الكتاب: القرآن.. والهداية الشاملة ج1
الوصف: رواية حول مواضيع القرآن الكريم ومقاصده وعلاقتها بالهداية
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1443 هـ
عدد الصفحات: 623
ISBN: 978-620-4-72105-7
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
هذا الكتاب هو المقدمة السادسة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الكبرى من خصائص القرآن الكريم، خاصية الهداية، التي نص عليها قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، وقد رأينا من خلال استقراء ما ورد في القرآن الكريم حولها أنها تتضمن أربعة معان كبرى:
أولها: الأسس التي تقوم عليها الهداية، والتي لا يمكن أن تتحقق من دونها، وقد أشارت إليها كل الآيات التي تذكر الهداية القرآنية، فهي تقصرها على من لم تحل بينهم وبينها الحجب، وتجعلها خالصة لمن وفروا لأنفسهم الأهلية والقابلية لها.
ثانيها: الهداية للحقائق الكبرى، ابتداء من معرفة الله وانتهاء بمعرفة الكون والحياة والإنسان والمعاد وكل العوالم التي ذُكرت في القرآن الكريم، وكيفية التعامل معها.
ثالثها: الهداية للقيم والوظائف التي كُلف الإنسان بمراعاتها، والتي لا يمكن التعرف الدقيق عليها من دون هداية إلهية.
رابعها: غايات الهداية، ذلك أن لكل طريق غايات تحدد مساره، وتجعل السائر فيه أكثر اندفاعا ونشاطا وحماسة.
وبناء على هذا كان هذا الكتاب بجزئية عبارة عن تفسير موضوعي مختصر لمواضيع القرآن الكريم الكبرى جميعا، وقد اكتفينا فيه بذكر المواضيع القرآنية، وما ورد فيها من الآيات الكريمة، مع انتقاء بعضها وذكر تفسيره المختصر الذي يحدد معناه بسهولة ويسر.
وقد صببنا كل ذلك في رواية يرحل فيها المؤلف إلى المستقبل بعد أن تعم الهداية الأرض جميعا، وهناك يستمع للكثير ممن يحدثه عن تلك المعاني، ويبسطها بقدر الإمكان، وفي أجواء خاصة تتناسب مع الآيات الكريمة المراد الحديث عنها.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/8)
هذا الكتاب هو المقدمة السادسة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الكبرى من خصائص القرآن الكريم، خاصية الهداية، التي نص عليها قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، وغيرها من الآيات الكريمة.
وهو القسم الأول من أربعة أقسام تحاول أن تتعرف على خصائص القرآن الكريم، وتطبقها على آياته، دون تحديد موضوع معين من مواضيعه، أو مقصد محدد من مقاصده، ولذلك كان هذا الجزء والأجزاء الثلاثة التي تليه من المقدمات الأساسية لفهم القرآن الكريم.
أما القسم التالي لهذا، والمكمل له، فهو القسم الخاص بالعزاء والشفاء القرآني، والذي نصت عليه آيات كثيرة جمعت بين الهداية والشفاء، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]، وقوله: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، وهو يعنى بالجوانب الوجدانية والنفسية التي ينفعل لها وجدان المؤمن حين يقرأ القرآن الكريم.
وأما القسم الثالث، والمكمل لهما، فهو يهتم بالجوانب الوعظية والتربوية، والتي عبر عنها القرآن الكريم بالموعظة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، وهو يهتم بالأساليب والوسائل التي استعملها القرآن الكريم للتأثير والتزكية والتربية.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/9)
وأما القسم الرابع، والمكمل لها جميعا، فهو يعنى بالبراهين والحجج التي استعملها القرآن الكريم، ومنهجه فيها، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وقوله: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]
وقد نبهنا إلى هذا هنا، حتى يعرف القارئ الكريم أنه ليس من مقاصد هذا الجزء الاهتمام بتلك الجوانب الوجدانية أو التأثيرية أو الاستدلالية، وإنما هو خاص فقط بالهداية، والتي رأينا من خلال استقراء ما ورد في القرآن الكريم بشأنها أنها تتضمن أربعة معان كبرى:
أولها: الأسس التي تقوم عليها الهداية، والتي لا يمكن أن تتحقق من دونها، وقد أشارت إليها كل الآيات التي تذكر الهداية القرآنية، فهي تقصرها على من لم تحل بينهم وبينها الحجب، وتجعلها خالصة لمن وفروا لأنفسهم الأهلية والقابلية.
ثانيها: الهداية للحقائق الكبرى، ابتداء من معرفة الله وانتهاء بمعرفة الكون والحياة والإنسان وكل العوالم التي ذُكرت في القرآن الكريم، وكيفية التعامل معها.
ثالثها: الهداية للقيم والوظائف التي كُلف الإنسان بمراعاتها، والتي لا يمكن التعرف الدقيق عليها من دون هداية إلهية.
رابعها: غايات الهداية، ذلك أن لكل طريق غايات تحدد مساره، وتجعل السائر فيه أكثر اندفاعا ونشاطا وحماسة.
وبناء على هذا كان هذا الكتاب بجزئية عبارة عن تفسير موضوعي مختصر لمواضيع القرآن الكريم جميعا، وقد اكتفينا فيه بذكر المواضيع القرآنية، وما ورد فيها من الآيات الكريمة، مع انتقاء بعضها وذكر تفسيره المختصر الذي يحدد معناه بسهولة ويسر، اهتداء
القرآن.. والهداية الشاملة (1/10)
بهدي القرآن الكريم الذي اختصر جميع مواضعه في سورة الفاتحة، ليكون القارئ على تبصرة بكل المحتويات، قبل الخوض في التفاصيل.
ولذلك لم نطرح في هذا الكتاب، وعند بيان معاني الآيات الكريمة التفاصيل المرتبطة بمعانيها إلا ما تمس الحاجة إليه، لأننا سنتحدث عن ذلك بتفصيل في الأجزاء الخاصة بكل موضوع.
وقد انتقينا في تفسير الآيات أسهل التفاسير وأبسطها مع التصرف فيها طبعا، بحسب الشروط التي ذكرناها في الأجزاء السابقة، فابتعدنا عن كل ما يثير الحساسيات الطائفية، أو يحول القرآن الكريم إلى مادة للجدل والسجالات التي لا تفيد القارئ سوى الصراع.
ولهذا انتقينا التفاسير من مدارس مختلفة، وتصرفنا فيها بحسب ما تقتضيه الضرورة، مع التنبيه إلى أن التوثيقات الموجودة في بدايات النصوص، تدل على تصرفنا فيها بالاختصار، أو بالإضافة ونحوها.
وقد وضعنا جميع ذلك في قالب رواية حوارية، ينتقل فيها تلميذ القرآن بصحبة معلمه إلى المستقبل، حيث تعم الهداية الأرض جميعا، وتعم معها البركات والخيرات والتطور العلمي والتقني، لكن لا يُسمح لتلميذ القرآن بتسجيل أي شيء ما عدا المعارف القرآنية، وما عدا الأوصاف العامة لمظاهر التحضر العلمي والأخلاقي.
وفي الرواية يسافر تلميذ القرآن عبر المراكب العجيبة، إلى العواصم الكبرى للعالم، ليسمع الحوارات والندوات القرآنية، فيراها، وكيف عم فيها الهدى والصلاح والتقوى، وكيف كان القرآن الكريم هو الملهم والمحرك والدافع لكل ذلك التطور والتحضر.
وبناء على المعاني الكبرى للهداية في القرآن الكريم، فقد قسمنا الكتاب إلى أربعة
القرآن.. والهداية الشاملة (1/11)
فصول كبرى، وخصصنا كل جزء بفصلين، وهي:
الفصل الأول: القرآن، وأسس الهداية: وقد تطرقنا فيه إلى أساسين مهمين:
1. حجب الهداية: وهي الحجب التي تحول بين الإنسان وتنزل الهداية عليه، وقد ذكرنا منها عشرين حجابا هي: حجاب المرض، وحجاب الموت، وحجاب الهوى، وحجاب الذنوب، وحجاب الحرص، وحجاب الرفاه، وحجاب الكبر، وحجاب الجهل، وحجاب النفاق، وحجاب الكفر، وحجاب التقليد، وحجاب الأماني، وحجاب الإعراض، وحجاب الاعتداء، وحجاب العجلة، وحجاب الكذب، وحجاب التزيين، وحجاب الظن، وحجاب المضللين [أئمة الضلال، وأصدقاء السوء، والبيئة المنحرفة]، وحجاب الوساوس.
2. معارج الهداية: وهي السبل والوسائل التي يستعملها من يريد أن تتنزل عليه الهداية بصورتها الابتدائية أو الكاملة، وقد ذكرنا منها المعارج التالية: معراج التقوى والورع، ومعراج الإيمان والإسلام، ومعراج المواجيد والمشاعر، ومعراج العلم والمعرفة، ومعراج المدارك الحسية، ومعراج المدارك العقلية، ومعراج الاتباع والاقتداء، ومعراج الاعتبار والتبصر، ومعراج المجاهدة والإلهام.
الفصل الثاني: القرآن، والهداية العلمية: وقد ذكرنا فيه سبع معارف قرآنية كبرى، وهي:
1. معرفة الله: وقد تطرقنا فيه للتقديس والتنزيه، والكمال والعظمة، والرحمة والعناية، والربوبية والحاكمية.
2. معرفة النبوة: وقد تطرقنا فيه للنبوة والهداية، والوحي والبشرية، والصلاح والإصلاح، والآيات والبينات.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/12)
3. معرفة الإنسان: وقد تطرقنا فيه للخلافة ومؤهلاتها، والتكريم والعناية.
4. معرفة الكون: وقد تطرقنا فيه للكون والله، والكون والحياة، والكون والعبادة، والكون والتسخير.
5. معرفة السنن: وقد تطرقنا فيه للسنن والثبات، ومدرسة السنن.
6. معرفة الملائكة: وقد تطرقنا فيه للملائكة والهداية، والعبودية والطاعة، وخصائص وطاقات، وتكاليف ووظائف.
7. معرفة المعاد: وقد تطرقنا فيه للموت والبرزخ، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والجزاء والعقوبة.
الفصل الثالث: القرآن، والهداية السلوكية: وقد تطرقنا فيه إلى أربع أركان كبرى لهذا النوع من الهداية، وهي:
1. التهذيب والتصفية، وقد تطرقنا فيه لما دعانا القرآن الكريم إلى تهذيب النفس عنه، وقد ذكرنا فيه: الجحود، والإعراض، والضلال، والكذب، والخداع، والافتراء، والاستعلاء، والعجب، والكبر، والعداوة، والحسد، والقتل، والنهب، والقذف، والمنع، والخذلان، والاحتقار، واللؤم، والفحش، والنجوى، والإسراف، والمجاهرة، والنجاسة، والحرام، والفاحشة.
2. الشعائر التعبدية، وقد تطرقنا فيه للشعائر التعبدية الكبرى، وهي: الصلاة، والتلاوة والذكر والدعاء، والصوم، والحج.
3. المقامات الروحية، وقد تطرقنا فيه لمنازل السلوك الروحي، وهي: الخشية، والرجاء، والتوبة، والإخلاص، والتوكل، والشكر، والمحبة.
4. الأخلاق السامية، وقد تطرقنا فيه للقيم الأخلاقية الكبرى التي وردت في القرآن
القرآن.. والهداية الشاملة (1/13)
الكريم من الصدق، والأدب، والسماحة، والسخاء، والعدل، والشجاعة، والإحسان.
الفصل الرابع: القرآن، وغايات الهداية، وقد ذكرنا فيه أربع غايات كبرى للهداية، وهي:
1. الحقيقة الخالصة، وتطرقنا فيه إلى ردود القرآن الكريم على أسباب التيه والضلال، والنظريات المرتبطة بها.. وإلى الهدى والنور الذي وضعه الله تعالى في كتابه ليجلي الحقائق بأجمل صورة وأكملها.
2. الكمال الإنساني، وتطرقنا فيه ـ أولا ـ لنماذج عن الكمال الإنساني في القرآن الكريم، والمتمثلة في الآيات التي جمعت أوصاف المؤمنين، وهي: المسلمون، والمؤمنون، والمتقون، والمكرمون، والأبرار، والصادقون، والمجاهدون، وأولو الألباب، والمفلحون، والمتوكلون، والسابقون، وعباد الرحمن.. ثم ذكرنا صفات وخصائص المجتمع الفاضل، وهي: التعارف، والتواصل، والتكافل، والتناصح.. ثم ذكرنا صفات وخصائص الحكومة العادلة، والمتمثلة في الحاكمية، والخلافة.
3. السعادة الأبدية، وتطرقنا فيه ـ أولا ـ للسعادة الدنيوية، والتي تتمثل في الطمأنينة، والتمكين، والرفاه، والإشراق.. ثم السعادة الأخروية، وما ورد في القرآن الكريم عن أهل الجنة، ومشاهد النجاة والفوز.
ونعتذر في الأخير لطول الكتاب؛ فهدفنا من هذه السلسلة ـ كما ذكرنا سابقا ـ الاستيعاب والشمول بالإضافة للتقريب والتوضيح، وكلاهما يستدعي التفصيل، والذي قد يستدعي التطويل، والذي يبتعد عن الحشو أو ذكر ما لا داعي لذكره.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/14)
بعد أن طلب مني معلمي معلم القرآن أن أهيء نفسي للرحلة الخاصة بتعلم ما يتعلق بـ[القرآن.. والهداية الشاملة] رحت أبحث في الواقع عن مظاهر تلك الهداية وتجلياتها ومدى شمولها.
ومع أني وجدت بحمد الله الكثير من المظاهر الدالة على ذلك، إلا أني لم أجد تلك الهداية التي صورها القرآن الكريم بصورتها النقية الجميلة الكاملة التي مثّلها أنبياء الله وأولياؤه الصالحون.
وعندما رحت أبحث في أسباب ذلك، وجدت أولها الإعراض عن القرآن الكريم.. لا الإعراض عن حروفه وكلماته.. أو قراءته وترتيله.. وإنما الإعراض عن هدايته، وعدم التفاعل معها، أو الاهتمام بها.
ذلك أن الكثير انصرف إلى الألفاظ ومعانيها المحدودة، لا مقاصدها القريبة أو البعيدة، والتي لا يمكن أن يُفهم القرآن الكريم حق فهمه دون إدراكها.
وقد ذكرت للقراء الكرام الكثير من المشاهد الواقعية الدالة على ذلك في الروايات السابقة.. ومن أمثلتها القريبة ما حصل من أولئك الذين سمعوا قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5].. وبدل أن يهتدوا بها.. بل بدل أن يطيروا فرحا، وهم يسمعون بأن مالك هذا الكون جميعا، ومدبر أموره هو ﴿الرَّحْمَنُ﴾، وليس المنتقم أو المبتلي أو المعاقب.. راحوا يبحثون في معنى الاستواء وكيفيته.. وهل هو ثابت على العرش، أم يمكن أن يخلو العرش منه؟.. وعن حقيقة العرش، ومحله من السموات.. ويضعون الكتب والخرائط التي توضح ذلك.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/15)
ثم يقع الخلاف الشديد بينهم في كل تلك التفاصيل، ويكفّر بعضهم بعضا.. ثم يقاتل بعضهم بعضا بكل قسوة.. لتضيع كلمة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ المقصودة بالأصالة.. في كل ذلك الجدل والصراع والعنف.
وهكذا رأينا في روايات سابقة أولئك الذين انشغلوا برسم القرآن الكريم وكيفية كتابته عن حقائقه ومعانيه.. ومثلهم الذين انشغلوا بمخارج الحروف وصفاتها.. أو أولئك الذين انشغلوا بأسباب النزول عن أهداف النزول ومقاصده.
وقد وفر كل ذلك الضلال عن الهدي القرآني البيئة المناسبة لكل الأدعياء من الحشوية والكشفية والحداثيين والقرآنيين وغيرهم.. ليطوعوا القرآن الكريم لأهوائهم.. لا لينساقوا لها، ويستفيدوا منها، ويهتدوا بها.
وكل ذلك جعلني أشعر بأن القرآن الكريم أكبر مظلوم على هذه الأرض، وبين المسلمين أنفسهم.. وإلا فكيف نعيش التخلف، وبيننا كتاب التحضر الأعظم؟.. وكيف نعيش الشقاء، وبين أيدينا كلمات الله التي تحوي إكسير السعادة؟.. وكيف ننزل إلى السفل والبهيمية في سلوكنا وأخلاقنا، وبين أيدينا المعراج والسلم الذي يصعد بنا إلى أرقى مراتب الإنسانية؟
في غمرة تلك الآلام.. زارني معلمي الجديد الذي أرسله معلم القرآن.. والذي مسح الدموع عن عيني، وقال: إن كانت هذه الدموع دموع فرح وسرور، فلك الحق في إرسالها.. أما إن كانت دموع ألم وحزن؛ فليس لك ذلك.. لأن ما رأيته لا يساوي شيئا، أمام ما لم تره.. فانشغل بالأمل فيما لم تره عن الألم لما رأيته.
قلت: لم أفهم.. ما تقصد؟
قال: أنت الآن تعيش حالة يعقوب قبل عودة ابنه يوسف.. لكن يمكنك أن تعيش
القرآن.. والهداية الشاملة (1/16)
لحظات عودته إليه.. وتعيش معها لحظات الإنجازات العظيمة التي حققها ابنه في فترة غيابه.
قلت: لا أزال لا أفهم قصدك.
قال: أنت الآن تعيش مع المسلمين الأوائل في شِعب أبي طالب، وهم محاصرون جوعى.. لكن يمكنك أن تعيش بعد أن فتحت لهم مكة المكرمة.. وتتحول تلك البلدة العصية إلى مقر للمؤمنين والصالحين.. لا مكان فيه لأبي جهل ولا لأبي سفيان.
قلت: لا أزال لا أفهم قصدك.
قال: أنت الآن تعيش في طور الاختبار والابتلاء والسقوط.. لكن يمكنك أن تعيش في طور النصر والظهور.. ذلك الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28]
قلت: وعيت ما تقول.. فأنت تريد مني أن أتخلص من حصار الحاضر، لأعيش جمال المستقبل.
قال: أجل.. فالألم الذي يحزنك سيصبح سجنا يحول بينك وبين تحقيق آمالك.. فلذلك لا تنظر إلى المصحف المسجون بين أيدي الهاجرين له.. وانظر إلى المصحف الذي ستتحقق به الحضارة الإنسانية الحقيقية في أجمل صورها.
قلت: وأنى لي أن أعيش ذلك.. وأنا لا أستطيع السفر إلى المستقبل.. يمكنني فقط أن أعيش الواقع.. أو أعيش الماضي من خلال ما سجله المؤرخون.. أو من خلال آثاره المريرة على الواقع.
قال: فهل المؤرخون أوثق عندك من ربك؟
القرآن.. والهداية الشاملة (1/17)
قلت: معاذ الله أن أعتقد هذا.
قال: أنت لا تقوله بلسانك.. لكن قلبك وعقلك وكل كيانك حتى دموعك تقول ذلك.
قلت: هلا فصلت لي ذلك.. فأنا لا طاقة لي بفهم الأحاديث المجملة.
قال: لاشك أنك قرأت قصة آدم عليه السلام وإبليس.. وتوعد إبليس لآدم.. ووعد الله بإرسال الهداة للبشر.. وقرأت قبله ما حصل من حوار بين الله وملائكته.. وقرأت معها جميعا وعد الله بنصر رسله وإظهار الحق وزهوق الباطل.. وهزيمة إبليس وكل زبانيته.
قلت: بلى.. أقرؤها كثيرا.. وقد وردت في القرآن الكريم في مواضع مختلفة.
قال: فإذا جمعت بينها جميعا.. علمت أن كلمة الله هي العليا.. وأن الله الذي استخلف البشر، وأرسل لهم الهداة يعلم أنهم سينجحون فيما كُلفوا به من مهام، وما أُنيط بهم من وظائف.. وأن تخلفهم في بعض المراحل لا يعني تخلفهم فيها جميعا.
قلت: فهمت الآن.. أنت تريدني أن أعيش تلك السنوات القليلة التي يتحقق فيها انتصار الحق على الباطل.. وظهور الإسلام على الدين كله.
قال: ومن ذكر لك أنها سنوات قليلة؟
قلت: المفسرون والمحدثون عادة يذكرون ذلك.
قال: لأنهم لم يستمدوا معارفهم من القرآن الكريم، ومن الهدي المقدس الذي لم يتدنس بتراث الأديان المحرفة.
قلت: فهل يمكن أن تطول تلك الفترة مدة من الزمن؟
قال: أجل.. وأطول مما تتصور.. أو يتصور المتشائمون.. وفيها ستعيش البشرية معنى الإنسان، بعد أن تجرب كل أنواع البهيمية.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/18)
قلت: ولكن لِم حظيت تلك العصور بذلك دون غيرها؟
قال: الله تعالى أعدل وأرحم من أن يهب فضله لبعض العصور دون بعضها.. فلذلك كان فضله شاملا للجميع.. لكن هناك من يقبله ويقبل عليه.. وهناك من يعرض عنه.
قلت: فما ذنبنا نحن الذين عشنا في هذه العصور المظلمة؟
قال: فهمك للزمن هو الذي جعلك تشعر بذلك.. وإلا فإن الله تعالى أتاح لك أن تعيش في الزمن الذي تحب، ومع من تحب.. أليس المرء مع من أحب؟
قلت: بلى.. وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 69 ـ 70].. لكن ذلك في الآخرة.. لا في الدنيا.
قال: وهذا أيضا من قصور فهمك عن حقيقة الزمن.. فالله رب الدنيا والآخرة.
قلت: لكن هناك فرق بين معية الحس ومعية المعنى.. فشتان بين أن أعيش بفكري أو أعيش بفكري وجسدي.
قال: وحتى في هذه يمكنك أن تشعر بنعمة الله تعالى عليك.
قلت: لم أفهم.. هل تريدني أن أفرح لأني أعيش في الطور المظلم للبشرية؟
قال: بل يمكنك أن تفرح لأنك في الطور المظلم لم تكن مظلما، بل كنت منيرا ومستنيرا.. بل يمكنك أن تحمد الله لأنك عشت فيه لأنه أتاح لك من النور ما تزيح به بعض الظلمات.
قلت: لم أفهم هذه أيضا.
قال: ألا ترى الكثير من الصالحين أو محبي الصالحين يرددون عند ذكر الإمام الحسين وما حصل له ولأهل بيته من المآسي والآلام قولهم: (يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزا
القرآن.. والهداية الشاملة (1/19)
عظيما)؟
قلت: بلى.. وأنا أردد معهم ذلك أيضا.. فما فعله الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه كان أعظم نصر للإسلام.. ولذلك كان مساهما في الحفاظ عليه وعلى القيم النبيلة التي جاء بها في وجه أولئك الذين أرادوا تدنيسه والانحراف به.
قال: وهذا ما ينطبق على كل واقع وكل زمان.. فالشيطان الذي أراد أن يدنس الإسلام في عهد الإمام الحسين هو نفسه الشيطان الذي يريد أن يدنسه في كل العصور.. ولذلك يمكنك أن تحقق ما تحلم به من الفوز العظيم في صحبة الإمام الحسين وكل أئمة الهدى.. بل كل الرسل والأنبياء.. وأنت في عصرك من غير أن تغادره.
قلت: وعيت ما ذكرت.. لكن هذا قد يجعل أصحاب العصور المنوّرة بنور الهدى القرآني يصيحون أيضا متسائلين عن سر حرمانهم من تلك الفرص العظيمة.
قال: هم لم يُحرموا أيضا.. فالشيطان الذي دنس عصور الظلام يسعى بكل جهده ليدنس عصرهم.. ولذلك هم ليسوا مجبورين على الالتزام بالهدى.. وإنما يجاهدون أنفسهم على الالتزام به والثبات عليه.
قلت: صدقت.. لكن اعذرني.. فقد نسيت أن أسألك عنك.. فهل أنت معلمي الجديد؟
قال: أجل.. أنا معلم الهداية.. وقد أرسلني إليك معلمك معلم القرآن.. فالذي لا يدرك هداية القرآن ولا يعيشها، لا يعرف القرآن، حتى لو قضى حياته كلها يقرؤه ويرتله.
قلت: فهل سترحل بي إلى تلك القرون الفاضلة التي عاش فيها الصالحون مع القرآن الكريم، واهتدوا به، رغم كل المناوئين لهم، لأجعلهم نموذجا لي ولمن هم مثلي من المقصرين؟
القرآن.. والهداية الشاملة (1/20)
قال: بل سأرحل بك إلى تلك العصور الفاضلة التي سيعم فيها نور القرآن الكريم الأرض جميعا، فتتنور بنور ربها، وتحقق ما حلم جميع الأنبياء والأولياء بتحقيقه.
قلت: ولكن ذلك مستقبل.. ونحن لا يمكننا الرحيل إليه.
قال: المقيدون في سجون الزمان والمكان لا يمكنهم الرحيل إليه.. أما الذين تحرروا من تلك القيود؛ فيمكنهم أن يرحلوا إليه ويعيشوه.
قلت: إن ما تذكره غريب لا تطيقه العقول.
قال: بل بسيط.. تدركه الفطر السليمة وبسهولة ويسر.
قلت: كيف ذلك؟
قال: أنت تردد كثيرا قصة ذلك الصالح الذي ذكر مشاهدته لأهل الجنة وهم يتنعمون، ولأهل النار وهم يتعذبون.
قلت: أجل.. فهي مؤثرة جدا.. واسمح لي أن أقصها لك أنت أيضا.. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّا لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف أصبحت يا فلان؟).. قال: (أصبحت يا رسول الله موقنا)، فعجب رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله، وقال له: (إنّ لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟).. فقال: (فإنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعَزَفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلايق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان)، ثم قال له: (الزم ما أنت عليه)، فقال الشاب: (ادع
القرآن.. والهداية الشاملة (1/21)
الله لي يا رسول الله أن أُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر) (1)
قال: فهل رأيت تأثير الأمل في البعث على العمل؟
قلت: أين ذلك؟
قال: إن ذلك اليقين الذي امتلأ به قلب ذلك الشاب في فضل الله تعالى، والذي جعله يراه رأي العين هو السبب في تقديمه نفسه لله، لنصرة الحق، ومواجهة الباطل.. ولذلك صار هذا الشاب نورا من الأنوار التي حافظت على الحق.
قلت: لقد تحقق له ذلك باليقين.. كما قال الإمام علي يصف الصالحين: (هجم بهم العلم على حقائق الأمور، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى) (2)
قال: فقد اهتديت إذن إلى المركبة التي سترحل بك إلى المستقبل الجميل المنور بنور الهداية القرآنية؟
قلت: أي مركبة؟
قال: ألا تراهم يسافرون عبر الزمن من خلال المراكب؟
قلت: أجل.. كل الروايات التي تتحدث عن الرحلة عبر الزمن تذكر ذلك.
قال: فأنت تحتاج إلى هذه المركبة أيضا.. فلا سفر من دون آلة سفر.
قلت: فأنى لي ذلك؟
قال: اليقين في ربك، وصدق كلام ربك هو الذي يجعلك ترحل لأي محل يذكره
__________
(1) الكافي 2/ 53.
(2) نهج البلاغة، رقم 147
القرآن.. والهداية الشاملة (1/22)
ربك..
قلت: لكن أنى لي بذلك اليقين الذي وهبه الله للصالحين من عباده؟
قال: ووهبه لمن شاء وأراد وصدق في إرداته من عباده.. فيمكنك أن توفر في نفسك المشيئة والمحبة والإرادة، ليهبك الله ما وهبهم.. ففضل الله أعظم من أن يُحبس عمن يرغبون فيه.
قلت: فأنا أرغب فيه وأحبه.. وأتألم لأني لم أجاهد نفسي لتتحقق به.
قال: أعظم مجاهدة هي أن ترغب وتحب.
قلت: فأنا كذلك.. وكيف لا أرغب ولا أحب فيما لا تكون سعادة الأبد إلا به.
ـ ـ ـ
ما قلت ذلك.. حتى رأيتني في أرض غريبة، وكأنها قطعة من الجنة.. سألت معلمي عنها، فقال: أنت الآن في ذلك الزمن الجميل الذي تنورت فيه الأرض جميعا بنور ربها، وسترى كيف كان للقرآن الكريم دوره الريادي والقيادي في تحقيق ذلك.
فرحت كثيرا، وقلت: وأخيرا سوف أتحقق من كل النبوءات المرتبطة بالمستقبل وأنواع التقنيات والعمران المتوفرة فيه.. وستكون ملاحظاتي حقيقية، وليست مجرد فرضيات واحتمالات.
قال: ليس لك ذلك.. فأنت مأذون فقط بكتابة ما يرتبط بالقرآن والهداية الشاملة.. أما ما عدا ذلك.. فأنت تعلم ما ورد من النهي عن خطاب الناس بما لا تطيقه عقولهم.
قلت: أجل.. تذكرت ذلك.. وشكرا لتنبيهي إليه.. لكن ما اسم هذه الأرض التي نزلت فيها؟.. ومن أي بلاد المسلمين هي؟
القرآن.. والهداية الشاملة (1/23)
قال: في ذلك الوقت.. كل البلاد بلاد مسلمين.. فلذلك يمكنك أن تعتبرها مكة أو المدينة.. ويمكنك أن تعتبرها واشنطن أو باريس.
قلت: أليس هناك في ذلك الوقت فرق بينهما؟
قال: قد يكون هناك فرق بينهما في التضاريس والمناخ.. لكن ليس هناك أي فرق بينها في الإنسان والهداية.. فهداية الله مثل النور والعافية تنزل على أي محل لتصبغه بصبغتها.
قلت: أجل.. وقد صدقت في ذلك.. لكن.. هل ستكون معي في هذه الرحلة؟
قال: مثلما كان سائر معلميك.. سأكون معك من دون أن تشعر.. ولذلك سترى أن كل الأحاديث التي تسمعها مرتبطة فقط بغرض رحلتك.. فلا تتعجب من ذلك.
قلت: لقد تعود سائر المعلمين إخباري عن مسيرة رحلتي، لأكون على بينة من أمري.. فهلا فعلت ذلك.
قال: أجل.. أول رحلتك ستكون للأسس التي لا يمكن أن تقوم الهداية من دون توفرها.. فالهداية بناء عال يحتاج أسسا قوية ثابتة.. ومن لم يملك الأسس سينهار بنيانه لا محالة.
قلت: صدقت.. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]
قال: ولذلك اهتم أهل ذلك الزمن الجميل المنور بنور الإيمان بتحقيق تلك الأسس وتثبيتها.. بل جعلها من الأركان الضرورية في كل سياساتهم التعليمية والثقافية والإعلامية وغيرها.. كما سترى.
قلت: هذا أول الرحلة.. فما ثانيها؟
القرآن.. والهداية الشاملة (1/24)
قال: الهداية العلمية.. فالهداية قبل أن تكون عملا وسلوكا تكون معاني مستقرة في الذهن والوجدان.. والإنسان ابن أفكاره ومعلوماته.
قلت: صدقت.. وقد قال الله تعالى عن الإيمان به: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، حيث اعتبر الإيمان علما.. بل أشرف العلوم.
قال: وبما أن العلم يقتضي العمل.. فسترحل أيضا إلى الهداية العملية، لتعرف كيف تتحقق، ومن خلال القرآن الكريم، وبأجمل صورها وأكملها.
قلت: وآخر رحلتي.. أين ستكون؟
قال: لكل رحلة غايات.. ولذلك سترحل في آخر رحلتك إلى غايات الهداية القرآنية.. وستراها رأي العين.. لكن لا تسجل إلا ما أُذن لك في تسجيله.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/25)
في اللحظات الأولى من رحلتي للمستقبل الجميل المنوّر بنور الهداية القرآنية، رحت أسير في تلك المدينة الجميلة التي نزلت فيها، وقد رأيت فيها من عجيب العمران والتقانة ما لم أره في حياتي أبدا.
وبما أني لا أستطيع أن أصف لكم التفاصيل المرتبطة بذلك.. إلا أني أذكر لكم، ولكل أصدقاء المناخ أن الجو في تلك المدينة، وعلى الرغم من توفر كل وسائل الراحة والرفاه والتنقل ونحوها إلا أنه لم يكن ملوثا.. بل كان مشحونا بروائح زكية تبعث على النشاط والفرح.
ما هي إلا لحظات بعد وصولي حتى وجدت نفسي أمام بوابة كبيرة، تشبه بوابات الجامعات عندنا.. لكن بصورة أجمل بكثير من كل ما نراه، وفي كل الدول المتطورة..
وقد شدني ما زُخرفت به من زخارف تمثل كل الحضارات التي مرت بالبشرية.. وكلها كانت تحيط بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: 43]، والتي كانت تظهر بإشعاعات جميلة تبعث على الراحة والأمل.
بينما أنا كذلك أنظر إلى البوابة وجمالها، وما تبعثه من الطمأنينة والراحة شد على مرفقي بعض الشباب، وقال: هيا.. الجميع بانتظارك.. سيبدأ الآن امتحاننا.. وقد طلب مني الأستاذ أن أحضرك لتكون شاهدا ومراقبا.
لم أجد ما أقول.. إلا أني سرت معه إلى مدرج من مدرجات تلك الجامعة.. ولم يكن
القرآن.. والهداية الشاملة (1/26)
له من المدرجات التي نعرفها إلا الاسم.. أما حقيقته وصورته فقد كانت أجمل بكثير.. حيث كان الطلبة والأستاذ، وكأنهم في متنزه وحديقة، لا في سجن أو معتقل.
بعد أن دخلت.. ورحب بي الأستاذ.. قال مخاطبا طلبته: سيبدأ الآن الامتحان.. وفي المادة الأولى.. مادة [التحرر والتجرد].. وطبعا أنتم تعلمون أن الجهاز المرفق مع كل واحد منكم سيسجل كل تدخل، ويضع العلامات التي تستحقونها.. ومن دون أي تدخل مني ولا منكم.
قالوا: أجل.. والحمد لله.. ونحن نثق في الموازين التي يتعامل بها معنا في هذه المادة، وفي كل المواد.
قال الأستاذ: سأبدأ بأول سؤال.. وهو عن علاقة الهداية بالتحرر والتجرد.
قال أحد الطلبة (1): لا يمكن أن تتم الهداية أو تتحقق من دون التحرر والتجرد.. ذلك أن العين وحدها لا تكفي لرؤية الموجودات، بل ينبغي أن لا يكون هناك حجاب أو مانع يحول بينها وبين الرؤية.. فلو كان هناك دخان أو غبار أو ضباب غليظ يحول بيننا وبين الشي ء المراد رؤيته؛ فإنا لا نراه مهما كان قربه منا.
قال آخر: ولذلك إذا وضعنا نظارة سوداء قاتمة، فمن الطبيعي أن لا نرى شيئا، وإذا وضعنا نظارة ملونة، فإننا سنرى الأشياء ملونة حسب اللون الذي اخترناه.
قال آخر: وإذا كانت عدستا نظارتنا غير مصقولتين جيدا؛ فإننا سنرى الأشياء معوجة.. وهكذا إن كان مبتلين بأي مرض، فإنا سنرى الأشياء غير مطابقة لما هي عليه في الواقع.
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 229.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/27)
قال آخر: وأمثال هذه الموانع بالضبط قد تحصل للعقل والفطرة، وقد تحصل لكل أدوات المعرفة التي أتاحها الله لنا.. فلذلك نحتاج إلى إزالة الحجب وتحرير أنفسنا منها حتى تتحقق لنا الهداية، وفي أكمل وأجمل صورها.
قال الأستاذ: بوركتم.. وما ذكرتموه صحيح.. والآن أريد منكم أن تثبتوا ذلك من خلال القرآن الكريم الذي هو دستور الهداية الأكمل والأشمل.
قال أحد الطلبة: عندما نعود للقرآن الكريم نجد تركيزه الشديد في خطابه للبشر على الدعوة للتحرر من كل تلك القيود التي تحول بينهم وبين الهداية.. لأن المشكلة ليست في الحقيقة، وإنما في الأعين التي تنظر إليها.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [الحج: 53]
قال أحد الطلبة: هذه الآية الكريمة تشير إلى أخطر الحجب التي تحول بين الإنسان والهداية، وهو مرض قلبه الذي يمنعه من رؤية الأشياء كما هي.. ذلك أن القلب بالمفهوم القرآني هو الأداة التي تستقبل الحقائق؛ فإن مرض بأي مرض منعه من استقبالها بصورة صحيحة.
قال آخر: وقد قال بعض العلماء يوضح ذلك: (إن القرآن الكريم يؤكد على أن وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل يجب أن يؤخذ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/28)
بنظر الاعتبار وجود الأرضية المهيئة والإستعداد للتلقي كشرط أساسي) (1)
قال آخر: ثم قال يوضح ذلك: (إن آيات القرآن الكريم كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة، فالذين ينظرون إلى الحقائق بروح التسليم والإيمان والعشق، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درسا يزيد في إيمانهم، ويفعل سمات الإنسانية لديهم.. أما الذين ينظرون إلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق، فإنهم لايستفيدون منها، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم.. وبتعبير آخر فإنهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إلى معاصيهم، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه، ويصرون على رفض كل حقيقة، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم، وبالتالي تتجذر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم، وفي النهاية إغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر) (2)
قال آخر: ولهذا اعتنى القرآن الكريم بذكر كل أنواع الأمراض التي تصيب القلوب، وتحول بينها وبين استقبال الهداية الإلهية.
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه القرآن الكريم لقب [إثم القلب]، تفريقا بينه وبين إثم الجوارح، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283]، وهو مثل المرض؛ فكلما كان متجذرا في الباطن، كلما صعب علاجه، بخلاف الجرح الخارجي.
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [صغو القلب]، أي ميله عن الحق، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4]؛ وهو يعني أن القلب حاسَّة قابلة للانحرافِ ما لم تجد عاصمًا يكبحها، كما قال تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 274)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 274)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/29)
بِالْآخِرَةِ﴾ [الأنعام: 113]
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [غل القلب]، والذي ورد ذكره في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]، والغلُّ هو الغشّ، والعداوة، والضغن، والحقد، والحسد، والدغل؛ وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ مسلم أبدًا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم) (1)
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [غلظ القلب]، وقد ذكره الله تعالى، منزِّهًا عنه رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، والغلظة ضدّ الرقة في الخلق والطبع والفعل والمنطق والعيش، فهي قسوة وشدة واستطالة.
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [إباء القلب]، والمقصود منه إباؤه عن الإذعان لما أمر الله، وقد نسبه الله تعالى إلى القلب في قوله عن المشركين: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 8]
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [لَهْو القلب]، والمقصود منه كل ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وقد ورد ذكر هذا المرض الخطير في القرآن الكريم ست عشرة مرة، وود ذكره مرتبطا بالقلب في قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنبياء: 1 ـ 3]
__________
(1) مسند أحمد، حديث: 21590.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/30)
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [القلب المنكِر]، كما في قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون﴾ [النحل: 22]، وهي القلوب التي لا تقبل الوعظ، ولا ينجع فيها الذكر، فهم مستكبرون عن عبادة الله، مع إنكار قلوبهم لتوحيده (1).
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [اشمئزاز القلب]، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر: 45]، والاشمئزاز هو الانقباض، وهي حالة تمر على القلب المعرض على الهداية، فيمتلئ غيظا وغما يظهر أثره على الجوارح، كما يشاهد في وجه العابس المحزون.
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [زيغ القلب]، وقد ورد ذكره في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: 7]
قال آخر: وقد قال بعض العلماء في التعريف بهذا المرض وأصحابه عند تفسيره للآية الكريمة: (أما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة، فينكرون المتشابه، وينفرون الناس منه، ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم، ولا يناله حسهم.. ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم، ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم.. ومعنى ابتغاء تأويله أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد) (2)
قال آخر: وقال آخر: (الزيغ هو الميل عن الاستقامة، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
__________
(1) تفسير ابن كثير، 4/ 484.
(2) تفسير المراغي: (3/ 99)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/31)
رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه، وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة والتأويل، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم، ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه، ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية) (1)
قال آخر: وقال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ [آل عمران: 7]: (الزيغ هو الميل عن خط التوازن في الفكر والاستقامة في الخط، من هؤلاء الذين يعيشون الارتباك الفكري والقلق الروحي والضياع العملي، فلا يلجأون إلى ركن وثيق من الحجة القاطعة الواضحة، ولا ينطلقون من فكر عميق واسع، ومن خط مستقيم واضح، فهم لا يتحركون من موقع إيمانهم بالحقيقة الواقعية التي تناديهم في إيحاءاتها الفكرية الإنسانية للبحث عنها والسعي إليها، بل يتحركون من خلال تلبية حاجاتهم، وتحريك أطماعهم وتوجيه طموحاتهم نحو الأهداف الخبيثة، فيبحثون عن أي مبرر للحصول على ما يريدون، بعيدا عن الشروط الأخلاقية لذلك، لأن المهم لديهم أن يقدموا بين أيديهم أية حجة في الصورة الظاهرة حتى لو كانت غير مقنعة، لأن قناعة الآخرين ليست الهدف لهم، بل الهدف الأساس هو تضليلهم وتوجيههم نحو الانحراف عن الخط المستقيم، من أجل إرباك الواقع الإنساني وإبعاده عن الانسجام مع رسالات الأنبياء وحركات المخلصين، ولهذا، فإنهم يحاولون أن يلعبوا على الألفاظ ويتحركوا بأساليب الدس والتشويه والتهويل ضد الرسل والرسالات، فيلجئون ـ في تبرير مواقفهم وأوضاعهم ـ إلى المتشابهات التي يمكن أن تثير الجدل بين الناس لقابليتها للتفسير والتأويل) (2)
__________
(1) تفسير الميزان (3/ 13)
(2) من وحي القرآن (5/ 228)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/32)
قال آخر: ومن أمراض القلوب الحائلة بين الإنسان والهداية ما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 45]، وقد قال بعض العلماء في تفسيرها: (على كل حال فإن المؤمنين ـ بسبب إيمانهم ـ لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح، فمقصدهم معلوم وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبداً.. أمّا المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم، فهم مترددون حائرون ذاهلون، ويبحثون دائماً عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم) (1)
قال آخر: ثم عقب على من خصها بالمنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدَّعين الكاذبين بهاتين الصفتين؛ فالمؤمن شجاع ذو إِرادة وتصميم وخطى واثقة، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائماً) (2)
قال آخر: ولهذا وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]
قال آخر (3): ومن أمراض القلوب الحائلة بين الإنسان والهداية ما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 67)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 67)
(3) من وحي القرآن (11/ 213)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/33)
[التوبة: 110]، أي ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا﴾ [التوبة: 110] على أساس من الاهتزاز في الفكر والموقف ﴿رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 110] يثير الشك ويقود إلى التزلزل، فيطبع كل مشاعرها ونبضاتها بطابعه حتى يتحوّل إلى ما يشبه الخصوصيات الذاتية التي لا تزول إلا أن تزول الذات نفسها، فتبقى ما بقيت الذات ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة: 110] وتتلاشى وتموت، فيتلاشى الشك بزوال قاعدته وموضعه ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: 10] فيما يمنح من رضوانه، وفي ما يمنع من غفرانه.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: 25]
قال أحد الطلبة: لقد ورد ذكر هذا الحجاب، وهو [أَكِنَّة القلب] في أربعة مواضع من القرآن الكريم؛ كما في قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: 25]، ومثلها في [الإسراء: 46]، وفي [الكهف: 57]، وفي [فصلت: 5]، والأكنَّة هي الأغطية، ومعنى الآية الكريمة: جعلنا على قلوبهم أغطيةً وغشاوة، مجازاة على كفرهم، ومنَعْنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم.
قال آخر: وهي تشير إلى أن القلوب بعد أن يشتد مرضها، تصبح غير قادرة على استقبال الحقائق، ولذلك تموت مثلما يموت الجسد بعد أن يعجز عن الوظائف التي تبقيه على قيد الحياة.
قال الأستاذ: فما تجيبون من يستدل بهذه الآية الكريمة وغيرها على الجبر، وأن الله تعالى يجبر القلوب على الضلال.. كما ذكر ذلك بعض من كان في فترة الظلمات التي مرت بالبشرية؟
القرآن.. والهداية الشاملة (1/34)
قال آخر: الآية الكريمة لا تعني أن الله تعالى وضع الأكنة على قلوبهم رغم أنوفهم، وإنما تعني أنهم باختيارهم لسبيل الضلال بدل الهداية تحققوا بما يحجبهم عن الحق، فلذلك وفر الله لهم ما استعدت نفوسهم له؛ فالله هو الهادي المضل.. يهدي من يشاء أن يهتدي، ويضل من يشاء أن يضل.
قال آخر: وقد قال بعض العلماء في الآية الكريمة: (هذه استعارة، لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب، ولا وقر في سمع.. وإنما المراد أنهم ـ لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوته على أسماعهم وإفراغه في آذانهم ـ كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه، وفي آذانهم وقر دون فهمه، وإن كانوا من قبل نفوسهم أُتوا، وبسوء اختيارهم أُخذوا.. ولو لم يكن الأمر كذلك لما ذمّوا على اطراحه، ولعذروا بالإضراب عن استماعه) (1)
قال الأستاذ: فهل لهذا النوع من الحجاب نظائر في القرآن الكريم؟
قال أحد الطلبة: أجل.. ومنها ما أطلق عليه الله تعالى لقب [الإغفال]، كما في قوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف: 28]: وقد فسرها بعض العلماء بقوله: (المراد بإغفال قلبه تسليط الغفلة عليه وإنساؤه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة، حيث إنهم عاندوا الحق، فأضلهم الله بإغفالهم عن ذكره، فإن كلامه تعالى في قوم هذه حالهم) (2)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بقوله: (فلا مساغ لقول من قال: إن الآية من أدلة جبره تعالى على الكفر والمعصية، وذلك لأن الإلجاء مجازاة لا ينافي الاختيار، والذي ينافيه هو الإلجاء ابتداء، ومورد الآية من القبيل الأول) (3)
__________
(1) تلخيص البيان في مجازات القرآن (ص: 193)
(2) تفسير الميزان (13/ 159)
(3) تفسير الميزان (13/ 159)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/35)
قال آخر: ثم بين عدم الحاجة إلى التأويل في هذا وأمثاله، فقال: (ولا حاجة إلى تكلف التأويل كقول من قال إن المراد بقوله: ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ [الكهف: 28]:عرضناه للغفلة أو أن المعنى صادفناه غافلا، أو أريد به نسبناه إلى الغفلة، أو أن الإغفال بمعنى جعله غفلا، لا سمة له ولا علامة، والمراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين، ولم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة) (1)
قال آخر: ومنها ما ورد وصفه في قوله تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ [المؤمنون: 63]، والغَمْرة، هي غطاء القلب عن فهم ما أودع الله كتابه من الهداية، وإذا بلغ هذا المبلغ، فليس للقلب القدرة على التفريق بين الحسن والقبيح.
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [الطبع]، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: 100]، وقوله: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87]
قال آخر: وقد قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ [يونس: 74]: (هذه الآية الكريمة لاتدل على الجبر، وقد أخفي تفسير ذلك فيها، لأنها تقول: إننا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئا، وبناء على هذا فإن الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء، وكانت تترك
__________
(1) تفسير الميزان (13/ 159)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/36)
أثرها على قلوبهم تدريجيا حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق، ووصل الأمر بهم إلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم، بحيث لا يذعنون ولا يسلمون أمام أية حقيقة) (1)
قال آخر: ومنها ما أطلق عليه لقب [الختم]، كما في قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: 7]، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: 23]
قال آخر: وقد قال بعض العلماء في تفسير أمثال هذه الآيات متسائلا: (أول سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: 7] فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجبارا، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه.. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبرا فلماذا العقاب؟) (2)
قال آخر: ثم أجاب على ذلك بقوله: (القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤلات ويقول: إن هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر، يقول تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: 155] ويقول: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35] ويقول: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: 23].. كل هذه الآيات تقرر أن السبب في سلب قدرة التشخيص، وتوقف أجهزة الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد أمام الحق، هذه
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 410)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 86)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/37)
الحالة التي تصيب الإنسان، هي في الحقيقة رد فعل لأعمال الإنسان نفسه) (1)
قال آخر: ثم ذكر كيفية حصول ذلك، والمراحل التي يمر بها الإنسان ليصل إلى تلك المرحلة الخطيرة، فقال: (من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أن الإنسان لو تعود على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الأولى ماهية الـ (حالة) ثم يتحول إلى (عادة) وبعدها يصبح (ملكة) وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحيانا درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها أبدا.. لكن الإنسان اختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر.. تماما مثل شخص فقأ عينيه وسد أذنيه عمدا، كي لا يسمع ولا يرى) (2)
قال آخر: ثم ذكر سر نسبة ذلك إلى الله تعالى، فقال: (ولو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله، فذلك لأن الله هو الذي منح الانحراف مثل هذه الخاصية) (3)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23]، وقوله: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 70 ـ 71]، وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 87)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 87)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 87)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/38)
الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 16]
قال أحد الطلبة (1): هذه الآيات الكريمة تتحدث عن حجاب الهوى، وهو المرتبط برغبة النفس، وميلها إلى الشهوات.. ويقال إن لفظة الهوى مشتقة من [الهوي]، وهو يعني السقوط من الارتفاع، وذلك لأن الهوى يسبب سقوط الإنسان في المصائب في الدنيا، وابتلاءه بالعذاب في الآخرة، ومن هنا قيل لجهنم ﴿هَاوِيَةٌ﴾ [القارعة: 9] لأن قعرها منحفض للغاية.
قال آخر (2): وقد أشارت الآية الكريمة الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23]، إلى عاقبة من من اتخذ الهوى إلها، وهي أنه سوف يُختم على قلبه وعلى سمعه، ويُجعل على بصره غشاوة، فلا يهتدي بعد ذلك، لا جبرا، وإنما باختياره للهوى الذي من خصائصه ذلك العمى الذي يصيب صاحبه.
قال آخر: وأشارت الآيات الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 70 ـ 71] إلى نموذج عن أتباع هذا الهوى المضلل، وهو المتمثل في فريق من اليهود المعاندين حيث كلما جاءتهم رسل الله بما يخالف أهواءهم، قاموا بتكذيب بعضهم وقتل البعض الآخر.. وعنادهم هذا كان حجابا بينهم وبين الحقائق.
قال آخر (3): وفي قوله تعالى: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 250.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 250.
(3) تفسير المراغي: (6/ 164)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/39)
كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 71] إشارة إلى أنهم عموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن في خلقه مصدقا لذلك، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها ونقضوا الميثاق وخرجوا عن هدى الدين، وظلموا أنفسهم واتبعوا أهواءهم وساروا في غيهم، وانهمكوا في ضلالهم، فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار، فجاس البابليون خلال ديارهم، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم وسلبوهم أموالهم وثلوّا عروش ملكهم.. ثم رحمهم الله وتاب عليهم حين أقلعوا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره وردّ من بقي من بنى إسرائيل في أسر بختنصّر إلى وطنهم، ورجع من تفرق منهم في الأقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا.. ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض وقتلوا الأنبياء بغير حق فقتلوا زكريا وأشعيا وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس ثم الروم فأزالوا ملكهم واستقلالهم.
