ولا حسن بذل في كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم)(1)

ثم ذكر صفتهم الثانية، وهي أنهم لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون، ويقدمون ذوى الحاجة على أنفسهم، ويبدؤون بسواهم قبلهم، وقد روى في ذلك عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: والله ما عندى إلا قوت الصبية، قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة)(2)، وأنزل فيهما ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]

ثم ذكر لنا بأن الله تعالى عقب الآية الكريمة بما يبين سوء عاقبة الشح فقال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16] أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، وروى لنا في

__________

(1) أحمد (20/ 361)، وابن أبي شيبة 10/ 191.

(2) البخاري (3/ 1382)

القرآن.. والعزاء والشفاء (172)

ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)(1)

قال الأول: هنيئا لكم هذا المجلس.. فهل سمعته يذكر فيه غير ما ذكرت؟

قال الثاني: أجل.. فقد سمعته يقرأ قوله تعالى في وصف الأبرار وصفاتهم: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 8 ـ 10]، ثم عقب عليها بقوله (2): يذكر الله تعالى من صفات هؤلاء الأبرار أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. فالطعام الذي عليه قوام الحياة وملاكها، لا يؤثرون أنفسهم به، بل يجعلون لمن يعوزهم هذا الطعام نصيبا منه، ولو كانوا هم أنفسهم في أشد الحاجة إليه.

ثم ذكر لنا أن في قوله تعالى: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8] إشارة إلى أن هذا الطعام ليس شيئا رخيصا مبتذلا، كشأنه في أحوال الرخاء، ووفرة حاجات النفوس منه، وإنما هو الطعام في أحوال القحط، والجدب، وفي أزمان المجاعات التي تكون فيها لقمة الطعام أعز ما يملك الناس، وأثمن ما يحرصون عليه من مال ومتاع، حتى إن المرء ليسترخص كل عزيز يملكه، في سبيل شيء منه، كما قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] ولهذا استحق هؤلاء المطعمون لهذا الطعام أن يكونوا في الأبرار، لأنهم أنفقوا مما يحبون، ومما تشتد رغبة النفس إليه، وحرصها عليه.

وعندما سألناه عن سر ذكر المسكين واليتيم والأسير، قال (3): لأن المسكين، واليتيم، والأسير، هم أضعف أعضاء الجسد الاجتماعى، وهم الذين يتلقون أول الضربات وأقساها

__________

(1) أحمد (3/ 323)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1362)

(3) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1363)

القرآن.. والعزاء والشفاء (173)

وأفعلها، في أزمان المحل، والجدب، فيكونون أول حطب تشتعل فيه نار المجاعات.. فالمسكين قد أضرعه الفقر، وأذله الحرمان، حتى في أوقات الرخاء واليسر، وهو في حال القحط والمجاعة أشد ضراعة، وأكثر ذلة وضعفا وحرمانا.. واليتيم ـ والمراد به اليتيم الفقير ـ قد اجتمع عليه اليتم والفقر معا، فذهب اليتم بالجناح الذي كان يظله، وقص الجناح الذي كان يطير به، على حين ذهب الفقر بكل حبة كانت في عشه.. والأسير، سجين في قيد الأسر.. إن كان ذا غنى فهو لا سبيل له إلى ما يملك، وإن كان قويا ذا حول وحيلة، فقد عطل الأسر كل قواه، وسلبه كل ماله من حول وحيلة.. ومثل الأسير كل من انقطعت وسائله المتاحة له، وحيل بينه وبين مصادر رزقه، وعمله، كالمرضى والمساجين، وأبناء السبيل، وذوى العاهات، ونحوهم.

وعندما سألناه عن سر قوله تعالى حكاية لقول الأبرار: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]، قال (1): لأنهم إنما يطعمون من يطعمون ابتغاء وجه الله، لا يريدون على ما أطعموا جزاء، ولا شكورا ممن أطعموهم.. ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم فضل، ولما استحقوا عند الله أجرا، لأنهم استوفوا جزاء ما عملوا، ممن صنعوا بهم هذا الصنيع.

ثم ذكر لنا أن هذا القول من الأبرار ليس بلسان المقال (2)، يواجهون به من أطعموهم، فإنهم لو فعلوا، لكان ذلك من باب المن والأذى، الذي يحبط الأعمال، ويمحق الإحسان، وإنما هو بلسان الحال، ومما انطوت عليه ضمائرهم، وانعقدت عليه نياتهم، وقد روي عن بعضهم أنه إذا بعث بالصدقة إلى أهل بيت من الفقراء، سأل من بعثه: ماذا قالوا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1364)

(2) قال مجاهد، وسعيد بن جبير (والله ما قالوا ذلك بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم، ليرغب فى ذلك راغب)

القرآن.. والعزاء والشفاء (174)

لك؟ فإن ذكر أنهم دعوا له، أخذ بالدعاء لهم، ليبقى عمله خالصا لوجه الله.

وعندما سألناه عن سر قوله تعالى حكاية لقول الأبرار: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10]، قال (1): وهذا أيضا مما يقوله الأبرار المتصدقون، بلسان الحال، لا بلسان المقال.. فهم إنما فعلوا ما فعلوا ابتغاء وجه ربهم، وخوفا من لقائه يوم القيامة، حيث مزدحم الأهوال، وحيث يكثر العويل، والبكاء، وصرير الأسنان.. ووصف اليوم بأنه هو العبوس القمطرير، لأنه يطلع على الناس أغبر متجهما، يرمى بالنذر والمهلكات.. وإنه على صفحة الأيام والليالى تنطبع أحوال الناس، فالحزين يرى الحزن مخيما على وجه أيامه ولياليه، والمتوجع الشاكي، لا يسمع من أصداء الزمن إلا توجعا وأنينا، على حين يجد الخلى المغتبط، الأيام والليالى، تغازله بالبسمات، والضحكات.. وهكذا تتلون ساعات الزمن بألوان النفوس، وتصطبغ بما فيها من مساءات أو مسرات.

ثم ذكر لنا الجزاء العظيم المعد لهؤلاء الذين آثروا على أنفسهم، والذي ورد في قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان: 11]، فقال (2): إن هؤلاء الأبرار، الذين خافوا هذا اليوم، وأعدوا العدة له، قد وقاهم الله شره، ودفع عنهم مكارهه، وألقى عليهم نضرة النعيم، وبهجة الرضوان، ففاضت نفوسهم مسرة وحبورا، ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان: 12]، أي وجعل الله سبحانه جزاءهم عنده أن أدخلهم الجنة، وكساهم فيها خير ما يُكسى به أهل النعيم في الدنيا، وهو الحرير، ولكنه حرير الجنة الذي لا يعلم صفته إلا الله تعالى.

ثم ختم حديثه بما ورد من الجزاء العظيم المعد لهؤلاء، وهو قوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1365)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1365)

القرآن.. والعزاء والشفاء (175)

بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان: 12 ـ 22]، وقد فصل لنا معلمنا الكاظم المعاني الواردة في هذه الآيات الكريمة مما زادنا ترغيبا في الاتصاف بتلك الصفات العظيمة.

قال الأول: هنيئا لكم هذا المجلس.. أهذا ما سمعته منه في هذه المعاني مما رغبك في الإيثار أم سمعت غيرها؟

قال الثاني: بل سمعت منه كذلك الكثير من الأحاديث الشريفة في فضل الإيثار، سواء تلك الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أئمة الهدى من بعده..

ومن ذلك ما حدثنا به عن عائشة قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)(1)

ومثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)، وفي رواية: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام

__________

(1) مسلم (2630)

القرآن.. والعزاء والشفاء (176)

الأربعة يكفي الثمانية)(1)

ومثل ذلك ما حدثنا به عن الإمام علي أنه رأى جماعة فقال: (من أنتم؟) قالوا: نحن قوم متوكلون، فقال: (ما بلغ بكم توكلكم؟) قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: (هكذا يفعل الكلاب عندنا؟) فقالوا: كيف نفعل يا أمير المؤمنين؟ فقال: (كما نفعله، إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا)(2)

ومثل ذلك قوله: (كان الإيثار من شعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وروي أن موسى بن عمران قال: يا رب، أرني بعض درجات محمد وأمته، قال: يا موسى، إنك لن تطيق ذلك، لكني أريك منزلة من منازله، جليلة عظيمة، فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال: فكشف له عن ملكوت السماوات، فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله، فقال: يا رب، بما ذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال تعالى: بخلق اختصصته به من بينهم، وهو الإيثار يا موسى، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء)(3)

وروى لنا عنه أن أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده، ويتصدق بالأجرة ويشد على بطنه حجرا (4).

وذكر لنا من حكمه وكلماته القصار قوله: (الإيثار أعلى مراتب الكرم، وأفضل الشيم)(5)، وقوله: (الإيثار سجيّة الأبرار، وشيمة الأخيار)(6)، وقوله: (عند الإيثار على النفس تتبيّن جواهر الكرماء)(7)

__________

(1) البخاري (5392)، ومسلم (2058، 2059)

(2) مستدرك الوسائل 1/ 540 عن تفسير أبي الفتوح.

(3) جامع السعادات 2/ 119.

(4) بحار الأنوار: 9/ 92، شرح نهج البلاغة: 1/ 7.

(5) غرر الحكم (395)

(6) غرر الحكم (395)

(7) غرر الحكم (395)

القرآن.. والعزاء والشفاء (177)

ومثل ذلك حدثنا عن الإمام الصادق أنه سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد المقلّ، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]؟)(1)

وروى لنا أنه سئل عن الرجل ليس عنده إلا قوت يومه، أيعطف من عنده قوت يومه على من ليس عنده شيء، ويعطف من عنده قوت شهر على من دونه، والسنة على نحو ذلك أم ذلك كله الكفاف الذي لا يلام عليه؟ فقال: (هو أمران، أفضلكم فيه أحرصكم على الرغبة والأثرة على نفسه، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، والأمر الآخر لا يلام على الكفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول)(2)

الشاهد الثاني

بعد أن انتهى الأول من حديثه عن الإيثار وفضله، قال للثاني: أنا أعلم أنك أنت أيضا قد جلست مع معلمنا الكاظم، وأنك أيضا تريد أن تكون من المحسنين، فما الباب الذي تريد أن تدخل معهم منه؟

قال الثاني: الأبواب التي يمكنني الدخول معهم إليها كثيرة جدا، وأنت تشاركني فيها، بل يشاركني فيها جميع من يرغب، فالله تعالى وفّر أبواب الخير لعباده، ليسارعوا إليها بما أطاقوا.

قال الأول: فاذكر لي أحدها.

قال الثاني: لقد سمعت معلمي الكاظم مرة يقرأ قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

__________

(1) جامع السعادات 2/ 119.

(2) الكافي 4/ 18.

القرآن.. والعزاء والشفاء (178)

وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، ثم قال (1): لقد أمر الحق ـ جل جلاله ـ بحفظ حرمة عباده كيف كانوا، فالخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، فيجب على العبد كف أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألا ينتقم لنفسه ممن آذاه منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوه بصلاح حاله حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصديقية العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البر والتقوى الذي أمر الله تعالى بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الاثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن الذين هم في طرف مقام الإسلام.

وعندما سألناه عن توضيح ذلك قال (2): التعاون هو الشعار الإسلامي للحياة والناس، المرتكز على البر الذي يمثل الخير في العقيدة والعمل، وذلك فيما يوحيه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177] فإنها اعتبرت القاعدة الفكرية العقدية مظهرا من مظاهر البر، لأن الانحراف عن الخط الصحيح، والابتعاد عن القاعدة الصلبة للفكر، يؤديان إلى اهتزاز الحياة وتحولها عن أهدافها السليمة، وينتهي بها ـ بالتالي ـ إلى الوقوع في قبضة الباطل والشر، لأن بداية الشر فكرة شريرة، كما أن منطلق الباطل خاطرة فاسدة، وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 5)

(2) من وحي القرآن (8/ 25)

القرآن.. والعزاء والشفاء (179)

والكتاب والنبيين منطلق خير للحياة بما يمثله من تخطيط للمشاريع الخيرة المنفتحة على الله في دوافعها وخطواتها وآفاقها الواسعة، ومن تشريع يستهدف بناء الشخصية الإسلامية الإنسانية على الصورة التي يحبها الله للإنسان، ويوحي بالتالي بالاطمئنان الروحي والنفسي والثقة بالحاضر والمستقبل في حركة الحياة.

ثم ذكر لنا أن التعاون على البر لا يقف عند حدود الفكر، بل إنه ينطلق في خط العمل فيما تحدثت عنه الآية الكريمة من إيتاء المال على حبه لكل من يحتاج إليه من الفئات المحرومة، ومن إقامة الصلاة التي توصي بطهارة الروح والقلب والجسد، وإيتاء الزكاة التي تمثل روحية العطاء في شخصية الإنسان، والوفاء بالعهد بما يمثله من الالتزام بالكلمة والموقف، والصبر في جميع الحالات الذي يرتكز على صلابة الإرادة وقوة العزيمة وثبات الموقف، والصدق الذي ينطلق من قاعدة الإخلاص للحقيقة، والتقوى التي تنفتح آفاقها على المراقبة الدقيقة لله، وبذلك ينفتح البر على آفاق حياة الإنسان الداخلية والخارجية.

ثم ذكر لنا الكثير من مظاهر ذلك التعاون، وأورد لنا الكثير من الأحاديث التي تدل عليها، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عز وجل عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن سر مسلما سره الله تعالى يوم القيامة)(1)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر مسلما ستره الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ومن فك عن مكروب كربة، فك الله عز وجل عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)(2)

__________

(1) نزهة الناظر/41.

(2) عوالي اللآلئ 1/ 375.

القرآن.. والعزاء والشفاء (180)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكرم أخاه المؤمن بكلمة يلطفه بها، أو قضى له حاجة، أو فرج عنه كربة، لم تزل الرحمة ظلا عليه ممدودا ما كان في ذلك من النظر في حاجته.. ألا أنبئكم لم سمي المؤمن مؤمنا؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم. ألا أنبئكم من المسلم؟ من سلم الناس يده ولسانه، ألا أنبئكم بالمهاجر؟ من هجر السيئات وما حرم الله عليه، ومن دفع مؤمنا دفعة ليذله بها، أو لطمه لطمة، أو آتي إليه أمرا يكرهه، لعنته الملائكة حتى يرضيه من حقه ويتوب ويستغفر، فإياكم والعجلة إلى أحد، فلعله مؤمن وأنتم لا تعلمون وعليكم بالأناة واللين، والتسرع من سلاح الشياطين، وما من شيء أحب إلى الله من الأناة واللين)(1)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه اثنتين وسبعين كربة من كرب الآخرة واثنتين وسبعين كربة من كرب الدنيا أهونها المغص)(2)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سرورا، ومشى مع أخ مسلم في حاجة أحب إلى الله تعالى من اعتكاف شهرين في المسجد الحرام)(3)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ)(4)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام: يا داود إن العبد ليأتيني بالحسنة يوم القيامة فأحكمه بها في الجنة.. قال داود: يا رب وما هذا العبد الذي يأتيك بالحسنة يوم القيامة فتحكمه بها في الجنة؟ قال: عبد مؤمن سعى في حاجة أخيه المؤمن

__________

(1) علل الشرائع/523.

(2) أمالي الصدوق/422.

(3) الأشعثيّات ص 193.

(4) مكارم الأخلاق ص 15.

القرآن.. والعزاء والشفاء (181)

أحب قضاءها، قضيت له أم لم تقض)(1)

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل شيء حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع خصال: مسح رؤوس اليتامى، والتعطف على الأرامل، والسعي في حوائج المؤمنين، والتفقد للفقراء والمساكين..)(2)

ومثل ذلك حدثنا عن بعضهم قال: كنا عند الإمام الصادق اذ تذاكروا عنده الفتوة فقال: (ما الفتوة، لعلكم تظنون أنها بالفسوق والفجور.. كلا إنما الفتوة طعام موضوع ونائل مبذول ويسر مقبول وعفاف معروف وأذى مكفوف، وأما تلك فشطارة وفسوق)(3)

__________

(1) أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 229.

(2) الفضائل لابن شاذان ص 153.

(3) أمالي الطوسي 1/ 307.

القرآن.. والعزاء والشفاء (182)

ثالثا ـ القرآن.. وعزاء المستضعفين

هذه هي المشاهد السبعة التي تعلمت فيها بعض ما ورد في القرآن الكريم من العزاء الخاص بالفقراء والمساكين والمحرومين.. وهي تشمل غيرهم أيضا.. بالإضافة إليها يسر الله لي في هذه الرحلة التعرف على معاني أخرى ترتبط بالعزاء والشفاء.. وكان منها هذه المشاهد الخاصة بعزاء المستضعفين والمظلومين.

1. التمحيص والتمييز

وأولها المشهد الذي رأيت فيه نعمة التمحيص والتمييز رأي العين، وقد بدأ هذا المشهد بعد خروجي من بيت المضحك، ومن تلك الحارة التي كان يسكن فيها أولئك الفقراء الطيبون، فقد ودعوني في صباح ذلك اليوم منصرفين إلى أعمالهم.

ولم أدر حينها أين أسير لكن أحدهم، قال لي، وهو منصرف إلى عمله: لعلك تتصور أن معلمنا الكاظم لم يكن يهتم سوى بنا، وبعزائنا.. لا.. فقد كانت مهامه أكبر وأكثر.. وإن شئت أن تتعلم المزيد منها، فعليك أن تسير خلف هذا الجبل، فستجد قوما من الناس، وهم كثيرون جدا، وهم يدينون بحياتهم وسلامتهم لمعلمنا، ويمكنك أن تسمع منهم الكثير من الأحاديث التي حدثهم بها معلمنا.

فسرت في الطريق التي وصفها لي، وكانت طريقا شاقة جدا، والجبل كان في غاية التحصين.. وقد كان أول من التقيته رجلان كانا يحرسان في ذلك الجبل، وعندما رأياني، أسرعا إلي، فخفت منهما، بسبب السلاح الذي يحملانه، لكن أحدهما قال لي: لا تخف يا تلميذ القرآن، فقد كنا ننتظرك.. ولنا إليك حديث نريد أن نبثه إليك.

القرآن.. والعزاء والشفاء (183)

قلت: كلي آذان صاغية.. فحدثاني بما شئتما.

الشاهد الأول

قال أولهما: سأحدثك أولا عن قصتي مع معلمي الكاظم، ثم يحدثك رفيقي عن قصته.. ولعلك تجد فيها ما يصلح لكتابك هذا.

قلت: يسرني الاستماع إليكما.. لكن أنتما تعلمان أني لا أسجل إلا ما يرتبط بالقرآن الكريم، فلذلك لا تتحدثا عن التفاصيل التي لا علاقة لها به.

قال أولهما: معاذ الله.. أن نفعل ذلك.. فنحن أيضا قد فنينا عن كل شيء إلا عن كلام ربنا، فلذلك ترانا منشغلين به عن كل شيء.

ثم سكت قليلا، وقال: لقد كنت مثل قومي مستضعفا محتقرا أعاني الظلم بكل ألوانه، وقد جرني ذلك لا إلى اتهام من ظلمني بالعتو والتجبر، وإنما إلى اتهام ربي سبحانه وتعالى بعدم عدالته بين عباده.. وقد جعلني ذلك من حيث لا أشعر فريسة لكثير من وساوس شياطين الإنس والجن.. إلى أن جاء اليوم الذي تشرفت فيه بلقاء سرّي عقده معلمنا الكاظم في بعض هذه الجبال.

لقد حدثنا حينها عن أن الهدف من البلاء الذي حصل لنا ليس العقوبة، وإنما تمييز الصادقين من الكاذبين، والخبثاء من الطيبين، وأخبرنا أننا لن نخرج من ضعفنا، ما لم نضع أنفسنا في المحل المناسب لها.. محل الطيبين أو محل الخبثاء.

وكان أول كلمة لها قالها لنا: احمدوا الله على أنكم مظلومون، ولستم ظالمين.. فالمظلوم إن عرف كيف يتعامل مع ما وقع فيه من البلاء سيكون صاحب مكانة رفيعة في الدنيا والآخرة.

ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا

القرآن.. والعزاء والشفاء (184)

مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:142]، ثم قال (1): لقد أنزل الله هذه الآية الكريمة بعد غزوة أحد، وقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة، وأصابهم القتل والهزيمة، حيث أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير، فقد قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشُج وجهه الشريف، وأرهقه المشركون، وأُثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى قال بعض المسلمين حين أصابهم ما أصابهم: (أنى هذا؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون!؟)، كما قال تعالى يحكي عنهم: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165]

وبعد أن ذكرنا بأن واقعنا لا يختلف كثيرا عن ذلك الواقع الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فترة من الزمن، قال (2): والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعاً في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم ذكر لنا بعض السنن التي ذكّر الله بها المسلمين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي

__________

(1) في ظلال القرآن (1/ 478)

(2) في ظلال القرآن (1/ 478)

القرآن.. والعزاء والشفاء (185)

صالحة للتذكير بها في كل العصور، فقال (1): والسنن التي تشير إليها الآيات الكريمة، وتوجه أبصار المؤمنين إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ.. ومداولة الأيام بين الناس.. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 140 ـ 141]، وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعدائهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى.

وعندما سألناه عن معنى التمحيص، قال (2): التمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، فهو عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب، فكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير، وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.

ثم ضرب لنا أمثلة على ذلك، فقال (3): قد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة

__________

(1) في ظلال القرآن (1/ 478)

(2) في ظلال القرآن (1/ 482)

(3) في ظلال القرآن (1/ 482)

القرآن.. والعزاء والشفاء (186)

والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف ـ على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية ـ أن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط، ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة.

وعندما سألناه عن معنى هذا السؤال الاستنكاري الذي افتتح الله تعالى به الآية الكريمة حين قال (1): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، قال: الله تعالى يصحح تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء، ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص.. وصيغة السؤال الاستنكارية يُقصد بها التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت، فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان، إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي، وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.

ثم قال (2): ولذلك فإن الآية الكريمة تشير إلى أنه لا يكفي أن يجاهد المؤمنون، إنما عليهم الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً، والتكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان، فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يُطلب لها

__________

(1) في ظلال القرآن (1/ 483)

(2) في ظلال القرآن (1/ 482)

القرآن.. والعزاء والشفاء (187)

الصبر، ويختبر بها الإيمان.. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان، والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية.. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر، والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات، والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال، والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها، في الطريق المحفوف بالمكاره، طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان.

ومنذ قال لنا المعلم هذه الكلمات، صرت أحن إلى كلماته، وأشعر أنها العلاج الوحيد الذي يخرجني من الضعف والفتنة، وقد سمعته في مناسبة أخرى يقرأ قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:16]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة تنبيه للمؤمنين إلى أن الإيمان ليس مجرد عقيدة يعتقدها المؤمن، في الله وكتبه ورسله، ثم يعيش بهذه المعاني مضمرة في كيانه، كما تضمر الحبة في باطن الأرض، لا يصيبها وابل أو طل، ولا يحركها شوق إلى كشف وجهها، ومصافحة أضواء الوجود.. وإنما الإيمان هو وصل هذه الحقائق بالحياة، وصوغها في صورة سلوك وأعمال، من عبادات ومعاملات، ومن جهاد في سبيل الله، وحماية لراية الإيمان أن تسقطها يد البغاة المعتدين، من أهل الشرك والضلال.. فللإيمان أعباؤه وتكاليفه، وفي الوفاء بهذه الأعباء وتلك التكاليف، تتحد مواقف المؤمنين، وتكون منازلهم ودرجاتهم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 714)

القرآن.. والعزاء والشفاء (188)

ثم قال (1): وفي قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا﴾ [التوبة: 16] دعوة إلى استبعاد هذا الشعور الذي يداخل بعض المؤمنين من أن يكون حسبهم من إيمانهم ما تنطوى عليه صدورهم من حقائقه.. كلا فإنهم مبتلون بما يكشف عن معدن هذا الإيمان الذي في قلوبهم، كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2 ـ 3].. ففى الإيمان شريعة، وفي الشريعة أوامر ونواه، والمؤمن مطالب بأن يمتثل الأوامر ويأتيها، ويتجنب النواهي ويحذر التلبس بها.. والإيمان عقيدة وعمل.. ولا معتبر لعقيدة إذا لم يزكها العمل، ويحقق المعاني المضمرة فيها.

ثم قال (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 16] ما يكشف عن تبعات المؤمنين، أي أحسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا هكذا من غير ابتلاء واختبار، حتى يكون ذلك موضع علم واقع منكم، من جهاد في سبيل الله وابتلاء في أموالكم وأنفسكم.. بمعنى أنه لم يظهر منهم بعد هذا العمل، ولم يدخلوا في تلك التجربة، ويصبروا على ما يصيبهم منها.. أما علم الله سبحانه وتعالى فهو علم شامل لكل ما وقع وما لم يقع.. فالمراد بعلم الله هنا، هو علمه الواقع على حال المؤمنين في هذا الوقت الذي يخاطبون فيه بهذا الخطاب.. وفي قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 16] إشارة إلى أن علم الله وإن كان محيطا بكل شيء، قبل أن يقع.. من المكلفين إلا أن المكلفين لا يحاسبون على ما يقع منهم إلا بعد أن يقع.. وبهذا يُحاسب المكلف على ما وقع منه فعلا، وصار علما واقعا له، بعد أن كان في علم الله..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 715)

(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 715)

القرآن.. والعزاء والشفاء (189)

وعندما سألناه عن معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ [التوبة: 16]، قال (1): الوليجة هي الملجأ، والمعتمد، الذي يلجأ إليه الإنسان، ويتخذ منه جنة ووقاية له.. والمعنى، أن المطلوب من المؤمن هو الجهاد في سبيل الله، وموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والاعتماد على كفاية الله ورسوله والمؤمنين له، دون أن يقوم بينه وبين المشركين ولاء، فلا يدخل معهم في حلف، ولا يلج لهم أمرا يلتمس منه خيرا لنفسه، أو سلامة مما يتوقع من بلاء.. فإذا لم يقع منه هذا، لم يكن أهلا لأن يدخل الجنة التي وعدها الله المتقين من عباده.. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 16] تحذير للمؤمنين الذين في صدورهم شيء من هذه المشاعر، التي تقيم بينهم وبين المشركين صلة على حساب دينهم، أو على حساب الجماعة الإسلامية، وأمنها وسلامتها.

وعندما سألناه عن سر تمحيص الله لعباده وتمييزه لهم، قال: الله تعالى بحكمته جعل هذه الدار محلا لاختبار عباده، لينزل كل واحد منهم ـ في النشأة الآخرة ـ المحل الذي ينسجم مع طبيعته، وتبرزه أهليته، فلذلك كانت هذه الدار هي دار التمييز التي يتميز فيها المحسن من المفسد، والراضي من الساخط، كما قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37]

وقال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179]، أي (2): ما كان الله ليترككم على ما أنتم عليه من اختلاط، لا يعرف مخلصكم من منافقكم، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 716)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 441)

القرآن.. والعزاء والشفاء (190)

من المخلص، بالوحي أو بالتكاليف الشاقة، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر به بواطنكم، ويستدل به على عقائدكم، وما كان الله ليطلعكم على الغيب حتى تعرفوا ما في القلوب من كفر أو إيمان، أو تعرفوا: هل تغلبون أو تُغلبون.. ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء، فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها، فآمنوا بالله الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب، لا يعلمون إلا ما علمهم.

ثم قال (1): من سنة الله في المتوجهين إليه إذا كثروا، وظهرت فيهم دعوى القوة، أن يرسل عليهم ريح التصفية، فيثبت الصحيح، والخاوي تذروه الريح، وما كان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار، حتى يميز الخبيث من الطيب، أي: من همته الله ومن همته سواه.

ثم سكت قليلا، وقال (2): هذه سنة إلهية دائمة أن يعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبدا، بل لابد في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه، وهذا الأمر يتحقق ـ طبعا ـ عندما يكون أتباع الحق في مستوى كاف من التضحية والوعي.

قلنا: فما الفرق بين الخبيث والطيب؟

قال (3): الخبيث ما لا يصلح لله، والطيب ما يصلح لله.. والخبيث ما حكم الشرع بقبحه وفساده، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه.. والخبيث ما شغل صاحبه عن

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 441)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 422)

(3) لطائف الإشارات (1/ 624)

القرآن.. والعزاء والشفاء (191)

الله، والطيّب ما أوصل صاحبه إلى الله.. والخبيث ما يأخذه المرء وينفقه لحظّ نفسه، والطيب ما ينفقه بأمر ربه.. والخبيث عمل الكافر الجاحد يصوّر له ويعذّب بإلقائه عليه، والطيّب عمل المؤمن يصور له في صورة جميلة فيحمل المؤمن عليه.

قلنا: فلم لم يتح للخبيث ما أتيح للطيب؟

قال: الله أعدل من أن يتيح لبعض عباده ما لم يتح لغيرهم.. كرم الله وعدالته تأبى ذلك.. ولذلك قال بعد قوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37]: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 38]

ثم سكت قليلا، وقال (1): أي إن كبحوا لجام التمرد، وأقلعوا عن الركض في ميدان العناد والتجبر أزلنا عنهم صغار الهوان، وأوجبنا لهم روح الأمان.. وإن حلوا نطاق العناد أطلقنا عنهم عقال البعاد.. وإن أبصروا قبح فعالهم جدنا عليهم بإصلاح أحوالهم.. وإن جنحوا للاعتذار ألقينا عليهم حالة الاغتفار.. وإن عادوا إلى التنصل أبحنا لهم حسن التفضل.

ثم راح ينشد بصوت جميل:

أناس أعرضوا عنا... بلا جرم ولا معنى

أساءوا ظنهم فينا... فهلا أحسنوا الظنا

فإن كانوا لنا كنا،... وإن عادوا لنا عدنا

وإن كانوا قد استغنوا... فإنا عنهم أغنى

قال أحدنا: لكن الله يعلم بأحوال عباده محسنهم ومسيئهم، وراضيهم وساخطهم..

__________

(1) لطائف الإشارات (1/ 624)

القرآن.. والعزاء والشفاء (192)

فكيف يختبرهم ليعلم ذلك؟

قال: الله تعالى ـ لعدله ـ لا يكتفي بعلمه، بل يجعل من أعمال العباد حجة لهم أو عليهم.

قلنا: فما وجه كون التمييز نعمة؟

قال (1): دخل جماعة على بعض الصالحين، وهو في مارستان قد حُبس فيه، وقد جمع بين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي، إن صدقتم فاصبروا على بلائي.

ثم سكت برهة، وكأنه يتذكر شيئا، ثم قال: سمعت معلمنا رحمه الله ذات ليلة، يحكي لي أنه ورد في بعض الآثار أن الله تعالى قال: (خلقت الخلق فكلهم ادعى محبتي، وخلقت الدنيا فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، وخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء، فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين: معي، لا الدنيا أردتم، ولا الجنة أخذتم ولا من النار هربتم، فماذا تريدون، قالوا: إنك تعلم ما نريد، فقلت لهم: فاني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي أتصبرون؟ قالوا: إذا كنت أنت المبتلي لنا، فافعل ما شئت.. فهؤلاء عبادي حقا)(2)

قلت: لا يزال عقلي كالا دون فهم وجه كون التمييز نعمة.

قال: لقد قال بعض الصالحين يذكر علة ذلك: (الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه)

__________

(1) إحياء علوم الدين (3/ 440)

(2) صفة الصفوة (1/ 501)

القرآن.. والعزاء والشفاء (193)

ثم قال: أرأيت لو جاورك في بيتك الأدنى من لا تطيق عشرته.. أترضى بذلك؟

قلت: لا.. بل إني سأرحل عنه.

قال: ولو خسرت مالك.

قلت: ولو خسرت مالي..

قال: لم؟

قلت: طلبا للراحة منه.

قال: فهذا منزل محدود.. لأمد معدود.. فكيف بالمجاورة المستمرة الدائمة التي لا حدود لها.

قلت: الكامل لا يرضى صحبة الناقص، والطيب لا يطيق معاشرة الخبيث.

قال: ولذلك كان التمييز الذي يحصل في الآخرة بين الأجناس والأنواع نعمة من النعم العظمى التي يستشعرها المؤمنون، فلا يدخل الجنة إلا الطيبون، بل إنهم في نفس الجنة متميزون بحسب مراتبهم ودرجاتهم.. ولهذا يبين القرآن الكريم المواقف المختلفة من أنواع البلاء، ففي موقف الخوف مثلا يخبر تعالى عن صنفين من الناس: أما الأول، وهو الناجح في الاختبار، فيذكر تعالى وقوفه كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، وأما غيرهم من الجبناء الساقطين في الاختبار فقد قال تعالى في شأنهم: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة:52]

سكت قليلا، ثم قال: وقد أخبر الله تعالى عن الناجحين في الاختبار بأنه من المنعم عليهم، كما قال تعالى: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ

القرآن.. والعزاء والشفاء (194)

فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23]، وهذا في مقابلة الساقطين الجبناء الذين قالوا: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة:22]، وقالوا بكل تبجح: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:24]، وهكذا في كل المواقف، نجد المؤمنين الصادقين الناجحين فيما أنعم به عليهم من البلاء، ونجد الراسبين الساقطين في الامتحان الذين قال تعالى في شأنهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج:11]، فهذا الخاسر لا يعبد الله في الحقيقة وإنما يعبد أهواءه التي قد تتفق أحيانا مع ما يأمر به الله، فيتوهم الخلق أنه يعبد الله، فلذلك يبتلى بما يظهر حقيقته، ويكشف عن سريرته.

الشاهد الثاني

بعد أن انتهى الأول من حديثه، قال الثاني: أما أنا فقد كان أول ما سمعته من معلمي الكاظم قراءته لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 139 ـ 140]، ثم قال: لقد أخبر الله تعالى أن العلة في البلاء الذي حصل للمؤمنين هو تمحيصهم، كما أن علة البلاء الحال بغيرهم هو محقهم.. وكأنها تقول من باب الإشارة (1): إن يمسسكم يا معشر المتألمين قرح كمرض أو حبس أو ضرب أو سجن أو حرج أو جلاء، فقد مس العموم مثل ذلك، غير

__________

(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 413)

القرآن.. والعزاء والشفاء (195)

أنكم تسيرون به إلى الله تعالى لمعرفتكم فيه، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم.. أو إن يمسسكم قرح فقد مس القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم، ففيهم أسوة لكم، وهذه عادة الله في أوليائه، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا، ثم يديل لهم، وإنما أديل عليهم أولا ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا، وليعلم الصادق في الطلب من الكاذب، فإن محبة الله مقرونة بالبلاء.

ثم قال (1): لذلك قال تعالى بعدها: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، أي إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللناس، أنهم مؤمنون حقا، وأنهم أدوا حق هذا الإيمان، بلاء وجهادا.. وفي الآية الكريمة عزاء جميل من الله سبحانه وتعالى للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين بعدما أصابهم ذلك البلاء العظيم يوم أحد.. وهي تقول لنا من باب الإشارة (2): أم حسبتم يا معشر المؤمنين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم.

ثم قال: لقد قال لي معلمي ذات مرة، وقد رآني أشكو بعض ما حصل لي من ظلم: العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره.. ثم ذكر لي الحكمة التي تقول: (إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قل عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟)

حينها سأله أحدنا، فقال: قد عرفنا أن التمحيص هو التنقية والتطهير والتمييز لتظهر

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 601)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 414)

القرآن.. والعزاء والشفاء (196)

أهلية كل واحد منهم ما يستحقه من جزاء.. فما يظهر تلك الأهلية؟

قال: لا تبرز الأهلية إلا بأسياف البلاء، ورياح الفتن، وأنواع التمحيص، فالدعاوى سهلة، ولكن الصعب إثباتها، ولذلك رد الله تعالى على من حسبوا الأمر سهلا، تكفي فيه مجرد الدعاوى، فقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214]

سكت قليلا، ثم قال (1): ما قرأت هذه الآية الكريمة إلا شعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.. في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. تلك سنة الله في الدعوات.. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.

قلنا: لم كان الأمر كذلك؟

قال (2): ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2036)

(2) في ظلال القرآن (4/ 2036)

القرآن.. والعزاء والشفاء (197)

رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً، أو تكلفه القليل.. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً، لأنها قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء.. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.

قال أحدنا: ولكن هذه الآية نزلت في محل خاص.

قال: أجل.. ولكنها في حقيقتها تفسر سنة الله في تمحيص عباده ليبرز كل شخص ما في صدره من تسليم أو اعتراض، أو عبودية أو ربوبية، كما قال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:154]، فالقلب كالمجتمع كلاهما يحتاج إلى أنواع البلاء والمحن والفتن التي تميز الطيب عن الخبيث، والطاهر من النجس.

قلت: ألهذا كان الألم علاجا مشخصا للأدواء؟

قال: أجل.. وهو في ذلك كتلك المحاليل الكاشفة التي تميز أنواع العناصر، ليتبين الأصيل من الدخيل، وتتميز الصحة عن المرض.. ولا يمكن العلاج إلا بالتشخيص، فمن السهل ادعاء الصبر، ومن الصعب التحقق به، فلذلك كان التمحيص مقدمة للتأديب.

2. المواجهة والثبات

بهذا الحديث انتهى المشهد الأول من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشهد الثاني، والذي تعلمت منه

القرآن.. والعزاء والشفاء (198)

معنى الثبات والمواجهة، وأثرهما في العزاء والسلوى، والأسباب التي تجعل المؤمن صامدا ثابتا لا يتزعزع ولا يضعف ولا يركن.

وقد بدأ هذا المشهد، بعد سماح ذينك الرجلين لي بالمرور إلى أرضهم، وقد كان أول ما صادفته فيها، وبعد أن سرت خطوات قليلة جمعا من الشباب يتدربون على بعض الفنون القتالية، وعندما رأوني طلب منهم مدربهم أن يتوقفوا، ثم راح يقدمهم لي قائلا: وأخيرا جاء تلميذ القرآن الذي وعدتكم سابقا بحضوره وزيارته لكم.. ومجيئه دليل على أنكم تسيرون في الخط الصحيح، خط القرآن الكريم الذي تعلمناه من معلمنا الكاظم.

ثم طلب من الجميع الجلوس، وقال: لعل خير استقبال لهذا التلميذ، أن تخبروه بما استفدتموه من المعلم، والذي جعلكم تتركون أهليكم وما تنعمون به من الراحة، وتلتحقون بهذا الجبل، وتتدربون هذه التدريبات القاسية.

الشاهد الأول

قام أحدهم، وقال: ائذنوا لي أنا أن أتحدث، فأنا أكبركم.. وأنا أول من التقى المعلم، وبحمد الله، كنت أول من دللتكم عليه.. سأقص عليكم قصتي مع المعلم، وفيها عبرة لنا ولكل المستضعفين.. وعسى أن ينتفع بها من يكتب لهم تلميذ القرآن كتابه هذا.

لقد كنت أول من التقى المعلم في أرضنا هذه، لقد جاء متخفيا، وعندما رآني، وكنت أحمل أثقالا شديدة، لأوصلها لبعض المستكبرين، الذين كانوا يسخروننا في كل شيء، من غير أن يعطونا ما نستحقه من الأجور.. حينها ناداني باسمي نوح، فتعجبت كثيرا أن يعرف اسمي، فقلت: من أنت؟ وكيف عرفت اسمي؟

قال: لقد تذكرت برؤيتي لصبرك وجلدك نوحا عليه السلام، فلذلك رجوت أن تهتدي به، وتقتدي.

القرآن.. والعزاء والشفاء (199)

قلت: أنا أهتدي بالذي أمرنا الله تعالى بالاهتداء به، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]

قال: أجل.. وقد قال تعالى كذلك: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، وقال بعد ذكره للأنبياء عليهم السلام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]، وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35].. ولولا أنه في قصة نوح عليه السلام ما يستحق الاهتداء والاقتداء لما وردت سورة كاملة باسمه.

أعجبني حديثه كثيرا، فطلبت منه أن يزور بيتي، لنتبرك بحضوره، وهناك جمعت الأهل والأولاد، وبعض الجيران، وراح يقص علينا قصة نوح عليه السلام، والعزاء الذي فيها لأمثالنا من المستضعفين.

وقد بدأ حديثه بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة صورة من صور الصراع بين الحق والباطل، لتواجه بهذه الصورة الصراع القائم بين المؤمنين والمعتدين الظالمين، وفي كل الأجيال.. وفي هذه الصورة، يرى المعتدون أنفسهم في قوم نوح عليه السلام، الذي طول مقامه فيهم حتى بلغ ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم ينفعهم هذا الزمن الطويل، الذي وقفوا فيه إزاء دعوة الحق، ولم تلتق طريقهم مع طريقه.. فكان أن أخذهم الطوفان، وهم متلبسون بكفرهم، يحملونه معهم إلى يوم الجزاء.. أما نوح عليه السلام ومن آمن معه، فقد نجاهم الله، وكان في نجاته آية للعالمين..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 414)

القرآن.. والعزاء والشفاء (200)

ثم قال (1): وقصة نوح عليه السلام تمثل الدور الأول من المواجهة مع المشركين المعتدين في مكة قبل الهجرة.. فهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مع أصحابه، كانت أشبه بسفينة نوح، حيث وجد المسلمون في المدينة أمنا وسلاما، وحيث غرق المشركون في موقعة بدر، ومن لم يغرق منهم في ميدان القتال، مات غرقا في بحر الكفر والضلال، قبل أن يدركه الإسلام يوم الفتح.

ثم قرأ علينا مشاهد مما ورد في القرآن الكريم من قصة هذا النبي العظيم، لنتعلم من خلالها الثبات والمواجهة مع المعتدين، مهما طال الزمن، مع استعمال كل الوسائل والأساليب المؤدية لذلك، ومن ذلك قراءته لقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 5 ـ 9]، ثم قال تعقيبا عليها (2): لقد دعا نوح عليه السلام قومه، فلم يسمعوا له، ولم يحفلوا به، فجاء إلى ربه شاكيا عنادهم، طالبا من الله أخذهم بالعذاب الذي هم أهل له.. فالقوم بلغوا في السفاهة غايتها، وركبوا من الجهل أشرس مطاياه وألأمها.. فهم كلما سمعوا صريخ النذير، ازدادوا فرارا منه، وقربا من موقع الخطر الذي يحذرهم منه.. وهم كلما سمعوا صريخ هذا النذير، جعلوا أصابعهم في آذانهم، كأنما يسمعون منكرا، يسدون عليه المنافذ أن يصل إلى آذانهم، وهم لم يقفوا عند هذا، بل غطوا وجوههم، ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: 7] أي جعلوها غاشية تحجبهم عن أن ينظروا في وجه هذا النذير، حتى لا يروا منه أية إشارة تشير إليهم، وتحذرهم من الخطر الزاحف عليهم..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 415)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1195)

القرآن.. والعزاء والشفاء (201)

وفي قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: 7] إشارة إلى ما وقع في نفوسهم من جفاء لهذا النذير، وإلى ما أضمروا من عداوة له.. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم في أحلام اليقظة، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه، إلا بحجز حواسهم عنه، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه، من بصر أو سمع.. إنهم يغطون وجوههم بثيابهم، ويدخلون رؤوسهم في جيوبهم، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع في سماء ليلهم المظلم البهيم.

ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 8 ـ 9]، وقال تعقيبا عليها (1): في هاتين الآيتين الكريمتين بيان للأساليب المختلفة التي اتخذها نوح عليه السلام، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم، وأبصارهم.. فهو تارة يدعوهم جهارا، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصم لا يسمع، حتى يخترق بصراخه العاصف، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم.. فلما لم تنفع هذه الوسيلة، معهم، أمسك لسانه، وزم شفتيه، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف عن الحديث إليهم، همس إليهم همسا خافتا، لا يكاد يسمع، لعل كلمة عابرة تصل إلى أسماعهم من هذه النذر التي ينذرهم بها.. فهذا إعلان في إسرار..

ثم قال (2): وفي العطف بـ[ثم] في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 8 ـ 9] ما يشير إلى أن كل حال من تلك الأحوال كانت تستغرق وقتا طويلا، يقف فيه نوح عليه السلام، حتى يمل الوقوف، وحتى يستيئس من أن أحدا يسمعه.. إنه ينادى أمواتا، ويهتف بعوالم من الجماد..

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1196)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1197)

القرآن.. والعزاء والشفاء (202)

مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10 ـ 12]، ثم قال (1): هذا بيان لما كان يدعو نوح عليه السلام قومه إليه، ويهتف فيهم به.. إنه يناديهم، ويسر إليهم القول أن يستغفروا ربهم، إنه كان غفارا، يغفر لمن يستغفره، ويرجع إليه تائبا نادما.. وإنهم إن فعلوا هذا رزقهم الله رزقا حسنا، وأرسل السماء عليهم مدرارا، أي بالمطر الكثير، حيث تخصب الأرض، وتكثر الثمرات والخيرات، فحيث كان الماء، كان الخصب والخير الكثير في الأموال والأنفس.