قال آخر (1): وفي قوله ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 71] إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، إذ العبرة بالغالب لا بالأفل النادر الذي لا يؤثر في صلاح ولا فساد، ومن ثم قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25]
قال آخر (2): والتعبير بـ ﴿يَقْتُلُونِ﴾ [القصص: 33] بصيغة المضارع يدل على أن ديدن هذا الفريق من اليهود هو قتل الأنبياء لما يأتون به من الشرائع المخالفة لأهوائهم.
__________
(1) تفسير المراغي: (6/ 165)
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 251.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/40)
قال آخر: أما الآية الثالثة التي ذكرها أستاذنا الفاضل، وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 16]، فهي تشير إلى فريق من المنافقين الذين يستمعون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبمجرد ابتعادهم عنه يستهزئوا به أمام المؤمنين.. وهي تذكر أن عقوبة هؤلاء مثل من سبقهم، وهي الطبع على قلوبهم، بسبب اتباعهم لأهوائهم.
قال آخر: وهذه الآيات الكريمة وأمثالها تبين العلاقة بين اتباع الهوى وفقدان قدرة التمييز.. وذلك أمر طبيعي، لأن اتباع الهوى يمنع من إدراك الحقيقة.. وسبب ذلك هو استحواذ الحب الذي هو لب الهوى على جميع جوانب الإنسان، فلا يرى شيئا غيره ولا يفكر إلا به؟
قال آخر: ومما يؤكد ذلك من الأحاديث النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حبك للشي ء يعمي ويصم) (1)، وقال: (من سلم من أمّتي من أربع خصال فله الجنّة: من الدخول في الدنيا، واتّباع الهوى، وشهوة البطن، وشهوة الفرج) (2) وقال: (إنّ الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله عزّ وجلّ الأماني) (3)
قال آخر: وقال الإمام علي: (إنّما أخاف عليكم اثنتين: اتّباع الهوى، وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة) (4)، وقال: (النفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة حسن الأدب، والنفس تجري في ميدان المخالفة، والعبد يجهد بردها عن سوء المطالبة؛ فمتى أطلق عنانها فهو شريك في فسادها،
__________
(1) بحار الأنوار: 74/ 166، وغوالي اللئالي.
(2) الخصال ج 1 ص 223.
(3) أمالي الطوسي ج 2 ص 143.
(4) أصول الكافي ج 2 ص 335.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/41)
ومن أعان نفسه في هوى نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه) (1)، وقال يوصي أصحابه: (أوصيكم بمجانبة الهوى فإنّ الهوى يدعو إلى العمى وهو الضلال في الآخرة والدنيا، وإنّ أوّل المعاصي تصديق النفس والركون إلى الهوى) (2)، وقال في مدح أخ له في الله: (وكان إذا بدهه أمران ينظر أيّهما أقرب إلى الهوى فيخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها، فاعلموا أنّ أخذ القليل خير من ترك الكثير) (3)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]
قال أحد الطلبة: هذا الحجاب هو حجاب المعاصي التي تتراكم على النفس، فتحول بينها وبين رؤية الحقيقة، كما هي.. بل تشوهها في نظرها، وقد تمنعها من رؤيتها تماما.
قال آخر (4): وقد ورد ذكره في آيات أخرى كثيرة، مثل قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22]، وهي تتحدث عن المنافقين الذين يُدعون الإيمان، فإذا ما نزلت آية في الجهاد تمارضوا وتذرعوا بذريعة من هو على وشك الموت، فيخاطبهم الله تعالى قائلا: (إن استمراركم في مخالفتكم هذه وإعراضكم عن العمل بكتاب الله، سيؤدي بكم إلى أن تفسدوا في الأرض، وأن تقطعوا أرحامكم، ولا يأمن شركم حتى أرحامكم)، ثم يعقب على ذلك بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 23] فما كادوا يسمعون الحق ولا يرونه.
__________
(1) مشكاة الأنوار ص 247.
(2) دعائم الإسلام ج 2 ص 350.
(3) نهج البلاغة ص 1226.
(4) نفحات القرآن، ج 1، ص: 285.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/42)
قال آخر (1): وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: ﴿إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ [محمد: 22] بالإعراض، وفسرها آخرون بالولاية والحكومة، أي أن مقاليد الأمور إذا أصبحت بأيديكم فستفسدون وتريقون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا روي عن الإمام علي أنه اعتبر بني أمية من مصاديقها وهو تلميح إلى أنهم عند استلام زمام الأمور والحكومة الإسلامية سوف لا يرحمون صغيرا ولا كبيرا، ولم يسلم من ظلمهم أحد حتى أقاربهم وذووهم.
قال آخر (2): وورد ذكره في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: 100]، فعطف العقاب على الذنوب مع الطبع على القلوب والآذان، تلميح إلى العلاقة بين هذين الاثنين.
قال آخر (3): وقد قال بعض العلماء في معناها: إن الله إذا شاء عذبهم بأحد العذابين: إما بإهلاكهم بسبب ذنوبهم، وإما بإبقاءهم أحياء مع سلب قدرة تمييز الحق عن الباطل منهم، وهذا عذاب أتعس من عذاب الهلاك الإلهي، إلا أنه بالالتفات إلى مجي ء ﴿أَصَبْنَاهُمْ﴾ [الأعراف: 100] بصيغة الماضي و﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الأعراف: 100] بصيغة المضارع، نفهم أن الجملة الثانية مستقلة، وليست عطفا على ما قبلها، فيكون معنى الآية هكذا: (سواء عجلنا بعذابهم أم لم نعجل فنحن نطبع على قلوب هؤلاء ونلقي حجبا عليها)
قال آخر (4): وورد ذكره في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الروم: 10]، وهي تشير إلى عاقبة الذين يرتكبون الأعمال السيئة، وأنها كالمرض الذي ينقض على روح الإنسان فيتآكل الإيمان من جرائه.. ولم لا يكون هكذا وهو كالحجاب الذي يغطي القلب ويعميه؟
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 285.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 286.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 286.
(4) نفحات القرآن، ج 1، ص: 287.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/43)
قال آخر: وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كل ذلك في قوله: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]) (1)
قال آخر: وإن أردنا تمثيلا واقعيا على هذا، وهو ما يكاد ينطق به هذا الحديث الشريف، فهو ما نعرفه في الواقع من تأثير الإدمان على الجسد، بحيث لا يملك صاحبه دفع آثاره، فالمدمن هو الذي أقبل على ما أدمن عليه باختياره، ولكنه نتيجة للمبالغة فيه وصل إلى حالة المتحكم فيه بعد أن كان متحكما في نفسه.
قال آخر: وعلى ذلك يدل قول الشاعر:
تولع بالعشق حتى عشق... فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة... فلما تمكن منها غرق
قال آخر: ويشير إلى هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهك الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله بعث الله الطابع فطبع على قلبه فلا يقبل بعد ذلك شيئا) (2)
قال آخر: ويشير إليه أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب) (3)
قال آخر: وقال الإمام علي في خطبة له: (لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة) (4)
__________
(1) روضة الواعظين ج 2 ص 414.
(2) البزار والبيهقي في الشعب، الدر المنثور 2: 238.
(3) تفسير القمي: 1/ 291، الاختصاص: 342، دلائل النبوة للبيهقي: 5/ 242.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 185، الاحتجاج: 1/ 481/117.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/44)
قال آخر: وقال الإمام الحسين مخاطبا أعداءه المتربصين به: (ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إلي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد.. وكلكم عاص لأمري غير مستمع قولي؛ فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم) (1)
قال آخر: وقال الإمام الباقر: (ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب) (2)
قال آخر: وقال في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 72]: (من لم يدله خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك بالشمس والقمر والآيات العجيبات على أن وراء ذلك أمرا هو أعظم منها، فهو في الآخرة أعمى؛ فهو عما لم يعاين أعمى وأضل سبيلا) (3)
قال آخر: وقد قال بعض العلماء في تحديد مفهوم الران، وسر كونه حجابا: (الرين صدأ يعلو الشيء الجليل.. ويظهر من الآية أن للأعمال السيئة نقوشا وصورا في النفس تنتقش وتتصور بها.. وأن هذه النقوش والصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو وتحول بينها وبينه.. وأن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاء وجلاء تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور، كما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7 ـ 8]) (4)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾
__________
(1) بحارالأنوار: 45/ 8 نقلا عن المناقب.
(2) تحف العقول: 296، بحارالأنوار: 78/ 176.
(3) الاحتجاج: 2/ 165 / 193، بحارالأنوار: 3/ 28 / 2.
(4) تفسير الميزان (20/ 130)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/45)
[النحل: 107 ـ 108]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الحرص على الحياة الدنيا وتفضيلها على الآخرة، والذي يؤدي بالضرورة إلى الإعراض عن الهداية المرتبطة بها.
قال آخر (1): والآيتان الكريمتان تتحدثان عن نموذج من نماذج المحجوبين عن الهداية الإلهية، وهو لقوم أسلموا رغبة في الإسلام، ثم ارتدوا عنه، لا لكونه يخالف الحق، وإنما لأنهم فضلوا الحياة الدنيا على الآخرة، ورجحوها عليها، فانسلخوا عن الإسلام واتجهوا نحو الكفر؛ فلم يهدهم الله بعد كفرهم لأنهم لم يكونوا أهلا لذلك، وذلك لحبهم الحياة الدنيا، فطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأغلق عليهم أبواب المعرفة فأصبحوا من الغافلين.
قال آخر (2): وقد حكم الله على هؤلاء الكافرين بستة أشياء هي: أنهم استوجبوا غضب الله.. واستحقوا عقابه العظيم.. واستحبوا الحياة الدنيا.. وحرمهم الله من الهداية للطريق القويم.. وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.. وجعلهم من الغافلين.
قال آخر: ولهذا ورد في الأحاديث الكثيرة التحذير من الحرص وحب الدنيا، ومن الأمثلة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أنّ لابن آدم ملء واد مالا لأحبّ أنّ له إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلّا التّراب، ويتوب الله على من تاب) (3)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال قلب الكبير شابّا في اثنتين: في حبّ الدّنيا وطول الأمل) (4)، وقال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشّرف لدينه) (5)، وقال: (منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لا
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 253.
(2) تفسير المراغي: (14/ 147)
(3) البخاري، (6437) ومسلم (1049)
(4) البخاري، (6420) ومسلم (1046)
(5) الترمذي (2376) وأحمد (3/ 456، 460)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/46)
يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع) (1)، وقال: (يهرم ابن آدم وتشبّ اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر) (2)
قال آخر: وقال: (إيّاكم واستشعار الطمع فإنّه يشوب القلب شدّة الحرص ويختم على القلوب بطابع حبّ الدنيا وهو مفتاح كلّ سيّئة ورأس كلّ خطيئة وسبب إحباط كلّ حسنة) (3)
قال آخر: وقال: (إيّاكم وفضول المطعم فإنّه يسم القلب بالقسوة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصمّ الهمم عن سماع الموعظة، وإيّاكم وفضول النظر فإنّه يبدر الهوى ويولد الغفلة، وإيّاكم واستشعار الطمع فإنّه يشوب القلب شدّة الحرص، ويختم على القلوب بطابع حبّ الدنيا، وهو مفتاح كلّ سيّئة، ورأس كلّ خطيئة، وسبب إحباط كلّ حسنة) (4)
قال آخر: وقال: (بئس العبد عبد له طمع يقوده إلى الطبع) (5)، وقال: (إياكم وفضول الطعام فإنه يسم القلب بالقسوة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصم الهمم عن سماع الموعظة، وإياكم وفضول النظر فإنه يبذر الهوى ويولد الغفلة، وإياكم واستشعار الطمع فإنه يشوب القلب بشدة الحرص، ويختم القلب بطابع حبّ الدنيا، وهو مفتاح كلّ معصية، ورأس كلّ خطيئة، وسبب إحباط كلّ حسنة) (6)
قال آخر: وهكذا حذر أئمة الهدى من الحرص والطمع وحب الدنيا، وغيرها من الحجب الحائلة بين الإنسان والهداية، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام علي: (النفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع، وشعب الطمع أربع: الفرح والمرح
__________
(1) الحاكم (1/ 92)
(2) البخاري، (6421) ومسلم (1047)
(3) أعلام الدين ص 340.
(4) أعلام الدين ص 339.
(5) نوادر الراوندي ص 22.
(6) عدّة الداعي ص 313.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/47)
واللجاجة والتكاثر، فالفرح مكروه عند الله عزّ وجلّ، والمرح خيلاء، واللجاجة بلاء لمن اضطرّته إلى حبائل الآثام، والتكاثر لهو وشغل واستبدال الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، فذلك النفاق ودعائمه وشعبه) (1)
قال آخر: وقال يوصي بعض أهله: (إذا أحببت أن تجمع خير الدنيا والآخرة فاقطع طمعك مما في أيدي الناس) (2)
قال آخر: وقال: (الطمع رق مؤبّد) (3)، وقال: (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع) (4)
قال آخر: وقال الإمام الحسن يوصي بعض أصحابه: (اتقوا الله وإياكم والطمع فإن الطمع يصير طبعا) (5)، وقال: (الشحّ: أن ترى ما في يدك شرفا وما أنفقت تلفا) (6)
قال آخر: وسئل عن البخل؟ فقال: (هو أن يرى الرجل ما أنفقه تلفا، وما أمسكه شرفا) (7)
قال آخر: وقال الإمام السجاد: (رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس) (8)
قال آخر: وقال الإمام الصادق: (شيعتنا لا يهرون هرير الكلب، ولا يطمعون طمع الغراب) (9)، وقال: (إن أردت أن تقرّ عينك وتنال خير الدنيا والآخرة فاقطع الطمع ممّا في أيدي الناس وعدّ نفسك في الموتى، ولا تحدثنّ نفسك أنّك فوق أحد من الناس، واخزن
__________
(1) الخصال ج 1 ص 231.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 280.
(3) نهج البلاغة حكمة 171 ص 1170.
(4) نهج البلاغة ص 1184.
(5) روضة الواعظين ج 2 ص 420.
(6) معاني الأخبار ص 245.
(7) نزهة الناظر ص 33.
(8) أصول الكافي ج 2 ص 320.
(9) تحف العقول ص 303.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/48)
لسانك كما تخزن مالك) (1)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 86 ـ 87]، وقوله: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 93]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الجاه والسلطان والرفاه، والذي يؤدي بالضرورة إلى الكسل والقعود عن كل المكارم.
قال آخر (2): وقد وصف الله تعالى هؤلاء بأنهم ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾، وكلمة (الطَّوْلِ) تعني القدرة والإستطاعة المالية، وعلى هذا فإن (أولو الطول) بمعنى المستطيعين والقادرين (3) ماليا وجسميا على الحضور في ميدان الحرب، ورغم ذلك فهم يميلون إلى التخلف مع أولئك الذين لا قدرة لديهم ـ ماديا أو بدنيا ـ على الحضور والمشاركة في الجهاد.
قال آخر (4): وفي قول هؤلاء: ﴿ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 86] ما يكشف عن استخفافهم بأمر الله، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87]
__________
(1) الخصال ج 1 ص 121.
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 156)
(3) وأصل هذه الكلمة مأخوذ من (الطول) ضد العرض، والاشتراك والارتباط بين هذين المعنيين واضح، لأن القدرة المالية والجسمية يعطي معنى الإستمرارية والدوام وطول القدرة.
(4) التفسير القرآني للقرآن (5/ 861)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/49)
قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87] يعني أنه قد سولت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، ممن لا طول لهم ولا حول، من المرضى، والزّمنى، وأصحاب العاهات والعلل، والأطفال، والنساء، والإماء، والعبيد ـ رضوا أن يكونوا مع هذه الطوائف من الناس، وهم أصحاب طول وحول، لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم وبين هذه الطوائف أمر جامع، أو صفة مشتركة.. فكيف وهم أصحاب الحول الطول ينزلون إلى هذا المستوي الذي يضيفهم إلى مجتمع الصبيان والعبيد؟ ولكن هكذا أرادوا أن يكونوا، وهكذا صنعوا بأيديهم هذا الثوب الذي لبسوه.. ثوب الصّغار والامتهان.
قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87] إشارة إلى أنهم قد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه ـ لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم في عمى، وقلوبهم في غفلة، وعقولهم في ضلال.
قال آخر (3): وهو يشير إلى أن الميل إلى الراحة جعل حجابا سميكا على قلوبهم فلا يكادون يفقهون شيئا، وهو ما يؤكد العلاقة بين التخلف عن الجهاد لأجل الراحة والصحة وعدم إدراك الحقائق.
قال آخر (4): وقد عقب الله تعالى هذا الموقف المشين لهؤلاء بقوله: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التوبة: 88]، وهو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر الله بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد.. فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 862)
(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 862)
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 255.
(4) التفسير القرآني للقرآن (5/ 862)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/50)
أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.. فما إن دعاهم الله ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا.. وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم لله بتخلفهم ثوب الخزي والذلة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمجاهدين معه، قد تلقاهم الله حفيّا بهم، موسعا لهم في رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم في الأرض.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35]، وقوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الكبر والتعالي الذي يجعل الإنسان ينظر إلى الحق من برجه العاجي الذي يحرمه من رؤيته الحق بصورته الحقيقية.
قال آخر: وقد أشارت الآية الأولى على لسان مؤمن آل فرعون إلى السبب الذي من أجله حرم فرعون وآله من الهداية، وهو لا يرتبط بخلو الحق من البراهين، وإنما بالنفوس المتجبرة المتكبرة التي لا تتوفر لديها القابلية لرؤيته أو الاقتناع به؛ فالعلة فيها لا فيه.
قال آخر: ولذلك ذكرت الآية الكريمة أن عناد المتكبرين يضع حجابا قاتما على قدرتهم على التفكير.. بل يسلبهم قابلية التمييز والمعرفة، حتى يبلغ بهم الأمر إلى أن تصبح قلوبهم كالوعاء المغلق لا يخرج محتواه الفاسد، ولا ينفذ فيه المحتوى السليم والمفيد.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/51)
قال آخر (1): وقد ذكر بعض العلماء الفرق بين ﴿الْجَبَّارُ﴾ و﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾، وهو أن التكبر يقابل الخضوع للحق، والجبروت يقابل الشفقه والمحبة للخلق، فالظلمة المغرورون لا يخضعون للحق ولا يرحمون ولا يشفقون على الخلق.
قال آخر (2): أما الآية الثانية، فقد نقلت أقوال فريق من المتكبرين المعاندين حول القرآن حيث كانوا يقولون: (لم لم ينزل القرآن أعجميا كي نهتم به أكثر، وكي يفهمه غير العرب؟).. وقد يكون مرادهم هو الحؤول دون فهم الناس له.. فأجابهم الله تعالى بأنه لو نزل القرآن أعجميا لأشكلتم إشكالا آخر وهو ﴿لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ [فصلت: 44] أي أن محتواه معقد ومبهم، ولا نعي شيئا منه، ثم قلتم: (عجيب أن يكون القرآن أعجميا ونازلا على عربي!؟)
قال آخر (3): ولهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لأولئك المغرورين المتكبرين: ﴿هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]، وواضح أن الذي ينادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يرى.. ولذلك، فإنه إذا أنكرت أعينهم نور شمس القرآن الساطعة فذلك لرمدها، وإذا أنكرت آذانهم نداء الحق المدوي فذلك للوقر الذي فيها.
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤكد هذه المعاني، ويحذر من عواقب الكبر في الدنيا والآخرة، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (احتجّت النّار والجنّة فقالت هذه: يدخلني الجبّارون والمتكبّرون، وقالت هذه: يدخلني الضّعفاء والمساكين، فقال الله عزّ وجلّ لهذه: (أنت عذابي أعذّب بك من أشاء) وقال لهذه (أنت رحمتي أرحم بك من
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 254.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 255.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 255.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/52)
أشاء) ولكلّ واحدة منكما ملؤها) (1)
قال آخر: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر كبّه الله لوجهه في النّار) (2)
قال آخر: وقال: (ألا أخبركم بأهل الجنّة؟) قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كلّ ضعيف متضعّف، لو أقسم على الله لأبرّه، ثمّ قال: (أ لا أخبركم بأهل النّار؟) قالوا: بلى، قال: (كلّ عتلّ (3) جوّاظ (4) مستكبر) (5)
قال آخر: وقال: (إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون)، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون، فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبّرون) (6)
قال آخر: وقال الإمام علي: (ما من أحد من ولد آدم إلّا وناصيته بيد ملك فإن تكبّر جذبه بناصيته، إلى الأرض وقال له: تواضع وضعك الله، وإن تواضع جذبه بناصيته، ثمّ قال له: ارفع رأسك رفعك الله، ولا وضعك بتواضعك لله) (7)
قال آخر: وقال: (استعيذوا بالله من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدّهر، فلو رخّص الله في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه وأوليائه؛ ولكنّه سبحانه كرّه إليهم التكابر، ورضي لهم التّواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التّراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوما مستضعفين، قد اختبرهم الله
__________
(1) البخارى (7449)، ومسلم (2846
(2) أحمد (2/ 215)
(3) العتل: الجافى الشديد الخصومة.
(4) الجواظ: الجموع المنوع، وقيل المختال في مشيته.
(5) البخاري (6071)، ومسلم (2853)
(6) الترمذي (2018)
(7) ثواب الاعمال ص 211.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/53)
بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرضى والسّخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة، والاختبار في موضع الغنى والاقتدار، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56]؛ فإنّ الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم) (1)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 58 ـ 59]، وقوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 6 ـ 10]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الجهل بأنواعه المختلفة، وخاصة ذلك الذي يجتمع مع العناد والكبر والغرور، لأنه حينها يصبح مركبا معقدا يصعب الفكاك منه.
قال آخر (2): وقد أكدت الآيات الأولى على أن الله ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، فتارة بآيات الآفاق والأنفس، وتارة بالوعد والوعيد، وتارة بالأمر والنهي، وتارة
__________
(1) نهج البلاغة خطبة 234.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 256.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/54)
بالبشرى والانذار، وتارة بالسبل العاطفية والفطرية، وتارة بالاستدلال، ورغم هذا البيان فإن فريقا من الجاهلين والغافلين يجحدون بآيات الله ويقولون: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ [الروم: 58] أي على باطل.. ولذلك فإن عقوبة وعاقبة هؤلاء أن استحقوا الطبع على قلوبهم لجهلهم وعنادهم.
قال آخر (1): وهي تشير إلى أسوأ أنواع الجهل وهو [الجهل المركب]، وهو الجهل الذي يحسبه صاحبه علما، ولا يصغي لمن أراد إيقاظه من غفلة جهله.. ولهذا فإن شخصا كهذا يظل جاهلا جهلا مركبا إلى أبد الدهر.
قال آخر (2): ذلك أنه إذا كان الخطاب موجها لجاهل جهلا بسيطا، أي لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم، ومستعد في نفس الوقت لقبول نداء الحق والهداية، فإن الأمر اتجاهه بسيط، والحجاب المانع يطبع على القلب عندما يكون الجهل مركبا وممتزجا بروح العناد وعدم التسليم لنداء الحق.
قال آخر: وقد صاغ بعضهم هذا المعنى شعرا، فقال:
قال حمار الحكيم يوما... لو تنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط... وصاحبي جاهل مركب
قال آخر (3): وتشير الآيات من سورة يس إلى فريق من الغافلين الذين صدر حكم العذاب بحقهم، وذلك لجهلهم وعنادهم، ولذلك لم يعودوا أهلا للهداية.
قال آخر (4): وفي الآيات الكريمة بيان للأسباب التي أقامها الله سبحانه لتصرف هؤلاء المشركين عن الحق، وتمسك بهم على الشرك والضلال بسبب بغيهم وعنادهم.. لقد
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 256.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 256.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 257.
(4) التفسير القرآني للقرآن (11/ 908)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/55)
جعل الله ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ [يس: 8] أي أطواقا من حديد، أشبه بالقلادة، تطوق بها أعناقهم.. ﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ [يس: 8]ـ أي وهذه الأغلال أو القلائد تشتمل على العنق كله، حتى لتصل إلى الأذقان.. ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ [يس: 8] أي مشدودو الرؤوس إلى أعلى.. فهم لا يستطيعون أن يحركوا رؤوسهم يمينا أو شمالا، أو إلى تحت أو فوق.
قال آخر (1): والصورة التي تبدو ممن طوق بهذا الطوق، أنه تمثال جامد، وأنه لا يستطيع أن يرى غير الطريق القائم بين يديه، أما ما حوله، عن يمين وشمال، فلا يرى منه شيئا.. ولذلك، فإن الطريق الذي بين يدى هؤلاء المشركين الذين حق عليهم القول، هو طريق الضلال، ولا طريق لهم غيره.
قال آخر (2): والأغلال التي جعلها الله في أعناق هؤلاء المشركين، هي أغلال معنوية، لأن الذي ينظر إليهم، وهم ماضون على طريق الشرك، لا يلتفتون إلى هذا النور الذي عن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم ـ يخيل إليه أن في أعناق القوم أطواقا من حديد، قد شلت حركة رؤوسهم، فلم يقدروا على إلفاتها يمينا أو شمالا.
قال آخر (3): ثم تمم الله تعالى الصورة بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9]، ذلك أنهم في الوضع السابق لا يستطيعون التفاتا يمينا أو شمالا، ولكنهم مع ذلك يستطيعون أن يروا ما أمامهم، وأن يستدبروا ليروا ما خلفهم.. ولهذا أشارت الآية الكريمة إلى سد هذين المنفذين اللذين يمكنانهما من الرؤية من أمام ومن خلف.. وبذلك، فقد أحكم سد المنافذ عليهم من جميع الجهات، وأصبحوا وقد أغلقت عليهم منافذ النظر إلى العالم الخارجي، وصاروا محصورين
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 908)
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 909)
(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 909)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/56)
في عالمهم الذي لا شيء فيه غير الضلال والظلام.
قال آخر (1): وكيف لهم أن يهتدوا، ويمينهم وشمالهم مغلق عليهم أبدا بحكم هذا الطوق الذي طوقوا به.. وأمامهم وخلفهم مسدودان.. فإذا أداروا وجوههم إلى أي اتجاه، لم يتغير حالهم، ولم يرتفع عنهم سد من هذه السدود المضروبة عليهم، حيث يلازمهم هذان السدان المضروبان عليهم من أمام ومن خلف.. فعلى أي اتجاه يكونون، يكون السدان من خلفهم ومن أمامهم.. أما عن أيمانهم وعن شمائلهم، فالطوق قائم بوظيفته فيهم في كل حال..
قال آخر (2): وهذه الصورة تبين منهج القرآن الكريم في تجسيد المعاني، وفي بعث الحياة والحركة في الجمادات والساكنات.. حيث نرى الكافر هنا وقد أدخل في سجن محكم، مطبق عليه، لا يرى منه النور أبدا.
قال آخر (3): وفي قوله تعالى: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9] إشارة إلى ما يقع لهؤلاء المشركين من هذه الآيات التي سلطها الله عليهم، من الأغلال والسدود، فقد أقامت هذه الآفات غشاوة على عيونهم، فهم لا يبصرون.. وكيف يبصر من عاش في هذه الحدود التي لا تتجاوز محيط جسده؟ وماذا يبصر لو كان له أن يبصر؟
قال آخر (4): وفي قوله تعالى: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 10] دلالة على ما يقضي به الوضع الذي عليه هؤلاء المشركون.. إنهم لن يتحولوا عن حالهم التي هم فيها، فقد جمدوا على حالتهم تلك، كما تحنط الموتى في توابيتها ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101]
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 910)
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 910)
(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 910)
(4) التفسير القرآني للقرآن (11/ 910)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/57)
قال آخر (1): ولهذا دعا الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم الوقوف كثيرا مع هؤلاء المشركين الذين وقفوا من الدعوة هذا الموقف المحاد لها، المتربص بها.. وبدل يتوجه للذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: 11] أي إنما تنفع النذر، والعظات، من استمع إلى آيات الله، فاتبعها، وآمن بها، وخاف ربه، وعمل ليوم القيامة، مصدقا بما وعد به، وإن لم يره.. وعلى هذا، فليوجه النبي وجهه كله إلى المؤمنين، وليعطهم جهده كله، ففي هذا الميدان يثمر عمله، ويقع موقعه من أهله.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 9 ـ 16]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب النفاق بأنواعه المختلفة، ذلك أنه يحوي جميع أمراض القلوب، ويضيف إليها الخسة والدناءة والمكر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 911)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/58)
قال آخر (1): والنفاق شر من الكفر الصّراح، لأن الكافر على بينة من أمره مع نفسه، وعلى حال يعرف الناس منها وجهه.. وليس الكافر بالميئوس منه أن يتحول في أية لحظة من الكفر إلى الإيمان.. أما المنافق فأمره مختلط، وشأنه مضطرب، يدور حول نفسه التي تحمل الكفر والإيمان معا، فلا هو في الكافرين، ولا في المؤمنين.. ولهذا توعد الله سبحانه المنافقين بما لم يتوعد به الكافرين، من عذاب ونكال، حيث يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145]
قال آخر (2): ولهذا توعد الله سبحانه المنافقين في الآيات الكريمة التي قرأها الأستاذ بالعذاب الأليم، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 10] في حين توعد الكافرين في الآية قبلها بالعذاب العظيم، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الجاثية: 10]، والأليم أشد هولا ونكالا من العظيم، فقد يكون العظيم عظيما في شخصه وهيئته، وليس عظيما في أفاعيله وسطوته.. أما الأليم فهو البالغ الغاية في الإيلام، ولو ضؤل شخصه.
قال آخر (3): وقد ذكر الله تعالى أن ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [المدثر: 31] لأن آفة الكافرين في كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة في كيانهم، هي القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى.. أما المنافقون فإن آفة نفاقهم في القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام.
قال آخر (4): أما قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: 10] فيمكن أن تكون الفاء
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 31)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 32)
(3) التفسير القرآني للقرآن (1/ 32)
(4) التفسير القرآني للقرآن (1/ 32)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/59)
هنا للسببية، ويكون المعنى أن ما أرسل الله من هدى على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استقبلوه بتلك القلوب المريضة فهيج علّتها، وأيقظ نائم دائها.. كما يمكن أن تكون (الفاء) للتفريغ، وتكون الجملة بعدها دعائية، والمعنى أن هؤلاء المنافقين ـ بما استبطنوا من نفاق لا يرجى شفاؤه ـ استحقوا أن يدعى عليهم بما يزيد مرض قلوبهم مرضا.
قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11] إشارة إلى المنافق ينافق الجميع حتى نفسه، فيرى أنه على طريق الحق، على حين أنه غارق في الضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: 8]، فلقد غلبت عليهم شقوتهم، ونظروا إلى أنفسهم في مرايا النفاق، فرأوا أنهم أحسن الناس حالا، وأكملهم كمالا.
قال آخر (2): ولهذا عقب الله تعالى ذلك بقوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12]، فقد دمغهم الله تعالى بهذا الحكم القاطع المؤكد أوثق التوكيد، وبجملة أدوات: ألا (الاستفتاحية).. وإن (المؤكدة).. وهم (ضمير الفصل).. وال (المعرفة للخبر بما يدل على قصر الفساد عليهم وحدهم)
قال آخر (3): والآيات الكريمة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأن الإنسان المنحرف الملوث كثيرا ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعا بأن قبائحه ليست عملا انحرافيا، بل هي أعمال إصلاحية ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11]، وبذلك يخدعون أنفسهم، ويستمرون في غيهم.
قال آخر (4): وقد ذكر المؤرخون أنه في القرون المظلمة وُجه سؤال لأحد القادة
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 33)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 33)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 103)
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 103)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/60)
الأمريكيين حول سبب إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) اليابانيتين مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من البشر أو أصابتهم بعاهات، فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام، ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى.. فهذا الزعيم وضع أمامه طريقين فقط هما: استمرار الحرب، أو القصف الذري للمدن الآمنة، متناسيا طريقا ثالثا واضحا، وهو الكف عن الاعتداء على الشعوب وترك الناس أحرارا.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 6 ـ 7]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26]، وقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]، وقوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 88 ـ 89]، وقوله: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]، وقوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: 212]، وقوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/61)
كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257]، وقوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [آل عمران: 86 ـ 88]، وقوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 176]، وقوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الكفر والجحود والعناد، والذي يطبع على قلب صاحبه، فلا يلين لموعظة، ولا يذعن لحجة.
قال آخر (1): أما الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 6 ـ 7]، فهي تتحدث عن الكفار المعاندين الذين حادوا الله ورسوله، وأشربوا في قلوبهم الكفر، وعلم الله أنهم لن يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. فهؤلاء قد حكم الله عليهم هذا الحكم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 6 ـ 7] فهؤلاء الذين حق عليهم القول بألا يؤمنوا هم الذين تعنيهم هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6] وإلا فلو كان المراد بالذين كفروا في هذه الآية مطلق الكافرين، لما كان لدعوة الرسل
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 28)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/62)
حكمة، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين، فيستجيب لهم من يستجيب، ويقيم على كفره من حق عليه القول منهم.. أما تيئيس الكافرين مطلقا، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا، فذلك بعيد عن حكمة الله في ابتلاء الناس واختبارهم، وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم.. ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42]
قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 6 ـ 7] كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا، بما قام في كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز، والختم على الشيء وضع خاتم عليه، أشبه بالقفل المحكم، بحيث لا ينفذ إليه شئ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]
قال آخر (2): وهذه الصورة الحسية التي صورت بها حال أولئك الكافرين، إنما هي تجسيم لطبائعهم النكدة، وعقولهم المظلمة، وإلا فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم حديدة، ولكنهم لا يحصلون بها خيرا، ولا يهتدون بها إلى سبيل الرشاد والهدى.
قال آخر: أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26]
قال آخر (3): هذه الآية الكريمة توحي بوجود حالة نفسية تحاول أن تفصح عما في
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 29)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 30)
(3) من وحي القرآن (1/ 195)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/63)
داخلها من حالة ريب أو اعتراض على ما يورده الله من الأمثلة المتعلقة بصغار الأمور وكبارها، وربما أمكن للإنسان أن يستوحي منها وجود موقف مضاد، على أساس فكرة خاطئة تربط بين عظمة المتكلم وحجم القضايا التي يتحدث عنها، فكانت هذه الآية التي ترفض هذه الفكرة، وتقرر مبدأ ضرب المثل، في صغير الأمور وكبيرها، بطريقة حاسمة، كأسلوب قرآني بارز في أغلب السور، بعيدا عن كل وهم يعتبر ذلك بعيدا عن مقام الله وعظمته، لأن دور المثل هو أن يقرب الصورة للناس مما يعيشونه في حياتهم، وفي ما يمارسونه من أعمالهم، لتقترب بذلك الفكرة التي يراد بها هدايتهم للحق من غير فرق في ذلك بين الصغير والكبير، لأن القضية ليست قضية صاحب المثل، بل هي قضية الفكرة التي يثيرها في حياة الناس، وفي أفكارهم، مما يدعو المتكلم إلى أن يتلمس كل الأشياء التي تشارك في توضيح الصورة وتقريب الفكرة.
قال آخر (1): وهي تذكر أن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شئ جليلا كان أو حقيرا.. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 26] أي فالمؤمنون يقولون: ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: 26] فالذين كفروا كانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق، ويقولون ماذا أراد الله بهذه الأمثال الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا
__________
(1) تفسير المراغي (1/ 72)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/64)
وانصرفوا ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: 54]
قال آخر (1): ثم أجاب عن سؤالهم بقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: 26] أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.. ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجله في ذلك الأمثال كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.
قال آخر (2): ولذلك فإن مصطلح [الكافرون] في المفهوم القرآني يقصد به أولئك الذين لم تنفتح قلوبهم للحق، ولم يعيشوا مسؤولية الكلمة في حياتهم، فلا يحاولون أن يتفهموا وجه الحق في ذلك؛ بل يعملون على التهرب من مواجهة المسؤولية بإثارة الاعتراضات والتساؤلات التي لا يريدون بها إلا المشاغبة والتشكيك بعيدا عن أية رغبة في المعرفة، أو نزوع إلى الإيمان، فيثيرون القضية في سؤال يوحي للآخرين بأنهم لم يفهموا ماذا أراد الله بهذا المثل.
قال آخر (3): وقد نستوحي من خلال هذا التساؤل أنهم يريدون التهرب من الحقائق الصارخة التي يجسدها المثل لا سيما في النيل من معتقداتهم وتضليلاتهم وكفرهم ونفاقهم، فيواجهونه مواجهة عدم الفهم إمعانا في الهروب من تحديات الحق ـ الذي تمثله الرسالة ـ للباطل المتمثل في خطواتهم الكافرة والضالة، تماما كما نشاهده في بعض الجماعات الكافرة التي تثير الضباب أمام الحقائق الدامغة بطرح الأسئلة التي تجعل القضية تتحرك في أجواء
__________
(1) تفسير المراغي (1/ 72)
(2) من وحي القرآن (1/ 196)
(3) من وحي القرآن (1/ 196)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/65)
بعيدة عن الحوار الجدي العميق.
قال آخر (1): ونسبة الضلال والهدى إلى المثل الذي ضربه الله للناس، وأراد أن يضل به الكثير ويهدي به الكثير، على حسب مضمون الآية، يدل على أن وجود الحجة يحدد للناس الموقف الذي يقفونه من قضايا الكفر والإيمان والهدى والضلال، فيهتدي به من ينسجم معه، ويضل به من يبتعد عنه، تماما كما يقول الناس إن التجربة والامتحان يسقطان الناس أو ينجحانهم، مع أن القضية هي أن الناس يسقطون أمام التجربة بالابتعاد عن أسس النجاح، وينجحون معها بالاقتراب من ذلك، فهي السبب لكلا الموقفين، باعتبار أنها القاعدة التي أطلقت الموقف هنا وهناك، وبذلك تبتعد الآية عن ملامح الفكرة الجبرية التي تربط الضلال بالله بشكل مباشر.
قال آخر (2): أما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]، ففيها مواجهة فاضحة مخزية، لأولئك الذين لج بهم العناد والضلال، فاستحبوا العمى على الهدى، وجعلوا لله أندادا، يعبدونهم من دونه.. وهذا أمر لا يقيم عليه إلا سفيه، ولا يرضى به إلا سقيم القلب، أعمى البصر والبصيرة.. فالله وحده هو الذي خلق الإنسان من الموات، ثم سواه بشرا سويا، ثم يرده إلى الموات، ثم يعيده مرة أخرى إلى الحياة.. للحساب والجزاء.. فكيف يكون لإنسان أن يتنكر لخالقه، ويعدل وجهه عنه إلى عبادة المخلوقين.. من جماد وغير جماد؟ ذلك ضلال بعيد، وخسران مبين.
قال آخر (3): أما الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
__________
(1) من وحي القرآن (1/ 196)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 47)
(3) من وحي القرآن (2/ 124)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/66)
بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 88 ـ 89]، أي أن الكافرين كانوا يحتجون بأن قلوبهم مغلقة عن وعي الأفكار والدعوات والتعاليم التي يدعون إليها، وهذا ما كانوا يواجهون به الأنبياء الذين يطلبون منهم الفهم والتأمل فيما يقدم إليهم من براهين وحجج وآيات، فكان رد الفعل لديهم تظاهرهم بعدم الفهم أو بعدم القدرة على الإدراك، لأن قلوبهم لا تملك الذكاء الذي تستطيع من خلاله الوصول إلى أبعاد القضية.. وقد يكون هذا الزعم هروبا من الدخول في عملية الحوار، وقد يكون استهزاء وسخرية بالنبي عندما يقابلونه بهذا المنطق، الذي يجعله حائرا لا يدري كيف يواجه الموقف الجديد الذي لا يحقق أي صدى لصوته، وهذا ما جعل التعليق القرآني عليهم عنيفا قاسيا، لأنهم لا ينطلقون من مواقع صحيحة، ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 88] فقلوبهم كقلوب بقية الناس، وأفكارهم كأفكارهم في إمكان التقائها بالحقيقة ووعيها للمفاهيم التي تقدم إليها، وقدرتها على الدخول في عملية الحوار والمناقشة، ولكنهم فضلوا الكفر على الإيمان.. ولما لم يجدوا حجة على موقفهم الكافر، لجأوا إلى هذا المنطق ليبرروا ذلك، فأبعدهم الله عن ساحته، وهذا معنى اللعن لغة؛ ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 88] لأنهم لا يريدون الإيمان.
قال آخر: أما الآية الخامسة، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]، وقد قال بعضهم في تفسيرها: (اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: ﴿بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا﴾ ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم أنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام
القرآن.. والهداية الشاملة (1/67)
بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد) (1)
قال آخر (2): وفيها تصوير كاشف لحال هؤلاء الذي لبسوا الكفر تقليدا ومتابعة وإرثا، فجمدوا على ما هم فيه، وأبوا أن يتحولوا عنه، ولو زلزلت الأرض بهم.. إنهم ـ وهذا شأنهم ـ لا يستمعون لداع، ولا يستجيبون لمناد، فلا تختلف حالهم كثيرا عن حال الحيوان الأعجم الهائم على وجهه، يُهتف به: أن أقبل، أو اتجه يمينا أو يسارا، أو ما أشبه ذلك، فلا تترجم هذه المعاني في سمعه إلا على أنها أصوات هائمة، لا معقول لها عنده، فتسقط الكلمات على أذنه كما تسقط الحجارة على الحجر! ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]، فقد سدت عليهم منافذ العلم، وأغلقت دون عقولهم أبواب المعرفة.. وفي قوله تعالى: ﴿يَنْعِقُ﴾ [البقرة: 171] إشارة إلى أن الكلمات التي يهتف بها الهاتف إلى هذا الحيوان هي بالنسبة إليه نعيق، ولهذا عبر عنها بما هي صائرة إليه، لا بما كانت عليه عند منطلقها من فم قائلها.
قال آخر (3): أما الآية السادسة، وهي قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: 212]، وهي تصور موقف المؤمنين والكافرين من هذه الحياة الدنيا.. وهي تذكر أن سبب طغيان الكافرين هو استسلامهم للحياة الدنيا بما زين لهم من شهواتها ورغباتها وطيباتها، ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 212] بالمستوى الذي يشعرون
__________
(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 189)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 189)
(3) من وحي القرآن (4/ 138)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/68)
معه أنهم يملكون الأمر كله فيها، وبذلك تمتلئ قلوبهم بالكبر والشعور بالفوقية تجاه غيرهم من الذين يعيشون الحياة من خلال قيمها ومبادئها وارتباطها بالله.. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 212] ويتحول هذا الشعور إلى سخرية من المؤمنين فيما يفعلون وما يقولون وما يواجهونه من تضحيات لحساب إيمانهم، وفي ما يقدمونه من جهد كبير في سبيل الله لا يريدون به جزاء ولا شكورا، فيخيل إليهم أن ذلك كله مظهر سذاجة وغفلة، لأنهم لا يفهمون معنى التضحية في سبيل الله، لأنهم لا يعرفون معنى ثواب الله.
قال آخر (1): ولذلك يذكر الله في الآية الكريمة أن الدونية والفوقية ليست شيئا مهما فيما تمثله قيم الحياة، لأن ذلك عرض زائل لا بقاء له، فلا يوجب ارتفاع الإنسان فيه رفعة حقيقية، ولا اتضاعه ضعة حقيقية، بل المهم كله هو الرفعة في الدار الآخرة التي يمنحها الله للمؤمنين، لأنها من الله، وما كان منه، فهو الخير كله والمجد كله.. وعلى هذا الأساس، ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة: 212] فإن الله عندما يجعل المؤمنين فوق الكافرين يوم القيامة، فإنه يجعل لهم كل القيمة الكبرى التي يرتفعون بها إلى أعلى الدرجات، فلا يضعف المؤمنون ولا يستسلمون للشعور أمام الاضطهاد، بل ينبغي لهم أن يفكروا بما أعد الله لهم من ثواب وعقاب، فإن ﴿اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 38]، لأن الأمر بيده فيما يعطي أو يمنع، وهو ولي المؤمنين.
قال آخر (2): ولذلك، فإن كلمة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قد لا يراد بها هنا الكافرين بالكفر الاصطلاحي، وهو الكفر بالله، أو الكفر المطلق، في مقابل الإيمان المطلق بحيث يعد الانحراف عن كل حقيقة من الحقائق الدينية من تفاصيل العقيدة، أو تغيير أية نعمة دينية،
__________
(1) من وحي القرآن (4/ 138)
(2) تفسير الميزان، ج: 2، ص: 112.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/69)
كفرا، وذلك من جهة ظهور كلمة (الكفر) بالستر الذي يعم المعنيين؛ ولذلك، فإن من مصاديق هذه الآية المؤمنين بالله الذين زينت لهم الحياة الدنيا فدعتهم إلى اتباع هوى النفس وشهواتها، وأنستهم كل حق وحقيقة.
قال آخر (1): أما الآية السابعة، وهي قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257]، أي إن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له (الحواس والعقل والدين) على الوجه الصحيح، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201].. فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه.
قال آخر (2): ثم ذكرت الآية الكريمة أن ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: 257] أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه ـ بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا
__________
(1) تفسير المراغي (3/ 19)
(2) تفسير المراغي (3/ 19)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/70)
يقصرون في تنميق هذه الشبهات، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم.. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المجادلة: 17] فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان في نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة.
قال آخر (1): أما الآية الثامنة، وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [آل عمران: 86 ـ 88]، والاستفهام في الآية الكريمة ليس على حقيقته، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين، وأن يرجو العون والتوفيق من الله، بعد أن أعطى الله ظهره، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه.. وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ الذين كفروا بعد إيمانهم.. فقد كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].. ثم جاءهم النبي المنتظر، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول الله، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب الله التي بين أيديهم عنه.. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا.. فأنكروا كلمات الله، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر.. كما قال تعالى: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 516)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/71)
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: 86]، وقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 89]
قال آخر (1): وهذا يعني أن الكافرين جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل.. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول، ومع ما بين يديه من آيات بينات.. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وركب رأسه، وتعلق بأذيال شيطانه.
قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 86] ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكاري الذي بدأت به الآية.. فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحق الذي بين أيديهم، حتى لقد اجترؤوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به، ويعيشون فيه.. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 86] فكيف يهدي الله هؤلاء القوم الظالمين، الذين يشهدون الحق، ويستيقنونه، ثم يكفرون به؟.. إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا.
قال آخر (3): وكلمة ﴿الْقَوْمَ﴾ [آل عمران: 86] هنا تعني أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى، تواطأ عليه القوم جميعا، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، فكان ظلما غليظا، وداء قاتلا، لا يرجى له شفاء أبدا.. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات، فيأتى عليها بين يوم وليلة.
قال آخر (4):ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [آل عمران: 87].. إنهم بمعزل من رحمة
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 517)
(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 517)
(3) التفسير القرآني للقرآن (2/ 517)
(4) التفسير القرآني للقرآن (2/ 517)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/72)
الله.. تحيط بهم لعنة الله ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين: المؤمنين منهم وغير المؤمنين.. أما المؤمنون فلأنهم من حزب الله، يحاربون من حارب الله، ويلعنون من يلعنه الله.. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين.. لهم ظلم غير ظلمهم، ودين غير دينهم، فهم على عداوة ـ ظاهرة أو خفية ـ معهم.. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك حين تقع بهم الواقعة، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه.. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين.. ثم يفرق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قال آخر (1): أما الآية التاسعة، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 176]، فالله تعالى يسلي في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في أعقاب أحداث (أحد) المؤلمة قائلا له: أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، وكأنهم يتسابقون إليه، إنهم لن يضروا الله شيئا، بل يضرون بذلك أنفسهم.. وأساسا فالمتضرر والمنتفع إنما هي الموجودات التي لا تملك من عند أنفسها شيئا حتى وجودها، أما الله الأزلي الأبدي سبحانه فهو الغني المطلق، فما الذي يعود به كفر الناس أو إيمانهم عليه سبحانه، وأي أثر يمكن أن يكون لجهودهم ومحاولاتهم بالنسبة إليه تعالى؟.. إنهم هم المنتفعون بإيمانهم إذ يتكاملون بهذا الإيمان، وهم المتضررون بالكفر أيضا، إذ يؤدي هذا الكفر إلى سقوطهم وإنحطاطهم.
قال آخر (2): وتضيف الآية الكريمة أنه إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأن الله لا يقدر على كبح جماحهم، بل لأن الله أراد أن يكونوا أحرارا في اتخاذ المواقف
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 11)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 12)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/73)
وسلوك الطريق الذي يريدون، ولا شك أن نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الربانية في العالم الآخر.. وعلى هذا فالآية لا تنفي الجبر فحسب، بل هي من الأدلة والبراهين الساطعة على حرية الإرادة الإنسانية.
قال آخر (1): أما الآية العاشرة، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به في أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسييء الأخلاق، وينتفع به الناس في تهذيبهم وتحسين معايشهم، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم في أنفسهم، بالتمادي في مكابرة الحق، وتأييد سلطان الشر في الخلق.. أي أن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو بما قد جرى على سننه في الخلق، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لاسترساله في فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: 136 ـ 138]، وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا
__________
(1) تفسير المراغي (4/ 140)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/74)
يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104]، وقوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 28]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب التقليد بأنواعه المختلفة، ذلك أنه يحجب عقل صاحبه عن التفكير، ويجعله تابعا وإمعة لغيره.
قال آخر (1): أما الآية الأولى، فهي تتحدث عن هود عليه السلام، وأنه بعد أن بلغ الغاية في إنذار قومه وتخويفهم، وترغيبهم وترهيبهم كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ [الشعراء: 136] أي هون عليك وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد في غير عدو، وضرب في حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى سبحانه قولهم في سورة هود: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 53].. ثم ذكروا السبب في أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: 137 ـ 138] أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار.. (وبهذا كشفوا عن تحجرهم وصلابتهم تجاه كلام النبي المنطقي، وذلك لعدم سماح حجاب التقليد لهم بقبول الحقيقة) (2)
قال آخر (3): أما الآية الثانية، فهي تتحدث عن موقف مشركي العرب عندما كانوا يُدعون إلى ما أنزل الله، وإلى ترك عبادة الأصنام، وترك البدع في تحريم كثير من الأمور
__________
(1) تفسير المراغي (19/ 88)
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 270.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 270.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/75)
الحلال، وكان جوابهم آنذاك: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [المائدة: 104]
قال آخر (1): أي إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين، وإلى الرسول المبلغ لها والمبين لمجملها فاتبعوه فيها، أجابوا من يدعونهم إلى ذلك حسبنا ما وجدنا آباءنا يعملون به، ونحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة؛ فرد الله عليهم قولهم: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104] أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع ولا يهتدون سبيلا إلى المصالح، سواء أكانت دينية أم دنيوية، ولا يعرف ما يكفي الأفراد والأمم إلا بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل، فأولئك قوم أميون يتخبطون في ظلمات من الوثنية وخرافات من معتقدات الجاهلية، فمن وأد للبنات إلى سلب ونهب وإغارات من بعضهم على بعض، ومن قتال تشتجر فيه الرماح، إلى عداوة وبغضاء تملأ السهول والبطاح، ومن ظلم لليتامى والنساء إلى تفنن في الشعوذة وضروب السحر والكهانة.