ثم ذكر لنا إنكار نوح عليه السلام الشديد على الخرافات التي تعلق بها قومه، وذلك عند بيانه لمعنى قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 13 ـ 14]، حيث قال (2): هو من دعوة نوح عليه السلام قومه، إلى الإيمان بالله.. وهو في هذا الاستفهام ينكر عليهم ما هم فيه من غفلة عن الله، واستخفاف بجلاله وعظمته.. إنهم لا يوقرون له، ولا ينظرون إليه نظر من يرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. إنهم لا يعرفون الله، ولا يقدرونه قدره.. وقوله: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 14] جملة حال، من لفظ الجلالة.. أي ما لكم لا توقرون الله، والحال والشأن أنه قد خلقكم أطوارا.. أي خلقا من بعد خلق.. إذ كنتم نطفة في بطون أمهاتكم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسيت هذه العظام لحما.. ثم خرجتم من بطون أمهاتكم أطفالا.. ثم لبستم خارج أرحام أمهاتكم أطوارا من الحياة، فتنقلتم من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة.. وهكذا كانت يد القدرة القادرة تنتقل بكم من طور إلى طور، وبين الطور الأول والأخير مراد فسيح لذوى الأبصار، يرون فيه قدرة الخالق، وعظمته وحكمته، فتخشع الأبصار لجلاله، وتعنوا الجباه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1197)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1198)

القرآن.. والعزاء والشفاء (203)

لقدرته.

ثم حدثنا عن شكوى نوح عليه السلام إلى ربه طغيان قومه وتجبرهم وعدم استجابتهم لكل الحجج والبراهين التي أتاهم بها، وذلك عند بيانه لمعنى قوله تعالى: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة شكوى ضارعة من نوح عليه السلام إلى ربه، يشكو فيها قومه، الذي أصموا آذانهم عنه، وأعرضوا عن الاستجابة له، على حين أنهم استجابوا لمن يدعونهم إلى الغواية والضلال، من أولئك الذين لا يزيدهم ما يمدهم الله به من نعمه، وما يزدادون به أموالا، وأولادا، إلا خسرانا، وضلالا، وبعدا عن طريق الهدى، ومحادة لله، ولأولياء الله.

ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نوح: 22]، وقال (2): يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة كيف كان قوم نوح عليه السلام يخططون بكل ما لديهم من أساليب شيطانية للإجهاز على الرسالة وصاحبها، وأثاروا الكثير من التهاويل حولها، وامتدت الحيل والمؤامرات لتحاصر كل وجودها، لأنهم شعروا بالمنطق الإيماني يمتد إلى عقول الناس البسطاء الطيبين، فأرادوا بالمكر الكبير جدا أن يعطلوا ذلك الامتداد، ويبطلوا تأثيره على صعيد الواقع الجديد.

وذكر لنا من تلك الأساليب محاولة الإثارة العاطفية التي تستثيرهم للدفاع عن أصنامهم التي ارتبطوا بها بوحي الألفة والعادة، لأنهم عاشوا طفولتهم في رحاب عبادتهم إياها، وخضوعهم لها، ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ [نوح: 23] التي تمثل الآلهة الكبار التي هي في موقع الأهمية الكبيرة، ﴿وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1201)

(2) من وحي القرآن (23/ 134)

القرآن.. والعزاء والشفاء (204)

وهذه الخمسة ظلت تعبد إلى عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن ودا كان لقبيلة كلب، وسواعا لهذيل، ويغوث لغطيف، ويعوق لهمدان، ونسرا لحمير، بالإضافة إلى ما استحدثوه من هبل واللات ومناة والعزى.. وهكذا كان أسلوبهم العاطفي يستهدف الوقوف ضد الأسلوب التأملي الهادئ المتوازن الذي كان نوح عليه السلام يطرحه على هؤلاء لينطلقوا في أوضاعهم الفكرية والعملية، في محاكمة عقلية واعية، من أجل تصحيح الخط المنحرف في حياتهم، وتقويم العادات العوجاء في تاريخهم، كما هي قضية الرسالات الإلهية التي تريد أن تقود الإنسان إلى مصيره من خلال مسئوليته عما يفكر ويعمل بعيدا عن تفكير الآخرين وسلوكهم، لأن المسؤولية في دائرة الإيمان فردية ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الزمر: 7]، ولا يكسب الإنسان عمل غيره، إلا من الناحية التي يمثل فيها مقدمة لعمل الآخرين.

ثم قال لنا (1): ولم تكن مشكلة نوح عليه السلام هؤلاء الرؤساء المترفين عند أنفسهم، بل كانت المشكلة هي وقوفهم حجر عثرة في طريق الدعوة.. ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: 24] من الناس بضلالهم، فمنعوهم من الاستجابة للحق لما جاءهم، فظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، مما جعل نوحا يدعو عليهم ربه، ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ [نوح: 24] أي هلاكا فيما تختزنه كلمة الضلال من معنى الهلاك بلحاظ ما تؤدي إليه، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 47]

الشاهد الثاني

بعد أن انتهى نوح من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا إبراهيم.. وقصتي يمكنها أن تكون تكملة لقصة أخي وصديقي وجاري نوح، فقد حدثني بمجرد

__________

(1) من وحي القرآن (23/ 135)

القرآن.. والعزاء والشفاء (205)

أن غادر معلمنا أرضنا عن زيارته له، والأحاديث التي حدثهم بها، وقد جعلني هذا أجتمع مع جمع من الرفاق للسؤال عن هذا المعلم، وبمجرد أن عرفنا البلدة التي جاء منها، أسرعنا إليه من غير أن يفطن قومنا، وقد كان لقاؤنا به في بيته المتواضع، مقدمة للقاءات كثيرة، حيث كان يبث إلينا معارفه القرآنية، وكنا بدورنا نلقيها بين قومنا، ونجتهد أن نوصلها، كما أخبرنا بها من غير أن نزيد أو ننقص.

وأذكر جيدا أنه في أول لقاء لنا به قص علينا قصة إبراهيم عليه السلام، وكيف استطاع لوحده أن يواجه جبروت قومه، حتى استحق أن يصفه ربه بأنه أمة وحده، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 120 ـ 122]، وقد قال معلمنا في بيانه لمعناها (1): إن إبراهيم عليه السلام كان أمة، أي كان مجتمعا وحده، يؤمن بالله، بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر.. فهو بهذه الصفة يمثل أمة مميزة عن غيرها، بالإيمان، تقابل تلك الأمم التي تمثل الكفر.. فهو الإنسان المؤمن، الذي يقابل بإيمانه الكفر والكافرين جميعا، وكان مع إيمانه بالله قانتا، أي خاشعا لله، مسلما أمره له.. وكان حنيفا مائلا عن طرق الضلال والكفر.. ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120] أي لم يشرك بالله أبدا، ولم تستجب فطرته لأن يعبد ما كان يعبد أبوه وقومه، فنشأ مجانبا لهذه الضلالات، عازفا عنها.

ثم قال (2): وفي وصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان حنيفا، إشارة إلى أن المجتمع الذي كان يعيش فيه إبراهيم كان مجتمعا يسير على طرق الكفر والشرك، حتى لكأن ذلك

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 391)

(2) التفسير القرآني للقرآن (7/ 392)

القرآن.. والعزاء والشفاء (206)

هو وجهة الحياة في زمنه، وحتى لكأن الخروج على هذه الوجهة، يعد ميلا وانحرافا.. وهذا مما يعظم من شأن إبراهيم عليه السلام، ويرفع قدره في العالمين، بين أتباع الحق، وأهل الإيمان.. فقد خرج إبراهيم عليه السلام بإيمانه عن هذا الإجماع المطلق، وشق لنفسه ثقبا في هذا الحائط الصفيق، المضروب حوله من الكفر، ونفذ إلى عالم النور، ولهذا استحق بأن يوصف هذا الوصف الكريم من ربه، بأن كان حنيفا.. والحنيف هو المائل.. ولكنه ميل إلى الحق والهدى والإيمان.. ولهذا أيضا اختص بهذا الوصف دون سائر الأنبياء.. إذ كان أمة وحده.. (واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة.. ويحتمل أنه كان إماماً يقتدى به في الخير.. وهما قريبان، فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد)(1)

سكت قليلا، ثم قال (2): ثم ذكر الله تعالى فضله عليه، فذكر أنه اجتباه واختاره للنبوة كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 51].. وأنه هداه إلى صراط مستقيم، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه.. وأنه حببه إلى جميع الخلق، فجميع أهل الأديان، مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به، وكفار قريش لا فخر لهم إلا به، وقد أجاب الله دعاءه في قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84].. وإنه في الآخرة في زمرة الصالحين، وهو معهم في الدرجات العلى من الجنة، إجابة لدعوته، كما قال تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 83]

ثم قال (3): بعد أن وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة التي

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2201)

(2) تفسير المراغي (14/ 159)

(3) تفسير المراغي (14/ 160)

القرآن.. والعزاء والشفاء (207)

بلغت الغاية في علو المرتبة أخبر أنه أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم باتباعه فقال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123] أي ثم أوحينا إليك أيها الرسول وقلنا لك: اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة البريئة من عبادة الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما تبرأ إبراهيم من مثلها من قبل، فأنت متبع له وسائر على طريقه، وقومك ليسوا كذلك، لأنهم يحللون ويحرمون من عند أنفسهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 161]

وبعد أن انتهى معلمنا الكاظم من ترغيبنا في اتباع إبراهيم عليه السلام، راح يحكي لنا قصته مع قومه، وكيف استطاع أن يواجههم من غير خوف، ولا وجل، وقد بدأ ذلك بقراءة قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 80 ـ 82]، ثم قال (1): وبعد أن يئس قومه منه، حاولوا التأثير عليه بأساليب التخويف من غضبة الأصنام عليه، كما يوحي جوابه في الآية، وما يظهر من الكلام الذي نقله الله ـ في آية أخرى عنهم ـ ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ [هود: 54]، وربما يبدو من جو هذه الآيات أنهم لا ينكرون وجود الله، بل كانوا يشركون به في العقيدة والالتزام، إذ كانوا يريدون له أن يتفادى النتائج السلبية من كفره بالأصنام، بالانتقال إلى الإيمان بها كشركاء لله.

ثم ذكر لنا كيف وقف إبراهيم عليه السلام يناقشهم من موقع القوى في العقيدة

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 192)

القرآن.. والعزاء والشفاء (208)

والالتزام، فهو لا يعتبر قضية توحيد الله قضية فكرية تأخذ مجالها في الحوار والنقاش، بل هي قضية وجدانية يحس بها الإنسان في فكره كما يحس ببديهيات الأمور ويعيشها في إحساسه، كما يحس بالأشياء من حوله، لأنها تتحرك في كيانه كإشراقة النور في العيون، لا تحتاج إلا إلى الفطرة السليمة التي تواجه الأشياء من دون حجاب أو تعقيد، لتوازن في يقظة وجدانية بين ما هو الفقر المطلق في كل الموجودات، والغنى المطلق في ذات الله، لتخرج بنتيجة واضحة أنه هو الخالق للكل، من دون أن يكون له منازع يعادله ولا شبيه يشاكله ولا ظهير يعاضده، هو مصدر الحياة والقوة في كل شيء.

ثم ذكر لنا المعلم الفرق بين إبراهيم عليه السلام، وقوة الإيمان التي يحملها مقارنة بقومه، فقال (1): وفي ضوء هذا، أراد إبراهيم عليه السلام أن يوحي إليهم بأن توحيده لله، لا يمكن أن يرقى إليه الشك، ليدخل في حوار حوله، لأن سبيله في الإيمان، ليس سبيل التقليد اللاواعي، بل هو سبيل المعاناة الفكرية والروحية التي عاشت الهدى كله لله في وعيها للحقيقة المطلقة.. أما هم فمشكلتهم أنهم لم يهتدوا لأنهم عطلوا إحساسهم عن الالتقاء ببديهيات الأفكار، وأغلقوا وجدانهم عن الحقيقة القادمة إليهم ببساطة، وجمدوا فطرتهم عن الحركة في آفاق الحياة، ولذلك فإن عليهم الرجوع إلى فطرتهم، ورفع الغشاوة عن بصيرتهم، والانطلاق إلى الحقيقة بصفاء، ليجدوا الهدى بانتظارهم في بداية الطريق، لا في نهايته، وبذلك يكون قوله: ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: 80] واردا على سبيل الإيحاء بالوضوح الذي يعيشه في مواجهة الضباب الذي يحيط بهم.

ثم ذكر لنا ثباته وخوفه أمام تهديدات قومه له بالأصنام، وكونها تضر وتنفع،

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 193)

القرآن.. والعزاء والشفاء (209)

فقال (1): أما الخوف من الأصنام، فهو من الأمور التي لم ترد في حسابه، لأنه يعرف جيدا طبيعتها الخالية من كل حياة، أو إحساس، أو قوة.. ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: 80]، فهي لا تملك لنفسها أية قوة إيجابية أو سلبية، فكيف تملك الإضرار بالآخرين؟.. وهكذا يواجه موضوع التخويف باحتقار واستهانة ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ [الأنعام: 80]، ولكنه يخاف الله من خلال إدراكه لعظمته المطلقة ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأنعام: 80].. ولهذا أراد أن يوحي بأن هذا الإحساس بالأمن أمام الأصنام وغيرها لا ينطلق من الشعور بالقوة الذاتية، بل من الإحساس بالرعاية الإلهية التي تحميه من كل ما يمكن أن يكون مصدرا للضرر، بشكل واقعي أو افتراضي من خلال ما يتوهمه الناس، فإذا أراد الله الإضرار به من خلال أي شيء منها، فلا مجال للدفاع، فهو مصدر الأمن عند إحساس الإنسان بالأمن، وهو مصدر الخوف فيما يمكن أن يكون أساسا للخوف، لأنه المحيط بكل شيء، فيعرف منها ما لا نعرف، فيسلطها على من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، وهكذا نجد في هذا الاستثناء ما يشبه الاستثناء المنقطع الذي لا يرتبط بمدلول الكلمة بل يتصل بإيحاءاتها بما حولها من الأشياء والقضايا ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: 4]

ثم ذكر لنا الأسلوب الذي استعمله إبراهيم عليه السلام في مواجهة قومه بالحقيقة وببيان المخاوف الحقيقية التي عليهم مراعاتها، فقال (2): ثم يختم الفكرة، بالدعوة إلى أن يتذكروا من خلال التفكير الواعي المستقل غير الخاضع للتقاليد، ليلتقوا بالحقيقة من أقرب طريق.. ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ [الأنعام: 81]، ثم يبدأ عملية الهجوم بإثارة الخوف من غضب الله الذي لا تقوم له السماوات والأرض فيما أشركوا به، وفي ما تمردوا عليه، ليوحي

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 193)

(2) من وحي القرآن (9/ 194)

القرآن.. والعزاء والشفاء (210)

إليهم بأن القضية عكسية ﴿وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ﴾ [الأنعام: 81]، فهم الذين يجب أن يخافوا، لا هو، لأنهم قد أشركوا بالله ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ [الأنعام: 81]، من دون حجة ولا برهان، أما هو، فقد آمن به وأطاعه، فمن الذي يحميهم من الله، ومن هو الذي يعيش الإحساس بالأمن؟ هل هو الذي يرتبط بمصدر القوة المطلقة، أو هم الذين لا يرتبطون بأية قوة؟ وتنتهي الآية بالاستنكار: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 81]

ثم ذكر لنا القاعدة المستنتجة من هذه القصة، وهي التي نص عليها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، فقال (1): لقد حدد الله تعالى الفريق الآمن، إنهم الذين آمنوا بالله ولم يخلطوا إيمانهم بظلم.. هؤلاء هم أصحاب الإيمان الصافي الذي لا يشوبه شيء.. والظلم هنا في الآية ينطلق من خلال مفهومه العام الذي يمثل التصرف الذي لا يملك الإنسان معه أي حق أو شرعية، وبهذا أطلق الظلم على الشرك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وأطلق على المعصية وعلى العدوان، لأن كل هذه الأمور تمثل التعدي على ما لله من حق في التوحيد وفي الطاعة، كما تمثل التعدي على حقوق العباد، أما مصداقه هنا ـ في موضوع الآية ـ فهو الشرك، ولكن الآية توحي بالمعنى الأوسع الذي يحتوي الموقف الإيماني كله فيما يريده الله من الصفاء والنقاء في العقيدة وفي العمل، فهذا هو الذي يوحي بالأمن، وهو الذي يلتقي بخط الهدى.

وفي مجلس آخر، اجتمع فيه معه الكثير من قومنا الذين هاجروا للتلمذة على يديه، ذكر لنا مواجهته للملك المتجبر الطاغية من دون خوف ولا وجل، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 194)

القرآن.. والعزاء والشفاء (211)

إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]، ومما ذكره لنا في بيانه لمعناها (1): إن ذلك الجبار تملكه الغرور والكبر وأسكره الملك ﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258].. وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعية أفرادا معتدلين ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروة فإنهم ينسون كل شيء، ويسحقون كل المقدسات..

ثم ذكر لنا كيف سأل ذلك الجبار إبراهيم عن ربه، أي: من هو الإله الذي تدعوني إليه؟.. فأجابه إبراهيم عليه السلام بقوة ورباطة جأش: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]، والواقع أن أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم الله وقدرته.. لكن نمرود الجبار اتخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إن قانون الحياة والموت بيدي ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: 258].. ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما، وأمر بقتل الآخر، ثم قال لإبراهيم عليه السلام والحاضرين: أرأيتم كيف أحيي وأميت؟.. لكن إبراهيم عليه السلام قدم دليلا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك من إغفال الناس فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 258] وهنا ألقم هذا المعاند حجرا ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]، وبهذا أسقط في يدي العدو المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم الحي،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 268)

القرآن.. والعزاء والشفاء (212)

وهذا أفضل طريق لاسكات كل عدو عنيد.

ثم قال (1): بالرغم من أن مسألة الحياة والموت أهم من قضية حركة الشمس وشروقها وغروبها من حيث كونها برهانا على علم الله وقدرته، ولهذا السبب أورده إبراهيم دليلا أول، ولو كان في ذلك المجلس عقلاء ومتفكرون لاكتفوا بهذا الدليل واقتنعوا به، إذ أن كل شخص يعرف أن مسألة اطلاق سراح سجين وقتل آخر لا علاقة لها بقضية الإحياء والإماتة الطبيعيتين أبدا، ولكن قد يكون هذا الدليل غير كاف لأمثال هؤلاء السذج، ويحتمل وقوعهم تحت تأثير سفسطة ذلك الجبار المكار، فلهذا قدم إبراهيم عليه السلام دليله الآخر وهو مسألة طلوع وغروب الشمس لكي يتضح الحق للجميع.. وما أحسن ما صنع إبراهيم عليه السلام من تقديمه مسألة الحياة والموت كدليل على المطلوب حتى يدعي ذلك الجبار مشاركة الله تعالى في تدبير العالم، ثم طرح مسألة طلوع وغروب الشمس بعد ذلك ليتضح زيف دعواه ويحجم عن دعوى المشاركة.

وهكذا ذكر لنا في ذلك المجلس مواجهة إبراهيم عليه السلام لكل المشركين، وكيف عانى في ذلك الأمرين إلى أن نصره الله تعالى عليهم، وجعله قدوة لكل الصالحين، وفي جميع الأجيال، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]

الشاهد الثالث

بعد أن انتهى إبراهيم من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا أيضا كنت من الذي تشرفوا بالتلمذة على معلمنا الكاظم، وتشرفوا كذلك بالدعوة لما دعا إليه،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 269)

القرآن.. والعزاء والشفاء (213)

وتشرفوا بعد ذلك بأن أصيبوا ببعض آثار مواجهتنا مع الظالمين والمستبدين.

وقد كان من أوائل ما سمعت منه مما ملأني بالقوة والإيمان، ما رواه لنا من قصة أصحاب الأخدود المذكورة في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: 4 ـ 9]، والتي ذكر الله تعالى فيها جزاء الفريقين من الظالمين والمظلومين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 10 ـ 11]

ومما أذكره من أحاديثه في هذا قوله (1): أصحاب الأخدود، هم قوم كافرون بالله، كان لهم موقف مع المؤمنين بالله، شأنهم في هذا شأن كل الكافرين مع المؤمنين في كل زمان ومكان.. لكن أصحاب الأخدود هؤلاء، قد جاءوا بمنكر لم يأته أحد من إخوانهم من أهل الضلال، ولهذا كانت جريمتهم أشنع جريمة، يستدعى لها الوجود كله، ليشهد محاكمتهم، وليسمع حكم الله عليهم.. لقد خدوا أخاديد في الأرض، أي حفروا حفرا عميقة في الأرض، وملؤوها حطبا، وأوقدوا فيها النار، حتى تسعرت، وعلا لهيبها، واشتد ضرامها، ثم نصبوا كراسى حولها يجلسون عليها، وجاءوا بالمؤمنين بالله يرسفون في أغلالهم يعرضونهم على النار واحدا بعد واحد، ويلقونهم فيها مؤمنا إثر مؤمن.. والمؤمنون يرون هذا ويقدمون عليه، دون أن ينال هذا العذاب من إيمانهم، أو يردهم عن دينهم الذي ارتضوه.. وفي هذا شاهد من شهود الإيمان المتمكن من القلوب، الراسخ في النفوس.. إنه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1513)

القرآن.. والعزاء والشفاء (214)

أقوى من الجبال الراسيات، لا تنال منها الأعاصير، ولا تزحزحها عاتيات العواصف.

ثم ذكر الله تعالى سبب هذه الجريمة العظيمة التي ارتكبوها، فقال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: 8 ـ 9]، أي (1): أنه ليس بين أصحاب الأخدود هؤلاء، وبين المؤمنين، من ذنب يأخذونهم به، إلا إيمانهم بالله العزيز الحميد.. إنهم يؤمنون بالله الذي لاقوة إلا قوته، ولا عزة إلا عزته، وأن ما يملكه أصحاب الأخدود من قوة، وما يجدونه في أنفسهم من عزة، هو شيء محقر مهين إلى جانب عزة الله، التي يلوذ بها المؤمنون.. وهم ـ أي المؤمنون ـ يحمدون الله على السراء كما يحمدونه على الضراء، فهو سبحانه المستحق وحده للحمد في جميع الأحوال.. وهو سبحانه، له ملك السموات والأرض وما فيهن، من عتاة وجبارين ومتكبرين، وهو يرى ويعلم كل شيء، فينتقم لأوليائه، ويأخذ لهم بحقهم ممن اعتدى عليهم..

وعندما طلبنا من أن يقص علينا قصتهم كما ذكرها المفسرون، قال (2):لقد كثرت الأقوال في أصحاب الأخدود، وفي الزمان الذي كانوا فيه، والوطن الذي ينتسبون إليه.. وكثرة هذه الأقوال وتعارضها يفقدها الأثر الذي لها، ويجعل كل قول غيرها ـ ولو كان من واردات الظن والافتراض ـ مثلها تماما في النظر إليه عند تصور الحدث.. والقرآن الكريم، لا يذكر أسماء الأشخاص، أو تحديد الأماكن أو الأزمان، إلا إذا كان للشخص دلالة خاصة في ذاته، لا ترى في غيره، وإلا إذا كان للمكان أو الزمان، أثر خاص في الحدث الذي حدث فيه، أو صفات لا توجد في مكان آخر، أو زمن غير هذا الزمن، أما حين لا يكون للشخص

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1514)

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1515)

القرآن.. والعزاء والشفاء (215)

أو المكان أو الزمان وزن خاص في ميلاد الحدث، وفي تكوين صورته، وطبعه بطابعه الخالص، فلا يعنى القرآن بذكر ذات الشخص، ولا موضع المكان، ولا حدود الزمان.. وذلك ليكون الحدث مطلقا من أي قيد، ليعطى دلالة وحكمة، حيث يلتقى بما يشبهه من ذوات الأشخاص، وملامح الزمان والمكان.

الشاهد الرابع

بعد أن انتهى الشاهد الثالث من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا أيضا تشرفت بما تشرف به رفاقي الذين جعلهم الله تعالى سببا لخروج بلدتنا من نير المستضعفين، وتنعمها بالانضمام لصفوف المنتصرين بربهم.

وقد سمعت في أول لقاء لي بمعلمنا الكاظم ما ذكره عن قصة السحرة الذين استطاعوا أن يواجهوا فرعون الطاغية بكل قوة، وكيف كان إيمانهم سببا في ذلك، مع كونه لم يتجاوز عمره حينها اللحظات.

لقد قال لنا بطريقته الخاصة في تصوير المشاهد القرآنية (1): لقد ألقى موسى عليه السلام ما في يده، فإذا هي حية تسعى تتحرك باتجاه ما صنعوا، فأكلت كل الحبال والعصي، فلم يبق منها شيء.. وحدقت عيون السحرة بها، ثم بدأوا يمسحون عيونهم.. هل هناك غشاوة عليها؟ أو أن ما يرونه حقيقة؟.. إن هذا ليس سحرا، فهم يعرفون جيدا فنون السحر فيما يعلمونه منه أو يعلمونه للناس.. وبدأوا يستذكرون كلامه عن الله وعن الإيمان به، وعما ينتظره المفترون عليه من العذاب، وبدأت عملية المقارنة بين ما سمعوه منه في البداية، وما رأوه الآن، فآمنوا بأن هذا الرجل رسول من الله، وليس ساحرا مثلهم، وتعاظم شعورهم

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 132)

القرآن.. والعزاء والشفاء (216)

بالإيمان، وبالمستقبل وبالمصير، وأعلنوا الموقف بشكل مفاجئ سريع.

ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ [طه: 70]، ثم قال (1): أمام هذه الآية الواضحة العظيمة الدالة على أنها من عند الله، لا من البشر، ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ [طه: 70]، وكفرنا بفرعون وبما يأمرنا به من عبادة غير الله.. وفوجئ الطاغية الجبار، وأسقط في يديه، فقد أراد أن يسخر من موسى عليه السلام بإظهار ضعفه أمام قوة السحرة، ليدفع الناس بعيدا عنه من خلال ذلك.. لقد أراد أن يربح الشوط على موسى عليه السلام في ساحة المعركة، فإذا بموسى يربح المعركة كلها عليه، وها هو يفقد قوته أمام الشعب كله، ويخشى أن يفقد موقعه الألوهي أو الملكي على الأقل، فيتحرر العبيد من هذا الشعب، ويتجرأ السادة الأحرار عليه، ولهذا أراد أن يقوم بعملية استعراض للسلطنة أمام هؤلاء السحرة الذين أعلنوا إيمانهم قبل أن يستأذنوه، فهو كان يعتقد أن كل شيء لا بد أن يمر بساحته وأن يحظى بموافقته، لأنه يملك الفكر والإنسان والحياة، فلا بد أن يمنح الإذن الرسمي للمؤمنين ليكون إيمانهم شرعيا قانونيا، وإلا فقد صفته الشرعية، واستحق على ذلك العقاب الأليم.

ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: 71]، ثم راح يصور لنا ذلك وكأننا نراه رأي العين، فقال (2): لقد قال لهم فرعون الطاغية: (كيف فعلتم ذلك؟.. إنها الجرأة على الإله السيد العظيم الذي لا يجوز لأحد مهما كانت رتبته أن يقوم بأي عمل، أو يعلن أي موقف يتعلق بنفسه أو بالآخرين، إلا بعد أن يحصل على موافقته، فهو الذي يحدد لهم ما يصلحهم، وما يفسد حياتهم، لأنه الذي يعرف من ذلك ما لا يعرفون من أمور

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 133)

(2) من وحي القرآن (15/ 134)

القرآن.. والعزاء والشفاء (217)

الحياة).. ثم حاول أن يغطي فشله وضعفه، ويمنع تأثر الناس بموقف السحرة الإيماني أمام موسى عليه السلام، فحاول أن يهرب من المسألة بتصويرها بصورة الحالة التآمرية الخفية الحاصلة بين موسى وبين السحرة للقيام بهذه التمثيلية المسرحية، للإيقاع بفرعون، وإضعاف ملكه، وإخراج أهل مصر من مصرهم.. و﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طه: 71]، وبذلك كان دوركم دور التلاميذ الذين يخضعون لأستاذهم فيما يأمرهم به، وينهاهم عنه، وفي ما يوجههم إليه. وهكذا أوحى أن دورهم كان امتدادا لدوره.

ثم ربط ذلك بواقع المستبدين الذي كنا نعيشه، والذي كان المستبدون يمثلون فيه دور فرعون بكل براعة، فقال (1): وبذلك حاول أن يستوعب مشاعر الجماهير لمصلحته، تماما كالكثيرين من الطغاة الذين يحاولون أن يدرسوا مع الأجهزة الإعلامية الفنية ما هي أفضل الواجهات التي يثيرونها أمام الفئات المعارضة التي تهدد سياستهم وحكمهم، ليلصقوا بهم مختلف التهم التي تحاصرهم في الساحة الجماهيرية لتخفف من تأثيرهم على الآخرين.. وبذلك ينجحون في عزلهم عن الأمة مستغلين عجزها عن فهم ألاعيبهم وأسرارهم، وهذا ما يجعلنا نستوحي من هذا الأسلوب الفرعوني كيف نواجه أسلوب الكثيرين من الفراعين المعاصرين والمستقبلين فيما يضللون به شعوبهم تجاه التحديات التي توجه إليهم من المصلحين الرساليين.

ثم ذكر لنا التهديدات التي تعرض لها السحرة المؤمنين، فقال (2): ثم بدأت عملية التهديد بالعقاب، في محاولة فرعونية لدفعهم إلى التراجع عن موقفهم، والابتعاد عن موسى، ليضمن بذلك الحصول على بعض ما فقده من القوة المعنوية أمام الجماهير..

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 134)

(2) من وحي القرآن (15/ 135)

القرآن.. والعزاء والشفاء (218)

﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه: 71] أنا أو موسى، لتعرفوا من هو الأقوى، ومن هو الأبقى.. وستندمون لأن موسى لا يملك أي شيء من سلطة الدنيا وسطوتها، فلن تحصلوا منه على شيء، بينما أملك كل شيء من حولي وكل مواقع القوة والنفوذ، فأعطى من أشاء وأمنع من أشاء، وأقتل من أريد، وأعفوا عمن أريد.

ثم ذكر لنا ثبات السحرة المؤمنين، وأسباب ذلك الثبات، فقال (1): لكن القوم قد دخلوا في عالم آخر.. فقد التقوا بالله في روحية الإيمان به، وقد انفتحوا من خلاله على عالم القدس والطهارة، وعاشوا مع عالم الغيب المطلق الذي لا تحده أية حدود، ولم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء في غناها وفقرها، ورفعتها وضعتها، وقوتها وضعفها، بل أصبحت الآخرة أكبر همهم وأفضل طموحاتهم، ولذلك كانت مواجهتهم له من موقع القوة الكبيرة المتحدية في روحيتهم الهادئة الصافية المطمئنة.

ثم حكى لنا مقولتهم، وراح يفصل ويطنب فيها، وكأنه يريد منا أن نحفظ ذلك ونتعلمه لنخاطب به الطغاة الذين استبدوا بنا.. لقد قال (2): ولذلك ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [طه: 72] الواضحة التي تؤكد لنا الحقيقة من دون شك أو شبهة، فكيف نتنكر لها، ونتركها من دون أساس؟.. وماذا تمثل أنت لنا أمام حقيقة الإيمان؟.. وماذا تمثل طريقتك في الحياة؟.. ما هي قيمك؟.. وما هي شريعتك؟.. وما هي مفاهيمك؟.. هل تثبت بالمقارنة أمام قيم الإيمان وشرائعه ومفاهيمه؟.. إن الحقيقة تفرض نفسها علينا وهي ان شريعة الله هي الشريعة الحقة، وأن شريعة البشر هي شريعة الباطل،

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 135)

(2) من وحي القرآن (15/ 135)

القرآن.. والعزاء والشفاء (219)

ولن نؤثر الباطل على الحق، مهما كانت الإغراءات، ومهما كانت التهديدات، ولن نؤثرك على الله ربنا ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ [طه: 72] وخلقنا وأوجدنا، وما زال يرعى حياتنا بنعمه ولطفه ورحمته.. فمن أنت أمام الله؟.. وما حجمك، وما قيمتك؟.. وما هي قوتك؟.. وما دورك بالنسبة إلينا وإلى بقية الناس، ليكون لك علينا وعلى الناس حق الطاعة؟.. من أنت؟.. إنك مجرد مخلوق ضعيف لا تملك لنفسك نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا موتا إلا بالله. وما قدرتك؟.. ومن أين لك كل هذه الإمكانات والوسائل؟.. إنها من الله، فقد أعطاك إياها لحكمة، وسيسلبك إياها في أي وقت، فماذا تريد وماذا تستطيع أن تفعل؟.. إنك قد تملك السيطرة الغاشمة على أجسادنا، ولكنك لن تملك السلطة على أفكارنا وأرواحنا ومشاعرنا التي ترفضك وترفض كل طريقتك وكل الواقع المنحرف الكافر الذي تتحرك فيه وتتحكم به، ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: 72] هل تريد أن تقتلنا؟.. هل عندك أكثر من التمثيل والصلب والقتل؟.. إننا لن نخسر الكثير، إنها حياتنا الدنيا نفقدها، ونفقد شهواتها ومنافعها وملذاتها، ونخسرها، ولكنها لن تكون الخسارة الكبيرة، فهناك الدار الآخرة التي تنتظر المؤمنين، لهم فيها رحمة الله فيما أعد لهم من نعيم الجنة وسعادة الرضوان.

ثم ذكر لنا ما ذكروه من الرغبة في الله، وفيما عنده من الفضل العظيم، فقال (1): لقد قالوا بلسان حالهم ومقالهم: ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا﴾ [طه: 73] التي أسلفناها في ماضي حياتنا في ممارستنا الذاتية تجاه أنفسنا، وفي معاونتنا لك في تضليل الناس وحرفهم عن صراط الحق، وها نحن نتوب إليه من موقع الإيمان به والالتزام بخطه المستقيم في الحياة،

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 136)

القرآن.. والعزاء والشفاء (220)

ليغفر لنا ذلك كله، ﴿وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ [طه: 73] الذي كان أداة من أدوات الخداع والحيلة والضلال، واستعراض القوة لمصلحتك، ولكننا كنا مستكرهين فيما فرضته علينا من سلطة، وأغرقتنا فيه من ضلال، وحددته لنا من دور، وهددتنا به من قوة غاشمة، وأغريتنا به من مال وجاه وسلطة.. وها نحن نضرع إلى الله أن يغفر لنا واقعنا المنحرف كله، وستزول أنت، وسيزول ملكك إن عاجلا أو آجلا، وسيزول كل هؤلاء الذين من حولك، ممن يزينون لك الباطل ويشوهون لك الحق، ويساعدونك في ظلم الناس، ويمنعونك عن العدل، ويبقى الله.. ويبقى ملكه.. ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 73] للإنسان في الدنيا والآخرة، لأنه الرب العظيم الذي يرحم خلقه ويرعاهم، ويهيئ لهم سعادة الدنيا والآخرة إذا أطاعوه وعملوا بما يحب.

ثم ذكر لنا ما ذكروه من اهتمامهم بالمصير الذي سيصيرون إليه، والذي لا تساوي الدنيا أمامه شيئا، فقال (1): لقد قالوا بلسان حالهم ومقالهم: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ [طه: 74] عاصيا منحرفا من دون أن يتوب إلى الله من ذنوبه، أو يصحح طريقه، ﴿فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [طه: 74] لأنه لن يذوق فيها لذة الحياة، ولن يستريح فيها في هدأة الموت وراحته، بل يظل في عذاب متحرك بين الموت والحياة، جزاء على تمرده على الله وانحرافه عنه من دون حجة ولا هدى.. ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ﴾ [طه: 75] فكان إيمانه متحركا في مواقع الفكر والروح والشعور، ومتجسدا في حركة الواقع العملي في حياته وحياة الناس من حوله، بما يصلح أمره وأمرهم، ويرفع مستوى حياته وحياتهم، طاعة لله، وطلبا لرضاه، ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75] التي أعدها الله لعباده

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 136)

القرآن.. والعزاء والشفاء (221)

المؤمنين الصالحين، تبعا لدرجاتهم في الايمان والتقوى والالتزام، فكل درجة في الآخرة تقابل درجة في الإيمان في الدنيا، ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: 76] وطهر فكره وروحه من كل أرجاس الباطل والشهوات والمطامع والضلال، وذلك هو الفوز العظيم.

ثم ختم حديثه عنهم بقوله (1): وهكذا استطاع هؤلاء أن يقفوا الموقف الذي يؤكدون من خلاله إيمانهم وتمردهم على كل التهديدات القاسية التي وجهها إليهم فرعون، لأنهم ارتفعوا بإيمانهم بالله، وانفتاحهم على عالم الغيب، عن كل مواقع الخوف ونقاط الضعف، وانطلقوا مع قوة الله التي لا قوة فوقها أو معها.. إلا من خلالها..

ثم قال لنا، وكأنه يدعونا إلى إعادة تلك المشاهد القرآنية إلى الحياة (2): وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه القرآن للمجاهدين الذين قد يقفون مثل هذا الموقف أمام طغاة زمانهم، فيواجهون التهديد بالسجن والقتل والصلب، ليتنازلوا عن مواقفهم، وليتركوا مواقعهم، وليسقطوا أمام التجربة الصعبة، فيتعلمون من هؤلاء السحرة الذين رفضوا كل الامتيازات التي كانوا يملكونها في حكم فرعون من مال وسطوة وجاه، لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، والتزموا بالله وتركوا فرعون، فلم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء، أمام الآخرة التي تمثل لهم كل شيء.

الشاهد الخامس

بعد أن انتهى الشاهد الرابع من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا أيضا تشرفت بما تشرف به رفاقي الذين جعلهم الله تعالى سببا لخروج بلدتنا من نير المستضعفين،

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 137)

(2) من وحي القرآن (15/ 138)

القرآن.. والعزاء والشفاء (222)

وتنعمها بالانضمام لصفوف المنتصرين بربهم.

وقد سمعت في أول لقاء لي بمعلمنا الكاظم ما ذكره عن قصة أصحاب الكهف الذين استطاعوا أن يواجهوا طغاة زمانهم بكل قوة، وكيف كان إيمانهم سببا في ذلك.

لقد قال لنا بطريقته الخاصة في تصوير المشاهد القرآنية (1): إن هذه القصة تعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة، كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس، وكيف يرعى الله هذه النفوس المؤمنة، ويقيها الفتنة، ويشملها بالرحمة.

وعندما سألناه أن يذكر لنا من التفاصيل ما لم يرد في القرآن الكريم، قال (2): في القصة روايات شتى، وأقاويل كثيرة، فقد وردت في بعض الكتب القديمة بصور شتى.. ونحن نقف فيها عند حد ما جاء في القرآن الكريم، فهو المصدر الوحيد المستيقن، ونطرح سائر الروايات والأساطير التي اندست في التفاسير بلا سند صحيح، وبخاصة أن القرآن الكريم قد نهى عن استفتاء غير القرآن فيها، وعن المراء فيها والجدل رجما بالغيب.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: 9 ـ 12]، ثم قال (3): هذا تلخيص يُجمل القصة، ويرسم خطوطها الرئيسية، فنعرف أن أصحاب الكهف فتية ـ لا نعلم عددهم ـ آووا إلى الكهف وهم مؤمنون، وأنه ضرب على آذانهم في الكهف ـ أي ناموا ـ سنين معدودة ـ لا نعلم عددها ـ وأنهم بعثوا من

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2260)

(2) في ظلال القرآن (4/ 2261)

(3) في ظلال القرآن (4/ 2261)

القرآن.. والعزاء والشفاء (223)

رقدتهم الطويلة، وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم، ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء، وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله، وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم.

سكت قليلا، ثم قال (1): وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ القرآن الكريم في التفصيل، ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة، وهو الحق اليقين: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 13 ـ 16].. هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ [الكهف: 13].. ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13] بإلهامهم كيف يدبرون أمرهم، ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف: 14] فإذا هي ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت، معتزة بالإيمان الذي اختارت ﴿إِذْ قَامُوا﴾ [الكهف: 14].. والقيام حركة تدل على العزم والثبات، ﴿فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الكهف: 14]، فهو رب هذا الكون كله ﴿لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا﴾ [الكهف: 14].. فهو واحد بلا شريك، ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: 14].. وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب.. ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة: ﴿هَؤُلَاءِ

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2261)

القرآن.. والعزاء والشفاء (224)

قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: 15]، فهذا هو طريق الاعتقاد: أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول، وإلا فهو الكذب الشنيع، لأنه الكذب على الله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: 15]

سكت قليلا، ثم قال (1): وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما، لا تردد فيه ولا تلعثم.. إنهم فتية، أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما عليه قومهم.. ولقد تبين الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة، ولا بد من الفرار بالعقيدة.. إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل، إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداروهم، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله، والأرجح أن أمرهم قد كشف، فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 16]..

ردد الآية الكريمة مرات متعددة، وكأنه ينبهنا إلى التدبر الجيد فيها، ثم قال (2): وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2262)

(2) في ظلال القرآن (4/ 2262)

القرآن.. والعزاء والشفاء (225)

إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة، ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الكهف: 16] ولفظة ﴿يَنْشُرْ﴾ [الكهف: 16] تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق.. إنه الإيمان.. وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟.. إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن، عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان.

ثم راح يردد بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 17 ـ 18]، ثم قال (1): هذا مشهد تصويري عجيب، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف، كما يلتقطها شريط متحرك، والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة، ولفظ ﴿تَزَاوَرُ﴾ [الكهف: 17] تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها.. والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه، وقبل أن يكمل نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2262)

القرآن.. والعزاء والشفاء (226)

سياق القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الكهف: 17].. وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب منهم بضوئها، وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون.. ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: 17].. وللهدى والضلال ناموس، فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن، ولن تجد له من بعد هاديا.

سكت قليلا، ثم قال (1): ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب، وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة، فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود، وكلبهم ـ على عادة الكلاب ـ باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم، وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم، إذ يراهم نياما كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون، وذلك من تدبير الله كي لا يعبث بهم عابث، حتى يحين الوقت المعلوم.. وفجأة تدب فيهم الحياة، فلننظر ولنسمع: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 19 ـ 20]

قرأ الآيتين الكريمتين بصوت خاشع، ثم قال (2): إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة، فيعرض هذا المشهد، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس.. إنهم يفركون أعينهم، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل: كم لبثتم؟

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2263)

(2) في ظلال القرآن (4/ 2263)

القرآن.. والعزاء والشفاء (227)

كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل، ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل، ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [المؤمنون: 113] ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها، ويدعوا أمرها لله ـ شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله ـ وأن يأخذوا في شأن عملي، فهم جائعون، ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة: ﴿قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: 19].. أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه.. وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجما ـ بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلها واحدا في المدينة المشركة ـ أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب.. وهذه هي التي يتقونها، لذلك يوصون الرسول أن يكون حذرا لبقا: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 19 ـ 20].. فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك، وإنها للخسارة الكبرى.

سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم، حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد كرت، وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالا قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف وأن الأقاويل حولهم متعارضة حول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم.. وهنا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر، وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني.. ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون، فهم شديد

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2264)

القرآن.. والعزاء والشفاء (228)

والحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد.

ثم راح يحاول بكل جهده يصور لنا ما حصل، فقال (1): ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية، بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود، وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون، وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم، فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين، وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد.. كله قد تقطع، فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية.. فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم.. لنا أن نتصور هذا كله، أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير، مشهد وفاتهم، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم: على أي دين كانوا، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال، ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21].. إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس، يقرب إلى الناس قضية البعث، فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق، وأن الساعة لا ريب فيها.. وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم.

ثم ختم حديثه عنهم بقوله (2): ويسدل الستار على هذا المشهد، ثم يرفع لنسمع

__________

(1) في ظلال القرآن (4/ 2264)

(2) في ظلال القرآن (4/ 2265)

القرآن.. والعزاء والشفاء (229)

الجدل حول أصحاب الكهف ـ على عادة الناس يتناقلون الروايات والأخبار، ويزيدون فيها وينقصون، ويضيفون إليها من خيالهم جيلا بعد جيل، حتى تتضخم وتتحول، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22].. فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه، وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة، أو أكثر.. وأمرهم موكول إلى الله، وعلمهم عند الله، وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة، فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم، والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير، لذلك يوجه القرآن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ترك الجدل في هذه القضية، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم، تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد، وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق، وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله، فليترك إلى علم الله.