قال آخر (2): أما الآية الثالثة، فهي تتحدث عن المسرفين في الفواحش وتقليدهم لآبائهم فيها، حيث قال تعالى فيهم: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف: 28] أي إذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ممن جعلوا الشياطين أولياء لهم ـ قبيحا من الأفعال كتعريهم حين الطواف بالبيت، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءنا يفعلون كما نفعل، فنحن نقتدي بهم ونستن بسنتهم، والله أمرنا بذلك فنحن نتبع أمره فيه، وقد رد الله عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف: 28] أي إن هذا الفعل من الفحشاء والله بكماله منزه أن يأمر بها وإنما يأمر بها
__________
(1) تفسير المراغي (7/ 45)
(2) تفسير المراغي (8/ 129)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/76)
الشيطان كما جاء في قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268] ثم رد عليهم الوجه الأول ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 68] أي إنكم باتباعكم للآباء والأجداد في الآراء والشرائع غير المسندة إلى الوحي تقولون على الله ما لا تعلمون أنه شرعه لعباده.
قال آخر: والخلاصة أنهم في عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين: أمر الله بهما، وتقليد الآباء والأجداد، وقد رد الله عليهما في كل منهما فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة، وأن الذي يأمر بذلك إنما هو الشيطان، ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة إلى رسول يؤيده بالآيات البينات وهو لم ينزل عليهم به.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد: 14 ـ 15]، وقوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123 ـ 124]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الأماني، وهو من الحجب الخطيرة التي تجعل الإنسان يتوهم أن ما يخطر بباله هو الواقع بينما هو ليس كذلك.. فليس كل ما يرغب فيه يتحقق، وإنما لذلك شروطه الخاصة به.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/77)
قال آخر (1): أما الآية الأولى، فتذكر أن المنافقين ينادون المؤمنين: أما كنا معكم في الدار الدنيا نصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدى معكم سائر الواجبات؟.. فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم: بلى كنتم معنا، ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي، وأخرتم التوبة، وشككتم في أمر البعث بعد الموت، وغرتكم الأمانى، فقلتم سيغفر لنا، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت، وغركم الشيطان فقال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم.. والخلاصة: إنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم، وكنتم في حيرة من أمركم، فلا تذكرون الله إلا قليلا.
قال آخر (2): أما الآية الثانية، فقد ورد في سبب نزولها أن المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخر بعضهم على بعض، حيث كان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيهم قد بُعث قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأن نبيهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه آخر الكتب وأكملها.
قال آخر (3): ولذلك ردت الآية الكريمة على كل تلك الدعاوى والأماني، وبينت أن القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إلى دعاواه وأمنياته مطلقا، بل إن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمله وإيمانه.. وهذا مبدأ ثابت، وسنة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأمم جميعها أمامه.
قال آخر (4): وبهذا المبدأ ينبذ القرآن الكريم كل العصبيات، معتبرا الاعتبارات والارتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإيمان بمباديء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.
__________
(1) تفسير المراغي (27/ 170)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 464)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 465)
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 465)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/78)
قال آخر: ولهذا ورد في الأحاديث الشريفة النهي عن الأماني، واعتبارها من العقبات الحائلة بين الإنسان والهداية، ومن الأمثلة عنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله عزّ وجلّ الأماني) (1)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 57]، وقوله: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 101]، وقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الإعراض عن الحق، والذي يجعل صاحبه فريسة للباطل، لأنه يمكن نفسه من استحواذ الشياطين عليه، حتى يطبع على قلبه، فلا يرى الحق حقا، ولا الباطل باطلا.
قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [الكهف: 57] يعني أنه لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله، ودُل بها على سبيل الرشاد، وهُدى بها إلى طريق النجاة، فأعرض عنها ولم يتدبرها ولم يتعظ بها، ونسى ما عمله
__________
(1) أمالي الطوسي ج 2 ص 143.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 290.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/79)
من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عواقبه، ومن ثم لم يتب منها ولم ينب إلى ربه.
قال آخر (1): ثم علل الله تعالى ذلك الإعراض والنسيان بقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الكهف: 57] أي إن ذلك الإعراض منهم بسبب أن جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا ما ذكروا به، وجعلنا في آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه، والمراد أنه لا يدع شيئا من الخير يصل إليها، فهي لا تعي شيئا من الآيات إذا تليت عليها، ذاك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد، بما دنسوا به أنفسهم من قبيح الأفعال والأقوال، وبما اجترحوا من الكفر والفسوق والعصيان، فأصبح بينهم وبين سماع الحق حجاب غليظ، فلا ينفذ إلى السمع شئ مما يسمع سماع تدبر واتعاظ، ولا إلى القلب شئ مما يقال فيعيه وينتفع به.
قال آخر: أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 101]، فقد وردت بعد ذكر تاريخ وقصص خمسة أقوام من الأمم السابقة، وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، حيث نزل عليهم العذاب الإلهي لتكذيبهم آيات الله، وقوله تعالى في ذكر عاقبتهم: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 101] لا يشير إلى أي كافر كان، ذلك أن كثيرا من المؤمنين كانوا في صفوف الكفار، والتحقوا بصفوف المؤمنين بعد سماعهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام، وبذلك؛ فإن المراد ذلك الفريق من الكافرين الذين ألحوا وأصروا على كفرهم، لأن كفرهم هذا يحول دون معرفتهم ورؤيتهم للحق.
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 290.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/80)
قال آخر: والشاهد على هذا قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأعراف: 101] أي أن تعصبهم بلغ درجة لا تسمح لهم بتغيير طريقتهم والرجوع عن الباطل إلى الحق (1).. أو أنه (قد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم، فجاء كل رسوله قومه بما أعذر به إليهم، ولكن لم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات بما كذبوا به من قبل مجيئها حين بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي، ذاك أن شأن المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا على التكذيب بعد إقامة البينة، إذ لا قيمة لها في نظرهم، فهم إما جاحدون معاندون ضلوا على علم، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم، وفي معنى الآية قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ [يونس: 74]) (2)
قال آخر (3): أما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155]، فقد أشارت إلى سلوك فريق من اليهود وعدائهم للأنبياء عليهم السلام، ولذلك طبع الله على قلوبهم جراء ذلك.. وبديهي أن المراد من الكفر هنا هو الكفر المتزامن مع العناد، ومع العداء للأنبياء عليهم السلام، ومع نقض المواثيق باستمرار والاستهزاء بآيات الله، ومن المسلم به أن كفرا كهذا يجعل حجابا على عقل الإنسان لا
__________
(1) ذكر الفخر الرازي في تفسير الآية خمسة أقوال، هي: الأول: قال ابن عباس والسدي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم، فآمنوا كرها، وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب. الثاني: قال الزجاج: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات. الثالث: ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما ما كذبوا به من قبل إهلاكهم، ونظيره قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [الأنعام: 28] الرابع: قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر، فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضا. الخامس: ليؤمنوا في الزمان المستقبل (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (14/ 324)
(2) تفسير المراغي (9/ 19)
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 290.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/81)
يسمح لصاحبه أن يدرك الحقائق.
قال آخر (1): وفي هذه الآية والآيات التي بعدها يحصي الله سبحانه وتعالى على اليهود ما ارتكبوا من خطايا، وما اقترفوا من آثام، حتى كان لهم من الله هذا العقاب الأليم الذي أخذهم به في الدنيا قبل الآخرة.. فقد نقضوا مواثيق الله، وكفروا بآياته، وقتلوا رسله.. عدوانا وبغيا، حيث لا شبهة ولا مظنة شبهة يقتل بها رسول من رسل الله، إذا قتل غيرهم من الناس، بحق أو بغير حق.. فما رسل الله إلا رحمة من رحمته، وفضل من فضله، ونعمة من نعمه.. فالذي يدفع الرحمة، ويأبى الفضل، ويكفر بالنعمة، هو إنسان مبتلى في عقله، متهم في إنسانيته فإذا تجاوز ذلك إلى أن يكون حربا على الرحمة والفضل والنعمة، فقل أي كائن هو.. ولكن لا تنسبه إلى عالم الإنسان أبدا، على أن الأمر لا يحتاج إلى بحث أو نظر، فقد حكم القوم على أنفسهم، ونطقوا بما ينطق به في شأنهم الوجود كله، ويدينهم به.
قال آخر (2): وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [النساء: 155] أي مغلفة، مغلقة، لا ينفذ إليها شئ من الحق والخير.. وهم إنما يقولون هذا القول في مجال الاستهزاء والسخرية، كما يقول من يتعالم: إني جاهل!.. والمغرور بماله، المدل بثروته: إني فقير!.. بل إن أمرهم لأكثر من هذا، إذ ليس ما بقلوبهم مجرد غطاء يحجبها عن كل خير، كما ادعوا على أنفسهم استهزاء وتعاظما، ولو كان ذلك هو الذي بهم لكان لدائهم طب، ولعلتهم دواء، ولكن الذي بهم هو شيء لو عقلوه لبكوا كثيرا، ولضحكوا قليلا، بل لكانت حياتهم كلها بكاء موصولا، ودمعا جاريا، لما رماهم الله به من داء قتل كل معاني الإنسانية فيهم.. فإذا هم ناس وليسوا ناسا، أحياء وليسوا بالأحياء.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 963)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 964)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/82)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ [يونس: 74]
قال أحد الطلبة: هذه الآية الكريمة تشير إلى حجاب الاعتداء، والذي يجعل صاحبه يقف في صف الباطل حتى لو رأى كل البراهين في صف الحق، وهو ما يحول بينه وبين الهداية.
قال آخر (1): وقد بينت الآيات السابقة للآية الكريمة قصة نوح عليه السلام، حيث كان يدعو قومه لله ويسعى لهدايتهم وانذارهم من عذاب الله، إلاأنهم كذبوه، فأغرقهم الله بالطوفان وأهلكهم، وأنقذ المؤمنين منهم بالسفينة، فورثوا الأرض، ثم يذكر الله تعالى أنه أرسل بعد نوح عليه السلام رسلا، كلا إلى قومه مع معجزات وأدلة واضحة ورسائل يشهد محتواها على أحقيتهم، إلاأنهم لم يخضعوا للحق واستمروا في تكذيبهم.
قال آخر (2): ولهذا ذكر الله تعالى العقاب الذي استحقه هؤلاء، فقال: ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ [يونس: 74]، وهذه إشارة إلى أن الاعتداء والعدوان يترك حجابا في القلب يحول دون معرفة القلب لآيات الله وتمييزه بين الحق والباطل.. وهذا يدل على أن الطبع الإلهي على القلوب بالاضافة إلى كونه عقابا إلهيا للمعتدين، كذلك يكون أثرا من آثار الاستمرار في الاعتداء.
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 294.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 294.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/83)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: 11]
قال أحد الطلبة: هذه الآية الكريمة تشير إلى حجاب العجلة، والذي يجعل صاحبها خفيف العقل، لا يتأنى حتى يتثبت أو يتحقق، أو حتى يسمع للحجج والبراهين، بل يسارع إلى رفضها لمجرد مخالفتها هواه.
قال آخر: وفي الآية الكريمة ذكر الله تعالى أحد أسباب الكفر وعدم الإيمان بالله وهو عدم دراسة الأمور بدقة وتبحر، ويقول: (إنهم وبسبب إضطرابهم وتسرعهم يتجهون أحيانا نحو الشر، وكأنهم يتجهون نحو الخير والسعادة، ويتجهون نحو الهاوية وكأنهم يتجهون نحو مكان آمن، ويتجهون نحو الذل والعار كما لو كانوا يتجهون نحو طريق الفخر والعز)
قال آخر: أي أن تفكيرهم السطحي، وتركهم التدبر يجعل حجابا على عقولهم يحول دون إدراكهم الصحيح، فيرون ـ لأجل ذلك ـ الشر خيرا والشقاء سعادة، والضلال صراطا مستقيما.
قال آخر (1): وتكشف الآية كذلك عن حال من أحوال الإنسان، وهو أنه مولع بحبّ العاجل من المتاع، يطلبه، ويؤثره على الآجل، وإن كان فيه من الخير أضعاف العاجل الذي طلبه وآثره.. ومن هنا، كان أكثر الناس يطلبون الدنيا، ويستوفون حظوظهم منها، دون أن يتركوا للآخرة شيئا.. وهذا ما يحملهم على أن يهتفوا بالشرّ، ويلحّوا في طلبه، حتى كأنه خير محقق.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 459)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/84)
قال آخر (1): ووصف الله تعالى ما يستعجله الناس من متاع الحياة الدنيا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الحال التي يتلبّس بها طالبوه، حيث يصرفهم عن الآخرة، ويعمى أبصارهم عن النظر إليها.. فهذا المتاع ليس شرا في ذاته، وإنما هو شرّ بالنسبة لمن شغلوا به عن الآخرة، وأذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، واستمتعوا بها.
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث ما يدل على ذم العجلة ومخاطرها، ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الأناة من الله والعجلة من الشيطان) (2)، وقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) (3)، وقال: (التؤدة في كلّ شيء إلّا في عمل الآخرة) (4)
قال آخر: وقال الإمام علي: (إيّاك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التّساقط فيها عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كلّ عمل موقعه) (5)
قال آخر: وقال: (أشدّ الناس ندامة وأكثرهم ملامة العجل النّزق الّذي لا يدركه عقله إلا بعد فوت أمره) (6)
قال آخر: وقال: (لن يلقى العجول محمودا) (7)، وقال: (من الخرق العجلة قبل الإمكان والأناة بعد إصابة الفرصة) (8)، وقال: (أخطأ مستعجل أو كاد) (9)
قال آخر: وقال: (ذر العجل فإنّ العجل في الأمور لا يدرك مطلبه ولا يحمد
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 459)
(2) تحف العقول ص 43.
(3) البخاري، 1 (6340) ومسلم (2735)
(4) أبو داود (4810)
(5) نهج البلاغة عهد 53 ص 1031.
(6) غرر الحكم ص 247.
(7) غرر الحكم ص 247.
(8) غرر الحكم ص 247.
(9) غرر الحكم ص 247.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/85)
أمره) (1)، وقال: (قلّما يصيب رأى العجول) (2)، وقال: (قلّما تنجح حيلة العجول أو تدوم مودّة الملول) (3)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 23 ـ 24]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف: 26]
قال أحد الطلبة: هذه الآيات الكريمة تشير إلى حجاب الكذب والافتراء، والذي يجعل صاحبه بعيدا عن الهداية، لأنه وقف في مواجهتها وتشويهها وتحريفها.
قال آخر (4): والآية الكريمة الأولى تشير إلى أن التمادي في الضلال، والإعراض عن آيات الله، وعدم التوقف للتثبت من الحق، هو مما دخل على القوم من غرور، بسبب ما بدلوا وغيروا في دين الله، حتى أخذوا عن هذا الدين المحرّف أنهم شعب مختار، لهم عند الله فضل ومنزلة، وأن من يدخل النار من عصاتهم لن تمسه النار إلا أياما معدودة، على حين يخلد غيره في النار ممن ليس منهم، وبهذا اجترؤوا على الله، واستباحوا حرماته، لأنهم كما صور لهم دينهم الذي لعبوا فيه بأهوائهم ـ لا ينالهم الله بعذابه، وأن العصاة الغارقين منهم في
__________
(1) غرر الحكم ص 247.
(2) غرر الحكم ص 247.
(3) غرر الحكم ص 247.
(4) التفسير القرآني للقرآن (2/ 425)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/86)
العصيان لن يمسهم عذاب الله إلا مسا رفيقا.. وقد كذبوا في ذلك وافتروا.
قال آخر: وقد فضحهم الله تعالى في قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 80 ـ 81]
قال آخر (1): وفي قوله تعالى في هذه الآية: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: 24] وفي آية البقرة ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] حكاية لأقوالهم التي تختلف في أسلوبها، وإن لم تختلف في مضمونها، فكل واحد منهم له أسلوبه في التعبير عن هذا المعنى الذي تتوارد عليه ضلالاتهم..
قال آخر (2): والآية الكريمة تشير إلى أن الكذب والافتراء يخدعان الإنسان ويحجبان عنه المعرفة، ذلك أن الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به، كما أن المدمن على استعمال المواد المخدرة ونحوها يستعملها وهو يعلم أنها مضرة غير لائقة بشأنه، وذلك لأن حالته وملكته النفسانية زينت له هذه الأمور وأضفت عليها نوعا من الجاذبية بحيث لم تدع له مجالا للتفكر والاجتناب.
قال آخر (3): ولذلك؛ فإنهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على ما تدعوهم إليه فريتهم، فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم، وهم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه، ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به، أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم، كما بينه علماء النفس، فصارت الفرية
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 425)
(2) تفسير الميزان (3/ 69)
(3) تفسير الميزان (3/ 70)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/87)
الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه.
قال آخر (1): وهذا مجرب، فتارة يتفوه الإنسان بحديث كذب ويعلم أنه كذب وافتراء، وعلى ضوء إعادة الحديث يقع في شك منه، ثم يعيده مرات أخرى فيصدق به، حتى يبلغ درجة الاعتقاد بالرغم من عدم واقعيته، فيصير حجابا أمام رؤيته العقلية السليمة.
قال آخر (2): أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف: 26]، فهي تشير إلى قوم عاد، وهم قوم ذو قدرة، كانوا يعيشون في الأحقاف، جنوب أو شمال الجزيرة العربية، وابتلوا بالريح العاصف إثر تكذيبهم لرسولهم هود عليه السلام وإثر ظلمهم وفسادهم في الأرض.
قال آخر (3): والآية الكريمة تؤكد أن تكذيبهم المتوالي لآيات الله سبب سلب إدراكهم ومعرفتهم، فأبصارهم ترى وآذانهم تسمع وأفكارهم تعقل ظاهرا، إلا أن الستار الحاجب حال دون استعانتهم بوسائل المعرفة هذه فابتلوا بعذاب الله.
قال آخر (4): وقوله تعالى: ﴿يَجْحَدُونَ﴾ [الأحقاف: 26] من مادة [جحود]، ويعني في الأصل نفي شي ء تيقن الإنسان من وجوده أو إثبات شي ء يؤمن الإنسان بعدمه، أو أنه يعني إنكار الواقعيات عمدا وعن معرفة، وقد أثبتت التجربة أن الإنسان إذا ما استمر في إنكار
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 302.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 302.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 302.
(4) نفحات القرآن، ج 1، ص: 302.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/88)
الحقيقة، فستصبح القضايا التي يؤمن بها بشكل قطعي مورد شك وبشكل دائم، وإذا استمر الانكار أكثر فإن قدرته على التمييز تتبدل بحيث يرى الحق باطلا والباطل حقا.
قال آخر (1): وهناك أسباب مختلفة لهذا الإنكار المتعمد للواقعيات مع العلم والمعرفة، فتارة ينشأ عن العناد، وتارة أخرى عن التعصب، وتارة عن الكبر والغرور، وتارة يقدم الإنسان عليه حفاظا على مصالحه المادية التي تتعرض للخطر إذا ما كشف عن الحقائق، وتارة لأجل شهوات أخرى.. والنتيجة هي حدوث حجاب على العقل والفطرة فتنقلب قدرة التمييز عند الإنسان رأسا على عقب.
قال آخر (2): والآية الكريمة تشير إلى أنه حتى لو كان أولئك المكذبين مجهزين بالوسائل المادية، وبوسائل إدراك الحقيقة، إلا أنهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الإستكبار والعناد، وكانوا يتلقون كلام الأنبياء بالسخرية والإستهزاء، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم، وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أن لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه، فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة.
قال آخر (3): وتخاطب الآية الكريمة المعاندين في كل العصور لتقول لهم: إذا كان أولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كل تلك القدرات والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها، وأصبحت جثثهم الهامدة كالريشة في مهب الرياح تتقاذفهم من كل جانب بكل مذلة واحتقار، أولى لكم أن تعتبروا إذ أنتم أضعف منهم وأعجز.. وليس عسيرا على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم وجرائمكم، وأن يجعل عوامل حياتكم
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 303.
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (16/ 290)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (16/ 290)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/89)
أسباب فنائكم، وهذا خطاب لمشركي مكة، ولكل البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ، وفي كل الأعصار والأمصار.
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجب التي تحول بين الإنسان والهداية الواردة في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: 8]، وقوله: ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43].. وغيرها من الآيات الكريمة التي تدل على هذا المعنى.
قال أحد الطلبة: هاتان الآيتان الكريمتان ومثيلاتها تشير إلى حجاب التزيين، والذي يتم من الشيطان أو من الإنسان نفسه..
قال آخر: وقد أشارت الآيتان الكريمتان إلى دور الاستعداد النفسي لذلك.. فقسوة القلوب هي التي تجعلها مستعدة للتزيينات الشيطانية التي تنحرف بالحقائق عن معانيها أو مقاصدها.
قال آخر (1): ذلك أن فطرة الإنسان إذا كانت نقية، فإنها تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة، إلا أنه حين يذنب الإنسان ويخطو في طريق الآثام، فإنه يفقد هذا الإحساس تدريجيا.. ومتى ما واصل الإقدام على السيئات، تبدو له سيئاته وكأنها أمر حسن، وتتزين له، وهذ ما أشارت إليه تلك الآيات الكريمة.
قال الأستاذ: بورك فيكم.. لكن ما سر اختلاف نسبة التزيين في القرآن الكريم.. ذلك أنه مرة ينسب التزيين للشيطان.. ومرة يُسند الفعل الى ما لم يُسمَّ فاعله، ويُبنى
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 49)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/90)
للمجهول.. ومرة يسند إلى الشركاء، أي الأصنام، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 137].. ومرة يُنسب تزيين الأعمال السيئة الى الله، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: 4]
قال أحد الطلبة (1): ذلك يرجع إلى أن مقدمات التزيين تبدأ من نفس الإنسان، فيتمسك بها الشيطان، ويوسوس لصاحبها.. وبما أن الله مسبب الأسباب وخالق العلل والمعلولات، فلذلك تنسب إليه نتيجة الأعمال.. ونسبة مثل هذه الأمور الى الله مع أنها تخص عمل الإنسان نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله، فهو مسبب الأسباب.. وهذه النسبة لا تنافي الاختيار وحرية إرادة الإنسان.
قال آخر: وقد قال بعض العلماء في الجواب على الإشكال الذي طرحته: (أُسند التزيين إلى الشيطان بالنظر إلى أنه هو الذي يغري ويوسوس، وأُسند إليه تعالى بالنظر إلى أن سنة الله ومشيئته قضت بأن يعمى عن سوء أعماله من لا يؤمن باليوم الآخر، تماما كما قضت مشيئته تعالى بالموت والهلاك على من يسلك الطريق المؤدية اليه.. وبتعبير ثان أن من لا يؤمن بالآخرة يفعل الحرام، وهو يرى أنه حلال، لأن الله جعل عدم الإيمان سببا للجهل بالحرام.. ذلك أن جميع الأشياء الطبيعية والأسباب الكونية تنتهي إليه تعالى لأنه هو الذي أوجد الطبيعة والكون) (2)
قال آخر: وأجاب آخر عن ذلك جوابا مفصلا قال في مقدمته: (الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شيء ضما يجلب الرغبة إليه ويحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة، وينتهي
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 235.
(2) التفسير الكاشف (6/ 6)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/91)
إلى الشيء المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر والبرد.. وقد أراد الله سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب والفروع ويديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق إعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه وما يضره بحواسه الظاهرة، ثم يتصرف فيها بحواسه وقواه الباطنة، ثم يتغذى بأكل أشياء وشرب أشياء ويهيج إلى النكاح بأعمال خاصة، ويلبس ويأوي ويجلب ويدفع وهكذا.. وله في جميع هذه الأعمال وما يتعلق بها لذائذ يقارنها، وغايات حيوية ينتهي إليها، وآخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها، أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة الحقيقية.. وهو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك، أو اللذة الفكرية كلذة الدواء ولذة التقدم والأنس والمدح والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة والأمن وغير ذلك مما لا يحصى) (1)
قال آخر: ثم راح يبين سر النسب المرتبطة بها في القرآن الكريم، فقال: (وما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي في أنواع الأغذية ولذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية، ولا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.. وما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الإنسان في دنياه ولا تضره في آخرته فهي منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 7]) (2)
قال آخر: ثم ذكر الزينة المنحرفة، وسر نسبها، فقال: (وما كان منها لذة فكرية توافق
__________
(1) تفسير الميزان (7/ 175)
(2) تفسير الميزان (7/ 175)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/92)
الهوى وتشقي في الأخرى والأولى بإبطال العبودية وإفساد الحياة الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الإلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة والأحكام الناشئة منها والأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة ولم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها، بل إنما نشأت من نزعة شيطانية وعثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق، فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالإذن كما قال تعالى حكاية عن قول إبليس: ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 39]، وقال: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النحل: 63]) (1)
قال آخر: ثم ذكر سر تنزيه الله تعالى عن نسبة تزيين الفواحش إليه، فقال: (أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها وهداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الإنسان الكونية السليمة عقائد وآراء فكرية يبني عليها أعماله فتسعده وتحفظه عن الشقاء وخيبة المسعى، وجلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف ويبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن والقبيح معا وينهى الناس جميعا عن القبيح والحسن معا فيختل بذلك نظام التكليف والتشريع ثم الثواب والعقاب، ثم يصف الدين الذي هذه صفته بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة بريئة من هذا التناقض وأمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه والعتاهية) (2)
قال آخر: ثم ذكر أن ذلك لا يعني كون الشيطان يقوم بذلك بعيدا عن إرادة الله، أو
__________
(1) تفسير الميزان (7/ 176)
(2) تفسير الميزان (7/ 176)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/93)
إكراها لله، فقال: (أما أنها منسوبة إليه تعالى بالإذن فإن الملك عام والسلطنة الإلهية مطلقة، وحاشا أن يتأتى لأحد أن يتصرف في شيء من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك والفسق وجميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان والاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك الدعوة والهداية، قال تعالى: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس: 3]، وقال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141]، فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإذن أو بلا واسطة، وعليه يجري قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ [الأنعام: 108] وأوضح منه في الانطباق قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7]) (1)
قال الأستاذ: أحسنتم.. فأخبروني عن الحجاب الذي يحول بين الإنسان والهداية الوارد في قوله تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 71]
قال أحد الطلبة: هذه الآية الكريمة ومثيلاتها تشير إلى حجاب استعمال الظن بدل التحقيق واليقين في الحكم على الأشياء، ولذلك يُحرم الظانون من الهداية بسبب حيلولة نفوسهم بينهم وبينها.
قال آخر (2): ذلك أن اتباع الظنون والخيالات الباطلة يغير العقل تدريجيا ويحرفه عن جادة المعارف الأصيلة، ويجعل حجابا أمام عيني الإنسان وأذنيه.
__________
(1) تفسير الميزان (7/ 177)
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 303.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/94)
قال آخر (1): وهذه الآية الكريمة وما قبلها تذكر ما أخذ الله على اليهود من العهد في التوراة بتوحيده واتباع الأحكام التي شرعها لهدي خلقه وتحليهم بحلي الفضائل ومكارم الأخلاق.. لكنهم نقضوا هذا الميثاق وعاملوا الرسل عليهم السلام تلك المعاملة القاسية، حيث أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم عاملوه بأحد الأمرين: إما التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان، وإما القتل وسفك الدماء.
قال آخر (2): وهي تذكر أنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبا، وأشدها عتوا وضلالا، حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم، بل صار ذلك مغريا لهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار.
قال آخر (3): ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فقال: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: 71] أي وظنوا ظنا قويا تمكن من نفوسهم أنه لا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد، لأنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، ويعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب.. والمراد بالفتنة هنا: الاختبار بشدائد الأمور، كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد.
قال آخر (4): ثم تذكر الآية الكريمة أن ظنهم خاب في ذلك، فتقول: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 71] أي فعموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن في خلقه مصدقا لذلك، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها ونقضوا الميثاق وخرجوا عن هدى الدين، وظلموا أنفسهم
__________
(1) تفسير المراغي (6/ 163)
(2) تفسير المراغي (6/ 164)
(3) تفسير المراغي (6/ 164)
(4) تفسير المراغي (6/ 164)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/95)
واتبعوا أهواءهم وساروا في غيهم، وانهمكوا في ضلالهم، فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار.
قال آخر (1): حيث جاس البابليون خلال ديارهم، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم وسلبوهم أموالهم وثلوا عروش ملكهم، ثم رحمهم الله وتاب عليهم حين أقلعوا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره ورد من بقي من بنى إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم، ورجع من تفرق منهم في الأقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا.
قال آخر (2): ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض وقتلوا الأنبياء بغير حق فقتلوا زكريا وأشعيا وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس ثم الرومانيين، فأزالوا ملكهم واستقلالهم.
قال آخر (3): والآية الكريمة تشير إلى أن الظن الباطل هو الذي ألقى بحجابه على أفئدتهم وأبصارهم وسمعهم فحال دون أن يعقلوا شيئا، فلم تعد أبصارهم تدرك الآثار المتبقية من المصير المؤلم للأقوام السالفة ولم تعد آذانهم تمتلك قدرة سماع ما ينقل عنهم، وبهذا فقدوا هاتين الوسيلتين المهمتين للمعرفة ـ السمع والبصر ـ من الناحية العملية، وظنوا أنهم في أمان من عذاب الله.
قال آخر (4):وقد حصل لهم هذا الظن بسبب عدم السير في الأرض ودراسة التاريخ والأقوام السالفة، فما سمعوا عن تلك الأقوام بآذانهم، ولا شاهدوا بأعينهم، بل إن أبصارهم وآذانهم وأفئدتهم عاطلة عن العمل فحسبوا أن لا عذاب لهم.
__________
(1) تفسير المراغي (6/ 164)
(2) تفسير المراغي (6/ 164)
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 304.
(4) نفحات القرآن، ج 1، ص: 304.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/96)
قال آخر (1): إلا أنه بعد انقضاء وطر من الزمن أدركوا خطأهم والتزموا طريق التوبة، وقد وسعتهم رحمة الله فقبل توبتهم.. إلا أنه ومرة أخرى خدعتهم ظنونهم الباطلة فظنوا أنهم شعب الله المختار في أرضه، بل أبناء الله، فأسدلت ستائر العمى والصم والجهل على أبصارهم وسمعهم، وطردوا من رحمة الله تارة أخرى.
قال آخر (2): وهي تشير إلى أن الظن الباطل، كظن اليهود أنهم شعب الله المختار، يمنع الإنسان تدريجيا عن الإدراك والفهم ويحرفه عن جادة الصواب، وإذا كان هذا الظن في بدايته فيقظة العقل محتملة، ورجوعه عن هذا الحسبان ممكن، أما إذا تفاقمت الظنون وتأصلت في ذاته فيصبح الرجوع عنها أمرا غير ممكن.
قال الأستاذ: أحسنتم.. لقد كان كل ما ذكرتموه من الحجب مرتبطا بشخص الإنسان وذاته؛ فهل هناك حجب أخرى موجهة إليه من غيره؟
قال أحد الطلبة: أجل.. ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة حجب كبرى.. أولها حجاب أئمة الضلال والكفر.. وثانيها حجاب أصدقاء السوء.. وثالثها حجاب التبعية العمياء لما يمليه المجتمع المنحرف.
قال الأستاذ: فحدثونا عن الحجاب الأول منها.
قال أحد الطلبة: الحجاب الأول منها هو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 304.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 304.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/97)
[الأحزاب: 67 ـ 68]، وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سبأ: 31 ـ 32]، وقوله: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38]
قال آخر (1): فالآية الأولى تبين حال فريق من الكفار عندما يرون نتيجة أعمالهم عند الله، فيقولون: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الأحزاب: 67]، فما كنا نبتلى بهذا المصير لولاهم، ثم يقولون: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [الأحزاب: 68]، أي عذابا لكفرهم، وعذابا لأنهم أضلونا، ﴿وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 68]
قال آخر (2): ذلك أنهم لا يريدون سوى تبرير أعمالهم بكلامهم هذا، ذلك أنه مع كون رؤسائهم سببا مهما في انحرافهم، لكنه لم يسلب عنهم المسؤولية تجاه أعمالهم.. ذلك أنه مع أن وسوسة القادة المفسدين والزعماء الضالين والمضلين جعلت حجابا على عقولهم وأفكارهم فحال دون تفكيرهم الصحيح، إلاأن مقدمات هذا الأمر هم هيأوها بأنفسهم لأنهم سلموا أنفسهم عشوائيا إلى هؤلاء من دون إحراز أهليتهم للقيادة.
قال آخر (3): وقد ذكر العلماء فروقا بين السادة والكبراء في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الأحزاب: 67]، منها أن السادة جمع (سيد)، وهو المالك العظيم الذي يتولى إدارة المدن المهمة أو الدول، و(الكبراء) جمع (كبير) وهو الفرد
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 308.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 308.
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (13/ 359)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/98)
الكبير سواء من ناحية السن، أو العلم، أو المركز الإجتماعي وأمثال ذلك.. وبذلك فإن السادة ـ بحسب هذا القول ـ إشارة إلى رؤساء البلاد العظام، والكبراء هم الذين يتولون إدارة الأمور تحت إشراف أولئك السادة، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم، وكأنهم يقولون: (إنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة الله، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء، فابتلينا بأنواع الانحرافات والتعاسة والشقاء)
قال آخر (1): ومن البديهي أن معيار السيادة وكون الشخص كبيرا بين أولئك الأقوام هو القوة والسيطرة، والمال والثروة غير المشروعة، والمكر والخداع.. وربما كان اختيار هذين التعبيرين هنا من أجل أنهم يحاولون توجيه عذرهم ويقولون: (لقد كنا تحت تأثير العظمة الظاهرية لأولئك)
قال آخر (2): أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سبأ: 31 ـ 32]، فهي تتحدث عن الكفار الظالمين الذين إذا ما رأوا نتيجة أعمالهم في الآخرة سعى كل منهم لإلقاء ذنبه على الآخر، فيقول حينها المستضعفون ـ أي المغفلون ـ للمستكبرين ـ أي الظلمة وأصحاب السلطة الذين أضلوا الآخرين بأفكارهم الشيطانية ـ: (لولا وساوسكم المغرية والشيطانية لكنا في صفوف المؤمنين، لقد غسلتم أدمغتنا، واتبعناكم جهلا، وجعلتمونا آلة بأيديكم لتحقيق مآربكم الشيطانية، وقد فهمنا الآن أنا كنا على خطأ)
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (13/ 359)
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 309.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/99)
قال آخر (1): وبالطبع لم يخرس المستكبرون عندها، بل يجيبون: ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ﴾ [سبأ: 32]، أي أن الرسل عليهم السلام جاءوكم بالبينات والحجج الكافية، ولذلك فنحن لسنا مسؤولين عن ضلالتكم، ﴿بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سبأ: 32] ومذنبين لأنكم تركتم ما دعتكم إليه الرسل عليهم السلام واتبعتم الأقاويل الباطلة بالرغم من إرادتكم واختياركم.
قال آخر (2): أما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى:: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38]، فهي تتحدث عن شجار القادة والأتباع الضالين في جهنم، فكلما دخلت أمة لعنت أخرى، واعتبرتها المسؤولة عن شقائها وعذابها في الآخرة، ويقول الأتباع يومذاك: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾ [الأعراف: 38] لأنهم ضالون وعذابا لأنهم أضلونا وأغوونا، فيجيبهم الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38]
قال آخر (3): إن مضاعفة العذاب لقادة الباطل أمر متوقع وليس عجيبا، إلا أن مضاعفة العذاب لأتباعهم أمر قد يبدو غريبا للوهلة الأولى، لكنا إذا دققنا في الأمر نجد ضرورة مضاعفة العذاب لهم أيضا، ذلك أنهم يستحقون العذاب لأجل أنهم ضالون، ويستحقونه لأجل اعانتهم أئمة الكفر والذود عنهم والقتال دونهم.
قال آخر: ولهذا ورد في الأحاديث الشريفة النهي عن إعانة الظلمة، ومن الأمثلة على
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 309.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 309.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 309.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/100)
ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة ووزراء فسقة وقضاه خونة وفقهاء كذبة، فمن أدرك ذلك الزمان منكم فلا يكونن لهم جابيا ولا عريفا ولا شرطيا) (1)
قال آخر: وقال: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب) (2)
قال آخر: وقال: (ألا ومن علق سوطا بين يدي سلطان جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار طوله سبعون ذراعا، يسلطه الله عليه في نار جهنم وبئس المصير) (3)
قال آخر: وقال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيسا، أو مد لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم) (4)
قال آخر: وقال: (ما اقترب عبد من سلطان جائر إلا تباعد من الله، ولا كثر ماله إلا اشتد حسابه، ولا كثر تبعه إلا كثرت شياطينه) (5)
قال آخر: وقال: (إياكم وأبواب السلطان وحواشيها، فإن أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله عز وجل، ومن آثر السلطان على الله أذهب الله عنه الورع وجعله حيرانا) (6)
قال آخر: وهكذا سار على منواله أئمة الهدى في التحذير من اتباع الأئمة المضلين وإعانتهم، وقد قال الإمام الصادق: (اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع، وقووه بالتقية والاستغناء بالله عز وجل، إنه من خضع لصاحب سلطان ولمن يخالفه على دينه طلبا لما في يديه من دنياه أخمله الله عز وجل ومقته عليه، ووكله إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه
__________
(1) الطبراني في الأوسط 4/ 277 (4190)، و(الصغير)
(2) أبو داود (4338)، الترمذي (2168)، وابن ماجة (4005)
(3) من لا يحضره الفقيه: 4/ 10/ 1.
(4) عقاب الأعمال: 309/ 1.
(5) عقاب الأعمال: 310/ 1.
(6) عقاب الأعمال: 310/ 2.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/101)
فصار إليه منه شيء نزع الله جل اسمه البركة منه، ولم يأجره على شيء منه ينفقه في حج ولا عتق ولا بر) (1)
قال آخر: وعن ابن أبي يعفور قال: كنت عند الإمام الصادق إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدة فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال الإمام الصادق: ما أحب أني عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء، وإن لي ما بين لابتيها، لا ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد (2).
قال الأستاذ: حدثتمونا عن الحجاب الأول.. فحدثونا عن الثاني.
قال أحد الطلبة: الحجاب الثاني منها هو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 27 ـ 29]
قال آخر (3): فهذه الآيات تشرح مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وهي لحظات تأسف الظالمين على سوء أعمالهم إلى درجة يعضون فيها على أيديههم.
قال آخر (4): وعض الظالم على يديه، كناية عن الحسرة والندم، على ما فاته من خير، ولا يمكنه الآن دركه.. وقوله تعالى: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 27] جملة حالية، تكشف عن سبب الحسرة، التي تملأ قلب الظالم في هذا اليوم، وهو أنه قد كان على طريق مخالف لطريق النبي، وأنه دعى إلى الإيمان فأبى، ولم يتخذ مع الرسول سبيلا،
__________
(1) الكافي 5/ 105/ 3.
(2) الكافي 5/ 107/ 7.
(3) تفسير المراغي (19/ 8)
(4) التفسير القرآني للقرآن (10/ 11)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/102)
بل اتخذ سبيله مع الضالين، والظالمين من أمثاله، الذين أغووه، وأغواهم، فكانوا حزبا على النبي والمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، على لسان هذا الظالم: ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: 28]
قال آخر (1): و(فلان) في قوله كناية عن إنسان، يعرفه المتحدث عنه، ولا يريد ذكر اسمه كراهية له.. وهو هنا كناية عن كل ضال أضل صاحبه، كما قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67] فالأخلاء في الدنيا، إذا كانت المخالة بينهم قائمة على الخير، وعلى الإيمان والتقوى، كانت في الآخرة روحا وأنسا.. أما إذا كانت قد جمعت بينهم على طريق الضلال والغواية، فإنها تكون يوم القيامة حسرة وندامة، وعداوة بادية، وتراميا باللعن والسباب.. وفي هذا يقول الله تعالى في الكافرين: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 25]
قال آخر (2): وقد روي في سبب نزول الآيات أن عقبة بن أبى معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبىّ صديقه فعاتبه، وقال له: صبأت، فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له، فقال لا: أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار النّدوة ففعل ذلك.
قال آخر: ولهذا ورد في الأحاديث الشريفة التحذير من أصدقاء السوء، ومن الأمثلة عنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي) (3)، وقوله:
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 11)
(2) تفسير الطبري (19/ 262)
(3) أبو داود (4832)، الترمذي (2395)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/103)
(المرء على دين خليله، فلينظره أحدكم من يخالل) (1)
قال آخر: وقال الإمام علي يحذر أهله من أصدقاء السوء، ويصفهم لهم: (يا بنيّ إيّاك ومصادقة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصادقة البخيل فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإيّاك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه، وإيّاك ومصادقة الكذّاب فإنّه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب) (2)
قال آخر: وقال: (اجتنب مصاحبة الكذّاب، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه ولا تعلمه أنّك تكذّبه فإنّه ينتقل عن ودّك ولا ينتقل عن طبعه) (3)
قال آخر: وقال: (احذر صحابة من يضل رأيه وينكر عمله، فإنّ الصاحب معتبر بصاحبه) (4)
قال آخر: وقال: (احذر مجالسة الجاهل كما تأمن من مصاحبة العاقل) (5)، وقال: (بئس القرين الجهول) (6)، وقال: (صديق الجاهل معرض للعطب) (7)
قال الأستاذ: حدثتمونا عن الحجاب الثاني.. فحدثونا عن الثالث.
قال أحد الطلبة: الحجاب الثالث منها هو البيئة المنحرفة، والتبعية العمياء لها، وهو ما يجعل الإنسان عبدا لقومه وقيمهم، لا عبدا لربه وشريعته، وهو ما يحول بينه وبين الهداية.
قال آخر: وقد ضرب الله المثل لذلك بما فعله السامري مع قومه، فقال: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ
__________
(1) أبو داود (4833)، والترمذي (2378)
(2) نهج البلاغة: 1104.
(3) غرر الحكم: 433.
(4) نهج البلاغة: 1069.
(5) غرر الحكم: 432.
(6) غرر الحكم: 432.
(7) غرر الحكم: 432.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/104)
أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: 85 ـ 88]
قال آخر (1): والآيات الكريمة تشير إلى فصل من حياة موسى عليه السلام وبني إسرائيل، ويتعلق بذهاب موسى عليه السلام مع وكلاء وممثلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك، ثم عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.. فقد كان من المقرر أن يذهب موسى عليه السلام إلى الطور لتلقي أحكام التوراة، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل لتتضح لهم خلال هذه الرحلة حقائق جديدة حول معرفة الله والوحي.
قال آخر (2): غير أن شوق موسى عليه السلام إلى المناجاة كان قد بلغ حدا بحيث نسي في هذا الطريق ـ حسب الروايات ـ كل شيء حتى الأكل والشرب والاستراحة، فطوى هذا الطريق بسرعة، ووصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات الله وميعاده.
قال آخر (3): وفي هذا اللقاء أدت الأجواء المهيأة لانحراف بني إسرائيل دورها، فالسامري، ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل الشيطانية فيما بعد عجلا، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته، وأوقعهم فيها.
قال آخر (4): ولا شك أن البيئة التي كان فيها بنو إسرائيل، كمشاهدة عبادة المصريين للعجل، أو مشاهدة عبادة الأصنام بعد عبور نهر النيل، وطلب صنع صنم كهؤلاء، وكذلك تمديد مدة ميعاد موسى عليه السلام، وانتشار شائعة موته من قبل المنافقين، وأخيرا جهل
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 52)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 52)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 52)
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 52)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/105)
هذه الأمة، كل ذلك كان له أثر في ظهور هذا الانحراف الكبير عن التوحيد، لأن الحوادث الاجتماعية لا تقع عادة بدون مقدمات، غاية ما هناك أن هذه المقدمات تكون تارة واضحة وعلنية، وأخرى مستورة وخفية.
قال آخر (1): وكل ذلك يدل على أن الشرك في أسوأ صورة قد أحاط ببني إسرائيل، وأخذ بأطرافهم، خاصة وأن كبار القوم كانوا مع موسى عليه السلام في الجبل، وكان زعيم الأمة هارون وحيدا دون أن يكون له مساعدون أكفاء مؤثرون.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى في قصة قارون: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 79 ـ 82]
قال آخر (2): أي أن قارون خرج على قومه في زينته، في حركة استعراضية، يحاول من خلالها أن يبهر عيون الناس بقوته المالية، مما يمنحه ذلك قدرة على إظهار مظاهر الأبهة والزينة والجمال، من الثياب التي يلبسها، والخيول التي يركبها ويستعرضها، والخدم الذين يحيطون به ويخدمونه، وما إلى ذلك مما يملكه أصحاب الأموال الكبيرة، ليخضع الناس لهم كهؤلاء الذين يخضعون للثراء ولزخارف الحياة وبهارجها، لأن الحياة الدنيا عندهم هي كل شيء، فهي القيمة والهدف في وجودهم.
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 53)
(2) من وحي القرآن (17/ 342)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/106)
قال آخر (1): ولذلك ذكر الله تعالى موقف الذين يريدون الحياة الدنيا، من الذين بهرتهم زينة قارون، ورأوا فيها عظمة القوة وكانت هي كل غايتهم في الحياة، فيما يسعون إليه ويطلبونه، فلا يرون وراءها غاية مما ينتظر الإنسان في الدار الآخرة عند الله.. وبهذا انطلقت تمنياتهم في قولهم: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص: 79] فقد بلغ هذا الرجل غايته، فيا ليتنا نبلغ مثل هذه الغاية التي هي منتهى السعادة.. ولكن المسألة مسألة حظ ونصيب، وقد حصل قارون على الحظ العظيم دوننا، فيا لسعادته الكبرى.
قال آخر (2): وبخلافهم موقف الذين أوتوا العلم من الناس، والذين نفذوا إلى حقائق الأمور بعلمهم، وعرفوا نهاياتها بإيمانهم، واستطاعوا الوصول إلى النتيجة الحاسمة التي تؤكد للإنسان أن الدنيا بكل قوتها وزينتها عرض زائل، لا يملك معه الإنسان ثباتا وعمقا وامتدادا، وكان قولهم لهؤلاء البسطاء الذين يريدون الحياة الدنيا وحدها، في غفلة عن الآخرة: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [القصص: 80] فهو الضمانة الوحيدة للخلاص، لأنه هو الذي يتعهد الإنسان في حياته فيما يتعهده من النعم والرعاية والخير الكبير، وهو الذي ينتظره في الآخرة ليدخله جنته، وليمنحه رحمته ورضوانه، ليعيش النعيم الخالد الذي لا فناء فيه، ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 80] الذين يصبرون على نوازع أنفسهم وشهواتها وعلى تحديات الآخرين واستعراضاتهم، وعلى انتظار الغاية الباقية في أجواء الأوضاع الفانية، وعلى مرارة الآلام التي تصيبهم من خلال مواقفهم، وعلى قسوة الحياة الصعبة في مواقع رضى الله، وعلى مواجهة المسؤوليات الكبيرة من عمق
__________
(1) من وحي القرآن (17/ 342)
(2) من وحي القرآن (17/ 342)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/107)
الإرادة الإيمانية وصلابة العقيدة، لأن التحرك في مواجهة التيار القوي المندفع، يحتاج إلى قوة التحمل لتلقي ضربات التيار، والصابرون وحدهم هم الذين يواجهون تيارات الكفر والضلال والطغيان والمندفعة إلى حياتهم لإبعادهم عن طريق الله.
قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى العاقبة التي آل إليها قارون، ومثله كل قارون، فقال: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: 81] أي أنه بعد أن بلغ بالتمرد غايته وتحدى الله بغوايته، فلم يبق منه شيء في الدنيا، فدفن في الأرض قبل أن يموت، ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [القصص: 81] من هؤلاء الذين كانوا يخضعون له ويتزلفون إليه ويعاونونه على مواجهة أعدائه، وعلى تحقيق رغباته، لأن المسألة الآن هي مسألة قوة الله في عقاب عدوه، فما ذا يملكون من قوة أمام الله؟.. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81] لأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يمكن أن ينتصر لنفسه من الله!؟
قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى تغير موقف بيئة المتأثرين به بسبب ما حصل له، فقال: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ [القصص: 82] فقد شاهدوه وهو ينزل بجسده إلى الأرض ويستغيث ولا مغيث له، ورأوا بعقولهم، أن المال لا يغني عن صاحبه شيئا أمام إرادة الله، لأن الله هو الذي يملك الأمر كله في العطاء والأخذ، والموت والحياة.. وهكذا بدأوا الرجوع إلى الحقيقة التي فرضت نفسها عليهم، وهي أن الله وحده، هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وأن الناس لا يملكون من أمرهم شيئا إلا فيما ملكهم الله إياه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى في قصة السحرة مع موسى عليه
__________
(1) من وحي القرآن (17/ 343)
(2) من وحي القرآن (17/ 344)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/108)
السلام: ﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116]
قال آخر (1): أي فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيهم سحروا أعين النظارة، ومنهم موسى عليه السلام كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: 66]
قال آخر (2): وتذكر الآية الكريمة أنهم جاءوا بسحر عظيم في مظهره كبير في تأثيره في أعين الناس، حتى أنهم خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال ابن عباس: (إنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى).. وذكر آخر أن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي.. وذكر آخر أنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت معمولة من جلد محشوة زئبقا.. وذكر آخر أنهم حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملئوها نارا، فلما طرحت عليه وحمى الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير.
قال آخر (3): وعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها.. ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك، أو أن الحبال والعصى جعلت على صورة الحيات وحركت بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى عن بعض ممارسات أهل الكتاب
__________
(1) تفسير المراغي (9/ 29)
(2) تفسير المراغي (9/ 30)
(3) تفسير المراغي (9/ 30)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/109)
لتشويه الدين والصد عنه: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: 72]
قال آخر (1): والآية الكريمة تشير إلى إحدى المؤامرات الإعلامية التي حاكها اليهود ضد الإسلام، والتي كان هدفها توهين عقيدة المسلمين بالإسلام.. وقصتها: أن فريقا منهم أسلموا وآمنوا ظاهرا في النهار وارتدوا عن الإسلام في الليل، وعندما سئلوا عن سبب رجوعهم عن الإسلام قالوا: إنا لاحظنا صفات محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قريب فوجدناها لا تتطابق مع كتبنا الدينية وأحاديث علمائنا فرجعنا عنه.
قال آخر (2): وهذه الحملة الاعلامية تسببت في ارتداد قوم من المسلمين عن الإسلام، إذ قالوا: إذا ارتد عن الإسلام أهل الكتاب الذين هم أفهم منا ويعرفون القراءة والكتابة، فلابد وأن الدين باطل ولا أسس قوية له، وبهذا استطاعوا أن يشوشوا على أفكار البسطاء من الناس ويلقوا بحجاب فتنتهم على عقولهم.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى على لسان فرعون: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف: 52 ـ 54]
قال آخر (3): وهي تشير إلى جانب من جوانب مقارعة موسى عليه السلام لفرعون، فعندما اتجهت الأنظار إلى موسى عليه السلام، وكادت القلوب أن تهتدي، والأفكار أن تصحح، قام فرعون بحملة إعلامية شديدة سعيا منه لحرف الناس عن اتجاههم نحو دين موسى عليه السلام، وقد انعكس في هذه الآية جانب من جوانب الاعلام الفرعوني
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 321.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 321.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 322.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/110)
المضلل.