3. البذل والتضحية

بهذا الحديث انتهى المشهد الثاني من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الثالث، والذي تعلمت منه معنى البذل والتضحية، وأثرهما في العزاء والسلوى.

وقد بدأ هذا المشهد، بعد انتهائي من الاستماع لأحاديث أولئك الفتية الذين كانوا يتدربون، وقد طلبوا مني بعدها أن أسير إلى بلدتهم لنلتقي من نشاء من أهلها، وقد كان

القرآن.. والعزاء والشفاء (230)

أول ما مررت به مقبرة كُتب على بابها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]

الشاهد الأول

فدخلت إليها، وقمت بما ورد في السنن من الآداب المرتبطة بها، ثم اقتربت من أحد القبور، فسمعت امرأة تخاطب ابنها الشهيد بقوله: لست أدري ما أقول لك يا بني.. هل أفرح بك، أم أحزن عليك؟

ثم مسحت بعض الدموع من عينيها، وقالت: وكيف أحزن عليك، وأنت الذي كنت سببا في تغيير حياتي وحياة من حولي من الناس.. لقد كانت دماؤك ودماء رفاقك الزكية، هي سبب ما ننعم به من رحمة وعدالة وإحسان.. لقد صرنا نمارس شعائر ديننا بكل حرية، وصرنا نجني ثمار زرعنا من غير أن يشاركنا فيه أحد ما عدا الفقراء والمساكين والمحرومين الذين استشهدت واستشهد رفاقك، وأنت تدافع عنهم.

سكتت قليلا، ثم قالت: نسيت أن أخبرك أن معلمنا الكاظم، زارنا بعد استشهادك بفترة قصيرة.. زارنا في بيتنا.. وعزانا فيك، وكان مناسبة لأن نسمع منه الكثير من المعاني التي كانت العزاء الأكبر لنا.

لقد قرأ علينا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171]، ثم قال (1): الله تعالى يعزينا ويعزيكم في هذه الآيات الكريمة،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 640)

القرآن.. والعزاء والشفاء (231)

ويخبرنا بأن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله، قد استوفوا آجالهم في الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قُتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند الله.. ثم إن هؤلاء القتلى (شهداء) أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت.. وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين.. وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون بالله، فلا يرون في الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره في الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من دار إلى دار.. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء.

ثم ذكر لنا الفرق بين المؤمنين وغيرهم في هذا، فقال (1): ومن أجل هذا يستخف المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعد لعباده الله الصالحين.. أما غير المؤمنين بالله، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم.. ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم ـ كما يتصورن ـ هو الذي ينتظرهم بعده.. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم ـ حسب معتقدهم ـ لا يلتقون به أبدا.

ثم ذكر لنا الحقيقة الجميلة التي يدلنا عليها القرآن الكريم، والتي تجعلنا لا نحزن للشهداء، بل نستبشر ونفرح بهم، فقال (2): هذه هي الحقيقة.. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء في العالم الآخر.. والقرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 641)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 641)

القرآن.. والعزاء والشفاء (232)

كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلا ما يبعث في قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169] فيجدون هؤلاء القتلى أحياء في العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: 170].. فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشف، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها، هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم الله من فضله، وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة.. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزى به، ويستبشر المؤمنون.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة، بل هم في حياة قوية كاملة، بحيث تشمل عالمهم العلوى الذي نقلوا إليه، وعالمهم الأرضى الذي انتقلوا منه.. فهم في هذا العالم العلوي، إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم في فضل من الله ونعمة، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم في سبيل الله، وباستشهادهم في هذه السبيل، يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد، فيستبشرون لذلك، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 642)

القرآن.. والعزاء والشفاء (233)

﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 171].. فكما وفي الله هؤلاء الذين استشهدوا في سبيل الله، سيوفى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، ولا يبخس ثواب المجاهدين.

ثم حدثنا بالكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تؤكد ذلك، وتفصله، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في الجنة، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة؛ لئلا يزهدوا في الجنة، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171])(1)

ثم حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171] فقال: (أرواحهم تسرح من الجنة حيث شاءت، فقال لهم ربهم: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل، ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد، أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، وتقرأ نبينا السلام وتخبره أن قد رضينا ورضي عنا، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(2)

__________

(1) أبو داود (2520)

(2) مسلم (1887)

القرآن.. والعزاء والشفاء (234)

وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة)(1)

وأخبرنا عن رضوان الله ومحبته التي تنال الشهداء، حيث حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله)(2)

ثم ذكر لنا الجوائز العظيمة التي ينالها الشهيد بمجرد شهادته، فقال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)(3)

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحبا بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة يكسى من كسوة الجنة، والرابعة تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة أن يرى منزله، والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت، والسابعة أن يرضى الله عنه وإنها لراحة لكل نبي وشهيد)(4)

ومن تلك الجوائز هذه الجائزة العظيمة التي جعلتنا نفرح ونستبشر، وهي ما عبر عنه

__________

(1) البخاري (2817)، ومسلم (1877)

(2) الترمذي (1669)

(3) الترمذي (1663)

(4) التهذيب 6/ 121/208.

القرآن.. والعزاء والشفاء (235)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)(1).. لقد جعلتنا هذه الجائزة نشعر بأن اليد التي مددتها إلينا في الدنيا لتنقذنا بها، ستمدها إلينا أيضا في الآخرة، حين يأذن الله لك أن تشفع في عباده.

وهكذا سمعنا منه الأحاديث الكثيرة في فضل الشهداء، والتي جعلتنا نشعر بالفرح والسرور والسعادة، بدل الآلام والأحزان.

الشاهد الثاني

بعد أن استمعت إلى تلك المرأة، وحديثها مع ابنها، اقتربت من قبر آخر، وجدت فيه بعض الفتية يقفون أمام قبر، وفي حالة تجمع بين الحزن والفرح، وقد قال أحدهم مخاطبا الشهيد صاحب القبر: هنيئا لك يا رفيق دربنا.. لقد آثرك الله علينا، واختارك إلى جواره، وتركنا للمسؤوليات العظيمة التي تنوء لها الجبال.. فنحن مطالبون بأن نظل أوفياء لدمائك التي سقيت بها شجرة حريتنا.

قال آخر: لا نزال نذكر جيدا موقفك البطولي أمام الطغاة والظلمة، من غير أن تخافهم، ولا أن تحسب لهم أي حساب، لذلك لم يجدوا سوى أن يصلبوك كما صُلب من قبلك الكثير من الشهداء والصالحين.

قال آخر: إن كلماتك التي قلتها، وأنت على الصليب، وبمرأى جميع الناس، كانت وقودا أحرق عروشهم وممالكهم واستبدادهم.. لقد رددت حينها ما قاله الإمام الحسين: (ليس شأني شأن من يخاف الموت.. ما أهون الموت على سبيل نيل العز وإحياء الحق، ليس الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حياة معه..

__________

(1) أبو داود (2522)

القرآن.. والعزاء والشفاء (236)

أفبالموت تخوفني هيهات طاش سهمك وخاب ظنك، لست أخاف الموت، إن نفسي لأكبر من ذلك، وهمتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفا من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟.. مرحبا بالقتل في سبيل الله ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزي وشرفي، فإذا لا أبالي بالقتل)(1)

ثم خاطبت جموع الحاضرين بما قاله الإمام علي: (أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش)(2).. وقوله في بعض خطبه: (إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه.. وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالإسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.. وأديل الحق بتضييع الجهاد وغضب الله عليه بتركه نصرته وقد قال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7])(3)

وقد بادر الطواغيت حينها إلى قتلك في غير الموعد المحدد لذلك، بعد أن رأوا تأثير كلماتك في الحاضرين.. فقد طلبوا منهم أن يحضروا ليملؤوهم بالمخافة، لكنهم ملؤوهم بالشجاعة والقوة.

قال آخر: بعد شهادتك بأيام زارنا معلمنا الكاظم، وراح يربط واقعنا بالواقع الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قدم لذلك بقراءة قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

__________

(1) إحقاق الحق 11/601، أعيان الشيعة 1/581.

(2) الكافي 5/ 53/4.

(3) الكافي 5/ 4/6، التهذيب 6: 123/ 216.

القرآن.. والعزاء والشفاء (237)

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 22 ـ 24]، ثم قال (1): لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في غزوة الأحزاب ـ والتي لا تختلف عن الأهوال التي تواجهونها ـ من الضخامة، وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة، وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا، كما قال عنهم أصدق القائلين: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 11].. لقد كانوا ناسا من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية وبشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق.. على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.. لكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].. وها هم أولاء يزلزلون، فنصر الله إذن منهم قريب، ومن ثم قالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: 22].. ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22].. ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب:

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2843)

القرآن.. والعزاء والشفاء (238)

22].. هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق، وعدنا عليه النصر.. فلا بد أن يجيء النصر: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: 22].. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها.. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22]

ثم قال لنا (1): لقد كانوا ناسا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر.. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ولا أن يخرجوا من اطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته، فلهذا خلقهم الله.. خلقهم ليبقوا بشرا، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرا.. كانوا ناسا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة، ولكنهم كانوا ـ مع هذا ـ مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. ولهذا، فإن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.

ثم حدثنا عن نموذج لهؤلاء الصادقين، وهو ما حدث به ثابت قال: (عمي أنس بن النضر لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع، فهاب أن يقول غيرها.. فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو.. أين واها لريح الجنة.. إني أجده دون أحد.. فقاتلهم حتى قُتل.. فوجد

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2844)

القرآن.. والعزاء والشفاء (239)

في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه، فنزلت هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23]

ثم قال (1): وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق، لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن.. ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء، وعاقبة النقض والوفاء وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 24].. ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد، ليرد الأمر كله إلى الله، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع، فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة.. إنما تقع وفق حكمة مقدرة، وتدبير قاصد، وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب، وفيها تتجلى رحمة الله بعباده، ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 24]

قال آخر: وفي ذلك المساء، عقدنا مجلسا للعزاء، وبعدما قرأ القارئ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]، قال المعلم (2): هكذا تكون الحياة في كل مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئا، إلا لتأخذ شيئا مقابلا له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما.

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2845)

(2) من وحي القرآن (1/ 156)

القرآن.. والعزاء والشفاء (240)

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: 10 ـ 11]

ثم قال: وفي مقابل هؤلاء يذكر الله تعالى الخسارة العظيمة للضالين المنحرفين، فيقول: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15]، ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 36 ـ 37]

ثم قال: وقد حدثنا الله تعالى عن الفوز في الآخرة كمقياس يتميز به الفائزون من الخاسرين، فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، وقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72]

بعد أن قرأ هذه الآيات الكريمة جميعا قال (1): هناك عملية بيع وشراء مع الله، فالمؤمن هو البائع الذي باع نفسه وماله لله، والله هو المشتري الذي جعل الجنة عوضا عن ذلك.. وإذا كان الله يملك الإنسان في ماله ونفسه، فكيف نتصور مسألة البيع هذه؟..

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 216)

القرآن.. والعزاء والشفاء (241)

ويمكن الجواب عن ذلك بأن الله أراد الإيحاء للإنسان بأنه يترك له الحرية فيما يتصرف به من ماله ونفسه، ليحدد هو طبيعة تصرفاته فيهما، ولمن يكون البيع، هل هو للمالك الأصلي الحقيقي؟.. أو هو للمالكين الطارئين الذين لا يملكون شيئا من نفسه وماله؟.. وفي هذا الجو، يتمثل إيمان الإنسان، في مدلوله العميق، بيعا للمال والنفس، لله تعالى، وهذا ترجمة لمعنى العبودية الحقة لله تعالى، هذا المعنى الذي يؤكد معنى المملوكية المطلقة لله، حيث لا يملك العبد، في جنب الله، حرية التصرف في ماله ونفسه وكل ما تحت يديه في غير المجال الذي أراده الله منه، وهو خط الجهاد، وفي المقابل، فإن العبد سيفوز بالجنة لقاء ما يدفعه ثمنا لها.

سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا تكون الحياة في كل مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئا، إلا لتأخذ شيئا مقابلا له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما، وعلى ضوء ذلك، نعرف طبيعة تجارة الطواغيت والمجرمين، فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة، والذي يضعهم في تيه لا نهاية له من الحيرة والتمزق، وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة، وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح، في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق، مما جعلهم في ضياع دائم وتخبط مستمر، وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجر من أعماق القلوب المؤمنة السابحة أبدا في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من روح الله.

__________

(1) من وحي القرآن (1/ 156)

القرآن.. والعزاء والشفاء (242)

ثم التفت إلينا، ينبهنا إلى استعمال هذا الأسلوب القرآني في إقناع الناس بضرورة الثورة على الطغاة، فقال (1): من هنا، ينبغي عليكم أن تتوفروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملكم الدعوي إلى الله، فقد تلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة، فتحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خط الله أو ابتعادهم عنه، ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا، ثم الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة، كمجال حيوي من المجالات التي تتحرك فيها حسابات الربح والخسارة، والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك، كما حدثنا الله عن ذلك في مواضع مختلفة من القرآن الكريم.

سكت قليلا، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 1 ـ 5]، ثم قال (2): هذا مثال قرآني على ذلك.. فأبو لهب، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية، التي واجهتها الدعوة الإسلامية، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ، وضلال مبين.. ومع أنه كان عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب، ظالما أو مظلوما، كما كان ذلك شأنهم، فإن هذا الشقي كان من أسفه السفهاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأشدهم عدوانا عليه، وأكثرهم أذى له، حتى إنه ـ وعلى غير تقاليد الجاهلية ـ يدخل معه امرأته في هذه العداوة، ويجرها جرا إلى تلك المعركة التي يخوضها ضد النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا كان الرجل الوحيد من قريش الذي ذكره القرآن باسمه، وأعلن في العالمين عداوته لله، وغضب الله عليه، ووقوع بأسه وعذابه به، وذلك ليكون لعنة على كل لسان إلى يوم الدين، لا يذكر

__________

(1) من وحي القرآن (1/ 157)

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1703)

القرآن.. والعزاء والشفاء (243)

اسمه إلا ذُكر مدموغا باللعنة، مرجوما بالشماتة والازدراء، تتبعه امرأته مشدودة إليه بحبل من مسد، كما كانت مشدودة إليه في الدنيا بحبل عداوتهما للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وحسدهما له..

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1]، ثم قال (1): هذا دعاء على أبى لهب من الله سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكنة له من الشر والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كان اليد دائما هي مظهر آثار الإنسان، بها يأخذ، وبها يعطى.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسرى مقامها، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزا عن أن يحصل خيرا، أو يتناول خيرا، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَبَّ﴾ [المسد: 1] أي هلك هو، بعد أن قطعت يداه.

سكت قليلا، ثم قال (2): بل هذا خبر على حقيقته، وهو خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال، لقد ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه، ولا سلامة لسائر فيه، وكذلك امرأته التي ركبت معه هذا الطريق، وعلقت فيه حبالها بحباله.. والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة تحقق وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم.. وفي هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس.. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: 2]، ثم قال (3): هذا تعقيب

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1704)

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1704)

(3) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1705)

القرآن.. والعزاء والشفاء (244)

على هذا الخبر، فقد هلك أبو لهب، ونزل به ما نزل من هوان وخسران، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه، واعتز به، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم.. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه.. إنه في قيد الهلاك وهو بين أيديهم.. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته؟.. إنه بين مخالب عقاب محلق به في السماء.. إن سقط من بين مخالبه هلك، وإن مضى به هلك.. وقد قيل: إن أبا لهب قد أصيب بداء يسمى العدسة ـ ولعله الطاعون ـ وكانت العرب تخشى هذا الداء، وتتحاشى المصاب به، وكان ذلك بعد غزوة بدر ببضعة أيام، فلما مات بدائه هذا، لم يقترب أحد من أبنائه لمواراته في التراب، خوفا من هذا الداء، بل ألقوا عليه الحجارة من بعيد حتى أخفوا جثته، وكأنهم يرجمونه، ويشيعونه بهذه الرجوم، وهم يذرفون الدمع الحزين عليه.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 3].. ثم قال (1): هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب في الآخرة، بعد أن عرف مصيره في الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه في الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر، وكيف قُتل صناديدها، وأسر زعماؤها.. وفي وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنى بها (أبو لهب)، فقد ولد، وهو يلبس هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقودا يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها في الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4].. ثم قال (2): حمالة الحطب،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1706)

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1706)

القرآن.. والعزاء والشفاء (245)

هي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة، وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتهيج عداوة المشركين له.. فقد كانت امرأة أبى لهب ـ واسمها أم جميل بنت حرب، أخت أبى سفيان ـ من أشد نساء قريش عداوة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وسلاطة لسان، وسوء قالة فيه، كما كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشركى قريش كلهم.. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة، وتتزاوج، وتتوافق، وتتجاذب.

ثم قال (1): تأملوا جيدا في وصف امرأة أبى لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله، لا بد أن يشتعل يوما، وقد كان.. فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم.. وتأملوا مرة أخرى إلى هذا الإعجاز في التفرقة بين أبى لهب وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطبا، وحسب.. وهذا الحطب ـ وإن كان من وقود النار ـ إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها، ويعلق بها.. وأما وقد خالطها أبو لهب فلا بد أن تشتعل، وتحترق.

ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 5] ثم قال (2): في تعليق هذا الحبل في جيد أم جميل، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفي تشويه خلقها.. فما أبشع (جيد) امرأة كان من شأنه أن يتحلى بعقد من كريم الجواهر، يشد إليه حبل من ليف.. إنه إهانة لعزيز، وإذلال لكريم.. وإن الإهانة للعزيز، والإذلال للكريم، لأقتل للنفس، وأنكى للقلب، من إهانة المهين، وإذلال الذليل! فكلمة (جيد) هنا مقصودة لذاتها، إنه يراد بها ما

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1707)

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1708)

القرآن.. والعزاء والشفاء (246)

لا يراد بلفظ رقبة، أو عنق.. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش، ومن بيوتاتها المعدودة فيها، لتلقى بها في عرض الطريق، وهى تحمل على ظهرها حزم الحطب، وتشدها إلى جيدها بحبل من ليف.. ولهذا فزعت المرأة، وولولت حين سمعت هذا الوصف الذي وصفها القرآن الكريم به، فخرجت ـ كما يقول الرواة ـ في جنون مسعور، تستعدى قريشا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هجاها ـ كما تزعم ـ هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ.

4. الاستعاذة والاستعانة

بهذا الحديث انتهى المشهد الثالث من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الرابع، والذي تعلمت منه معنى الاستعاذة والاستعانة، وأثرهما في العزاء والسلوى.

وقد بدأ هذا المشهد بعد انتهائي من الاستماع لحديث تلك الأم، وأولئك الفتية في مقبرة الشهداء.

وقد كان أول ما صادفني بعد مغادرتي لها دارا كبيرة كُتب عليها [دار الحكمة]، وقد سألت بعض المارين عنها، فقال: كانت هذه الدار في عهد المستبدين والظلمة يُطلق عليها [دار الندوة]، حيث كان أكابر المجرمين يجتمعون فيها ليتسلطوا على الضعفاء والمحرومين.. وقد رأى حكماؤنا الذين حقق الله على أيديهم التخلص من كل أولئك الطغاة، الإبقاء عليها كما هي مع تبديل اسمها إلى [دار الحكمة]، وقد كان أول من افتتحها بهذا الاسم الجديد معلمنا الكاظم.

قلت: فمتى تفتح لأرى الحكماء الذين يتولون إدارتها؟

ابتسم، وقال: وهل يمكن لباب الحكمة أن يُغلق.. هذه الدار مفتوحة ليل نهار..

القرآن.. والعزاء والشفاء (247)

وليس لها مدير ولا مسؤول، بل كل من آتاه الله شيئا من العلم والحكمة يأتي إليها لينير أصحابه بما علمه الله، وقد يصححوا له، أو يوجهوه.

قلت: فهل يمكنني أن أدخل إليها؟

قال: بل يجب أن تدخل إليها.. ألست تلميذ القرآن الذي كُلف بأن يعرف العزاء الذي وفره الله لنا ولأمثالنا في القرآن الكريم؟

قلت: أجل.. فكيف عرفتني؟

قال: لا تسأل عما لا يعنيك.. وادخل إلى الدار.. ولا تنس أن تكتب كل ما تسمع، فلن تسمع فيها إلا الحكمة التي لا يمكن أن ينال العزاء ولا السلوى إلا من شرب من منابعها الصافية.

دخلت الدار، فوجدت شيوخا وكهولا وشبابا وصبية مجتمعين.. يستمع بعضهم لبعض.

الشاهد الأول

قال أحدهم، وكان شيخا كبيرا: اسمحوا لي أن أشهد لكم بأني كنت من أكثر المتأخرين عن إجابة معلمنا الكاظم، لا لشكي في علمه ودينه ونصحه، ولكن لخوفي من أولئك الطغاة الذين كانوا يتسلطون علينا، فقد كانوا لا يرحمون أحدا.

لكني، وفي المجلس الأول من المجالس التي تشرفت بالجلوس إليه فيها، زال عني كل ذلك الخوف، لأني أيقنت أن الله تعالى لن يضيع المظلومين ولا المستضعفين إن جدوا في مواجهة من ظلمهم واستضعفهم.

وقد كان أول ما سمعت منه قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]، ثم قال: هذه الآية تخبر عن موقف موسى عليه السلام

القرآن.. والعزاء والشفاء (248)

عندما خرج بصحبة بني إسرائيل، فاشتد حنق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:61]، وذلك لأنهم (عاشوا القهر والاستعباد من فرعون حتى تأصل الخوف في نفوسهم، وتعمق الرعب منه في قلوبهم، ففقدوا الثقة بأنفسهم، وابتعدوا عن التفكير في قوة الله)(1)

ثم قال لنا (2): حينها قال موسى عليه السلام: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].. كلا، في شدة وتوكيد.. كلا لن نكون مدرَكين.. كلا لن نكون هالكين.. كلا لن نكون مفتونين.. كلا لن نكون ضائعين.. ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62] بهذا الجزم والتأكيد واليقين.. وفي اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: 63]، ولا يتمهل السياق القرآني ليقول إنه ضرب بعصاه البحر، فهذا مفهوم، إنما يعجل بالنتيجة: ﴿فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: 63]، ووقعت المعجزة، وتحقق الذي يقول عنه الناس: مستحيل، لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور.. والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عند ما يريد.. وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق، ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم، واقتحم بنو إسرائيل، ووقف فرعون مع جنوده مبغوتا مشدوها بذلك المشهد الخارق، وذلك الحادث العجيب.. ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتا فأطال الوقوف ـ وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف ـ قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب..

__________

(1) من وحي القرآن (17/ 118)

(2) في ظلال القرآن (5/ 2599)

القرآن.. والعزاء والشفاء (249)

ثم قال، والبسمة تعلو محياه (1): وتم تدبير الله، فخرج بنو إسرائيل من الشاطئ الآخر، بينما كان فرعون وجنوده بين فرقي الماء أجمعين، وقد قربهم الله لمصيرهم المحتوم: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: 64 ـ 66]، ومضت آية في الزمان، تتحدث عنها القرون، فهل آمن بها الكثيرون؟.. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 190]، فالآيات الخارقة لا تستتبع الإيمان حتما، وإن خضع لها الناس قسرا، إنما الإيمان هدي في القلوب.. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 191]

الشاهد الثاني

بعد أن انتهى الشيخ من حديثه، قام آخر، وقال: لقد ذكرني حديثك هذا بحديث آخر سمعته منه، لكن ليس مرتبطا بموسى عليه السلام، وإنما بإبراهيم عليه السلام، والمكايد التي دبرها له قومه ليقتلوه ويحرقوه، لكن الله نجاه منهم.

لقد ذكر لنا ذلك في بعض زياراته لنا، وقدم له ـ كعادته ـ بقراءته بصوته الخاشع لقوله تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 68 ـ 73]

ثم ألقى نظرة حانية علينا جميعا، ثم قال (2): ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 68].. هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا

__________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2599)

(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 917)

القرآن.. والعزاء والشفاء (250)

أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه.. لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: ﴿حَرِّقُوهُ﴾ [العنكبوت: 24].. هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه.. اهجموا عليه.. حرقوه.. وفي قولهم: ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: 68] تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم في هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده في وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحل به من بلاء.. وفي قولهم: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 68] تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم.. أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم.. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر.. وهكذا أمضى القوم حكمهم في إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها..

سكت قليلا، ثم قال (1): لكن رحمة الله التي أدركت موسى عليه السلام فنجا من فرعون هي نفسها التي تداركته، وأحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه.. ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69].. وفي قوله تعالى: ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: 109].. بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير، تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه..

ثم قال (2): انظروا إلى قدرة الله.. النار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم في لهيبها المتضرم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه، فكان قوله تعالى: ﴿وَسَلَامًا﴾ [الفرقان: 75] هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشى بعد نهار قائظ.. ثم

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 918)

(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 918)

القرآن.. والعزاء والشفاء (251)

عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 70].. أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء، فنجاه الله منهم، وألبسهم ثوب الخسران في الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعد الله لهم في الآخرة عذابا عظيما.. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71].. أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]، وقد نجى الله معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 26]

سكت قليلا، ثم قال (1): ثم يذكر الله تعالى كيف صب النعم على عبده إبراهيم عليه السلام صبا، فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 72]، أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن نجى إبراهيم من قومه، أكرمه الله تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثره، فكان أمة.. وفي قوله تعالى: ﴿نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: 72] إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب.. وفي قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 72] إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد الله الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين.. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 73]، أي ولم يكونوا صالحين في أنفسهم وحسب،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 919)

القرآن.. والعزاء والشفاء (252)

بل كانوا دعاة صلاح، وأئمة هدى، يدعون الناس إلى الخير، ويهدونهم إلى طريق الفلاح.

نظر المعلم إلى بعض شبابنا الصغار، وقال (1): لقد جاء في بعض كتب التفسير أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار لم يكن عمره يتجاوز ست عشرة سنة، وذكر آخرون أن عمره عند ذاك كان (26) سنة.. على كل حال فإنه كان في عمر الشباب، ومع أنه لم يكن معه أحد يعينه، فإنه رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حاميا للطواغيت الآخرين، وهبّ بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك، واستهزأ بكل مقدسات المجتمع الخيالية الواهية، ولم يدع للخوف من غضب وانتقام الناس أدنى سبيل إلى نفسه، لأن قلبه كان مغمورا بعشق الله، وكان اعتماده وتوكله على الله تعالى فحسب.. أجل.. هكذا هو الإيمان، أينما وجد وجدت الشهامة، وكل من حل فيه فلا يمكن أن يقهر.

ثم قال (2): إن أهم الأسس التي ينبغي علينا جميعا الاهتمام بها لمقارعة القوى الشيطانية الكبرى في دنيا اليوم المضطربة، هو هذا الأساس والرأسمال العظيم، وهو الإيمان، وقد قال الإمام الصادق في هذا: (إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغير قلبه)(3)

افتر ثغر المعلم عن ابتسامة جميلة، ثم قال (4): لقد جاء في بعض كتب التاريخ أنه عندما ألقوا إبراهيم عليه السلام في النار، كان نمرود على يقين من أن إبراهيم قد أصبح رمادا، أما عندما دقق النظر ووجده حيا، قال لمن حوله: إني أرى إبراهيم حيا، لعلي يخيل إلي.. فصعد على مرتفع ورأى حاله جيدا فصاح نمرود: يا إبراهيم إن ربك عظيم، وقد أوجد بقدرته حائلا بينك وبين النار.. ولذلك فإني أريد أن اقدم قربانا له، وأحضر أربعة

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 199)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 200)

(3) سفينة البحار، ج 1، ص 37.

(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 200)

القرآن.. والعزاء والشفاء (253)

آلاف قربان لذلك، فأعاد إبراهيم القول عليه بأن أي قربان ـ وأي عمل ـ لا يتقبل منك إلا أن تؤمن أولا.. غير أن نمرود قال: فسيذهب سلطاني وملكي سدى إذن، وليس بإمكاني أن أتحمل ذلك..

سكت قليلا، ثم قال: طبعا.. نحن لا نصدق هذا، ولا نكذبه.. لكن هذا يدل على أن من أعظم نعم الله علينا تشريفنا بكوننا عبيدا له.. فمن كان عبدا لله، كان موضع عناية تامة، وفي كل الأحوال، وإن فاتته بعض شؤون الدنيا الحقيرة، فلن تفوته الآخرة، ولهذا قال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 59]

الشاهد الثالث

بعد أن انتهى الشاهد الثاني من حديثه، قام آخر، وقال: لقد ذكرني حديثكم هذا بحديث آخر سمعته منه، لكن ليس مرتبطا بموسى ولا بإبراهيم عليهما السلام، وإنما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حدثنا معلمنا الكاظم بتفصيل عن الكثير من الآلام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنقذه الله تعالى منها.

ومن ذلك حديثه عن أحرج المواقف التي مر بها، حين كان في غار ثور، ولو أن أحدا من الشركين رمى ببصره لرآه.. ذلك الموقف العظيم الذي قصه الله تعالى علينا فقال: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:40]

فقد قرأ معلمنا الكاظم هذه الآية الكريمة، ثم قال (1): إننا نحتاج كثيرا إلى التدبر في

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 115)

القرآن.. والعزاء والشفاء (254)

المعنى الإيماني العميق الذي يوحيه الإيمان بالله، فيما ينصر به رسله، ويدعم به رسالاته، فالله لا يحتاج إلى أي عبد من عباده في تحقيق إرادته بالنصر، لأنه ولي القوة في الحياة كلها، فلا قوة لأحد إلا بإرادته، ولا سبب للقوة إلا منه.. وقد يكون السبب متصلا بالنواميس الطبيعية التي أودعها في الأشياء، وقد يكون مرتبطا بالأوضاع غير المألوفة في حركة الأسباب.. وبذلك، فلا مجال لأحد أن يتصور، أن الناس إذا ابتعدوا عن نصرة النبي، فإنه يفقد مبررات النصر، ليبقى في جميع الظروف تحت رحمة الناس، فيستطيعون من خلال ذلك ممارسة كل ألوان الضغط المادي والمعنوي عليه فيما يريدون منه، وما لا يريدون، فإن الله قادر على أن يحقق القوة من أكثر من سبب غير مألوف، لأنه هو الذي أعطى للأسباب المألوفة سببيتها.. وهذا ما أكده في كثير من المواقف التي نصر الله بها نبيه في ساعات الشدة، في الوقت الذي كانت كل الظروف العادية منطلقة في أجواء الهزيمة.

ثم قال (1): وهذا ما تثيره هذه الآية الكريمة في حديثها عن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة الهجرة، فقد حاصرته قريش من كل جانب، وسدت عليه كل نوافذ الخروج من بيته بعيدا عن رقابتهم من أجل أن تقضي عليه، ولكن الله أنقذه منهم بطريقة غير عادية، عند ما خرج من بيته، تاركا ابن عمه عليا يبيت في فراشه، ليوهمهم أنه لا يزال هناك، فأغلق الله أبصارهم عنه، عند ما رمى التراب فوق رؤوسهم وقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9]، ومر من بينهم فلم يبصره أحد.. وسار بعد ذلك حتى دخل الغار ـ غار ثور ـ في الطريق إلى المدينة، وردهم الله على أعقابهم خاسرين، من خلال ما دبره الله من أسباب غير مألوفة.

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 116)

القرآن.. والعزاء والشفاء (255)

ثم قال (1): ولهذا قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾ [التوبة: 40] أي إن امتنعتم عن نصره، فإن الله لا يعجز عن ذلك، كما فعل في ليلة الهجرة، ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: 40] وخلصه من أيدي قريش التي أطبقت على بيته وانتظرت الصباح لتهجم عليه ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: 40] من موطنه ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ [التوبة: 40]، فقد كان معه أبو بكر الذي تواعد وإياه على الخروج معا حتى دخلا الغار، وأقبلت قريش حتى وقفت على بابه، وبدأ الحوار فيما بينهم، بين قائل يحثهم على الدخول، وقائل يدفعهم إلى الرجوع.. وحينها اشتد الضغط على مشاعر أبي بكر.. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيش آفاق النصرة التي وعده الله بها، والله لا يخلف وعده، فكان يشجع أبا بكر على الثبات في الموقف، وعلى الاطمئنان لنصر الله ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40] فلو كان الناس بأجمعهم مع الإنسان وكان الله ضده، لم ينفعه ذلك شيئا، ولو كان الله معه وكان الناس ضده لم يضره ذلك شيئا.

سكت قليلا، ثم قال (2): لأن الله هو الذي يملك القوة كلها، فلا قوة لأحد إلا من خلال ما أعطاه، فهو الذي يملك من الإنسان ما لا يملكه الإنسان من نفسه، فإذا أراد رعاية عبد من عباده، برحمته وقوته ولطفه، فإنه يأخذ بكل أسباب القوة من خلال الله، وتلك هي الأجواء الروحية التي تطوف بالإنسان في ملكوت الله عند ما تشتد عليه الأهوال، وتضيق عليه السبل، وتكثر حوله التحديات، ويهجم عليه أهل البغي والطغيان، فإذا أحس من نفسه ضعفا أمام ذلك كله، وشعر بالحزن يزحف إلى قلبه، وبالخوف يسيطر على روحه، رجع إلى الله في روحية العبد الخاشع، وذهنية الإنسان الملتجئ إليه المعتصم به، فعاش معه في ابتهالاته ودعواته وروحية الصلاة في ضميره، فإذا بالضعف يتبدل إلى القوة،

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 116)

(2) من وحي القرآن (11/ 117)

القرآن.. والعزاء والشفاء (256)

وبالخوف يتحول إلى شعور بالأمن، وبالحزن ينطلق إلى الفرح الروحي، ليوحي لنفسه بأن الله معه، ليثبت أمام الزلزال، وليقول لإخوانه الذين يعيشون الاهتزاز الروحي والفكري والعملي أمام عواصف المحنة والبلاء: لا تحزنوا إن الله معنا.

ثم قال (1): وهذا هو الشعار الذي ينبغي لنا أن نثيره في وعينا وحياتنا ومسيرتنا في إحساس عميق بحضور الله في كل وجودنا، بالمستوى الذي تتمثل لنا فيه عناصر القوة كأروع ما تكون، في تحركاتنا ومنطلقاتنا، انطلاقا من وعي الرسالة في الرسول، وقوة الإيمان في النبي، وحركة القوة في الموقف النبوي المتجسد روحا وشعورا وحياة في أجواء الرسول العظيم.

سكت قليلا، ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 40]، ثم قال (2): هذا هو جزاء من كان الله معه.. لقد أنزل الله تعالى عليه السكينة فيما تمثله من طمأنينة روحية، وسكون نفسي، وهدوء شعوري، فلا اهتزاز ولا خوف ولا ضياع، بل هو الثبات والأمن والهدى الواضح.. إنها سكينة الإيمان الواثق بالله من موقع الإحساس بالحضور الإلهي في كل زمان ومكان كما لو كان يحسه ويراه. ويتقلب في ألطافه ورضوانه ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: 40] بسبب ما أرسله إليه من ملائكته أو من القوى الخفية التي تدعمه وتقويه وتحميه، مما لم نعلمه من خلال ما نملك من أدوات المعرفة الحسية، ولكن الله يعلمه من خلال قدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم.. و﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115]، وانتصر الرسول في مسيرته، ووصل إلى شاطئ النجاة في رحلته وأحبط كل كيد الكافرين، وحطم كل مكائدهم ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 117)

(2) من وحي القرآن (11/ 118)

القرآن.. والعزاء والشفاء (257)

السُّفْلَى﴾ [التوبة: 40] لأنهم لا يملكون أية وسيلة يرتفعون بها إلى الأعلى أمام إرادة الله فيما يريده من النزول بها إلى الأسفل، إذ ليس ثمة كلمة أخرى تعلو كلمته، مهما حاول الكافرون وتآمر المتآمرون ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التوبة: 40] في مضمونها ومدلولها وآفاقها وحركتها وسموها، لأنها تحمل في داخلها كل المعاني الكبيرة التي أراد الله للحياة أن تنطلق بها وتعيش معها، في سماوات الوحي والإبداع التي تحلق بالإنسان إلى الأعلى فتنقذه من وهدة السقوط ومن وحل الانحطاط، ليعيش مع الله في رحابه الواسعة وآفاقه العليا، ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40] فإذا أراد شيئا أوجده وخلقه، وإذا أراد شيئا، فإنه يصنعه بحكمته على خير ما يمكن أن يكون الوجود وبأفضل ما تنطلق به الحياة، سبحانه وتعالى عما يشركون.

سكت قليلا، ثم قال: أتعلمون قدر البشارات التي يحملها قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: 40]

قلنا: إنها بشارة عظيمة ولا شك.

قال: لكن لا يمكن تصورها.. إنها جواز حماية من الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان الله معه كانت جنود الدنيا جميعا معه، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [الفتح:7]

قال أحدنا: ما أكثر ما يملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذن من جنود.

قال: بل ما أعظم ما يملك كل مستغن بالله فقير إلى الله من جنود، ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7]؟

قلنا: بلى.. ومن كان الله في نصرته لا يغلب.

قال: أجل.. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران:160].. ومن تخلى الله عنه لا ينصر، ولو ملك

القرآن.. والعزاء والشفاء (258)

جميع جيوش الأرض.. ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ [الملك:20]

5. النصر والمدد

بهذا الحديث انتهى المشهد الرابع من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الخامس، والذي تعلمت منه مكافأة الله تعالى لعباده المستضعفين بالنصر والتأييد العاجل أو الآجل، وأثرهما في العزاء والسلوى.

وقد بدأ هذا المشهد بعد انتهائي من الاستماع لأولئك الطيبين الذين اجتمعوا في [دار الحكمة]، ليتحدثوا عن التعاليم التي تعلموها من القرآن الكريم، وعلى يد معلمهم الذي عرف كيف يصل إلى قلوبهم بحكمته ولينه وأنواره.

وعند خروجي، وسيري في تلك البلدة الجميلة التي اجتمع فيها الجمال الحسي مع الجمال المعنوي، مررت على ميدان كبير، قد علقت في وسطه راية كُتب عليها قوله تعالى: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: 13]

فسألت عنها بعض المارة، فقال لي: في هذا المحل صُلب الشهداء الذين كتب الله بدمائهم نصرنا على جميع الطواغيت.. فلذلك اعتبرنا هذا الميدان ميدانا للنصر.. وأهل البلدة يزورونه كل حين، ليتذكروا نعمة الله تعالى عليهم بالنصر.

قلت: أهذه الكراسي الكثيرة الملتفة حول هذه الراية، مجالس لكم إذن؟

قال: أجل.. فهذا المكان مقدس عندنا، ونحن نوفر فيه بالتعاون مع بعضنا كل ما يزيد التحامنا وألفتنا؛ فلولاهما لم يتحقق لنا النصر على أعدائنا.

القرآن.. والعزاء والشفاء (259)

قلت: لكني أراها الآن فارغة.

قال: انتظر لحظات فقط، وسترى كيف تمتلئ بأهل هذه البلدة.. وستسمع منهم ما يمكنك تسجيله في كتابك، فلا يمكن لأحد يريد أن يتحدث عن العزاء الإلهي، ألا يتحدث عن النصر الإلهي.

الشاهد الأول

ما هي إلا لحظات، حتى رأيت جموعا تجتمع، لتجلس على تلك الكراسي، المحيطة براية النصر.. ثم ما لبثت أن رأيت أحدهم يقرأ بصوت خاشع جميل قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 1 ـ 3]

ثم قام أحدهم، وهو يمسح الدموع من عينيه، وقال: كلما قرأت هذه السورة الكريمة تذكرت معلمنا الكاظم، فقد كان كثير التذكير لنا بها، وفي أعز الأزمات وأشدها، وكان يقول لنا (1): هذه السورة القصيرة.. كما تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، وكما توجهه حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.. تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة، وحقيقة هذا المنهج، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص، والانطلاق والتحرر.. هذه القمة السامقة الوضيئة، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام، ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم.

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3994)

القرآن.. والعزاء والشفاء (260)

ثم قال (1): في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث، وما يقع في هذه الحياة من حوادث، وعن دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودور المؤمنين في هذه الدعوة، وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الأمر.. هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر: 1].. فهو نصر الله يجيء به الله في الوقت الذي يقدره، وفي الصورة التي يريدها، وللغاية التي يرسمها.. وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا لأصحابه من أمره شيء، وليس لهم في هذا النصر يد، وليس لأشخاصهم فيه كسب، وليس لذواتهم منه نصيب، وليس لنفوسهم منه حظ.. إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم، وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حراسا، ويجعلهم عليه أمناء.. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا.

سكت قليلا، ثم قال (2): بناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه بإزاء تكريم الله لهم، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم، إن شأنه ـ ومن معه ـ هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار.. التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه، وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم، بعد العمى والضلال والخسران.. والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل.. الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء، وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري، فمن هذا يكون الاستغفار.. والاستغفار مما قد

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3996)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3996)

القرآن.. والعزاء والشفاء (261)

يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر.. من ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصر، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214] فمن هذا يكون الاستغفار.. والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره، فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان.. ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18].. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار.

ثم حلق إلى الأفق البعيد، وكأنه يتذكر شيئا، ثم قال (1): هناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار.. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز، فأولى أن تطامن من كبريائها، وتطلب العفو من ربها، وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور.. ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين، ليرقب المنتصر الله فيهم، فهو الذي سلطه عليهم، وهو العاجز القاصر المقصر، وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو، والنصر نصره، والفتح فتحه، والدين دينه، وإلى الله تصير الأمور.

سكت قليلا، ثم قال (2): إنه الأفق الوضيء الكريم، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه، وترقى في مدارجه، على حدائه النبيل البار، الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه، وترف فيه روحه طليقة لأنها تعنو لله.. إنه الانطلاق

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3997)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3997)

القرآن.. والعزاء والشفاء (262)

من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله، ليس لها حظ في شيء إلا رضاه، ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة، بانية عادلة خيرة..، الاتجاه فيها إلى الله.

ثم قال (1): وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته، مقيد برغباته، مثقل بشهواته، عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده.. وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما.

ثم ذكر لنا ما ذكره القرآن الكريم عن الأنبياء عليهم السلام وآدابهم مع نصر الله تعالى لهم، وبدأ بيوسف عليه السلام، فقال (2): كان هذا هو أدب يوسف عليه السلام في اللحظة التي تم له فيها كل شيء، وتحققت رؤياه، كما قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100].. ففي هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].. وهنا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3997)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3997)

القرآن.. والعزاء والشفاء (263)

يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين عنده، من فضله ومنه وكرمه،.

ثم ثنى بسليمان عليه السلام، فقال (1): وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]

ثم ثلث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال (2): وهذا كان أدب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته كلها، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له.. انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة.. مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة.. فلما أن جاءه نصر الله والفتح، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار.. وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق.