قال آخر (1): حيث اعتمد اعلامه في البداية على ذكر شرفه العائلي ونسبه، فقال: (أنا خير من هذا الشخص) مشيرا إلى موسى عليه السلام الذي ينحدر من عائلة فقيرة، حيث يعمل راعيا، وعبدا من عبيد بنى اسرائيل.. وهو لا يملك قدرا من الفصاحة وأنا افصح منه.
قال آخر (2): ثم ذكر غناه وثروته، فقال: ﴿فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ [الزخرف: 53] ليمنحه الذهب رونقا وبهاء وزينة وعظمة، فيما كان الناس يعتادونه أنهم إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب.
قال آخر (3): ولذلك لم يكتف بذلك، بل راح يذكر شروطا أخرى لسيادته، فقال: ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ [الزخرف: 53] به، ليشهدوا على صدقه في رسالته، لأن ذلك هو وحده الذي يؤكد زعمه..
قال آخر (4): وكان ذلك المنطق الذي ذكره فرعون قريبا إلى ذهنية قومه، التي كانت تركز على المقومات الخارجية للشخصية فيما تملكه من مال وجاه وقوة، لا فيما تملكه من كفاءات فكرية وروحية وعملية، ولذلك انفعلوا بالمقارنة التي عقدها فرعون بينه وبين موسى عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾ [الزخرف: 54] أي استفزهم بأسلوبه القريب من سطح عقولهم، فحملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم ﴿فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: 54] بالانصياع لخطته في مواجهة موسى، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف: 54] لا يملكون الأساس القوي الذي يركز أقدامهم على الخط المستقيم في التوازن العملي فيما
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 322.
(2) من وحي القرآن (20/ 251)
(3) من وحي القرآن (20/ 251)
(4) من وحي القرآن (20/ 251)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/111)
يفعلونه أو فيما يتركونه، لأنهم ليسوا بأصحاب فكر يضبط لهم مواقفهم ويحدد لهم مواقعهم، بل هم أصحاب أهواء ومطامع تحركهم ذات اليمين وذات الشمال.
قال آخر (1): وكلمة ﴿اسْتَخَفَّ﴾ في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: 54] من مادة [خفيف]، وتعني أن فرعون سعى لأن يستخف عقول قومه، لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل، وهو قوله: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51] إلى آخر الآيات الكريمة، واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لاغرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودون يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادتهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين.
قال آخر (2): ويذكر الله تعالى أن المصريين أطاعوه واستسلموا لإعلامه، وذلك لأنهم مذنبون وفاسقون، وهو يشير بذلك إلى أن المؤمن الهادف والواعي لا يكون عرضة لظاهرة غسل الأدمغة، بل الفسق والذنوب هي التي تهيى ء الأرضية لتقبل إعلام باطل كهذا.. وبتعبير آخر: فإن النفس الامارة من الداخل، والوساوس الشيطانية من الخارج يتعاضدان فيكتمان المعرفة عن الإنسان.
قال الأستاذ: أحسنتم.. لقد كان كل ما ذكرتموه من الحجب مرتبطا إما بالإنسان بينه وبين نفسه، أو بينه وبين إخوانه من البشر؛ فهل هناك حجب أخرى موجهة إليه من غيره،
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 323.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 323.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/112)
ولكن ليس من بني جنسه؟
قال أحد الطلبة: أجل.. إنها وساوس إبليس الذي توعد بني آدم بأن يضلهم ويغويهم، كما قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 15 ـ 17]، وقال: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 118 ـ 119]
قال آخر: وكانت أول تنفيذاته لوعوده وسوسته لآدم عليه السلام، والتي كانت سببا في خروجه من الجنة، كما قال تعالى: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: 19 ـ 22]
قال آخر (1): ولم يكتف إبليس بنفسه في الوسوسة، بل استعمل الكثير من الأعوان والجن.. ولذلك، فإن كلمة ﴿الشَّيْطَانِ﴾ ليست اسما خاصا بابليس وعلما له، بل لها مفهوم عام، فهي اسم جنس يشمل كل موجود متمرد وباغ ومخرب، سواء كان من الجن أو الانس أو شيئا آخر.
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 327.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/113)
قال آخر (1): لذلك يذكر البعض أن أصل كلمة ﴿الشَّيْطَانِ﴾ من (شطون) أي البعد، ولهذا قيل للبئر العميق والبعيد قعره عن متناول الأيدي (شطون).. وشطن تعني الحبل الطويل.. وبما أن الشيطان بعيد عن الحق وعن رحمة الله استعملت هذه المفردة فيه.
قال آخر (2): ويذكر آخرون أنه من مادة (شيط)، والتي تعني الالتهاب والاحتراق غضبا، وبما أن الشيطان خُلق من نار واشتعل غضبا عندما أمر بالسجود إلى آدم عليه السلام أطلقت هذه المفردة عليه وعلى الموجودات الأخرى من أمثاله.
قال آخر: ولهذا كثر التحذير منه في القرآن الكريم، واعتباره حجابا بين الإنسان والهداية، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43]، والآية الكريمة تجمع بين الحجاب النفسي الداخلي والحجاب الخارجي؛ فالقلوب القاسية هي التي وفرت القابلية للوسوسة الشيطانية.
قال آخر (3): وهي تتحدث عن فريق من الأمم السابقة الذين أرسل إليهم رسل ليؤمنوا ويسلموا أنفسهم للحق، إلا أنهم أعرضوا عن ذلك، فأنزل الله عليهم بأسه، فابتلاهم بمختلف المشاكل والمصائب والحوادث الصعبة، والفقر والمرض والقحط وغير ذلك، كي يوقظهم من غفلتهم، ولكي يخضعوا للحق، إلاأنهم اتخذوا السبيل المنحرف بدل سبيل الرشاد والرجوع إلى الحق والتوبة.
قال آخر (4): ثم أرجع سبب عدم تضرعهم بالرغم من نزول البأس بهم إلى أمرين: الأول: إنهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم..
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 327.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 327.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 328.
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 283)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/114)
والثاني: إن الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزين في نظرهم أعمالهم، فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلا، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صوابا.
قال آخر (1): وبذلك لم تؤثر فيهم لا مواعظ الأنبياء اللفظية، ولا مواعظ الله العملية والتكوينية.. وعامل هذا الحجاب هو قسوة القلوب من جهة، ومن جهة أخرى تزيين الشيطان لهم، بحيث سلب منهم روح التضرع والخضوع.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: 24]
قال آخر (2): فهذه الآية الكريمة تكشف عن أن الهدهد بالرغم من محدودية عقله وذهنيته الخاصة به وبعالمه، كان يدرك بالاجمال حجب الهداية، ويعرف أن الشيطان يجعل ستارا على فكر الإنسان يحول دون تمكنه من إدراك الحقائق ويغلق أبواب المعرفة عنه ويحول دون وصوله إلى مراده المنشود.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38]
قال آخر (3): فهذه الآية تذكر قوم عاد وثمود وطغيانهم وعصيانهم ثم هلاكهم، كما عرضت على عرب الحجاز مدنهم الخربة التي يمرون بها عند رحلاتهم إلى الشام واليمن كعبرة لهم، ثم أشارت إلى السبب الأساسي في إهلاكهم، وهو تزيين الشيطان لأعمالهم بحيث ما كادوا يبصرون شيئا ولا يعقلون رغم امتلاكهم للابصار والعقول.
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 328.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 329.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 329.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/115)
قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38] يشير إلى أنهم لم يكونوا جاهلين قاصرين، بل كانوا يعرفون الحق جيدا من قبل، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي، وأتم الأنبياء عليهم الحجة البالغة، ولكن، مع كل ما تقدم من نداء العقل والضمير، ودعوة الأنبياء، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان، ويوما بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنة، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة.. وهي جديرة بذلك.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 36 ـ 37]
قال آخر (2): والعشو عن ذكر الرحمن هو الإعراض عنه، مع قيام الحجج والبراهين بين يديه، كما يعشو بعض الناس في ضوء النهار لآفة تعرض لأبصارهم.. فالذي يعرض عن ذكر الرحمن هنا، هو من قامت بين يديه الدلائل، والحجج على صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.. فهذا المعرض عن ذكر الله، يقيض الله له شيطانا، أي يسوق ويهيئ له شيطانا ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: 36] أي ملازم له، مسلط عليه، يقوده إلى حيث يشاء.. فهو شيطان مع الشيطان حيث يكون.
قال آخر (3): وفي اختصاص صفة الرحمن بالذكر هنا من بين صفات الله تعالى تذكير بهذه الرحمة المنزلة من الرحمن، وهي القرآن، وهي التي يعرض عنها أصحاب القلوب المريضة، فيتسلط عليهم الشيطان، ويملك أمرهم.. وإنها لمفارقة بعيدة أن يرى الإنسان يد
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (12/ 389)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 131)
(3) التفسير القرآني للقرآن (13/ 131)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/116)
الرحمن الرحيم تمتد إليه بالرحمة، ثم ينظر فيرى يد الشيطان الرجيم تمتد إليه بالبلاء والشقاء.. ثم يكون له ـ مع هذا ـ موقف للنظر والاختيار.. ثم يكون في الناس من يمد يده إلى الشيطان مبايعا على أن يصحبه إلى حيث ما يرى رأي العين من شقاء وبلاء.
قال آخر (1): أما قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 37]، فهو يعني أن الشياطين ليصدون المشركين عن سبيل الله، ويدفعون بهم إلى طرق الغواية والضلال، ويزينونها لهم حتى ليحسبون أنهم مهتدون.. فقوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 37] جملة حالية، تكشف عن الحال الشعورية التي يكون عليها المشركون وهم يركبون طرق الضلال.. فهم يساقون إلى الضلال وقد خيل إليهم أنهم قائمون على الهدى، مستمسكون بالعروة الوثقى.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112]
قال آخر (2): وتشير الآية الكريمة إلى المعاندين اللجوجين المتعصبين، والذين لم يقتصر وجودهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل شمل جميعا الأنبياء السابقين عليهم السلام، الذين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإنس والجن، والذين لا عمل لهم سوى الكلام المنمق الخادع الذي يستغفل به بعضهم بعضا، يلقونه في غموض أو يهمس به بعض لبعض.. ولو أراد الله لمنع هؤلاء بالإكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء، بيد أن الله لم يشأ ذلك، لأنه أراد أن يكون الناس أحرارا، وليكون
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 131)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 433)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/117)
هناك مجال لاختبارهم وتكاملهم وتربيتهم، وسلب الحرية والإِكراه لا يأتلف مع هذه الأغراض.
قال آخر (1): بالإضافة إلى أن وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر المؤمنين الصادقين، شيئا، بل يؤدي بشكل غير مباشر إلى تكامل الجماعة المؤمنة، لأن التكامل يسير عبر التضاد، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة الطاقات البشرية وتقوية الإرادة.. لذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في آخر السورة أن لا يلقي بالا إلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 137]
قال الأستاذ: فما تفسرون ما ورد في الآية من نسبة الله إلى نفسه وجود شياطين الإنس والجن في مواجهة الأنبياء عليهم السلام بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112]؟
قال أحد الطلبة (2): لأن جميع أعمال الناس يمكن أن تُنسب إلى الله، لأن ما يملكه الناس انما هو من الله، فقدرتهم منه، وكذلك حرية اختيارهم وإرادتهم، لذلك فإن أمثال هذه التعبيرات لا يمكن أن تعني سلب حرية الإنسان واختياره، ولا أن الله قد خلق بعض الناس ليتخذوا موقف العداء من الأنبياء، إذ لو كان الأمر كذلك لما توجهت إليهم أي مسؤولية بشأن عدائهم للأنبياء، لأن عملهم في هذه الحالة يعتبر تنفيذا لرسالتهم، والأمر ليس كذلك بالطبع.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن إنكار ما لوجود أمثال هؤلاء الأعداء ـ المختارين طبعا ـ من أثر بناء غير مباشر في تكامل المؤمنين، ذلك أن المؤمنين الصادقين
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 433)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 433)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 433)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/118)
يستطيعون أن ينتزعوا من وجود الأعداء أثرا إيجابيا متخذين منه وسيلة لرفع مستواهم ووعيهم وإعدادهم للمقاومة، لأن وجود العدو يحفز الإنسان لاستجماع قواه.
بعد انتهاء الامتحان الذي أجراه الأستاذ في ذلك المدرج العجيب للطلبة، قال: والآن بعد أن انتهيتم من الاختبار النظري، سيبدأ الاختبار العملي.. وستسيرون جميعا إلى الخبراء، والأجهزة المختصة بذلك.. فالعلم والدين ليسا مجرد معلومات تُحفظ في الذهن، وإنما معاني تسري في جميع اللطائف.
خرجت مع الطلبة إلى حيث طلب منهم الأستاذ، وقد صادفنا أثناء سيرنا رواق عجيب، كان يشبه ما كنت أتخيله عن الصراط الذي يميز بين الصادقين والكاذبين.
والحمد لله خرجت منه من غير أن يجذبني كما فعل مع بعض الطلبة الذين رأيتهم قد جُذبوا من بعض نواحيه.. ولست أدري هل كان ذلك بسبب خلوي من تلك الحجب، أم لإعفائي من الاختبار، لأني لم أحضر إلا ككاتب يسجل ما يراه.
بمجرد أن خرجت من ذلك المحل، جاءني شاب كالشاب الأول، وقال لي: هنيئا لك تخلصك من حجب الهداية.. والآن هيا بنا.. فنحن ننتظرك لتعرج معنا في معارجها.. فلا يعرج في معارج الهداية من لم يتخلص من حجبها.
سرت معه إلى محل عجيب، امتزج فيه كل ما نراه في واقعنا من محال مختلفة أو متناقضة.. فهو يشبه المساجد والمختبرات العلمية والمسارح والروضات والحقول.. وكل ما نراه من محال عبادة أو علم أو لهو أو لعب.
عندما وصلنا إليه، قال لي: في هذا المحل لن تسمع إلا ما يعرج بك في معارج
القرآن.. والهداية الشاملة (1/119)
الهداية.. فأصخ بسمعك، وسجل كل ما تسمعه أو تراه إلا ما لم يؤذن لك فيه.
كان أول ما شدني في ذلك المحل العجيب شيخان يتحدثان، قال أولها: هل تعلم السبب الذي خرجت به البشرية من عصورها المظلمة إلى هذا العصر الجديد المنور بنور الإيمان والعلم؟
قال الثاني: أجل.. لقد أتاح الله لك ذلك بعدما تخلصت من الحجب التي كانت تحول بينها وبين الهداية.. ولولا ذلك لظلت في غيها وضلالها إلى أن تقوم القيامة.
قال الأول: فهل تدري كيف تخلصت منها؟
قال الثاني (1): أجل.. بالتقوى، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 1 ـ 2]، فالآية الكريمة تذكر أن القرآن الكريم مع كونه مصدر هداية للبشرية جمعاء، إلا أنه لا ينالها منه إلا الذين يصلون إلى مرحلة معينة من التقوى.. مرحلة التسليم أمام الحق، وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة..
قال الأول (2): صحيح.. فالأفراد الفاقدون للإيمان قسمان: قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقدارا من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق في أي محل وجده.. وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.. ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أي كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظ لهم في ذلك.
قال الثاني (3): صدقت.. فكما أن فاعلية الفاعل شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 74)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 74)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 74)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/120)
التشريعية، كذلك قابلية القابل شرط فيهما أيضا.. فالأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر.. وساحة الوجود الإنساني لا تتقبل بذر الهداية ما لم يتم تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد.
قال الأول: لقد ذكرني حديثك هذا بمعنى جميل ذكره بعض العلماء، قال فيه: (ليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقات المؤمنين، أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان والإخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، والدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها حال المؤمنين والكفار والمنافقين خمس صفات، وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله سبحانه، والإيمان بما أنزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين.. فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، وأن هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة، ومن هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت، وأنه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع
القرآن.. والهداية الشاملة (1/121)
صدق الاعتقاد وصلاح العمل) (1)
قال الثاني: صدق في ذلك، ويدل لذلك من القرآن الكريم آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: 28]، وقوله: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: 5]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: 5]، وغيرها من الآيات الكريمة.
قال الأول: أحسنت.. وبالمناسبة فقد أورد علي بعضهم إشكالا ذكر لي فيه أن المتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي، فكيف قال الله تعالى عن القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، فأجبته بما ذكره بعض العلماء بقوله: (القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضا دلالة للكافرين إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45]، وقال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11] وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره) (2)
قال الثاني (3): وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه من مراتب الهداية، لأن من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين.
قالا ذلك.. ثم انصرفا عني، وعلى مسافة قريبة منهما، سمعت شابين يتحدثان
__________
(1) تفسير الميزان (1/ 22)
(2) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (2/ 268)
(3) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (2/ 268)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/122)
بحماسة وانفعال شديدين، قال أولهما: أنا أتعجب كثيرا من أولئك المرجئة الذين يريدون هدم بنيان الدين حين يحصرون التقوى في اجتناب الكبائر، وكأن الصغائر ليست معاصي.. أو كأن الكبائر ليست سوى نتاج للتساهل في الصغائر.
قال الثاني: صدقت.. فالله تعالى في كل المواضع التي ذكر فيها المتقي في القرآن الكريم يذكرها في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقيا في جميع الشؤون، بل حتى في الشبهات التي وقع فيها الخلاف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس) (1)
قال الأول: وقال: (أصل الدين الورع، كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن بالعمل بالتقوى أشدّ اهتماما منك بالعمل بغيره، فإنّه لا يقلّ عمل بالتقوى، وكيف يقلّ عمل يتقبّل لقول الله عز وجلّ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]) (2)
قال الثاني: ومثله قال الإمام علي:: (المتّقون أنفسهم عفيفة وحاجاتهم خفيفة وخيراتهم مأمولة وشرورهم مأمونة) (3)، وقال: (المتّقي من اتّقى الذنوب، والمتنزّه من تنزّه عن العيوب) (4)، وقال: (التقوى أن يتّقي المرء كلّما يؤثمه) (5)
قال الأول: وقال يوصي بعض أصحابه: (لا تغترّ بأقوام يصلّون فيطيلون ويصومون فيداومون ويتصدّقون فيحتسبون انّهم موفّقون.. اقسم بالله لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إنّ الشيطان إذا حمل قوما على الفواحش مثل الزنا وشرب الخمر والريا وما اشبه ذلك من الخنا والمآثم حبّب إليهم العبادة الشديدة والخشوع والركوع والسجود ثمّ حملهم على ولاية
__________
(1) الترمذي (2451)
(2) عدّة الداعي/303.
(3) غرر الحكم، 273.
(4) غرر الحكم، 268.
(5) غرر الحكم، 268.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/123)
الأئمة الّذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون).. ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب تقيّ وعمل عند الله مرضيّ وخشوع سويّ وإبقاء الجدّ فيها) (1)
قال الثاني: وقال: (إنّ تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ ملكة، ونجاة من كلّ هلكة، بها ينجو الهارب، وتنجح المطالب وتنال الرغائب) (2)
قال الأول (3): وسر ذلك أن التقوى تقوم على خشية الله، ولذلك تشمل كل مراتب الدين وأحكامه.. ولهذا جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعا.. والإخلاص خامسا..
قال الثاني: فهلا فسرت لي ما ذكرت؟
قال الأول: أجل.. بكل سرور.. أما الإيمان فيدل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: 26] أي التوحيد، ومثله قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات: 3] وفي الشعراء ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 11] أي ألا يؤمنون.. وأما التوبة فقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ [الأعراف: 96] أي تابوا.. وأما الطاعة فقوله في النحل: ﴿أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ [النحل: 2] وفيه أيضا: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ [النحل: 52] وفي المؤمنين ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52] وأما ترك المعصية فقوله: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 189] أي فلا تعصوه، وأما الإخلاص فقوله في الحج: ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32] أي من إخلاص القلوب.
قال الثاني: اطلعت على هذا.. لكني كما تعلم أؤمن بأن الله تعالى لم يختر في تلك
__________
(1) مستدرك الوسائل 1/ 263، عن بشارة المصطفى.
(2) غرر الحكم، 272.
(3) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (2/ 267)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/124)
الآيات التي قرأت لفظ التقوى إلا لأجل التقوى نفسها.. لا لأجل تلك المعاني.. لأن مضامينها جزء من التقوى نفسها.
قال الأول: صدقت.. وأنا معك في هذا.. لكن الذي أردته هو أن التقوى في تلك المحال حاجتها إلى تلك المعاني أقوى من حاجتها إلى غيرها.. مثلما يأكل أحدنا طعاما معينا، وهو لا يقصد إلا بعض محتوياته التي يحتاج إليها جسمه، مع أن في الطعام غيرها من الفوائد.
على مسافة قريبة منهما، سمعت فتاتين تتحدثان، قالت أولاهما: هل تعلمين الهبات العظيمة المختزنة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]؟
قالت الثانية: أجل.. فالآية الكريمة تشير إلى أن من مواهب الله تعالى للمتقين أن يرزقهم الفرقان، وهو تلك المعايير التي يفرقون بها بين الحق والباطل، والخير والشر.. والتي لا يمكنهم أن يسلكوا الصراط المستقيم من دونها.
قالت الأولى: أجل.. ذلك أن الله تعالى ـ بحكمته ورحمته وربوبيته ـ اقتضى أن يوفر لعباده اختبارات مختلفة، تختبر حقائقهم، وتبلو أسرارهم، وتكشف عن طبيعتهم، وفي نفس الوقت هيأ لهم من المؤيدات ما يمكنها أن تصحح ما يقعون فيه من أخطاء، وتزيل ما يعلق بطبيعتهم من مثالب.. ليتمكنوا من خلال حركة جوهرية لا عرضية، أن يعرجوا بأنفسهم إلى عوالم الكمال المهيأة لها.
قالت الثانية: ولكنه شرط لتحقيق تلك المراتب السنية، التحقق بالتقوى، ذلك أنها السبيل الوحيد الذي يحفظ الإنسان من التردي في الهاوية، أو ينزل بنفسه إلى عالم البهائم وما دونها، ولهذا يرتبط الصراط المستقيم في القرآن الكريم بالتقوى، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/125)
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]
قالت الأولى: أجل.. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خط خطا ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]) (1)
قالت الثانية: وهذا يدل على أن الحق واحد، لا متعدد، وأنه لا يمكن أن يصل أحد إلى الحق إلا بعد الوصول إلى أهله، وأن كل المنحرفين عن الحق لم ينحرفوا إلا بسبب بغيهم وظلمهم وحسدهم، كما حصل للشيطان عند رفضه السجود لآدم عليه السلام.. وكل ذلك بسبب الخلو من التقوى؛ لأنها وحدها من يحفظ الإنسان من المثالب التي تحول بينه وبين اتباع سبيل المتقين الذي يحفظه من السبل المنحرفة.
قالت الأولى: صحيح.. ولهذا عرف الله تعالى الصراط المستقيم، لا بالقيم التي يمثلها، وإنما بالصالحين الذين يمثلونه؛ فمن وصل إليهم وصل إليه، ومن انحرف عنهم انحرف عنه، قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، وقال: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15]
قالت الثانية: ولهذا، كان الفرقان الأعظم هو القدرة على التفريق بين أولياء الله الممثلين للصراط المستقيم، وغيرهم من الدجالين والشياطين الذين ينحرفون بالحق، ويغيرونه إلى ما تقتضيه أهواؤهم.. فلا يمكن لأحد أن يعرف الحقائق، ولا أن يسير وفق
__________
(1) أحمد (435، 465)، وابن حبان (1741)، والحاكم (2/ 318)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/126)
ما تقتضيه، ولا أن تتنزل عليه المواهب المرتبطة بها، ما لم يكن لديه ذلك البرهان الرباني الذي يجعله يفرق بين أهل الحق وأهل الباطل.
قالت الأولى: لقد ذكرني حديثنا هذا بكلام جميل لبعض العلماء عند تفسيره لقوله تعالى:: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، قال فيه: (إن هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بينت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإنسان، وهي أن درب الإنسان نحو النصر محفوف دائما بالمصاعب والحفر، فإذا لم يبصرها جيدا ويحسن معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها لامحالة، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل، معرفة الحسن والقبيح، معرفة الصديق والعدو، معرفة الفوائد والأضرار، معرفة عوامل السعادة والضياع، فإذا استطاع الإنسان معرفة هذه الحقائق جيدا فسيسهل عليه الوصول إلى الهدف) (1)
قالت الثانية: أجل.. وقد قرأت له في تفسيرها قوله: (إن المشكلة التي تعترض الانسان غالبا هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق، وانتخاب العدو بدل الصديق، وطريق الضلال بدل طريق الهداية، وهنا يحتاج الإنسان إلى بصر وبصيرة قوية، ووضوح رؤية.. وهذه الآية المباركة تقول: إن هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى) (2)
قالت الأولى: وقد شرح كيفية تحقيق التقوى للبصيرة التي تيسر التمييز بين الحق والباطل، فذكر أن (قوة عقل الإنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحب النفس والحسد، والحب المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدو كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل، أو كالغبار الغليظ
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 405)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 406)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/127)
الذي يملأ الآفاق، وهنا لا يمكن للإنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة، أما إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق) (1)
قالت الثانية: أجل.. وذكر في تعليل ذلك أن (كل كمال في أي مكان إنما هو قبس من كمال الحق، وكلما اقترب الإنسان من الله فإن نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر، وعلى ذلك فإن أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى، وكلما تقدم الإنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.. وبعبارة أخرى فإن قلب الإنسان كالمرآة، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت، فسوف لا تعكس النور، فإذا تم جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها، فإن تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان) (2)
قالت الأولى (3): صحيح.. ولذلك فإنا نرى في الواقع والتاريخ المتقين يملكون وضوحا من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبدا، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.
قالت الثانية: ولهذا نرى الله تعالى يذكر الفرقان في مواضع متعددة من القرآن الكريم باعتباره ركنا أساسيا في السير التكاملي للإنسان والمجتمع، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 53]، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 406)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 406)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 407)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/128)
وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: 48]، وقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]
قال آخر: وقد عبر الله تعالى عن هذا المعنى أيضا بالميزان، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]
على مسافة قريبة منهما، سمعت شيخين يتحدثان، قال أولهما: صدقت.. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282]، وقد سمعت بعض شيوخي يقول في تفسيرها: (لقد بين القرآن الكريم آثارا كثيرة للتقوى، ومن جملتها إزالة الحجب عن فكر الإنسان وقلبه.. لأن أكبر حاجز عن المعرفة وأهم مانع لها هو الحجاب الذي يغطي قلب الإنسان، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة، والآمال البعيدة، والوقوع في أسر المادة ومغريات الدنيا، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية، وبالتالي فإن الحكم على الأشياء يكون بعيدا في منطق العقل والصواب إلا أن إستقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدد هذه الحجب ويزيل عتمتها وظلامها عن صفحة القلب، ويجعل الروح الإنسانية تفيض بشمس الحقيقة وتتعرف على الحقائق بصورتها الناصعة وتشعر باللذة والنشوة من هذا الإدراك الصحيح والعميق للأشياء، وتتفتح أمامه السبل السليمة للأهداف المقدسة التي يسعى نحوها ويتقدم باتجاهها) (1)
قال الثاني (2): صدقت.. فالتقوى هي التي توفر للإنسان الوعي والوضوح، كما أن الوعي يعطي للإنسان التقوى، أي أن لكل من التقوى والوعي تأثير متبادل بعضهما على
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (18/ 95)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (18/ 96)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/129)
البعض الآخر.
قال الأول: وقد أشار إلى هذا المعنى أيضا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28]
قال الثاني (1): أجل.. فذلك النور المصاحب للتقوى، يكون في كل المحال، ومنها ما ذلك النور الذي يسبق المؤمنين في سيرهم يوم القيامة، ليبدد ظلمات الحشر، حيث يتقدمون إلى الجنة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد: 12].. كما أنه النور الذي يصحبهم في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 15]
قال الأول (2): صدقت.. فمفهوم النور في الآية الكريمة مطلق واسع، ولا يختص بالدنيا فقط، ولا بالآخرة فحسب، ذلك أن الإيمان والتقوى هي التي تسبب زوال الحجب عن قلوب المؤمنين، حيث يتبين لهم وجه الحقيقة واضحا وبدون حجاب، وفي ظل الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرم غير المؤمنين منها.
ما إن انتهى الشيخان من حديثهما، أو من سماعي لهما، حتى رأيت بابا عجيبا يُفتح على روضة جميلة، وكأنها الجنة نزلت إلى الأرض.. وقد كتب على بابها قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17]، فتعجبت من وضعها في ذلك المحل العامر بالإيمان والتقوى، لكن
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (18/ 93)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (18/ 93)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/130)
صبيا صغيرا أزال عجبي عندما قال: لا شك أنك أتيت من العصور السابقة التي اختلط فيها الحق بالباطل، لذلك تعجب من وضع هذه الآية هنا.
قلت: أجل.. أنا من تلك العصور.. وهذه الآية لا نذكرها إلا للذين لم يتعمق الإيمان في قلوبهم، بل اكتفوا بظاهر الإسلام عن باطنه وحقائقه وأنواره.
قال: ونحن كذلك نذكرها لأجل ذلك، لتنبيه أنفسنا بكون الإيمان هدية غالية من الله تعالى، من لم يحفظها أو يقدرها حق قدرها، فستُسلب منه.
قلت: ولكن الذي أعرفه أن الإيمان هو نتيجة للبحث والتفكير والتأمل والدراسة؟
قال: مع أهمية كل ذلك إلا أنه لا يكفي لتحقيق الإيمان.. فكم من باحث ودارس قد حُرم من ذلك الطعم الجميل الذي لا يذوقه إلا الصادقون.
قلت: أجل.. لقد ذكرتني بقوله تعالى عن ذلك المستكبر عن الحق بعد أن عرفه: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 18 ـ 25]
قال: ولهذا يذكر الله تعالى عن عباده الصالحين قولهم لأعدائهم: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 71]، وقولهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]
قلت: أجل.. وقد ذكر الله تعالى دعاء أهل الجنة، وهو قولهم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]
القرآن.. والهداية الشاملة (1/131)
قال: ومثل ذلك ذكر اعتراف أهل النار بأن الهداية للإيمان هدية إلهية، فقال: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: 21]
ما إن قال ذلك، حتى سمعت شخصا يدعوه، فاستأذنني، وذهب، فاستلقيت على كرسي وثير في تلك الحديقة، ثم لاح لي أن أضغط على بعض الأزرار الموجودة فيه؛ فإذا به يطير بي إلى حلقة في تلك الحديقة، ليرصف مع الأرائك الوثيرة الموجودة فيها، كما ترصف السيارات عندنا.
قال رجل من أهل تلك الحلقة: هيا.. حدثونا عن معراج الهداية الإلهية للإيمان.. وما ذكر عنه القرآن الكريم.
قال آخر: أول الآيات التي تذكر ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 14].. فما تقولون في تأويلها؟
قال آخر (1): هذه الآية الكريمة تشير إلى أن المرء قد يكون مسلما، ومع هذا فلن يكون مؤمنا، أوقانتا، أو صادقا.. وغيرها من الصفات الأخرى.. كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 709)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/132)
عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]
قال آخر (1): أجل.. فالإسلام في أدنى درجاته، هو نطق باللسان بشهادة أن لا إله إلا الله.. ثم هو في أعلى درجاته جامع لتلك الأوصاف المذكورة كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 14].. فالإسلام هنا قولة باللسان، لا أكثر ولا أقل.. وتلك القولة إذا وقف بها المرء عند هذا الحد، فلن يكون محققا الوصف الذي لها، ومن ثم لن يكون مسلما بالمعنى الذي ينتظم به في هذا الموكب الكريم، الذي يجمع المؤمنين، القانتين، الصادقين.. إلى آخر ما ينتظمه هذا الموكب.
قال آخر (2): وكذلك الإيمان.. هو في أدنى درجاته إقرار باللسان، وتصديق بالقلب ثم يرتفع هذا الإيمان درجات، ويعلو منازل، بما يصحبه من أعمال، كالصدق والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم.. إلى آخر تلك الأوصاف..
قال آخر (3): ومثل ذلك الصدق.. فقد يكون الصدق طبيعة، لا تستند إلى إيمان أو إسلام.. وكذلك الصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم، وحفظ الفرج.. فقد يصدق الإنسان، مروءة وترفعا.. وقد يصبر شجاعة وجلدا.. وقد يخشع تواضعا وتألفا.. وقد يتصدق، سخاء وكرما.. وقد يصوم، رياضة للروح أو صحة للبدن.. وقد يحفظ فرجه تعففا واستعلاء.. قد يفعل كل هذا غير ناظر إلى الله، وغير مرتبط بشريعة، أو دين.. إنه يعمل لحساب نفسه.. فلا يقام لشئ من ذلك وزن عند الله، الذي لا يقبل عملا من عامل
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 709)
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 709)
(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 709)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/133)
إلا إذا كان مقصودا به وجهه، وامتثال أمره.. ثم قد يذكر الله ذكرا كثيرا بلسانه، دون أن يتصل شئ من هذا الذكر بعقله أو قلبه، ودون أن يظهر لذلك أثر في قوله أو فعله.
قال آخر (1): وأوضح من هذا أن هذه الأوصاف يغذى بعضها بعضا، ويمسك بعضها ببعض، فتبدو كأنها صفة واحدة، إذا نظر إليها باعتبار، وتبدو كأنها أوصاف إذا نظر إليها باعتبار آخر.. إنها أشبه بالجسد الحى.. إذا نظرت إليه مجملا وجدت ذلك الإنسان، المشخص بذاته، وصفاته، وإذا نظرت إليه مفصلا، وجدته ذلك الإنسان المشخص بذاته وصفاته.. وملاك الحياة في هذا الجسد هو القلب، كما أن ملاك تلك الأوصاف، هو الإيمان المستقر في هذا القلب.
قال آخر (2): ولذلك كان الإسلام هو أول درجات السلم، الذي يرقى فيه المرء إلى منازل الشريعة، وهو المدخل، الذي يدخل منه إلى دين الله.. والإيمان هو العروج بالإسلام إلى موطنه من القلب.. والقنوت هو استجابة القلب، وتقبله لهذا الإيمان الذي استقر فيه واطمأن به، والصدق هو نبتة نبتت من بذرة الإيمان في القلب.. والصبر هو الغذاء الذي تغتذي منه تلك النبتة، حتى تقاوم الآفات التي تعرض لها، وحتى تعطى الثمر المرجو منها.. والخشوع ـ وهو الولاء لله، والامتثال لأمره ـ هو أول ما تفتح من زهر بيد الصبر.
قال آخر (3): وبهذا نرى أن هذه الصفات بناء متكامل، يقوم بعضه على بعض، ويستند التالى منه إلى السابق، بمعنى أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه هو أمر لازم، لكي يتألف منها هذا النغم المتساوق الذي يقيم في كيان الإنسان إيمانا صحيحا، مثمرا..
قال آخر (4): ولا يعني هذا أن الإنسان يلقى هذه الصفات واحدة واحدة، وأنه كلما
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 711)
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 711)
(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 712)
(4) التفسير القرآني للقرآن (11/ 712)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/134)
حصل على صفة منها مد يده، أو فتح قلبه، إلى صفة أخرى.. كلا، وإنما الذي يعنيه هذا الجمع، وهذا الترتيب معا، هو أن المؤمن الجدير بهذا الوصف، المستحق للجزاء الموعود به المؤمنون من ربهم، هو الذي يحقق هذه الصفات، فيكون مسلما، مؤمنا، قانتا متحققا بكل صفات الكمال، والتي أسست جميعا على التسليم لله، والإيمان به.
قال آخر: لقد ذكرني حديثكم هذا بحديث للإمام الباقر يقول فيه: (الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله عز وجل، وصدقه العمل بالطاعة لله، والتسليم لأمره، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها.. فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان، والإسلام لا يشرك الإيمان، والإيمان يشرك الإسلام، وهما في القول والفعل يجتمعان، كما صارت الكعبة في المسجد، والمسجد ليس في الكعبة، وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان، وقد قال الله عز وجل: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14] فقول الله عز وجل أصدق القول)، قيل له: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والاحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال: (لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحدا ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى الله عز وجل) قيل: أليس الله عز وجل يقول: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: 160]، وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن؟ قال: (أليس قد قال الله عز وجل: ﴿يُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245] فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز وجل لهم حسناتهم، لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا فضل المؤمن ويزيد الله في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة، ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير)، قيل: أرأيت من دخل في الإسلام أليس هو داخلا في الإيمان؟ فقال: (لا ولكنه قد أضيف إلى الإيمان وخرج به من الكفر، وسأضرب لك مثلا
القرآن.. والهداية الشاملة (1/135)
تعقل به فضل الإيمان على الإسلام، أرأيت لو أبصرت رجلا في المسجد أكنت تشهد أنك رأيته في الكعبة؟) قيل: لا يجوز لي ذلك، قال: (فلو أبصرت رجلا في الكعبة أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد الحرام)، قيل: نعم قال: وكيف ذلك؟ قيل: لايصل إلى دخول الكعبة حتى يدخل المسجد، قال: (أصبت وأحسنت، كذلك الإيمان والإسلام) (1)
قال آخر: ولهذا؛ فإن الإيمان الحقيقي هو الذي يُكتب في القلب، وليس ذلك الذي يكتفي باللسان، فقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين، فقال عن المنافقين: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: 11].. أما المؤمنون، فالإيمان ملء قلوبهم، يعمرها باليقين والسكينة، والرضا، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22].. أي مكنه من قلوبهم، وثبته فيها كما يثبت الشيء بالكتابة.. وأصله من الكتب، وهو ضم الشيء إلى الشيء، ووصله به) (2)
قال آخر (3): ولهذا قال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193 ـ 194] أي أنه ثبت ما نزل به الوحي في قلبه، ومكن له فيه ـ فكان قلبه صلى الله عليه وآله وسلم مستودع كلمات الله، تجد فيه مستقرها ومستودعها، حيث تعطى أكثر ما فيها من ثمر مبارك طيب، وحيث تنزل الكلمة الطيبة، في هذا القلب الطيب المصفى من كل دخل، فتكون كما وصفها الله في قوله تعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 24 ـ 25] ومن هنا تتحول كلمات الله في قلب الرسول إلى معان شريفة كريمة، وإلى سلوك شريف كريم.. فكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأدب الربانى، كما يقول عن نفسه: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
__________
(1) الكافى: ج 2 ص 26.
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 170)
(3) التفسير القرآني للقرآن (10/ 170)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/136)
قال آخر (1): ولهذا؛ فإن الأعراب الذين دخلوا في الإسلام على غير علم أو نظر، لم يكن لهذا الدين أثر في نفوسهم، ولا لشريعته حساب في ضمائرهم.. ولذلك وصفوا بأنهم مسلمون، وليسوا مؤمنين.. ولذلك يذكر الله تعالى أن هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق في سبيل الله، بحكم أنهم مسلمون، تجب عليهم الزكاة، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله ـ إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم، لا عن طواعية واختيار، ولهذا يعدون ما ينفقون في هذا الوجه مغرما، لأنهم أنفقوه في غير ما يشتهون، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 98]
قال آخر: وفي مقابلهم الأعراب المؤمنون الذين صدقوا في إيمانهم، والذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 99]، أي أن (أهل البادية كغيرهم، منهم المنافق الذي يظهر خلاف ما يضمر، ويرى ما ينفق مغرما، لا واجبا، كما أشارت الآية السابقة، ومنهم المؤمن المخلص الذي ينفق لوجه الله وثوابه، ورغبة في دعاء الرسول له بالبركة والاستغفار، كما أشارت هذه الآية) (2)
قال آخر: ولهذا نجد القرآن الكريم يحصر المؤمنين في أوصاف مضبوطة محددة، لا يتصف بالإيمان إلا من تحقق بها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 877)
(2) التفسير الكاشف (4/ 93)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/137)
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]، فهذه الآية الكريمة تذكر أن المؤمنين (هم الذين آمنوا بالله ورسوله فنزل هذا الإيمان في قلوبهم منزلة اليقين، لا يزحزحهم عنه أي عارض من عوارض الحياة، ولا يغيّر وجهه في قلوبهم ما يلقاهم على طريق الحياة من بأساء وضرّاء، ثقة منهم بالله، وركونا إليه، ورضاء بقضائه، وصبرا لحكمه.. وهذا هو الإيمان في صميمه.. أمّا الإيمان الذي يهتزّ كيانه في قلب الإنسان لأى عارض، ويتضاءل شخصه عند أي بلاء، فهو إيمان غير خالص، بل هو مشوب بآفات كثيرة من الشك، وسوء الفهم، فإذا وضع على محك التجربة والامتحان، ظهر ما فيه من ضعف، فلم يحتمل صدمة التجربة، ولم يصمد أمام تيار الامتحان) (1)
قال آخر (2): وفي قوله تعالى في الآية الكريمة ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 15] ذكر لمجال الامتحان لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله ورسوله، ووقع منه هذا الإيمان موقع القبول واليقين، لم ينكل عن دعوة الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، بل يقدم ماله ونفسه قربانا لله، في رضا وغبطة.. وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن الجهاد بالمال والنفس لمواجهة الظلمة والمتجبرين، هو الميدان الذي يمتحن به إيمان المؤمنين، والذي به تظهر حقيقة ما في قلوبهم من إيمان.. فالمؤمن، قد يصلى، ويصوم، ويحج، ويزكى، ولكنه حين يُمتحن في ماله أو نفسه بالجهاد في سبيل الله، يضن بماله، ويحرص على سلامة نفسه، وعندئذ يعلم حقيقة إيمانه، وأنه لم يستوف حقيقة الإيمان بعد.. والله تعالى يقول: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ﴿ويقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 457)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 458)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/138)
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2 ـ 3]
قال آخر (1): وفي قوله تعالى في الآية الكريمة ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8] إشارة إلى الوصف الذي يستحقه الذين آمنوا بالله ورسوله ولم يرتابوا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهو أنهم مؤمنون حقا.. قد صدق فعلهم قولهم.
قال آخر: وما ذكرناه عن الإيمان وفضله مقارنة بالإسلام، لا يهون من شأنه، بل إنه يرد في محال من القرآن الكريم مرادفا للإيمان نفسه، كما قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: 35، 36]
قال آخر: وهذا ما جعل العلماء يطلقون تلك القاعدة المعروفة (الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا)، أي أنهما إذا اجتمعا في نص واحد من كتاب أو سنة فإن لكل واحد منهما معنىّ يختص به؛ فالإسلام يختص بالأعمال الظاهرة، كالصلاة.. والإيمان بالأعمال الباطنة من الاعتقادات كالتوكل والخوف والمحبة والرغبة والرهبة..
قال آخر: وقد قال بعض العلماء في ذلك: (قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقَّق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح بالأعمال.. وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً، مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً، وليس بمؤمن الإيمان التام) (2)
قال آخر (3): وسر ذلك أن الإيمان هو عبارة عن التّصديق، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 458)
(2) جامع العلوم والحكم، (28)
(3) إحياء علوم الدين (1/ 116)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/139)
بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: 17] أي بمصدق، والإسلام عبارة عن التسليم، والاستسلام بالإذعان والانقياد وترك التمرد والإباء والعناد، وللتصديق محل خاص وهو القلب، واللسان ترجمان.. وأما التسليم؛ فإنه عام في القلب واللسان والجوارح، فإن كل تصديق بالقلب هو تسليم وترك الإباء والجحود وكذلك الاعتراف باللسان، وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح.. ولهذا؛ فإنه فبموجب اللغة الإسلام أعم، والإيمان أخص، فكان الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام، لأن كل تصديق تسليم، وليس كل تسليم تصديقا.
قال آخر (1): ولهذا، فإن القرآن الكريم ورد باستعمالهما على سبيل الترادف، كما ورد باستعمالهما على سبيل الاختلاف والتداخل.. والإيمان في هذا المحل يدل على أنه عمل من الأعمال، وهو أفضلها، والإسلام هو تسليم إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالجوارح، وأفضلها الذي بالقلب، وهو التصديق الذي يسمى إيمانا، والاستعمال لهما على سبيل الاختلاف، وعلى سبيل التداخل وعلى سبيل الترادف، كله غير خارج عن طريق الاستعمال في اللغة.
قال آخر: ومن الآيات الكريمة التي يذكر الله تعالى فيها فضل الإسلام قوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: 22]، وقوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 125]
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 116)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/140)
قال آخر (1): وكل ذلك يدل على أن الناس ليسوا على وتيرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأمور، فالبعض يتمكن من إدارك الحقيقة بمجرد إشارة واحدة أو جملة قصيرة، وهذا يعني أن تذكيرا واحدا يكفي لإيقاظهم فورا، وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم، في حين أن البعض الآخر لا يتأثر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلة وأقوى العبارات، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهين.
قال آخر (2): ولهذا ورد ما يدل على السبل التي يتحقق بها انشراح الصدر، ومنها الدراسة الدائمة والمستمرة والاتصال بالعلماء والحكماء الصالحين، وبناء الذات وتهذيب النفس، واجتناب الذنوب وخاصة أكل الطعام الحرام، وذكر الله دائما، كلها أسباب وعوامل لإنشراح الصدر، وعلى العكس فإن الجهل والذنب والعناد والجدل والرياء، ومجالسة أصحاب السوء والفجار والمجرمين وعبيد الدنيا والشهوات، كلها تؤدي إلى ضيق الصدر وقساوة القلب، وقد ورد حديث عن الإمام الصادق أنه قال: (أوحى الله عز وجل إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب) (3)
قال آخر: وفي الحديث عن الإمام علي أنه قال: (ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب) (4)
قال آخر: وقال: (ذكر الله جلاء الصدور، وطمأنينة القلوب) (5)، وقال: (الذكر يشرح الصدر) (6)، وقال: (إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 60)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 61)
(3) بحار الانوار، 70/ 55.
(4) بحار الأنوار، 70/ 55.
(5) غرر الحكم: ح 5165.
(6) غرر الحكم: ح 835.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/141)
الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة) (1)
قال آخر: وقبل ذلك كله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل النور القلب انفتح القلب واستوسع) قيل: فما علامة ذلك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله) (2)
لست أدري كيف ضغطت من حيث لا أشعر على زر آخر من أزرار تلك الأريكة لأجد نفسي في حلقة أخرى..
وقد سمعت أحدهم يقول فيها: هل تعلمون أني لم أفهم قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [الذاريات: 37] إلا بعد أن أصابني بعض الأدواء، فحذرني طبيب قريب لي من بعض الأكل الذي يزيد في تفاقم المرض.. ومنذ ذلك الحين، وأنا أتجنبه مخافة أن يحصل لي ما ذكره.
قال آخر: صدقت.. فالآية الكريمة تعتبر الهداية قاصرة على الذين لهم هذا الشعور الذي يجعلهم يحذرون، لا الغافلون البلداء الذين لا يهتمون بشيء حتى تحل عليهم عواقبه.
قال آخر: صدقتما.. ولهذا نرى القرآن الكريم يعتبر (الإحساس بالمسؤولية والخوف من الله إحدى أرضيات المعرفة التي تعد روح الإنسان وتهيئها لتقبل علوم ومعارف مختلفة) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 122.
(2) بحار الأنوار: 74/ 73، من وصية أبي ذر.
(3) نفحات القرآن، ج 1، ص: 365.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/142)
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ [هود: 102 ـ 103]
قال آخر (1): فهذه الآية الكريمة تلت الآيات الكريمة التي تحدثت عن ماضي بعض الأمم السابقة مثل قوم لوط وشعيب والفراعنة.. والتعبير بـ ﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ [هود: 103] إشارة إلى الأرضية المعدة للمعرفة عند أولئك الذين يخافون من عذاب الآخرة.. أما أولئك الذين لا يخافون عذاب الآخرة فلا يدركون علاقة هذه الذنوب بأنواع العذاب الإلهي، إنهم يعدون العذاب أمرا قهريا وجبريا، أو يرجعون أسبابه إلى حركة الأفلاك والنجوم وأوهام وخرافات أخرى، ولا يدركون الأسباب الحقيقية له.
قال آخر: أجل.. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سبأ: 9]
قال آخر (2): ففي الآية الكريمة تهديد للمشركين، الذين كانوا يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولمن هم مثلهم من الذين يكذبون بآيات الله، ولا يرجون لقاءه.. فهؤلاء وقد توعدهم الله بالعذاب الأليم في الآخرة، إن كانوا قد شكوا في هذا الوعيد، أو استبعدوا يومه، فلينظروا فيما حولهم، وفيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض.. من يمسك السماء أن تسقط عليهم؟ ومن يحفظ الأرض أن تخسف بهم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ ذلك ما لا سبيل إلى إنكاره.. وإذا كان ذلك كذلك وقد عصوا الله، وحادوا رسوله، أفلا يمكن أن يعاجلهم الله بالعقاب في الدنيا؟.. أهناك من يعصمهم من بأس الله إذا جاءهم؟.. أهناك من يردّ مشيئة الله لو شاء سبحانه أن يخسف بهم الأرض، أو يسقط عليهم حجارة
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 365.
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 782)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/143)
من السماء؟
قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سبأ: 9] إشارة إلى أن تلك المعاني التي ذكرتها الآية الكريمة لا يلتفت إليها، ولا ينتفع به إلا من كان ذا عقل متفتح، وبصيرة نافذة، وقلب سليم، إذا رأى الحق عرفه، وإذا عرفه آمن به، وعمل على هداه، فإن كان كافرا آمن بالله، وإن كان عاصيا تاب إلى الله ورجع إليه من قريب، أما من أنام عقله، وأغلق قلبه، فإنه يظل مجمدا على حال واحدة، لا يتحول عنها، ولا يرجع عن الطريق الذي ركبه، وإن كان فيه مهلكة.
قال آخر: ولذلك وصف الله تعالى العلماء بالخشية، وهو دليل على أن كمال علمهم ومعرفتهم هي التي جعلتهم كذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]
قال آخر: وقد قال الإمام السجاد في معناها: (ما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، وحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]) (2)
قال آخر: وقال بعض الحكماء في بيان سر التعبير بالخشية بدل الخوف: (الخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى، فهي خوف مقرون بمعرفة.. فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون؛ فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والوجل للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية.. فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 782)
(2) بحار الأنوار: 67/ 344، والكافي 8/ 16.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/144)
بالعلم، ومثلهما كمثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق فالأول يلتجى ء إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجى ء إلى معرفته بالأدوية والأدواء. وكل واحد إذا خفته هربت منه، إلا الله، فإنك إذا خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إلى ربه) (1)
قال آخر: ولهذا ورد في الأحاديث الشريفة ما يدل على علاقة الخشية والخوف بالهداية، وفي مراتبها المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأس الحكمة مخافة الله عزّ وجلّ) (2)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيّها الناس، إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه؛ فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات؛ فو الّذي نفس محمّد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلّا الجنّة أو النّار) (3)
قال آخر: وقال يوصي بعض أصحابه: (أوصيك بالصدق، ولا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والثانية: الورع ولا تجترئ على خيانة أبدا.. والثالثة: الخوف من الله عزّ ذكره كأنّك تراه) (4)
قال آخر: وقال يوصي بعض أصحابه: (عليك بخشية الله وأداء الفرائض، فإنّه يقول: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدثر: 56]، ويقول: ﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
__________
(1) انظر بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي (2/ 544 ـ 546)، ودليل الفالحين لابن علان (2/ 367)
(2) من لا يحضره الفقيه 4/ 272.
(3) أصول الكافي 2/ 70.
(4) روضة الكافي 1/ 112.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/145)
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]، واخش الله تعالى بالغيب كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، يقول الله تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ [ق: 33، 34]) (1)
قال آخر: وهكذا نجد أئمة الهدى يؤكدون هذه المعاني، فعن الإمام علي أنه قال: (إن المؤمن لا يصبح إلا خائفا وإن كان محسنا، ولا يمسي إلا خائفا وإن كان محسنا، لأنه بين أمرين: بين وقت قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد اقترب لا يدري ما يصيبه من الهلكات.. ألا وقولوا خيرا تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، صلوا أرحامكم وإن قطعوكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وأوفوا بعهد من عاهدتم، وإذا حكمتم فاعدلوا) (2)
قال آخر: وقال في أحاديثه القصار: (من خاف القصاص كف عن ظلم الناس) (3)، وقال: (الوجل شعار المؤمنين) (4)، وقال: (الخشية من عذاب الله شيمة المتقين) (5)
قال آخر: وقال الإمام السجاد: (إن أحبكم إلى الله عز وجل أحسنكم عملا، وإن أعظمكم عند الله عملا أعظمكم فيما عند الله رغبة، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقا، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله) (6)
قال آخر: وقال: (اعلموا عباد الله! أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد، وامتنع عن الرقاد، وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا، فكيف
__________
(1) مكارم الأخلاق/451.
(2) أمالي الطوسي 1/ 211.
(3) أصول الكافي 2/ 332.
(4) غرر الحكم، 190.
(5) غرر الحكم، 190.
(6) روضة الكافي 1/ 98.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/146)
ويحك يا ابن آدم من خوف بيات سلطان رب العزة وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا بالليل والنهار، فذلك البيات الذي ليس منه منجى ولا دونه ملتجئا ولا منه مهرب، فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوى، فإن الله يقول: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: 14]) (1)
قال آخر: ولهذا كله وصف الله تعالى بها أولو الألباب، فقال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 19 ـ 22]
قال آخر: بل إن الله تعالى أخبر أن الخوف والخشية من الوسائل التي تدعو إلى التزكية والترقية، وتحفظ النفس من كل حركة سلبية قد تقع فيها بسبب الأوهام التي تعرض لها، والتي قد تملؤها بالغرور الذي وقع فيه الشيطان.. ومن ذلك قوله تعالى في وصف المتقين، ودور الخشية في تقواهم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 48، 49]
قال آخر: ومنه ربطه بين الخشية وكل الصفات النبيلة، وأولهما الاستعداد للتزكية والترقية، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [فاطر: 18]
قال آخر: وقال عند وصفه لتأثير القرآن الكريم في النفوس: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
__________
(1) تحف العقول/272.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/147)
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]
قال آخر: وأخبر أن التذكر لا ينتفع به إلا من في قلبه الخشية: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى: 9، 10]، وقال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45]، وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]
قال آخر: وقال عند عده لأوصاف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ [الرعد: 21]
قال آخر: وقال عند ذكره لصفات المبلغين عنه، والدعاة إليه: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]
قال آخر: وقال عند عده لصفات عمار المساجد: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]
قال آخر: وقد جمع الله تعالى بين الخشية والشفقة، وبين آثارهما التربوية، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون: 57 ـ 59]
بعد سماعي لتلك الأحاديث الجميلة، ولهفتي لرؤية المزيد من المشاهد في تلك المدينة نزلت من الأريكة.. ورحت أتجول على قدمي في تلك الروضة الشريفة المباركة.. فرأيت شيخا يلتف به بعض الشباب، فرحت أجلس معهم، لأسجل ما يقولون..
قال الشيخ: هل تعلمون ـ أبنائي وأحفادي ـ الأسرار المرتبطة بمعارج الهداية في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/148)
اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: 31]، وقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [سبأ: 15 ـ 19]، وقوله: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [الشورى: 31 ـ 33].. فلم خص الله تعالى فهم هذه الآيات والاستفادة منها بكل صبار شكور؟
قال أحد الأبناء، وربما يكون أكبرهم (1): كلمات ﴿صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ الواردة في الآيات الكريمة صيغة مبالغة، الأولى تعني كثير الصبر، والثانية تعني كثير الشكر، وذلك لأجل أن دراسة دقائق هذه الحوادث وجذورها من جهة، ونتائجها من جهة أخرى يحتاج إلى صبر وتأن.. إضافة إلى هذا، فإنه لا يستفيد من هذه الحوادث إلا أولئك الذين يقّدرون نعم الله ويشكرونه عليها، وعلى هذا، فالصبر والشكر أرضيتان ملائمتان للمعرفة والعلم، وهما بذلك معراجان ضروريان للهداية.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، يحتمل أن يكون تقارن الصبر مع الشكر لأجل أن
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 358.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 358.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/149)
هؤلاء مجهزون بالصبر عند المصائب، وبالشكر عند النعم، وعلى هذا فلا يركعون أمام المصائب، ولا يغترون عند نزول النعم، فلا يُضلون أنفسهم على أية حال، فهم مؤهلون لتقبل المعرفة، وأخذ العبر والدروس من هذه الحوادث العظيمة.
قال آخر: وقد أشار إلى هذه المعاني بعض العلماء بقوله: (المعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا، لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول، كان المؤمن صبارا، وإن كان الثاني كان شكورا.. وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولا بالشكر، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان مشغولا بالصبر) (1)
قال آخر (2): ثم أجاب على ما قد يستشكل من تعارض كون التذكيرات آيات للكل مع اختصاصها بالصبار الشكور، فذكر أن ذلك يعود لأنهم هم المنتفعون الحقيقيون بتلك الآيات؛ فصارت كأنها ليست آيات إلا لهم كما في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45].. أو أن الانتفاع بهذا النوع من التذكير لا يمكن حصوله إلا لمن كان صابرا أو شاكرا، أما الذي لا يكون كذلك لم ينتفع بهذه الآيات.
قال آخر: ولهذا ورد في الأحاديث الشريفة الجمع بينهما، ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أربع من كن فيه كان في نور الله الأعظم، من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيرا قال: الحمد لله، ومن إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر الله وأتوب إليه) (3)
قال آخر: وقال الإمام الصادق: (ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور
__________
(1) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (19/ 65)
(2) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (19/ 65)
(3) ثواب الأعمال/198.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/150)
عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده) (1)
قال آخر: وقال: (لن تكونوا مؤمنين حتى تكونوا مؤتمنين وحتى تعدوا نعمة الرخاء مصيبة، وذلك أن الصبر على البلاء أفضل من العافية عند الرخاء) (2)
قال آخر: وقال: (العبد بين ثلاث: بلاء وقضاء ونعمة، فعليه للبلاء من الله الصبر فريضة، وعليه للقضاء من الله التسليم فريضة، وعليه للنعمة من الله الشكر فريضة) (3)
قال آخر: وقيل له: من أكرم الخلق على الله؟ قال: (من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر) (4)
قال الشيخ: أحسنتم.. فما تقولون في المورد الأول الذي ورد فيه ذلك المنبع من منابع الهداية، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5]
قال أحد الأبناء (5): لما ذكر الله تعالى قبل هذه الآية أنه قضى ألا يرسل رسولا إلا بلسان قومه.. ذكر نموذجا تطبيقيا لذلك، وهو موسى عليه السلام، إذ بعثه الله تعالى رسولا إلى قومه، ليخلصهم من فرعون أولا، ثم يخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى والإيمان ثانيا.. ثم أمره أن يذكرهم بأيام الله تعالى، وأيام الله هنا هي تلك الأيام التي كانت لله سبحانه وتعالى، فيها نعم ظاهرة عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وخلصهم من البلاء
__________
(1) الخصال 2/ 406.
(2) صفات الشيعة/34.
(3) المحاسن/6.
(4) التمحيص/68.
(5) التفسير القرآني للقرآن (7/ 151)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/151)
الذي يلقونه تحت يد فرعون.. ففي هذه النعم آيات ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5] إذ لا يرى في تلك الآيات، آثار رحمة الله، وعظيم نعمته، إلا من كان قد وطّن نفسه على احتمال الضر، والصبر على المكروه، احتسابا لله، ورجاء في العافية، واستشوافا للرحمة والإحسان من فضله، فإذا أذن الله بالفرج، وهبّت أرواح الرحمة والعافية، اتجهت القلوب المؤمنة بالله، إلى الله بالحمد والشكر، كما اتجهت إليه من قبل بالدعاء والتضرّع.
قال الشيخ: أنتم تعلمون أن النور يشير إلى الهدى، والظلمة تشير إلى الضلال.. فما سر جمَع الظلمات دون النور؟
قال أحد الأبناء (1):لأن الهدى من الحق، والحق واحد لا تغاير بين أجزائه ومصاديقه، ولا كثرة بخلاف الضلال، فإنه من اتباع الهوى، والأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض، لا وحدة بينها ولا اتحاد لأبعاضها ومصاديقها، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]
قال الشيخ: فما تعني اللام في قوله تعالى: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ [إبراهيم: 1]، وهل هي لام الغرض أو لام العاقبة؟
قال أحد الأبناء (2): هي لام الغرض، بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الآية، وليس بلام العاقبة، إذ لو كان كذلك لكان الناس كلهم مؤمنين، والمعلوم خلافه.
قال آخر (3): ذلك أن الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم ويهديهم إلى الإيمان والعمل الصالح ليسعدهم بذلك ويدخلهم الجنة، ويرسل الرسل وينزل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ويريد بما يوجهه إليهم من الأمر والنهي أن يطهرهم
__________
(1) تفسير الميزان (12/ 3)
(2) تفسير الميزان (12/ 3)
(3) تفسير الميزان (12/ 3)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/152)
ويذهب عنهم رجز الشيطان.
قال آخر: والآيات الدالة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [إبراهيم: 4]، وغيرها كثير.
قال آخر (1): فلله سبحانه في خلقه وأمره أغراض، وإن كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما نستكمل نحن بأغراض أفعالنا، لكنه سبحانه لا يتأثر عن أغراضه.. وبعبارة أخرى الحكم والمصالح لا تؤثر فيه تعالى كما أن مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو الفعل، ونرجح الفعل على الترك، فإنه سبحانه هو القاهر غير المقهور والغالب غير المغلوب، يملك كل شيء ولا يملكه شيء، ويحكم على كل شيء ولا يحكم عليه شيء، ولم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل، فلا يكون تعالى محكوما بعقل، بل هو الذي يهدي العقل إلى ما يعقله، ولا تضطره مصلحة إلى فعل ولا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما إلى ما توجبانه.
قال الشيخ: أحسنتم.. فما تقولون في المورد الثاني الذي ورد فيه ذلك المنبع من منابع الهداية، وهو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: 31]
قال أحد الأبناء (2): أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهي تسير في البحر حاملة للأقوات والمتاع، من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو في حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس في أيديهم.. وفي هذا دليل على عجيب قدرته التي ترشدكم إلى أنه
__________
(1) تفسير الميزان (12/ 3)
(2) تفسير المراغي (21/ 97)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/153)
الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.
قال آخر (1): ثم ذكر من يستفيد من النظر في الآيات، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: 31] أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار في الضراء، شكور في الرخاء.. ولهذا عقب الآية الكريمة بكون المشركين ينسون الله في السراء ويلجئون إليه حين الضراء، فقال: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان: 32] أي إذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان ـ الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن ـ فزعوا بالدعاء إلى الله مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره، ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ [لقمان: 32] أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها، وخلصوا إلى البر، فمنهم متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موفّ بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة، وكفر بأنعم الله عليه.
قال الشيخ: أحسنتم.. فما تقولون في المورد الثالث الذي ورد فيه ذلك المنبع من منابع الهداية، وهو ما ورد في قصة سبأ من قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [سبأ: 19]
قال أحد الأبناء: لقد سئل عنها الإمام الصادق، فقال: (هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية وأموال ظاهرة فكفروا نعم الله عز وجل وغيروا ما بأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم من نعمة ﴿إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
__________
(1) تفسير المراغي (21/ 97)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/154)
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]؛ فأرسل الله عليهم سيل العرم فغرّق قراهم وخرّب ديارهم وأذهب أموالهم، وأبدلهم مكان جنّاتهم ﴿جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: 16]، ثمّ قال: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ: 17]) (1)
قال آخر (2): فتلك الآيات الكريمة تذكر أن قوم سبأ كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنّي رغد في بلاد مرضية وأماكن آمنة وقرى متواصلة، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، فهو يقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم، ثم ذكر أنهم بطروا وملوا تلك النعم وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنوا إسرائيل فطلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار، ليظهر القادرون منهم الأزواد والرواحل تكبرا وفخرا على العاجزين كما حكى سبحانه عنهم بقوله: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ [سبأ: 19] أي فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز، لنركب فيها الرواحل، ونتزود معنا فيها الأزواد، فأجاب الله طلبهم وعاقبهم على بطرهم بالنعمة كما قال: ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [سبأ: 19] إذ قد عرضوها للسخط والعذاب، بغمط النعمة وعدم الوفاء بشكرها.
قال آخر (3): ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: 19] أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها ويعتبرون بأمرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهني وصاروا مضرب الأمثال فقيل للقوم يتفرقون: (تفرقوا أيدى سبأ)
قال آخر (4): ثم ختم قصتهم بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾
__________
(1) أصول الكافي ج 2 ص 274.
(2) تفسير المراغي (22/ 73)
(3) تفسير المراغي (22/ 74)
(4) تفسير المراغي (22/ 74)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/155)
[الشورى: 33] أي إن في ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، بعد النعمة والعافية، عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام لعبرة لكل عبد صبار على المصايب، شكور على النعم.
قال الشيخ: أحسنتم.. فما تقولون في المورد الرابع الذي ورد فيه ذلك المنبع من منابع الهداية، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [الشورى:
قال أحد الأبناء (1): أي من الآيات الدالة على قدرة الله، وعلى بسطة سلطانه، وعلى فضله وإحسانه على عباده، هذه ﴿الْجَوارِ﴾ أي السفن الجارية على الماء، كالجبال في ضخامتها، وارتفاعها فوق سطح الماء.. فهي المعالم الوحيدة القائمة فوق وجه الماء، كما تقوم الجبال على اليابسة.. فهذه الجواري، إنما تجري بقدرة الله سبحانه وتعالى، بهذه الرياح المسخرة، التي تجريها وتدفعها فوق الماء.. ولو شاء الله سبحانه لأمسك هذه الريح، فسكنت وسكن مع سكونها جريان هذه الفلك، فتظل رواكد على سطح الماء.. لا تتحرك.
قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [الشورى: 33].. أي إن في هذه السفن الجارية على الماء لآيات، لا آية واحدة، لكل صبار، أي كثير الصبر، يجد من صبره ما يعينه على الوقوف الطويل، الدارس، المتوسم، في آيات الله، فيرى في كل معلم من معالم هذا الوجود آيات من قدرة الله، وشواهد من إبداعه، وحكمته، وتدبيره.. وهذا هو بعض السرّ في جمع الآيات، إذ لا يمكن أن يرى في هذه الفلك وجريها على الماء، تلك الآيات منها، إلا الدارس، المتأمل، الذي يعينه صبره على الوقوف الطويل، والنظر
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 59)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 60)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/156)
المتفحص.. أما من ينظر نظرا عابرا في معالم هذا الوجود، فإنه لا يرى إلا صورا وأشباحا.. إنه نظر جامد، أشبه بالمرءاة تظهر عليها صور الأشياء، ثم لا تمسك منها بشئ.. والله سبحانه وتعالى يقول في أصحاب هذا النظر البارد الفاتر، الساهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: 105]
قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿شَكُورٍ﴾ إشارة أخرى إلى أنّ هذه الآيات التي يراها المتأملون الدارسون، لا تكون آيات وشواهد إلا إذا صادفت قلبا مؤمنا، يردّ هذه الآيات التي تكشفت له، إلى قدرة الله، وتدبيره، وحكمته، فيفيض قلبه تسبيحا بحمد الله وشكرا له.. أما من يرى هذه الآيات بعين لا تكتحل بنور الإيمان، فإن هذه الآيات لا تحيا في وجدانه، ولا تعيش في مشاعره، فلا ينفعل بها، ولا يهتز لروعتها وجلالها، الذي يرى فيه المؤمنون بعض جلال الله، وروعة حكمته.
بعد سماعي لتلك الأحاديث الجميلة، لاحت لي من بعيد مكتبة جميلة.. فرحت أسرع إليها لأرى أشكال الكتب في تلك المدينة المستقبلية؛ فوجدت أشكالا كثيرة للكتب، بعضها ينطق، وبعضها يُرى، وبعضها بالأبعاد الثلاثة، وبعضها يتحدث به المؤلف نفسه لقرائه.. وغيرها من الأشكال الكثيرة.. لكني لم أجد أي كتاب ورقي بين تلك الكتب جميعا.. وقد أحزنني ذلك لأني رأيت من قومي من لا يستطيعون المطالعة في غير الكتب الورقية، وأسعدني لأني كنت من المدافعين عن ذلك النوع من الكتب، ومنذ بداية نشأته في عصرنا.
لست أدري، كيف خاطبني صاحب المكتبة بقوله ـ وكأنه قرأ ما في خاطري ـ: ما
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 60)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/157)
تبحث عنه ليس موجودا عندي.. ولا عند أي أحد من الناس.. لأن ذلك كان في عصور سابقة.. وكان من أسباب احتكار المعرفة أو عدم تيسر الحصول عليها.. ونحن بحمد الله في عصر يتاح فيه العلم، وبكل الوسائل والأساليب.. ومن غير حاجة لدفع أي مبلغ من المال.
قلت: ولكني أراك تفتح مكتبة تسترزق منها.. فكيف تذكر ذلك؟
قال: أجل.. أنا أسترزق منها.. ولكن ليس من القراء، وإنما من الهيئات المشجعة على القراءة.. وهي كثيرة جدا.. وبقدر ما تُقرأ الكتب في هذه المكتبة، بقدر ما أجني من أموال.. ولهذا تراني أشجع القراء بإعطائهم بعضها.
قلت: هل تعني أنك تدفع أموالا لمن يقرأ في مكتبتك؟
قال: أجل.. وكل المكتبات يفعلون هذا.. لأن أمتنا المستنيرة بنور الهداية الإلهية، علمت أن العلم مشعل من مشاعل الهداية.. وأن أقرب الناس إلى الهداية أكثرهم علما.. إلا إذا حجب عنها بحجب نفسه الأمارة.
قلت: كيف ذلك؟
قال (1): ألا تعلم أن الثروة تجلب الثروة؟.. أي أن مقدارا من رأس مال يكون أرضية لربح رأس مال أكبر، وكلما ازداد مقداره ازداد مورد الإنسان من رأس ماله.. وهذا الأمر ينطبق على العلوم والمعارف كذلك، فالذين يملكون رأس مال من العلوم تتوفر عندهم الأرضية الخصبة لتقبل علوم ومعارف أخرى، ولهذا صارت المعرفة أرضية للمعرفة، أي لنيل معارف أخرى هي أرفع وأوسع.. وكل ذلك يقرب من الهداية.
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 361.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/158)
قلت: فهل لذلك دليل من القرآن الكريم؟
قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]، وقوله: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: 52]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 97]، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 105]، وقوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 11]، وقوله: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 3]، وقوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]؟ فهذه سبع آيات كريمة تدل على ذلك.. وإن شئت المزيد ذكرت لك المزيد.
قلت: لقد تعودت في المجالس التي أمر عليها ألا أكتفي بسماع الآيات دون ذكر معانيها.. فأنا أكتب لقوم يحتاجون إلى معرفة المعاني والتفاصيل.
قال: أجل.. أعرف ذلك.. أنت تلميذ من تلاميذ القرآن الكريم، واضح ذلك من قلمك وقراطيسك.. فما أكثر أمثالك ممن يمرون علينا.. ومن العصور المختلفة.
قلت: فما الذي تعنيه الآية الأولى.. وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]
قال (1): أي من دلائل وجود الله وآيات قدرته خلقه السموات المزدانة بالكواكب
__________
(1) تفسير المراغي (21/ 38)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/159)
والنجوم، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار.. ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: 22] أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له، فمن عربية إلى فرنسية، إلى إنجليزية، إلى هندية، إلى صينية، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص في الأصوات والألوان، وهذا مما لا غنى عنه في منازع الحياة ومختلف أغراضها، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات، وبذا نعرف الصديق من العدو، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما، كما نميزها بلغاتها، فنعرف من أي الأجناس هى.. ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22] أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق الله، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر.
قلت: فما السر في الجمع بين خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان؟
قال (1): في ذلك إشارة إلى هذه الظاهرة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس، من اختلاف ألسنتهم وألوانهم.. إنها ـ وهي التي لا يكاد يلتفت إليها أحد ـ لا تقل عن خلق السموات والأرض، وما فيهما من أجرام وعوالم، في الدلالة على قدرة الخالق، وجلاله، وعظمته، وعلمه، وحكمته.. فكل إنسان من الناس هو عالم قائم بذاته، في ظاهره، وباطنه، جميعا.. ففي كل إنسان آية متفردة من آيات الخلق، وقدرة الخالق.. فعلى حين يبدو الناس وكأنهم ثمار شجرة واحدة، إذ هم ثمار مختلفة الطعوم، والألوان، والأشكال.. كل ثمرة لها طعمها، ولونها، وريحها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 498)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/160)
قلت: صدقت.. فالعين تأخذ الناس جميعا، وكأنهم كائن واحد؛ فإذا عاد النظر إليهم، فردا فردا، كان كل واحد كائنا قائما بذاته، بماله من سمات وخصائص.
قال (1): أحسنت.. فلكل إنسان نبرات صوته، ومخارج كلماته، وطبقات أنغامه، التي تميزه عن غيره، فلا تختلط نبرة بنبرة، ولا يشتبه مخرج بمخرج، ولا تتماثل طبقة مع طبقة، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هناك تماثلا وتشابها، بين صوت وصوت، ونغم ونغم، فإن الحقيقة غير هذا، حيث توجد فروق دقيقة، وخطوط هندسية غاية في الدقة، تفصل بين صوت وصوت، وتحجز بين نغم، ونغم.. وكذلك الشأن في الألوان والأشكال، والصور.. إن يد القدرة القادرة المحكمة، قد أقامت كلا منها في موضعه، وجعلت بينها حاجزا، فلا يبغي بعضها على بعض.. تماما كما حجزت بين البحرين: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [فاطر: 12] هذا، في ظاهر الإنسان.. أما ما في باطنه، فالأمر أعجب وأغرب.. فمنازع التفكير، ومناحي العواطف، ومسارب المشاعر، وخلجات الضمائر، ووسوسات الأهواء.. وغيرها.. أمواج متدافعة على صدر محيط لا حدود له.. ومع هذا لا تختلط موجة بموجة، ولا يضيع تيار في عباب تيار.. وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22] إشارة إلى أن عين العلم هنا، هي التي تكشف هذه الأسرار، وتطّلع على هذه الآيات.
قلت: وعيت هذا.. فما الذي تعنيه الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: 52]
قال (2): ﴿خاوِيَةً﴾ أي ساقطة متهدّمة، لا أثر لحياة فيها.. وفي ذلك لفت للأنظار،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 499)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 256)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/161)
إلى هذه الديار الخاوية، حيث ينظر المشركون إلى حيث متجه الإشارة، فلا يرون إلا أطلالا، يرى فيها أولو العلم وأهل النظر، آية من آيات الله، فيما يحل بالظالمين من بأسه، وما يرميهم به من عذابه.
قلت: لقد ذكرتني بقول لبعض السلف يقول فيه: استفدت من القرآن أن الظلم يخرب البيوت ويهدمها، ثم استدل بالآية الكريمة ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ [النمل: 52]
قال (1): أجل.. فإن تأثير الظلم في تخريب البيوت والمدن والمجتمعات لا يقاس بأي شيء، فالظلم يأتي بالصاعقة المهلكة، والظلم يزلزل ويدمر.. والظلم له أثر كأثر الصيحة ـ في السماء ـ المهلكة المميتة، وقد أكد التأريخ مرارا هذه الحقيقة وأثبتها، وهي أن الدنيا قد تدوم مع الكفر، إلا أنها لا تدوم مع الظلم أبدا.
قلت: وعيت هذا.. فما الذي تعنيه الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 97]
قال (2): هي تعني أنه من مبدعات القدرة الإلهية، هذه النجوم التي هي زينة للناظرين في هذا السقف المرفوع، وهي علامات للسائرين ليلا في البر أو البحر.. وفي إضافة الظلمات إلى البر والبحر إشارة إلى أن الظلام هو الذي يلبسهما ويستولى عليهما، فكأن السائر في الليل، يقطع قطعا من الظلام، سواء أكان في البر أو البحر.. والمراد بالظلمات هنا، ليس هو الظلام الذي يلبس الوجود في الليل، وإنما هي هذا التيه الذي يستولى على راكب البحر، أو راكب الصحراء أو نحوها، في الليل، حيث لا يعرف الإنسان أين يتجه، وهو في هذا الكون الفسيح الذي لا معلم فيه.. والنجوم هي المعالم التي تكشف لراكب البحر أو
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (12/ 94)
(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 246)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/162)
الصحراء طريقه، وتشير له إلى متجهه، نحو الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 16]
قلت: فلم ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 97]، بينما ختمت ما بعدها بقوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 98]
قال: ذلك لأن كل فاصلة تتوافق مع الحال الداعية إليها في آيتها.. فعملية الخلق، والتوالد، والتناسل الواردة في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 98] عملية تحتاج إلى دقة نظر، ومزيد علم.
قلت: وعيت هذا.. فما الذي تعنيه الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 105]
قال (1): تصريف الآيات، تنويعها، وتعدد وجوهها، بحيث يرى الناظر فيها مشاهد متعددة الألوان، مختلفة الأشكال.. لجلال الله، وكمال علمه، وسلطان قدرته، بحيث من أخطأه الاهتداء إلى الله من واحدة منها لم يخطئه ذلك في كثير غيرها.. وفي قوله تعالى ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: 105] إشارة إلى معطوف محذوف يدل عليه سياق النظم، وتقديره، (وكذلك نصرف الآيات، ونعدد وجوهها لتلقاهم في كل متجه، ولتأخذ عليهم كل سبيل ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: 105] أي وليقولوا جهلا وسفاهة: (إن هذا العلم الكثير الذي تحمله تلك الآيات إنما هو مما درسه محمد، وتلقاه من علماء أهل الكتاب، وأنه ما كان له وهو الأمي، أن يجئ إليهم بهذا العلم الذي لم يكن لهم هم ولا آباؤهم.. وفي هذا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 255)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/163)
تشنيع على هؤلاء الضالين المشاغبين وتسفيه لعقولهم، إذ لو عقلوا لكان أقرب إلى العقول أن يضيفوا هذا العلم إلى الله، وأن يروا في أمية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذا العلم الغزير الذي حمله إليهم شاهدا على أن هذا القرآن هو من عند الله، لا من تلقيات محمد عن غيره.. وقد كان فيهم كثيرون اتصلوا بأهل الكتاب، ولم يكن لهم شئ من هذا العلم الذي جاءهم به هذا الأمي الذي لم ينقطع للعلم، ولم يجلس إلى أهل العلم..
قلت: فما سر ختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 105]
قال (1): في ذلك تعليل آخر لمجيء آيات الله مفصلة هذا التفصيل، ومبينة هذا التبيين.. وذلك ليكون فيها مزيد بيان ومعرفة وعلم ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي لقوم من شأنهم أن يتعلموا ويعلموا.. والضمير في قوله تعالى: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾ يعود إلى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الآيات كلها، والكتاب الذي احتواها، واشتمل عليها جميعا، وفي تفصيل هذه الآيات، وتعدد وجوهها بيان وتوضيح لقوم يعلمون، وبلاء وفتنة للضالين.
قلت: وعيت هذا.. فما الذي تعنيه الآية الخامسة، وهي قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 11]؟
قال (2): في هذه الآية الكريمة إشارة إلى سماحة الإسلام، وإنسانيته، وأنه ليس لحساب فرد، أو جماعة، أو أمة، وإنما هو حظ متاح للناس جميعا.. وأن هذه الحرب التي تدور بين أتباعه وأعدائه، والتي يحتمل فيها هؤلاء الأتباع ما يحتملون من ابتلاء في أموالهم وأنفسهم.. هذه الحرب ليست لحساب أحد، وإنما هي من أجل هذا الدين، ولحساب هذا الدين ولحمايته من المعتدين الذين يريدون إلغاءه من الوجود.. ومن هنا كان مطلب
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 256)
(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 709)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/164)
المسلمين المجاهدين أولا وقبل كل شئ، هو هداية الناس، وابتغاء الخير لهم.. فإذا اهتدى الضال، وآمن المشرك، ونزع المعتدي عن اعتدائه كان ذلك هو الجزاء الحسن الذي يسعد به المسلم، والغنيمة العظيمة التي يجد فيها العزاء لكل ما أصيب به، في نفسه، أو ماله.. ولهذا، فإن هؤلاء المحاربين للمسلمين، والمعتدين على الإسلام، هم على تلك الصفة، والمسلمون على موقفهم العدائى معهم، ما داموا على حالهم تلك، فإذا هم تحولوا عن موقفهم هذا، ودخلوا في دين الله ـ انقلبوا في الحال أولياء للمؤمنين، وإخوانا لهم، قد ذهب إيمانهم بالله بكل ما كان لهم في نفوس المؤمنين من بغضة وعداوة.
قلت: فكيف تفسر قوله تعالى: ﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 11] في هذا المحل؟
قال (1): في هذه الخاتمة الشريفة للآية الكريمة دعوة للمشركين أن يتدبروا أمرهم فيما بينهم وبين هذا الدين الذي يدعون إليه، وإنهم لو نظروا بقلوب سليمة، وعقول تنشد الحق، وتطلب الهدى، لعلموا أن دعوة الإسلام لا تقوم على عصبية قبلية، أو طائفية، أو من أجل جاه أو سلطان، وأنه لو كان هذا شأنها لما كان دخولهم الإيمان شفيعا يشفع لهم عند المسلمين، ويعفى على ما اقترفوه في حقهم من آثام، ولما قبل منهم المسلمون إلا الاستسلام لهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، شأن الحروب التي تقع بين الناس والناس، من أجل أمور الدنيا المتنازع عليها بينهم أبدا.
قلت: وعيت هذا.. فما الذي تعنيه الآية السادسة، وهي قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 2 ـ 3]
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 710)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/165)
قال (1): أي هذا الذي نزل من الرحمن الرحيم، هو ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 3] وفي قوله تعالى: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت: 2] إشارة إلى أن منزل هذا القرآن هو الله سبحانه وتعالى، تجلى به سبحانه على العباد، رحمة لهم، وإحسانا إليهم.. وفي قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ﴾ إشارة إلى أن هذه الرحمة المنزلة من عند الله كتاب، يقرأ، ويدرس، وتتلقى منه الحكمة والمعرفة، فهو من حظ العقول والقلوب والأرواح، وليس متاعا كالأنعام ونحوها، مما هو من حظ الأبدان، والجوارح، والبطون.. وفي قوله تعالى: ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ [فصلت: 3] إشارة ثالثة، إلى أن هذا الكتاب ليس ذا موضوع واحد، شأن الكتب المعروفة، فهو ليس كتاب فلك، أو حساب، أو قصص، أو تاريخ، أو نحو هذا مما هو موضوع كل كتاب.. وإنما هو كتاب الوجود كله، يحمل بين دفتيه كل علم، وكل فن، حيث هو جامعة العلوم والمعارف كلها، لمن آتاه الله عقلا مبصرا، وبصيرة مشرقة، وقلبا سليما، وروحا صافية.. ففي هذا الكتاب قطوف دانية من كل علم، وثمار شهية طيبة، مختلفة الألوان والطعوم من كل فن.. وفيه يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].. وقوله تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [فصلت: 3] حال من الكتاب، وهي حال واصفة لهذا الكتاب، وهو أنه قرآن عربي، أي يقرأ بلسان عربي.. وفي قوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 3] حث لأصحاب هذه اللغة وكل من تعلمها، أن يأخذوا نصيبهم الأوفى منها، وإنه لا سبيل إلى الإفادة من خيرها الممدود، إلا بالعلم، فمن كان على علم ومعرفة، كان حظه من هذا القرآن أوفى وأعظم.. ومن حرم العلم والمعرفة، فلا نصيب له منه.
قلت: وعيت هذا.. فما الذي تعنيه الآية السابعة، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1280)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/166)
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]
قال (1): هذه الآية الكريمة من أصول الإسلام الداعية إلى التوسطوالاعتدال، والأخذ باليسر والسماحة، والبعد عن التنطع في الدين، وعن الأخذ بمشاق الأعمال المضنية للنفس البشرية، ومراعاة متطلبات الحياة، ودواعي الفطرة السليمة السوية من إيفاء حق الروح والجسد (2).. وفيها ينهى الله سبحانه عباده أن يحرموا شيئا مما أحل الله لهم.. إذ أن ذلك ـ وإن كان منهم مبالغة في تأديب النفس بالحرمان ـ هو اجتراء على الله، وتبديل في شرعه، وخروج على أحكامه.. وللإنسان أن يقتصد في الطيب الحلال، أو أن يؤدب نفسه بالحرمان من بعض الطيبات، ولكن على اعتقاد أن ذلك الذي حرم نفسه منه، هو حلال مباح.. فذلك مما لا بأس به، فهو أشبه شئ بالإمساك عن الطعام والشراب، بالصيام (3).. وفي ختام الآية بقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32] دليل على أن هذه المعاني السامية لا يفقهها إلا العلماء.
ما إن انتهى صاحب المكتبة من حديثه إلى هذا المحل حتى رأيت كثيرا من الناس يدخلون المكتبة، فاستأذنني، وقال لي: سر في هذه المحال أو في غيرها.. فلن ترى إلا من يرشدك إلى الهداية ومعارجها.. ومن القرآن الكريم.. فدولتنا العالمية العادلة المنورة بنور الهداية لم تستقم لنا إلا بنوره وهدايته وفضله.
ما سرت قليلا، حتى رأيت صبية يتحدثون إلى شاب، وكأنه أخوهم..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 10)
(2) التفسير المنير (7/ 16)
(3) التفسير القرآني للقرآن (4/ 11)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/167)
قال الشاب: عندما دعوتكم إلى الاهتمام بصحة حواسكم.. أبصاركم وأسماعكم وأذواقكم.. لم أدعكم إلى الدنيا والركون إليها.. وإنما دعوتكم لحفظ ما وهبكم الله من مدارك، لتهتدوا بها إلى الحقائق، وبأقصر السبل.
قال أحد الصبية: لكن الذي نعرفه هو أن أعظم المدارك هو العقل.. وهو لا يحتاج إلى كل ما نصحتنا به من نصائح.. بالإضافة إلى أن المدارك الحسية التي تثني عليها، هي نفسها التي دل العقل على كثرة أخطائها، وعلى صعوبة الاعتماد عليها.
قال آخر (1): بل دل القرآن الكريم على ذلك ألم تسمع قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [الأنفال: 43 ـ 44].. ففي هاتان الآيتان الكريمتان يذكر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه (سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلا في الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوى آمالهم بالنصر، فيجترئون عليهم.. ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [الأنفال: 43] أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء في أمر القتال، إذ منهم القوىّ الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها في قوله تعالى: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال: 6].. ثم قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ [الأنفال: 43] أي ولكن الله سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء، وما يعقب
__________
(1) تفسير المراغي (10/ 8)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/168)
ذلك من الانكسار والخذلان.. ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: 13] أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث في النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضى إلى ما يريده منها.
قال آخر (1): ومما يؤكد ذلك قوله تعالى بعدها: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: 44] والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، أي وفي الوقت الذي يريكم الله الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا، بما أودع في قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم، ويقللكم في أعينهم لقلتكم بالفعل، ولما كان عندهم من عجب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور، أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد في اليوم.
قال آخر (2): ويؤكد هذا أيضا قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: 13].. أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم: (لا تغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد، فليس هذا سبيل النصر والغلب، فالحوادث التي تجري في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.. انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.. وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها.. ووجه العبرة
__________
(1) تفسير المراغي (10/ 8)
(2) تفسير المراغي (3/ 106)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/169)
في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد نعى الله تعالى على أولئك الذين أرادوا استعمال المدارك الحسية فيما لم تخلق لأجله، كما قال تعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: 55].. وقد ادعى هؤلاء وأمثالهم أن هذا أمر يقتضيه المنهج العلمي، وقد كذبوا في ذلك.. فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم.. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه أعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟
قال الشاب: كل ما ذكرتموه صحيح.. ولن أجادلكم فيه، وكيف أجادلكم والقرآن الكريم أثبته، والعقل دل عليه.. فهو يعترف بأن حواسنا لا تعطينا علما محيطا بما نشاهد، إنما تعطينا جانبا منه.. ومثال ذلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات كبيرة.. ومثل ذلك ما نراه سائلاً.. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت ذلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب.. وهكذا، فإن كثيرا مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد منذ آلاف السنين، ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا، وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/170)
قال أحد الصبية: ما دمت قد ذكرت هذا.. فأنت معنا في موقفنا من الحواس، وعدم اعتبارها من أدوات العلم والهداية.. لأن اعتبارها كذلك مع احتمال الخطأ فيها، يجعلنا نسير في طريق غير آمن.
قال الشاب: أنتم مصيبون في حذركم.. لكن لستم مصيبين في إلغائكم لاعتبارها؛ فمع وجود أطعمة سامة إلا أننا لم نلغ الأكل من حياتنا، وإلا هلكنا.
قال أحد الصبية: صدقت.. ولكن هل في القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك.
قال الشاب: بل فيه ما يدل على ذلك.. وهو كثير جدا.. وسأقتصر لكم على أربع عشرة آية منها.. كلها تدل على أهمية الحواس، وضرورة استعمالها لتحقيق الهداية.
قالوا: فما أولها؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: 6].. فالله تعالى يدعو الإنسان في هذه الآية الكريمة إلى الالتفات إلى السموات والأرض وجمالهما وكيفية بنيانهما والنظام الذي يتحكم بهما وإحكامهما واتقانهما وخلوهما من العيب (1).
قالوا: وعينا هذا.. فما الثانية؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 185].. فالله تعالى يدعو الجاحدين في هذه الآية الكريمة إلى أن ينظروا نظرة تأمل واستدلال في هذا الملكوت العظيم من السموات والأرضين، فيروا ذلك النظام البديع فيهما وفي كل ما خلق
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 99.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/171)
الله، وإن دق وصغر.. إنهم لو تأملوا في كل ذلك لرأوا آثار قدرته وعلمه، وفضله ورحمته وأنه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا، ولا ترك الناس سدى.. إن كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد.. إنهم لو نظروا في شيء من ملكوت السموات والأرض لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك لو نظروا في توقع قرب أجلهم، وقدومهم على ربهم بسوء عملهم، لا حتاطوا لأنفسهم، ورأوا أن من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فما جاءهم به لا ينكرون أنه خير لهم في الدنيا وخير لهم في الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق لا شك فيه.. ثم ختم الآية بقوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50] أي فبأى حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره (1).
قالوا: وعينا هذا.. فما الثالثة؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 ـ 20].. فالله تعالى يدعو الإنسان في هذه الآيات الكريمة إلى النظر إلى الإبل التي لو تدبروا في خلقها لرأوا خلقا بديعا لا يشاكل خلق أكثر الحيوان، فلها من عظم الجثة، وشدة القوة، وعظيم الصبر على الجوع والعطش ما لا يشاركها فيه حيوان آخر، حتى لقبوها: سفينة الصحراء.. ويدعوهم إلى النظر إلى السماء وقد رفعت رفعا سحيق المدى بغير عمد.. وإلى الجبال كيف وضعت وضعا ثابتا لا ميدان فيه ولا اضطراب، فيتسنى ارتقاؤها في كل حين، وتجعل أمارة للسالكين في تلك الفيافي والقفار، وتنزل عليها المياه التي ينتفع بها في سقى النبات وري
__________
(1) تفسير المراغي (9/ 125)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/172)
الحيوان.. وإلى الأرض كيف سطحت ومهدت على ما يقتضيه صلاح أمور ساكنيها وانتفاعهم بما في ظاهرها من المنافع وما في باطنها من المعادن.. وكل ذلك يدل على أنه لو نظر هؤلاء الجاحدون المعاندون فيما تقع عليه أنظارهم من هذه الأشياء وفكروا فيها، لعلموا أنها صنعة لا توجد إلا بموجد عظيم، ولا تحفظ إلا بحافظ قدير، ولأدركوا أن القادر على خلق هذه المخلوقات وسواها وحفظها ووضعها على قواعد الحكمة ـ قادر على أن يرجع الناس في يوم يوفى فيه كل عامل جزاء عمله، وأن ينشئ النشأة الآخرة من غير أن يعرفوا طريق إنشائها، فلا ينبغى أن يكون جهلهم بكيفية يوم القيام سببا في جحده وإنكاره (1).
قالوا: وعينا هذا.. فما الرابعة؟
قال (2): قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم: 50]، وقد وردت هذه الآية الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ [الروم: 48 ـ 49]، وهي تدعو إلى التعرف على رحمة الله من خلال النظر إلى آثارها، فهي تذكر أن الله الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء، تارة سائرا، وأخرى واقفا، وحينا قطعا، فترى المطر يخرج من وسطه، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه.. وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.. ثم تدعو
__________
(1) تفسير المراغي (30/ 136)
(2) تفسير المراغي (21/ 61)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/173)
إلى النظر إلى أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة.. ثم تذكر أنه إذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا، ومن ثم قال: ﴿إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى﴾ [الروم: 50] أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث.. ثم أكد هذا بقوله: ﴿وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم: 50] فلا يعجزه شئ، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه.
قالوا: وعينا هذا.. فما الخامسة؟
قال: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطارق: 5 ـ 8]، ففي الآية الكريمة يشير الله إلى مبدأ خلق الإنسان وأنه يجب أن ينظر من أي شي ءٍ خُلِقَ؟ قد خلق من ماء دافق، ويذكر المشاهدة هنا كوسيلة للمعرفة كذلك (1).. والآية الكريمة تذكر أنه إذ كان مع كل إنسان حافظ، هو عقله، فلينظر بهذا العقل الحافظ، إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، في ذاته هو، وإلى قدرة الله سبحانه في إبداع هذه الذات وتصويرها.. فإنه لو نظر بهذا العقل إلى هذا الذي يوجه إليه من حقائق، لعرف طريق الحق، وسلك مسالك الهدى.. وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 8 ـ 9] يعني أن الله سبحانه الذي خلق هذا الإنسان من هذا الماء الدافق، قادر على أن يرجعه إلى الحياة بعد الموت، ويخلقه خلقا آخر، كما خلقه أول مرة.. فهذا الماء لا يختلف ـ في تقدير الإنسان ـ عن هذا التراب الذي يبعث منه الإنسان بعد موته.. كلاهما شئ بعيد عن صورة الإنسان.. فما أبعد ما بين الإنسان، وبين الماء، أو التراب (2)!
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 99.
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1522)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/174)
قالوا: وعينا هذا.. فما السادسة؟
قال: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 24 ـ 32]، ففي هذه الآيات الكريمة دعوة من الله تعالى للإنسان لينظر في معرض من معارض قدرة الله، بعد أن عرضت عليه ذاته الإنسانية، وما لله سبحانه وتعالى فيها من عجيب الخلق وبديع الصنع، فلم يحدث له ذلك ذكرا، ولم يفتح له طريقا إلى الإيمان بالله.. وفي هذا المعرض، يرى الإنسان دلائل قدرة الله، فيما هو خارج عن ذاته الإنسانية، إذ قد يرى الإنسان ما هو خارج عن ذاته، دون أن يرى هذه الذات ولا ما بداخلها.. فهذا الطعام الذي يأكله الإنسان.. من أين جاء؟ ومن جاء به؟.. فلينظر الإنسان إلى هذا الطعام، ولينظر إلى أنا قد ﴿صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ [عبس: 25]، أي أنزلناه من السماء، ثم ﴿شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ [عبس: 26] بما يخرج منها من نبات، فخرج من هذه التشققات الحبّ، وهو كل ما حصد من برّ، وأرز، وشعير، وذرة، ونحوها.. كما خرج منها العنب، والقضب، وهو ما يؤكل من النبات رطبا، كالبصل، والفجل، ونحوها.. وخرج منها الزيتون، الذي يستخرج منه الزيت، ليكون إداما، والنخل الذي يثمر التمر الذي يتفكّه به بعد الطعام (1).
قالوا: وعينا هذا.. فما السابعة؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: 7]، أي أعمى هؤلاء المشركون عن أن ينظروا إلى هذه الأرض الميتة، كيف ينزل الله سبحانه وتعالى عليها الماء من السماء، فتحيا، وتهتز، وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، وإذا كانت
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1457)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/175)
عقولهم قد عميت عن أن ترى ما في آيات الله وكلماته من هدى ونور، أفعميت أبصارهم عن أن ترى هذه الظاهرة الحية، التي تطلع عليهم في كل أفق من آفاق الأرض؟ فإذا كانوا قد عموا عن هذا الواقع المحسوس، فإنهم أشد عمى من أن يروا شيئا من آيات الله، وكلمات الله.. ثم قال تعالى بعدها: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 8].. أي إن في هذه الظاهرة لآية مبصرة، يرى فيها أصحاب النظر والعقل من الناس، آثار رحمة الله، وقدرته، وحكمته.. ولكن أكثر الناس لا يلتفتون إليها، وإن التفتوا لا يروا شيئا، وإن رأوا شيئا أنكروه، وتأولوه تأويلا فاسدا. وهذا هو شأن هؤلاء العتاة المتكبرين المشركين (1).
قالوا: وعينا هذا.. فما الثامنة؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة: 26 ـ 27].. فالآية الكريمة تبدأ باستفهام إنكاري، ينكر على المشركين أنهم لم يروا فيما بين أيديهم من ديار الأقوام الظالمين قبلهم، وما اشتمل عليها من خراب، وما تحدث به هذه الديار من عبر، وما تنطق به من عظات.. وأنهم لو عقلوا لعلموا أنهم مأخوذون بما أخذ به أصحاب هذه الديار، ماداموا سائرين على طريقهم، آخذين مأخذهم.. وفي قوله تعالى: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ [السجدة: 26] إشارة إلى أنهم قد خلفوا هؤلاء الظالمين أصحاب تلك الديار، وورثوا ما كانوا عليه من كفر وضلال.. وفي قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ [السجدة: 26] إشارة إلى أن السمع طريق من طرق الاهتداء.. سواء كان هذا المسموع من كلمات الله، أو من الأخبار الصحيحة
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 74)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/176)
والعظات النافعة.. فالكلمة الطيبة، إذا تلقتها أذن واعية، واستقبلها قلب سليم، أينعت، وأثمرت، كما تينع وتثمر البذرة الطيبة، في الأرض الطيبة.. وفي قوله بعدها: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة: 27] إشارة إلى أن كل ذلك من آيات الله، تتملاها العين، فترى فيها قدرة الله، كما ترى فضله وإحسانه.. فهذا الماء الذي يسوقه الله تعالى محمولا على أجنحة السحاب، فينزل في الأرض الجديب، ويحيى مواتها، ويخرج من صدرها حبا ونباتا، وجنات ألفافا، تحيا عليها الأنعام، ويعيش فيها الناس ـ في هذا عبرة لمعتبر، وذكرى لمن يتذكر.. وقدمت الأنعام على أصحاب الأنعام، دلالة على أنه ليس للناس شئ في تقدير هذا الرزق الذي يسوقه الله إليهم وإلى أنعامهم.. وإنما هو من عند الله، وأن الأنعام والناس سواء في الاحتياج إلى الله، وأنهم إنما يرزقون كما ترزق الأنعام (1).
قالوا: وعينا هذا.. فما التاسعة؟
قال (2): قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].. ففي هذه الآية الكريمة وعد الله لعباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء.. ووعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. ولقد صدقهم الله وعده فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الكثيرة التي تلت هذا الوعد وكشف لهم عن آياته في أنفسهم.. وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد.. حيث ينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين، فقد تفتحت لهم الآفاق، وتفتحت لهم
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 628)
(2) في ظلال القرآن: (5/ 3130)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/177)
مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله.
قالوا: وعينا هذا.. فما العاشرة؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك: 19]، وفيها دعوة إلى مشاهدة الطيور وكيفية طيرانها في السماء، فتارة صافّات أجنحتها وتارة أخرى قابضات.. وهذا الأمر هو الذي يجعلها تطير في السماء خلافاً لجاذبية الأرض، كما أنّ طيرانها بسرعة تارة بصف الأجنحة وأخرى بقبضها، وكأنّ هناك قدرة خفية تدفعها إلى الأمام، ولكلٍ من الطيور شكلها الخاص بها والوسائل الضرورية لحياتها (1).. والدعوة التي يدعى إليها المشركون هنا، للإيمان بالله، والاستقامة على طريق الحق هي دعوة موجهة إلى عقولهم التي غطّى عليها الجهل والضلال، وذلك بأن يوقظوا هذه العقول، وأن ينظروا بها إلى آيات الله التي بين أيديهم من صحف الوجود، بعد أن أصمّوا آذانهم عن آيات الله التي تتلى عليهم (2).
قالوا: وعينا هذا.. فما الحادية عشر؟
قال (3): قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 20 ـ 21]، وهي تنعى على الضالين المكذبين، كفرهم وضلالهم الذي فوّت عليهم هذا النعيم الذي أعده الله للمؤمنين، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن ينقادوا لرسول الله، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى، أفلا كانت لهم عيون تنظر في هذا الوجود، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما لله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان، وعلم وحكمة؟.. أي إنه كما في يد الرسول آيات ناطقة بالحق، داعية إليه، كذلك هناك آيات أخرى في
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 100.
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1064)
(3) التفسير القرآني للقرآن (13/ 510)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/178)
الأرض، وفي السماء، وفي كل ما خلق الله، تشهد بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.. ولكنهم لشقوتهم قد أصموا آذانهم عن سماع كلمات الله، وأغمضوا أعينهم عن النظر في كتاب الوجود، فكفروا، وضلوا.. فكان مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
قال أحد الصبية: فما سر قوله تعالى: ﴿آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: 20] هنا؟
قال (1): في ذلك إشارة إلى أنه لا ينتفع بتلك الآيات الكونية، ولا يقع على مواقع الهدى منها، إلا أهل اليقين، الذين يطلبون العلم والمعرفة، بالبحث الجاد، والنظر المتفحص، فإذا وقع لهم من ذلك علم، كان علمهم عن برهان وحجة، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين.. فهم ـ والحال كذلك ـ لا يتبعون الأهواء، ولا يتابعون أهل الضلال..
قال أحد الصبية: فما سر قوله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]؟
قال (2): أي إذا كنتم أيها المكذبون الضالون، قد كلت أبصاركم عن أن تنظر في صفحة هذا الوجود، وأن تمتد إلى أبعد من مواطئ أقدامكم، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة الله وسلطانه القائم على الوجود، وإنه ليكفي أن تنظروا في ذات أنفسكم، فإن في أنفسكم عالما رحيبا، وكونا فسيحا.. وإنه ليكفي أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته في الحياة، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا.. إنكم ستجدون في هذا سجلا حافلا بالآيات الدالة على قدرة الخالق، وعلى حكمته، وعلى بديع صنعه، وحكمة تدبيره.. والاستفهام هنا توبيخ وتعنيف، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية، وآثارها الناطقة في كل ما خلق الخالق جل وعلا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 510)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 510)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/179)
قالوا: وعينا هذا.. فما الثانية عشر؟
قال: قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].. وهي تؤكد على الأعضاء الثلاثة أى الأذن والعين والقلب، والتي تعتبر ثلاثة أعضاء أساسية للمعرفة، وهذا دليل واضح على اعتبار المشاهدة والحس من المصادر الأساسية للمعرفة (1).. وفي الآية الكريمة إلفات إلى قدرة الله، وإلى ما لهذه القدرة من سلطان حكيم، وتصريف محكم.. ففي خلق الإنسان، وفي أطواره التي مرّ بها، ما يفتح للعقل كتابا مبينا، يرى في صحفه من مظاهر قدرة الله، وعلمه، وحكمته، ما يأخذ بالألباب، ويأسر المشاعر.. من أين جاء الإنسان؟ وكيف كان هذا الكائن السميع، البصير، العاقل، العالم؟ ألم يكن نطفة، ثم كان علقة، ثم كان مضغة، ثم جنينا.. ثم طفلا؟.. ثم كيف بهذا الطفل، الذي استقبلته الحياة أشبه بقطعة من اللحم المتحرك، ثم هو يصبح هذا الإنسان الذي يقود سفينة الكوكب الأرضى، ويقوم عليها خليفة لله فيها؟.. وفي قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) توجيه للقوى العاقلة المدركة في الإنسان أن تؤدى وظيفتها فيه، وأن يفتح الإنسان منها طاقة على هذا الوجود، فيرى ما لبسه من نعم الله عليه، وإحسانه إليه، فيحمده، ويشكر له (2).
قالوا: وعينا هذا.. فما الثالثة عشر؟
قال (3): قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: 71 ـ 72]، ففي هاتان
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 101.
(2) التفسير القرآني للقرآن (7/ 334)
(3) التفسير القرآني للقرآن (10/ 378)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/180)
الآيتان استعراض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وإحسانه إلى خلقه، وفضله عليهم، ورحمته بهم.. فلو شاء سبحانه أن يجعل الليل قائما على هذه الأرض، لا يعقبه نهار أبدا، لاستولى الظلام على هذا الكوكب، وعلى من فيه وما فيه، ولما كان لأحد أن يغير هذا الوضع القائم أبدا.. وفي قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ [القصص: 71] إشارة إلى أن الحاسة العاملة في الإنسان، عند الظلام، هي حاسة السمع، حيث يبطل عمل البصر، ويتحول المجال الحسي للإنسان كله، إلى أذن تسمع.. فالناس في عالم الظلام، تتجمع حواسهم في سمعهم.. ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين لا يسمعون، حتى حين يكون السمع هو الوسيلة الوحيدة للإنسان في اتصاله بالحياة..: وكما في قدرة الله سبحانه، أن يحبس الليل، فلا يتحول عن مكانه من الأرض، كذلك في قدرته جل شأنه أن يجعل من النهار سلطانا قائما على الأرض لا يتحول عنها أبدا، ولا يجد الناس ـ ولا الكائنات الحية ـ هذا الليل الذي يلف الوجود بردائه، ويريح الكائنات على صدره.. وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: 72] إشارة إلى أن حاسة البصر في هذا النور الدائم الذي لا ينقطع أبدا، تكون هي الأداة العاملة في الإنسان.. ومع هذا، فإن المشركين، لا يبصرون في هذا النور الغامر، الساطع، الدائم.
قالوا: وعينا هذا.. فما الرابع عشر؟
قال: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، ففي هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى سبب دخول أهل النار النار، وهي أن لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته تعالى في خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.. فالآذان إنما خلقت
القرآن.. والهداية الشاملة (1/181)
للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع، والأبصار خلقت لينتفع بكل ما يبصر، وإنما يكون ذلك بتوجيه الإرادة إلى استعمال كل منهما فيما خلق له (1).. ولهذا وصف الله تعالى هؤلاء بأنهم ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، أي أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من الصفات كالأنعام من إبل وبقر وغنم، لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم في هذه الحياة، بل هم أضل سبيلا منها، إذ هذه لا تجنى على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية في أكلها وشربها وجميع حاجاتها، لكن عبيد الشهوات يسرفون في كل ذلك إسرافا عظيما.. والخلاصة: إن أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون عقولهم في فقه حقائق الأمور، وأبصارهم وأسماعهم في استنباط المعارف واستفادة العلوم، ولا في معرفة آيات الله الكونية وآياته التنزيلية، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسي على كمال الإسلام (2).
قال أحد الصبية: فكيف قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: 179]، ونحن نعلم أن ذرأ تعني [خلق]، فهل يعني هذا أن هؤلاء خلقوا ليدخلوا النار.. فكيف يستقيم هذا مع عدالة الله؟
قال الشاب (3): هذه الآية الكريمة، تفهم على ضوء قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فطبقا لمعنى هذه الآية فإن الجن والإنس لم يُخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة.. أما الذين تركوا ما أُمروا به؛ فإنهم جلبوا لأنفسهم ما يستحقونه من العقوبة.. وهذا مثل قول النجار: إن قسما كبيرا من هذا الخشب هيأته لأصنع منه أبوابا جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام... فالخشب الرائق الجيد
__________
(1) تفسير المراغي (9/ 114)
(2) تفسير المراغي (9/ 115)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 300)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/182)
المناسب سأستعمله للقسم الأول، وأما الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثاني.. وفي الحقيقة أن للنجار هدفين: هدفا (أصيلا) وهدفا (تبعيا).. فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأطر الخشبية الجيدة وما إلى ذلك، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار.. إلا أنه حين يجد أن بعض الخشب لا ينفعه شيئا، فسيكون مضطرا إلى نبذه ليكون حطبا للحرق والإشعال، فهذا الهدف (تبعي) لا أصلي.. والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه، أن الإختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختيارا، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم، وهم مختارون وإرادتهم حرة بإزاء أعمالهم.. وخير شاهد على هذا ما جاء من صفات لأهل النار وصفات لأهل الجنة، والتي تدل على أن الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم، إذ كان فريق منهم في الجنة، وفريق في السعير.
بعد سماعي لتلك الأحاديث الجميلة للشاب والصبية، سرت في تلك الروضة أتمتع بمناظرها البديعة ونسيمها العليل وأريجها العطر إلى أن رأيت جمعا من الفتية والفتيات، وقد انقسموا إلى فريقين، فريق خاص بالفتيان، وفريق خاص بالفتيات.. وكان بينهما مجموعة من الكهول يجلسون على منصة.
بعد فترة وجيزة، قام أحدهم، وقال: شكرا لانتخابكم لي لإدارة هذه المسابقة.. وكما تعودنا في كل مرة نجري فيها المسابقات في هذه الحديقة.. فقد اخترنا اليوم موضوع العقل والوظائف التي وُكلت له، حتى تتحقق الهداية الشاملة.. وذلك لأهمية العقل في القرآن الكريم، فقد ذكر باسمه وأفعاله في مواضع كثيرة.. وبأسماء مختلفة.. وبما أنه لا يمكن الإحاطة بهذا الموضوع هنا، فسنكتفي فقط بالتعرف على الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم للدلالة على العقل، ووظائفه.. فنحن نعلم أن حقائق القرآن الكريم مختزنة في
القرآن.. والهداية الشاملة (1/183)
ألفاظه.. ومن لم يهتد للألفاظ لن يهتدي للمعاني.. وطبعا كما تعلمون، فإن نتائج المسابقة ستعرف من خلال الأجهزة المحيطة بنا، فهي التي ستحدد الفائز منكم، من خلال كثرة إجاباته وصحتها ودقتها.
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيات، وقال: أول الألفاظ الدالة على العقل في القرآن الكريم هو [العقل] نفسه، فقد ورد فعل العقل في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعا.. وأنا أريد منكن أن تذكرن لي بعض الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ، مع ذكر معناه.
قامت إحدى الفتيات، وقالت: لقد ورد فعل العقل في القرآن الكريم بصيغة [تعقلون] في أربع وعشرين موضعا في القرآن؛ منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 242]، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2].. وورد بصيغة [يعقلون] في اثنين وعشرين موضعا؛ منها قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171].. وورد بصيغة [يعقلها] مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].. وورد بصيغة [نعقل] مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10].. وورد بصيغة [عقَلوه] مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]
قالت أخرى (1): وهو مشتق من العقال، وهو الحبل الذي يُشدْ به ساق البعير لمنعه من الحركة، وبما أنّ العقل يردعُ الإنسان عن القيام بالأعمال المشينة أطلقت هذه المفردات
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 110.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/184)
عليه.. ولهذا عرف بعضهم العاقل بأنه: (الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ويتغلب على أهوائه وميوله).. ولهذا يقال لمن امتنع لسانه عن النطق (اعتقل لسانه) كما يقال (للدية) (عقل) لأنّها تحول دون إهراق دماءٍ أكثر، ويقال للمرأة العفيفة والمحجبة والطاهرة (عقيلة).. كما يطلق على القلعة والحصن أيضاً.
قالت أخرى: ولهذا نرى المفسرين يفسرونه بهذا المعنى وأمثاله، ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10]: (أي وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحق، ما كنا على ما نحن عليه من الكفر بالله، والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها في دنيانا، فبؤنا بسخط ربنا وغضبه، وحلّ بنا عقابه الأليم) (1)
قالت أخرى: ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 242]: (هي تعني أنه بمثل هذا البيان المبين، يخاطبكم الله بآياته، ويعلمكم آدابه وأحكامه، حتى تكونوا على هدى وبصيرة، لما التقى بعقولكم من هذا العلم الربانى الوضيء) (2)
قال آخر: وذكر آخر سر ارتباطها بآيات الطلاق، فقال: (ختمت هذه الآية الكريمة الآيات المتعلقة بالطلاق، وهي بذلك تدل على أن المراد من التفكر والتعقل هو ما يتعقبه التحرك نحو العمل، وإلا فإن التفكر والتعقل لوحده في الأحكام والآيات لا يثمر نتيجة، ولهذا يتبين من دراسة الآيات والأحاديث الشريفة أن لفظة (العقل) تستعمل غالبا عند ايراد التعبير عن امتزاج الإدراك والفهم مع العواطف والأحاسيس ثم يستتبع ذلك العمل،
__________
(1) تفسير المراغي (29/ 11)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 299)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/185)
فعندما يتحدث القرآن في مواضع كثيرة عن معرفة الله مثلا يشير إلى نماذج من نظام هذا الكون العجيب، ثم يقول إننا نبين هذه الآيات (لعلكم تعقلون).. وهذا لا يعني أن القصد هو ملء الأدمغة ببعض المعلومات عن نظام الطبيعة، إذ أن العلوم الطبيعية إذا لم تبعث في القلب والعواطف حركة نحو معرفة الله وحبه والإنشداد به فلا ارتباط لها بقضايا التوحيد.. وهكذا المعارف العلمية لا تكون تعقلا إلا إذا اقترنت بالعمل) (1)
قالت أخرى (2): وذكر آخر أن [التعقل] هو الذي يدفع الإنسان بعد الفهم والإدراك إلى مرحلة العمل، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10]، وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: 46] فالتعقل الذي يتحدث عنه المجرمون يوم القيامة هو ذلك الذي يرافقه العمل، وهكذا التعقل الناتج عن السير في الأرض والتفكير في خلق الله إنما هو المعرفة التي تحمل الإنسان على تغير مسير حياته والإتجاه إلى الصراط المستقيم.. وبعبارة أخرى إن التفكر والتعقل والتدبر إذا كان متعمقا ومتجذرا في روح الإنسان فلا يمكن أن يكون عديم الآثار في دائرة الواقع العملي، فكيف يمكن أن يقطع الإنسان ويعتقد جازما بمسمومية الغذاء ثم يتناوله!؟ أو يعتقد جزما بتأثير الدواء الفلاني على معالجة أحد الأمراض الخطرة التي يعاني منها ثم لا يتناوله.
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيان، وقال: والآن نريد من فتياننا المباركين أن يذكروا لي لفظا آخر يدل على العقل في القرآن الكريم، وهو بمعنى الصفوة والخلاصة..
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 202)
(2) الميزان: ج 2 ص 250.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/186)
ولذلك يدل على العقول الكاملة التي لا ترضى بالقشور، أو تكتفي بها، أو تنحجب بها عن اللباب.
قام أحد الفتيان، وقال: نراك تشير إلى اللب واللباب وأولي الألباب، فهو من الألفاظ الدالة على العقل في القرآن الكريم.. وقد وردت لفظة (أولي الألباب) في ستة عشر موضعا جاءت مرتبطة بأربعة معان رئيسية لا تنفك عن بعضها البعض: التقوى، والتذكر والتدبر، والتفكر والاعتبار، وحسن الاتباع.. وجميعها لا تدرك إلا بالعقل السليم والفهم السليم.
قال آخر (1): وهو مشتق من كلمة (اللب)، وهو يعني الخالص والصفوة من كلّ شي ء، ولهذا يُطلق على المرحلة الرفيعة من العقل (اللب)، فإنّ كل لبٍ عقلٌ، لكن ليس كل عقلٍ لُباً، لأنّ اللب هو العقل في مراحله الرفيعة والخالصة، ولهذا السبب ذكروا في المراحل الرفيعة من العقل، كما يطلق اللب على باطن كثير من الفواكه لأنه خالص من القشر.
قال آخر (2): وإنما سمي العقل لبا؛ لأن اللب هو محل الحياة من الشيء، وخاصته وفائدته، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية، وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله، وحكمته.
قال آخر: أما المعاني التي ارتبطت بهذا اللفظ، فأولها التقوى، وقد جاءت في أربعة مواضع، هي قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]، وقوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي
__________
(1) لسان العرب: 1/ 730، والقاموس المحيط: 133.
(2) تفسير المنار: 4/ 245.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/187)
الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]، وقوله: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 100]، وقوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ [الطلاق: 10]
قال آخر: وثاني المعاني المرتبطة بها [التذكر والتدبر]، وقد ورد في تسعة مواضع، هي قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]، وقوله: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد: 19]، وقوله: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: 52]، وقوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 43]، وقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 21]، وقوله: ﴿هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [غافر: 54]
قال آخر: وثالث المعاني المرتبطة بها [التفكر والاعتبار]، وقد ورد في موضعين، هما قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، وقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
القرآن.. والهداية الشاملة (1/188)
يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]
قال آخر: ورابع المعاني المرتبطة بها [حسن الاتباع]، وقد ورد في موضع واحد هو قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 18]
قال مدير الجلسة: بوركتم في ذكر المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ، فما أسرار تلك الاقترانات؟
قال أحد الفتيان (1): في مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضاً بأن غير المتقي لا لب له ولا عقل.. وأنّ من كان له لب فإنه بتقواه يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها.
قال آخر (2): وفي اقتران أولي الألباب بالاعتبار بعواقب الأمور دلالة على أن أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث بعد التنبيه والتذكير.. وأمّا الأغرار والغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الاستقلال في النظر والاعتبار بالتجارب والحكم، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام، ولا من عواقب الأمم والدول التي اضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالا، إذ كانوا أفضل أخلاقا وأعمالا.
__________
(1) تفسير المنار: 2/ 185.
(2) تفسير المنار: 7/ 104.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/189)
قال آخر (1): وفي اقتران أولي الألباب بفهم الأحكام والغاية منها دلالة على أن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان.. ولا رحمة ولا حنان.
قال آخر (2): وفي اقترانهم بالتذكر لقصد الانتفاع بالعلم والهداية والاتعاظ ما يدل على أنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به تأثرا يبعث على العمل إلا أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، والقلوب السليمة من المعايب.
قال آخر: وفي اقترانهم بالتفكر في آيات الله وسننه للهداية والاتعاظ يقول بعضهم: (وخص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولو ألباب؛ لأن من اللب ما لا فائدة فيه، كلبّ الجوز ونحوه إذا كان عفنا، وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن، فهي لا تهتدي إلى الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض وغيرهما) (3)
قال آخر: وفي اقترانهم بالاعتبار بالقصص يقول بعضهم: (وكونها عبرة عامة للعقلاء من المؤمنين والكافرين المستعدين للاعتبار كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].. وليس القرآن تاريخا ولا قصصا وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة... فيكتفي من القصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس؛ لأنه لم يرو ولم يدون
__________
(1) تفسير المنار: 2/ 107.
(2) تفسير المنار: 3/ 260.
(3) تفسير المنار: 4/ 245.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/190)
بالكتاب) (1)
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيات، وقال: والآن نريد من فتياتنا المباركات أن يذكرن اللفظ الذي يدل على العقل والتفكير، كما يدل على الأحاسيس والمشاعر.. وكما يدل على الثبات يدل على التقلب.
قالت إحدى الفتيات (2): نراك تشير إلى القلب.. فهو الذي يصدق على ما وصفت.. فهو يعني تغير الشي ء وتحوله، وغالباً ما يستعمل بمعنيين، فتارة يطلق على العضو الذي يتكفل بضخ الدم إلى جميع أعضاء البدن، وتارة أخرى يستعمل فيرادُ به الروح والعقل والعلم والفهم والشعور، وجاء هذا الاطلاق من حيث إنّ القلب الجسماني والقلب الروحي في حركة وتغيّر مستمرين.. كما أنَّ كلمة (القلب) تطلق على مركز كل شي ء مثل: قلب العسكر، لأنّ القلب مركز جسم وروح الإنسان.
قالت أخرى: وهو يدل على معنى الإدراك والفكر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: 179]، فالله تعالى يصف في هذه الآية الكريمة حال الكافرين من الإنس والجن، وأن لهم عقولا لا يستخدمونها لفهم الأمور وإدراكها على حقيقتها، ولهم أبصار وكأنهم لا يبصرون بها، ولهم آذان وكأنهم لا يسمعون بها.
قالت أخرى (3): وهي تشير إلى أن قضية الإيمان والكفر لدى الإنسان ترتبط باستعمال أدوات المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة وعينه على الحياة أو عدم استعمالها،
__________
(1) تفسير المنار: 2: 373.
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 110.
(3) من وحي القرآن (5/ 51)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/191)
وليست قضية فكر معقد يحتاج إلى تحليل وتفسير، تماما كما هي الشمس عندما يغمض عينيه، من يبادر إلى إنكارها، فذلك لا يعني وجود إشكال في وجود الشمس، بل كل ما يعنيه هو وجود مشكلة في طريقة مواجهته للحقيقة من خلال أدوات المعرفة التي يستخدمها للكشف عنها.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: 3]. أي لإيمانهم ثم كفرهم أصبحوا لا يميزون الأمور.. وفيها إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه، لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم في عمى، وقلوبهم في غفلة، وعقولهم في ضلال.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 93]: أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتى ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس الكريمة التي لا ترضى بالمذلة.. ثم بين العلة في قبولهم هذا الذل فقال: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 93] أي إن الله قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والمواعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها وصار وصفا لازما لها، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة الله في الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به.
قالت أخرى: وقد يدل القلب على المواجيد والمشاعر، كما قال تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ [آل عمران: 118]، أي أن ما يبدو من أفواههم
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 862)
(2) تفسير المراغي (10/ 179)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/192)
ما هي إلاَّ شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم (1).. والتي شرحها قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]
قالت أخرى (2): ومثل هذه التعبيرات ليست مختصة بالقرآن، بل تُلاحظ في أدب اللغات المختلفة في الأزمنة الغابرة، وتلاحظ اليوم أيضا مظاهر هذه المسألة بأشكال مختلفة، فغالبا ما نقول للشخص الذي نحترمه ونحبه: إن لك مكانا في قلوبنا، أو أن قلوبنا منشدة إليك، والأدباء يجسدون هذا المعنى ويجعلون سنبلة العشق نابعة من القلب دائما.. وكل ذلك لأن الإنسان يحس دائما بتأثير خاص في قلبه في حالة العشق والغرام، أو الحقد والحسد، أي أن أول قدحة في هذه المسائل النفسية عند انتقالها إلى الجسم تتجلى في القلب.. إضافة إلى كل هذا، فإن أحد معاني القلب في اللغة هو عقل وروح الانسان، ومعنى ذلك أن القلب لاينحصر بهذا العضو الخاص الموجود داخل الصدر، وهذا بنفسه يمكن أن يكون تفسيرا آخر لآيات القلب، لكن لاجميعها، لأن بعضها صرحت بأنها القلوب التي في الصدور.
قالت أخرى: ولهذا يربط القرآن الكريم بين القلب والمشاعر الوجدانية المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك الخشوع، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16]، أي: ألم يحن الوقت الذي تخشع فيه القلوب لذكر الله، ولما نزل من الحق ـ قلوب هؤلاء المؤمنين الشاكّين المترددين؟ وماذا ينتظرون بعد هذا وقد عاشوا في الإسلام وقتا كافيا، اطّلعوا فيه على سيرة الرسول فيهم، واستمعوا إلى آيات
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 662)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 382)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/193)
الله التي يتلوها عليهم؟.. وفي تسميتهم مؤمنين، إغراء لهم بتصحيح إيمانهم، وبإخلاء قلوبهم من النفاق، وإخلاص نياتهم لهذا الدين الذي لبسوه ظاهرا، بأن يلبسوه باطنا.. وهو أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي ليس من همّها قتل المرضى، بل همّها الأول هو الطّبّ لدائهم، وتقديم الدواء الناجع لعللهم (1).
قالت أخرى (2): ثم حذرت الآية الكريمة من التشبه بأهل الكتاب في ذلك، والذين قست قلوبهم، فجفوا دينهم، وعبثوا بشريعتهم، وخرج كثير منهم جملة عن دينه وأحكام شريعته.. وفي تشبيه هؤلاء المؤمنين المرتابين في دينهم بأهل الكتاب من اليهود إشارة إلى ما كان بين هؤلاء المؤمنين المنافقين، وبين هؤلاء اليهود من اجتماع على الكيد للإسلام، والتربص بالمسلمين.. وفي هذا ما يكشف هؤلاء المرضى من المؤمنين، وأنّ من ينضوى منهم إلى هؤلاء اليهود، أو يلقاهم بالمودة، وهم على هذا الكيد للمؤمنين، فهو من المنافقين، وإلا كان عليه أن يعتزل مجالس هؤلاء اليهود، وأن يقطع حبال الود التي بينه وبينهم، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا﴾ [الحشر: 11] فهذا وجه بارز من وجوه النفاق، لا يجتمع مع الإيمان في قلب مؤمن أبدا.
قالت أخرى (3): ومثل ذلك ربطه بين القلب والرأفة والرحمة، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد: 27].. و(الرأفة) تعني الرغبة في دفع الضرر، و(الرحمة) تعني الرغبة في جلب المنفعة.. ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالبا، لأن قصد الإنسان ابتداء هو دفع الضرر ومن ثم يفكر في جلب المنفعة.. ويدل على هذا ما ورد
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 766)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 767)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (18/ 80)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/194)
في القرآن الكريم من حد الزاني والزانية حيث يقول تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2]
قالت أخرى (1): والرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للمسيح عليه السلام لم يذكر في هذه الآية فقط، بل ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: 82] وبالرغم من أن الآية الكريمة أخذت بعين الاعتبار مسيحيي الحبشة وشخص (النجاشي) بالذات، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبة خاصة، إلا أنها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين.. ومن الطبيعي ألا يكون المقصود هنا المسيحيين الذين مارسوا أقذر الأعمال وأكثرها إجراما وانحطاطا بحق الشعوب المستضعفة في العهود المظلمة للبشرية.
قالت أخرى: ومثل ذلك ربطه بين القلب والوجل، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]، وقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: 35]
قالت أخرى (2): و(الوجل) هو حالة الخوف التي تنتاب الإنسان، وهي تنشأ عن إدراك المسؤولية واحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة التي ينبغي على الإنسان أداؤها بأكمل وجه امتثالا لأمر الله تعالى.. أو عند إدراك عظمة مقام الله، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له، ومهابته التي لا حد لها.
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (18/ 80)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 362)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/195)
قالت أخرى (1): وتوضيح ذلك، أنه قد يتفق للإنسان أن يمضي لرؤية شخص عظيم هو ـ بحق ـ جدير بالعظمة من جميع الجوانب، وحين يمضي لرؤيته قد يقع تحت تأثير ذلك المقام وتلك العظمة، بحيث يحس بنوع من الرهبة في داخله ويضطرب قلبه حتى أنه لو أراد الكلام لتلعثم، وقد ينسى ما أراد أن يقوله، حتى لو كان ذلك الشخص يحب هذا الإنسان ويحب الآخرين جميعا ولم يصدر عنه ما يدعو إلى القلق.. فهذا الخوف والإضطراب أو المهابة مصدرها عظمة ذلك الشخص، ويشير إلى هذا قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]، وقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].. ولهذا، فإن العلاقة قائمة بين العلم والخوف أيضا، وبناء على ذلك فمن الخطأ أن نعد أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك ربطه بين القلب والخوف والرعب، كما في قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 151]، وهي تبشر المؤمنين بأن الله سيملأ قلوب أعدائهم رعبا، بما حملوا من شرك، وبما عبدوا من ضلالات.. إذ أن الشرك يقتل في صاحبه كل معاني الإنسانية، ويقيمه في هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، لا يجد ما يستند إليه عند الشدائد والمحن.. وما ظنك بإنسان ـ إذا كربه الكرب، ونزلت به النوازل ـ فزع الى حجر يعبده؟ أو إلى حيوان يسجد بين يديه؟.. وأين هذا ممن يمد يده إلى مالك الملك، ويفزع إلى من بيده ملكوت السموات والأرض؟.. وشتان بين هذا وذاك.. فالمشرك يدعو من لا يملك ضرا ولا نفعا ويهتف بمن لا يستجيب له إلى يوم القيامة.. أما المؤمن فيدعو رب الأرباب، ومدبر
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 362)
(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 611)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/196)
الأكوان، والآخذ بناصية كل كائن، والقائم على كل موجود.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك ربطه بين القلب والإحساس بالتكبر والتعالي، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35]، وهو حكم على فرعون وملئه ومن هو على شاكلتهم أنهم لن يهتدوا، ولن يخرجوا عما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم في ارتياب شديد مسرف، فأسلمهم الله سبحانه إلى ارتيابهم، وتركهم في ظلمات يعمهون.. وإنهم ليجادلون في آيات الله، وليس بين أيديهم سلطان من حقّ يجادلون به، وكل ما معهم هو باطل وضلال، يلقون به آيات الله.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك ربطه بين القلب والشعور بالغيظ، كما في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14 ـ 15].. وفيها تحفيز للمسلمين بلقاء المشركين المعتدين وقتالهم، وفيها وعد للمسلمين بالنصر على عدوّهم، وأنه سبحانه سيعذب هؤلاء المشركين بأيدى المؤمنين، بما يصيبهم في أنفسهم من قتل وأسر، وما يصيبهم في أموالهم، التي تقع غنيمة لأيدى المؤمنين في ميدان القتال، أو في فداء الأسرى منهم.. وليس هذا فحسب، فإن الذي لهم في العرب من مكان الرياسة والسيادة ستذهب به تلك الهزيمة المنكرة التي سيلقونها، ويلقون معها الخزي والعار...
قالت أخرى (3): وفي قوله تعالى: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 15] إشارة إلى أولئك الذين فقدوا أعزتهم وأحبتهم بما لاقوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1234)
(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 712)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 545)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/197)
فأغاظوهم، سيقر الله عيونهم بهلاك المشركين.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك ربطه بين القلب والسكينة والطمأنينة، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 4].. وهي تشير إلى أن الذي يذكر الله وهو موقن به، طامع في رحمته، معتصم بجلاله، محتم بحماه، لائد بفضله، عائد به، من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين، وبغى الباغين يجد ربا قريبا منه، سامعا دعاءه مستجيبا له.. وهي تشير إلى أنه إذا ذكر المؤمن ربه، غردت في نفسه بلابل البهجة، وزغردت في صدره عرائس الرضا، واستولت عليه حال من الشجا الممزوج بالنشوة، حتى ليكاد يكون كله عاطفة ترف بجناحي الصبابة والوجد، وتحلق في سماوات عالية، مشرقة بنور الحق، معطرة بأريج الصفاء والطهر.. ولا يكون الذكر لله ذكرا يثمر هذه الثمرة، التي يطمئن بها القلب، إلا إذا انبعث من قلب عارف بالله، مدرك لما ينبغى له سبحانه، من صفات الكمال والجلال، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية عند ذكر الله، وهو الذي يستثير مشاعر الولاء لله، والإخبات له، فتقشعر الجلود، وتدمع العيون.. وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2]، وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: 34 ـ 35]، وقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23]
قالت أخرى (2): ومثل ذلك ربطه بين القلب والتحسر، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 110)
(2) تفسير المراغي (4/ 109)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/198)
لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [آل عمران: 156].. أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدي صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [آل عمران: 156] أي والله هو المؤثر وحده في الحياة والموت بمقتضى سننه في أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما، فإن الله قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك ربطه بين القلب والحمية، كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: 26].. وفيها أمر للمؤمنين بترك ما كانوا عليه في الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة.. والتي كان يحركها الانفعال والعصبية ومشاعر الإخلاص للعشيرة، دون أي وعي فكري يربط المشاعر الإنسانية والعلاقات بالقضايا الفكرية والروحية والمعاني الإنسانية.. وهذا ما جعلهم يصرّون على عدم التنازل عن امتيازاتهم العصبية، ولا ينفتحون على منطق العقل والحوار باعتباره سبيل الوصول إلى نتائج إيجابية فيما يختلف فيه الناس، لكن هذه الحميّة الجاهلية، لم تخلق لدى
__________
(1) من وحي القرآن (21/ 122)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/199)
المؤمنين ردّ فعل انفعالي لمواجهة الحمية بحمية مماثلة، بل حافظوا على هدوئهم النفسي، وطمأنينتهم الروحية، ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 26] ليحافظوا على التوازن في دراسة الأمور، ويتحركوا في خط التقوى الذي يضع المسألة في نصابها الصحيح من الوقوف مع التوجيه الإلهي الذي يحدد لهم مواقعهم في الساحة من خلال الحلال والحرام.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك ربطه بين القلب والغل والحقد، كما في قوله تعالى في ذكر دعاء المؤمنين: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: 10]، أي أننا ـ يا رب ـ لا نريد أن نحمل في أعماقنا البغضاء والعداوة للمؤمنين، مهما كانت الأسباب التي تعقد العلاقات فيما بيننا، لأن الإيمان يفتح القلوب على محبة الله الذي يلتقي الجميع في رحاب حبه ولطفه، مما يفرض عليهم أن لا يتوقفوا أمام المشاكل التي تحدث فيما بينهم ليتعقدوا منها، ولكن لينطلقوا بعيدا عنها، ليكون العفو الذاتي في دائرة العفو الإلهي هو الذي يبتعد بهم عن التعقيد.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك ربطه بين القلب والإحساس بالمحبة والألفة، كما في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: 103].. أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو في خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة
__________
(1) من وحي القرآن (22/ 117)
(2) تفسير المراغي (4/ 18)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/200)
وعشرين سنة.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك ربطه بين القلب والنفور، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ [الزمر: 45].. وفيها فضح لحال من أحوال المشركين، وكشف لضلالة من ضلالاتهم، وهي أنهم إذا ذكر الله وحده، من غير أن تذكر معه آلهتهم اشمأزت قلوبهم، أي نفرت، وجزعت، وهلعت.. وإذا ذكرت آلهتهم فرحوا واستبشروا.. وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ [النجم: 27] إشارة إلى أن الإيمان بالآخرة، لا يكون إلا بعد الإيمان بالله.. فالإيمان بالآخرة، إيمان بها وبالله.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك ربطه بين القلب والإحساس بالقسوة والغلظة، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 74]، أي إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحق وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهي كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشد منها، ذلك أن الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس والحيوان والزرع بخروج الأنهار منها، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة فتنبع منه العيون والآبار، وحينا تتأثر بالتردي والسقوط بلا منفعة للناس وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدي فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان.
قالت أخرى (3): ومثل ذلك ربطه بين القلب والإحساس بالغلظة، كما في قوله تعالى: وقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].. أي لو كنت
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1170)
(2) تفسير المراغي (1/ 146)
(3) تفسير المراغي (4/ 113)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/201)
خشنا جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوي.. ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة.
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيان، وقال: والآن نريد من فتياننا المباركين أن يذكروا لي لفظا يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل، وهي أهم وظائفه، وبها تنتج المعارف.
قال أحد الفتيان: نراك تشير إلى أهم وظيفة من وظائف العقل، وهي [الفكر]، وقد ورد في القرآن الكريم بصيغة [فكَّر] مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: 18 ـ 19].. وورد بصيغة [تتفكَّروا] مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: 46].. وورد بصيغة [تتفكَّرون] ثلاث مرات؛ منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219].. وورد بصيغة [يتفكَّروا] مرتين؛ منها قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [الروم: 8].. وورد بصيغة [يتفكَّرون] إحدى عشرة مرة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3]
قال آخر: وقد قال بعضهم في تعريفه: (اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب، ليستثمر منهما معرفة ثالثة.. ومثاله أن من مال إلى العاجلة، وآثر الحياة الدنيا، وأراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة فله طريقان: أحدهما: أن يسمع من غيره أن
القرآن.. والهداية الشاملة (1/202)
الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا، فيقلده، ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر، فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتمادا على مجرد قوله، وهذا يسمى تقليدا ولا يسمى معرفة.. والطريق الثاني: أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار، ثم يعرف أن الآخرة أبقى، فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة، وهو أن الآخرة أولى بالإيثار، ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين.. فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكرا واعتبارا وتذكرا ونظرا وتأملا وتدبرا.. أما التدبر والتأمل والتفكر: فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة.. وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر؛ فهي مختلفة المعاني، وإن كان أصل المسمى واحدا؛ كما أن اسم الصارم، والمهند، والسيف؛ يتوارد على شي ء واحد، ولكن باعتبارات مختلفة.. فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع، والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه، والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد) (1)
قال آخر: وقد قال بعضهم في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219]: (مما يجدر ذكره أن ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكر والتعقل والتذكر، فأحيانا تقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 69] وأخرى تقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13] وثالثة تقول: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21]، وأحيانا تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجها لوجه ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 266].. وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل، ومنها الدعوة إلى الفقه ـ أي الفهم ـ والدعوة إلى العقل والتعقل، ومدح الناس
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 425 ـ 426)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/203)
المتعقلين، والندم الشديد لأولئك المتعصبين، وقد جاء ذلك في آية من آيات القرآن المجيد، وقد قال الكثير من العلماء: إننا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لأحتجنا إلى كتاب مستقل.. وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أن أحد صفات أهل النار هو عدم التفكر والتعقل كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10] ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]) (1)
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيات، وقال: والآن نريد من فتياتنا المباركات أن يذكرن اللفظ الذي يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل.. وتعني المجاوزة من محل إلى محل.
قالت إحدى الفتيات (2): نراك تشير إلى [الاعتبار]، والذي ورد في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة [عبرة] كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: 13]، وقوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ [النحل: 66]، وقوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [المؤمنون: 21]، وقوله: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44]،
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (14/ 52)
(2) نفحات القرآن، ج 1، ص: 110.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/204)
وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]
قالت أخرى: ومنها ما ورد بصيغة الأمر [اعتبروا]، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]
قالت أخرى: وهو مشتق من مادة (عبر) التي تدل على النفوذ والمضي في الشي ء، يقال: عبرت النهر عبورا، والمعبر شطّ نهر هيّي ء للعبور، والمعبر سفينة يعبر عليها النّهر (1).. ثم صار يعني: النظر في حقائق الأشياء، وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شي ء آخر من جنسها.. أو هو التدبر وقياس ما غاب على ما ظهر.. أو هو المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى (2).
قالت أخرى (3): ومن الأمثلة على دلالاته على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [المؤمنون: 21].. أي إن في خلق الأنعام لعبرة فضلا عن كونها نعمة، ووجه العبرة فيها أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول في الغدد التي في الضّرع إلى شراب طيب لذيذ الطعم صالح للتغذية، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها.. ثم فصّل منافعها وذكر منها الانتفاع بألبانها على ضروب شتى.. ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ [المؤمنون: 21] فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها، وتتخذونها ملابس وفرشا للدفء وبيوتا في الصحارى ونحوها مما يجرى هذا
__________
(1) مقاييس اللغة (4/ 209، 210)
(2) الكليات للكفوي (147)، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (235)
(3) تفسير المراغي (18/ 15)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/205)
المجرى.. ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [غافر: 79] أي وتأكلون منها بعد ذبحها، فكما انتفعتم بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44]، وهي تشير إلى ظاهرة تشهدها الحواس، حيث يدور الليل والنهار في هذا الفلك دورة منتظمة، محكمة، لا تتخلف أبدا.. وكأنهما الكفّ في حركتها، ظاهرا وباطنا.. وفي هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار.. وهم الذين يرون في الظواهر منطلقا للتفكير والدرس والاعتبار، لا أداة للهو وللمتعة، وبذلك يلتقي عندهم البصر الداخلي الّذي تجسّده البصيرة بالبصر الخارجي الذي يمثل النظر (2).
قالت أخرى (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]، أي إن في هذا الحديث الذي يختصر مسألة الصراع بين الطاغية والرسول، فيما يمثله من الصراع بين حركة الطغيان وحركة الرسالة، درسا عمليا، يوحي للناس بالنتائج السلبية التي تواجههم إذا أخذوا بخط الطغيان، فيما يمثله من التمرد على الله ورسوله ورسالاته، وتجاوز حدوده في ظلم الناس في أنفسهم وفي أموالهم، فلن يكونوا أقوى من فرعون الذي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.. وإذا كانوا يجدون بعض القوة فيما يعيشون فيه من مواقعها وأسبابها، فإن الأمور لا تقاس ببداياتها ولكن بنهاياتها، فإن الله يمهل ولا يهمل، فعليهم أن ينتظروا مكر الله، فلا يأمنوا مكره وعذابه، فإن لله وسائل كثيرة لا تعد ولا تحصى فيما يهلك به الطغاة بشكل مباشر أو غير مباشر.. وهكذا ينبغي للإنسان أن يدرس التاريخ في سنن الله التي أودعها في الحياة، لأنها تمثل القانون الإلهي الذي قد تتنوع مواقعه ولكن طبيعته لا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 1302)
(2) من وحي القرآن (16/ 339)
(3) من وحي القرآن (24/ 41)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/206)
تختلف.
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيان، وقال: والآن نريد من فتياننا المباركين أن يذكروا لي لفظا يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل، وهي تدل على اهتمامه وعدم غفلته ونسيانه.. لأنه لا يمكن أن يدرك الحقائق الناسون والغافلون والمهملون واللامبالون.
قال أحد الفتيان: نراك تشير إلى وظيفة من وظائف العقل، وهي [التذكر]، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في مواضع عديدة اقترن بعضها بالاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 80]، وقوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: 4]، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: 3]
قال آخر: واقترن بعضها بلفظ (لعل) التي تفيد الحث على التذكر ببيان الأسباب الداعية إليه، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/207)
الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 57]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24 ـ 25]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، وقوله: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: 1]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: 27]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 43]، وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 46]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 51]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 27]، وقوله: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الدخان: 58]، وقوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]
قال آخر: واقترن بعضها بلفظ [قَلِيلًا مَا] التي تصف الإنسان بقلة تذكره أو عدم تذكره مع وجود الداعي لذلك كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الحاقة: 38 ـ 42]، وقوله: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]، وقوله: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]، وقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [غافر: 58]
القرآن.. والهداية الشاملة (1/208)
قال آخر: واقترن بعضها بالإشادة بالمتذكرين، كما في قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269]، وقوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]، وقوله: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 126]، وقوله: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ [النحل: 13]، وقوله: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: 52]
قال آخر: وجاء بعضها بلفظ [الذكرى]، كما في قوله تعالى: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: 13]، وقوله: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وقوله: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ [عبس: 4]، وقوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى: 9 ـ 10]، وقوله: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الفجر: 23]
قال آخر (1): والتّذكّر تفعّل من الذّكر، وهو ضدّ النّسيان، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب، واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج، كالتبصر والتفهم والتعلم.. ومنزلة التذكر من التفكر منزلة حصول الشي ء المطلوب بعد التفتيش عليه، ولهذا كانت آيات الله ـ المتلوّة والمشهودة ذكرى، كما قال تعالى في الآيات المتلوّة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [غافر: 53 ـ 54]، وقال عن القرآن: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الحاقة: 48]، وقال في آياته المشهودة:
__________
(1) مدارج السالكين (2/ 69)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/209)
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 6 ـ 8].. فالتّبصرة آلة البصر، والتّذكرة آلة الذّكر، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة؛ لأنّ العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر، فاستدلّ بها على ما هي آيات له؛ فزال عنه الإعراض بالإنابة، والعمى بالتّبصرة، والغفلة بالتّذكرة؛ لأنّ التّبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على دلالاته على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى: 9 ـ 10]، وهي تشير إلى أن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج الناس من الظلمة الفكرية والروحية التي تمنع النور من النفاذ إلى عقولهم، وينقذهم من حالة التخبط الحائر الذي يعيشونه أمام أشباح الظلام وتهاويله، وأن يحطم أسوار الغفلة التي تحول بينهم وبين الانفتاح على المعرفة التي تذكرهم بالله وباليوم الآخر وتعرفهم مسئوليتهم، لينطلقوا إلى الآفاق الواسعة التي تلتقي بالرسالة الهادية في العقيدة وفي الشريعة، وفي المنهج الفكري والروحي والعملي في الحياة.. ولا بد له من أن يكرر الكلمة، في أكثر من موقع، ويطلق الفكرة في أكثر من أسلوب، ويتابع التجربة حتى يستنفد كل احتمال، ولا ييأس مهما كانت التحديات صعبة، لأن المسألة هي تحطيم الحواجز النفسية التي تحول بينهم وبين الذكرى، لينطلق الإنسان حرا في فكره وإرادته.. وقد تحتاج التجربة إلى وقت طويل، وأسلوب متنوع، ونفس طويل، لأن التخلف الفكري، والرواسب الجاهلية، والعاطفة التقليدية المرتبطة بالآباء وبالمجتمع، قد تفرض نفسها على الشخصية
__________
(1) من وحي القرآن (24/ 212)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/210)
من كل جانب، بحيث لا يتمكن الداعية من القضاء عليها في وقت قصير، لا سيما عندما تتحرك كل هذه العناصر لتضع الرافض في موقف الكافر.. ولهذا فرض القرآن الدعوة إلى التذكر في أجواء احتمال إمكانية النفع التي تختزن فرضية عدم النفع.. ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى: 10] لأن الذي يثير الخوف من الله في نفسه، لا بد من أن يعود إلى وعيه لينفتح فيه على ربه، وعلى يوم الحساب بين يديه، ليدفع بموقفه إلى خط التراجع عن الخطأ، ليلتزم خط الصواب.
قال آخر (1): ومثله قوله تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الفجر: 23]، أي في هذا اليوم يعقل الإنسان كل شئ، ويعلم عن يقين ما فاته علمه في الدنيا من حق.. ولكن لا تنفعه الذكرى، ولا يفيده العلم، فقد طويت صحف الأعمال، ولا سبيل إلى تدارك ما فات.. وقوله تعالى بعدها: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 24] يدل على الندم الذي يملأ القلب حسرة وكمدا، وعلى النظر اليائس المتحسر إلى سقاء الماء وقد أربق كل ما فيه، في وسط صحراء ليس فيها قطرة ماء.. وفي قوله ﴿لحياتى﴾ إشارة إلى أن هذه الحياة ـ حياة الآخرة ـ هي حياة الإنسان حقا، وأن الحياة الدنيا ليست إلا معبرا إلى هذه الحياة.
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيات، وقال: والآن نريد من فتياتنا المباركات أن يذكرن اللفظ الذي يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل، وقد ارتبطت خصوصا بالقرآن الكريم، وقد وصف بالغفلة من لم يستعملها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1561)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/211)
قالت إحدى الفتيات (1): نراك تشير إلى [التدبر]، وقد ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع اقترنت جميعا بالقرآن الكريم، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، وقوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68]
قالت أخرى: والتدبير في الأمر: أن ننظر إلى ما تئول إليه عاقبته، والتدبر في الأمر: التفكر فيه، ويقال: إن فلانا لو استقبل من أمره ما استدبره لهدي لوجهة أمره أي لو علم في بدء أمره ما علمه في آخره لاسترشد لأمره (2).. وهو يعني النظر في عواقب الأمور.. وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب (3).
قالت أخرى (4): ومن الأمثلة على دلالاته على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وفيها إلفات لجماعات المنافقين والضالين إلى مافاتهم من خير عظيم، حين لم يقفوا عند آيات الله، ولم يتدبروها، ويصححوا موقفهم منها، وذلك بالنظر فيها، نظرا يرتاد مواقع الخير، وينشد مطالع الهدى.. لأنهم لو فعلوا ذلك، وأخلوا أنفسهم من تلك المشاعر الخبيثة المستولية عليهم، لرأوا وجه الحق سافرا في آيات الله وكلماته، ولأحذوا طريقهم إلى الله مستقيما، فآمنوا بالله، وبرسوله، وبهذا الكتاب الذي أنزل على رسوله.. ذلك أن نظرة مخلصة إلى
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 110.
(2) لسان العرب (4/ 273) دار صادر.
(3) انظر التعريفات للجرجاني (54)
(4) التفسير القرآني للقرآن (3/ 845)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/212)
كتاب الله، تصل العقول به، وتفتح القلوب له، لما في كل آية وكل كلمة منه، من أمارات مشرقة، تحدث بأن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله، وأقرب تلك الأمارات وأظهرها أن هذا الكتاب قائم على أسلوب واحد، ومنهج واحد، ومستوى واحد.. ذلك أنه على امتداده، وسعته، وتشعب الموضوعات التي تناولها، والقضايا التي عرضها، والأحكام التي أصدرها ـ هو في ذلك كله على درجة واحدة من البلاغة والبيان، وعلى كلمة سواء فيما يأمر به وينهى عنه.. ولو كان هذا القرآن من عند غير الله، لاختلف أسلوبه، وتناقضت أحكامه، وتضاربت قضاياه.. شأن كل عمل بشري، لا يسلم أبدا من مواطن القوة والضعف فيه.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، أي أفلا يتدبرون القرآن ليتعمقوا في مفاهيمه، وينفتحوا على أحكامه، ويتعرفوا من خلاله على الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، ليلتزموا الخط القرآني في قضايا العقيدة والحياة!؟.. وما المانع أن يتدبروه وهم يملكون معرفة اللغة التي نزل بها، والقدرة على الفهم؟ ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24] فلا تنفتح على الحق من خلال القرآن، ولا تلتقي بالخير في آياته، كما لو كان على قلوبهم قفل يغلقها عن الوعي والفهم والانفتاح.. وهذه الآية دالة على بطلان قول من قال: (لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع) (2)، لأن الله يدعو إلى فهم القرآن وتدبره حتى يكتشف الناس فكره وشريعته ونهجه في الحياة، وليست هذه الأقوال التي تعزل القرآن عن الفهم العام للناس، إلا لونا من ألوان تجميد القرآن في الثقافة العامة، وإبعاد الناس عن اكتشاف الزيف الذي
__________
(1) من وحي القرآن (21/ 71)
(2) مجمع البيان، ج: 9، ص: 135.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/213)
يحشده البعض في المضمون التفسيري له.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وهي تشير إلى الهدف من الخلق، ذلك أن تعليمات القرآن الكريم خالدة، وأوامره عميقة وأصيلة، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدي إلى إكتشاف هدف الخلق.. فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر ـ فقط ـ على تلاوته وتلفظ اللسان به، بل لكي تكون آياته منبعا للفكر والتفكر وسببا ليقظة الوجدان، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.. وكلمة ﴿مبارك﴾ تعني شيئا ذا خير دائم ومستمر، أما في هذه الآية فإنها تشير إلى دوام استفادة المجتمع الإنساني من تعليماته، ولكونها استعملت هنا بصورة مطلقة، فإنها تشمل كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة.. وبذلك فإن كل الخير والبركة في القرآن، بشرط أن نتدبر في آياته ونستلهم منها ونعمل بها.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68]، أي إن المناوئين للقرآن الكريم لم يتدبروه، فيعلموا ما خصّ به من نواحي الإعجاز، وقد كان لديهم فسحة من الوقت، تمكنهم من التدبر فيه ومعرفة أنه الحق من ربهم، وأنه مبرأ من التناقض وسائر العيوب التي تعترى الكلام ـ إلى ما فيه من حجج دامغة، وبراهين ساطعة، إلى ما فيه من فضائل الآداب، وسامى الأخلاق، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه كانوا سادة البشر، واتبعهم الأسود والأحمر، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين.
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (14/ 494)
(2) تفسير المراغي (18/ 40)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/214)
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيان، وقال: والآن نريد من فتياننا المباركين أن يذكروا لي لفظا يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل، ترتبط بالتثبت والتحقيق.
قال أحد الفتيان: نراك تشير إلى [التبين]، وقد ورد في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 109]، وقوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]، وقوله: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64]، وقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 32]، وقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 15]، وقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: 19]، وقوله: ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 18]
قال آخر: وهو مصدر تبين إذا تثبت في الأمر، والتثبت في الأمر والتأني فيه، ويقال: تبينت الأمر أي تأملته وتوسمته، واستبنت الشي ء إذا تأملته حتى تبين لك.. والبيان: ما بين به الشي ء من الدلالة وغيرها.. وبان الشي ء بيانا: اتضح، فهو بين، وكذلك أبان الشي ء فهو
القرآن.. والهداية الشاملة (1/215)
مبين (1).
قال آخر: وقد قال بعضهم في تعريف البيان: (هو اسم جامع لكل شي ء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام فبأي شي ء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع) (2)
قال آخر: وذكر بعضهم المراحل التي يمر بها المتبين، فقال: (اعلم أن مراتب وصول العلم إلى النفس: الشعور ثم الإدراك ثم الحفظ ثم التذكر ثم الذكر ثم الرأي وهو استحضار المقدمات وإجالة الخاطر فيها ثم التبين وهو علم يحصل بعد الالتباس ثم الاستبصار وهو العلم بعد التأمل) (3)
قال آخر (4): ومن الأمثلة على دلالاته على هذه المعاني قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64]، أي وما أنزلنا عليك كتابنا، وما بعثناك به إلى عبادنا، إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله، فيعرفوا الحق من الباطل، وتقيم عليهم حجة الله التي بعثك بها، وهو هدى للقلوب الضالة، ورحمة لقوم يؤمنون به فيصدقون بما فيه، ويقرّون بما تضمنه من أمر الله ونهيه ويعملون به.. ذلك أن هذا الكتاب هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه، وأنه الهادي لهم إلى سبيل الرشاد.
قال آخر (5): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
__________
(1) لسان العرب (13/ 67 ـ 68)
(2) البيان والتبيين للجاحظ (1/ 76))
(3) الكليات للكفوي (1/ 89)
(4) تفسير المراغي (14/ 100)
(5) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 444)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/216)
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، أي أن هؤلاء المعاندين الذين شكوا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي آيات الله التي بين يديه، سيريهم الله آياته في الآفاق البعيدة عنهم، وفي ذات أنفسهم، وستكشف لهم هذه الآيات التي يرونها، أن هذا الرسول حق، وأن الكتاب الذي بين يديه حق.. و(آيات الآفاق) تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، فكل هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجودالله.. أما (الآيات النفسية)، فهي مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحير الذي يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم.. ثم أسرار الروح العجيبة.. كل ذلك كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.
قال آخر (1): وتذكر الآية الكريمة أن هذه العملية والإراءة مستمرة، لأن ﴿سنريهم﴾ فعل مضارع يدل على الاستمرار، وإذا عاش الإنسان مئات الآلاف من السنين، فسوف تنكشف له في كل زمان علامات وآيات إلهية جديدة، لأن أسرار العالم لا تنتهي.. ولهذا؛ فإن كافة كتب وبحوث العلوم الطبيعية ومايتصل بمعرفة الإنسان في أبعاده المختلفة (التشريح، فسلجة الأعضاء، علم النفس، والتحليل النفسي)، وكذلك العلوم التي تختص بمعرفة النباتات والحيوانات والهيئة والطبيعة وغير ذلك، تعتبر في الواقع كتبا وبحوثا في التوحيد ومعرفة الخالق جل وعلا، لأنها عادة ما ترفع الحجب عن الأسرار العجيبة لتبين قدرا من حكمة الخالق العظيم، وقدرته الأزلية، وعلمه الذي أحاط بكل
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 444)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/217)
شيء.
قال آخر (1): وهذا وجه من وجوه تأويل الآية الكريمة، وهناك وجه آخر، وهو إشارتها إلى إعجاز القرآن، فالله يريد أن يقول لنا من خلالها: (لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب، وإنما في نواحي العالم المختلفة، وفي هؤلاء المشركين أنفسهم، حتى يعلموا بأن هذا القرآن على حق)
قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25]، وهي تتحدث عن الذين تراجعوا عن الخط المستقيم من بعد وضوح مفاهيمه، وصفاء شريعته، واستقامة مناهجه، وهؤلاء هم الذين عاشوا داخل المجتمع الإسلامي وشاهدوا التجربة الإسلامية الواعية في صفائها ونقائها، لا سيما في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروحانيته، واستقامة سيرته التي هي المثل الأعلى للكمال الإنساني، فليست المشكلة في مواقفهم السلبية مشكلة عدم الوضوح في الرسالة، أو ضياع الخطوط التي تحدد فواصل القضايا، أو اختفاء النموذج الحي الذي يعبر عن طبيعة الواقع السليم، بل هي ما ذكره الله: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ [محمد: 25] فيما زينه لهم من أعمالهم السيئة فرأوها حسنة، أو ما أثاره في داخلهم من مطامع الأنانية الذاتية فيما يكيدون به للإسلام والمسلمين، ﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25] بما أوحى به إليهم من تطويل الأمل الذي يثير فيهم أحلام البقاء والامتداد في الحياة، حتى ينسيهم الموت، ويبعدهم عن الآخرة.
قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة:
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 446)
(2) من وحي القرآن (21/ 74)
(3) تفسير المراغي (6/ 79)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/218)
15]، أي يا أهل الكتاب إنا أرسلنا إليكم محمدا رسول الله وخاتم النبيين يبيّن لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها، وقد أنزلها الله عليكم، لكنكم لم تلتزموا العمل بها، وكذلك إخفاؤهم لصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات به، حيث حرفوها بالحمل على معان أخرى، زيادة على ما أضاعوه من كتبهم ونسوه كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من أخبار الحساب والجزاء في الآخرة، وأظهره الرسول لهم، وكانت الحجة عليهم فيه أقوى، إذ هم يعلمون أنه نبي أمي لم يطلع على شيء من كتبهم، ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان هذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزات القرآن التي لا ينبغى أن يمتري أحد فيها، ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا يخفونه، ولا يظهر الكثير مما يكتمونه، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه، فيكون ذلك داعيا لترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا ومن شأن علماء السوء في كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفا عن سوء حالهم، أو يحرّفوه بحمله على غير ظاهر معناه.
قال آخر (1): ثم قال بعدها: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 15]، فالنور هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسمي بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر، فكما أنه لولا النور ما أدرك البصر شيئا من المبصرات، كذلك لولا ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها أو نسيانه، وعبث الرؤساء بالبعض الآخر بإخفاء شئ منه أو تحريفه، ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون.. والكتاب المبين: هو القرآن الكريم
__________
(1) تفسير المراغي (6/ 80)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/219)
وهو بين في نفسه، مبين لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيات، وقال: والآن نريد من فتياتنا المباركات أن يذكرن اللفظ الذي يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل، لها علاقة بالبصر الحسي، وإن كانت غيره.
قالت إحدى الفتيات: نراك تشير إلى [التبصر] ومشتقاته، وقد ورد في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وبصيغ مختلفة، منها ما ورد بصيغة [البصائر]، كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [الأنعام: 104]، وقوله: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 203]، وقوله: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: 102]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 43]، وقوله: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية: 20]
قالت أخرى: ومنها ما ورد بصيغة [التبصرة]، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 7 ـ 8]
قالت أخرى: ومنها ما ورد بصيغة [أُولِي الْأَبْصَارِ]، كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: 13]، وقوله: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/220)
وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44]، وقوله: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]
قالت أخرى: ومنها ما ورد بصيغة [مُسْتَبْصِرِينَ]، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38]
قالت أخرى: وهو يعني تقليب البصيرة لإدراك الشي ء ورؤيته.. أو التأمل والفحص.. أو المعرفة الحاصلة بعد الفحص (1).. أو طلب معرفة الأمور على حقيقتها من خلال البراهين الحسّيّة الّتي يمكن للعين رؤيتها.
قالت أخرى: ومن الأمثلة على دلالاته على هذه المعاني قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [الأنعام: 104]، وقد روي عن الإمام الصادق أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103]، فقال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأنعام: 104] ليس يعني بصر العيون ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ [الأنعام: 104] ليس يعني من البصر بعينه ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 104] ليس يعني عمى العيون، إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب.. الله أعظم
__________
(1) بصائر ذوي التمييز 5/ 82
القرآن.. والهداية الشاملة (1/221)
من أن يرى بالعين) (1)
قالت أخرى (2): وهي تشير إلى وسائل الوعي الفكري والبصيرة القلبية، مما أوحى به الله إلى رسله، من كتب وتعاليم ودلائل، فيما أراد الله للإنسان أن يفكر فيه ويتأمله ويتعمق في دقائقه ليصل من خلاله إلى الهدى الذي يفتح له نوافذ المعرفة الفكرية والروحية، ويقوده إلى الصراط المستقيم في مسيرته العملية في الحياة.. وبذلك كانت قضية الرسالات قضية الإنسان فيما تستهدفه من رفع مستواه وتدبير أموره، وتحديد دوره الطبيعي في تنظيم شؤون الكون من حوله، ليبلغ السعادة في الدنيا، على أساس راحة الفكر والعمل والشعور، وينال السعادة في الآخرة على أساس ما يحصل عليه من جنة الله ورضوانه.
قالت أخرى (3): وفي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 104] إشارة إلى أنه إذا انطلق الإنسان، وفتح نوافذ قلبه على النور، ونظر بعين البصيرة إلى حقائق الكون والحياة، فإنه يحقق لنفسه الربح الكبير.. أما إذا أغلق قلبه عن النور، وأعمى عينيه عن رؤية الحقيقة فإنه لن يضر أحدا في ذلك، بل يضر نفسه، لأنه حرمها من آفاق الخير والسعادة والسلام، وتركها تتخبط مثلما يتخبط الأعمى عندما يسير في دربه، وذلك هو ما يؤكده القرآن في قضية العمى والبصر في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، لأن المسألة لديه هي مسألة الإنسان من الداخل، الإنسان، الفكر.. العقل.. الشعور، لا الإنسان الشكل، الجسد، لأن الله يريد للإنسان أن يتحرك بعقله ليحرك الحياة من حوله على هداه، ولا بد للعقل من أن ينفتح على كل نوافذ المعرفة فيما منحه الله من مفرداتها المتنوعة التي يدركها الحس، وفي ما أوحى الله به إلى رسله
__________
(1) الكافي، ج: 1، ص: 98.
(2) من وحي القرآن (9/ 257)
(3) من وحي القرآن (9/ 257)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/222)
من رسالة وكتاب، ليجتمع له من هذه وذاك الفكر الصائب المنفتح الذي يتفايض بالإشراق، وينطلق من منابع النور، ليخطط للحياة طريقها المستقيم كما يريده الله، وليثير ـ مع نفسه ـ آفاق الروح السابحة في آفاق الله.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: 102]، أي قال موسى عليه السلام لفرعون: (لقد علمت يا فرعون ما أنزل الله هذه الآيات التسع التي أريتكها إلا حجة لى على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لى على صدقي وصحة قولي إني رسول الله، بعثني بها رب السموات والأرض، لأنه هو الذي يقدر عليها وعلى أمثالها، وهي بصائر لمن استبصر بها، وهدى لمن اهتدى بها، يعرف من رآها أن من جاء بها فهو محق، وأنها من عند الله لا من عند غيره، إذ كانت معجزة لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: 102] أي وإني لأظنك يا فرعون مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 43]، والمقصود من (القرون الأولى) أي الأقوام السابقين.. وهو إشارة إلى الكفار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم.. لأنه بتقادم الزمان ومضيه تمحى آثار الأنبياء السابقين، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماوي جديد في أيدي البشر.. و(البصائر) جمع (بصيرة) ومعناها
__________
(1) تفسير المراغي (15/ 104)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (12/ 242)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/223)
الرؤية، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين.. و(الهدى) و(الرحمة) أيضا من لوازم البصيرة.. وعلى أثرها تتيقظ القلوب.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية: 20]، أي هذا القرآن الذي يشتمل على العقيدة والشريعة (بصائر للناس) يفتح عقولهم وقلوبهم على المعرفة التي يبصرون بها حقائق الحياة، ويدلهم على الصراط المستقيم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، فيعيشون في النور المعنوي المنطلق من أفق الوحي الحق، والمعرفة اليقينية، عندما يتخذونه وسيلة للإبصار، (وهدى) يهتدون به إلى سواء السبيل (ورحمة) فيما يختزنه من إيحاءات الرحمة الإلهية المتدفقة من ينابيع الخير في حياتهم، (لقوم يوقنون) يتحركون في طريق تحصيل اليقين، فلا يتوقفون أمام الشك ليتجمدوا عنده، بل يلاحقون كل مواقع المعرفة التي يمكن أن تزيل الحجاب عن الحقيقة.. وإذا كانت هذه البصائر تربط مصير الإنسان بعبوديته لله، فلا بد من أن تكون العبودية مقياسا لتقويم أعماله وحركته، باعتبار أن رضوان الله عن حركة عباده ومصيرهم متعلق بها.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 7 ـ 8]، إي إذا كان هؤلاء المعاندون الجاحدون قد كلّت أبصارهم عن أن ترى السماء وما فيها من دلائل القدرة، والحكمة، والعلم، فلينظروا إلى مواطئ أقدامهم.. إلى هذه الأرض التي يمشون عليها.. إنهم لو نظروا نظرا باحثا متفحصا لرأوا الأرض غير الأرض، ولرأوا فيها من آيات الله،
__________
(1) من وحي القرآن (20/ 323)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 469)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/224)
ودلائل قدرته وحكمته وعلمه، ما لم يروه، وهم يمشون فيها بعيون مقفلة، وقلوب فارغة، وعقول لاهية.. إنها كون فسيح ممدود إلى غايات بعيدة، تتجاوز هذا القدر المحدود الذي لا يتعدّى مواطئ أقدامهم، ولا يخرج عن محيط مغداهم ومراحهم.. وإن هذه الجبال التي تطاول السماء بين أيديهم، ليست مجرّد أكوام من الأحجار، بل هي أوتاد تمسك هذه الأرض أن تميد، وتضطرب بما عليها من موجودات.. وإن هذه الزروع والحدائق، والمروج التي تغطّى وجه الأرض، ليست إفرازا من إفرازاتها، وإنما هي حلل من الجمال، والبهجة والحسن، كساها الله سبحانه وتعالى بها، حتى تطيب للناس الحياة فيها، وحتى تفيض عليهم بهجة وحبورا، مما تنتعش به النفوس، وتسعد به القلوب، فلا يكون حظّ الإنسان من هذه الزروع مقصورا على الغذاء الذي يملأ البطون، كما هو حظ الحيوان، الذي لا يعنيه من أمر هذه الخيرات إلا أن يملأ بطنه منها.
قالت أخرى (1): وفي قوله تعالى: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8] بيان للعلة التي من أجلها قامت السموات والأرض على هذا النظام البديع المتقن، المحلّى بحلي الجمال والبهجة.. إن في هذا كله ما يفتح البصائر إلى مطالع الحق، ويمدّ العقول بكمالات المعارف الموصلة إلى الله، وذلك حين تصادف الإنسان الذي لم تفسد فطرته، ولم تنطمس بصيرته، ولم تستول على عقله الضلالات والسفاهات.. والعبد المنيب، هو العبد المستعدّ لقبول الخير حين يدعى إليه، ولاتباع سبيل الحق حين يستبين له وجهه.
قالت أخرى (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44]، أي في حركة الزمن التي يتبدل معها الليل إلى نهار، والنهار إلى
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 470)
(2) من وحي القرآن (16/ 339)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/225)
ليل، في نظام متقن دائم متواصل، لا يقف عند حد، ولا يتعثر أمام أية عقبة، لعبرة لأولي الأبصار الذين يرون في الظواهر منطلقا للتفكير والدرس والاعتبار، لا أداة للهو وللمتعة، وبذلك يلتقي عندهم البصر الداخلي الذي تجسده البصيرة بالبصر الخارجي الذي يمثل النظر.
قالت أخرى (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45]، أي واذكر ـ أيها النبيّ ـ وأنت تدعو نفسك إلى الصبر على ما تكره من قومك ـ اذكر فيمن تذكر من عبادنا الصالحين، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. فهؤلاء من ذوى الأيدى العاملة في كل مجال للخير والإحسان، ومن ذوى الأبصار الكاشفة عما في هذا الوجود من بعض جلال الله، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. إنهم لم يؤتوا ملكا وإنما أوتوا نبوّة، وهم لهذا إنما يعملون بأيديهم، ويسعون في تحصيل معاشهم بأنفسهم، لا يملكون سلطانا يعمل لهم العاملون فيه.. ثم إن لهم إلى جانب هذه الأيدى العاملة في الدنيا، أبصارا عاملة في التدبّر في ملكوت الله، والتسبيح بحمده.
قالت أخرى: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38]، أي أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة، وعقل كاف وفطرة سليمة.. وفيها إشارة إلى أنهم لم يكونوا جاهلين قاصرين، بل كانوا يعرفون الحق جيدا من قبل، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي، وأتم الأنبياء عليهم الحجة البالغة (2).
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1099)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (12/ 389)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/226)
التفت مدير المسابقة إلى قسم الفتيان، وقال: والآن نريد من فتياننا المباركين أن يذكروا لي لفظا يدل على وظيفة مهمة من وظائف العقل، وهي ترتبط بالفهم الصحيح العميق.
قال أحد الفتيان (1): نراك تشير للفقه، ومشتقاته، والذي ورد في القرآن الكريم للدلالة على وظيفة مهمة من وظائف العقل، وهي وظيفة إدراك المسائل الخفية، وتمييزها عن المسائل الجليّة.. أو هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، ومن ثم فهو أخص من العلم، كما قال تعالى: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78]
قال آخر (2): وقد ورد في القرآن الكريم بمعاني متعددة، كلها لها علاقة بالفهم، ومنها ارتباط الفهم بأحكام الشريعة بأنواعها المختلفة، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، أي لا بد للأمة من التنوع في سد الحاجات التي يتوقف عليها نموها وتطورها وحركتها الشاملة في الحياة، وربما كان في مقدمة ذلك الحاجة إلى المعرفة الدينية الشاملة التي تثير الوعي الديني المنفتح في واقع الناس، فيتحركون من خلاله إلى مواجهة قضاياهم العامة والخاصة من قاعدة إسلامية ثابتة تدفع بهم إلى تحويل المواقف إلى حركة حية للمفاهيم الإسلامية من جهة، وللأحكام الشرعية من جهة أخرى، وإلى صدق الانتماء إلى العقيدة والشريعة في كل شيء، فلا تبقى هناك أية ازدواجية بين ما هو الدين وما هو الحياة، كما يحدث للكثيرين الذين يجهلون دينهم في مفاهيمه وفي تفاصيل أحكامه.. وهذا ما جعل التفقه في الدين واجبا كفائيا على الأمة كلها، يفرض عليها أن تعد
__________
(1) مفردات الراغب (384)
(2) من وحي القرآن (11/ 241)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/227)
من أفرادها مجموعة تتكفل بالحصول على المعرفة الدينية الشاملة التي تجعل من حركة الإسلام في وعي الأمة وثقافتها حركة واعية تفرض نفسها على الساحة كلها حتى تجعلها إسلاما يتحرك في كل جانب واتجاه.. وهذا ما عالجته هذه الآية الكريمة التي أرادت للمؤمنين أن ينفر بعضهم إلى التفقه في الدين، عندما ينفر بعضهم إلى الجهاد، فلا يعتبروا الجهاد مهمة الأمة كلها إلا في الحالات الصعبة التي تحتاج فيها الأمة إلى كل الطاقات المقاتلة للدفاع عن وجودها أمام الأعداء.
قال آخر: ومثل ذلك ورد الفقه بمعناه العام المرتبط بالفهم والإدراك، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78]، فقد يموت الإنسان وهو في برج مشيّد، وقد ينجو منه وهو في قلب المعركة، لأن الإنسان مرهون بأجله الذي لا يتقدم ولا يتأخر ولو مقدار لحظة (1).. وفي الآية الكريمة تسفيه لتلك العقول الضالة التي يعيش بها هؤلاء المنحرفون الضالون.. إنهم لا يكادون يفقهون حديثا.. ولو كان لهم شئ من فقه الحديث، لكان لهم فيما جاءهم به النبي من كلمات الله، تبصرة وهدى، ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا (2)؟
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 65]، أي أن الله الرحمن الرحيم، منتقم شديد العقاب.. قادر
__________
(1) من وحي القرآن (7/ 362)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 840)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/228)
على أن يبعث على هؤلاء المشركين المحادين لله ورسوله، صواعق مهلكة من السماء، أو بحارا مغرقة من الأرض، أو أن يلبسهم شيعا، أي يجعلهم أهواء متفرقة، ومذاهب متقاتلة، يضرب بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض.. ثم قال: انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ونجعلها على وجوه شتى ليعتبروا ويتذكروا فينيبوا ويرجعوا ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها ويتجنبون التأمل فيها ـ ويلقونها وراء ظهورهم (1).
قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 98]، وهي تنبه العقول إلى فهم سر هذا الوجود الإنساني المتنوع في أشكاله وألوانه وطباعه ولغاته، وكيف انطلق؟ ومن أين؟ ومن هو الذي أنشأه؟.
قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65]، وهذا التعليل يبدو عجيبا لأول وهلة، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة!؟.. لكن الواقع هو أن العلاقة بينهما قريبة ومتينة، لأن المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم، ويؤمنون بنتائجه الإيجابية في هذا العالم، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في العالم الآخر، فهم يعلمون، لم يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟.. فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والإستقامة.. أما الذين لا يؤمنون
__________
(1) تفسير المراغي (7/ 127)
(2) من وحي القرآن (9/ 239)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 485)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/229)
بالله واليوم الآخر، فلا يعرفون لأي أمر يقاتلون؟ ولأجل من يجاهدون؟ وإذا قتلوا فمن يؤدي دية دمهم؟ فهم لتقليدهم الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا وراء هذه الأفكار، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على انهيار أعصابهم وتفت في عضدهم وثباتهم، وتجعل منهم كائنات ضعيفة.
قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 127]، وهي تصف حال المنافقين مع آيات الله، حين يستمعون إليها مع من يستمع إلى آيات الله من المؤمنين.. إنهم يلقونها بالشك والارتياب، حتى لتكاد تفضحهم ألسنتهم بما يدور في رؤوسهم، فينظر بعضهم إلى بعض، نظرات متلصصة، تبحث عن مهرب تهرب منه من بين يدى آيات الله، حتى لا ينفضح أمرهم بين يديها.. فإذا وجدوا فرصة مواتية للهرب انسلوا، وفروا مسرعين.. وفي قوله تعالى: ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 127] حكم عليهم من الله سبحانه وتعالى بأنه قد صرف قلوبهم عن الحق، وختم عليها أن ترى الهدى، وأن تطمئن إليه، لأنهم قوم لا يفقهون شيئا، ولا يفرقون بين نور وظلام، وهدى وضلال.
بعد انتهاء الفتيان من ذكر الآيات الكريمة التي تتحدث عن الفقه، قام بعض من في المنصة، وقال: والآن نريد من فتياننا المباركين وفتياتنا المباركات أن يذكروا لنا ألفاظا أخرى تدل على وظائف العقل، لا على التعيين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 923)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/230)
قامت إحدى الفتيات، وقالت: من الألفاظ الدالة على العقل كلمة [النُّهَى]، وقد وردت مرتين في القرآن الكريم؛ وهما: ﴿وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ [طه: 54]، وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ [طه: 128]
قالت أخرى (1): وكلمة (النُهى) تَعني (العقل)، وهي من مادة (نهي) على وزن (سَعْي) ويعني المنع من شي ء مأخوذ، وذلك لأنّ العقل ينهى عن الأعمال المشينة..
قالت أخرى (2):وبذلك فإن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ [طه: 128] أي في هذه المعارض من قدرة الله، المبثوثة في هذا الوجود آيات مبصرة لِأُولِي النُّهى، أي العقول الواعية، والبصائر المدركة.
قام أحد الفتيان، وقال: ومن الألفاظ الدالة على العقل في القرآن الكريم [الحِجْر]، وقد ورد ليدل على العقل مرة واحدة في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: 5]
قال آخر (3):: وسمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه ويحميه من الضلال والضياع، ومنه الحجر على السفيه، صيانة لما له، من تصرفاته الحمقاء.. ومنه سميت الحجرة، لأنها تحجر من يداخلها، وتحميه من الحر، والبرد، ومن أيدى اللصوص، ونظرات المتلصصين..
قال آخر (4): وقوله تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: 5] ورد بعد قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: 1 ـ 4]، وهي دعوة إلى أصحاب العقول أن ينظروا في هذه الأقسام التي تمجد من شأن الزمن، وتجعل من كل قطعة
__________
(1) نفحات القرآن، ج 1، ص: 111.
(2) التفسير القرآني للقرآن (8/ 800)
(3) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1550)
(4) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1550)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/231)
منه آية من آيات القدرة الإلهية، لا يراها إلا أصحاب العقول، ولا يدرك سر القسم بها إلا أولو البصائر والأبصار.
قامت إحدى الفتيات، وقالت: ومن الألفاظ الدالة على العقل كلمة [الشعور] ومشتقاته، والتي وردت في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]، وقوله: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: 111 ـ 113]، وقوله: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 55]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]
قالت أخرى: وقد قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 55]: (إشارة إلى المبادرة بالرجوع إلى الله، والتخلي الفوري عن مشاعر الإمهال والتسويف، من يوم إلى يوم، إذ لا يدرى المرء متى يحين حينه، ويأتيه أجله.. فقد يؤخر المرء التوبة إلى غد، ثم لا يأتى الغد إلا وهو في عالم الموتى. وقد يؤخر التوبة من صبح يومه إلى مسائه، فلا يكون في المساء بين الأحياء. فالمراد بإتيان العذاب هنا، هو وقوع الموت بالعصاة والمذنبين قبل التوبة.. فإتيان الموت لهم وهم على تلك الحال، إتيان بالعذاب الذي يبدأ دخولهم فيه منذ لحظة الموت.. وهنا تكون الحسرة والندامة، حيث لا تنفع حسرة، ولا تجدى ندامة!) (1)
قالت أخرى: وقال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1183)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/232)
أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]: (أي ولا تتحدثوا في شأنهم، فتقولوا: إنهم أموات، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر، بل هي حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وبها يرزقون وينعمون، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب، فنفوض أمره إلى الله، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها) (1)
بعد مشاهدتي واستماعي لتلك المسابقة الجميلة، لاح لي مسجد من بعيد.. فرحت أحث خطاي إليه، لأرى شكل المساجد في ذلك الزمان.. وكيف هم الأئمة.. وكيف هم المصلون؟
وقد خشيت في البداية أن تكون التقانة والتطور قد أثر في كل ذلك؛ فجلب للمصلين إماما آليا يصلي بهم الصلاة في أوقاتها، وبدقة عالية، وبدون أن يقع في أي خطأ يدعوه لسجود السهو.. أو أجد المصلين يصلون في بيوتهم، وعبر التواصل مع المساجد عن بعد.
لكني لم أجد كل ذلك.. بل وجدت المساجد عادية جدا.. بل إني وجدتها في عمرانها لا تختلف كثيرا عن مساجد قرانا البسيطة.. وكأن التطور قد مس كل تلك الحياة ما عدا عمران المساجد.
وقد جعلني ذلك أقترب من بعضهم، وأقول له: هل هانت مساجدكم عليكم إلى هذا الحد.. فأنتم متطورون في كل شيء إلا فيها؟
__________
(1) تفسير المراغي (2/ 23)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/233)
نظر إلي بابتسامة، وقال: سؤالك يدل على أنك من عصر آخر.. وإلا فإن المساجد محال لعبادة الله.. وهي لا تحتاج إلى شيء من الزخارف التي تلهي عباد الله عن عبادة الله.. بالإضافة إلى ذلك فقد ورد النهي عن زخرفة المساجد، ونحن نطبق سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ونحرص على أن تكون مساجدنا على نمط تلك المساجد التي كان فيها الصالحون من الأنبياء والهداة.
قلت: فأنتم تحرصون على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذن؟
قال: أجل.. ولولا ذلك ما حصل لنا كل هذا التطور والنظام الذي تراه.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66]
قلت: أجل.. ولكنها تتحدث عن إقامة الكتاب، لا عن إحياء ما تذكره من السنن.
قال: وهل يمكن إقامة الكتاب لمن أعرض عن السنن.. وهل يمكن إقامة الكتاب من غير اتباع.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]؟
قلت: بلى.. وقد سمعت كل الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم القرآن الكريم يدعون قومهم إلى اتباعهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ [طه: 90]
قال: أتدري سبب ذلك؟
قلت: ما سبب ذلك؟
قال: لأن الاتباع والاقتداء معراج عظيم من معارج الهداية.. ومن لم يركبه سيظل في الضلال المبين الذي لن يخرج منه أبدا.. إلا إذا تواضع ورضي باتباع من أمر الله باتباعه.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/234)
قلت: ولم كان الأمر كذلك؟
قال: هذه حكمة الله.. حتى لا يعرج في معارج الهداية إلا أصحاب القلوب السليمة والنفوس الطيبة الذين خلوا من الكبر والعجب والتجبر، وكل الحجب التي تحجبهم عن الهداية.
قلت: لقد ذكرتني بإبليس.
قال: أجل.. فإبليس رمز لمن أراد أن يعبد الله كما يريد، لا كما يريد الله.. لكن الله لعنه.. لأنه لم يحترم نظام الله وسننه في كونه.
ما قال ذلك حتى رأيت جموعا من المصلين يفارقون أماكنهم، ثم يجتمعون في حلقة كبيرة، مثل الحلقات التي نراها في عصرنا، ومن غير استعمال أي أدوات متطورة.
قال أحدهم، ويبدو أنه إمام ذلك المسجد: لقد اجتمعنا اليوم للحديث فيما ينبغي أن نهتم به كثيرا في بلدتنا هذه.. وهو الحرص على الدعوة لتطبيق الشريعة بكل تفاصيلها، وفي جميع مناحي الحياة، وبأعلى المراتب الممكنة.. والحمد لله الأرضية مهيأة لذلك، فقد رأت البشرية جميعا ثمار تطبيق الشريعة في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فبها تخلصت من كل الحروب والمظالم، وبها تحققت العدالة الإلهية التي شملت الأرض جميعا.. ولذلك نحتاج إلى المزيد من الحرص، حتى لا نقع فيما وقعت فيه عصور الظلام من تفريطها في شريعة الله.
قال أحد الحضور: إن أهم ما علينا فعله في هذه المرحلة هو تميز الحقائق عن الأهواء، لأن كل ما أصاب البشرية في عهودها المظلمة من مصائب كان بسبب الأهواء التي صرفتهم عن الشريعة وحملتها.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/235)
قال آخر: والحمد لله.. لقد جعل الله لنا مصدرين يمكننا أن نستند إليهما في ذلك التمييز.. فإذا عطلناهما، أو عطلنا أحدهما تسربت إلينا الأهواء من كل السبل.. أما أحدهما فشريعة ربنا، ومصادرها المقدسة، وأما الثاني، فالعقل السليم الذي أودعه الله فينا لنميز به بين الحق والباطل، ذلك العقل الذي لم تتلاعب به الأهواء، ولم يدنس بالشهوات.
قال آخر: لقد ضرب بعض الحكماء لكلا المصدرين مثلا، فقال: (اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس، والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس) (1).. ثم ضرب المثل له بالبصر والشعاع، فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر.
قال آخر: وضرب له المثل بالسراج والزيت، فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن زيت لم يحصل السراج وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا نبه الله سبحانه بقوله: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: 35])
قال آخر: ولذلك، فإن الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان، ولذلك سلب الله تعالى اسم العقل من المفتقر للشرع، فقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]
قال آخر: ولذلك سمى العقل دينا وشرعا من داخل، فقال في وصفه: ﴿فِطْرَتَ الله
__________
(1) معارج القدس في مدارج معرفه النفس (ص: 57)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/236)
الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: 30]، فسمى العقل دينا ولكونهما متحدين قال: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: 35] أي نور العقل ونور الشرع، ثم قال: ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 35] فجعلها نورا واحدا.
قال آخر: ولهذا ورد في القرآن الكريم التحذير من اتباع الأهواء الصارفة عن اتباع الشريعة.. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى مخاطبا اليهود، ومواقفهم من أنبيائهم: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: 87]، وقوله: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [المائدة: 70]
قال آخر: فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن اليهود، ضيعوا كلا المصدرين.. أما الأول، فعقولهم التي لم يحكّموها في التعرف على أنبيائهم الذين جاءوهم بالبينات الدالة على صدقهم.. وأما الثاني فشريعة ربهم التي جاءهم بها أنبياؤهم.. ولذلك سقطوا في هاوية الهوى، وصاروا كذلك الذي أعطاه الله عينين ليبصر بهما، وسراجا ليستضيء به، فأطفأ السراج، وأغلق عينيه، وراح يقتحم الظلمات.
قال آخر: ولذلك عقب الله تعالى على فعلهم ذلك بقوله: ﴿قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 88]، وذلك شيء طبيعي، فمن ابتعد عن إعمال عقله الإعمال المناسب، وابتعد عن الهداة والرسل الذين جاءوا بالبينات، فسيغلف على عقله وقلبه، وستتبعه اللعنة لا محالة، لأنه لا يكون في جوار الله إلا أصحاب العقول النيرة، والقلوب الطاهرة.
قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِن كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/237)
عِلْمٍ إِن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، فهذه الآية الكريمة تشير إلى استغناء العقل عن الشرع، أو استغناء العين عن السراج.. حينها يخبط خبط عشواء، ويتدخل فيما لا يعنيه.. ومثال ذلك مثال من ينشئ لنفسه قانونا خاصا للمرور، فيرتكب المخالفات؛ فإذا ما سئل عن ذلك، ذكر أنه لا يحب أن يملي عليه أي قانون لا ينسجم مع هواه.. مع أنه لا يمكن أن يكون هناك نظام في أي شيء من دون أن تكون هناك قوانين تحكمه.
قال آخر: وهكذا الأمر بالنسبة لما ذكرت الآية الكريمة؛ فهي تشير إلى أن المتحكم في التحليل والتحريم هو الله.. ذلك أن الملك ملكه، والعباد ضيوف عنده، فإن أباح لهم شيئا، أو حرمه، لم يكن على العباد سوى الخضوع لذلك، لأنه صادر من صاحب الملك والعلم والحكمة.
قال آخر: ولهذا اعتبر الله تعالى الجدال في ذلك، والافتراء على الله بتحليل الحرام، أو تحريم الحلال تدخلا من العقل فيما لا يعنيه، وهو يدل على أن مصدر ذلك هو الهوى.. وأن من يقوم بذلك شيطان من شياطينه، كما قال تعالى ـ معقبا على تلك الآية الكريمة ـ: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنهُ لَفِسْقٌ وَإِن الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الآلة التي يستعملها أهل الهوى وشياطينه هي الجدال، وهو التلاعب بالألفاظ والمعاني، ليصرفوا به عن الحق الواضح المنير، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الناسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: 8، 9]
قال آخر: ولذلك اعتبر الله تعالى أولئك الذين أعموا عقولهم عن شريعة ربهم، وهداتها، ومصادرها المقدسة، من الذين رموا بالسراج من أيديهم، ليخبطوا بعقولهم
القرآن.. والهداية الشاملة (1/238)
المجردة في الظلمات من غير أي دليل، كما قال تعالى ـ تعقيبا على الآيات السابقة ـ: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122]
قال آخر: ثم ذكر أن الذي يتولى هذا النوع من الهوى في كل قرية أو أمة كبار المجرمين والمضللين الذين ينتخبهم الشيطان للنيابة عنه في هذا الدور، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: 123]
قال آخر: والآية الكريمة تشير إلى أن أول ما يُميز به الحق عن الهوى هو البحث عن أولئك المجرمين المبدلين المغيرين الذين أخضعوا الدين للعقول المجردة، أو الأمزجة المتقلبة، ولذلك يذكر القرآن الكريم ذلك الصراع الذي يدور في ساحات القيامة بين التابعين والمتبوعين الذين تركوا عقولهم، وسلموها لساداتهم، فصاروا هم المتحكمين فيها، قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النارِ﴾ [البقرة: 166، 167]
قال آخر: وقد ضرب الله تعالى مثالا لأولئك المغيرين والمبدلين المضللين، وكيف انحرفوا عن الصراط المستقيم، واتبعوا أهواءهم، فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175، 176]
قال آخر: فهذه الآيات الكريمة تشير إلى المنبع الذي تصدر منه الأهواء، وهو التثاقل
القرآن.. والهداية الشاملة (1/239)
إلى الأرض، واتباع الشهوات، حتى يصبح الإنسان مثل الكلب الذي لا يعرف غير اللهث والنباح.
قال آخر: ولهذا يستعمل هؤلاء الذين وكل لهم الناس عقولهم، رسلا للشيطان يضل بهم الخلق عن ربهم، وعن هداتهم الحقيقيين، كما قال تعالى عن موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 41، 42]
قال آخر: ثم بين المنبع الذي جعلهم يقفون هذا الموقف، فقال: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان: 43]
قال آخر: وبين افتقاد هؤلاء للعقل السليم الذي يسمح لهم برؤية الحقائق، وتمييزها، فقال: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَن أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44]
قال آخر: وبذلك فإن أولئك الذين وقفوا محاربين للرسل عليهم السلام، لم يكن لهم حظ من العقل الداخلي، ولا من العقل الخارجي.. ذلك أنهم سلموا الأول لسادتهم وكبرائهم.. وأما الثاني فراحوا يستهزئون به، ويسخرون منه.
قال آخر: ولذلك طالبهم الله تعالى ببيان المصدر الذي جعلوه رائدهم في اتخاذ تلك المواقف، قال تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ الله هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِن الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 49، 50]
قال آخر: ولذلك اعتبر الله تعالى هؤلاء جميعا عبيدا لأهوائهم تتقلب بهم حيث
القرآن.. والهداية الشاملة (1/240)
شاءت، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23]
قال آخر: وفي مقابلهم أولئك الذين أعملوا عقولهم، ولم يعطلوها، وأعملوا شريعة ربهم، فلم يضيعوها، وبحثوا عن الهداة، ووصلوا إليهم، فهؤلاء لا يمكن أن يضلوا أبدا، ولهذا اعتبرهم الله تعالى على بينة من ربهم، فقال: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 14]
قال آخر: وقد أخبر الله تعالى أن السبب الأكبر الحائل بين الخلق والاستجابة للرسل هو الهوى، فقال: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِن الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 50]
قال آخر: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من مضلات الهوى، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) (1)، ويقول: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) (2)
قال آخر: وهكذا حذر أئمة الهدى منه، فعن الإمام علي أنه قال: (إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين الله) (3)
قال آخر: وبين علاقة ذلك بالتثاقل إلى الدنيا، فقال: (إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل واتباع الهوى.. فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا
__________
(1) رواه الترمذي (2/ 761 ـ 762)
(2) أحمد (4/ 042 ـ 423)
(3) نهج البلاغة: (ك 50)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/241)
من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل) (1)
قال الإمام: ولذلك؛ فإن الله تعالى ما أتاح للبشرية أن تنجو من كل الفتن التي مرت بها إلا بسبب اعتصامها بالله وحده، واكتفائها بشريعته عن كل شريعة، وبالحقائق التي ذكرها في كتابه عن كل الأباطيل التي وضعتها عقول البشر.
قال أحد الحضور: وقد كان يمكن للبشرية أن تنجو من كل تلك الظلمات لو أنها طبقت ما ورد في القرآن الكريم من تحذيرات من مخالفة هدي الله، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 100 ـ 101]
قال آخر (2): أحسنت.. ففي هاتين الآيتين الكريمتين دعوة للمؤمنين بأن يكونوا واعين للمخططات التي يرسمها أهل الكتاب من أجل إضلال المسلمين عن دينهم الحق، وذلك بإثارة الرواسب القديمة الكامنة في الأعماق، والتي استطاع الإسلام تجميدها في خطة طويلة لإزالتها نهائيا من النفوس، وذلك بتأكيد الإيمان في قلوبهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة، بحيث يتحول إلى جزء من الذات، بدلا من أن يكون فكرة ساذجة كامنة في بعض جوانبها.. فإذا أغفل المسلمون جانب الحذر، واستسلموا لمشاعرهم الساذجة، وشعروا بالأمن في حركات الكافرين من حولهم، أمكن لأولئك أن يجروهم إلى الوقوع في قبضة الجاهلية من جديد، فتتحرك الرواسب وتطفو على سطح الفكر والشعور،
__________
(1) فضائل الصحابة، للإمام أحمد (1/ 530) رقم (881)
(2) من وحي القرآن (6/ 179)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/242)
وتتحول إلى ممارسات خبيثة تذكي نار العصبية، وتطفئ نور الإيمان في القلوب.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 145 ـ 146]
قال آخر (1): ففي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145] كشف للمؤمنين عن هول هذا العذاب الذي يلاقيه المنافقون، وأنهم في الدرك لأسفل من النار، ينزلون منها للنزل الدّون، الذي بعده منزلة، الأئمة والكافرين.. وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 146] هو استثناء يفتح به باب الأمل والرجاء في النجاة من هذا المصير، لمن بقيت منه في كيان المنافقين بقية من خير، يستطيع بها أن يفتح له طاقة من نور يهتدى بها إلى طريق الله، فيرجع إليه، ويؤمن به، ويخلص دينه له، فلا يرجع إلى ما كان فيه مرة أخرى.. فإنه إن فعل كان في المؤمنين، وكان له ما للمؤمنين من الأجر العظيم الذي وعدهم الله به: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146]
قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 174 ـ 175]، ففي هذه الآية الكريمة دعوة عامة للناس جميعا، أن ينظروا في أنفسهم، وأن يدعوا هذا الضلال الذي هم فيه، وأن يلتفتوا إلى هذا الرسول الكريم، الذي هو برهان مبين، وحجة مشرقة لا يزبغ عنها إلا ضالّ، ولا يجحد بها
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 944)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1019)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/243)
إلا هالك، فإنها تحمل بين يديها، هذا النور السماوي، الذي فيه تبصرة لأولى الألباب، وهدى للمتقين!
قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175] بيان للآثار المترتبة على هذه الدعوة الكريمة من ربّ كريم.. فمن استجاب لها، وأقبل على الله مؤمنا، مخلصا له الإيمان به وحده، فهو في رحمته وفضله، وهو على نور من ربّه وهدى، لا يضلّ ولا يزيغ.. ومن كان هذا شأنه، وتلك سبيله، فالجنة مأواه، والنعيم نزله.. ومن صدّ عن سبيل الله، وحادّ الله ورسوله، فهو بعيد من رحمة الله، بعيد عن طريقه.. ومن كانت تلك صفته، فالجحيم مستقرّه، والنار مثواه.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]
قال آخر (2): ففي قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] نفي مطلق لكل صور الإكراه، المادية والمعنوية، التي تختل الناس عن الحق، وتحملهم حملا على معتقد لم يعتقدوه، ولم يجدوا من جهته مقنعا.. وليس هذا شأن الدين وحده، بل هو الشأن أو ما ينبغى أن يكون الشأن في حياة الإنسان كلها، لا يتلبس بأمر إلا بعد أن ينظر فيه، ويطمئن إليه، ويرضى عنه، فيقدم أو يحجم عن هدى وبصيرة، وهذا هو ملاك النجاح في كل أمر، ومنطلق الملكات الإنسانية كلها في وثاب وقوة، إلى أنيل.. ذلك أن تحرير ضمير الفرد من الضلال والعمى، وفك عقله من الضيق والإظلام، لا يكون إلا بتحرير إرادة الإنسان وإطلاقها من
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1019)
(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 318)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/244)
كل قهر أو قسر.
قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256] ليس قيدا واردا على إطلاق الحرية في الدين، وإنما هو تقرير لبيان الحال من أمر الدعوة الإسلامية، وهو أنه يجب ألا يطوف حول دعوتها طائف من القهر والقسر، إذ قد استبانت معالمها، ووضحت حدودها، وإن الذي ينظر في مقرراتها، وفي شواهدها وآياتها ثم لا يجد الهدى، ولا يقبل عليه، فلا سبيل إلى هداه، ولا جدوى من إيمانه! إنه في حساب الناس.. لا شيء.
قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256] إشارة إلى أن الذي يحترم عقله، ويكرم إنسانيته يأبى أن ينقاد للوهم، ويتعبد لآلهة من مواليد الباطل والضلال، إنه يجرى وراء سراب، ويتعلق بما هو أوهى من خيوط العناكب.. والموقف الصحيح الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان العاقل الرشيد، هو أن يعلو بعقله فوق هذه الأوهام، ويرتفع بإنسانيته عن هذا الهوان، وأن يجعل ولاءه وخضوعه لمن بيده ملكوت السموات والأرض، رب كل شئ، وخالق كل شئ.. وبهذا يمسك الإنسان بالسبب الأقوى، ويعلق بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبهذا تكتب له النجاة والسلامة.
قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 22]، فالمراد من تسليم الوجه إلى الله سبحانه، هو التوجه الكامل وبكل الوجود إلى ذات الله المقدسة، لأن الوجه لما كان أشرف عضو في البدن، ومركزا لأهم الحواس الإنسانية، فإنه يستعمل كناية عن ذاته.. والتعبير بـ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 320)
(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 320)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (13/ 56)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/245)
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [لقمان: 22] من قبيل ذكر العمل الصالح بعد الإيمان.. والاستمساك بالعروة الوثقى تشبيه لطيف لهذه الحقيقة، وهي أن الإنسان يحتاج لنجاته من منحدر المادية والإرتقاء إلى أعلى قمم المعرفة والمعنويات وتسامي الروح، إلى واسطة ووسيلة محكمة مستقرة ثابتة، وليست هذه الوسيلة إلا الإيمان والعمل الصالح، وكل سبيل ومتكأ غيرهما متهريء متخرق هاو وسبب للسقوط والموت، إضافة إلى أن ما يبقى هو هذه الوسيلة، وكل ما عداها فان، ولذلك فإن الآية تقول في النهاية: ﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 22]
قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: 43]، أي لا تتراجع عنه أمام هذا الجحود الذي يقابلونك به، أو هذه اللّامبالاة التي يواجهونك بها، فإن ذلك لا يسقط روح الرسالة، ولا يهزم مواقعها ولا يضعف من قدرتها، ما دمت تملك وضوح الرؤية للطريق الذي تسير عليه، وللهدف الذي تريد أن تقودهم إليه، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: 43] يؤدّي بك وبالناس من حولك إلى الله في خط رضوانه الذي يصل بهم إلى مواقع جنته.
بعد أن وصل الحديث بالإمام ومن معه إلى هذا الموضع، جاء شخص من الخارج، وقال: المركبة جاهزة.. ونحن في انتظاركم لزيارة المريض في المستشفى.. وقد أخبرناه بقدومكم جميعا.
سار الجميع، وسرت معهم، لنركب تلك المركبة التي ذكرها، والتي لم يسمح لي بوصفها بدقة، وهل كانت تسير، أو كانت تطير.. المهم أنها أوصلتنا وفي طرفة عين إلى
__________
(1) من وحي القرآن (20/ 244)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/246)
مستشفى ليس له من مستشفياتنا إلا الاسم، أما ما عدا ذلك؛ فمختلف تماما.
عندما وصلنا إلى الشيخ، والذي كان يبدو في حال المحتضر إلا أنه كان يملك قوة وعقلا يكفيان لأن أسمع منه ما يغني ويشفي.
قال الشيخ: شكرا جزيلا لحضوركم.. فقد عشت عمرا طويلا معكم، ولهذا أحببت أن أختمه كما بدأته معكم.. فالحياة معكم حياة مع الإيمان والتقوى والصلاح.
قال أحدهم: لقد جئناك لتوصينا ككل مرة.
قال الشيخ: أجل.. أنتم تعلمون أن الله تعالى ما فتح للبشرية أبواب الهداية إلا بعد أن تخلصت من كبريائها، وراحت تتبع رسل الله الذي أرسلهم لهداية خلقه، ولذلك لا نجاة لكم إلا بطرح أنفسكم وأهوائكم والحرص على الاتباع.
سكت قليلا، ثم قال: اسمحوا لي، فأنا لا أستطيع أن أتحدث كثيرا.. لكني أريد منكم أن تحفظوا عني ثلاث وصايا.. احفظوها وطبقوها وبلغوها.
قال أحدهم: فما أولها؟
قال الشيخ: أولها، أن تعملوا عقولكم، ولا تعطلوها، فالله ما خلقها لك، لتهبوها لغيركم، وإنما أعطاها لكم لتميزوا بها بين الحق والباطل، والخير والشر، ولهذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العقل والقلب عند الفتوى، فقال: (استفت قلبك، واستفت نفْسَك ثلاث مرات؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) (1).. ولهذا.. احذروا ـ عند البحث عن الحقائق ـ أن تلتفتوا للآباء والأجداد، فالله ما أمركم بأن تفكروا بعقولهم، وإنما أمركم بالتفكير بعقولكم.. ولهذا كان التفكير بعقولهم
__________
(1) رواه أحمد 18006 والدارميُّ 2533.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/247)
من أكبر الحجب التي حالت بين الأنبياء وأقوامهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]
قالوا: وعينا هذا.. فما الوصية الثانية؟
قال: الثانية أن تتمسكوا بكتاب ربكم المقدس، ذلك الكتاب العزيز الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]، فقد ورد في الحديث أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره أنها ستكون فتن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المخرج منها؛ فقال: (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لا تلتبس به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء.. من وليه من جبار فحكم بغير ما فيه قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن اتبعه هدي إلى صراط مستقيم) (1)
قالوا: وعينا هذا.. فما الوصية الثالثة؟
قال: الثالثة، وهي أدقها وأصعبها، أن تتمسكوا بالهداة الذين لم ينحرفوا عن الدين، ولم يتبعوا أهواءهم، أولئك الذين أشار إليهم قوله تعالى: ﴿هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6، 7].. ولا تتعبوا نفوسكم في البحث عنهم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحريص على أمته، لم يتركها من دون أن ينصحها بهم، ويحذرها من المحرفين المبدلين، وقد ورد في وصيته التي تواترت عنه، والتي جمع فيها بينهم
__________
(1) قال في جامع الأصول (8/ 464): رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه [فضائل القرآن]
القرآن.. والهداية الشاملة (1/248)
وبين كتاب الله، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تركت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي: كتاب الله حبلٌ ممدودٌ مِن السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (1)
قال ذلك، ثم سلم روحه إلى بارئها.. والعجب أني رأيت الجميع هادئين مطمئنين بعد أن رأوه يموت أمامهم، فلم أر منهم لا بكاء ولا صراخا ولا أي شيء آخر مما نراه عادة عند الموتى.
لقد اكتفوا بالدعاء وقراءة القرآن الكريم، ثم انصرفوا ليتركوا لأهل المستشفى أمر تجهيزه، والذي لم أتمكن من مشاهدة كيفيته.
لم أدر كيف خرجت من ذلك المستشفى، ولا حال أولئك الذين كانوا معي، لكن الذي أدريه أني وجدت نفسي أمام مدرسة عتيقة قد كتب على بابها [مدرسة الأنبياء]، فتعجبت من ذلك عجبا شديدا.
لكنه سرعان ما زال حين راح بواب المدرسة يخبرني أن دورها خاص بترسيخ اتباع الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتعميق الولاء لهم، وأن لها فروعا في جميع أنحاء العالم، وأن الكثير يلتحق بها على الرغم من شروطها المشددة.
استأذنته في الدخول، فقال لي بشدة: طبعا.. وليس لك إلا أن تدخل.. وإلا فارم أقلامك وقراطيسك، فلا يمكن لمن يريد أن يتعرف على هداية الله الشاملة أن يعرض عن
__________
(1) الحديث متواتر، وقد ورد بصيغ كثيرة رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم، وقد نص الألباني على صحته انظر حديث رقم: 2458 في صحيح الجامع.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/249)
الأنبياء الذين هم وسيلتها العظمى.
دخلت إليها، وفي ساحتها رأيت تلاميذ يجتمعون مع أستاذ لهم، وهو يقول: والآن، حدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]
قال أحد التلاميذ (1): الخطاب في الآية الكريمة كما هو ظاهر لآدم وحواء عليهما السلام، وإن كان يشمل الأمر بالهبوط إبليس أيضا، وهي تقول لهم: (في الأرض مستقركم وحركتكم ومسئولياتكم، فليست لكم الحرية في أن تتحركوا على مزاجكم فيما تفعلون أو تتركون، لأن عبوديتكم لله الذي خلقكم تفرض عليكم أن تخضعوا له، وتطيعوه في أوامره ونواهيه، وتسيروا على منهاجه، ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ [طه: 123] مما أوحي به إليكم من خلال رسلي في كل شؤونكم العامة والخاصة وفي ما يتصل بدوركم في رعاية الحياة من حولكم، ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: 38] وآمن بي وبرسلي وبرسالاتي وباليوم الآخر وعمل صالحا، فله الدرجة العليا عندي، وله النجاة في الآخرة، وله النعيم الخالد في الجنة، حيث الأمن والفرح والطمأنينة الروحية، ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13] إذ من يعيش في أمان الله، فممن يخاف؟ ومم يخاف؟ ومن ينفتح على فرح رضوانه، فكيف يحزن، وعلى ما ذا يحزن!؟.. والذين كفروا وجحدوا حقائق الإيمان، وكذبوا الرسل وانحرفوا عن خط الرسالات، فكذبوا بآيات الله الواضحة الجلية التي لا مجال فيها لإنكار منكر، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون دائمون، لأن الله قد أقام عليهم الحجة في توحيده وربوبيته، وأخذ عليهم العهد في الالتزام بالمضمون الحي لمعنى العبودية المنطلقة
__________
(1) من وحي القرآن (1/ 258)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/250)
من خلقه لهم، فأنكروا ذلك كله، فحقت عليهم كلمة العذاب في نار جهنم وبئس المصير.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125]
قال أحد التلاميذ (1): أي لا أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا لله وحده، وهو مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص، محسن للعمل متحلّ بأحسن الأخلاق والفضائل.. وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه، لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من إقبال وإعراض، وسرور وكآبة، وما فيه هو الذي يدل على ما في السريرة.. وقوله: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: 125] أي واتبع إبراهيم عليه السلام في حنيفيته التي كان عليها، بميله عن الوثنية وأهلها، وتبريه مما كان عليه أبوه وقومه منها، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزخرف: 26 ـ 27].. وقوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125] أي اصطفاه الله لإقامة دينه في بلاد غلبت عليها الوثنية، وأفسد الشرك عقول أهلها، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلا، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرا أن تتّبع ملّته وتأتسي طريقته.. والخلاصة: إنه منّ عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة وفنائه في التوحيد.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ
__________
(1) تفسير المراغي (5/ 166)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/251)
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 88 ـ 90]
قال أحد التلاميذ (1): هذه الآية الكريمة تشير إلى الفضل الذي تفضل الله به تعالى على إبراهيم عليه السلام، ومن اجتباهم الله من ذريته، وأن ذلك لم يكن إلا من هداية الله لهم، وشرح صدورهم للإيمان به، ولولا ذلك لما كانوا من المهتدين.. وقوله ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ إنكار للشرك، ووعيد للمشركين، وأنه مما يجب على الإنسان العاقل أن يحذره كما يحذر النار التي تمد ألسنتها لتعلق به، وأن هؤلاء المكرمين من عباد الله لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالإيمان بالله، ولو أنهم كانوا من المشركين لما نالوا شيئا من هذا، ولكانوا من الخاسرين.. وهذا يعنى أن الهدى وإن كان من الله الذي يهدي به من يشاء من عباده، فإن ذلك لا يعفى الإنسان من أن يطلب الهدى، ويلتمس مواقعه، كما يطلب تحصيل الرزق ويلتمس وجوهه، وألا يسلم نفسه إلى التواكل والاستنامة، الأمر الذي لا ترضاه البهائم لنفسها، ولا تتخذه موقفا لها في الحياة، وإلا هلكت، وماتت جوعا، مع أن الله سبحانه وتعالى، كفل لها رزقها، وضمن لها معاشها.. فالموقف السلبي أو العنادى من سنن الله، هو الذي يخرج الكائنات عن طبيعتها، وفي هذا ضياعه، وفساد أمره.
قال آخر (2): وهؤلاء رسل الله، والمصطفون من عباده.. إنهم لو أهملوا عقولهم، وعطلوا ملكاتهم، لما فتح الله لهم طريق الهداية، ولما يسر لهم التعرف إليه، ولكنهم أخذوا بالوسائل الموصلة إلى الهدى، فأخذ الله بنواصيهم إليه، ومكن لهم من الإيمان.. ولو أنهم كانوا على مثل هذا الموقف الذي وقفه ويقفه المشركون والكافرون، لكانوا في مربط الشرك والكفر، ولضلوا وضل عنهم الطريق إلى الله، وإلى صراطه المستقيم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 231)
(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 232)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/252)
قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88] إشارة إلى أن الأعمال التي يعملها الإنسان من شأنها أن تكون درعا يحميه، ووقاية يتقى بها ضربات الحياة، أما أعمال المشركين فإنها سراب خادع، يتخلى عنهم وقت الحاجة والشدة.
قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [الأنعام: 89] إشارة إلى هؤلاء الأنبياء والرسل الذين ذكروا في الآيات السابقة، فبعضهم آتاه الله الكتاب، فكان رسولا بهذا الكتاب الذي بعثه الله به، وبين فيه أحكام شريعته.. وبعضهم أوتي الملك والحكم، وهو نعمة من نعم الله، وسلطان مبين يقيم به ميزان العدل والحق بين الناس، فيهدي ضالهم ويقوم سفيههم، ويحفظ أمنهم وسلامتهم.. وتلك رسالة لها خطرها وأثرها في إصلاح المجتمع الإنسانى، الأمر الذي جاءت به وله رسالات السماء.
قال آخر (3): أما قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]، فهو يشير إلى أن أصول الدعوة التي قام بها الأنبياء عليهم السلام واحدة، بالرغم من وجود بعض الاختلافات الخاصة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق، بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إلى المرحلة النهاية، أي الإسلام.
قال آخر (4): أما المقصود من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتدي بأولئك الأنبياء عليهم السلام فهو يشمل التوحيد وسائر الأصول العقائدية، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأصول
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 232)
(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 232)
(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 370)
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 370)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/253)
الأخلاقية والتربوية.. وهذا يدل على أن كون الإسلام ناسخا للأديان والشرائع السابقة، يشمل جانبا من أحكام تلك الشرائع لا الأصول العامة للدعوة.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15 ـ 16]
قال أحد التلاميذ (1): في هاتين الآيتين الكريمتين بيان لما يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الكتاب من حق يصححون به ما أخفوا من أحكام الكتاب الذي في أيديهم، وما غيروا وبدلوا.. وأن كثيرا مما أخفوه وحرفوه قد تجاوز القرآن الكريم عنه، وترك الخوض معهم فيه، حتى لا يدخل معهم في طريق طويل من الخلاف والجدل، وإنما كان الذي اهتم له القرآن الكريم، ووقف عنده، هو ما كان من الأصول العامة في العقيدة، وهو ما يتصل بالألوهية، وعزلها عن كل ما دخل على مفهومها من ضلال وبهتان.. هذه هي قضية الإسلام الأولى، فإذا استقامت استقام كل شئ بعدها.
قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 15] وصف لهذا الكتاب الكريم، وما يحمل إلى الناس من نور هو نور الحق، المهدى من السماء، لينير للناس سبلهم إلى الله، وليبدد الظلام الذي يحجبهم عن الرؤية الصحيحة للحق والهدى.. ووصف الكتاب بأنه نور، ثم وصفه بأنه كتاب مبين، هو غاية ما يمكن أن تكون عليه دعوة الحق في جلالها، ووضوحها، وإشراق شمسها، وأن من لا يرى الحق في وجه هذه الدعوة،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1059)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1060)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/254)
ولا يتناوله منها، هو أعمى أو متعام، ليس لدائه دواء.
قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: 16] يعني طرق الحق، التي يأمن سالكها من كل عطب، ويسلم من كل سوء.. وهو يعني أن الله سبحانه يهدي بهذا الكتاب إلى سبل السلام من اتبع رضوان الله، وابتغى مرضاته، فجاء إليه مستشفيا من دائه، مستطبا لعلته، مستهديا لبصره وبصيرته.. أما من أعرض مستكبرا، ولوى وجهه جاحدا، فهو وما اختار لنفسه، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت: 17]
قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 16] بيان لفضل الله ولطفه بعباده الذين يوجهون وجوههم إليه.. إذ كانت عناية الله إلى جوارهم، تمسك بهم على الطريق، وتسدد خطاهم إلى الغاية التي يجدون عندها الأمن والسلام.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50]
قال أحد التلاميذ (3): في هذه الآية الكريمة يُؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقدم نفسه لمن أرسل إليهم باعتباره بشرا مجردا من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة، وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء.. لا ثراء.. ولا ادعاء.. فهي عقيدة يحملها رسول، لا يملك إلا هداية الله، تنير له الطريق، ولا يتبع إلا وحي الله
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1060)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1060)
(3) في ظلال القرآن: (2/ 1097)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/255)
يعلمه ما لم يكن يعلم.. إنه لا يقعد على خزائن الله، ليغدق منها على من يتبعه، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن، ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكا.. إنما هو بشر رسول وإنما هي هذه العقيدة وحدها، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة.. إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة، وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة، وإلى الله؛ فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف.. من أرادها لذاتها فهو بها حقيق، وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة، ومن أرادها سلعة في سوق المنافع، فهو لا يدرك طبيعتها، ولا يعرف قيمتها، وهي لا تمنحه زادا، ولا غناء.. لذلك كله يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقدمها للناس هكذا، عاطلة من كل زخرف، لأنها غنية عن كل زخرف وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال، ولا إلى وجاهة دنيا، ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى، إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 106]
قال أحد التلاميذ (1): أي لا تتنازل، ولا تأخذ فكرا غير الفكر الذي يوحي به الله، ولا تسلك طريقا غير طريقه، ولا تلتزم بشريعة أخرى غير شريعته، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 106] فهو الذي يستحق العبودية دون سواه، وهو الذي يملك التشريع دون غيره، أما الآخرون كل الآخرين، الذين يشرعون الشرائع ويقننون القوانين، ويرون لهم الحق كل الحق في عبادة الناس لهم، فهم مخلوقون له، وهو الخالق لهم، فكيف يتبع الإنسان وحي المخلوقين ويترك وحي الخالق؟ ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94] ولا تلتفت إليهم،
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 261)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/256)
ولا تفكر كثيرا بهم، ولا تتعقد منهم.. إنهم مجرد مرحلة صعبة من مراحل الدعوة، ثم يتراجعون ويتساقطون واحدا بعد الآخر.. وتنطلق المسيرة في موعد الشروق وتترك وراءها كل خطوات الظلام وتهاويله، فسر في طريقك، وواصل جهادك فإن الله بالغ أمره.. وهكذا أراد الله لرسوله، ولجميع الدعاة من بعده، أن ينتصروا على كل وسائل الهزيمة النفسية، وكل أساليب التراجع الفكري والروحي.. فأعرض عن المشركين، واتبع ما أوحى إليه ربه، وتابع المسيرة، وواصل الدعوة إلى الله وجاهد في سبيله.. حتى واجه المشركين بالحرب.. وهزمهم شر هزيمة.. وفتح قلوبهم على الإيمان بالصبر والجهد والحكمة.. وبدأ الناس، من خلال ذلك، يدخلون في دين الله أفواجا.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]
قال أحد التلاميذ (1): أي إن طريقي هذا هو طريق التوحيد، طريق الحق والعدل، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه، واتبعوه، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة، فتؤدي بكم إلى الانحراف عن الله وإلى الاختلاف، والتشرذم، والتفرق، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 203]
قال أحد التلاميذ (2): أي أن هؤلاء المشركين إذا لم تأتهم بآية مما يقترحون عليك من
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 509)
(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 551)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/257)
آيات، قالوا لك: هلا اجتبيتها، أي اخترتها أنت بنفسك من بين تلك الآيات التي كانت تتنزل على الرسل السابقين، كناقة صالح، وعصا موسى، ويده، ومعجزات عيسى في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؟.. فهذه الآيات وأمثالها هي التي نطلب إليك أن تأتينا بواحدة منها أو مثلها، ونحن لا نشق عليك بأن نطلب إليك آية بعينها، بل نترك ذلك لك، لتتخير الآية التي تقدر عليها.. وليس ذلك منهم عن صدق وجد، وإنما هو استهزاء، وسخرية، وتحد وقاح للنبى، وإظهاره بمظهر المغلوب على أمره في تحدبهم له..
قال أحد التلاميذ (1): وقد أمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن يلقاهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأعراف: 203] أي أنني لست إلا رسولا من الله إليكم، أبلغكم ما أرسلت به، وأنه ليس مما لى أن آتى لكم بما لم ينزله على ربى، ويأذن لى به.. ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 50].. فلو أنكم أيها المشركون قدرتم الله حق قدره لما جعلتم إلى عبد من عباد الله ـ ولو كان رسولا من رسله ـ أن يكون له شأن مع الله، وأن يأتى بآيات ومعجزات لم يضعها الله سبحانه في يده، ولم يأذن له بها.. ثم ما لكم ـ أيها المشركون الضالون ـ تطلبون الآيات، وتقترحون منها ما تمليه عليكم أهواؤكم؟ وهذا كتاب الله، وتلك آياته بين أيديكم لو أنها وجدت منكم آذانا صاغية، وقلوبا واعية، لاستغنيتم بها عما تطلبون من آيات مادية تلمسونها بأيديكم، فتبهر عقولكم بأفعالها القاهرة المعجزة؟
قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)﴾ [الأعراف: 203] إشارة إلى أن كل آية من آيات الكتاب الكريم معجزة قاهرة متحدية، تخشع لجلالها القلوب، وتعنو لروعتها الوجوه، ولكن لا ينكشف منها هذا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 551)
(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 552)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/258)
الجلال، ولا تتبين منها تلك الروعة إلا لأصحاب البصائر السليمة، التي تتهدى إلى الحق، وتتبع آثاره، وتستجيب لدعوته.. وهذا لمن يؤمنون بها، ويصحبونها على وفاق، لا لمن يمكرون بآيات الله، ويتخذونها لهوا ولعبا.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15]
قال أحد التلاميذ (1): في هذه الآية الكريمة بيان للعرض السخيف الذي واجه به المناوئون القرآن الذي يتلى عليهم.. ذلك أنهم كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما أن يستبدل القرآن بكتاب آخر، أو يبدله، والفرق واضح بين الاثنين، ففي الطلب الأول كان هدفهم هو اقتلاع وجود هذا الكتاب تماما ليحل محله كتاب آخر من طرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما في الطلب الثاني فكانوا يريدون على الأقل أن تبدل الآيات التي تخالف أصنامهم حتى لايشعروا بأي ضيق وانزعاج من هذه الناحية.. وقد أجابهم القرآن الكريم بلهجة قاطعة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس له أي اختيار وتصرف في التبديل، ولا التغيير، ولا تسريع نزول الوحي أو تأخره.. وندرك من ذلك حماقة وغباء هؤلاء، فهم يقبلون بالنبي الذي يتبع خرافاتهم وأهواءهم، لا القدوة والمربي والقائد والدليل.
قال آخر (2): ومما يستحق الانتباه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإجابة عن الطلبين اكتفى بذكر عدم القدرة بتنفيذ الطلب الثاني، وقال: إني لا أستطيع أن أغيره من تلقاء نفسي، وبهذا البيان يكون قد نفى الطلب الأول بطريق أولى، لأن تغيير بعض الآيات إذا كان خارجا عن حدود
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 319)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (6/ 320)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/259)
صلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل بامكانه تبديل كل هذا الكتاب السماوي؟.. وهذا نوع من الفصاحة في التعبير، حيث أن القرآن الكريم يعيد ويكرر كل المسائل في غاية الضغط والاختصار في العبارة، بدون جملة أو كلمة زائدة إضافية.
قال المعلم: أحسنتما.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 21]
قال أحد التلاميذ (1): أي إذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع، لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم: إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح.. فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هي من حبائل الشيطان ووساوسه فقال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 21] أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل؟.. فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترهات الأباطيل، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس، لا تستند إلى حجة ولا برهان.. والخلاصة: أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال؟.. وفي هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم، وأنهم بلغوا الدرك الأسفل في هدم العقل، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته، واستقامت محجته.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 17 ـ 18]
قال أحد التلاميذ (2): أي أن هذه البشرى بالنجاة والفلاح إنما ينالها عباد الله الذين
__________
(1) تفسير المراغي (21/ 89)
(2) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1136)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/260)
يستضيئون بنور الله ويتدبرون ما يقع لأسماعهم من كلمات، فيميزون الخبيث من الطيب، والضلال من الهدى، ثم يؤديهم هذا إلى أن يستجيبوا لكل ما هو طيب، وأن يتبعوا كل ما هو هدى ورشاد.. فإنهم إن فعلوا ذلك كانوا من عباد الله المهتدين، الذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وأخذوا طريقهم المستقيم، السالك بهم إلى جنات النعيم.. ثم كانوا مع هذا ـ أو قبل هذا ـ أصحاب عقول، يعيشون بها في صورة بشرية كريمة.
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 55]
قال أحد التلاميذ (1): أي أن هناك أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء عزوجل، البعض منها واجب والآخر مستحب، والبعض الآخر مباح، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات والمستحبات، مع الإنتباه إلى تدرجها.. وفيها أيضا إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة، بدليل ما ورد في قوله تعالى في هذه السورة: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]
قال أحد التلاميذ (2): في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤت مجرد آيات، وبينات من الدين، وإنما أوتي الدين كله، وأنه قد جعل القائم على شريعة هذا الدين،
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 121)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 239)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/261)
حيث يرد الواردون إليه، فيجدون الري من هذا المورد، ويحمل كل وارد ما استطاع حمله منه.. وفي تشبيه الشريعة الإسلامية بمورد الماء، إشارة إلى أن القرآن الكريم، الذي هو مصدر هذه الشريعة، هو شئ واحد، أشبه بالماء.. طبيعة واحدة، لا يختلف بعض عن بعض من حيث هو ماء يرده الواردون للسقيا منه.. وكذلك آيات الله وكلماته، كلها على سواء في جلالها وإعجازها وما فيها للأرواح من حياة.. ويشير كذلك إلى أن إعجاز القرآن، يبدو في كل آية من آياته، كما يبدو في القرآن كله.. كالماء تكشف القطرة منه عن جوهره كله..
قال المعلم: أحسنت.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]
قال أحد التلاميذ (1): أي أن رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي في الخط الذي تحركت به رسالات الأنبياء السابقين، كما أن دوره هو دورهم في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك ليس لكم ـ معشر المشركين المناوئين ـ أن تفرضوا ما توحي به خيالاتكم وأوهامكم من دور للنبي وشخصيته وقدرته على تغيير الواقع الكوني وحركة الكون ونظامه، فليس لذلك أي موقع في ساحة الحقيقة الرسالية، ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9] أي: لست ـ فيما أملكه من طاقة المعرفة ـ أعلم الغيب، لأن للغيب أدواته وأسبابه ووسائله التي لا أملكها بصفتي الذاتية كإنسان، ولا بصفتي الرسالية كنبي فيما تفرضه طبيعة الرسالة من دور للرسول، لأن الرسول يتحرك على ضوء التعليمات الإلهية التي ينزل بها الوحي عليه، مما يلقي الله إليه من علمه، ومما يفتح عليه من غيبه، فإن طاقاته
__________
(1) من وحي القرآن (21/ 17)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/262)
محدودة بما يمنحه الله منها.. ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأحقاف: 9] فالوحي هو الذي يحدد لي خط الحركة، وهو الذي يحدد لي الخطوات من البداية إلى النهاية، ﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9] أبلغكم آيات الله وأثير في قولكم معانيها، لتكون نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وذاك هو كل شيء في الدور، وفي الحركة، وفي الهدف.
قال آخر (1): والآية الكريمة لا تعني انتفاء علم الأنبياء بالغيب من خلال الوحي الذي يحمل إليهم بعض غيب الله، كما جاء في حديث القرآن عن عيسى عليه السلام مما كان يتحدث به مع بني إسرائيل: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: 49]، وكما جاء في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26 ـ 27]، وهذا ما تؤكده الآية القائلة: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأحقاف: 9]، فالوحي هو مصدر معرفة النبي في قضايا العقيدة والشريعة والحياة والدار الآخرة، ضمن ما يريد الله له أن يعلمه لحاجة الرسالة إليه في ساحتها العامة والخاصة.
قال المعلم: أحسنتما.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 161 ـ 163]
قال أحد التلاميذ (2): أي قل أيها الرسول لقومك ولسائر البشر: إن ربي أرشدنى بما أوحاه إلى بفضله، إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اشتباه، يهدي سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه فتقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].. وقوله: ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: 161] يعني أن هذا الصراط المستقيم هو
__________
(1) من وحي القرآن (21/ 17)
(2) تفسير المراغي (8/ 89)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/263)
الدين الذي به يقوم أمر الناس في معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون.. وقوله: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: 123] أي الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل.. وقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123] أي إنه منزه عن الشرك وما عليه المبطلون، وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين إنهم على ملة إبراهيم وهم يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولليهود الذين يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى الذين يقولون: عيسى ابن الله.
قال آخر (1): وقوله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162] إشارة لكل الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته، ويكون فيها الإخلاص لله رب العالمين.. فينبغى للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله، فيتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله، ويطلب الكمال في ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضى ربه، ولا يحرص على الحياة لذاتها، فلا يرهب الموت، فيمتنع عن الجهاد في سبيل الله، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل فيأخذ على أيدى أهل الجور ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قال المعلم: أحسنتما.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 52 ـ 53]
قال أحد التلاميذ (2): أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك هذا القرآن رحمة
__________
(1) تفسير المراغي (8/ 89)
(2) من وحي القرآن (20/ 204)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/264)
من عندنا.. ثم بين حال نبيه قبل نزول الوحي بقوله: ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان﴾ فلم تكن لديك أية معرفة ذاتية بالكتاب الذي أنزله الله على رسله من التوراة والإنجيل، وغيرهما حتى عرفك الله منه ما أراد لك أن تعرفه، أو بالقرآن الذي أرسلك الله به حتى أنزله عليك، ولم يكن لديك أية ثقافة شخصية في حدود الإيمان وشرائعه وحركته وما يتعلق به، حتى جاءك الوحي ليحدد لك كل ذلك، في وعي تفصيلي كامل.. وهذا ما يؤكد لنا أن المعرفة النبوية لم تكن مخلوقة مع النبي في ذاته، بل هي شيء مكتسب من الله منفصل عن عملية خلقه، وعن بداية نبوته، وليس معنى ذلك أنه لا يملك المعرفة الواعية من خلال تأملاته وتجاربه وألطاف الله التي تحيط به، بل إن معنى ذلك، هو التكامل التدريجي في شخصيته الروحية والفكرية، بالمستوى الذي لا يبتعد فيه عن معنى العصمة.. وهذا ما نستوحيه من أكثر من آية من القرآن، وتلك هي عظمة النبوة في النبي، حيث فتحت له آفاقا واسعة لم يكن له عهد بها، لو لم يعهدها الناس فيه، مما يدل على أن المسألة لم تكن حالة ذاتية، بل كانت شأنا رساليا إلهيا.
قال آخر (1): وقوله: ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 53] يعني أهذا الطريق هو الطريق الذي شرعه الله مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقب لحكمه.. ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53] أي ألا إن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله لا إلى غيره، فيضع كلا منهم في موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم.. وفي هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم، ووعيد للظالمين.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثوني عن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
__________
(1) تفسير المراغي (25/ 65)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/265)
اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]
قال أحد التلاميذ (1): أي قل لجميع البشر من عرب وعجم إني رسول الله إليكم كافة لا إلى قومى خاصة، وهو بمعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28] وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19] أي وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
قال آخر (2): وقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [الأعراف: 158] أي إن الله الذي أنا رسوله هو من له التصرف في السموات والأرض وتدبير العالم كله، إذ وحدة النظام في جملة المخلوقات وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو.
قال آخر (3): وقوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ﴾ [الأعراف: 158]، أي فآمنوا أيها الناس جميعا بالله الواحد في ربوبيته وألوهيته الذي يحيى كل ما تحله الحياة ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر مشاهد كل يوم.. وآمنوا برسوله النبي الأمي الذي بعثه في الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين، يعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل والتفرق والتعادي ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشري العام، وقد بشر بهذا النبي الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس.
قال آخر (4): ثم وصف بكونه النبي الذي لا يكتفي بدعوة الآخرين إلى هذه الحقائق
__________
(1) تفسير المراغي (9/ 84)
(2) تفسير المراغي (9/ 84)
(3) تفسير المراغي (9/ 85)
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 255)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/266)
فحسب، بل يؤمن هو في الدرجة الأولى ـ بما يقول، يعني الإيمان بالله وكلماته ﴿الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾ [الأعراف: 158].. إنه لا يؤمن فقط بالآيات التي نزلت عليه، بل يؤمن بجميع الكتب الحقيقة للأنبياء السابقين.. وإيمانه بدينه والذي يتجلى من خلال أعماله وتصرفاته دليل واضح على حقانيته، لأن عمل الآمر بشيء يعكس مدى إيمانه بما يأمر به ويدعو إليه، وإيمانه بقوله أحد الأدلة على صدقه.. وتأريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برمته يشهد بهذه الحقيقة وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أكثر من غيره التزاما بالتعاليم التي جاء بها.
قال آخر (1): ثم تختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، أي لابد لكم من اتباع مثل هذا النبي حتى تسطع أنوار الهدايه على قلوبكم، لتهتدوا إلى طريق السعادة.. وفي هذا إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد الإيمان، وإنما يفيد الإيمان إذا إقترن بالإتباع العملي.
قال المعلم: أحسنتم.. وبارك الله فيكم.. والآن يمكنكم الانصراف إلى ما شئتم من الراحة واللعب.. لقد اطمأننت إلى أن الله سيحفظ هذا الجيل مثلما حفظ ما قبله من الأجيال ما دام يرجع للقرآن الكريم ليستوحي منه كل الحقائق.
لست أدري كيف سرت في أرجاء تلك المدرسة إلى أن وجدت منفذا ممتدا منها، ظننت في البداية أنه منفذ ممتد إلى خارجها، لكني وجدته منفذا ممتدا إلى مدرسة أخرى تشبهها تماما، وكأنها هي عينها.. وقد وجدت على بابها مكتوبا [مدرسة الإمامة والوراثة]
ما إن وصلت إليها، حتى أمسك البواب بيدي، وقال: الحمد لله.. ها قد وصلت
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 255)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/267)
أخيرا.. الشيوخ في انتظارك.
قلت: لم؟
قال: لقد كنت في مدرسة النبوة والرسالة.. ولا يمكن أن تخرج منها ما لم تمر على مدرسة الإمامة والوراثة.
قلت: لم؟
قال: لأن هناك سبلا تمتد من مدرسة النبوة والرسالة، لكنها لا تؤدي إلى الله، وإنما تؤدي إلى الشياطين وأئمة الضلالة.. لذلك فإن الله تعالى برحمته وفر هذا المنفذ لمن يريد أن ينجو بنفسه.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]؟
قلت (1): بلى.. وهي تعني أن طريق الله هو طريق التوحيد، وطريق الحق والعدل، وطريق الطهر والتقوى.. فامشوا فيه، واتبعوه، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة، فتؤدي بكم إلى الانحراف عن الله وإلى الاختلاف، والتشرذم، والتفرق، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق.
قال (2): وهي الوصية العاشرة من الوصايا الواردة في آخر سورة الأنعام، التي لا تحوي مضمونا معينا لفعل خاص من أفعال الإنسان، بل هي تشمل كل حياته، فهي دعوة لتحديد الطريق التي يسلكها على أساس الهدف الذي يستهدفه، فإذا كان الله، هو هدف وجوده، فيما يريد أن يبلغه من رضوانه، ويصل إليه من جنته، فإن هناك طريقا واحدا يصل به إلى هذا الهدف، لا يوجد غيره، ولا سبيل سواه، وهو الطريق المستقيم، الذي يبدأ من
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 509)
(2) من وحي القرآن (9/ 377)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/268)
الإيمان بالله وينتهي بنيل رضاه.. أما إذا كان الهدف هو الشيطان، فهناك أكثر من طريق للأهواء والشهوات والأطماع، وهناك آلاف السبل الصغيرة والكبيرة، للشياطين الصغار والكبار، ولكنها سبل ملتوية ومتعرجة تغرق الإنسان في متاهات الضياع، فلا يخرج من مضيق إلا ليدخل في مضيق آخر، وكلما شعر أنه وصل إلى نهاية الطريق، انفتح له طريق آخر، وهكذا، حتى يبتعد عن طريق الله، ويضل عن سبيل السلام.
قلت (1): أجل.. فليست المشكلة عند المؤمن فيما يمارسه من أعمال كثيرة أو قليلة، ولا ما يستعرضه في حياته من أشكال وألوان الحركة، وما يقوم به من طقوس وعادات وتقاليد لأن ذلك كله يقف على هامش قضية الهدى والضلال، بل المشكلة تكمن في تحديد خط الاستقامة أو خط الانحراف، فذلك هو الهدى كله، أو الضلال كله، ويدخل في هذا الموضوع منهج الحياة الفكري والعملي، وطبيعة القيادة والولاية، فللمنهج دوره في مسألة الإطار الذي تتحرك فيه الحياة، وللقيادة دورها في تحديد الخطوات وتثبيتها وملاءمتها للمنهج في خطه العريض وتفاصيله الكثيرة.
قال (2): ولذلك كان التأكيد في هذه الآية على اتباع الصراط المستقيم، والابتعاد عن الطرق المنحرفة التي تبعد الإنسان عن سبيل الله، ولذلك ختمت الوصية بقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153] لأن ذلك هو سر التقوى المنضبط في خط السير على أساس وضوح الرؤية، ولن يكون ذلك إلا في نطاق الخط المستقيم المنفتح الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل هو الأفق المنفتح الذي يتفجر فيه النور من جميع جوانبه، ويطل الهدى منه في كل الاتجاهات.
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 377)
(2) من وحي القرآن (9/ 378)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/269)
قلت: لقد ذكرني حديثنا هذا بما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطّ خطّا ثمّ قال: (هذا سبيل الله)، ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: (هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]) (1)
قال: وهذا يدل على أن الحق واحد، لا متعدد، وأنه لا يمكن أن يصل أحد إلى الحق إلا بعد الوصول إلى أهله، وأن كل المنحرفين عن الحق لم ينحرفوا إلا بسبب بغيهم وظلمهم وحسدهم، كما حصل للشيطان عند رفضه السجود لآدم عليه السلام.. وكل ذلك بسبب الخلو من التقوى؛ لأنها وحدها من يحفظ الإنسان من المثالب التي تحول بينه وبين اتباع سبيل المتقين الذي يحفظه من السبل المنحرفة.
قلت: ولهذا عرّف الله تعالى الصراط المستقيم، لا بالقيم التي يمثلها، وإنما بالصالحين الذين يمثلونه؛ فمن وصل إليهم وصل إليه، ومن انحرف عنهم انحرف عنه، كما قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، وقال: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15]
قال: أجل.. ولهذا كان الفرقان الأعظم هو القدرة على التفريق بين أولياء الله الممثلين للصراط المستقيم، وغيرهم من الدجالين والشياطين الذين ينحرفون بالحق، ويغيرونه إلى ما تقتضيه أهواؤهم.
قلت: لكني أتعجب من سر تعقيب تلك الآيات الكريمة التي تحث على هذا بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
__________
(1) أحمد (435، 465)، وابن حبان (1741)، والحاكم (2/ 318)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/270)
لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 154]
قال: لقد عُقبت بهذه الآية الكريمة لتشير إلى آثار اتباع السبل، وكأنها تقول للمسلمين: إن أردتم أن تتأكدوا من الآثار الخطيرة لاتباع السبل المنحرفة، فانظروا إلى بني إسرائيل، فقد آتى الله موسى عليه السلام كتابا فيه كل ما يحتاجونه لصلاحهم، لكنهم أعرضوا عنه، فتحولوا إلى ما تحولوا إليه.
قلت: أجل.. وبورك فيك.. ولذلك أيضا عقبت تلك الآية بقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: 155 ـ 157]
قال (1): أجل.. أي وهذا القرآن ـ الذي تُليت عليكم أوامره ونواهيه ـ كتاب عظيم شأنه، أنزلناه بواسطة الروح الأمين، كما أنزلنا الكتاب على موسى، وهو مبارك كثير الخير دينا ودنيا، جامع لأسباب الهداية الدائمة، وقد جاء بأكثر مما في كتاب موسى عليه السلام من تفصيل لهدى البشر في معاشهم ومعادهم.. فاتبعوا ما هداكم إليه، واتقوا ما نهاكم عنه، وحذركموه، لتكون رحمته مرجوة لكم في الدنيا والآخرة.
قلت: بورك فيك.. أراني عرفت سر هذه المدرسة، وسر ارتباطها بمدرسة النبوة، لأنها امتداد لها، وتنفيذ صحيح لتعاليمها.
قال: أجل.. لكن ليس لك أن تخرج قبل أن تتبرك بحضور حلقة الشيوخ المباركين
__________
(1) تفسير المراغي (8/ 78)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/271)
الذين من الله عليهم بمعرفة هذه العلوم، فما أنا إلا تلميذ بسيط من تلاميذهم.
سرت إلى المحل الذي دلني عليه البواب، فوجدت جمعا من الشيوخ المنورين بنور الإيمان، وما إن دخلت ورحبوا بي، حتى قال أحدهم: الحمد لله أن شرفنا برؤية رجل من العصور السابقة التي نتألم كلما نذكرها.. ذلك أنها أعرضت عن شموس الهداية التي وهبها الله، وراحت تتشبث بدلهم بكل قشة.. ولذلك لاقت الأمرين.
قال آخر: ولو أنهم تدبروا ما ذكره الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام، وأنه دعا الله أن يمد البشر بالأئمة الهداة الذين يحفظون مسيرة الدين من التحريف والتبديل، لكفاهم ذلك.
قال آخر: أجل.. فقد قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124].. فإبراهيم عليه السلام ـ لحرصه الشديد على هداية الخلق ـ لم يكتف بأهل زمانه، وإنما تطلع لسائر الأزمنة، سائلا الله تعالى أن يرزقهم من أئمة الهدى من يحفظون لهم الهداية الإلهية.
قال آخر: وقد عبر عن أولئك الذين يحفظون مسيرة النبوة بلقب [الإمام].. ذلك أن النبوة تتضمن إيصال التعاليم الإلهية إلى العباد لتطبيقها في حياتهم، ثم يقوم الإمام بعد ذلك بشرح تلك التعاليم، وخاصة في الزمن الذي يتسلل فيه البغاة للتحريف والتبديل.
قال آخر: وقد أشار إلى هذا قوله تعالى ـ مشيرا إلى منابع الهداية الثلاثة: الكتاب، والنبوة، والإمامة ـ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 23، 24]؛ فقد قرن الله تعالى الإمامة بالهداية، أي أن دور الإمام هو حفظ الهداية من أن يتسلل إليها المتسللون عبر استثمار المتشابه، واستعماله وسيلة للفتنة.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/272)
قال آخر: أجل.. فلم تكتف العناية الإلهية بتلك التعاليم المقدسة المنزلة في وحيه لأنبيائه، ولا بتلك الشروح والبيانات التفصيلية التي وضح بها الأنبياء ما نُزل إليهم، وإنما ضم إلى ذلك توفير أسباب الامتداد الرسالي حتى لا يحصل للأديان التغيير والتبديل الذي يحرفها عن مسارها.
قال آخر: وقد أخبر الله تعالى عن ذلك في قوله عن زكريا عليه السلام حينما دعا الله عز وجل في طلب الذرية الصالحة: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: 5، 6]، فزكريا عليه السلام حسب هذا الدعاء، لم يكن يقصد الولد لذاته، ولا ليتمتع برؤيته، وتقرّ به عينه، وإنما كان لحرصه على بني إسرائيل، خوفا من أن يؤثر فيهم غيابه عنهم، ليتحولوا عن الهداية التي جاء بها.
قال آخر: وهكذا أخبر عن موسى عليه السلام أنه لم يذهب للميعاد إلا بعد أن استخلف أخاه في بني إسرائيل حتى لا يضلوا من بعده، وقد أشار إلى ذلك، بل صرح به قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 90 ـ 94]
قال آخر: وهكذا ورد الإخبار عن هذه السنة الإلهية في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32]، ثم بين مواقف الأمم من هؤلاء المصطفين، فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: 32]
قال آخر: وبذلك؛ فإن القرآن الكريم يشير إلى أن أئمة الهدى يتعرضون ـ مثلما تعرض الأنبياء ـ لمواجهة أصحاب الفتن، ومتبعي الشبهات، والذين لا يكتفون بتحريف
القرآن.. والهداية الشاملة (1/273)
الدين، وإنما يضيفون إليه إقصاء الأئمة، وتشويههم، واستبدالهم بأئمة آخرين.
قال آخر: وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213]
قال آخر: ثم عقب الله تعالى على هذه الآية الكريمة بأن سنته في هذه الأمة هي نفس سنته في سائر الأمم، وأن الشيطان الذي أضل سائر الأمم بإبعادها عن صراطها المستقيم، وممثليه الشرعيين، سيفعل ذلك مع هذه الأمة أيضا، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]
قال آخر: وكل ذلك يدل على أن من مقتضيات عناية الله تعالى بعباده، باعتباره ربهم وهاديهم، توفير كل أسباب الهداية التي تحميهم من الضلالة، ومن التحريف الذي يلحق الأديان بعد وفاة الأنبياء عليهم السلام، وأن الذين يقومون بذلك يُطلق عليهم [الأئمة]، أو [أئمة الهدى]، أو [الخلفاء]، أو [الورثة]، أو [الهداة]، كما نص على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]
قال آخر: ويدل كذلك على أن أتباع الأنبياء يفترقون في مواقفهم من أولئك الأئمة الهداة الذين استخلفهم أنبياؤهم عليهم، وأوصوهم بهم؛ فبينما يطبق بعضهم تلك الوصايا، ويحرص عليها، بينما يخالف آخرون، وهم كثر، تلك الوصايا، ويرتضون لأنفسهم أئمة بدلهم، كما قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59]، وقال: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/274)
هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأعراف: 169]
قال آخر: لكن ذلك لا يعني اندراس الدين الأصيل، لأن في ذلك فتنة كبرى، تجعل البشر محرومين من الهداية الإلهية الصافية.. فلذلك لا يخلوا عصر من العصور من المتمسكين بالدين الحقيقي، واتباع أئمة الهدى، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في الآية التي تلت الآية السابقة: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: 170]
قال آخر: ولهذا يخبر الله تعالى أن الحق لن ينطفئ نوره أبدا، قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8]، وقال: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]
قال آخر: وأخبر عن بني إسرائيل أنهم لم يجمعوا على تحريف الدين، بل بقيت منهم طائفة صالحة، إلى أن جاء الإسلام فاتبعته، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]
قال آخر: وكل ذلك حتى تقوم الحجة على الخلق، ذلك أن وقوع جميع الأمة في الباطل يعني انتصاره على الحق، وهو ما يعني حرمان الأجيال من الهداية الإلهية الصافية التي لم تكدر بالأهواء البشرية.
قال آخر: وذلك لأن الأصل في إمامة الأئمة ووراثتهم أن تكون شاملة لكل الجوانب التي يرتبط بها الدين سواء تعلقت بالقضايا الدينية البحتة، أو تعلقت بالجوانب الحياتية ابتداء من الجانب السياسي.. ذلك أنهم يمثلون الهداية النبوية ويطبقونها في تلك
القرآن.. والهداية الشاملة (1/275)
الجوانب.
قلت: لقد كان الكثير من أهل عصرنا يؤمنون بكل ما ذكرتم.. لكنهم لم يعرفوا المصاديق الذين تنطبق عليهم تلك الأوصاف.. فلذلك اختارت كل طائفة إماما أو شيخا، واعتبرته خليفتها وهاديها.
قال أحد الشيوخ: وهذا أيضا بسبب عدم احترامهم وتعظيمهم للنبوة.. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرحم بالأمة من أن يتركها من غير أن يحدد لها من يخلفه في الإمامة من بعده.
قال آخر: ولذلك وردت الأحاديث الكثيرة التي يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتلميح والإشارة، أو بالتصريح والعبارة، المصاديق الذين ينطبق عليهم ألقاب الأئمة والخلفاء والورثة، حتى تجتمع الأمة عليهم، وتحفظ نفسها من الفرقة والخلاف بسبب التوزع على أئمة كثيرين مختلفين.
قال آخر: بل قد ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى ناحية مهمة جدا، ربما يكون اعتبارها المعيار الأول في تحديد مصاديق الأئمة، فالله تعالى يعطي أهمية خاصة لذرية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويبين أن لهم مكانة كبيرة لا من الجانب العاطفي فقط، وإنما من الجانب العملي أيضا، باعتبار أن لهم اصطفاء خاصا، ودورا مهما في الرسالة وحفظها والوفاء بمقتضياتها.
قال آخر: وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سنته في ذلك، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33، 34]
قال آخر: ومثلها قوله تعالى عند تسميته للأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين في القرآن الكريم: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ
القرآن.. والهداية الشاملة (1/276)
حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 83 ـ 87]
قال آخر: فهذه الآيات الكريمة توضح الصلات النسبية بين الأنبياء جميعا، وتبين أن الاجتباء الإلهي شملهم بهذا الشكل، ولا راد لاجتباء الله.
قال آخر: ولم يكتف القرآن الكريم بهذا التعميم، بل ذكر تفاصيل كثيرة تدل عليه، حتى يترسخ في الأذهان أن اصطفاء الأنبياء فضل إلهي باعتباره استمرارا للنهج الرسالي وتوحيدا لمسيرته حتى لا تنحرف به الطرق والمناهج.
قال آخر: ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل إبراهيم عليهم السلام في آيات متعددة، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: 27]
قال آخر: بل إن القرآن الكريم يذكر أن إبراهيم عليه السلام نفسه دعا الله أن يكون الخط الرسالي ممتدا في ذريته، فقال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]
قال آخر: وقد صرح القرآن الكريم بانقسام ذريته إلى محسن وظالم في قوله تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 112، 113]
القرآن.. والهداية الشاملة (1/277)
قال آخر: بل إن الله تعالى صرح بأن الأمر باق في عقبه، فقال: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 28]
قال آخر: بل إن الله تعالى ذكر أن إبراهيم عليه السلام ـ كما سأل ربه أن يجعل ذريته أئمة للناس ـ سأله أيضا أن يوفق الناس لمودتهم والاقتداء بهم، فقال على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]
قال آخر: ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل موسى وآل هارون عليهم السلام، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في قصة طالوت: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]
قال آخر: بل إننا نجد أن الله تعالى اختار هارون أخا موسى عليه السلام ليكون معينا له ووزيرا بناء على طلب موسى، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا﴾ [الفرقان: 35]
قال آخر: ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل يعقوب عليهم السلام، وهم وإن كانوا جزءا من آل إبراهيم، لكن القرآن خصهم بالذكر عند الحديث عن يوسف بن يعقوب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: 6]
قال آخر: وذكرهم عند الحديث عن زكريا عليه السلام حينما دعا الله عز وجل
القرآن.. والهداية الشاملة (1/278)
وطلب الذرية الصالحة، فقال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: 5، 6]
قال آخر: ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل داود عليهم السلام، والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، وقد بين القرآن الكريم أن سليمان ورث داود، فقال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16]
قال آخر: وهكذا نجد حديث الله عن اصطفائه لآل بيت أنبيائه، وإعطائهم مكانة خاصة، وهي سنته فيهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بذلك منهم، إن لم يكن نظيرا لهم فيه، وقد قال تعالى عنه: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]
قال آخر: ولذلك؛ فإن وجود أحاديث تدل على هذه المعاني، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن أهل بيته، أو يوصي بهم، أو يدل على أن لهم وظائف خاصة ترتبط بالهداية ليس مستغربا؛ فالقرآن الكريم يؤكد ذلك، ويصرح به.
قال آخر: وسر ذلك يعود إلى السر الذي بسببه رفض إبليس السجود لآدم عليه السلام، وهو أن الأمم قد تخضع لأنبيائها بدافع المعجزات التي ظهرت على أيديهم، ولكنها ترفض أن تخضع لقرابتهم من بعدهم حسدا وبغيا، كما ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 54، 55]
قال آخر: بالإضافة إلى ما تدل عليه الفطرة السليمة، ذلك أن أقرب الناس تمثيلا للأنبياء واقتداء بهم وعلما بأحوالهم هم أهلوهم الذين عاشوا معهم، وهذا متوفر لأهل
القرآن.. والهداية الشاملة (1/279)
بيت النبوة بحكم تربيتهم في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم الأخذ عنهم بصفة مباشرة، ومن ثم انتقال العلم بينهم بالتوالي من المصدر تماماً.
قال آخر: وهذا ما يدل عليه الواقع؛ فالصانع الحرفي اليدوي الماهر ينقل سر صنعته ومهارته تلك إلي ابنه وحفيده.. والرياضي البارع هو في الغالب ابن رياضي بارع.. والسياسي الحاذق نجده قد تربي ونقل عن والده نفس المهارة.. حتى الساحر والحاوي ينقل سر مهنته تلك عن أبيه، وبالمثل الطبيب الحاذق والموسقي المبدع والعالم الباحث.
قال آخر: وهذا لا يعني أن الإمامة تنطبق على كل أولاد الرسول أو أقاربه، فقد أخبر الله تعالى أن منهم من يكون ظالما، ولذلك لا يستحق ذلك الشرف.. بل أخبر أن ابن نوح عليه السلام كان كافرا، ولذلك نزل عليه العذاب مثلما نزل على غيره، بناء على ما تقتضيه العدالة الإلهية.
قال آخر: ولهذا يحتاج التعرف على الإمام وصفاته ووظائفه إلى البيان النبوي الذي يحمي الأمة من أن تضع مصاديق الإمامة في غير أهلها؛ فتنحرف عن الصراط المستقيم.
قال آخر: ومن أوضح الأحاديث الدالة على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي. أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (1)
ثم ذكروا أمورا كثيرة مما حصل في الواقع، والشواهد الكثيرة التي أكدت ذلك، مما لم يره أهل عصرنا، وخاصة ظهور الإمام الذي انتظرته البشرية طويلا، والذي كان قدومه
__________
(1) رواه الترمذي (3788)، والفسوي في (المعرفة والتاريخ) (1/ 536)، والشجري في (ترتيب الأمالي) (738)
القرآن.. والهداية الشاملة (1/280)
بداية لمرحلة النور والبركة والعدالة التي عاشتها البشرية.. وللأسف مُنعت من كتابة كل ذلك.
بعد أن منّ الله علي بالاستماع لكل تلك الأحاديث الجميلة عن النبوة والإمامة.. وجدت مركبة مكتوبا عليها قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: 11]، فامتطيتها لأرى المحال التي توصلنا لها، وقد كنت أتوهم أنها ستوصلنا إلى أهرامات الفراعنة أو مسارح الرومان.. لكني وجدتها توصل إلى آثار كثيرة مما نراه في عصرنا.
ولم يؤذن لي في ذكر شيء من تلك الآثار إلا أثرا واحدا أُذن لي في ذكره، وهو البيت الأبيض الأمريكي.. والذي نزلت فيه.. ودخلت إلى كل غرفاته.. والمملوءة بالصور المختلفة التي تصور الجرائم التي ارتكبت في ذلك البيت، والتي عانى العالم بسببها الأمرين.
وقد كان المرشد يذكر لنا الكثير من المعلومات التي كشف عنها التاريخ في ذلك الحين، والتي لم تكشف لنا بعد.. وقد علمت حينها سر تسمية القائمين عليه بالشيطان الأكبر.. فهم يمثلون الشيطان الأكبر حقيقة لا مجازا.
بعد أخذنا قسطا من الراحة مع الرفاق الذين كانوا معي في الرحلة، قال المرشد: هلم بنا نستذكر ما ورد في القرآن الكريم حول الدعوة للاعتبار بالتاريخ، والاستفادة منه في تحقيق الهداية، فمن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره.. ولنبدأ بكلمات الإمام علي في الاعتبار، فإن له في الدعوة إليه كلمات كثيرة جميلة.
قال أحدهم: أجل، وأنا أحفظ منها قوله: (اتّعظوا بالعبر واعتبروا بالغير وانتفعوا
القرآن.. والهداية الشاملة (1/281)
بالنّذر) (1).. وقوله: (إنّ ذهاب الذّاهبين لعبرة للقوم المتخلّفين) (2).. وقوله: (إذا أحبّ الله عبدا وعظه بالعبر) (3)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (رحم الله امرؤا اتّعظ وازدجر وانتفع بالعبر) (4).. وقوله: (صدّق بما سلف من الحقّ واعتبر بما مضى من الدّنيا، فإن بعضها يشبه بعضا، وآخرها لا حق بأوّلها) (5)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (تفكّروا أيّها الناس وتبصّروا واعتبروا واتّعظوا، وتزوّدوا للآخرة تسعدوا) (6).. وقوله: (كسب العقل الاعتبار والاستظهار، وكسب الجهل الغفلة والاغترار) (7).. وقوله: (للاعتبار تضرب الأمثال) (8).. وقوله: (من اعتبر بعقله استبان) (9).. وقوله: (من قوي عقله أكثر الاعتبار) (10)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (من عرف العبرة فكأنّما عاش في الأوّلين) (11).. وقوله: (من كانت له فكرة فله في كلّ شيء عبرة) (12).. وقوله: (للكيّس في كلّ شيء اتّعاظ) (13)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (اتّعظوا ممّن كان قبلكم قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم) (14).. وقوله: (خلّف لكم عبر من آثار الماضين قبلكم لتعتبروا بها) (15)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (إنّ في كلّ شيء موعظة وعبرة لذوي اللّبّ) (16)، وقوله:
__________
(1) غرر الحكم، 471 و472.
(2) غرر الحكم، 471 و472.
(3) غرر الحكم، 471 و472.
(4) غرر الحكم، 471 و472.
(5) غرر الحكم، 471 و472.
(6) غرر الحكم، 471 و472.
(7) غرر الحكم، 471 و472.
(8) غرر الحكم، 471 و472.
(9) غرر الحكم، 471 و472.
(10) غرر الحكم، 471 و472.
(11) غرر الحكم، 471 و472.
(12) غرر الحكم، 471 و472.
(13) غرر الحكم، 471 و472.
(14) غرر الحكم، 471 و472.
(15) غرر الحكم، 471 و472.
(16) غرر الحكم، 471 و472.
القرآن.. والهداية الشاملة (1/282)
(إنّ الأمور إذا تشابهت اعتبر آخرها بأوّلها) (1)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (في تعاقب الأيّام معتبر للأنام) (2).. وقوله: (فطنة المواعظ تدعو إلى الحذر، فاتّعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنّذر) (3).. وقوله: (قد اعتبر بالباقي من اعتبر بالماضي) (4)
قال آخر: وأنا أحفظ قوله: (ذمّتي بما أقول رهينة وانا به زعيم: إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين ي