الشاهد الثاني

بعد أن انتهى الشاهد الأول من حديثه عن ذكرياته مع معلمه الكاظم، قام آخر، وقال: لقد ذكرني حديثك هذا بسورة القمر التي كان يقرؤها لنا معلمنا الكاظم كثيرا ليعزينا بها، ويبشرنا بنصر الله الذي لن يتخلف.. وعندما سألناه عن سر ذلك قال (3): هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر، بقدر ما هي

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3997)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3997)

(3) في ظلال القرآن (6/ 3424)

القرآن.. والعزاء والشفاء (264)

طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة.. وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 30]، ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 40]

ثم قال لنا (1): وفي السورة عرض سريع لمصارع قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه.. وهي تعرضها عرضا خاصا، يحيلها جديدة كل الجدة، فهي تعرضها عنيفة عاصفة، وحاسمة قاصمة يفيض منها الهول، ويتناثر حولها الرعب، ويظللها الدمار والفزع والانبهار.. وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة، يشهدها المكذبون، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسون إيقاعات سياطها، فإذا انتهت الحلقة، وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا.. وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق، فيطل المشهد الأخير في السورة، وإذا هو جو آخر، ذو ظلال أخرى، وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة، وهو مشهد المتقين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54 ـ 55] في وسط ذلك الهول الراجف، والفزع المزلزل، والعذاب المهين للمكذبين: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48].. فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من مصير؟

ثم قال (2): وبعد انتهاء مطلع السورة الكريمة بدأت جولة قرآنية في تاريخ الأمم السابقة، التي كذبت رسلها فنالت عذابها من الله جزاء على ذلك، وأولها قوم نوح عليه

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3425)

(2) من وحي القرآن (21/ 283)

القرآن.. والعزاء والشفاء (265)

السلام، كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ [القمر: 9] نوحا فيما جاءهم به من رسالة الله الداعية إلى توحيده وإلى الاستقامة على خط التقوى، فتمردوا عليه، وواجهوه بمختلف الأساليب المتعسفة اللامعقولة، ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ [القمر: 9] فاتهموه في عقله، لأنه دعاهم إلى ما لم يألفوه، أو أنكر عليهم ما ألفوه من عبادة الأصنام، ليبطلوا تأثيره في النفوس، وهذا ما يفعله المترفون في كل زمان ومكان عند ما تواجههم الدعوات التغييرية والإصلاحية، لاختصار الرد بذلك، باعتبار أن المعقول لديهم هو ما يلتزمونه ويتبنونه، ﴿وَازْدُجِرَ﴾ [القمر: 9] أي ازدجره القوم وردعوه عن الانطلاق في رسالته، فلم يتمكن من الوصول إلى النتيجة الحاسمة.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ﴾ [القمر: 10]، ثم قال (1): بعد أن استنفد نوح عليه السلام كل تجاربه في دعوتهم إلى رسالته، فلم يزدادوا إلا عنادا وإصرارا على الكفر، إلى درجة أن شيئا لم يبق لديه ليقوله، وبالتالي أصبحت تجربة الحديث معهم مجددا تجربة عبثية، لذا نادى ربه بأني مغلوب، فيما أملكه من قدرات استنفدتها في حياتي معهم، وفي ما واجهوني به من قهر وغلبة وتعسف وإنذار، ﴿فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: 10] لي فإنك ناصر من لا ناصر له، لا سيما إذا كان المغلوب المستضعف من رسلك.

ثم رفع صوته، وكأنه يحكي لنا دعاء نوح عليه السلام، فقال (2): لقد قال: رب.. انتهت طاقتي، انتهى جهدي، انتهت قوتي، وغلبت على أمري، ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: 10].. انتصر أنت يا ربي، انتصر لدعوتك، انتصر لحقك، انتصر لمنهجك، انتصر أنت، فالأمر أمرك، والدعوة دعوتك، وقد انتهى دوري.

__________

(1) من وحي القرآن (21/ 283)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3429)

القرآن.. والعزاء والشفاء (266)

سكت قليلا، ثم قال (1): ما تكاد هذه الكلمة تقال، وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة.. فتدور دورتها المدوية المجلجلة: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 11 ـ 12]، وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة، تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة: ﴿فَفَتَحْنَا﴾ [القمر: 11] فيحس القارئ يد الجبار تفتح ﴿أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾ [القمر: 11].. بهذا اللفظ وبهذا الجمع، ﴿بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ [القمر: 11].. غزير متوال، وبالقوة ذاتها وبالحركة نفسها.. ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: 12].. وهو تعبير يرسم مشهد التفجر وكأنه ينبثق من الأرض كلها، وكأنما الأرض كلها قد استحالت عيونا.. والتقى الماء المنهمر من السماء بالماء المتفجر من الأرض.. ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 12].. التقيا على أمر مقدر، فهما على اتفاق لتنفيذ هذا الأمر المقدر، طائعان للأمر، محققان للقدر.. حتى إذا صار طوفانا يطم ويعم، ويغمر وجه الأرض، ويطوي الدنس الذي يغشى هذا الوجه، وقد يئس الرسول من تطهيره، وغلب على أمره في علاجه، امتدت اليد القوية الرحيمة إلى الرسول الذي دعا دعوته، فتحرك لها الكون كله، امتدت له هذه اليد بالنجاة وبالتكريم: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 13 ـ 14]، وظاهر من العبارة تفخيم السفينة وتعظيم أمرها، فهي ذات ألواح ودسر، توصف ولا تذكر لفخامتها وقيمتها، وهي تجري في رعاية الله بملاحظة أعينه، ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 14]، وجُحد وازدجر، وهو جزاء يمسح بالرعاية على الجفاء، وبالتكريم على الاستهزاء، ويصور مدى القوة التي يملك رصيدها من يغلب في

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3429)

القرآن.. والعزاء والشفاء (267)

سبيل الله، ومن يبذل طاقته، ثم يعود إليه يسلم له أمره وأمر الدعوة ويدع له أن ينتصر.. إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته، والله من ورائها بجبروته وقدرته.

سكت قليلا، ثم قال (1): وعلى مشهد الانتصار الهائل الكامل والمحق الحاسم الشامل، يتوجه الله تعالى إلى القلوب التي شهدت المشهد كأنها تراه، يتوجه إليها بلمسة التعقيب، لعلها تتأثر وتستجيب: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 15]، أي أن هذه الواقعة بملابساتها المعروفة، تركناها آية للأجيال ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 15] يتذكر ويعتبر؟.. ثم سؤال لإيقاظ القلوب إلى هول العذاب وصدق النذير: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 16].. ولقد كان كما صوره القرآن، كان عذابا مدمرا جبارا، وكان نذيرا صادقا بهذا العذاب.

ثم رفع المصحف بيده، وقال (2): وهذا هو القرآن حاضرا، سهل التناول، ميسر الإدراك، فيه جاذبية ليقرأ ويتدبر، فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة، واستجاشة الطبع، لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد، وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، وهذا هو التعقيب الذي يتكرر، بعد كل مشهد يصور.. ويقف السياق عنده بالقلب البشري يدعوه دعوة هادئة إلى التذكر والتدبر، بعد أن يعرض عليه حلقة من العذاب الأليم الذي حل بالمكذبين.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3429)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3431)

القرآن.. والعزاء والشفاء (268)

عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 18 ـ 22]، ثم قال (1): هذه هي الحلقة الثانية، أو المشهد الثاني من مشاهد التعذيب العنيف والمصرع الذي يقف عليه بعد وقفته على مصرع قوم نوح، أول المهلَكين.. ويبدأ بالإخبار عن تكذيب عاد، وقبل أن يكمل الآية يسأل سؤال التعجيب والتهويل: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 18].. أي كيف كان بعد تكذيب عاد؟ ثم يجيب: كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر: 19 ـ 20].. والريح الصرصر: الباردة العنيفة، وجرس اللفظ يصور نوع الريح.. والنحس: الشؤم، وأي نحس يصيب قوما أشد مما أصاب عاد، والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم، فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها.. والمشهد مفزع مخيف، وعاصف عنيف، والريح التي أرسلت على عاد هي من جند الله، وهي قوة من قوى هذا الكون، من خلق الله، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره، وهو يسلطها على من يشاء، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله، صاحب الأمر وصاحب الناموس: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 21]، يكررها بعد عرض المشهد، والمشهد هو الجواب.. ثم يختم الحلقة بالتعقيب المكرر في السورة وفق نسقها الخاص: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 22]

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3431)

القرآن.. والعزاء والشفاء (269)

شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 23 ـ 32]، ثم قال (1): وثمود كانت القبيلة التي خلفت عادا في القوة والتمكين في جزيرة العرب.. كانت عاد في الجنوب كانت ثمود في الشمال، وكذبت ثمود بالنذر كما كذبت عاد، غير معتبرة بمصرعها المشهور المعلوم في أنحاء الجزيرة.. ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: 24 ـ 26]، وهي الشبهة المكررة التي تحيك في صدور المكذبين جيلا بعد جيل: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [القمر: 25]؟ كما أنها الكبرياء الجوفاء التي لا تنظر إلى حقيقة الدعوة، إنما تنظر إلى شخص الداعية: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ [القمر: 24]!؟ وماذا في أن يختار الله واحدا من عباده.. والله أعلم حيث يجعل رسالته.. فيلقي عليه الذكر ـ أي الوحي وما يحمله من توجيهات للتذكر والتدبر ـ ماذا في هذا الاختيار لعبد من عباده يعلم منه تهيؤه واستعداده، وهو خالق الخلق، وهو منزل الذكر؟ إنها شبهة واهية لا تقوم إلا في النفوس المنحرفة، النفوس التي لا تريد أن تنظر في الدعوى لترى مقدار ما فيها من الحق والصدق ولكن إلى الداعية فتستكبر عن اتباع فرد من البشر، مخافة أن يكون في اتباعها له إيثار وله تعظيم، وهي تستكبر عن الإذعان والتسليم.. ومن ثم يقولون لأنفسهم: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 24].. أي لو وقع منا هذا الأمر المستنكر!.. وأعجب شيء أن يصفوا أنفسهم بالضلال لو اتبعوا الهدى، وأن يحسبوا أنفسهم في سعر ـ لا في سعير واحد ـ إذا هم فاءوا إلى ظلال الإيمان، ومن ثم يتهمون رسولهم الذي اختاره الله ليقودهم

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3432)

القرآن.. والعزاء والشفاء (270)

في طريق الحق والقصد، يتهمونه بالكذب الطمع: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: 25].. كذاب لم يلق عليه الذكر، أشر: شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة، وهو الاتهام الذي يواجَه به كل داعية، اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستارا لتحقيق مآرب ومصالح، وهي دعوى المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس ومحركات القلوب.

سكت قليلا، ثم قال (1): وبينما يجري السياق على أسلوب الحكاية لقصة غيرت في التاريخ.. يلتفت فجأة وكأنما الأمر حاضر، والأحداث جارية، فيتحدث عما سيكون، ويهدد بهذا الذي سيكون: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: 26] وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصص، وهي طريقة تنفخ روح الحياة الواقعية في القصة، وتحيلها من حكاية تحكى، إلى واقعة تعرض على الأنظار، يترقب النظارة أحداثها الآن، ويرتقبونها في مقبل الزمان.. ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: 26].. وسيكشف لهم الغد عن الحقيقة، ولن يكونوا بمنجاة من وقع هذه الحقيقة، فستكشف عن البلاء المدمر للكذاب الأشر.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ [القمر: 27 ـ 28]، ثم قال (2): يقف القارئ لهذه الآيات الكريمة يترقب ما سيقع، عند ما يرسل الله الناقة فتنة لهم، وامتحانا مميزا لحقيقتهم، ويقف الرسول ـ رسولهم عليه السلام ـ مرتقبا ما سيقع، مؤتمرا بأمر ربه في الاصطبار عليهم حتى تقع الفتنة ويتم الامتحان، ومعه التعليمات.. أن الماء في القبيلة قسمة بينهم وبين الناقة ـ ولا بد أنها كانت ناقة خاصة ذات خصائص معينة تجعلها آية وعلامة ـ فيوم لها ويوم لهم ـ

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3432)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3432)

القرآن.. والعزاء والشفاء (271)

تحضر يومها ويحضرون يومهم، وتنال شربها وينالون شربهم.

سكت قليلا، ثم قال (1): ثم يعود السياق إلى أسلوب الحكاية، فيقص ما كان بعد ذلك منهم: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر: 29]، وصاحبهم هو أحد الرهط المفسدين في المدينة، الذين قال الله تعالى عنهم في سورة النمل: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [النمل: 48].. وهو الذي قال عنه في سورة الشمس: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس: 12]، وقيل: إنه تعاطى الخمر فسكر ليصير جريئا على الفعلة التي هو مقدم عليها، وهي عقر الناقة التي أرسلها الله آية لهم وحذرهم رسولهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم.. ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر: 29] وتمت الفتنة ووقع البلاء.. ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 30]، وهو سؤال التعجيب والتهويل، قبل ذكر ما حل من العذاب بعد النذير: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر: 31].. ولا يفصل القرآن هذه الصيحة، وإن كانت في موضع آخر في سورة (فصلت) توصف بأنها صاعقة، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13].. وقد تكون كلمة صاعقة وصفا للصيحة، فهي صيحة صاعقة، وقد تكون تعبيرا عن حقيقتها، فتكون الصيحة والصاعقة شيئا واحدا، وقد تكون الصيحة هي صوت الصاعقة، أو تكون الصاعقة أثرا من آثار الصيحة التي لا ندري من صاحبها.. وعلى أية حال فقد أرسلت على القوم صيحة واحدة، ففعلت بهم ما فعلت، مما جعلهم ﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر: 31]

أذكر جيدا أنا سألناه حينها عن معناها، فقال (2): المحتظر صانع الحظيرة، وهو

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3433)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3433)

القرآن.. والعزاء والشفاء (272)

يصنعها من أعواد جافة، فهم صاروا كالأعواد الجافة حين تيبس وتتحطم وتصبح هشيما.. أو أن المحتظر يجمع لماشيته هشيما تأكله من الأعواد الجافة والعشب الناشف، وقد صار القوم كهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة.. وهو مشهد مفجع مفزع، يعرض ردا على التعالي والتكبر، فإذا المتعالون المتكبرون هشيم، وهشيم مهين.. كهشيم المحتظر!.. وأمام هذا المشهد العنيف المخيف، يرد قلوبهم إلى القرآن ليتذكروا ويتدبروا، وهو ميسر للتذكر والتدبر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 32]

سكت قليلا، ثم قال (1): ويسدل الستار على الهشيم المهين، وفي العين منه مشهد، وفي القلب منه أثر، والقرآن يدعو من يذكر ويتفكر، ثم يرفع الستار عن حلقة جديدة تالية ـ بعد ذلك ـ في التاريخ، في محيط الجزيرة العربية كذلك: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 33 ـ 40]

ثم قال (2): وقصة قوم لوط عليه السلام وردت مفصلة في مواضع أخرى من القرآن الكريم، والمقصود بعرضها هنا ليس تفصيلاتها، وإنما العبرة من عاقبة التكذيب، والأخذ الأليم الشديد، من ثم تبدأ بذكر ما وقع منهم من تكذيب بالنذر: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر: 33].. وعلى إثر هذه الإشارة يصف ما نزل بهم من النكال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 34 ـ 35]

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3433)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3433)

القرآن.. والعزاء والشفاء (273)

وعندما سألناه عن معناها، قال (1): الحاصب: الريح تحمل الحجارة، وفي مواضع أخرى ورد أنه أرسل إليهم حجارة من طين.. ولفظة الحاصب ذات جرس كأنه وقع الحجارة، وفيه شدة وعنف تناسب جو المشهد، ولم ينج إلا آل لوط ـ إلا امرأته ـ نعمة من عند الله جزاء إيمانهم وشكرهم.. ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 35]، فننجيه وننعم عليه في وسط المهالك والمخاوف.

ثم قال (2): والآن وقد عرض القصة من طرفيها: طرف التكذيب وطرف الأخذ الشديد، فإنه يعود لشيء من التفصيل فيما وقع بين الطرفين.. وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصة حين يراد إبراز إيحاءات معينة من إيرادها في هذا النسق، وهذه التفصيلات هي: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر: 36 ـ 38].. فطالما أنذر لوط عليه السلام قومه عاقبة المنكر الشاذ الذي كانوا يأتونه، فتماروا بالنذر، وشكوا فيها وارتابوا، وتبادلوا الشك والارتياب فيما بينهم وتداولوه، وجادلوا نبيهم فيه، وبلغ منهم الفجور والاستهتار أن يراودوه هو نفسه عن ضيفه ـ من الملائكة ـ وقد حسبوهم غلمانا صباحا فهاج سعارهم الشاذ الملوث القذر، وساوروا لوطا يريدون الاعتداء المنكر على ضيوفه، غير محتشمين ولا مستحيين، ولا متحرجين من انتهاك حرمة نبيهم الذي حذرهم وأنذرهم عاقبة هذا الشذوذ القذر المريض.. عندئذ تدخلت يد القدرة، وتحرك الملائكة لأداء ما كلفوه وجاءوا من أجله: ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: 37] فلم يعودوا يرون شيئا ولا أحدا ولم يعودوا يقدرون على مساورة لوط ولا الإمساك بضيفه.. والإشارة إلى طمس أعينهم لا ترد

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3434)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3434)

القرآن.. والعزاء والشفاء (274)

إلا في هذا الموضع بهذا الوضوح، ففي موضع آخر ورد: ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ [هود: 81].. فزاد هنا ذكر الحالة التي صارت تمنعهم من أن يصلوا إليه، وهي انطماس العيون.. وبينما السياق يجري مجرى الحكاية، إذا به حاضر مشهود، وإذا الخطاب يوجه إلى المعذبين: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 39].. فهذا هو العذاب الذي حذرتم منه، وهذه هي النذر التي تماريتم فيها، وكان طمس العيون في المساء.. في انتظار الصباح الذي قدره الله لأخذهم جميعا: ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر: 38]، وهو ذلك العذاب الذي عجل بذكره في السياق، وهو الحاصب الذي طهر الأرض من تلك اللوثة ومن ذلك الفساد.

سكت قليلا، ثم قال: ومرة أخرى تتغير طريقة العرض، ويستحضر المشهد كأنه اللحظة واقع، وينادى المعذبون وهم يعانون العذاب: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 39]، ثم يجيء التعقيب المألوف، عقب المشهد العنيف: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 40]؟

لقد كان حديث المعلم مؤثرا جدا.. ولذلك طلبنا منه أن يواصل الحديث عن السورة، فقال (1): وتختم هذه الحلقات بحلقة خارج الجزيرة، ومصرع من المصارع المشهورة المذكورة، في إشارة سريعة خاطفة: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 41 ـ 42].. وهكذا تختصر قصة فرعون وملئه في طرفيها: مجيء النذر لآل فرعون وتكذيبهم بالآيات التي جاءهم بها رسولهم، وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، والإشارة إلى العزة والاقتدار تلقي ظلال الشدة في الأخذ وفيها تعريض

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3435)

القرآن.. والعزاء والشفاء (275)

بعزة فرعون واقتداره على البغي والظلم، فقد ضاعت العزة الباطلة، وسقط الاقتدار الموهوم.. وأخذه الله ـ هو وآله ـ أخذ عزيز حقا مقتدر صدقا، أخذهم أخذا شديدا يناسب ما كانوا عليه من ظلم وغشم وبطش وجبروت.. وعلى هذه الحلقة الأخيرة على مصرع فرعون الجبار، يسدل الستار على آخر مشهد من مشاهد العذاب والنكال، والمكذبون يشهدون ويتلقى حسهم إيقاع هذه المشاهد.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 43 ـ 53]، ثم قال (1): الآن والمصارع المتتالية حاضرة في خيالهم، ضاغطة على حسهم يتوجه إليهم بالخطاب يحذرهم مصرعا كهذه المصارع، وينذرهم ما هو أدهى وأفظع.. إنه الإنذار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة وإسقاط كل شبهة وكل شك في صدق هذا الإنذار وسد كل ثغرة وكل طمع في الهرب والفكاك أو المغالطة في الحساب والفرار من الجزاء.. تلك كانت مصارع المكذبين، فما يمنعكم أنتم من مثل ذلك المصير؟ ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ [القمر: 43]؟.. وما ميزة كفاركم على أولئكم؟ ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر: 43] تشهد بها الصحائف المنزلة، فتعفوا إذن من جرائر الكفر والتكذيب؟.. لا هذه ولا تلك، فلستم خيرا من أولئكم، وليست لكم براءة في الصحائف المنزلة، وليس هنالك إلا لقاء المصير الذي

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3435)

القرآن.. والعزاء والشفاء (276)

لقيه الكفار من قبلكم في الصورة التي يقدرها الله لكم.. ثم يلتفت عن خطابهم إلى خطاب عام، يعجب فيه من أمرهم: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ [القمر: 44]، وذلك حين يرون جمعهم فتعجبهم قوتهم، ويغترون بتجمعهم، فيقولون: إنا منتصرون لا هازم لنا ولا غالب؟.. هنا يعلنها عليهم مدوية قاضية حاسمة: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: 45]، فلا يعصمهم تجمعهم، ولا تنصرهم قوتهم، والذي يعلنها عليهم هو القهار الجبار.

ثم راح يردد قوله تعالى: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: 46]، ويكررها مرات متعددة، ثم يقول (1): أدهى وأمر من كل عذاب رأوه أو يرونه في هذه الأرض، وأدهى وأمر من كل مشهد رأوه مرسوما فيما مر.. من الطوفان، إلى الصرصر، إلى الصاعقة، إلى الحاصب، إلى أخذ فرعون وآله أخذ عزيز مقتدر.. ثم يفصّل كيف هي أدهى وأمر، يفصل هذا في مشهد عنيف من مشاهد القيامة: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 47 ـ 48].. في ضلال يعذب العقول والنفوس، وفي سعر تكوي الجلود والأبدان.. في مقابل ما كانوا يقولون هم وأمثالهم من قبل: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 24]، ليعرفوا أين يكون الضلال وأين تكون السعر، وهم يسحبون في النار على وجوههم في عنف وتحقير، في مقابل الاعتزاز بالقوة والاستكبار، وهم يزادون عذابا بالإيلام النفسي، الذي كأنما يشهد اللحظة حاضرا معروضا على الأسماع والأنظار: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48]

سكت قليلا، ثم قال (2): وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة، وإلى القوم خاصة، ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره.. إن ذلك الأخذ

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3436)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3436)

القرآن.. والعزاء والشفاء (277)

في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة، وما كان قبلهما من رسالات ونذر، ومن قرآن وزبر.. وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود.. إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة، لا شيء جزاف، لا شيء عبث، لا شيء خلقناه بقدر.. كل شيء.. كل صغير وكل كبير، كل ناطق وكل صامت، كل متحرك وكل ساكن، كل ماض وكل حاضر، كل معلوم وكل مجهول، كل شيء.. ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].. قدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه، ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء، وتأثيره في كيان هذا الوجود.

ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50]، ثم قال (1): ومع التقدير والتدبير، القدرة التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات.. فهي إشارة واحدة، أو كلمة واحدة يتم بها كل أمر: الجليل والصغير سواء، وليس هنالك جليل ولا صغير، إنما ذلك تقدير البشر للأشياء.. وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر، إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر، فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشئ من دورة أرضهم الصغيرة، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة.. واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل، وواحدة تبدل فيه وتغير، وواحدة تذهب به كما يشاء الله، وواحدة تحيي كل حي، وواحدة تذهب به هنا وهناك، وواحدة ترده إلى الموت، وواحدة تبعثه في صورة من الصور، وواحدة تبعث الخلائق جميعا، وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب.. واحدة لا تحتاج إلى جهد، ولا تحتاج إلى زمن، واحدة فيها القدرة ومعها التقدير، وكل أمر معها مقدر ميسور.. وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون، وفي

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3441)

القرآن.. والعزاء والشفاء (278)

هذه يذكرهم بمصير أمثالهم من المكذبين.

ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 51 ـ 53]، ثم قال (1): فهذه مصارع المكذبين، معروضة في الحلقات التي تضمنتها السورة من قبل.. ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 51]، يتذكر ويعتبر.. ولم ينته حسابهم بمصارعهم الأليمة، فوراءهم حساب لا يفلت منه شيء: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر: 52].. مسطر في الصحائف ليوم الحساب.. ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 53].. لا يُنسى منه شيء وهو مسطور في كتاب.

ثم ختم حديثه عن السورة بقوله (2): وعند هذا الحد من العرض والتعقيب، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين، ويعرض صورة أخرى في ظل وادع أمين، صورة المتقين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54 ـ 55]، ذلك بينما المجرمون في ضلال وسعر، يسحبون في النار على وجوههم في مهانة، ويلذعون بالتأنيب كما يلذعون بالسعير: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48]، وهي صورة للنعيم بطرفيه: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ [القمر: 54]، ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].. نعيم الحس والجوارح في تعبير جامع شامل: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ [القمر: 54] يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب.. وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة ﴿نَهَرٍ﴾ [القمر: 54] بفتح الهاء، بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير.. ونعيم القلب والروح، نعيم القرب والتكريم: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].. فهو مقعد ثابت مطمئن، قريب كريم، مأنوس بالقرب، مطمئن بالتمكين، ذلك أنهم المتقون،

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3442)

(2) في ظلال القرآن (6/ 3442)

القرآن.. والعزاء والشفاء (279)

الخائفون، المترقبون.. والله لا يجمع على نفس خوفين: خوفها منه في الدنيا، وخوفها يوم القيامة، فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة، ومع الأمان في أفزع موطن، يغمره بالأنس والتكريم.

ثم قال (1): وعند هذا الإيقاع الهادئ، في هذا الظل الآمن، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير، فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح.. وهذه هي التربية الكاملة، تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب، وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر، وهو اللطيف الخبير.

ما انتهى معلمنا الكاظم من قراءته للسورة الكريمة وبيانه لمعانيها، وتطبيقه لها على واقعنا، حتى رأيت الجموع الحاضرة، كلها تبكي متأثرة.. وقد كانت تلك الدموع التي ذرفت في ذلك اليوم طوفانا كاسحا قضى على الطواغيت والمستبدين الذين كانوا يهيمنون علينا.

__________

(1) في ظلال القرآن (6/ 3442)

القرآن.. والعزاء والشفاء (280)

رابعا ـ القرآن.. وعزاء المخطئين

هذه هي المشاهد الخمسة التي تعلمت فيها بعض ما ورد في القرآن الكريم من العزاء الخاص بالمستضعفين والمظلومين.. وهي تشمل غيرهم أيضا.. بالإضافة إليها يسر الله لي في هذه الرحلة التعرف على معاني أخرى ترتبط بالعزاء والشفاء.. وكان منها هذه المشاهد الخاصة بعزاء المخطئين والمسرفين على أنفسهم.

1. التوبة والغفران

وأولها المشهد الذي رأيت فيه نعمة العفو والتوبة رأي العين، وقد بدأ هذا المشهد بعد انتهاء جولتي في بلدة المستضعفين التي تحولت بفضل الله تعالى، وبسبب تمسكها بالقرآن الكريم إلى بلدة الأقوياء المنتصرين.

وقد بدأ هذا المشهد بعد خروجي إلى بعض الحدائق في تلك البلدة الجميلة، وهناك وجدت رجلا يطلب مني أن أحمل معه حقيبته، وهو يقول لي: أنا من مدينة المخطئين، وأريد أن أعود إليها، فإن شئت أن تسير معي إليها، فهيا أعني لنتداول على حمل هذه الحقيبة.. لعلك تنال معي بعض الأجر.

قلت: لا مشكلة لدي في إعانتك.. لكن المشكلة في الوجهة التي تريد أن تسير إليها.. فأنا تلميذ قرآن، وجئت هنا لأتتلمذ على هؤلاء الصالحين، ولا علاقة لي بالمخطئين المسرفين على أنفسهم.. فقد أُمرنا نحن الضعفاء أن نتجنبهم حتى لا يزيغوا بنا إلى ما اختاروه لأنفسهم.

قال: إن كنت تلميذا حقيقيا للقرآن فهلم معي.. فالله تعالى ما خاطب الصالحين

القرآن.. والعزاء والشفاء (281)

فقط، بل خاطب المخطئين والخطائين أيضا.

قلت: لك الحق في هذا.. لكن كيف أعرف أنه قد أُذن لي في المسير إليهم؟

قال: معلمنا الكاظم.. لقد أخبرني في مجلس من المجالس أنه سيفد إلينا بعض تلاميذ القرآن، وأمرنا أن نحسن استقبالهم.

قلت: فكيف ظللتم مخطئين إذن مع كون الكاظم معلمكم، أم أنكم تلاميذ سوء، تأخذون العلم، ولا تأخذون العمل؟

قال: فهل شققت على قلوبنا لتعرف ذلك؟

قلت: ألست قد ذكرت لي أن مدينتكم هي مدينة المخطئين؟

قال: بلى.. هي تُسمى كذلك، لأنها كانت كذلك.. والاسم لا يضر بالمسمى حتى لو لصق به.. وقد لصق بنا هذا الاسم من قديم.

قلت: فهي مدينة التائبين إذن.. لا مدينة المخطئين؟

قال: هكذا كان يسميها معلمنا الكاظم، ويدعونا إلى تسميتها بذلك.. لكن اسمها القديم غلب علينا، ولم نستطع استبداله بعد.. وربما يكون ذلك لحاجتنا للمزيد من المجاهدات حتى تصدق توبتنا، ويصدق معه هذا الاسم العظيم عليها.

قلت: لكن ما علاقتها بمدينة المستضعفين؟

قال: لقد جعل الله مدينتنا بعد أن منّ عليها بالتوبة سندا صالحا لأهل هذه المدينة في مواجهة أعدائهم المستكبرين.. وقد كان لمعلمنا الكاظم دور كبير في ذلك.. فهو الذي كان يشرف على التنسيق بيننا وبينهم إلى أن تم القضاء عليهم.

قلت: ما دمت قد ذكرت هذا.. فأنا الآن مستعد تماما للسير معك حيث أردت.. وأرجو أن تشرح لي في الطريق كيف استطاع معلمكم الكاظم أن يغيركم إلى هذه الحال.

القرآن.. والعزاء والشفاء (282)

الشاهد الأول

قال: يمكنني أن أشهد لك عن نفسي فقط.. وكيف استطاع معلمنا الكاظم أن يخلصها من الحجب التي كانت تحول بينها وبين التوبة.. وعندما تصل إلى مدينتنا ستجد غيري ممن يوفر لك المزيد من الشهادات.

قلت: فأسمعني شهادتك.. فكلي آذان صاغية.

قال: فاحمل الحقيبة عني، ليتيسر لي الحديث بسهولة.. وهيا بنا نسير ونتحدث.

حملت حقيبته، وكانت خفيفة جدا على عكس ما توقعت.. وراح يحدثني قائلا: قبل أن ألتقي بمعلمي الكاظم كنت امرؤا مسرفا على نفسي مثل أكثر أهل مدينتي.. وقد كان الحائل بيني وبين التوبة إلى الله، خوفي ألا يقبلني، ولذلك كانت كل أحاديث معلمي معي حول قبول الله لتوبة عباده.

وقد كان أول ما سمعته منه قراءته الخاشعة لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54]، ثم قال (1): تأملوا جيدا قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54].. فالله سبحانه هو المالك الذي لا ينازعه منازع، لكنه ـ فضلا منه ومنة ـ كتب على نفسه الرحمة.. كتبها بإرادته ومشيئته لا يوجبها عليه موجب ولا يقترحها عليه مقترح ولا يقتضيها منه مقتض إلا إرادته الطليقة، وإلا ربوبيته الكريمة.

ثم قال (2): والرحمة قاعدة قضاء الله تعالى في خلقه، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا

__________

(1) في ظلال القرآن (2/ 1048)

(2) في ظلال القرآن (2/ 1048)

القرآن.. والعزاء والشفاء (283)

والآخرة.. والاعتقاد بهذه القاعدة يدخل في صلب الإيمان، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء.. فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.. والرحمة في هذا كله ظاهرة.. على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال، فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة..

سكت قليلا، ثم قال (1): والذي يستوقف النظر في هذا هو تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده.. بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة.. مكتوبة عليه.. كتبها هو على نفسه وجعلها عهدا منه لعباده.. بمحض إرادته ومطلق مشيئته.. وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة.. بالإضافة إلى ذلك التفضل.. هناك تفضل آخر يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه ـ سبحانه ـ على نفسه من رحمته، فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر، لا يقل عن ذلك التفضل الأول، فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟.. إلا أنه الفضل العميم، الفائض من خلق الله الكريم!؟.. إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه، ومثل هذه الحقائق، وما تثيره في القلب من مشاعر ليس موكولا إلى التعبير البشري ليبلغ

__________

(1) في ظلال القرآن (2/ 1049)

القرآن.. والعزاء والشفاء (284)

شيئا في تصويره وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه، لا لتعريفه.

ثم قال (1): ورحمة الله تفيض على عباده جميعا، وتسعهم جميعا وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم.. وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات.. وهي تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.. وفي تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته.. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.. وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته.. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.. وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ولم يسمع صوت النذير، ولم يصغ للتحذير، وهو على الله هين، ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.

ثم نظر إلينا بحنان، وقال (2): وتتجلى في تجاوز الله ـ سبحانه ـ عن سيئات الإنسان إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.. وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء.. ومحو السيئة بالحسنة.. وكله من فضل الله، فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة

__________

(1) في ظلال القرآن (2/ 1049)

(2) في ظلال القرآن (2/ 1050)

القرآن.. والعزاء والشفاء (285)

بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته.

ثم قال (1): بناء على هذه المعاني اقرؤوا الآية الكريمة، ففيها بيان لوجه كريم من وجوه تعامل الإسلام مع المخالفين له، بل المحاربين.. فالله تعالى يخبر أنه لا يصد أحدا يرد شريعته، ويريد الارتواء منها.. حتى أولئك الذين وقفوا من النبى صلى الله عليه وآله وسلم ومن أصحابه ذلك الموقف العنادي العنيف.. لن يغلق الإسلام بابه دونهم، ولن يقبض الله يد رحمته عنهم.. بل هم حيث طرقوا باب الإسلام فتح لهم على مصراعيه، واستقبلتهم على عتباته رحمة الله ومغفرته، فمحت كل ما علق بهم من آثام وسيئات، وإذا هم مواليد جدد في الإسلام، يدخلونه وصفحات كتابهم بيضاء لم يمسسها سوء.. وأنهم منذ اليوم هم الذين يملون ما يكتب في هذه الصفحات، من خير أو شر.

ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]، ثم قال (2): في هذه الكلمات النورانية استدعاء لأولئك الذين تخلفوا عن الإسلام، وحث لخطاهم على أن يسبقوا حتى لا يكونوا في مؤخرة الركب.. وهذا هو السر في التعبير بقوله تعالى ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 54] الذي يدل على الحال المتجددة في المستقبل الممتد.. وفي قوله تعالى: ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 54] هو التحية الطيبة المباركة التي يلقاهم بها الله على لسان رسوله، وهم على عتبة الإسلام.. وفي هذا الترحيب بهم أنس لهم، وطمأنينة لمستقبلهم، فهم في أمن وسلام، وفي خير وعافية: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 54].. أي سلام يشتمل عليكم، ظاهرا وباطنا.. فإذا أنسوا لهذه التحية الكريمة، تلقوا تحية أعظم وأكرم.. ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54] فهذه الرحمة

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 195)

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 196)

القرآن.. والعزاء والشفاء (286)

التي أوجبها الله على نفسه، رحمة منه وكرما وفضلا، هي التي تضفي على الداخلين في الإسلام الأمن والسلام، بالتجاوز عما اقترفوا من قبل من آثام.. فهم أبناء لإسلام منذ اليوم الذي دخلوا فيه، ولا شيء عليهم مما اقترفوه من قبل.

ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54]، ثم قال (1): وهذا السوء الذي فعلوه بجهالة، هو ما كان منهم من حرب على الإسلام، وأذى للمسلمين، الأمر الذي جعلهم يدخلون الإسلام وأشباح هذه المنكرات تقض مضاجعهم، وتكاد تفسد عليهم حياتهم مع الدين الذي دخلوا فيه.. فكانت هذه الآية الكريمة هذا ردا لاعتبارهم، وتصحيحا لوجودهم، وسكنا لنفوسهم، وبردا وسلاما على قلوبهم.

وعندما تعجبنا من كلماته هذه، والتي تخالف ما عرفناه من شدة بعض الخطباء والواعظين، قال (2): من شأن الأكابر من الأولياء، الداعين إلى الله، إكرام من أتى إليهم بحسن اللقاء وإظهار المسرة والبرور، وخصوصا أهل الانكسار فيؤنسونهم، ويوسعون رجاءهم، ويفرحونهم بما يسمعون منهم من سعة فضل الله وكرمه، وقد كان بعض شيوخي إذا دخل عليه أحد من أهل العصيان، قام إليهم، وفرح بهم، وأقبل عليهم، وإذا أتى إليه غيرهم لم يعتن اعتناءهم بالأولين، فقيل له في ذلك، فقال: (أهل العصيان يأتوننا فقراء منكسرين من أجل ذنوبهم، لا يرون لأنفسهم مرتبة، فأردت أن أجبر كسرهم، وهؤلاء أهل الطاعة يأتوننا أغنياء معتمدين على طاعتهم، فلا يحتاجون إلى ما عندنا)

ثم ضرب لنا المثل على ذلك بإبراهيم عليه السلام واستغفاره لقريبه، كما قال تعالى:

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 196)

(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 124)

القرآن.. والعزاء والشفاء (287)

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: 47] على الرغم من أنه هدده قبل ذلك بقوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: 46]

الشاهد الثاني

ما إن قال ذلك، حتى صادفنا في طريقنا رجل، كان يسير هو الآخر إلى مدينة المخطئين التي تحولت إلى مدينة للتائبين، وعندما رآنا قصدنا، وهو يقول: مرحبا بتلميذ القرآن.. نحن مشتاقون جدا إليك.. إن أذنت لي أن أسمعك أول ما سمعت من معلمنا الكاظم، فعلت.

قلت: مرحبا بك.. ويسرني ذلك كثيرا.

قال: في أول لقاء لي به سمعته يقرأ علينا بعض ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمة الدالة على مغفرة الله تعالى لعباده، كقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:225]، وقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:129]، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:34]، وقوله: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:39]، وقوله: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:74]، وقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:98]، وقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام:54]، وقوله:

القرآن.. والعزاء والشفاء (288)

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [لأنفال:70]، وقوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:27]، وقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:102]، وقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [:15]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد:28]

ثم قال لنا: انظروا كيف يخلص الله تعالى عباده من كل حرج.. إنه لا يطلب منهم أن يلجأوا لأي كاهن ولا لأي رجل دين ليعترفوا بذنوبهم.. بل يكفيهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه.. فليس لأحد سلطان المغفرة إلا لله.. كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:104]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى:25]، أما البشر.. فإن سلطانهم الوحيد الذي أتيح لهم في هذا الباب أن يستغفر بعضهم لبعض.. ويعفو بعضهم عن بعض.. لقد خول الله تعالى ذلك لرسول الله كما خوله لكل مؤمن بغض النظر عن رتبته ووظيفته، قال تعالى يخاطب رسوله في شأن أصحابه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]، وقال يخاطبه في شأن أعدائه: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13].. بل إن الله تعالى قد منع رسوله مع عظيم مرتبته وقربه من حق الاستغفار في بعض المحال، فقال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ

القرآن.. والعزاء والشفاء (289)

تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:80]، ومثلما ذلك أخبر عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]

ثم ذكر لنا الكثير من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تدل على سعة رحمة الله تعالى ومغفرته لعباده، وعدم رده لمن جاء منهم تائبا، ومنها ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: (يكتب عليه) قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: (يغفر له ويتاب عليه)، قال: فيعود فيذنب، قال: (فيكتب عليه)، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: (يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا)(1)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتّى تعلو قلبه وهو الرّان الّذي ذكر الله ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14])(2)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يبسط يده باللّيل ليتوب مسي ء النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسي ء اللّيل، حتّى تطلع الشّمس من مغربها)(3)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أخطأتم حتّى تبلغ خطاياكم السّماء، ثمّ تبتم لتاب عليكم)(4)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان لابن آدم واد من ذهب أحبّ أنّ له واديا آخر، ولن يملأ فاه إلّا التّراب، والله يتوب على من تاب)(5)

__________

(1) الطبراني في الكبير، المجمع (10/ 200)

(2) الترمذي (3334)

(3) مسلم (2759)

(4) ابن ماجة (4248)

(5) البخاري (6439)، ومسلم (1048)

القرآن.. والعزاء والشفاء (290)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (للجنّة ثمانية أبواب، سبعة مغلقة وباب مفتوح للتّوبة حتّى تطلع الشّمس من مغربها)(1)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمستغفر عن الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربّه ومن أذى مؤمنا كان عليه مثل ما أنبت النيل)(2)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تاب العبد تاب الله عليه وأنسى الحفظة ما علموا منه، وقيل للأرض وجوارحه اكتموا عليه مساويه ولا تظهروا عليه أبدا)(3)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ للّه عزّ وجلّ فضولا من رزقه ينحله من يشاء من خلقه، والله باسط يديه عند كلّ فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له)(4)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صباح إلا وملكان يناديان يقولان: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر انته، هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، هل من مغموم فيكشف عنه؛ فهذا دعاؤهما حتى تغرب الشمس)(5)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله سبحانه يقول: أهل ذكري في ضيافتي وأهل طاعتي في نعمتي وأهل شكري في زيارتي وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي إن تابوا فأنا أجيبهم وإن مرضوا فأنا طبيبهم أداويهم بالمحن والمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب)(6)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة)(7)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله أفرح بتوبة العبد من الضمآن الوارد، والمضل الواجد، والعقيم

__________

(1) أبو يعلى والطبراني الترغيب والترهيب (4/ 89)

(2) تنبيه الخواطر 1/ 6.

(3) لب اللباب (المستدرك) 2/ 347.

(4) ثواب الأعمال/214.

(5) روضة الواعظين 2/ 329.

(6) إرشاد القلوب/58.

(7) عيون الأخبار 2/ 29.

القرآن.. والعزاء والشفاء (291)

الوالد)(1)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة) قيل له: وكيف ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: (يكون ذلك الذنب نصب عينيه تائبا منه فارا إلى الله عز وجل حتى يدخل الجنة)(2)

وحدثنا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم تندم فأرسل إلى قومه سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنّ فلانا قد ندم وإنّه أمرنا أن نسألك هل له من توبة؟ فنزلت ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أولئك جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 86 ـ 89]، فأرسل إليه فأسلم)(3)

وحدثناعن الإمام الباقر أنه قال: (كان غلام من اليهود يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا حتى أستخفه (استحقه) وربما أرسله في حاجة، وربما كتب له الكتاب إلى قوم فافتقده أياما فسأل عنه فقال: له قائل تركته في آخر يوم من أيام الدنيا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناس من أصحابه، وكان بركة لا يكاد يكلم أحدا إلا أجابه فقال: يا فلان ففتح عينيه وقال: لبيك يا أبا القاسم قال: أشهد أن لا إله الا الله وإني رسول الله فنظر الغلام إلى أبيه فلم يقل له شيئا ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثانية وقال له: مثل قوله الأول فالتفت الغلام إلى أبيه فلم يقل له شيئا ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثالثة فالتفت الغلام إلى أبيه فقال أبوه: إن شئت فقل وأن شئت فلا،

__________

(1) أصول الكافي 2/ 436.

(2) مكارم الأخلاق/462.

(3) النسائي (7/ 107)

القرآن.. والعزاء والشفاء (292)

فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وانك محمد رسول الله ومات مكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه: اخرج عنا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أغسلوه وكفنوه، وائتوني به أصلي عليه، ثم خرج وهو يقول: الحمد لله الذي أنجى بي اليوم نسمة من النار)(1)

وحدثنا أن حبيب بن الحارث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل معرض للذنوب، قال: (فتب إلى الله يا حبيب) قال: يا رسول الله إني أتوب ثم أعود؟ قال: (فكلما أذنبت فتب) قال: إذا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكثر ذنوبي قال: (عفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث)، وقال: (ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله تبارك وتعالى في أول الصحيفة خيرا، وفي آخرها خيرا إلا قال: للملائكة اشهدوا إني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة)(2)

الشاهد الثالث

في طريقنا إلى مدينة التائبين التقينا رجلا ثالثا، وقد رحب بي هو الآخر، وكأنه يعرفني من زمن طويل، ثم قال: شهادتي لا تختلف عن شهادة أصدقائي في التوبة.. وقد كان سببها منة الله العظمى علينا بزيارة معلمنا الكاظم لمدينتنا على الرغم من سمعتها السيئة حينذاك، وعندما سألناه عن ذلك قال: لست خيرا من لوط عليه السلام ذلك النبي الكريم الذي أرسله الله تعالى إلى تلك البلدة الظالمة القاسية، فلم يتردد في الذهاب إليها خشية على سمعته، بل أدى كل ما طلب منه، وبإخلاص وصدق..

ثم ابتسم، وقال: ومعاذ الله أن أقصدكم بحديثي هذا، فأنتم أشرف وأكرم، وحتى لو وقعتم في بعض الذنوب، فإن إيمانكم بالله وباليوم الآخر هو الذي سيطهركم منها.

__________

(1) أمالي الصدوق/397.

(2) مشكاة الأنوار/120.

القرآن.. والعزاء والشفاء (293)

ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، ثم قال (1): من العقبات التي تقف عائقا في طريق التوبة والهداية، إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أن الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، أنه كيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.. وهذا التفكير يبقى كابوسا يرافقه كالظل، فكلما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة، فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته؟.. ولذلك، فإن القرآن الكريم يحل هذه المشكلة عندما يذكر أن التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للانفصال عن الماضي، وبدء حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشروطها.

سكت قليلا، ثم قال (2): ولهذا، فإن الله تعالى يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتحة أمام كل الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك هذه الآيات الكريمة التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف