الكتاب:القرآن وتأويل الجاهلين ج2
الوصف: رواية حول كبرى التأويلات المنحرفة والردود عليها
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1443 هـ
عدد الصفحات: 712
ISBN: 978-620-3-85818-1
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
هذا الكتاب هو المقدمة الخامسة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثالث من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [تأويل الجاهلين]
ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي لا يقتصر تأويلها على الانحراف في فهم القرآن الكريم فقط، بل له تأثيره الواقعي أيضا، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، والتي يمكن أن تشمل الدين، ويمكن أن تشمل الدنيا.
ومع كثرة التأويلات المنحرفة عن التنزيل، والتي تكاد تشمل كل آية من القرآن الكريم إلا أننا وجدنا من خلال تطبيق ما أسميناه [التأويل الواقعي] أن من يُطلق عليهم لقب [السلفية]، أو [أهل الحديث]، أو [الوهابية]، وغيرها من الألقاب، هم أجدر الناس بهذا النوع من التأويل.
ولذلك نراهم يخالفون الأمة جميعا وبمدارسها المختلفة في تلك التأويلات، والتي لم تقتصر على الجانب النظري فقط، بل تعدته إلى إحداث فتن كثيرة في الواقع.
وقد تجلت في بدايتها بتكفير الأمة من خلال اتهامها بالتعطيل والجهمية، نتيجة تنزيهها لله تعالى عن الجسمية ولوازمها.
ثم ترقت إلى ما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تأويل كل الآيات الواردة في المشركين وتطبيقها على المسلمين بجميع مدارسهم، وعدم الاكتفاء بذلك، بل محاربتهم وسفك دمائهم.
ثم ترقت إلى ما حصل في عصرنا من إنكار للحقائق العلمية القطعية، وتأويل الآيات القرآنية بخلاف ما يقتضيه العلم، مما جر فتنة كبيرة لا نزال نعاني آثارها.
ومثل ذلك ما حصل في كل تاريخ هذه الطائفة من تشويه للأنبياء عليهم السلام، وتفسير ما ورد في القرآن الكريم من المتشابه في شأنهم بالروايات الإسرائيلية، وبذلك شوهوا القيم النبيلة التي ضرب الله تعالى لها الأمثال بتلك القصص التي أوردها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/12)
هذا هو الجزء الثاني من كتاب [القرآن وتأويل الجاهلين]، وهو يتضمن ما يلي:
أولا ـ تكملة الفصل الثاني المعنون بـ[المؤلون .. والتجسيم والتشبيه]، بثلاثة مباحث:
أولها، حول الأركان التي يقوم عليها التجسيم والتشبيه، والآيات التي يستند إليها أصحاب منهج الإثبات في الاستدلال بها عليها، مع الرد العلمي عليها.
والثاني، هو استعراض حجج أصحاب منهج الإثبات فيما يطلقون عليه [الصفات الذاتية]، والرد العلمي عليها.
والثالث، هو استعراض حجج أصحاب منهج الإثبات فيما يطلقون عليه [صفات الأفعال]، والرد العلمي عليها.
مع العلم أنا لم نقتصر في هذه المباحث على استدلالاتهم القرآنية، وإنما ضممنا إليها ما يستدلون به من أحاديث تدعمها، وقد تضمنت الردود كذلك ما ذكره المنزهة في تأويلها، أو في بيان عدم ثبوتها.
ثانيا ـ تناولنا الفصل الثالث من الكتاب، والذي يحوي الرد العلمي على التأويلات المشوهة للأنبياء عليهم السلام من خلال استعمال بعض ما ورد في القرآن الكريم من المتشابهات، وبينا الفهم الصحيح لها، والذي ينسجم مع عصمتهم عليهم السلام، كما ينسجم مع دعوة القرآن الكريم للاهتداء والاقتداء بهم.
ثالثا ـ تناولنا الفصل الرابع؛ والذي رددنا فيه بتفصيل على ما ورد في تفاسير السلفية الحديثة للآيات التي تتحدث عن الكون، والتي خالفوا فيها جمهور المسلمين الذين لم يروا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/12)
فيها أي تعارض بينها وبين العلم، وذكرنا التفسير الصحيح لها، والذي ينسجم مع العلم القطعي الحديث، بل يبين مدى دقة القرآن الكريم في التعبير عن تلك الحقائق العلمية.
ثم ختمنا الكتاب بنهاية الرواية، وما حصل من أحداث لتلاميذ الراسخ والمؤلف، والتي نترك للقارئ الكريم الاطلاع عليها.
وننبه إلى أننا في ردودنا على التأويلات المنحرفة لم نقتصر على ما يذكره المخالفون لهم في الرواية، وإنما ذكرنا ذلك، أثناء عرض التأويلات نفسها، لأن عرضها الصحيح يكفي في أحيان كثيرة للرد عليها.
بالإضافة إلى أننا، وخصوصا في التفاصيل المرتبطة بتضعيف الأحاديث التي يعتمدون عليها، ذكرنا ذلك في الهوامش، حتى لا نشغل القارئ بالتفاصيل التي قد لا يحتاج إليها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/13)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسائل المرتبطة بالمصادر التي يُتعرف بها على كيفية التعامل مع الإضافات المنسوبة لله تعالى في القرآن الكريم والسنة المطهرة، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك ننتقل إلى المسألة الثالثة، والمرتبطة ـ كما ذكرتم ـ بالأركان التي لا يمكن التعرف على صفات الله تعالى من دونها، والتي ينكرها هؤلاء المعطلون.
قال أحد الشيوخ: لقد رأينا أن هؤلاء الجهمية المعطلة، يعطلون سبع أركان كبرى يقوم على معرفتها كل ما يرتبط بصفات الله تعالى الذاتية والفعلية .. ولذلك نطلب منكم سيادة القاضي، أن تطلب منهم أن يجيبونا عن كل صفة نتحدث عنها، حتى لا يفروا كعادة كل المبتدعة.
قال القاضي: فما الصفة الأولى منها؟
قال أحد الشيوخ: أولها ـ والتي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلالها ـ إثبات الحد لله تعالى .. والذي يميزه عن خلقه.
قال القاضي: ما تقصدون بهذا؟
قال أحد الشيوخ: الفرق الأكبر بيننا وبين المعطلة هو في هذا الجانب؛ فهم يعتقدون أن الله مطلق لا حدود له، ونحن نرى عكس ذلك .. فالمطلق عدم محض لا وجود له.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/14)
قال آخر: ولهذا أولى مشايخنا هذا الركن اهتماما كبيرا، بل جعلوه المقدمة الأولى لكل صفات الله تعالى، بل اعتبروه من أصول العقائد التي تفرق بين السني والبدعي، بل بين المؤمن والكافر .. فالمؤمن والسني هو الذي يقول بمحدودية الله .. والكافر والبدعي هو من يقول بعدم محدوديته.
قال آخر: ومن الكتب التي ألفها شيوخنا في تقرير هذا المعنى والبرهنة عليه ما كتبه الحافظ محمود الدشتي بعنوان [إثبات الحد لله عز وجل وبأنه قاعد وجالس على عرشه]، والذي لقي العناية الكبيرة من المتأخرين من أصحابنا تحقيقا وطبعا ونشرا.
قال آخر: وقد قال شيخنا عثمان بن سعيد الدارمي في ذلك: (زعمت الجهمية أن ليس لله حد، وإنما يعنون بهذه الكلمة أن الله تعالى لا شيء، إذ كان معلوما عند الخلق كلهم أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وصفة، فقولهم: لا حد له أنه لا شيء، وقد قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19]، ومذهب علماء السلف: أن الله هو الأول القديم، وله حد لا يعلمه غيره، ولكن ليس لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن عليهم أن يؤمنوا بذلك، ويكلوا علم ذلك إلى الله تعالى) (1)
قال آخر: وقد نقل شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية الكثير من النصوص في كتابه [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] التي تدل على أن إثباب الحد لله، واعتباره من العقائد الأساسية التي يقتضيها الإيمان، ومن تلك النقول ما نقله عن الدارمي ـ مقرا له ـ في كتابه [نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد] قال فيه: (باب الحد والعرش: وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من
__________
(1) إثبات الحد لله عز وجل، الدشتي، ص 12.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/15)
العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله تعالى لاشيء، لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدًا موصوف لامحالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء) (1)
قال آخر: وهكذا نقل عن الخلال وعن أبي يعلى وغيرهم ممن يسميهم أهل السنة (2) النقول الكثيرة التي تنص على أن من ضروريات المعرفة الإلهية إثبات الحد لله، ومن تلك الروايات ما رواه الخلال عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك ـ وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ ـ قال: (في السماء السابعة على عرشه بحد)، فقال أحمد: (هكذا هو عندنا) (3)
قال آخر: ومنها ما رواه عن حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق بن راهويه: (هو على العرش بحد؟) قال: (نعم بحد)، وعن ابن المبارك أنه قال: (هو على عرشه بائن من خلقه بحد) (4)
قال آخر: وقد علق شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الروايات بقوله: (ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير: قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا، أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات، فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه،
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 605)
(2) بيان تلبيس الجهمية (2/ 612)
(3) نقض تأسيس الجهمية (1/ 428)
(4) نقض تأسيس الجهمية (2/ 34)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/16)
وذكر الحد .. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد) (1)
قال آخر: وفوق ذلك كله؛ فإننا لو لم نؤمن بالحد، لوقعنا فيما وقع في أهل الجهل والتعطيل من إنكار الكثير من الأحاديث والأخبار التي تصف الله تعالى بالحد.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن عبد الله بن سلمة أنه قال: أرسل ابن عمر إلى ابن عباس يسأله، هل رأى محمد ربه، فأرسل إليه ابن عباس: أن نعم، قال: فرد عليه ابن عمر رسوله: أن كيف رآه، قال: (رآه في روضة خضراء روضة من الفردوس دونه فراش من ذهب، على سرير من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة أسد، وملك في صورة نسر) (2)، فهذا الحديث، وبهذه الصورة لا يمكن حمله إلا على محدود ومن الجهات الست، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رآه في روضة خضراء تحيط به من كل الجوانب، وهذا ما يرد على ما يراه بعض إخواننا من السلف من أنه محدود من جهة السفل فقط.
قال آخر: ومن الروايات القريبة من تلك الرواية ما روي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني جبريل فقال: إن الرب اتخذ في الجنة واديا من مسك أفيح، فإذا كان يوم الجمعة فينزل عن كرسيه من عليين، وحف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر، ويجيء النبيون فيجلسون على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف فيجلسون على ذلك الكثيب، ويتجلى لهم ربهم، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فاسألوني قال: فيسألونه الرضا، قال: فليسوا إلى شيء أحوج
__________
(1) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 ـ 443)
(2) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: ص 198، والآجري في الشريعة: ص 494، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 35، والبيهقي في الأسماء والصفات: ص 557 ـ 558.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/17)
منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا النظر إلى وجه ربهم عز وجل) (1)، وهذا الحديث واضح في دلالته على كون الله تعالى محدودا من الجهات جميعا.
قال آخر: ومن الروايات الواردة في هذا عن أبي النضرة قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة على هذا المنبر فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (آتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب، فيقال لي: من أنت؟ فأقول: أنا محمد؟ فيفتح لي، فيتجلى لي ربي عز وجل فأخر له ساجدا وهو على سريره أو على كرسيه) (2)، وفي رواية: (حتى آتي الجنة فأخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيفتح لي، وأحيا ويرحب بي؟ فإذا دخلت الجنة نظرت إلى ربي ـ عز وجل ـ على عرشه فخررت ساجدا)
قال آخر: بل ورد في الرواية في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذن على الله في داره، فقد ورد فيها الحديث بهذه الصيغة، قال ابن القيم: (وفي بعض ألفاظ البخاري في صحيحه (فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه) (3)، قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين هكذا قال في داره في المواضع الثلاث يريد مواضع الشفاعات التي يسجد فيها ثم يرفع رأسه) (4)
قال آخر: وقال شيخنا ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري على هذا الحديث: (هذا الحديث ليس فيه إشكال إلا قوله: (أستأذن على ربي في داره)، فيقال: إن دار الله عزوجل التي جاءت في هذا الحديث لا تشبه دور البشر، تكنه من الحر ومن البرد ومن المطر، ومن الرياح، لكن هي دار الله أعلم بها) (5)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في بعض الأحاديث التي اهتم بها سلفنا ابتداء
__________
(1) الدارمي في الرد على الجهمية: ص 45، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 48، 49، والذهبي في العلو: ص 28. قال الذهبي: هذا حديث مشهور وافر الطرق.
(2) الدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 347، أحمد: (1/ 281 ـ 282، 295 ـ 296)
(3) البخاري (7002) معلَّقًا.
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية (53)
(5) ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري، 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/18)
من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ما يؤكد هذا المعنى أي تأكيد.
قال آخر: فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في غرائب حديث النزول هذه الرواية التي تثبت الحد لله تعالى ومن جميع الجهات، وهي: (ثم تبعث الصيحة فلَعَمْر إلهك ما تدعُ على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك عز وجل السماء .. قلت: يا رسول الله فما يعمل بنا ربنا جل وعز إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قِبَلكم بها فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة) (1)
قال آخر: فهذه الرواية تذكر أن الله العلي العظيم يطوف في الأرض، وأنه يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح بها .. وقد قال شيخنا ابن القيم بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة .. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 184)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/19)
إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان، .. وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم) (1)
قال آخر: بل إنه لم يكتف بذلك، وإنما راح ينقل عن شيخنا أبي عبد الله بن منده مقرا له قوله: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة) (2)
قال آخر: بل إنه لم يكتف بذلك .. وإنما راح يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه الكثير من الصفات التي ينكرها أهل التجهيل والتعطيل والتأويل، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها .. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله .. والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل .. وقوله: فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح) (3)
قال آخر: ومثله شيخنا الدارمي الذي رد بشدة على إشكالات المعطلة التي يطرحونها على هذه الرواية، فقال: (يقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق، ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته، وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش، ولا الحملة، ولا السموات والأرض
__________
(1) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.
(2) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.
(3) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/20)
ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به) (1)
قال آخر: وبناء على هذا كله؛ فإننا مع عدم اعتبارنا [الجسم] صفة لله تعالى، إلا أن معناها صحيح، إن أرادوا به ما ذكرناه، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه [موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول]، أو ما يسمى [درء تعارض العقل والنقل] في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]: (فإنّه لا يدلّ على نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا على نفي ما يسمّيه أهل الاصطلاح جسماً بوجه من الوجوه) (2) .. ومراده من الصفات اليد والوجه والساق، وغيرها، فهو يعتقد أنّ الجميع يوصف به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل، بل بنفس المعنى اللغوي.
قال آخر: وورد في نفس الكتاب: (وأمّا ذكر التجسيم وذمّ المجسّمة، فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمّة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ الله جسم أو ليس بجسم) (3)
قال آخر: وذكر في كتابه [الجواب الصحيح] أنه لم يُنقل في الشرع ولا عن الأنبياء السابقين ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين ومن تبعهم من سلف الأمة إثبات هذا اللفظ أو نفيه، فقال: (وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر، لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول
__________
(1) نقض الدارمي على المريسي (1/ 457)، وبيان تلبيس الجهمية (3/ 242)
(2) درء تعارض العقل والنقل، 1/ 100.
(3) درء تعارض العقل والنقل:1/ 189.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/21)
من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء)
قال آخر: وقال في شرح حديث النزول: (وأما الشرع: فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع)
قال آخر: وقال: (وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة الحديث، والتفسير، والتصوف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول: إن الله جسم، وإن كان أيضاً: ليس من السلف والأئمة من قال: إن الله ليس بجسم)
قال آخر: وعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة .. والثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل) (1)، ومراده من التعطيل والتحريف ـ كما هو معلوم ـ تعطيل الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها.
قال آخر: ولهذا؛ فإن المميعين من أصحابنا مخطئون في إنكارهم كون شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بالجسمية، بل ينفون عنه التجسيم بكل الوجوه، لأنهم يمارسون التقية بهذا، ويخالفون شيخهم وما تطفح به كتبه .. فشيخ الإسلام لم ينف التجسيم عن الله، وإنما نفى لفظ التجسيم، وكل كتبه تدل على أنه يقول بالتجسيم.
__________
(1) منهاج السنة النبوية 2/ 225
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/22)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله في كتابه العظيم [منهاج السنّة]: (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم .. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه .. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً) (1)
قال آخر: فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه .. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام .. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً .. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى .. فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول.
قال آخر: وقال في كتابه [شرح حديث النزول]: (فمن قال إنّ الله جسم، وأراد بالجسم هذا المركّب فهو مخطئ، ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله فقد أصاب في نفيه) (2)
قال آخر: وهذا إقرار منه بأنّ الله تعالى جسم، ولكنّه لا يماثل سائر الأجسام، من حيث إنّ تركيبها حادث؛ فهو لا ينفي الجسمية عن الله تعالى، وإنّما ينفي عنه هذا التركيب الحادث، ويدلّ على ذلك قوله: (ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله، فقد أصاب في نفيه) لهذا التركيب، وحسْب.
قال آخر: بل إنه يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا .. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، وقد قال في ذلك: (فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك
__________
(1) منهاج السنّة: 1/ 180.
(2) شرح حديث النزول: 237.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/23)
لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره .. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه، ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم .. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره .. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود) (1)
قال آخر: ولذلك؛ فإن شيخ الإسلام ابن تيمية يضع المعطلة بين أمرين: إما أن يقولون بتجسيم الله، أو يقولوا بعدم وجوده .. ذلك أن الوجود ـ كما يذكر ـ قاصر على الأجسام.
قال آخر: ولهذا نراه يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله تعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 364)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/24)
أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك .. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود، ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم، لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك، ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري، فإن هذا من باب المعارض، وسنتكلم عليه، وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا) (1)
قال آخر: وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه [بيان تلبيس الجهمية] يكاد يدافع عن لفظ [الجسم] بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً) (2)
قال آخر (3): وسبب ذلك أن الإخبار عن الله تعالى لا يشترط فيه التوقيف، وهو أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه)، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيء، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيء؛ فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه (4).
قال آخر (5): وذلك بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقاً يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
قال آخر (6): وبناءً على ما تقدم يمكن تقسيم الألفاظ المجملة، أي التي يرد استعمالها في النصوص إلى ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف، كلفظ (الذات) ولفظ
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 370)
(2) بيان تلبيس الجهمية:1/ 101.
(3) العرش للذهبي (1/ 239)
(4) بدائع الفوائد (1/ 161)، مجموع الفتاوى (6/ 142 ـ 143)
(5) العرش للذهبي (1/ 240)
(6) العرش للذهبي (1/ 240)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/25)
(بائن)، فهذه الألفاظ تحمل معان صحيحة دلت عليها النصوص .. وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها، وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب، والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع، كقول أهل السنة: (إن الله استوى على العرش بذاته)، فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له .. وكقولهم: (إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم)، فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته.
قال آخر: وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر ذلك: (والمقصود ـ هنا ـ أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة) (1)
قال آخر (2): فيستفاد من كلام شيخ الإسلام أن الألفاظ على أربعة أقسام، أولها وأشرفها الألفاظ المأثورة، وهي التي وردت بها النصوص .. وثانيها الألفاظ المعروفة، وهي التي بُيِّنَت معانيها .. وثالثها الألفاظ المبتدعة، التي تدل على معنى باطل .. والألفاظ المبتدعة، التي تحتمل الحق والباطل.
قال آخر: ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله: (وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي، فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة، فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها، فأين
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 271)
(2) العرش للذهبي (1/ 241)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/26)
ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي!؟) (1) رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه منها (أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم، وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له؛ إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات ـ كما وصف باليد والعلم ـ صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره) (2)
قال آخر: وبذلك؛ فإن شيوخنا لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، (بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته) (3)
قال آخر (4): وبناء على هذا كله؛ فإن الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، والتي لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض)؛ فإنه يطلب من المتحدثين بها أن يفصلوا ما يريدون منها؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت.
قال آخر (5): وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم، فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62]، وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم، ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟
__________
(1) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442)
(2) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 ـ 443)
(3) نقض تأسيس الجهمية (1/ 445)
(4) درء تعارض العقل والنقل (1/ 228)
(5) درء تعارض العقل والنقل (1/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/27)
قال آخر (1): ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث ـ وكان من أحذقهم بالكلام ـ ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً، فأجابه الإمام أحمد، بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله، وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام.
قال آخر (2): فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً، أما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء .. فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدّعونها إما بألفاظهم .. وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم.
قال آخر (3):وحينئذ يقال لهم الكلام إما أن يكون في الألفاظ .. وإما أن يكون في المعاني .. وإما أن يكون فيهما .. فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً .. وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 230)
(2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 231)
(3) درء تعارض العقل والنقل (1/ 231)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/28)
المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب.
قال آخر (1): وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة؛ فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
قال آخر (2): ولهذا؛ رد شيوخنا على من ظن أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو.
قال آخر (3): وليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً.
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات الحد لله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 232)
(2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 232)
(3) درء تعارض العقل والنقل (1/ 233)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/29)
الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. فبالسمع والعقل اللذين أمر الله تعالى باستعمالهما نتحصن مما ذكروه من الإفك العظيم على الله.
قال آخر: وبما أن شيوخنا الأفاضل اعتمدوا في إثبات الحد لله تعالى على ما ذكره سلفهم؛ فإنا نعتمد على نفيه على ما ذكره سادة السلف الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم أعرف الخلق بالله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أعلم بالقرآن الكريم من كل سلفهم الذين خلطوا بفهمهم ما اقتبسوه من اليهود وتلاميذ اليهود.
قال آخر: ومن سادات هؤلاء الأئمة الإمام علي الذي قال في خطبة له جوابا لرجل سأله عن وصف محدد له: (انظر أيها السائل: فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضئ بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه؛ فإن ذلك منتهى حق الله عليك، واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا، فاقتصر على ذلك، ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين)، ثم قال: (هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه، لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلصة إليه ـ سبحانه ـ فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرويات
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/30)
خاطرة من تقدير جلال عزته) (1)
قال آخر: وقال: (سبحانه! هو كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته) (2) .. وقال: (إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد) (3) .. وقال: (كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله) (4)
قال آخر: وقال: (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) (5) .. وقال: (من وصف الله فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال: أين؟ فقد غياه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه) (6)
قال آخر: وقال: (كمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله فقد قرنه) (7)
قال آخر: وقال: (قد جهل الله من استوصفه، وتعداه من مثله، وأخطأه من اكتنهه، فمن قال: أين؟ فقد بوأه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: إلام؟ فقد نهاه، ومن قال: لم؟ فقد علله، ومن قال: كيف؟ فقد شبهه، ومن قال: إذ؛ فقد وقته، ومن قال: حتى؛ فقد غياه، ومن غياه فقد جزأه، ومن جزأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، ومن بعضه فقد عدل عنه) (8)
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 91 وبحار الأنوار: 4/ 277.
(2) الكافي: 1/ 135 / 1.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 163، بحار الأنوار: 60/ 348.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 112، بحار الأنوار: 6/ 143 / 9.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 49، شرح الأخبار: 2/ 312.
(6) الكافي: 1/ 140.
(7) الاحتجاج: 1/ 473 / 113.
(8) تحف العقول: 63، التوحيد: 36/ 2.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/31)
قال آخر: وقال: (لم تره سبحانه العقول فتخبر عنه، بل كان تعالى قبل الواصفين به له) (1) .. وقال: (الحمد لله الذي لا يتعاوره زيادة ولا نقصان، ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان (2)
قال آخر: وقال: (الحمد لله الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض، بل وصفته بفعاله، ودلت عليه بآياته) (3) .. وقال: (لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية) (4)
قال آخر: وقال: (لا يوصف بالأزواج، ولا يخلق بعلاج، ولا يدرك بالحواس .. بل إن كنت صادقا أيها المتكلف لوصف ربك، فصف جبريل وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس، متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين، فإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء) (5)
قال آخر: وقال: (الحمد لله الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود .. من جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه) (6)
قال آخر: وقال: (ليست له صفة تنال، ولا حد تضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تحبير اللغات، وضل هناك تصاريف الصفات، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور) (7)
__________
(1) غرر الحكم: 7556.
(2) الكافي: 1/ 141.
(3) الكافي: 1/ 141.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 85.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 182، بحار الأنوار: 4/ 314.
(6) نهج البلاغة: الخطبة 1، الاحتجاج: 1/ 473 / 113.
(7) الكافي: 1/ 134.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/32)
قال آخر: وقد صرح بنفي الحد عن الله تعالى، فقال: (ليس له حد ينتهي إلى حده) (1) .. وقال: (وحد الأشياء كلها عند خلقه، إبانة لها من شبهه، وإبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات .. تعالى الله عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب) (2)
قال آخر: وقال: (لا يشمل بحد ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها .. ولا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه) (3)
قال آخر: وقال في تعظيم الله جل وعلا: (أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفا، ولا في رويات خواطرها فتكون محدودا مصرفا) (4) .. وقال: (لا يدرك بوهم، ولا يقدر بفهم .. ولا يحد بأين) (5)
قال آخر: وقال: (تعالى الذي ليس له وقت معدود، ولا أجل ممدود، ولا نعت محدود، سبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى) (6)
قال آخر: وقال: (الحمد لله .. الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود) (7)
قال آخر: ومثله ذكر كل الأئمة من العترة الطاهرة الذين لم يخلطوا دينهم بما تسرب إلى الأمة من تحريفات الأمم، ومنهم الإمام الحسين الذي قال: (أصف إلهي بما وصف به
__________
(1) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33/ 1.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 163.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476 / 116.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 91، التوحيد: 54/ 13.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 182.
(6) الكافي: 1/ 135 / 1.
(7) الاحتجاج: 1/ 473 / 113، بحار الأنوار: 4/ 247.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/33)
نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، فهو قريب غير ملتصق
قال آخر: وقال: (وبعيد غير متقص، يوحد ولا يبعض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال) (1)
قال آخر: وقال: (لا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته؛ لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقانا بالغيب؛ لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه، ليس برب من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء) (2)
قال آخر: ومنهم الإمام السجاد الذي قال: (إن الله لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية من لا يحد، و {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]) (3)
قال آخر: وقال: (لو اجتمع أهل السماء والأرض أن يصفوا الله بعظمته لم يقدروا) (4)
قال آخر: وقال في دعائه: (ضلت فيك الصفات، وتفسخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام) (5) .. وقال: (اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين) (6) .. وقال: (الحمد لله الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين) (7) .. وقال في دعائه يوم عرفة: (أنت الذي لا تحد فتكون محدودا، ولم
__________
(1) التوحيد: 80/ 35، روضة الواعظين: 43.
(2) تحف العقول: 244، بحار الأنوار: 4/ 301.
(3) الكافي: 1/ 100 / 2.
(4) الكافي: 1/ 102 / 4.
(5) الصحيفة السجادية: 129 الدعاء 32.
(6) الصحيفة السجادية: 123 الدعاء 31.
(7) الصحيفة السجادية: 19 الدعاء 1.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/34)
تمثل فتكون موجودا، ولم تلد فتكون مولودا) (1)
قال آخر: ومنهم الإمام الصادق الذي قال: (هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه) (2) .. وقال: (إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال في كتابه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك) (3)
قال آخر: وقال: (إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته) (4)
قال آخر: وقال: (إن الله تبارك اسمه عجز الواصفون عن كنه صفته، ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته، ولا يحدون حدوده؛ لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه) (5)
قال آخر: وقال: (إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه عظمته، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث، وكيف أصفه بالكيف!؟ وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين!؟ وهو الذي أين الأين حتى صار أينا، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث!؟ وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا، فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله ـ تبارك وتعالى ـ داخل في كل مكان وخارج من كل شيء، {{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، لا إله إلا هو العلي العظيم، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (6)
قال آخر: وقال لبعض أصحابه: (أي شيء (الله أكبر)؟ قال: الله أكبر من كل شيء،
__________
(1) الصحيفة السجادية: 187 الدعاء 47.
(2) الكافي: 1/ 145 / 6.
(3) الكافي:1/ 103 / 11.
(4) بحار الأنوار: 3/ 147.
(5) الكافي: 1/ 137 / 2.
(6) الكافي: 1/ 103 / 12، التوحيد: 115/ 14.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/35)
فقال: (وكان ثم شيء فيكون أكبر منه؟)، قيل: وما هو؟ قال: (الله أكبر من أن يوصف) (1)
قال آخر: ومنهم الإمام الكاظم الذي قال: (من ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه، بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود؛ فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين) (2)
قال آخر: وقال: (إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أجل وأعظم من أن يحد بيد أو رجل، أو حركة أو سكون، أو يوصف بطول أو قصر، أو تبلغه الأوهام، أو تحيط به صفة العقول) (3)
قال آخر: وقال: (لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك) (4) .. وقال: (إن الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفوا عما سوى ذلك) (5)
قال آخر: ومنهم الإمام الرضا الذي قال: (ولو حد له وراء؛ إذا حد له أمام، ولو التمس له التمام؛ إذا لزمه النقصان) (6) .. وقال: (لا يتغير الله بانغيار المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد المحدود) (7)
قال آخر: ولما سمع كلاما في التشبيه، خر ساجدا، وقال: (سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك) (8)
قال آخر: وقال الإمام الجواد: قام رجل إلى الإمام الرضا، فقال له: يا ابن رسول الله،
__________
(1) الكافي: 1/ 118 / 9.
(2) الكافي: 1/ 125 / 1، التوحيد: 183/ 18.
(3) التوحيد: 75/ 30، بحار الأنوار: 3/ 300 / 32.
(4) التوحيد: 76/ 32.
(5) الكافي: 1/ 102 / 6.
(6) التوحيد: 40/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 153 / 51.
(7) التوحيد: 37/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 151 / 51.
(8) الكافي: 1/ 101 / 3، التوحيد: 114/ 13.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/36)
صف لنا ربك؛ فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا، فقال: (إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا من المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه) (1)
قال آخر: ومنهم الإمام الهادي الذي قال: (سبحان من لا يحد ولا يوصف! {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]) (2)
قال آخر: وكل هذه الكلمات النورانية يؤكدها ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار الإحاطة به!؟ .. جل عما يصفه الواصفون، نأى في قربه وقرب في نأيه، كيف الكيفية؛ فلا يقال له: كيف، وأين الأين؛ فلا يقال له أين، وهو منقطع الكيفية فيه والأينونية، فهوالأحد الصمد كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (3)
قال آخر: وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيد العارفين في دعائه: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي) (4) .. فأسماء الله الحسنى فيض من فيوضات كمال الله .. وبما أن كمال الله لا حد له .. فأسماؤه لا نهاية لها.
قال آخر: وهكذا استنبط العلماء من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم اعوذ
__________
(1) التوحيد: 47/ 9.
(2) الكافي: 1/ 102 / 5.
(3) كفاية الأثر: 12، كشف الغمة: 3/ 176، الكافي: 1/ 138 / 3 والتوحيد: 61/ 18.
(4) أحمد (1/ 391) (3712)، (1/ 452) (4318)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/37)
برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) (1) ما يدل على ذلك.
قال آخر: وقد حكى الغزالي من باب الإشارة ما فهمه بعض العارفين من هذا الدعاء، فقال: (ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، أنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم اسجد واقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات، فقال أعوذ بك منك ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله لا أحصي ثناء عليك ثم علم أن ذلك قصور فقال أنت كما أثنيت على نفسك) (2)
قال آخر: وهكذا؛ فإننا لو تدبرنا القرآن الكريم؛ فسنجد فيه الآيات الكثيرة الدالة على استحالة الحد والجسمية على الله، وبأصرح عبارة وأقواها.
قال آخر: من الأمثلة على ذلك، ما نجده في القرآن الكريم من وصف الله تعالى لنفسه بالعظمة المطلقة التي لا يمكن أن تحد أو تقدر أو تطيق العقول توهمها أو تصورها، لأنها لا طاقة لها بتصور المطلق.
قال آخر: وسنذكر لكم هنا نماذج عن الآيات المحكمة التي تدل على ذلك، ونذكر لكم معها ما استنبطه منها كبار العلماء.
__________
(1) رواه أَحمد (1/ 96 و 18 أو 150)، وأبو داود (1427)، والنسائي (3/ 248 ـ 249)، وابن ماجه (1179)
(2) إحياء علوم الدين (1/ 293)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/38)
قال آخر: فمن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في الأمر بتكبير الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] .. فتكبير الله يعني أنه أكبر من كل وهم وتصور وحدود.
قال آخر: وهو يعني أن الله أكبر من تصوراتنا وتعقلاتنا وتوهماتنا وأفكارنا وتأملاتنا .. وأنه أكبر من أن ينحصر في حيز محدود، أو أمد معدود، أو مكان أو زمان .. وأنه أكبر من أن تجري عليه القوانين التي تجري علينا، أو تحكمه السنن التي تقيدنا .. وأنه أكبر في ذاته وصفاته وكل ما يرتبط به.
قال آخر: ولهذا كان التحديد والتقدير من عقائد المشركين الذين اعتبروا الله جرما من الأجرام له نهاية ومقادر وحدود، وقد قال تعالى يذكرهم: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]، وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو حامد الغزالي من معان استنبطها من قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]
قال آخر: حيث قال في بيان دلالتها على استحالة وصف الله تعالى أو التعريف به: (لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان: أحدهما قاصر، والآخر مسدود، أما القاصر فهو ذكر الأسماء والصفات وطريقة التشبيه بما عرفناه من أنفسنا، فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا .. لأن حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه، بل لا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/39)
مناسبة بين البعيدين، وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم لكن يقطع التشبيه بأن يقال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين .. وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [المجادلة: 1] ولا الأكمه يفهم معنى قولنا إنه بصير، ولذلك إذا قال القائل كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء؟ فنقول: كما تعلم أنت الأشياء، فإذا قال: فكيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه، فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم لم يتصور فهمه البتة، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه، وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا، فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه، فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم) (1)
قال آخر: هذا هو السبيل الأول، وهو السبيل الوحيد المتاح .. والذي يرتبط بمدى قابلية العبد لتلقي المعارف الإلهية .. وأما (السبيل الثاني المسدود)، فقد عبر عنه الغزالي بقوله: (هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا كما ينتظر الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة، وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى، وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى) (2)
قال آخر: وبناء على هذا الكلام المنطقي ذكر الغزالي استحالة الحد على الله، فقال:
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 53)
(2) المقصد الأسنى (ص 53)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/40)
(فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله، بل أقول يستحيل أن يعرف النبي غير النبي، وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه .. بل أزيد وأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة أو النار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها، والنار عبارة عن أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار، وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات وهي المطعم والمنكح والمنظر فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات .. ولذات الجنة أبعد من كل لذة أدركناها في الدنيا .. بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. فكيف يتعجب المتعجبون من قولنا: لم يحصل أهل الأرض والسماء معرفة من الله تعالى إلا على الصفات والأسماء ونحن نقول لم يحصلوا من الجنة إلا على الصفات والأسماء وكذلك في كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته وما ذاقه وما أدركه ولا انتهى إليه ولا اتصف به) (1)
قال آخر: وبناء على هذا كانت نهاية المعرفة ـ كما يذكر أهل البرهان والعرفان ـ هو العجز عن المعرفة، كما قال أبو حامد ـ مستنتجا ذلك مما سبق ـ: (فإن قلت فماذا نهاية معرفة العارفين بالله تعالى؟ فنقول: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 54)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/41)
المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله عز وجل، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته) (1)
قال آخر: ولهذا؛ فإن وصف أهل التجسيم لأهل التنزيه بالجهل بالله لا يضرهم، لأنه يعبر عن الحقيقة؛ فالذي يعتقد جهله بالله هو العارف الحقيقي به، لا ذلك المغرور الذي يتوهم أنه أحاط علما بربه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما عبر عنه العلامة القضاعي في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] بقوله: (ثم الآية الكريمة بعد هذا تعطيك مسألة من علم التوحيد، بل مسائل هي من أهم مسائله وهي أن كل مقدر ومحدود بحدود، فهو حادث ممكن، لا بد له في وجوده واختصاصه بقدره الذي هو عليه من فاعل موجود واجب، أعطاه وجوده وخصصه بالقدر الذي هو عليه، وما من شيء في العالم إلا وهو ذو قدر معين في ذاته ومكانه وزمانه وصفاته، من صغر وكبر، وطول وقصر، وخفة وثقل، ونور وظلمة، وارتفاع وانخفاض، ولطافة وكثافة، وسيلان وجمود، وحرارة وبرودة، وحركة وسكون، وما يستتبع هذا من أشكال وألوان، وطعوم وروائح، وصعود ونزول، وأمكنة وجهات، وقرب وبعد، إلى سائر خصائص المادة مما لم نذكره وبين في علم خصائص المادة، فكل ذلك تنطق الآية الكريمة بأنه مختص بالمخلوقات يتعالى عن الاتصاف بشيء منه ربها وخالقها) (2)
قال آخر: ثم ذكر وجوها أخرى للاستدلال بالآية الكريمة، فقال: (إن كل ذي قدر فهو مخلوق، إذ الخلق يدور في اللغة على معنى التقدير أو الإيجاد على قدر معين، ولذلك يقول تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] ومعناه أن كل شيء فله قدر مخصوص كما
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 54)
(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 58.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/42)
ترون، وذو القدر المخصوص ينادي على نفسه بأنه حادث ممكن مخلوق لا بد له من خالق فأنا خالقه لا خالق له سواي، فالقرآن ينادى بأن الجسمية، ولوازمها هي من دلائل الحدوث ولوازم الإمكان، وهذا هو بعينه ما قرره علماء المعقول، وفضلاء أهل علم الكلام، بل كل ذي قدر ولو صغر جدا بحيث لا يبلغ أن يكون جسما، فهو داخل فيما حكمت عليه الآية أنه مخلوق للقادر الحكيم) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنتجه الفخر الرازي من تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 ـ 4]، وقد بدأ استدلاله بذكر غرض السورة الذي أنزلت من أجله، فقال: (واعلم أن قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته، فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل هذه السورة) (2)
قال آخر: ثم بين إحكامها، وكونها المرجع عند التنازع في المتشابه والمختلف فيه، فقال: (إذا عرفت ذلك فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابا عن سؤال المتشابه، بل وأنزلها عند الحاجة، وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات .. وإذ ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلا) (3)
قال آخر: وانطلاقا من هذه المقدمات ذكر أن قوله تعالى: {أَحَدٌ} يدل على نفي محدودية الله تعالى، وكل ما يرتبط بها من الجسمية ونفي الحيز والجهة، وقد بدأ بدلالتها على نفي الجسمية، لأنها الأساس لكل ما عداها، فقال: (أما دلالتها على أنه تعالى ليس بجسم
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 59.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/43)
فذلك؛ لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين، وذلك ينافي الوحدة وقوله: {أَحَدٌ} مبالغة في الواحدية، فكان قوله: {أَحَدٌ} منافيا للجسمية) (1)
قال آخر (2): وهو يقصد بالجوهر الكائن الذي تتكون منه الأشياء جميعا، وهو ما يُبحث في علوم الذرة، ويعرفونه بأنه الجزء الذي لا يتجزأ، ويصفونه بالفرد، وأن من مميزاته أنه لا طول له ولا عرض ولا عمق وبسيطا ليس مركبا، وأنه غير منقسم، وأنه يتبع مع غيره أو يفارقه، وأن من خصائصه السكون والحركة والتماس، وعندما تجتمع الأجزاء تشكل جسما.
قال آخر (3): وبما أن هناك من أنكر وجوده؛ فاعتبر أنه لا جزء إلا وله جزء، ولا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف، وأن الجزء جائز تجزئته أبدا، ولا نهاية له من التجزؤ .. فقد وضع الفخر الرازي كلا الاحتمالين في رده على مثبتي الجسمية، وذلك انطلاقا من معنى قوله تعالى: {أَحَدٌ}
قال آخر: ولذلك، وبعد أن أثبت استحالة الجسمية على الله تعالى، راح ينفي استحالة كونه جوهرا، فقال: (وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول، أما الذين ينكرون الجوهر الفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز، فلا بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني، وذلك لأنه لا بد من أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكل ما تميز فيه شيء عن شيء، فهو منقسم؛ لأن يمينه موصوف بأنه يمين لا يسار ويساره موصوف بأنه يسار لا يمين، فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين، وليس بيمين ويسار، وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد، وهو محال، قالوا: فثبت أن كل
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
(2) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري، ص 318.
(3) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري، ص 318.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/44)
متحيز، فهو منقسم وثبت أن كل منقسم، فهو ليس بأحد؛ فلما كان الله تعالى موصوفا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزا أصلا، وذلك ينفي كونه جوهرا) (1)
قال آخر: ثم ذكر الوجه الثاني للاستدلال بناء على إثبات الجوهر الفرد، فقال: (وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد، فإنه لا يمكنهم الإستدلال على نفي كونه تعالى جوهرا من هذا الإعتبار، ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرا من وجه آخر، وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتآلف في الذات، فقد يراد به الضد والند، ولو كان تعالى جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد مثلا له، وذلك ينفي كونه أحدا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، ولو كان جوهرا لكان كل جوهر فرد كفوا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر) (2)
قال آخر: وبناء على هذا، ذكر البراهين الدالة على نفي التحيز والجهة، وهو ما يدل على نفي المحدودية، فقال: (وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات؛ لأن كل ما كان مختصا بحيز وجهة، فإن كان منقسما كان جسما، وقد بينا إبطال ذلك، وإن لم يكن منقسما كان جوهرا فردا، وقد بينا أنه باطل ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلا فثبت أن قوله تعالى أحد يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا في حيز وجهة أصلا) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من جواب موسى عليه السلام لفرعون عندما سأله عن صفة الله تعالى، حين قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، فقال: (ثم إن موسى عليه السلام لم يذكر الجواب عن هذا السؤال إلا بكونه تعالى خالقا للناس ومدبرا
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/45)
لهم وخالق السموات والأرض ومدبرا لهما، وهذا أيضا من أقوى الدلائل على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا في جهة، لأن كون الشيء حجما ومتحيزا عين الذات ونفسها وحقيقتها لا أنه صفة قائمة بالذات، وأما كونه خالقا للأشياء ومدبرا لها، فهو صفة ولفظه ما سؤال عن الماهية وطلب للحقيقة، فلو كان تعالى متحيزا لكان الجواب عن قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] بذكر كونه متحيزا أولى من الجواب منه بذكر كونه خالقا، ولو كان كذلك كان جواب موسى عليه السلام خطأ، ولكان طعن فرعون بأنه مجنون لا يفهم السؤال ولا يذكر في مقابله السؤال ما يصلح أن يكون جوابا متجها لازما، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى ما كان متحيزا، فلا جرم ما كان يمكن تعريف حقيقته سبحانه وتعالى إلا بأنه خالق مدبر، فلا جرم كان جواب موسى عليه السلام صحيحا، وكان سؤال فرعون ساقطا فاسدا، فثبت أنه كما أن جواب محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤال الكفار عن صفة الله تعالى يدل على تنزيه الله تعالى عن التحيز، فكذلك جواب موسى عليه السلام) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، حيث ذكر أن الآية الكريمة تدل على كونه تعالى غنيا، (ولو كان جسما لما كان غنيا؛ لأن كل جسم مركب وكل مركب محتاج إلى كل واحد من أجزائه .. وأيضا لو كان جسما لوجب اختصاصه بالجهة، وكان محتاجا إلى الجهة، وذلك يقدح في كونه غنيا على الإطلاق) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، حيث ذكر أن (القيوم من يكون قائما بنفسه مقوما لغيره، فكونه قائما بنفسه عبارة عن كونه غنيا عن كل ما سواه، وكونه مقوما لغيره عبارة عن احتياج كل ما
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 28.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/46)
سواه إليه، فلو كان جسما لكان هو مفتقرا إلى غيره، وهو جزؤه، ولكان غيره غنيا عنه، وهو جزؤه فحينئذ لا يكون قيوما، ولو وجب حصوله في شيء من الأحياز لكان مفتقرا محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن قيوما على الإطلاق) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، حيث ذكر أن (الخالق في اللغة هو المقدر، ولو كان تعالى جسما لكان متناهيا، ولو كان متناهيا لكان مخصوصا بمقدار معين ولما وصف نفسه بكونه خالقا، ووجب أن يكون تعالى هو المقدر لجميع المقدرات بمقاديرها المخصوصة، فإذا كان هو مقدار في ذاته بمقدار مخصوص لزم كونه مقدرا لنفسه، وذلك محال .. وأيضا لو كان جسما لكان متناهيا وكل متناه، فإنه محيط به حد، أو حدود مختلفة وكل ما كان كذلك، فهو مشكل وكل مشكل فله صورة، فلو كان جسما لكان له صورة، ثم إنه تعالى وصف نفسه بكونه مصورا، فيلزم كونه مصورا لنفسه، وذلك محال فيلزم أن يكون منزها عن الصورة والجسمية حتى لا يلزم هذا المحال) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، حيث ذكر أن (الله تعالى وصف نفسه بكونه ظاهرا وباطنا، ولو كان جسما لكان ظاهره غير باطنه، فلم يكن الشيء الواحد موصوفا بأنه ظاهر وبأنه باطن لأنه على تقدير كونه جسما يكون الظاهر منه سطحه والباطن منه عمقه، فلم يكن الشيء الواحد ظاهرا وباطنا .. وأيضا المفسرون قالوا إنه ظاهر بحسب الدلائل، باطن بحسب أنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال، ولو كان جسما لما أمكن وصفه بأنه لا
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 28.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 29.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/47)
يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]، حيث ذكر أن (هذا يقتضي أن يكون ذاته متقدما في الوجود على كل ما سواه وأن يكون متأخرا في الوجود عن كل ما سواه، وذلك يقتضي أنه كان موجودا قبل الحيز والجهة، ويكون موجودا بعد فناء الحيز والجهة) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، حيث ذكر أن (ذلك يدل على كونه تعالى منزها عن المقدار والشكل والصورة، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به، وذلك على خلاف هذين النصين .. فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه وإن كان جسما لكنه جسم كبير، فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم، قلنا لو كان الأمر كذلك لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسماوات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز، فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة والأبصار لا تحيط بأطرافها والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها، ولو كان الأمر كذلك لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام: 12]، حيث ذكر أن (هذا مشعر بأن المكان وكل ما فيها ملك لله تعالى، ومثله قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13]، وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى .. ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان) (4)
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 29.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 30.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 31.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/48)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، وقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} [غافر: 7]، حيث ذكر أنه (لو كان الخالق في العرش لكان حامل العرش حاملا لمن في العرش، فيلزم إحتياج الخالق إلى المخلوق) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، حيث ذكر أن (ظاهر الآية يقتضي فناء العرش وفناء جمع الأحياز والجهات، وحينئذ يبقى الحق سبحانه وتعالى منزها عن الحيز والجهة، وإذا ثبت ذلك امتنع أن يكون الآن في جهة، وإلا لزم وقوع التغير في الذات) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، حيث ذكر أنه لو كان الله تعالى (في جهة الفوق لكانت السجدة تفيد البعد من الله تعالى لا القرب منه، وذلك خلاف الأصل) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]، حيث ذكر أن (الند المثل، ولو كان تعالى جسما لكان مثلا لكل واحد من الأجسام، لأن الأجسام كلها متماثلة، فحينئذ يكون الند موجودا على هذا التقدير، وذلك على مضادة هذا النص) (4)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة الحد والجسمية على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الثاني
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 32.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 32.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/49)
الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الثاني ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات الجهة لله تعالى، والتي تميزه عن خلقه، وتجعله بائنا عنهم، وهذا هو جوهر الفرق بيننا وبين المعطلة؛ فهم يعتقدون أن الله تعالى منزه عن المكان والجهة بناء على عدم محدوديته.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا في ديننا، وتنتهي بالأدلة العقلية والفطرية التي تسلم لها كل العقول والفطر السليمة.
قال القاضي: فحدثونا عن الدليل الأول.
قال أحد الشيوخ: الدليل الأول هو ما ورد عن سلفنا الصالح من الروايات الكثيرة الدالة على إجماعهم على ذلك.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن ـ قاضي الري ـ حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: (ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب) (1)
قال آخر: وروي عن يحيى بن معاذ أنه قال: (إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً) (2)
قال آخر: وروي عن عبدالله بن أبي جعفر الرازي أنه كان يضرب قرابة له بالنعل
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية (140)
(2) الذهبي في العلو (139)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/50)
على رأسه يرمي برأي جهم ويقول: (لا حتى تقول (الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه) (1)
قال آخر: وعن علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك قال: قيل له كيف نعرف ربنا!؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه) (2)
قال آخر: وقال ابن أبي شيبة: (توفرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته، ثم خلق الأرض والسموات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش، فهو فوق السموات وفوق العرش بذاته) (3)
قال آخر: وقال يوسف بن موسى القطان: (قيل لأبي عبدالله: الله فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وقدرته بكل مكان!؟ قال: نعم) (4)
قال آخر: وقال الدارمي: (الآثار التي جاءت عن رسول الله في نزول الرب تبارك وتعالى تدل على أن الله عز وجل فوق السموات على عرشه بائن من خلقه) (5)
قال آخر: وقال: (إن الأمة كلها، والأمم السالفة قبلها، لم يكونوا يشكون في الله تعالى أنه فوق السماء، بائن من خلقه، غير هذه العصابة الزائغة عن الحق المخالفة للكتاب وأثارات العلم كلها) (6)
قال آخر: وقال ابن خزيمة: (من لم يقرّ بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سمواته، بائن من خلقه؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه) (7)
قال آخر: وقد عقد أبو القاسم الطبراني باباً خاصاً في كتابه [السنة] قال فيه: [باب ما جاء
__________
(1) الذهبي في العرش (239)
(2) الدارمي في الرد على الجهمية (47)
(3) كتاب العرش، لابن أبي شيبة (291)
(4) أورده ابن بطة في الإبانة، وتتمة الرد على الجهمية، (115)
(5) الرد على الجهمية (73)
(6) الرد على الجهمية (ص 21)
(7) الذهبي في العرش (277)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/51)
في استواء الله على عرشه وأنه بائن من خلقه] (1) .. وقال ابن أبي زيد المالكي في رسالته الشهيرة: (وإنه فوق عرشه المجيد بذاته، وعلمه في كل مكان) (2)
قال آخر: وقال أبو نصر السجزي: (وأئمتنا: الثوري ومالك وابن عيينة وحماد ابن سلمة وحماد بن زيد وعبدالله ابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق؛ متفقون على أن الله فوق عرشه بذاته، وأن علمه بكل مكان) (3)
قال آخر: وقد نقل عبد الرحمن ابن أبي حاتم إجماع أئمة السلف على ذلك، فقال: (سألت أبا حاتم وأبا زرعة الرازيين رحمهما الله عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً، وكان من مذهبهم: أن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً) (4) .. وقال أبو عمرو الطلمنكي: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على العرش بذاته) (5)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك إجماعهم على معنى القرب والبعد، وأنهما على معناهما الظاهر الواضح، على عكس ما يقوله المؤولة المعطلة.
قال آخر: وقد عبر عن هذا شيخنا الدارمي بقوله: ( .. فيقال لهذا المعارض المدعي ما لا علم له من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سمواته علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة والسادسة أقرب إليه من الخامسة ثم كذلك إلى الأرض) (6)
__________
(1) الذهبي في العرش (316)
(2) رسالة ابن أبي زيد (4)
(3) الذهبي في العرش (341)
(4) اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة، (321)
(5) ابن تيمية في درء التعارض (2/ 35)، والذهبي في العلو (264)
(6) نقض عثمان بن سعيد 1/ 504. وانظر الفواكه العذاب لحمد بن ناصر 157 وإثبات علوالله لحمود التويجري 84
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/52)
قال آخر: وبناء على هذا اتفقوا على أن أقرب الخلق إلى الله هو العرش، ثم الملائكة الحاملين للعرش .. وهكذا .. وقد استدلوا على ذلك بما روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم، فيخبرونهم ماذا قال) (1)
قال آخر: وقد استدل شيوخنا بهذا الحديث على أن (حملة العرش هم أول من يتلقى أمر الله، ثم يبلغونه للذين يلونهم من أهل السموات، فكونهم أقرب الخلق إلى الله دليل على أن العرش أقرب منهم إليه سبحانه لأنهم إنما يحملونه) (2)
قال آخر: بل ورد في بعض الروايات ما يدل على المسافة التي تفصل الله تعالى عن أقرب الخلق إليه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أقرب الخلق إلى الله تعالى جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وإنهم من الله تعالى بمسيرة خمسين ألف سنة) (3)
قال آخر: وقد ذكر سلفنا الصالح الكثير من الشروح والتوضيحات المرتبطة بذلك، ومنها ما روي عن وهيب بن الورد، أنه قال: (بلغني أن أقرب الخلق من الله عز وجل إسرافيل العرش على كاهله .. فإذا نزل الوحي دلي لوح من تحت العرش، فيقرع جبهة إسرافيل، فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله، فإذا كان يوم القيامة أتى بإسرافيل ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل. فيدعى جبريل ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل. فيؤتى بالرسل ترعد فرائصهم فيقال: ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون: بلغنا الناس) (4)
__________
(1) رواه مسلم (2229)
(2) محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش 81
(3) العلو للعلي الغفار 1/ 90. أبو الشيخ في العظمة 2/ 684 (276)
(4) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 846)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/53)
قال آخر: وبناء على هذا فسروا قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7]
قال آخر: فقد روي عن وهب بن منبه أنه قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل: يا إسرافيل، هات ما وكلتك به فيقول: نعم يا رب في الصور كذا وكذا ثقبة، وكذا وكذا روحا، للإنس منها كذا وكذا، وللجن منها كذا وكذا، وللشياطين منها كذا وكذا، وللوحوش منها كذا وكذا، وللطير كذا، ومنها كذا وكذا للحيتان، وللبهائم منها كذا وكذا وللهوام منها كذا وكذا، فيقول الله عز وجل: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول الله عز وجل: هات ما وكلتك به يا ميكائيل فيقول: نعم يا رب أنزلت من السماء كذا وكذا كيلة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا قيراطا وزنة كذا وكذا خردلة وزنة كذا وكذا ذرة، أنزلت في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا كذا وكذا، وفي جمعة كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا للزرع كذا وكذا وأنزلت منه للشياطين كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت للإنس منه كذا وكذا في يوم كذا وكذا كذا وكذا، وأنزلت للبهائم كذا وكذا وزنة كذا وكذا، وأنزلت للوحوش كذا وكذا وزنة كذا، وكذا، وللطير منه كذا وكذا، وللباد منه كذا وكذا، وللحيتان منه كذا وكذا وللهوام منه كذا وكذا فذلك كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح، فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول: يا جبريل هات ما وكلتك به، فيقول: نعم يا رب أنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية في شهر كذا وكذا في جمعة كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية وعلى نبيك فلان كذا وكذا سورة فيها كذا وكذا آية، فذلك كذا وكذا أحرفا، وأهلكت كذا وكذا مدينة، وخسفت بكذا وكذا، فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول عز وجل: هات ما وكلتك به يا عزرائيل. فيقول: نعم يا رب قبضت روح كذا وكذا إنسي وكذا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/54)
وكذا جني، وكذا وكذا شيطان وكذا وكذا غريق، وكذا وكذا حريق، وكذا وكذا كافر، وكذا وكذا شهيد وكذا وكذا هديم وكذا وكذا لديغ وكذا وكذا في سهل، وكذا وكذا في جبل، وكذا وكذا طير، وكذا وكذا هوام، وكذا وكذا وحش فذلك كذا، وكذا جملته كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص فالله تبارك وتعالى علم قبل أن يكتب وأحكم) (1)
قال آخر: وبهذا الحديث فسروا قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، بل ذكروا أن جبريل عليه السلام كان إذا احتاج إلى سؤال الله رحل إليه، ودنا منه، ليسأله.
قال آخر: ومن تلك الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبريل عليه السلام: أي بقاع الأرض أشر؟، قال: الله أعلم، قال: ألا تسأل ربك عز وجل؟ قال: ما أجرأكم يا بني آدم إن الله لا يسئل عما يفعل، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إني دنوت من ربي حتى كنت منه بمكان لم أكن قط أقرب منه، كنت بمكان بيني وبينه سبعون حجابا من نور، فأوحى الله تبارك وتعالى إلي أن شر بقاع الأرض السوق) (2)
قال آخر: وفي رواية أخرى أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحلته الطويلة: (يا محمد، لقد وقفت اليوم موقفا لم يقفه ملك قبلي ولا يقفه ملك بعدي، كان بيني وبين الجبار تبارك وتعالى سبعون ألف حجاب من نور، الحجاب يعدل العرش والكرسي والسماوات والأرض بكذا وكذا ألف عام، فقال: أخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن خير البقاع المساجد، وخير أهلها أولهم دخولا، وآخرهم خروجا، وشر البقاع الأسواق، وشر أهلها أولهم
__________
(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 847)
(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 672)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/55)
دخولا، وآخرهم خروجا) (1)
قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، فعن مجاهد قال: (بين السماء السابعة، وبين العرش سبعون ألف حجاب: حجاب نور، وحجاب ظلمة، وحجاب نور، وحجاب ظلمة، فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]) (2)
قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] فقد رووا عن مجاهد قوله: (إن داود عليه السلام يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة في كفه، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول له: كن بين يدي، فينظر إلى كفه فيراها، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول: خذ بحقوي، فذلك قوله، عز وجل: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]) (3)
قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى عن المعراج: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 ـ 10]، فقد رووا عن أنس بن مالك قوله: (ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى،
__________
(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 675)
(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 690)، وأخرجه الطبري في تفسيره 16/ 95 والبيهقي في الأسماء والصفات 508.
(3) السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 503)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/56)
فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات .. ) (1)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قصة عجيبة ذكرها البغوي في تفسيره عن أيوب عليه السلام، رواها عن وهب بن منبه، كتفسير لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فقد ذكر أن أيوب لم يقل تلك الكلمة التي ذكرها القرآن الكريم فقط، وإنما قال أيضا: (لو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلا نظر إلي فيرحمني، ولا دنا مني، ولا أدناني فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي، وأخاصم عن نفسي) (2)
قال آخر: ويروي أن الله تعالى أجابه بنزوله على الغمام وخطابه له، قال وهبه بن منبه: (فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا ثم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك، وقم مقام جبار يخاصم جبار إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا شبه لي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ما تبلغه بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك
__________
(1) البخاري 6/ 370 (7079)
(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/57)
حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا محفوظا في الهواء .. ) (1)
قال آخر: وقد استدل شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه القصة على دنو الله من خلقه، فقال: (وقد جاء أيضاً من حديث وهب بن منبه وغيره من الاسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ولفظه الذي ساقه البغوي أنه أظله غمام ثم نودى يا أيوب أنا الله، يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا، لكن الاسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة لا على وجه الاعتماد عليها وحدها) (2)
قال آخر: ثم أعطى القاعدة التي بنى عليها السلف هذه المسألة، فقال: (والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة وهو قول الأشعري وغيره من الكلابية فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته .. وأما دنوه نفسُه وتقرُّبُه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستوائه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الاسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر) (3)
قال آخر: وبناء على هذا المفهوم للقرب اتفق سلفنا على أن معنى قرب أهل الجنة من الله هو القرب الحسي لا كما يتوهمه المعطلة من القرب المعنوي .. وقد روي في ذلك عن عبد الله بن مسعود قوله: (سارعوا إلى الجمع في الدنيا فإن الله تعالى ينزل لأهل الجنة كل جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمع في الدنيا) (4)
قال آخر: وبناء على هذا أيضا فسروا المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) تفسير البغوي (3/ 303)
(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.
(3) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 466
(4) العلو 1/ 60.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/58)
في قوله: {عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا} [الإسراء:79]، حيث ذكروا أن معناه إقعاد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على العرش، فقد روي عن أبي هريرة، أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: (نعم، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حبيب الله؟ فأتخطى صفوف الملائكة حتى أصير إلى جانب العرش، ثم يمد يده فيأخذ بيدي فيقعدني على العرش) (1)
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الثاني.
قال أحد الشيوخ: الدليل الثاني هو القرآن الكريم، وبما أن خصومنا من المعطلة يدعون أيضا أنهم يستمدون نفي العلو عن الله به؛ فسنذكر صنفين من الآيات .. الآيات الواضحة المحكمة والتي تدل على ذلك .. والثاني الآيات المتشابهة التي استدلوا بها على ما اعتبروه تنزيها، وهو في الحقيقة تعطيل.
قال القاضي: فحدثونا عن الصنف الأول من الآيات، وهي الآيات المحكمة الدالة على علو الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أولها الآيات الست الواردة بلفظ الاستواء على العرش، وهي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [الأعراف: 54، يونس: 3 الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4]
قال آخر: وثانيها الآيات المشتملة على لفظ الفوق، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ
__________
(1) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/59)
حَفَظَةً} [الأنعام: 61]، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]
قال آخر: وثالثها الآيات المشتملة على لفظ العلو كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]
قال آخر: ورابعها الآيات المشتملة على لفظ العروج إليه والصعود، كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]
قال آخر: وخامسها الآيات المشتملة على لفظ الإنزال والتنزيل، وهي كثيرة تزيد على المائتين في حق القرآن الكريم والروح والملائكة المقربين والتوراة والإنجيل وغيرها .. ومن أمثلتها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91]، وقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .. وغيرها كثير.
قال آخر: وسادسها الآيات المقرونة بحروف (إلى) لدلالتها على انتهاء الغاية، كما قال تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، وذلك يقتضي انتهاء النظر إليه، وقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15]، وقال: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وقال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28]
قال آخر: وسابعها قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] والحجاب، إنما يصح في حق من يكون جسما، وفي جهة حتى يصير محجوبا بسبب شيء آخر.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/60)
قال آخر: وثامنها الآيات الدالة على أنه في السماء، كما قال تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17]، وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]
قال آخر: وتاسعها الآيات المشتملة على الرفع إليه، كما قال تعالى في حق عيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]
قال آخر: وعاشرها الآيات المشتملة على العندية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، وقوله: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38]، وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]
قال آخر: والحادي عشر ما ورد في القرآن الكريم من قصة المعراج، والتي تدل على أن الله تعالى مختص بجهة فوق، ويدل لذلك قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8]، وقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وهذا يدل على أن ذلك الدنو بالجهة لقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]
قال آخر: والحادي عشر ما ورد في القرآن الكريم من قول فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37]
قال القاضي: حدثتمونا عن الصنف الأول من الآيات، وهي الآيات المحكمة الدالة على علو الله تعالى .. فحدثونا عن الصنف الثاني، وهي الآيات المتشابهة التي استدل بها المعطلة.
قال أحد الشيوخ: من أهم تلك الآيات استدلالهم بآيات [المعية] و [القرب] الواردة
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/61)
في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة 7]، وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُم} [النساء 108]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4]، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة 40]، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف 84]، وقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام 3]، وغيرها؛ فلا دلالة لها على ما يفهمون.
قال آخر (1): وقد أبطل علماؤنا علماء السلف زعم هؤلاء المعطلة، واستدلالهم بهذه الآيات، ويبينوا أن كل نص يحتجون به هو في الحقيقة حجة عليهم، فنصوص المعية التي استدلوا بها لا تدل بأي حال من الأحوال على ما زعموه، ذلك لأن كلمة (مع) في لغة العرب لا تقتضي أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، وهي إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى.
قال آخر (2): ولفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، واقتضت في كل موضع أموراً لم تقتضها في الموضع الآخر، وذلك بحسب اختلاف دلالتها في كل موضع.
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 174)
(2) العرش للذهبي (1/ 174)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/62)
قال آخر (1): ذلك أنها وردت في القرآن الكريم بمعنى المعية العامة، والمراد بها أن الله معنا بعلمه، فهو مطلع على خلقه شهيد عليهم، ومهيمن وعالم بهم، وهذه المعية هي المرادة بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
قال آخر: فالله سبحانه وتعالى قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم ولذلك أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم تفسير القرآن على أن تفسير الآية هو أنه معهم بعلمه، وقد نقل هذا الإجماع ابن عبد البر (2)، وأبو عمرو الطلمنكي، وابن تيمية (3)، وابن القيم (4) .. وعلى هذا فلا حجة للمخالفين في ظاهر هذه الآية.
قال آخر (5): ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]؛ فظاهر الآية دال على أن المراد بهذه المعية هو علم الله تبارك وتعالى واطلاعه على خلقه، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، فجمع تعالى في هذه الآية بين العلو والمعية، فليس بين الاثنين تناقض البتة، وهو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه) (6)
قال آخر (7): أما المعنى الثاني للمعية؛ فهي المعية الخاصة، وهي معية الاطلاع
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 174)
(2) التمهيد (7/ 138)
(3) مجموع الفتاوى (5/ 193)، و (5/ 519)، و (11/ 249 ـ 250)
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 44)
(5) العرش للذهبي (1/ 176)
(6) الدارمي في الرد على الجهمية (ص 26، 27)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 396)
(7) العرش للذهبي (1/ 176)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/63)
والنصرة والتأييد، وسميت خاصة لأنها تخص أنبياء الله وأولياءه مثل قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، فهذه المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
قال آخر (1): ولفظ المعية على كلا الاستعمالين ليس مقتضاه أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، ولو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان لتناقض الخبر العام والخبر الخاص، ولكن المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك (2).
قال آخر: وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن هذه الآية لا تخلوا من أن يراد بها قربه سبحانه أو قرب ملائكته كما قد اختلف الناس في ذلك؛ فإن أريد بها قرب الملائكة، فدليل ذلك من الآية قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 16 ـ 17] ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان، فيكون الله سبحانه قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، أما إذا كان المراد بالقرب في الآية قربه سبحانه، فإن ظاهر السياق في الآية دل على أن المراد بقربه هنا قربه بعلمه، وذلك لورود لفظ العلم في سياق الآية {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]) (3)
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 176)
(2) مجموع الفتاوى (11/ 250)، و (5/ 104)
(3) الفتاوى (6/ 19 ـ 20)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/64)
قال آخر: وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، فمعنى الآية: أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وقد قال ابن عبد البر في تفسيرها: (فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير) (1)
قال آخر: وقال الآجري: (وقوله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] معناه: أنه جل ذكره إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الإله يعبد في السموات، وهو الإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء) (2)
قال آخر: وروى الآجري بسنده في تفسيره هذه الآية عن قتادة قوله: (هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض) (3)
قال آخر: وأما استدلالهم بقوله تعالى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] فقد فسرها أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض (4)، وقال الآجري: (وعند أهل العلم من أهل الحق {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] هو كما قال الحق {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3] فما جاءت به السنن أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) (5)
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الثالث.
__________
(1) التمهيد (7/ 134)
(2) الشريعة (3/ 1104)
(3) الشريعة (3/ 1104 ـ 1105)
(4) الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد (ص 92 ـ 93)، ومجموع الفتاوى (11/ 250)
(5) الشريعة (3/ 1104)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/65)
قال أحد الشيوخ: هو ما ورد من الأحاديث النبوية الكثيرة الدالة على ذلك، وسنورد لكم سيدي القاضي ثلاثين حديثا كاملة في الدلالة على ذلك.
قال آخر: وأولها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (1)
قال آخر: والحديث الثاني ما روي عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب ذهب منها بشاة وأنا من بني آدم، آسف كما يأسفون، فرفعت يدي فصككتها صكة، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له ذلك، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة (2).
قال آخر: وهكذا نرى أن الجارية بادرت فأجابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحض الفطرة بأن الله في السماء حين سألها أين الله؟ .. وكل صاحب فطرة مستقيمة لا يمكن أن يجيب على مثل هذا السؤال إلا بما أجابت به الجارية.
قال آخر: في الحديث مسألتان ـ كما يقول الإمام الذهبي .. إحداهما: شرعية قول المسلم: (أين الله)، وثانيهما: قول المسؤول: (في السماء)، فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (3).
قال آخر: وقال شيخنا عثمان بن سعيد الدارمي في تعليقه على الحديث: (ففي هذا الحديث دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس
__________
(1) أبو داود، ح (4941)، 5/231، وأحمد 2/160، والترمذي، ح (1904)، 4/323.
(2) مسلم، ح (537)، 1/382، وأبو داود، ح (930)، 1/570، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، ح (489)، 1/215.
(3) العلو ص 26.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/66)
بمؤمن، ولو كان عبدا فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل أمارة إيمانها معرفتها أن الله في السماء، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أين الله؟)، تكذيب لقول من يقول: هو في كل مكان، لا يوصف بأين، لأن شيئا لا يخلو منه مكان يستحيل أن يقال: أين هو؟ ولا يقال أين؟ إلا لمن هو في مكان، يخلو منه مكان، ولو كان الأمر كما يدعي هؤلاء الزائفة لأنكر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولها وعلمها، ولكنها علمت به فصدقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد لها بالإيمان بذلك، ولو كان في الأرض كما هو في السماء لم يتم إيمانها حتى تعرفه في الأرض كما عرفته في السماء، فالله تبارك وتعالى فوق عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد لا يبعد عنه شيء) (1)
قال آخر: وقال شيخنا محمد خليل هراس: (هذا الحديث يتألق نصاعة ووضوحا، وهو صاعقة على رؤوس أهل التعطيل، فهذا رجل أخطأ في حق جاريته بضربها، فأراد أن يكفر عن خطيئته بعتقها، فاستمهله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يمتحن إيمانها، فكان السؤال الذي اختاره لهذا الامتحان هو (أين الله؟) ولما أجابت بأنه في السماء، رضي جوابها وشهد لها بالإيمان، ولو أنك قلت لمعطل: أين الله؟ لحكم عليك بالكفران) (2)
قال آخر: ولذلك؛ فإن إنكار المبتدعة صحة السؤال عن الله (بأين) إنكار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتهام له بارتكاب خطأ كبير، وهذا ـ كما ترى ـ في غاية الضلال، وهو قدح صريح واضح في عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته.
قال آخر: أما إعلال المعطلة المبتدعة للحديث بالاضطراب، فغير وارد، لأنه تعسف واضح وتجن بين، وردا على هذا الزعم الباطل قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني: (وهذا
__________
(1) الرد على الجهمية ص 17 ـ 18.
(2) حاشية التوحيد لابن خزيمة ص 121.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/67)
الحديث صحيح بلا ريب، لا يشك في ذلك إلا جاهل أو مغرض من ذوي الأهواء الذين كلما جاءهم نص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ما هم عليه من الضلال، حاولوا الخلاص منه بتأويله، بل بتعطيله، فإن لم يمكنهم ذلك حاولوا الطعن في ثبوته كهذا الحديث، فإنه مع صحة إسناده وتصحيح أئمة الحديث إياه دون خلاف بينهم أعلمه، منهم الإمام مسلم حيث أخرجه في صحيحه، وكذا أبو عوانة في مستخرجه عليه، والبيهقي في الأسماء .. ومع ذلك نرى الكوثري الهالك في تعصبه يحاول التشكيك في صحته بادعاء الاضطراب فيه) (1)
قال آخر: والحديث الثالث، ما روي عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: اعتقها (2).
قال آخر (3): وهذا الحديث غير حديث معاوية بن الحكم السلمي السابق، وهي وأمثالها شواهد لا بأس بها، وثبوت حديث معاوية أمر واضح وجلي، وفي كل هذه الأحاديث، يمتحن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان هؤلاء الجواري بسؤاله لهن: (أين الله؟)، أفلا يستحي هؤلاء المعطلة من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فهم لا يصفون الله تعالى إلا بما يدل على عدمه لا على وجوده حين ينفون عنه العلو والاستواء.
قال آخر: والحديث الرابع ما روي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من اشتكى منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين،
__________
(1) مختصر العلو ص 82.
(2) مالك في الموطأ، 2/777، وأحمد 3/450، وابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 123.
(3) إثبات صفة العلو، ابن قدامة (ص 75)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/68)
أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على الوجع فيبرأ) (1)
قال آخر: وهو مع كونه ضعيفا (2)، إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا، كما فعل شيوخنا وأئمتنا.
قال آخر: والحديث الخامس ما روي عن محمد بن عمران بن حصين، قال: اختلفت قريش إلى الحصين أبي عمران، فقالوا: إن هذا الرجل يذكر آلهتنا، فنحن نحب أن تكلمه وتعظه، فمشوا معه إلى قريب من باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجلسوا ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوسعوا للشيخ، فأوسعوا له، وعمران وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، فقال حصين: ما هذا الذي يبلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم، وقد كان أبوك جفنة وخبزا، فقال: (إن أبي وأباك في النار، يا حصين كم إلها تعبد اليوم؟ قال: سبعة في الأرض وإلها في السماء، قال: فإذا أصابك الضيق فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال فمن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشركهم معه!؟ قال: أما رضيته ـ أو كلمة نحوها ـ أو تخاف أن يغلب عليك؟ قال: لا واحدة من هاتين، وعرفت أني لم أكلم مثله، فقال: يا حصين، أسلم تسلم، قال: إن لي قوما وعشيرة، فماذا أقول لهم؟ قال: قل: اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وأستجيرك من شر نفسي، علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، وزدني علما ينفعني، فقالها، فلم يقم حتى أسلم، فوثب عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى، فقيل له: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: مما صنع عمران، دخل حصين وهو مشرك فلم يقم إليه ولم يلتفت إلى ناحيته، فلما أسلم
__________
(1) سنن أبي داود، ح (3892)، 4/218، أحمد 6/21، والدارمي في الرد على الجهمية ص 18، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 533.
(2) قال الخطابي فيه: في إسناده زيادة بن محمد الأنصاري، قال أبو الحاتم الرازي، هو منكر الحديث، وقال البخاري والنسائي: منكر الحديث، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، معالم السنن على مختصر سنن أبي داود 5/ 366، وانظر: الضعفاء الصغير للبخاري ص 48، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 44، وميزان الاعتدال للذهبي 2/ 89.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/69)
قضى حقه، فدخلني من ذلك رقة، فلما أراد أن ينصرف حصين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا فشيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب نظرت إليه قريش فقالت: صبأ وتفرقوا عنه (1).
قال آخر: وهو مع كونه ضعيفا، إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا، لأن ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث الأخرى يقويه.
قال آخر: ففي هذا الحديث ألزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حواره مع حصين الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإقرار بأن الآلهة الأخرى التي كان يعبدها لا تملك له نفعا ولا تدفع عنه ضرا، بل الذي يملك له النفع ويدفع عنه الضر هو الله الذي أقر به في السماء وحده لا شريك له.
قال آخر: أما رد المعطلة له، بحجة ما ورد في من إقرارا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحصين على كون الله في السماء، وأنه يلزم منه أن يقره على الستة في الأرض، وهذا الإلزام واضح الفساد، ولا يحتاج إلى أدنى جهد لإبطاله.
قال آخر: والحديث السادس ما حدث به ابن إسحاق، قال: خرج عبد أسود لبعض أهل خيبر في غنم له حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لبعض أصحابه: من هذا الرجل؟ قالوا: رسول الله الذي من عند الله، قال: الذي في السماء؟ قالوا: نعم، قال: أدنوني منه، قال: فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، قال: الذي في السماء؟ قال: نعم، قال: فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة فتشهد، ثم استقبل غنمه فرمى في وجوهها بالبطحاء، ثم قال: اذهبي، فوالله لا أتبعك أبدا، فولت، فكان ذلك آخر العهد بها، قال: فقاتل العبد حتى استشهد قبل أن يصلي سجدة واحدة، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألقي خلفه فالتفت إليه، ثم أعرض عنه، فقيل: يا رسول الله، التفت إليه، ثم أعرضت عنه، فقال: إن
__________
(1) ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 120، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 534، والذهبي في العلو ص 24، وقال: (عمران) ضعيف.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/70)
معه الآن لزوجته من الحور العين (1).
قال آخر: وهذا الحديث، وإن كان ضعيفا (2) إلا أنه واضح الدلالة على هذا، وأن الله في السماء.
قال آخر: والحديث السابع ما روي عن عدي بن عميرة بن فروة العبدي، قال: كان بأرضنا حبر من اليهود يقال له ابن شهلا، فالتقيت أنا وهو يوما فقال: يا عدي بن عميرة، فقلت: ما شأنك يا ابن شهلا، فقال: إني أجد في كتاب الله المنزل أن أصحاب الفردوس قوم يعبدون ربهم على وجوههم، لا والله ما أعلم هذه الصفة إلا فينا معشر يهود، وأجد نبيها يخرج من اليمن، فمن تبعه كان على هدى، لا نراه يخرج إلا منا معشر يهود، وأجد وقعتين تكونان، إحداهما بمصرين، والأخرى بصفين، فأما مصرين قد سمعنا بها من أرض الفراعنة، وأما صفين فوالله ما أدري أين هي، قال عدي: فوالله ما مكثنا إلا يسيرا حتى بلغنا أن رجلا من بني هاشم قد تنبأ، وسجد على وجهه، فذكرت حديث ابن شهلا، فخرجت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء، فأسلمت واتبعته (3).
قال آخر: والحديث الثامن ما روي عن أبي عبيدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء (4).
قال آخر: وهذا الحديث، وإن كان ضعيفا (5)، إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا.
__________
(1) ابن هشام في السيرة 3/459 ـ 460، وابن القيم في زاد المعاد 3/323، والبيهقي في دلائل النبوة 4/219، وأورد هذه القصة ابن كثير في البداية والنهاية 4/191، بزيادة عند بعضهم ونقصان عند بعضهم الآخر، إلا أن موضع الشاهد من القصة وهو قوله: (الذي في السماء) لا يوجد عندهم.
(2) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: كان شرحبيل ـ راوي الحديث عن جابر ـ متهما، وقال فيه ابن حجر: (صدوق اختلط بآخره)، انظر: التقريب 1/348.
(3) الإصابة 4/474، والذهبي في العلو ص 25، وقال: هذا حديث غريب.
(4) الدارمي في الرد على الجهمية ص 20، والحاكم في المستدرك 4/248، وقال: صحيح الإسناد، وأورده الذهبي في العلو ص 20، وقال: وراه عمار بن زريق عن أبي إسحاق مرفوعا، والواقف أصح، مع أن رواية أبي عبيدة عن والده فيها إرسال.
(5) هذا الحديث مرسل، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب 5/75، أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ح (655)، وأورده موقوفا على عبد الله بن مسعود، رقم: (657)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/71)
قال آخر: والحديث التاسع ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذهبة في أديم مقروض لم تحصل من ترابها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أربعة، بين زيد الخير، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن علاثة، فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من في السماء صباح مساء، ثم أتاه رجل غائر العينين مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، فقال: اتق الله يا رسول الله، قال: فرفع رأسه إليه وقال: ويحك، أليس أحق أهل الأرض أن يتق الله أنا، ثم أدبر، فقال خالد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلعله يكون يصلي، فقال: إنه رب مصل، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم، ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقف، فقال: (هاه، إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) (1)
قال آخر (2): وهذا الحديث دلالته في غاية الصراحة والوضوح على علو الله تعالى، وهو من أصح الأحاديث.
قال آخر: والحديث العاشر ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب
__________
(1) البخاري ح (3610)، 6/617، مسلم، ح (1064)، 2/741.
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 83)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/72)
غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء، ثم ترسل من السماء ثم تصير إلى القبر (1).
قال آخر: والحديث الحادي عشر ما روي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) (2)
قال آخر: ومع أن الحديث روي بلفظ آخر، وهو (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ لعنتها الملائكة حتى تصبح)، ولفظ آخر: (إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع) (3) .. إلا أن الرواية التي ذكرناها تدل على ذلك.
قال آخر: والحديث الثاني عشر ما روي عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض) (4)
قال آخر: والحديث، وإن كان موضوعا (5)، إلا أن شيوخنا أوردوه للاستدلال على علو الله تعالى، كما فعل ذلك شيخنا ابن قدامة (6).
__________
(1) ابن ماجه، ح (4262)، 2/1423، وأحمد في المسند 2/364، وأورده الذهبي في العلو ص 22، وقال: رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال: هو على شرط البخاري ومسلم.
(2) مسلم، ح (1436)، 2/1060، والبخاري، ح (5193 ـ 5194)
(3) انظر: فتح الباري 9/294.
(4) الدارقطني في الضعفاء والمتروكين ص 380.
(5) أورده ابن الجوزي في الموضوعات 1/319، وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يرويه عن بكر بن خنيس إلا أبو الحارث واسمه نصر بن حماد، قال يحيى: هو كذاب، وقال مسلم بن الحجاج: ذاهب الحديث، وقال النسائي ليس بثقة، أهـ، وانظر: ميزان الاعتدال (4/250/ 251)، وقال العقيلي: نصر بن حماد كذاب، الضعفاء (4/301)
(6) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 86)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/73)
قال آخر: والحديث الثالث عشر ما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك) (1)
قال آخر: ومع أن الحديث ضعيف (2) إلا أن شيوخنا استدلوا به لإثبات العلو لله تعالى، كما فعل شيخنا ابن قدامة (3).
قال آخر: والحديث الرابع عشر ما روي عن تميم الداري، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن معانقة الرجل الرجل، إذا هو لقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أول من عانق خليل الله إبراهيم، وذلك أنه خرج يرتاد لماشيته في جبل من جبال بيت المقدس، فسمع صوتا يقدس الله فذهل عما كان يطلب، وقصد الصوت، فإذا هو برجل أهلب، طوله ثمانية عشر ذراعا يقدس الله، فقال له إبراهيم: يا شيخ، من ربك؟ قال: الذي في السماء، قال: من رب من في السماء؟ قال: الذي في السماء، قال: وما فيهما إله غيره؟ قال: لا إله إلا هو رب من في السماء، ورب من في الأرض، قال: يا شيخ هل معك أحد من قومك؟ قال: ما علمت أن أحدا من قومي بقي غيري، قال: فما طعامك؟ قال: أجمع من ثمر هذا الشجر في الصيف، فآكله في الشتاء، قال: فأين قبلتك؟ فأومأ إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، قال: أين منزلك؟ قال في تلك المغارة، قال: فانطلق إلى بيتك، قال: إن بيني وبين بيتي واديا لا ينخاض، قال: فيكف تعبره؟ قال: أعبر على الماء ذاهبا، وأعبر عليه جائيا، فقال إبراهيم: انطلق فلعل الذي يذلله لك، يذلله لي، فانطلقا فأتيا الماء فمشى كل واحد على الماء يعجب مما أوتي صاحبه، فدخلا
__________
(1) الدارمي في الرد على بشر المريسي ص 95، وأبو نعيم في الحلية 1/19.
(2) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/201 ـ 202، وقال: رواه البزار وفيه عاصم بن عمر بن حفص، وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ ويخالف وضعفه الجمهور، وقد ضعفه أحمد، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، وقال النسائي، والترمذي: متروك، انظر: ميزان الاعتدال 2/355، والتهذيب 5/51 ـ 52.
(3) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 140)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/74)
إلى الغار؛ فنظر إبراهيم، فإذا قبلته قبلته، فقال له إبراهيم: يا شيخ، أي يوم أعظم؟ قال: يوم يضع الله كرسيه للحساب، يوم تؤمر جهنم أن تزفر زفرة لا يبقى لها ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خر ساجدا تهمه نفسه من هول ذلك اليوم، قال إبراهيم: يا شيخ ادع الله أن يؤمنني وإياك من هول ذلك اليوم، قال: وما يصنع بدعائي، إن لي دعوة محبوسة في السماء منذ ثلاث سنين لم أرها، قال له إبراهيم: ألا أخبرك ما حبس دعاءك؟ قال: بلى، قال: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا أخر مسألته لحبه صوته، وإذا أبغض عبدا عجل مسألته، أو ألقى الأياس في صدره، فما دعوتك المحبوسة في السماء منذ ثلاث سنين؟ قال: مر بي في هذا المكان شاب له ذؤابة في رأسه، معه غنم كأنما خشيت، وبقر كأنما دهنت، قلت: بالله لمن هذه؟ قال: لخليل الله إبراهيم عليه السلام، فقلت: اللهم إن كان لك خليل في الأرض فأرينه قبل خروجي من الدنيا، فقال إبراهيم: قد أجيبت دعوتك، فاعتنق هو وإبراهيم، وكان قبل ذلك السجود، يسجد هذا لهذا، وهذا لهذا إذا لقيه، ثم جاء الإسلام بالمصافحة، فلا تفترق الأصابع حتى يغفر لكل واحد منهما، والحمد لله الذي وضع عنا الآصار (1).
قال آخر: فمع أن الحديث ضعيف، بل قيل بوضعه إلا أن علماءنا وشيوخنا ذكروه لدلالته على علو الله (2)، فتصديق الحديث الضعيف والموضوع خير من التعطيل والتجهم.
قال آخر: والحديث الخامس عشر ما روي عن الحارث الأعور، قال: حدثنا علي بن أبي طالب، ويده على كتفي، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويده على كتفي، قال: حدثني الصادق الناطق رسول رب العالمين، وأمينه على وحيه جبريل، ويده على كتفي، قال: سمعت إسرافيل يقول: سمعت القلم يقول: سمعت اللوح يقول: سمعت الله تعالى منفوق
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 141)
(2) أورد بعضا منه الذهبي في العلو، وقال: حديث باطل طويل يروى عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن أبي سفيان الألهاني، عن تميم الداري، العلو ص 56.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/75)
العرش يقول للشيء كن، فلا يكون يبلغ الكاف النون حتى يكون ما يكون (1).
قال آخر (2): وقد ذكر شيوخنا هذا الحديث للاستدلال به على فوقية الله تعالى على عرشه، بمعنى استوائه وعلوه عليه، وهو وإن كان مما لا يصح الاستدلال به لعدم صحته (3)، بل لكونه موضوعا؛ فإن صفة الاستواء من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة الصحيحة.
قال آخر: والحديث السادس عشر ما روي عن العباس بن عبد المطلب، قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، قالوا: والعنان، قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة، وإما اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك (4).
قال آخر: وهو وإن كان ضعيف الإسناد (5) إلا أن معناه قوي وصحيح، ويؤيده كل
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 92)
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 92)
(3) أورده الذهبي في العلو عن المصنف، وقال: هذا حديث باطل، ما حدث به هلال أبدا، وأحمد المكي كذاب، رويته للتحذير منه، العلو ص 45، قلت: فيه العلاء بن هلال الباهلي، قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث ضعيف، وذكره ابن حبان في الضعفاء، وقال: يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، فلا يجوز الاحتجاج به، وقال النسائي: يروي عنه ابنه هلال غير حديث منكر، لا أدري منه أتى أو من أبيه، ميزان الاعتدال 3/106، والتهذيب 8/194.
(4) أبو داود، ح (4723)، 5/93، والترمذي، ح (3320)، 5/424، وقال: هذا حديث حسن غريب، وروى الوليد بن أبي ثور عن سماك نحوه ورفعه، وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث ولم يرفعه، ورواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 100 ـ 102، وابن أبي عاصم في السنة، ح (577)، 1/253، وأحمد في المسند 1/206 ـ 207، والدارمي في الرد على الجهمية ص 19.
(5) أورده الذهبي في العلو، وقال: تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة، العلو ص 50، وعبد الله بن عميرة الكوفي الذي عليه مدار الحديث، قال فيه البخاري: لا يعلم له سماع من الأحنف، وقال الذهبي: فيه جهالة، وذكره ابن حبان في الثقات، والترمذي حسن حديثه، انظر: التهذيب 5/344، والميزان 2/469. أما راوي الحديث عن سماك، وهو وليد بن أبي ثور، فقال عنه العقيلي: يحدث عن سماك بمناكير لا يتابع عليها، التهذيب 11/137 ـ 138.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/76)
ما ورد في القرآن الكريم من إثبات العلو لله تعالى.
قال آخر: والحديث السابع عشر ما روي عن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: (ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد، ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته) (1)
قال آخر: ولا يضر الحديث كونه ضعيف الإسناد (2) .. فهو صحيح المعنى، وضعف إسناده لا يؤثر في الاستدلال به، وذلك ما فعله شيوخنا الذين أوردوه في الرد على المعطلة.
قال آخر: والحديث الثامن عشر ما روي عن عامر الشعبي، قال: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا أعظم نسائك عليك حقا، وأنا خيرهن منكحا، زوجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك، وليس لك من نسائك قريبة غيري (3).
قال آخر: وهو، وإن روي بروايات أخرى ليس فيها ذكر العلو (4)، إلا أننا نرجح هذه الرواية لأن معناها مما تتفق عليه الفطر السليمة.
قال آخر: والحديث التاسع عشر ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، هو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي رواية:
__________
(1) أبو داود، ح (4726)، وابن خزيمة في التوحيد ص 103، والآجري في الشريعة ص 293، وابن أبي عاصم في السنة 1/252.
(2) أورده الذهبي في العلو ص 39، وقال فيه: (هذا حديث غريب جدا فرد، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا أم لا، وأما الله عز وجل فليس كمثله شيء جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره)
(3) الحديث مرسل، أخرجه الطبري، وأبو القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان، ذكر ذلك الحافظ في الفتح 13/412، وانظر: تفسير الطبري 22/14.
(4) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك بلفظ: (إن الله أنكحني في السماء) كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، ح (7421)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/77)
(إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش) (1)
قال آخر: والحديث العشرون ما روي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فيذكره الله من فوق سبع سماوات، فيقول: ملائكتي، إن عبدي هذا قد أشرف على حاجة من حوائج الدنيا، فإن فتحتها له فتحت له بابا من أبواب النار، ولكن أزووها عنه، فيصبح العبد عاضا على أنامله يقول: من سبقني؟ من دهاني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها) (2)
قال آخر: والحديث وإن كان ضعيفا جدا (3)؛ إلا أنه يمكن الاستدلال به، كما فعل شيوخنا ذلك (4).
قال آخر: والحديث الحادي والعشرون ما روي عن وهب بن منبه عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، قالا: قال علي: يا رسول الله، إذا أنت قبضت فمن يغسلك؟ وفيم نكفنك؟ ومن يصلي عليك؟ ومن يدخلك القبر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي أما الغسل فاغسلني أنت وابن عباس يصب الماء، وجبريل ثالثكما، فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفنوني في ثلاثة أثواب جدد، وجبريل يأتيني بحنوط من الجنة، فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد، واخرجوا عني، فإن أول من يصلي علي الرب عز وجل من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمرا، ثم ادخلوا فقوموا صفوفا صفوفا، لا يتقدم علي أحد، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أدخلوه المسجد، وخرج الناس عنه، فأول من صلى عليه الرب من فوق عرشه، ثم جبريل ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمرا
__________
(1) البخاري، ح (3194)، 6/287، ومسلم ح (2751)، 4/2107.
(2) أبو نعيم في الحلية 3/305، 7/208.
(3) أورده الذهبي في العلو ص 44، وقال: (صالح تالف ولا يحتمل شعبة هذا)، وصالح هذا هو ابن بيان الثقفي، قال الخطيب: كان ضعيفا يروي المناكين عن الثقات، تاريخ بغداد 9/310، وقال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم، ويحدث بالمناكير عمن لم يحتمل، الضعفاء الكبير 2/200، وقال الدارقطني: متروك، وساق له ابن عدي أحاديث باطلة، الميزان 2/290، وانظر: الكامل في الضعفاء لابن عدي 4/1384.
(4) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 102)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/78)
زمرا (1).
قال آخر: والحديث وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2) إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا، كما فعل شيوخنا.
قال آخر: والحديث الثاني والعشرون ما روي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبرني جبريل عليه السلام عن الله عز وجل، أن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي ووحدانيتي وفاقة خلقي إلي، واستوائي على عرشي، وارتفاع مكاني، إني لأستحيي من عبدي، وأمتي، يشيبان في الإسلام، ثم أعذبهما)، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي عند ذلك فقلت: ما يبكيك؟ فقال: بكيت لمن يستحيي الله تعالى منه، ولا يستحيي من الله عز وجل (3).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (4)؛ فإن شيوخنا قد استدلوا به على إثبات العلو، وهم أدرى منا بذلك.
قال آخر: والحديث الثالث والعشرون ما روي عن جابر بن سليم، قال: ركبت قعودا لي، وأتيت مكة في طلبه، فأنخت بباب المسجد فإذا هو جالس صلى الله عليه وآله وسلم، وهو محتب ببردة لها طرايق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام، قلت: إنا معشر أهل البادية قوم بنا الجفا، فعلمني كلمات ينفعني الله بهن، قال: أدن ثلاثا، فقال: أعد علي،
__________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية 4/77، 78.
(2) أورد الحديث بطوله ابن الجوزي في الموضوعات، (1/295 ـ 301)، وقال: (هذا حديث موضوع محال، كافأ الله من وضعه، وقبح من يشين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد، والكلام الذي لا يليق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بالصحابة، والمتهم به عبد المنعم بن إدريس، قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على وهب، وقال يحيى: خبيث كذاب، وقال ابن المديني، وأبو داود: ليس بثقة، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: هو وأبوه متروكان)، وأورده الذهبي في العلو، وقال: هذا الحديث موضوع، وأراه من افتراءات عبد المنعم، وإنما رويته لهتك حاله، العلو ص 43.
(3) أبو نعيم في الحلية 2/387.
(4) أورده الذهبي في العلو ص 43، وقال: عداده في الموضوعات وهذا الأنصاري ليس بثقة، وأورده في الميزان 3/600. ومحمد بن عبد الله بن زياد الأنصاري قال عنه العقيلي: منكر الحديث جدا، وقال ابن طاهر: كذا وله طامات، وقال مالك بن دينار: منكر الحديث، انظر الميزان 3/598، والضعفاء الكبير للعقيلي 4/96.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/79)
فقلت: إنا معشر أهل البادية قوم بنا الجفا، فعلمني كلمات ينفعني الله بهن، فقال: اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تصب فضل دلوك في إناء المستسقي، وإذا لقيت أخاك فالقه بوجه منبسط، وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك، فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن الله تعالى يجعل لك أجرا، ويجعل عليه وزرا، ولا تسبن شيئا مما خولك الله عز وجل، قال أبو جري: فوالذي ذهب بنفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما سببت لي شاة ولا بعيرا، فقال رجل: يا رسول الله، ذكرت إسبال الإزار، وقد يكون بالرجل القرح، أو الشيء يستحي منه، قال لا بأس إلى نصف السابق، أو إلى الكعبين، إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين فتبختر فيهما، فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته، فأمر الأرض فأخذته، فهو يتجلجل في الأرض، فاحذروا وقائع الله عز وجل (1).
قال آخر: والحديث، وإن روي في الروايات الصحيحة من دون قوله (من فوق عرشه)، إلا أن شيوخنا قد رووه بهذه الصيغة، وهم أدرى منا بذلك (2).
قال آخر: والحديث الرابع والعشرون ما روي عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت أنشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأنا أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وأن أخا الأحقاف إذا قام فيهم ... يقول بذات الله فيهم ويعدل (3)
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا إلا أن شيوخنا استدلوا به على العلو والجهة،
__________
(1) رواه أبو داود، ح (4084)، 4/344، وروى بعضه الترمذي ح (2722)، 5/72، وليس عندهم الشطر الذي فيه الشاهد، وللحديث طرق ذكرها الإمام أحمد في المسند 5/63 ـ 64، وليس فيها الشاهد، وأورده الذهبي في العلو ص 36، وقال: إسناده لين.
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 106)
(3) ابن أبي شيبة في مصنفه 8/695، والهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أبو يعلى وهو مرسل.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/80)
مع كونهم أكثر الناس تشددا في قبول الحديث (1).
قال آخر: والحديث الخامس والعشرون ما روي عن عدي بن أرطأة لعمر بن عبد العزيز: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتدح فأعطى، ولك في رسول الله أسوة، فقال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي، فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئا؟ قال: نعم، فأنشده (2):
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمرا مدلسا ... واطفأت بالبرهان نار تضرما
فمن بلغ عني النبي محمدا ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا، بل موضوعا (3)، إلا أن شيوخنا استدلوا به على إثبات الجهة والمكان، وهم أدرى منا بذلك.
قال آخر: والحديث السادس والعشرون ما روي عن معبد بن كعب بن مالك، أن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريضة قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد حكمت فيهم حكما حكم الله به من فوق سبعة أرقعة (4).
قال آخر: والحديث بهذه الصيغة، وإن كان ضعيفا إلا أنه يتقوى بغيره من الأحاديث التي سبق ذكرها، ولذلك ذكره شيوخنا في هذا الباب (5).
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 107)
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 108)
(3) أورده الذهبي في العلو ص 42، عن طريق الهيثم بن عدي، وقال عنه: وهو إخباري ضعيف، والهيثم بن عدي اتهم بالكذب، قال يحيى بن معين، والبخاري: ليس بثقة، كان يكذب، وقال أبو داود: كذاب، وقال النسائي، وغيره: متروك الحديث، انظر: الميزان 4/324، والضعفاء الكبير 4/352.
(4) أورده الذهبي في العلو ص 32، وقال: هذا مرسل.
(5) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 109)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/81)
قال آخر: والحديث السابع والعشرون ما روي عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبريل عليه السلام بمرآة بيضاء، فيها نكتة، إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما هذه)؟ قال هذه الجمعة، فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع، اليهود والنصارى ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبريل ما يوم المزيد؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح، فيه كثب مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور، عليها مقاعد النبيين، وخف تلك المنابر بمنابر من ذهب، مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فيجلسوا من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله لهم: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة (1).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: والحديث الثامن والعشرون ما روي عن وهب بن منبه، عن أبي هريرة، أن رجلا من اليهود أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، هل احتجب الله من خلقه بشيء غير السموات؟ قال: نعم، بينه وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور،
__________
(1) الدارمي في الرد على الجهمية ص 38، وإثبات صفة العلو، ابن قدامة (ص 110)
(2) قال الذهبي في (العلو ص 30): إبراهيم وموسى ضعفاء، وقال في الميزان: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أحد الضعفاء، وقال يحيى بن معين: كذاب، وقال أحمد بن حنبل: تركوا حديثه، قدري، معتزلي، يروي أحاديث ليس لها أصل، انظر الميزان 1/57، 58، وانظر: التهذيب 1/158. أما موسى بن عبيدة فهو ابن نشيط، أبو عبد العزيز الزبذي، قال ابن حنبل: منكر الحديث، وقال الحافظ ابن حجر، وغيره: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بشيء، انظر: الضعفاء الصغير للبخاري ص 221، والتقريب 2/282، وميزان الاعتدال 4/213.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/82)
وسبعون حجابا من نار، وسبعون حجابا من ظلمة، وسبعون حجابا من رفارف الاستبراق، وسبعون حجابا من رفارف السندسي، وسبعون حجابا من در أبيض، وسبعون حجابا من در أحمر، وسبعون حجابا من در أصفر، وسبعون حجابا من در أحضر، وسبعون حجابا من ضياء استضاءه من ضوء النار والنور، وسبعون حجابا من ثلج، وسبعون حجابا من ماء، وسبعون حجابا من غمام، وسبعون حجابا من برد، وسبعون حجابا من عظمة الله التي لا توصف، قال: فأخبرني عن مالك الله الذي يليه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصدقت في ما أخبرتك يا يهودي؟ قال: نعم، قال: فإن الملك الذي يليه إسرافيل، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم ملك الموت (1).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: والحديث التاسع والعشرون ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال جبريل: يا محمد، كيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه من تحت العرش، ورجلاه من التخوم السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وأنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله حتى يصير مثل الوصع، يعني مثل العصفور، حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته (3).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (4)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: والحديث الثلاثون ما روي عن جابر بن عبد الله، قال: بلغني حديث في
__________
(1) أبو الشيخ في العظمة 2/760 ـ 761، وأبو نعيم في الحلية 4/80.
(2) أورده ابن الجوزي في الموضوعات 1/117، وقال: هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمتهم به عبد المنعم، وقد كذبه أحمد، ويحيى، وقال الدارقطني: هو وأبو متروكان، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/79 ـ 80، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد المنعم بن إدريس، كذبه أحمد، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
(3) ابن المبارك بنحوه في كتاب الزهد، ص 74.
(4) فيه إسحاق بن بشر هو أبو حذيفة البخاري صاحب كتاب المبتدأ. تركوه، وكذبه علي بن المديني، وقال ابن حيان: لا يحل حديثه إلا من جهة التعجب، وقال الدارقطني: كذاب متروك. ميزان الاعتدال 1/ 184.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/83)
القصاص وصاحبه بمصر، فاشتريت بعيرا وشددت عليه رحلا، ثم سرت شهرا حتى وردت مصر، فسألت عن صاحب الحديث فدللت عليه، فإذا له باب لاط وغلام أسود، فقلت: أههنا مولاك؟ فسكت عني، ثم دخل فأخبر مولاه أن رجلا أعرابيا بالباب، فخرج إلي فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا جابر بن عبد الله، قال: ادخل، فدخلت، فقلت له: بلغني عنك أنك تحدث بحديث في القصاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم أشهده، وليس أحد أحفظ له منك، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يبعثكم يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، ثم ينادي بصوت، وهو قائم على عرشه بصوت رفيع غير فضيع، يسمع القريب والبعيد، يقول: أنا الديان لا ظلم اليوم، وعزتي وجلالي، لأقتصن للمظلوم من الظالم، ولو لطمة، ولو ضربة يد، ولأقتصن للجماء من القرناء، ولأسألن العود لم خدش صاحبه، ولأسألن الحجر لم نكب صاحبه، بذلك أرسلت رسلي، وأنزلت كتبي، وفي ذلك قلت: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]) (1)
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: ويؤيد كل هذه الأحاديث ما ذكره ابن قدامة في إثبات العلو، قال: كتب إلي الإمام الفقيه نجم الدين أبو العباس، أحمد بن محمد بن خلف، يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، أريد أن أسألك عن مسألة، قال: فما هي، قلت: جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة أن الله في السماء، وأكثر الناس ينكرون هذا، ومن ينكر هذا الأمر!؟
__________
(1) الخطيب البغدادي في الرحلة ح (33)، ص 115.
(2) فيه إسحاق بن بشر، قال الذهبي: هو كذاب، وقال بعد أن أورد الحديث: فهذا شبه موضوع، وفي سنده أيضا أبو الجارود، ولعله زياد بن المنذر الهمداني أبو الجارود الكوفي الأعمى، قال ابن معين، والنسائي، وغيرهما: متروك، الميزان 2/93.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/84)
كذلك الله في السماء (1).
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الرابع.
قال أحد الشيوخ: الدليل الرابع هو أدلة العقل .. وهي وإن كنا لا نعطي لها بالا، إلا أن أئمتنا وشيوخنا استعملوها ردا على المخالفين المعاندين.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام أحمد: (إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ .. فسيقول: نعم .. فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه؟ أم خارجاً عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال: واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين وإبليس في نفسه .. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضاً كفر حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء .. وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع) (2)
قال آخر: ومثله قرر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية الأدلة العقلية على هذا، وقد قدم لذلك بقوله: (قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة، وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز، وصف بالقدرة دون العجز) (3)
قال آخر: وبناء على هذه المقدمة، ولوازمها، قال: (ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 87)
(2) الرد على الزنادقة والجهمية (ص 95 ـ 96)
(3) درء تعارض العقل والنقل (7/ 5)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/85)
له، وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول) (1)
قال آخر: ثم استعرض ما يذكره المعطلة من العلو، وبين أنه يقتضي العلو المكاني أيضا، فقال: (والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، ولا محاذياً له ولا سافلا عنه .. ولما كان العلو صفة كمال، وكان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، ولا يكون قط غير عالٍ عليه) (2)
قال آخر: ومثله قرر تلميذه ابن النجيب ابن القيم الأدلة العقلية على ذلك، فقال: (إن كل من أقر بوجود رب للعالم مدبرله، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم؛ فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتاً وماهية مخصوصة أو لا؟ .. فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن رباً لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذاتاً مخصوصة وماهية، فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة؟ .. فإن قيل إنها غير معينة كانت خيالاً في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته سبحانه واجب .. وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم قطعاً مباينة أحد المتعينين للآخر، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه .. فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه .. قيل: هذا ـ والله أعلم ـ حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 6)
(2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 7)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/86)
المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمراً عدمياً محضاً ونفياً صرفاً وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض .. وأيضاً فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لاشيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعاً من إثبات ذاته تعيين تلك الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره) (1)
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الخامس.
قال أحد الشيوخ: الدليل الخامس هو دليل الفطرة .. وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الدليل، فقال: (علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك، وتصديقاً من غير أن يتواطؤا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم .. وكذلك هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات .. فهذا يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعائه إلى العلو، كما يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك) (2)
قال آخر: وقال ابن خزيمة: (باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في
__________
(1) مختصر الصواعق (1/ 279 ـ 280)
(2) انظر درء تعارض العقل والنقل (7/ 5)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/87)
محكم تنزيله وعلى لسان نبيه عليه السلام، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين، علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا: فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله، إلى أعلاه لا إلى أسفل) (1)
قال آخر: وقال ابن عبد البر: (ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم) (2)
قال آخر: بل إن المعطلة أنفسهم يقرون بهذا الدليل، ويعترفون بعجزهم عن الرد عليه، ولهذا لم يجد الجويني ـ الذي يلقبونه زورا وبهتانا [إمام الحرمين]ـ جواباً حين سأله الهمداني محتجاً عليه بها، فقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الاستاذ أبا المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: (كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان)، فقال الشيخ أبو جعفر: (يا أستاذ دعنا من ذكر العرش ـ يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة على قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني) (3)
__________
(1) كتاب التوحيد (ص 204)
(2) التمهيد (6/ 127)
(3) مجموع الفتاوى (4/ 44، 61)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 325 ـ 326)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/88)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات علو لله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. فبالسمع والعقل اللذين أمر الله تعالى باستعمالهما نتحصن مما ذكروه من الإفك العظيم على الله.
قال آخر: وبما أنا ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها؛ فسنكتفي هنا بأمرين .. أولهما: ما ورد من النصوص المحكمة الدالة على نفي الجهة عن الله تعالى .. والثاني تأويل ما ورد من المتشابه منها، ورده إلى المحكم.
قال آخر: أما النصوص المحكمة؛ فكثيرة، وقد ساق شيوخنا الأفاضل الكثير منها، إلا أنهم بدل اعتبارها من المحكمات التي ترجع إليها المتشابهات اعتبروها من المتشابهات، فأولوها، وهي المحكمة الواضحة التي لا تحتاج أي دليل.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كل النصوص التي سبق ذكر الكثير منها عند بيان نفي المحدودية والجسمية، تدل على ذلك .. فنفي المحدودية والجسمية، يستلزم نفي الجهة والمكان.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك استدل علماؤنا بما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، واستدلاله بحصول التغير في الكواكب على ذلك، وقد عبر عن هذا الدليل الفخر الرازي بقوله: (فقد حكى الله تعالى عنه في كتابه بأنه استدل بحصول التغير في أحوال
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/89)
الكواكب على حدوثها، ثم قال عند تمام الإستدلال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79]) (1)
قال آخر: ثم ذكر وجوه دلالة الآية الكريمة على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة، ومنها أنه ما دام قد ثبت بالبرهان أن (الأجسام متماثلة .. فإنه ما صح على أحد المثلين وجب أن يصح على المثل الآخر، فلو كان تعالى جسما، أو جوهرا وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره، وأن يصح على غيره كل ما صح عليه، وذلك يقتضي جواز التغير عليه ولما حكم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم بأن المتغير من حال إلى حال لا يصلح للإلهية، وثبت أنه لو كان جسما لصح عليه التغير لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصلا) (2)
قال آخر (3): ومنها أن إبراهيم عليه السلام قال عند تمام الإستدلال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79]، فلم يذكر من صفات الله تعالى إلا كونه خالقا للعالم، والله تعالى مدحه على هذا الكلام وعظمه، فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، (ولو كان إله العالم جسما موصوفا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لما كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسما متحيزا، ولو كان كذلك لما كان مستحقا للمدح والتعظيم بمجرد معرفة كونه خالقا للعالم، فلما كان هذا القدر من المعرفة كافيا في كمال معرفة الله تعالى دل ذلك على أنه تعالى ليس بمتحيز) (4)
قال آخر: ومنها أنه تعالى لو كان جسما (لكان كل جسم مشاركا له في تمام الماهية فالقول بكونه جسما يقتضي إثبات الشريك لله تعالى، وذلك ينافي قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/90)
الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، فثبت بما ذكرناه أن العظماء من الأنبياء عليهم السلام كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية والجوهرية والجهة) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كل ما ذكروه من الآيات والأحاديث التي يرون كونها مثبتة للجهة معارضة بآيات وأحاديث كثيرة تبين تنزهه عنها، ولذلك هم يضطرون لتأويلها، وبذلك يقعون فيما ينهون عنه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة التي تخبر عن قرب الله تعالى من خلقه، ومعيته لهم، وفي كل الأحوال .. وأنه أدنى إليهم من حبل الوريد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]
قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر حضور الله ومعيته مع كل شيء، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
قال آخر: ومثل ذلك ذكره لمعيته مع المؤمنين الصالحين، حيث قال تعالى: {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة: 12]، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة 40]، وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/91)
} [الأنفال: 12]
قال آخر: ومثل ذلك ذكر قرب المؤمنين، والصالحين منهم خصوصا، فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]
قال آخر: وذكر تقريبه لداود عليه السلام، فقال: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24، 25]
قال آخر: وهكذا يذكر الله تعالى حضوره مع المنحرفين الذين يستخفون من الناس، ولكنهم لا يستطيعون الاستخفاء منه، فيقول: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُم} [النساء 108]
قال آخر: وبهذا تفسر الآيات التي تدل على البعد في حق الله تعالى، فقد ذكر الله تعالى بعد الكفار عن ربهم وحجابهم عنه، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]
قال آخر: وكل ذلك يستحيل أن يراد به المكان والجهة، ولذلك، نرى مثبتو الجهة مضطرين لتأويل كل تلك النصوص في سبيل إثبات ما رأوا إثباته، فوقعوا في التناقضات الكثيرة.
قال آخر: ولو أنهم نزهوا الله تعالى عن المكان، لما احتاجوا إلى كل ذلك التكلف في الإثبات والتأويل.
قال آخر: ومثل تلك الآيات ما ورد من أحاديث في قرب الله تعالى من عباده، وهي
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/92)
كثيرة، وهي لا تعني القرب المكاني .. أو قرب الحلول والاتحاد؛ فالله تعالى منزه عن ذلك كله .. بل تعني القرب الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي، فقال ـ حاكيا عن ربه تبارك وتعالى ـ: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته) (1)
قال آخر: وهو يشير بذلك إلى أن القرب هو قرب العبد من الله، بكثرة طاعته له .. أما الله تعالى فهو قريب من كل شيء، كما عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (القرب عندنا: هو ارتفاع الغفلة عن ذات الله تعالى)، ثم قرب ذلك بقوله: (أليس أن من نظر إلى الزجاج على ضربين: ضرب إنما همه الزجاج، ورؤية ما وراء ذلك بالعرض .. وضرب إنما همه ما وراء الزجاج، ورؤية الزجاج بالعرض .. فكلاهما ناظر إلى الزجاج والى ما ورائه ولكن افترقا في ارتفاع الغفلة والتيقظ والشعور والالتفات فاتضح بهذا المثال معنى قولنا: ارتفاع الغفلة) (2)
قال آخر: وقال آخر: (معنى قربه منك وقربك منه: أنك متقرب منه بالخدمة، وهو يتقرب بالرحمة .. وأنت تتقرب بالسجود، وهو يتقرب بالجود .. وأنت تتقرب بالطاعة، وهو يتقرب بتوفيقك الاستطاعة) (3)
قال آخر: وقال آخر: (لا يقترب مخلوق من الله عز وجل قرباً مكانياً، فإنه تعالى لا
__________
(1) رواه البخاري 6502.
(2) ولي الله الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج 2 ص 260.
(3) عز الدين بن عبد السلام المقدسي، حل الرموز ومفاتيح الكنوز، ص 86.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/93)
يحويه مكان، ونسبة الأمكنة إليه واحدة، ولكن القرب المقصود في كلام الصوفية عامة هو قرب معنوي .. هو قرب محبة ورضى، قرب مكانة لا مكان) (1)
قال آخر: وقال آخر: (قربك منه أن تكون شاهداً لقربه، وإلا فمن أين أنت ووجود قربه؟)، وقال: (قرب المسافات والنسب والمداناة: وهو قرب الأجسام، وسائر المحدثات، فلا يليق بالحق سبحانه، ولا يجوز عليه) (2)
قال آخر: وقال آخر: (القرب منه ليس بالمكان، وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان .. وأن كمال النفس بالعلم والعمل، والاطلاع على حقائق الأمور، مع حسن الأخلاق) (3)
قال آخر: وقال آخر: (القرب على ثلاثة أوجه: قرب من حيث المسافة، وهو محال .. وقرب من حيث العلم والقدرة، وهو واجب .. وقرب من حيث الفضل والرحمة، وهو جائز) (4)
قال آخر: وقال آخر: (القرب من الحق تعالى: هو قرب معنوي وليس ذلك إلا برفع حجاب الجهل) (5)
قال آخر: وقال آخر: (القرب منه تعالى: هو التخلي عن كل صفة ذميمة، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإقبال عليه والطاعة له والإعراض عن كل ما سواه، وفعل كل ما يقرب إليه، وذلك هو معنى طريق الله، أو قل طريق القرب إلى الله تعالى) (6)
قال آخر: أما النصوص المتشابهة، والتي استدل بها شيوخنا الأفاضل؛ فقد اتفق
__________
(1) ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، ص 24.
(2) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 319 0
(3) الغزالي، ميزان العمل، ص 293 0
(4) محمد بن المنور، أسرار التوحيد في مقامات أبو سعيد، ص 349.
(5) أسرار التوحيد في مقامات أبو سعيد، ج 1 ص 135.
(6) السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله، ص 224.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/94)
علماؤنا جميعا على اعتبارها من المتشابه الذي يؤول بحسب ما يقتضيه المحكم، وما تقتضيه العقول السليمة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشيخ سليم البشري جوابا لمن سأله عن تلك الآيات، فقال: (اعلم أيدك الله بتوفيقه رسلك بنا وبك سواء طريقه، أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية، فإن كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم، وهو ما سوى الله تعالى، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كل ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها، ولأن المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أن المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء، فيلزم إمكان الواجب وجوب الممكن وكلاهما باطل، ولأنه لو تحيز لمكان جوهرا لاستحالة كونه عرضا، ولو كان جوهرا، فإما أن ينقسم وإما أن لا ينقسم، وكلاهما باطل، فإن غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والمنقسم جسم وهو مركب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي، فيكون المركب ممكنا يحتاج إلى علة مؤثرة، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنه تعالى واجب الوجود لذاته، غني عن كل ما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (1)
قال آخر: ثم قال: (وما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أمور واهية وهمية، لا تصلح أدلة عقلية ولا نقلية، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 74.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/95)
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقوله {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقوله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] وقوله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه} [الأنعام: 18] .. ومثل هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية، إما تأويلا إجماليا بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف، وإما تأويلا تفصيليا بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف، كقولهم إن الاستواء بمعنى الاستيلاء .. وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به، لأن الكلم عرض يستحيل صعوده .. وقوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب، وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه، وقوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] أي بالقدرة والغلبة؛ فإن كل منقهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان، أي أنه أقدر منه وأغلب) (1)
قال آخر: ولم يكتفوا بذلك، بل ردوا بتفصيل شديد على كل الفهوم التي فهمها مثبتو الجهة من تلك الآيات الكريمة، وأولها ـ كما ذكر الشيوخ الأفاضل ـ آيات الاستواء على العرش.
قال آخر (2): فمما يدل على كونها تدل على غير ما فهموه، أن ما بعد قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53]، ومعنى السماء هو الذي فيه له سمو وفوقية، فكل ما كان في جهة فوق فهو سماء، وإذا كان كذلك فقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53] يقتضي أن كل ما كان حاصلا في جهة فوق كان في السماء، واذا كان كذلك فقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الحشر:
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 76.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 116.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/96)
24] يقتضي أن كل ما كان حاصلا في جهة فوق فهو ملك الله تعالى ومملوك له، فلو كان تعالى مختصا بجهة فوق لزم كونه مملوكا لنفسه من غير محل، وهو محال فثبت أن ما قبل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وما بعده ينفي كونه سبحانه وتعالى مختصا بشي من الأحياز والجهات، فإذا كان كذلك امتنع ان يكون المراد بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كونه مستقرا على العرش.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ما قبل هذه الآية وما بعدها مذكور لبيان كمال قدرة الله تعالى وغاية عظمته في الإلهية وكمال التصرف، لأن قوله تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4] يدل على أن المفهوم منه بيان كمال قدرة الله تعالى وكمال إلهيته .. وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] بيان أيضا لكمال ملكه وإلهيته، واذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كذلك، وإلا لزم أن يكن ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده، وذلك غير جائز .. فأما اذا حملناه على كمال استيلائه على العرش الذي هو أعظم المخلوقات، فالموجودات المحدثة كان ذلك موافقا لما قبل هذه الآية ولما بعدها فكان هذا الوجه أولى.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الجالس على العرش لابد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل منه في يسار العرش، فيلزم في كونه في نفسه مؤلفا ومركبا، وذلك على الله تعالى محال.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الجالس على العرش إن قدر على الحركة والانتقال كان محدثا، لأن ما لا ينفك عن الحركة والسكون كان محدثا، وإن لم يقدر على
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/97)
الحركة لأن ما لا ينفك عن الحركة والسكون كان محدثا وإن لم يقدر على الحركة كان كالمربوط، بل كان كالزمن، بل أسوأ حالا منهما، فإن الزمن إذا أراد الحركة في رأسه أو حدقتيه أمكنه ذلك، وكذا المربوط وهو غير ممكن في الله تعالى.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لو حصل في العرش لكان حاصلا في سائر الأحياز، ويلزم منه كونه مخالطا للقاذورات والنجاسات، وإن لم يكن كذلك كان له طرف ونهاية وزيادة ونقصان، وكل ذلك على الله تعالى محال.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] يدل على أنه لو كان العرش مكانا لله تعالى لكانت الملائكة الذين يحملون العرش حاملين إله العالم، وذلك غير معقول، لأن الخالق هو الذي يحفظ المخلوق، أما المخلوق فلا يحفظ الخالق، ولا يحمله لا يقال هذا إنما يلزم إذا كان الإله معتمدا على العرش متكئا عليه، ونحن لا نقول ذلك لأنا نقول على هذا التقدير لا يكون الله تعالى مستقرا على العرش، لأن الاستقرار على الشيء إنما يحصل اذا كان معتمدا عليه.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه تعالى كان ولا عرش ولا مكان، فلما خلق الخلق يستحيل أن يقال إنه تعالى صار مستقرا على العرش بعد أن لم يكن كذلك لأنه تعالى قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] وكلمة ثم للتراخي.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ظاهر قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآية
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/98)
لنفي الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الدلائل العقلية القاطعة تبطل كونه تعالى مختصا بشيء من الجهات، واذا ثبت هذا ظهر أنه ليس المراد من الاستواء الاستقرار فوجب أن يكون المراد هو الاستيلاء والقهر ونفاذ القدر وجريان أحكام الإلهية، وهذا مستقيم على قانون اللغة كما قال الشاعر: (قد استوى بشر على العراق .. من غير سيف ودم مهراق)
قال آخر: والذي يدل على ذلك أن الله تعالى إنما أنزل القرآن بحسب عرف أهل اللسان وعادتهم، (ألا ترون انه تعالى قال: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] وقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] والمراد في الكل أنه تعالى يعاملهم معاملة الخادعين والماكرين والمستهزئين، فكذا ههنا المراد من الاستواء على العرش التدبير بأمر الملك والملكوت، ونظيره أن القيام أصله الانتصاف، ثم يذكر بمعنى الشروع في الأمر كما يقال قام بالملك) (2)
قال آخر (3): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على ذكر الفوقية؛ فجوابه أن لفظ الفوق في اللغة يدل على الرتبة والقدرة، كما قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقال: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .. فالمراد بالفوقية في هذه الآيات الفوقية بالقهر والقدرة، كما قال تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، أي أزيد منها في صفة الصغر والحقارة.
قال آخر (4): والذي يدل على أن المراد بلفظ الفوق ههنا الفوق بالقدرة والملكة أن الله تعالى قال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61]، والفوقية المقرونة بالقهر هي الفوقية
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 120.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 120.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/99)
بالقدرة والمكنة، لا بمعنى الجهة، بدليل أن الحارس قد يكون فوق السلطان في الجهة، ولا يقال فوق السلطان.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الله تعالى وصف نفسه بأنه مع عبيده فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وقال {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فإذا جاز حمل المعية في هذه الآيات على المعية بمعنى العلم والحفظ والحراسة، فلم لا يجوز حمل الفوقية في الآيات التي ذكرها مثبتو الجهة على الفوقية بالقهر والقدرة والسلطنة؟
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الفوقية الحاصلة بسبب الجهة ليست صفة المدح، لأن تلك الفوقية حاصلة للجهة والحيز بعينها وذاتها، وحاصلة للمتمكن في ذلك الحيز بسبب ذلك الحيز، فلو كانت الفوقية بالجهة صفة مدح لزم أن تكون الجهة أفضل وأكمل من الله.
قال آخر: أما الاعتراض على ذلك بالقول بأنه يلزم من هذا أن القدرة أفضل وأكمل من الله تعالى، فغير صحيح، لأن (القدرة صفة القادر، وممتنعة الوجود بدونه، بخلاف الحيز والجهة، فإنه غني عن الممكن) (1) .. ولهذا؛ فإن الكمال والفضيلة إنما تحصل بسبب الفوقية بمعنى القدرة والسلطنة، ولذلك كان حمل الآية عليه أولى.
قال آخر (2): أما استدلالهم بقوله تعالى في صفة الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ففيه جواب آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} [الزمر: 16] صلة
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/100)
لقوله: {يَخَافُونَ} [المدثر: 53] أي يخافون من فوقهم ربهم، وذلك لأنهم يخافون نزول العذاب عليهم من جانب فوقهم.
قال آخر (1): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على ذكر العلو؛ فإن كل ما يتمسك به مثبتو الجهة من العلو بسبب الجهة يستعمل في العلو بسبب القدرة، (فإنه يقال السلطان أعلى من غيره ويكتب في أمثلة السلاطين الديوان الأعلى، ويقال لأوامرهم الأمر الأعلى، ويقال لمجالسهم المجلس الأعلى، والمراد في الكل العلو بمعنى القهر والقدرة، لا بسبب المكان والجهة)
قال آخر (2): وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] وقال للمؤمنين: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] وقال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، وهكذا قال عن فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، والعلو في هذه المواضع بمعنى العلو بالقدرة، لا بمعنى العلو بالجهة.
قال آخر (3): ومما يدل على ذلك أنه تعالى قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فحكم بأنه تعالى أعلى من كل ما سواه، والجهة شيء سواه، فوجب أن يكون ذاته أعلى من الجهة، وما كان أعلى من الجهة يمتنع أن يكون علوه سبب الجهة، فثبت أن علوه لنفس ذاته، لا بسبب الجهة، ولا يقال الجهة ليست بشيء موجود حتى يدخل تحت قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] لأن الدلائل العقلية تدل على كونها أمرا موجودا.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه تعالى لو كان في جهة فوق، فإما أن يكون له جهة فوق نهاية، وإما أن لا يكون له في تلك الجهة نهاية، فإن كان الأول لم يكن أعلى الأشياء،
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/101)
لأن الأحياز الخالية فوقه تكون أعلى منه، ولأنه قادر على خلق الأجسام في جميع الأحياز، فيكون قادرا على خلق عالم في تلك الأحياز التي هي فوقه، فيكون ذلك العالم على ذلك التقدير أعلى منه.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه إذا كان العالم غير متناه من جانب الفوق، فلا جزء إلا وفوقه جزء آخر، وكل ما فوقه غيره لم يكن أعلى الموجودات فإذا ليس في تلك الأجزاء شيء هو أعلى الموجودات، فثبت أن كل ما كان مختصا بالجهة، فإنه لا يمكن وصفه بأنه أعلى الموجودات، وإذا كان كذلك وجب أن يكون علوه تعالى لا بالجهة والحيز وهو المطلوب.
قال آخر (2): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على لفظ العروج كقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] فجوابه أن المعارج جمع معرج، وهو المصعد، ومنه قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، وليس في هذه الآيات بيان أن تلك المعارج معارج لأي شيء، فسقطت حجتهم في هذا الباب .. ذلك أنه يجوز أن تكون تلك المعارج معارج لنعم الله تعالى أو معارج الملائكة أو معارج لأهل الثواب.
قال آخر (3): أما استدلالهم بقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، فليس المراد من حرف إلى في قوله: {إِلَيْهِ} [المزمل: 8] ما فهموه، ذلك أن مراده ونظيره ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] والمراد انتهاء أهل الثواب الى منازل العز والكرامة، كقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 122.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 122.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 122.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/102)
} [الصافات: 99]، ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها بالنسبة إلى أكثر المخلوقات.
قال آخر: وقد رد الفخر الرازي في تفسيره على الاستدلال بقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحديد: 5] على الجهة والمكان، فقال: (من المجسمة من قال: كلمة إلى لانتهاء الغاية، وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة)، ثم ذكر وجوها للجواب على هذا، منها (أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه، فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] وهذا كقولهم: رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18] مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه) (1)
قال آخر: ومنها (أنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى) (2)
قال آخر: ومثل ذلك قال في قوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} [فصلت: 50] وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36] وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] وقوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون: 99 ـ 100]، وقوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53] وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25]
قال آخر: فقد ذكر من وجوه تأويلها (أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم، فقوله: ترجع
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 361)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 361)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/103)
الأمور أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كما قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن: 1] .. وعليه يحمل أيضا قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، فقد قيل: إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعا، ويسجد له الكفار كرها بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله، فكذا يجوز أن يقال: إن العباد يردون أمورهم إلى الله، ويعترفون برجوعها إليه، أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكفار فبشهادة الحال) (1)
قال آخر (2): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على لفظ الإنزال والتنزيل، فجوابه أن مثبتي الجهة أنفسهم يؤولون هذا، ذلك أنهم يرون أن القرآن الكريم حروف وأصوات، فيكون الانتقال عليها محالا، وبذلك يكون إطلاق لفظ الإنزال والتنزيل عليها مجازا بالاتفاق، فلم يجز التمسك به.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد يضاف الفعل إلى الأمر به كما يضاف إلى المباشر، فالله تعالى أضاف قبض الأرواح إلى نفسه، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ثم أضافه إلى ملك الموت، فقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] ثم أضافه إلى الملائكة فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]
قال آخر: ومثل ذلك قال: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ثم قال: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] .. وقال: {يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] أي أولياءه، ثم قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أي أولياءنا .. وقال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء: 142] أي رسوله والمؤمنين.
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 362)
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/104)
قال آخر (1): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على صيغة [إلى] في حق الله تعالى كقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وأن النظر الى الشيء يوجب رؤيته، فغير صحيح، ذلك أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وليس المراد منه القرب بالجهة، فكذا هنا.
قال آخر (2): أما استدلالهم بقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] فجوابه أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، لأن الله تعالى قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وهذا يقتضي أن يكون المراد من كونه في السماء ومن كونه في الأرض معنى واحدا، لكن كونه في الأرض ليس بمعنى الاستقرار، فكذلك كونه في السماء يجب أن لا يكون بمعنى الاستقرار.
قال آخر (3): ولذلك، لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] الملائكة الذين هم في السماء، لأنه ليس في الكلام ما يدل على أن الذي في السماء هو الإله والملائكة، ولا شك أن الملائكة أعداء الكفار والفساق؟ .. ولم لا يجوز أن يكون المراد أم أمنتم من في السماء ملكه، وخص السماء بالذكر لأنها أعظم من الأرض تفخيما لشأنها.
قال آخر (4): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على الرفع كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، فالجواب أن الله تعالى لما رفعه إلى موضع الكرامة، صح على سبيل المجاز أن يقال إن الله تعالى رفعه إليه، كما أن الملك إذا عظم إنسانا صح أن يقال إنه رفعه إلى درجة عالية من تلك الدرجة، وأنه قربه من نفسه،
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 124.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/105)
ومنه قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]، وقوله: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11]
قال آخر (1): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على لفظ العندية، فلا يجوز أن يكون المراد بالعندية الحيز، بل المراد بها الشرف، والدليل عليه ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن رب العزة: (أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي) (2)، وقوله (أنا عند ظن عبدي بي) (3)، بل هذا أقوى لأن النصوص التي ذكروها تدل على أن الملائكة عند الله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 40]، وليس المراد بهذه العندية الجهة كذا هنا.
قال القاضي: فما تقولون في الأحاديث الكثيرة التي أوردها شيوخنا الأفاضل، والتي بلغت ثلاثين حديثا.
قال أحد التلاميذ: إن كل ما ذكروه أحاديث ضعيفة أو مكذوبة أو رويت بصيغ أخرى، وقد ذكرنا لكم سابقا أن أكثر الأحاديث رويت بالمعنى، ولذلك تعددت ألفاظها، ولا يمكن الاعتماد في العقائد على أمثال هذه الأحاديث.
قال آخر: بل إن شيوخنا الأفاضل الذين استدلوا بتلك الأحاديث يرفضون أمثالها مما ورد في أحكام الطهارة ونحوها .. فهل الطهارة أشرف من العقائد، حتى يقبل فيها ما هب ودب.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك الحديث الأول الذي أوردوه؛ فقد روي بصيغة أخرى أصح، وهي: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (4)
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 124.
(2) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 32)
(3) مسلم (2675) (19)، والترمذي (2388)
(4) أحمد (2/ 165)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/106)
قال آخر: ومثل ذلك حديث الجارية، والتي يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألها (أين الله)؛ فقد ذكرنا لكم سابقا أنهم وهم يحرصون على هذه الرواية مع العلم أن هناك روايتين أخريين للحديث، غير الرواية التي يهتمون بها.
قال آخر: أما الأولى؛ فقد وردت بلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا الله)، وقد رواها مالك وأحمد وغيرهما، ونصها: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجارية له سوداء فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت نعم، قال أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت نعم، قال أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها) (1)
قال آخر: والحديث ـ بهذا اللفظ ـ يتوافق تماما مع غيره من الأحاديث التي تبين أن الهدف الأكبر للأنبياء عليهم السلام هو الدعوة للتوحيد، فلم يرد في أي من النصوص لا القرآن ولا الحديث أن من أهداف دعوة الأنبياء الدعوة إلى أن الله في السماء.
قال آخر: وأما الرواية الثانية، فقد وردت بلفظ (من ربك؟)، وقد رواها أبو داود والنسائي والدارمي والإمام أحمد وابن حبان، ونصها: قلت: (يا رسول الله إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال ادع بها فجاءت، فقال: (من ربك؟) قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) (2)
قال آخر: وهذه الرواية كذلك تتفق مع غيرها من النصوص التي تبين أغراض الرسالة وهي التعريف بالله وبنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وليس فيها أبدا أن من أغراض الرسالة التعريف بجهة الله ولا مكانه.
__________
(1) الموطأ: 2/ 777، أحمد 3/ 451، ومصنف عبد الرزاق 9/ 175، والمنتقى لابن الجارود، 1/ 234.
(2) ابن حبان في صحيحه: 1/ 418 (189)، وأحمد في مسنده: 4/ 222 و 388 و 389، وأبو داود في سننه: ص 477 (3283)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2\ 322 (3283)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/107)
قال آخر: ومن الأدلة على ذلك ما رواه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) (1)
قال آخر: ومنها ما رواه في [باب كيف يعرض الإسلام على الصبي] من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن صياد: (أتشهد أني رسول الله؟) (2)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك كله، فإن إثبات أن قول الجارية ـ كما في الرواية التي اعتمدها شيوخنا الأفاضل ـ (في السماء) لا يدل على الإيمان، ذلك لأن بعض المشركين يعترفون بوجود الله وكذا النصارى واليهود ومع ذلك يشركون معه في الألوهية غيره كما ورد في الحديث عن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي يا حصين: كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستةً في الأرض وواحداً في السماء .. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) (3)
قال آخر: ومع ذلك؛ فإن شيوخنا راحوا يؤولون تلك الأحاديث بما يتناسب مع تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وذلك حرصا على العوام من أن تؤثر فيهم أمثال تلك الأحاديث التجسيمية.
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة الجهة والمكان على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الثالث
__________
(1) صحيح البخاري 2/ 505 (1331)
(2) صحيح البخاري (6/ 171)
(3) سنن الترمذي 5/ 519 (3483)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/108)
الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الثالث ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات عدم استحالة التركيب على الله تعالى، على عكس ما يقوله المعطلة، ذلك أننا مع عدم اعتبار هذا من صفات الله تعالى؛ إلا أن معناه صحيح عندنا.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا في ديننا، والذين ذكروا أن صفة الأنامل مرتبطة بصفة الأصابع، والأصابع مرتبطة بصفة اليد، وأن لله تعالى يدين، وغيرها، ولذلك لا يمكن معرفة صفات الله تعالى من دون الإيمان بالتركيب.
قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة في الدلالة على جواز البعضية والتركيب على الله، ما أورده علماؤنا في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]، فقد رووا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] قال: هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر، قال أحمد: أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد، قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال من أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقول أنت ما تريد إليه) (1)
قال آخر: وفي رواية أخرى عن أنس: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف: 143] قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه
__________
(1) أحمد: (3/ 125)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/109)
اليمنى، قال: (فساخ الجبل وخَرَّ موسى صعقاً) (1)
قال آخر: ومن تلك الروايات ما يذكره علماؤنا عند حديثهم عن صفتي [الْحُجْزَةُ وَالْحَقْوُ]، واللذان يعنيان في ظاهرهما [موضع عقد الإزار وشده]، فهم يذكرون أنهما (صفتان ذاتيان خبريَّتان ثابتتان بالسنة الصحيحة)، ويستدلون لهما بما روي عن ابن عباس قال: (إنَّ الرحم شجنة آخذة بحُجزة الرحمن؛ يصل من وصلها، ويقطع من قطعها) (2)
قال آخر: ويستدلون لذلك أيضا بما روي عن أبي هريرة قال: (خلق الله الخلق، فلما فرغ منه؛ قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه! قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) (3)
قال آخر: فهذا الحديث صريح في اعتبار الحقو بعضا من الله، ولهذا تمسكت به الرحم، كما يتمسك أحدنا بآخر عند التوسل إليه، ولله المثل الأعلى، وقد قال الشيخ عبد الله الغنيمان في [شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري] ناقلاً من [نقض التأسيس] لشيخ الإسلام، ومن [إبطال التأويلات] لأبي يعلى الفراء، ومعلقاً: (قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده على الرازي في زعمه أنَّ هذا الحديث: (يعني: حديث أبي هريرة المتقدم) يجب تأويله: قال: فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنزاع فيه كالنزاع في نظيره؛ فدعواك أنه لا بدَّ فيه من التأويل بلا حجة تخصه؛ لا تصح) (4)
قال آخر: ثم قال: (وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق؛ فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من
__________
(1) الترمذي: (5/ 115)
(2) أحمد (2956) وابن أبي عاصم في السنة (538))
(3) رواه البخاري (4830) وغيره.
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/110)
أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت) (1)
قال آخر: ثم نقل عن ابن حامد قوله: (ومما يجب التصديق به أن لله حقوا)، وعن المروزي قوله: قرأت على أبي عبد الله كتابا، فمر فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ منها؛ أخذت بحقو الرحمن)، فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أن تكون كفرت، قال أبو عبد الله: هذا جهمي) (2)
قال آخر: ونقل عن أبي طالب قوله: (سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث هشام بن عمار؛ أنه قرئ عليه حديث الرحم: (تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن تعالى .. )، فقال: أخاف أن تكون قد كفرت، فقال: هذا شامي؛ ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول؟ قال: يمضي كل حديث على ماجاء) (3)
قال آخر: ونقل عن القاضي أبو يعلى قوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن (الحقو) و (الحجزة) صفة ذات، لا على وجه الجارحة والبعض، وأن الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع، وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد) (4)
قال آخر: ثم عقب عليه بقوله: (قلت: قوله: (لا على وجه الجارحة والبعض)، وقوله: (لا على وجه الاتصال والمماسة)؛ قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع التي أفسدت عقول كثير من الناس؛ فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقا، ولا إثباته مطلقا؛ لأنه يحتمل حقا وباطلا، فلا بد من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خال منه، وليس هو بحاجة إليه؛ فهو واضح، وليس ظاهر هذا الحديث
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(2) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/111)
أن لله إزارا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد؛ فإنه لو قيل عن بعض العباد: إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب. فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد؛ فكيف يدعى أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى، فإن كل من يفهم الخطاب ويعرف اللغة؛ يعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب) (1)
قال آخر: ومن الآثار الصريحة الدالة على جواز التركيب على الله ما روي عن عكرمة قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن تدمدم على قوم تجلى لها) (2)
قال آخر: وقد صرح ابن القيم بصحة هذه الرواية، بل اعتبر ما ورد فيها من العقائد التي أثبتها في نونيته المشهورة، والتي لا نزال نحفظها ونحرص عليها، فقد جاء فيها (3):
وزعمت أن الله أبدى بعضه ... للطور حتى عاد كالكثبان
لما تجلى يوم تكليم الرضى ... موسى الكليم مكلَّم الرحمن
قال آخر: وقد استشهد شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الرواية على صحة إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف، فقال: (وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره، فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانُهم، وإذا حُقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(2) السنة 2/ 470 (1069) الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 1/ 248 (961) وعزاه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 87 إلى الطبراني في كتاب السنة.
(3) انظر شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم 1/ 230
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/112)
لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظياً أو اعتبارياً، فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظٍ واعتبار واختلافِ اصطلاحٍ في مسمى (بعض) و (غير) كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض، وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة .. فهذا إن كان أحد أطلق البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا، وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض، فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين) (1)
قال آخر: ثم نقل الرواية التي ذكرناها، ثم قال: (وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل والتي فيها أنه ما تجلى منه إلا مثل الخنصر، وفي قصة داود: قال: يدنيه حتى يمس بعضه، وهذا متواتر عن هؤلاء .. ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام، فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضاً وينفصل بعضه عن بعض، أو يمكنُ ذلك فيه كما يقال حدُّ الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها فإنه يجوز أن تتفرق وتنفصل والله سبحانه منزه عن ذلك كله مقدس عن النقائص والآفات .. وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان لازما له لا يفارقه والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أنه قادر ثم أنه عالم .. فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيض بهذا المعنى
__________
(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 ـ 92 وانظر كلام الفراء في إبطال التأويلات 2/ 340.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/113)
فهو معطل جاحد للرب فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم .. فقول السلف والأئمة ما وصف به الله من الله وصفاته منه وعِلم الله من الله ونحو ذلك مما استعملوا فيه لفظ (من) وإن قال قائل معناها التبعيض فهو تبعيض بهذا الاعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا الاعتبار) (1)
قال آخر: ومن الروايات التي استدل بها سلفنا كذلك ما أوردوه عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، فقد رووا عن مجاهد عن عبيد بن عمير قوله: (حتى يضع بعضه عليه) (2)، وفي رواية: (ذكر الدنو منه حتى ذكر أنه يمس بعضه) (3)، وفي رواية: (ما يأمن داود عليه السلام يوم القيامة حتى يقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ فيقال اُدنه فيقول ذنبي ذنبي فيقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ مكاناً الله أعلم به قال سفيان كأنه يمسك شيئا) (4)، وفي رواية عن مجاهد: (حتى يأخذ بقدمه) (5)، وفي رواية عن مجاهد: (إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله عز وجل له كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله له كن خلفي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي) (6) وفي رواية: (حتى يضع يده في يده) (7)
قال آخر: وغيرها من الروايات، والتي لا يستفاد منها غير تركيب الله تعالى من أجزاء وأبعاض .. ولهذا قال القاضي أبو يعلى تعليقا عليها: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره إذ ليس فيه ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدماً وفخذاً وجارحة ولا أبعاضاً، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا الذات والوجه واليدي) (8)
قال آخر: وقال ابن القيم مشيرا إلى أمثال هذه الروايات معتبرا المنكر لها جهميا
__________
(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 ـ 92.
(2) السنة 2/ 475 (1086) و 2/ 507 (1180) الخلال في السنة 1/ 262 (319)
(3) السنة 2/ 503 (1165)
(4) السنة 2/ 502 (1161)
(5) السنة 2/ 507 (1182)
(6) السنة 1/ 262 (322) ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 342 (31888)
(7) السنة 2/ 502 (1163)
(8) انظر حاشية المرجع السابق 1/ 207 ـ 210
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/114)
معطلا: (وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، فزاده على المغفرة أمرين الزلفى وهي درجة القرب منه، وقد قال فيها سلف الأمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات جواز التركيب على الله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي التركيب عن الله تعالى.
قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة عن أئمة الهدى في ذلك، قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (لا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال: له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه، أو أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله) (2)
قال آخر: وقد سئل الإمام الصادق: (كيف هو الله؟)، فقال: (واحد في ذاته، فلا واحد كواحد؛ لأن ما سواه من الواحد متجزئ، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزأ، ولا
__________
(1) طريق الهجرتين 1/ 357
(2) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/115)
يقع عليه العد) (1)
قال آخر: وعن يونس بن ظبيان،: دخلت على الإمام الصادق، فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما، إلا أني أختصر لك منه أحرفا، فزعم أن الله جسم؛ لأن الأشياء شيئان: جسم وفعل الجسم، فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل، فقال الإمام الصادق: (ويحه .. أما علم أن الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان، وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا)، قلت: فما أقول؟ قال: (لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشئ والمنشأ، لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) (2)
قال آخر: ويروى أنه دخل رجل من الزنادقة على الإمام الرضا، فقال: حدّ لي ربك، فقال: لا حد له، قال: ولم؟ قال: (لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزي ولا متوهم) (3)
قال آخر: وقال الإمام الجواد: (كل متجزى أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له) (4)
قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من تدبرهم للقرآن الكريم، ولأمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، واستنبطوا البراهين العقلية الكثيرة الدالة على استحالة التركيب
__________
(1) الاحتجاج: 2/ 217 / 223، بحار الأنوار: 10/ 167.
(2) الكافي: 1/ 106 / 6، التوحيد: 99/ 7.
(3) التوحيد: 250 و 252/ 3، عيون أخبار الرضا: 1/ 132/28.
(4) الكافي: 1/ 116 / 7، التوحيد: 193/ 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/116)
على الله تعالى، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره القضاعي من الآيات الكريمة الدالة على نفي التركيب والأبعاض عن الله، فقال: (ولم يكتف القرآن حتى صرح بهذه اللوازم تفصيلا لمن تدبره مستدلا بها لعباده فقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] فهذا بين لك أن الارتفاع والانضاع الحسيين كما يشاهد في السماء والأرض هما من صفات الحادثات الممكنات لا بد لهما من فاعل، وأنه فاعل ذلك فهو الرافع الخافض، وما هو من دلائل الحدوث يستحيل أن يكون وصفا للواجب المتعالي، وكذلك قال سبحانه {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [الرعد: 3] أي خفضها وجعلها بحيث تصلح للمشي في مناكبها قال {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] ثم ذكر انقسام الأرض إلى أجزاء مختلفة واتصاف ثمار الجنات والزروع بتفاضل بعضها على بعض في الأكل، وأنه هو فاعل ذلك ومجزئه ومقسمه، كما أشار في آية أخرى إلى أنه مجزئ جسم الإنسان إلى أجزاء، وجاعل لكل منها وظيفة، فقال {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8، 9] واحتج على الإنسان بوجوده على القدر المخصوص وتجزئته إلى الأجزاء المسماة المعدولة عما يجوز عليها من الصفات إلى ما هي عليه من الحسن والنظام وتركبه، فقال: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 ـ 8] فالعقول تفهم ببداهتها أن الانقسام إلى الأجزاء لا سيما إذا كانت مسواة، والتركب من الجوارح والأعضاء لا بد له من موجد مقسم مركب، ولذلك احتج الله به على ابن آدم، ومحال أن يحتج الله على الحدوث بوصف، ثم يكون هذا الوصف في ذاته عز وجل، فمن قال بتركب ذات الله من الأجزاء وحمل اليدين والعين والأعين والوجه واليمين الواردة في كتاب الله في
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/117)
وصف الله والقدمين والساق في الحديث على الأعضاء والأجزاء، وحمل العلو الوارد في وصفه تعالى على العلو الحسى المكاني، والنزول على مثل ذلك، وأن ذلك مقتضى الكتاب والسنة، وأنه بذلك يكون سلفيا، فما فهم الكتاب ولا السنة ولا تابع السلف الصالح، فهذا كتاب الله يرد عليه أبلغ رد) (1)
قال آخر: وبعد أن ساق نصا لناصر الدين البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] قال: (فإنه تعالى لو جاز عليه الانقسام أو صح عليه الصغر أو الامتداد لكان مقدرا، وقد علمت أن كتابه سبحانه ينادي بأن كل مقدر حادث مخلوق، فيكون ممكنا، والممكن يستحيل أن يكون خالقا وموجدا، وقد ثبت أنه الخلاق فيجب أن يكون متصفا بوجوب الوجود وتوابع هذا الوجود الواجب من الكمالات العليا، فوجب أن يكون منزها عن التركب وقبول الانقسام، وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام، بذلك نطق كتاب الله لقوم يسمعون، ونادت بهذا آياته من ألقى إليها السمع وهو شهيد، وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم، ووقع فيه النصارى من بعدهم) (2)
قال آخر: ثم ذكر موقف المخالفين متعجبا منه، فقال: (والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون، أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية، يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى، لقولهما بالتنزيه، وهما لم ينفردا به، بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 60.
(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 61.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/118)
فمن بعدهم إلى زمانه وإلى زماننا، وإلى أن يأتي أمر الله) (1)
قال آخر: وهكذا ذكر الرازي الكثير من الأدلة العقلية على نفي التركيب عن الله تعالى، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، حيث قال موردا للشبهة: (احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] في إثبات يدين لله تعالى، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه، فوجب المصير إليه، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية، فوجب القطع به) (2)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الشنيعة للقول بتركيب الله تعالى من أجزاء وأبعاض، فقال: (إن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها، وإما أن يزيد عليها، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وأن يثبت جنبا واحدا لقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]، وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) .. وأن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فيكون الحاصل من هذه الصورة، مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد، ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور،
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 61.
(2) مفاتيح الغيب (26/ 410)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/119)
ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة) (1)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمال الثاني الذي يقع فيه المجسم، (وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر، ولا بد له من قبول دلائل العقل) (2)
قال آخر: ومن الوجوه التي أوردها لنفي الجسمية والتركيب (أنه في ذاته سبحانه وتعالى، إما أن يكون جسما صلبا لا ينغمز البتة، فيكون حجرا صلبا، وإما أن يكون قابلا للانغماز، فيكون لينا قابلا للتفرق والتمزق، وتعالى الله عن ذلك) (3)
قال آخر: ومنها (أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان كالزمن المقعد العاجز، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان محلا للتغيرات، فدخل تحت قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]) (4)
قال آخر: ومنها (إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت، وإن كان يفعل هذه الأشياء، كان إنسانا كثير التهمة محتاجا إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل) (5)
قال آخر: ومنها (أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا، فنقول لهم حين نزوله: هل يبقى مدبرا للعرش ويبقى مدبرا للسماء الدنيا حين كان على العرش، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة، وإن لم يبق مدبرا للعرش فعند نزوله يصير معزولا عن إلهية العرش والسموات) (6)
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 410)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(4) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(5) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(6) مفاتيح الغيب (26/ 411)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/120)
قال آخر: ومنها (أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيرا بحيث تسعه السماء الدنيا، وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش، وكل ذلك باطل) (1)
قال آخر: ومنها (إذا ثبت أن العالم كرة، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كان تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل، فحينئذ يكون جسما محيطا بهذا العالم من كل الجوانب، فيكون إله العالم على هذا القول فلكا من الأفلاك) (2)
قال آخر: ومنها (أنه لما كانت الأرض كرة، وكانت السموات كرات، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبدا نازلا عن العرش، وأن لا يرجع إلى العرش البتة) (3)
قال آخر: ومنها (أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها: كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض وثانيها: كونه محدودا متناهيا وثالثها: كونه موصوفا بالحركة والسكون والطلوع والغروب، فإذا كان إله المشبهة مؤلفا من الأعضاء والأجزاء كان مركبا، فإذا كان على العرش كان محدودا متناهيا، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفا بالحركة والسكون، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها، وذلك يبطل قول المشبهة، وإن لم تكن منافية للإلهية فحينئذ لا يقدر أحد
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 411)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/121)
على الطعن في إلهية الشمس والقمر) (1)
قال آخر: ثم استدل ببعض الآيات القرآنية الدالة على ذلك، ومنها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فقال: (ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة، وذلك ينافي كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض) (2)
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، ولو كان مركبا من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجا إليها، وذلك يمنع من كونه غنيا على الإطلاق) (3)
قال آخر: ثم عقب على هذه الأدلة بقوله: (فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال) (4)
قال آخر: واستدل في موضع آخر بقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] على استحالة التركيب، فقال: (وكونه إلها يقتضي كونه غنيا عما سواه .. وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه .. وكل واحد من أجزائه غيره .. فكل مركب مفتقر إلى غيره وكونه إلها يمنع من كونه مفتقرا إلى غيره، وذلك يوجب القطع بكونه أحدا وكونه أحدا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة، فثبت أن قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب) (5)
قال آخر: ثم استدل بقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] على ذلك، فقال: (فالصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج، وذلك يدل على أنه ليس بجسم، وعلى أنه غير مختص بالحيز والجهة) (6)
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 412)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 412)
(4) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(5) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(6) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/122)
قال آخر (1): ثم ذكر وجوه دلالته على ذلك .. ومنها أن كل جسم، فهو مركب؛ وكل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب، فهو محتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير لا يكون غنيا محتاجا إلى غيره فلم يكن صمدا مطلقا،
قال آخر (2): ومنها أنه لو كان مركبا من جوارح وأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين، وفي الفعل إلى اليد، وفي المشي إلى الرجل، وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا.
قال آخر (3): ومنها أن الأدلة تدل على أن الأجسام متماثلة، والأشياء المتماثلة يجب إشتراكها في اللوازم، فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض لزم كون الكل محتاجا إلى ذلك الجسم، ولزم أيضا كونه محتاجا إلى نفسه، وكل ذلك محال، ولما كان ذلك محال وجب أن لا يحتاج إليه شيء من الأجسام، ولو كان كذلك لم يكن صمدا على الإطلاق.
قال آخر: وهكذا استدل بالآية الكريمة على نفي التحيز، فقال: (وأما بيان دلالته على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة، فهو أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان إما أن يكون حصوله في الحيز المعين واجبا، أو جائزا، فإن كان واجبا فحينئذ يكون ذاته تعالى مفتقرا في الوجود والتحقق إلى ذلك الحيز المعين، وأما ذلك الحيز المعين، فإنه يكون غنيا عن ذاته المخصوص، لأنا لو فرضنا عدم حصول ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين لم يبطل ذلك الحيز أصلا، وعلى هذا التقدير يكون تعالى محتاجا إلى ذلك الحيز، فلم يكن صمدا على الإطلاق، أما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا لا واجبا فحينئذ يفتقر إلى مخصص يخصصه بالحيز المعين، وذلك يوجب كونه محتاجا وينافي كونه صمدا) (4)
قال آخر: وهكذا استدل بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] على
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/123)
نفي الجسمية ولوازمها، فقال: (هذا أيضا يدل على أنه ليس بجسم ولا جوهر، لأن الجواهر متماثلة، فلو كان تعالى جوهرا لكان مثلا لجميع الجواهر، فكان كل واحد من الجواهر كفؤا له، ولو كان جسما لكان مؤلفا من الجواهر؛ لأن الجسم يكون كذلك، وحينئذ يعود الإلزام المذكور) (1)
قال آخر: ثم علق على تفسيره لسورة الإخلاص ودلالتها على تنزيه الله تعالى من الجسمية والحدود وغيرها، فقال: (فثبت أن هذه السورة من أظهر الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا حاصل في مكان وحيز .. واعلم أنه كما أن الكفار لما سألوا الرسول عن صفة ربه فأجاب الله بهذه الصورة الدالة على كونه تعالى منزها عن أن يكون جسما، أو جوهرا، أو مختصا بالمكان) (2)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة التركيب على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الرابع الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الرابع ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات عدم استحالة التغير والحركة على الله تعالى، على عكس ما يقوله المعطلة، ذلك أننا مع عدم اعتبار الحركة والتغير من صفات الله تعالى؛ إلا أن معناها صحيح عندنا.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/124)
في ديننا، والذين اعتبروا المجيء والنزول والهرولة من صفات الله تعالى، وهي صفات لا يمكن فهمها من دون إثبات الحركة لله تعالى.
قال آخر: ولهذا اعتبر شيوخنا نفي الحركة والانتقال عن الله حكم عليه بالإعدام، كما قال ابن القيم: (وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة .. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له، وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور، فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة) (1)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية مشيرا إلى ذلك: (وهكذا يقال لهم فى أنواع الفعل القائم به كالإتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة: إما أن يقبل ذلك وإما أن لايقبله: فإن لم يقبله كانت الأجسام التى تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك وما يقبل الحركة أكمل ممن لايقبلها) (2)
قال آخر: وقال في شرح حديث النُّزول: (لفظ [الحركة] هل يوصف الله بها أم يجب نفيه عنه؟ اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال، وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب
__________
(1) مختصر الصواعق (2/ 257 ـ 258)
(2) مجموع الفتاوى 8/ 23
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/125)
الآئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم) (1)
قال آخر: ثم ذكر معنى الحركة عند المدارس المختلفة، مبتدئا بمن يطلق عليهم المعطلة، فقال: (والمقصود هنا أنَّ الناس متنازعون في جنس الحركة العامة التي تتناول ما يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية؛ كالغضب والرضى والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنُّزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ينفي ذلك مطلقاً وبكل معنى .. وهذا أول من عرف به هم الجهمية والمعتزلة) (2)
قال آخر: ثم ذكر قول السلف المثبتين للحركة، فقال: (والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام الذين صرحوا بلفظ الحركة .. وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني ـ لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر ـ عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وغيره .. وكثيرٌ من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن؛ لا يطلق هذا اللفظ؛ لعدم مجيء الأثر به؛ كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النُّزول، والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة؛ من أنه يأتي وينْزل وغير ذلك من الأفعال اللازمة) (3)
قال آخر: ثم نقل عن أبي عمرو الطلمنكي قوله: أجمعوا (يعني: أهل السنة
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/ 565
(2) مجموع الفتاوى (5/ 577)
(3) مجموع الفتاوى (5/ 577)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/126)
والجماعة) على أنَّ الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفَّاً صفَّاً لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء؛ قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210]، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] .. وأجمعوا على أنَّ الله يَنْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئا .. ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح؛ قال: وسألت يحيى بن معين عن النُّزول؟ فقال: نعم؛ أقر به، ولا أحِدُّ فيه حَدَّاً) (1)
قال آخر: ثم ذكر القول الثالث، وهو الذي لا ينفي إطلاق وصف الحركة على الله ولا يثبته، وإن لم ينف معناها، فقال: (القول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثيرٌ من أهل الحديث والفقهاء والصوفية؛ كابن بطة وغيره، وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن؛ لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات.) (2)
قال آخر: وهكذا عبر عن إثبات الحركة لله تعالى شيخنا ابن عثيمين بقوله: (النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنُّزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة) (3)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات جواز الحركة
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 577)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 577)
(3) إزالة الستار عن الجواب المختار (ص 32)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/127)
والتغير على الله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي الحركة والتغير عن الله تعالى.
قال آخر: ذلك أن الله تعالى أعظم من أن يحتاج إلى التنقل أو الحركة .. لأنه لا يحتاجهما إلا القاصر الضعيف البعيد الذي لا تتحقق مطالبه إلا بالانتقال والحركة .. أما القوي القادر القريب، فإنه يحقق مطالبه من غير حركة ولا انتقال.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الحركة تستدعي المحدودية والحيز .. والله أعظم من أن يحد أو يتحيز.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الحركة والانتقال تقتضيان أن يحيط بالمتحرك المكان والزمان .. والله أعظم من أن يحتاج للمكان، أو يجري عليه الزمان.
قال آخر: ولهذا اتفق أئمتنا على ذلك، وحذروا من الوقوع في التجسيم والتشبيه بسببه، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام) (1)
قال آخر: وقال في تنزيه الله تعالى: (المشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها) (2) .. وقال: (لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.
(2) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/128)
فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره!؟) (1)
قال آخر: وقال: (إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب .. هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة .. داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل وخارج منها لا كشيء من شيء خارج) (2) .. وقال: (الخالق لا بمعنى حركة) (3)
قال آخر: وقال الإمام الحسين: (لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث) (4)
قال آخر: وسئل الإمام الباقر عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، ما ذلك الغضب؟ .. فقال: (هو العقاب، إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، وإن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره) (5)
قال آخر: وقال الإمام الصادق في قول الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]: (إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه؛ لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلى الله ما يصل إلى خلقه، لكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال: (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها)، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]،
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476.
(2) التوحيد: 305/ 1، الأمالي للصدوق: 423.
(3) الكافي: 1/ 140 / 5.
(4) تحف العقول: 244.
(5) الكافي: 1/ 110 / 5، التوحيد: 168/ 1.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/129)
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر، وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما؛ لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا) (1)
قال آخر: وقال الإمام الصادق: (إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!) (2)
قال آخر: وقال الإمام الكاظم: (أما قول الواصفين: إنه ينزل ـ تبارك وتعالى ـ فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود، فإن الله ـ جل وعز ـ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهم المتوهمين) (3)
قال آخر: وقال الإمام الرضا: (لم يتغير عز وجل بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره) (4)
قال آخر: وقال الإمام الرضا: (فاعل لا بمعنى الحركات والآلة) (5)، وقال: (مدبر لا بحركة) (6)
__________
(1) الكافي: 1/ 144 / 6، التوحيد: 168/ 2.
(2) التوحيد: 184/ 20، الأمالي للصدوق: 353.
(3) الكافي: 1/ 125 / 1، التوحيد: 183/ 18.
(4) التوحيد: 433/ 1، عيون أخبار الرضا: 1/ 171 / 1.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 1، الاحتجاج: 1/ 473.
(6) التوحيد: 37/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 151 / 51.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/130)
قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من القرآن الكريم، ومن أمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، ليبحثوا في كل البراهين العقلية الدالة على استحالة التغير والحركة على الله، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]، فقد قال: (أجمعوا على أن لفظ النظر يجيء بمعنى الانتظار، كما قال الله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 ـ 23] .. فالمراد من قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} [الزخرف: 66] هو الانتظار .. وأجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب) (1)
قال آخر: ثم ذكر من أدلة استحالة ظاهر [المجيء] إلى الله تعالى، فقال: (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثا مخلوقا، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك) (2)
قال آخر: ومنها (أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان، فإما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ، وذلك باطل باتفاق العقلاء، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئا كبيرا، فيكون أحد جانبيه مغايرا للآخر، فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركبا، فإن ذلك المركب يكون مفتقرا في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فكل مركب هو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد، فكل ما
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 356)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 356)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/131)
كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم، والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك) (1)
قال آخر: ومنها (أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتناه فيكون مختصا بمقدار معين، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح، وتخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك كان فعلا لفاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك) (2)
قال آخر: ومنها (أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلها قديما أزليا فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر .. ذلك أن الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور، فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله) (3)
قال آخر: ومنها (أن الله تعالى حكى عن الخليل صلى الله عليه وآله وسلم أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور، فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك) (4)
قال آخر: ومنها (أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وطلب منه الماهية والجنس والجوهر، فلو كان تعالى جسما موصوفا بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(4) مفاتيح الغيب (5/ 357)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/132)
والقدر؛ فكان جواب موسى عليه السلام بقوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النبأ: 37] {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان: 8] {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9] خطأ وباطلا، وهذا يقتضي تخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب، وتصويب فرعون في قوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ولما كان كل ذلك باطلا، علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسما، وأن يكون في مكان، ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب) (1)
قال آخر: ومنها (أنه تعالى قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين، فلما كان تعالى أحدا امتنع أن يكون جسما أو متحيزا، فلما لم يكن جسما ولا متحيزا امتنع عليه المجيء والذهاب) (2)
قال آخر: ومنها (أن الله تعالى قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي شبيها ولو كان جسما متحيزا لكان مشابها للأجسام في الجسمية، إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية، وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات، وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات، وأيضا قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولو كان جسما لكان مثلا للأجسام) (3)
قال آخر: ومنها أنه (لو كان جسما متحيزا لكان مشاركا لسائر الأجسام في عموم الجسمية، فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفا في خصوص ذاته المخصوصة، وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة، فعموم كونه جسما مغاير لخصوص
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 357)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/133)
ذاته المخصوصة، وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسما كنا قد جعلنا الجسم صفة، وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة، وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسما وغير موصوف بكونه جسما، فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئا مغايرا للمفهوم من الجسم، وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسما، وأما إن قيل: إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسما لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية، فحينئذ يكون مثلا لها مطلقا، وكل ما صح عليها فقد صح عليه، فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك، وكل ذلك محال، فثبت أنه تعالى ليس بجسم، ولا بمتحيز، وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ذكره القضاعي في الأدلة على نفي الحركة والتغير عن الله تعالى، حيث قال: (اعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزوما بينا، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان، لكن يقيد نسبته إلى جزء خاص من شيء آخر، فكل جهة مكان ولا عكس، فالفراغ الذي أنت فيه هو مكانك، وباعتبار محاذاته لرأس شخص آخر هو جهة تسمى فوقا، وباعتبار محاذاته لرجله تسمى تحتا، أو لوجهه أو ظهره أو أقوى يديه أو أضعفهما تسمى أماما وخلفا ويمينا وشمالا، والجوهر هو مقدر لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ على قدره صغيرا كان أو كبيرا، فأنت ترى من البين الجلي أن بينهما تلازما أي تلازم، والقول بأحد المتلازمين قول بالآخر، وبنفي أحدهما نفى للآخر) (2)
قال آخر: ثم استدل بما ذكره القرآن الكريم من صفات المحدثات على ذلك، فقال:
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 358)
(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 62.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/134)
(وقد عرفت أن القرآن يستدل في صراحة بتقدر الأشياء على حدوثها ومخلوقيتها، فمن السهل عليك أن تعرف أن القرآن قد قرر بذلك تعالى الحق في ذاته عن أن تكون مقدرة أو ذات امتداد، أو يجوز عليها الانقسام أو متصفة بكبر أو صغر كما هو للماديات، وذلك قول يهيب بأهل الفقه في كتابه أن يعتقدوا تنزهه عز وجل عن الجهة والمكان، ومن قال غير هذا فقد غلب عليه الوهم وفاته الفهم، فإن نسب إلى الكتاب العزيز القول بالجهة والمكان في حق ربنا عز وجل، أو إلى السنة المطهرة فقد افترى على كتاب الله وكذب على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأتى من ناحية جهله وقلة تفقهه في دلائل الكتاب العزيز، ونزعه عرق العجمة إلى مشابهة اليهود في القول بالتجسيم والجهة في حق الله تعالى عما يقولون، أو غلبته العصبية لهوى فيه أو فيمن قلدهم من أشياخ البدعة، فإن كان داعية إلى القول بذلك يعقد له الدروس ويصنف فيه الكتب وينادي به على المنابر فهو الذي أصيب بالجهل المركب وهو من أول الداخلين في قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]) (1)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بذكر الأدلة القرآنية الكثيرة على نفي التغير والحركة عن الله، فقال: (إن القرآن المجيد لم يدع للمتأمل فيه مجالا للشك في أن ما كان من الصفات لازما من لوازم الجوهر صغيرا كان أو كبيرا هو من دلائل الحدوث، والحدوث يستلزم الامكان، وقد سبق لك البرهان في المقدمة على ذلك، ألا ترى الله سبحانه وتعالى يقول {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] فكون الشيء على قدر مخصوص يستلزم بوضوح أن له مقدرا قدره، فبين القرآن أن مقدر المقدرات إنما هو الله وحده، وما من شيء من هذه
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 62.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/135)
الكائنات إلا له قدر مخصوص، وكذلك دل مولانا عز وجل عباده على الحدوث بالحركات واختلافها، والأجزاء للشيء) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة التركيب على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الرابع الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الخامس ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات المفهوم الصحيح لنفي النظير والمثيل لله تعالى؛ فالمعطلة يستغلون هذا المعنى استغلالا خاطئا، لينفوا عن الله ما لا يجوز نفيه.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا في ديننا، والذين اعتبروا اليد والساق والعين والوجه وغيرها من صفات الله تعالى .. ولا يمكن فهمها من دون إثبات أمثالها في كلامنا، وإن كنا ننزه الله تعالى عن كونها مشابهة لنا.
قال آخر: وقد شرح ذلك بتفصيل إمام أئمتنا ابن خزيمة عند رده على من يتهمنا بالتشبيه، حيث قال: (زعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة، جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وقلة معرفتهم بلغة العرب،
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 66.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/136)
الذين بلغتهم خوطبنا) (1)
قال آخر: ثم رد على هذه التهمة الجائرة، بذكر مثال عن صفة الوجه لله تعالى، وأن هناك فرقا بين من يثبتها كصفة، وبين من يشبه وجه الله بوجوه عباده، فقال: (اسمعوا الآن أيها العقلاء، ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ومتبعي السنن؟ .. نحن نقول ـ وعلماؤنا جميعا في جميع الأقطار ـ: إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك، ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية ونقول: إن وجه ربنا القديم لا يزال باقيا، فنفى عنه الهلاك والفناء) (2)
قال آخر: ثم ذكر الفرق بين وجه الله تعالى ووجوه خلقه، فقال: (ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء التي وصف الله بها وجهه، تدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها، لنفي السبحات عنها، التي بينها نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لوجه خالقنا ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة، لم تكن، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة، أوجدها بعد ما كانت عدما، وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعا ميتا، ثم تصير رميما، ثم ينشئها الله بعد ما قد صارت رميما، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقها في القيامة، ومن المحاسبة بما قدمت يداه وكسبه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق البارئ، ثم تصير إما إلى جنة منعمة فيها، أو إلى النار معذبة فيها) (3)
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)
(3) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/137)
قال آخر: وبناء على هذا بين مدى الفرق بين وجه الله ووجوه عباده، وأن ذلك هو المراد بنفي المثلية عن الله في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فقال: (فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب، ويعرف خطابها، ويعلم التشبيه، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ .. وهل هاهنا أيها العقلاء، تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم، التي ذكرناها ووصفناها؟ غير اتفاق اسم الوجه، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمى الله وجهه وجها، ولو كان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل: أن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة، والكلاب، والسباع، والحمير، والبغال، والحيات، والعقارب، وجوها، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة، والكلاب وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن عقل الجهمية المعطلة عند نفسه، لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد، والدب، والكلب، والحمار، والبغل ونحو هذا إلا غضب، لأنه خرج من سوء الأدب في الفحش في المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله بعد يقذفه، ويقذف أبويه ولست أحسب أن عاقلا يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب، والزور، والبهت أو بالعته، والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل، ورفع القلم، لتشبيه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا فتفكروا يا ذوي الألباب، أو وجوه ما ذكرنا أقرب شبها بوجوه بني آدم، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع واسم الوجه، قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم، فكيف يلزم أن يقال لنا: أنتم مشبهة؟ ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة، كلها مخلوقة، قد قضى الله فناءها وهلاكها وقد كانت عدما، فكونها الله وخلقها وأحدثها، وجميع ما ذكرناه من السباع والبهائم لوجوهها
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/138)
أبصار، وخدود وجباة، وأنوف وألسنة، وأفواه، وأسنان، وشفاه ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم: وجهك شبيه بوجه الخنزير، ولا عينك شبيه بعين قرد، ولا فمك فم دب، ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب إلا على المشاتمة، كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه) (1)
قال آخر: وبناء على هذه الأدلة القوية، قال: (فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز، أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم بالتشبيه فقد قال الباطل والكذب، والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج من لسان العرب) (2)
قال آخر: ثم ذكر الانحرافات التي وقع فيها المعطلة بسبب عدم سوء فهمها لنفي الشبيه عن الله تعالى، فقال: (وزعمت المعطلة من الجهمية: أن معنى الوجه الذي ذكر الله في الآي: التي تلونا من كتاب الله، وفي الأخبار التي روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول العرب: وجه الكلام، ووجه الدار، فزعمت لجهلها بالعلم أن معنى قوله: وجه الله: كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، ووجه الثوب، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين وهذه فضيحة في الدعوى، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه، فيقال لهم: أفليس كلام بني آدم، والثياب والدور مخلوقة؟، فمن زعم منكم أن معنى قوله: {وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، أليس قد شبه ـ على أصلكم ـ وجه الله بوجه الموتان؟ لزعمكم ـ يا جهلة ـ أن من قال من أهل السنة والآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم لله وجه وعينان، ونفس، وأن يبصر ويرى ويسمع: أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين، حاشا لله أن يكون أحد من أهل السنة
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/139)
والأثر شبه خالقه بأحد من المخلوقين فإذا كان على ما زعمتم بجهلكم، فأنتم شبهتم معبودكم بالموتان) (1)
قال آخر: ثم ذكر الفرق الكبير بين المثبتة والمعطلة في هذا، فقال: (نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولا إليه ونقول كلاما مفهوما موزونا، يفهمه كل عاقل نقول: ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن الله وجها، ذواه بالجلال والإكرام، ونفى الهلاك عنه، وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى، فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون عليهما السلام: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعَ وَأَرَى} [طه: 46]، وما لا يسمع ولا يبصر: كالأصنام، التي هي من الموتان، ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم أباه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؟ أفلا يعقل ـ يا ذوي الحجا ـ من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا: أن خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلامه لا يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله جل وعلا وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لجهلهم بالعلم، وقال عز وجلَ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] فأعلم الله عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، فمعبود الجهمية
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/140)
عليهم لعائن الله كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر والله قد ثبت لنفسه: أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لجهلهم بالعلم، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه، فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه، قد شبهه بخلقه) (1)
قال آخر: ثم ذكر ما ورد في القرآن الكريم من إثبات المثلية بين الله وعباده في أصول الصفات لا في كيفياتها، فقال: (فاسمعوا يا ذوي الحجا ما أبين من جهل هؤلاء المعطلة أقول: وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير، فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وذكر عز وجل الإنسان فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وأعلمنا جل وعلا أنه يرى، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونِ} [التوبة: 105]، وقال لموسى وهارون عليهما السلام: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، فأعلم عز وجل أنه يرى أعمال بني آدم، وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضا، وقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] وبنو آدم يرون أيضا الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، فثبت ربنا عز وجل لنفسه عينا، وثبت لبني آدم أعينا، فقال: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] فقد خبرنا ربنا: أن له عينا، وأعلمنا أن لبني آدم أعينا، وقال لإبليس عليه لعنة الله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي} [ص: 75]، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وَقَالَ: {الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/141)
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين، فقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وخبرنا: أن ركبان الدواب يستوون على ظهورها، وقال في ذكر سفينة نوح: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]) (1)
قال آخر: وبعد استعراضه لهذه الآيات الكريمة الواضحة، قال: (أفيلزم ـ ذوي الحجا ـ عند هؤلاء الفسقة أن من ثبت لله ما يثبت الله في هذه الآي أن يكون مشبها خالقه بخلقه، حاشا الله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم، نحن نقول: إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول من له سمع وبصر من بني آدم: فهو سميع بصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق ونقول: إن لله عز وجل يدين، يمينين لا شمال فيهما، قد أعلمنا الله تبارك وتعالى أن له يدين، وخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنهما: يمينان لا شمال فيهما، ونقول: إن من كان من بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان: يمين وشمال ولا نقول: إن يد المخلوقين كيد الخالق، عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه، وقد سمى الله لنا نفسه عزيزا، وسمى بعض الملوك عزيزا، فقال: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 30]، وسمى أخوة يوسف أخاهم يوسف: عزيزا، فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78]، وقال: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88]، فليس عزة خالقنا العزة التي هي صفة من صفات ذاته، كعزة المخلوقين الذين أعزهم الله بها) (2)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الباطلة لما يقوله المعطلة، فقال: (ولو كان كل اسم سمى
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 62)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/142)
الله لنا به نفسه وأوقع ذلك الاسم على بعض خلقه: كان ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق على ما توهم هؤلاء الجهلة من الجهمية، لكان كل من قرأ القرآن وصدقه بقلبه أنه قرآن ووحي، وتنزيل، قد شبه خالقه بخلقه، وقد أعلمنا ربنا تبارك تعالى أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكا فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50]، وأعلمنا جل جلاله أنه العظيم، وسمى بعض عبيده عظيما، فقال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وسمى الله بعض خلقه عظيما فقال: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، فالله العظيم، وأوقع اسم العظيم على عرشه، والعرش مخلوق، وربنا الجبار المتكبر، فقال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، وسمى بعض الكفار متكبرا جبارا، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جُبَارٍ} [غافر: 35] .. وبارئنا عز وجل الحفيظ العليم، وخبرنا أن يوسف عليه السلام قال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وقال: {وَبَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، وقال: {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، فالحليم والعليم اسمان لمعبودنا جل وعلا، قد سمى بهما بعض بني آدم، ولو لزم ـ يا ذوي الحجا ـ أهل السنة والآثار إذا أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه وثبتوا له نفسا عز ربنا وجل، وإنه سميع بصير، يسمع ويرى، ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة، للزم كل من سمى الله ملكا، أو عظيما، ورؤوفا، ورحيما، وجبارا، ومتكبرا، أنه قد شبه خالقه عز وجل بخلقه، حاشا لله أن يكون من وصف الله عز وعلا بما وصف الله به نفسه، في كتابه، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مشبها خالقه بخلقه) (1)
قال آخر: ثم رد على احتجاج الجهمية بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وبين المراد منه، فقال: (فأما احتجاج الجهمية على أهل السنة والآثار في هذا النحو
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 65)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/143)
بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فمن القائل إن لخالقنا مثلا؟ أو إن له شبيها؟ وهذا من التمويه على الرعاع والسفل، يموهون هذا على الجهال، يوهمونهم أن من وصف الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد شبه الخالق بالمخلوق، وكيف يكون ـ يا ذوي الحجا ـ خلقه مثله؟ نقول: الله القديم لم يزل، والخلق محدث مربوب، والله الرازق، والخلق مرزوقون، والله الدائم الباقي وخلقه هالك غير باق، والله الغني عن جميع خلقه، والخلق فقراء إلى الله خالقهم، وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه، إذ أوقعتم أسامي الله على خلقه، وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصاحف أو محوها من صدور أهل القرآن؟ أو ترك تلاوتها في المحاريب وفي الجدور والبيوت؟ أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه الملك؟ وسمى بعض عبيده ملكا، وخبرنا أنه السلام، وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاما في الدنيا وفي الجنة، فقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَّامٌ} [الأحزاب: 44]، ونبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قد كان يقول يوم فراغه من تسليم الصلاة: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام)، وقال عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] فثبت بخبر الله أن الله هو السلام، كما في قوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق البارئ، وأعلمنا عز وجل أنه المؤمن، وسمى بعض عباده المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]، وقد ذكرنا قبل أن الله خبر أنه سميع بصير، وقد أعلمنا أنه جعل الإنسان سميعا بصيرا، فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] إِلَى قَوْلِهِ:
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/144)
{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] والله الحكم العدل، وخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن عيسى ابن مريم ينزل قبل قيام الساعة حكما عدلا وإماما مقسطا، والمقسط أيضا اسم من أسامي الله عز وجل) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات معنى الشبه والمثلية؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي المثلية والشبه عن الله تعالى.
قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة في ذلك، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس شيء إلا وله شيء يعدله، إلا الله عز وجل، فإنه لا يعدله شيء) (2) .. وقال: (قال الله جل جلاله: ما عرفني من شبهني بخلقي) (3)
قال آخر: وقال الإمام علي: (لا له مثل فيعرف بمثله) (4) .. وقال: (الذي نأى من الخلق فلا شيء كمثله) (5) .. وقال: (اتقوا الله أن تمثلوا بالرب الذي لا مثل له، أو تشبهوه بشيء من خلقه، أو تلقوا عليه الأوهام، أو تعملوا فيه الفكر، أو تضربوا له الأمثال، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين؛ فإن لمن فعل ذلك نارا) (6) .. وقال: (من وحد الله سبحانه لم يشبهه
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 66)
(2) ثواب الأعمال: 17/ 6.
(3) التوحيد: 68/ 23، عيون أخبار الرضا: 1/ 116.
(4) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33/ 1.
(5) الكافي: 1/ 141 / 7، التوحيد: 32.
(6) روضة الواعظين: 46.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/145)
بالخلق) (1)
قال آخر: وقال في تنزيه الله تعالى: (وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك (2)
قال آخر: وقال: (فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لاند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 ـ 98]) (3)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2]: (تأويل الصمد لا اسم ولا جسم ولا مثل ولا شبه ولا صورة ولا تمثال ولا حد ولا حدود ولا موضع ولا مكان ولا كيف ولا أين ولا هنا ولا ثمة ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولاسكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شم رائحة، منفي عنه هذه الأشياء) (4)
قال آخر: وقال الإمام الحسين: (أيها الناس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهؤون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضد له ينازعه، ولا سمي له يشابهه، ولا مثل له يشاكله) (5)
__________
(1) غرر الحكم: 8648.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 91، التوحيد: 54.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 91.
(4) بحار الأنوار، ج 3 ص 230.
(5) تحف العقول: 244.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/146)
قال آخر: وقال الإمام الصادق: (من شبه الله بخلقه فهو مشرك، إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه) (1)
قال آخر: وقال لمحمد بن مسلم: (يا محمد، إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (2)
قال آخر: وقال الإمام الرضا ـ في تمجيد الله جل وعلا ـ: (إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة، فجهلوك وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك، وإني بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء، إلهي ولن يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمتك دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يتناولوك بل سووك بخلقك، فمن ثم لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك، تعاليت ربي عما به المشبهون نعتوك) (3)
قال آخر: وقام إليه رجل فقال له: يا ابن رسول الله، صف لنا ربك؛ فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا، فقال الإمام الرضا: (إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان في بعده لا بنظير، لا يمثل بخليقته) (4)
قال آخر: وقال الإمام الجواد: (ربنا ـ تبارك وتعالى ـ لا شبه له، ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر) (5)
قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من تدبرهم للقرآن الكريم، ولأمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، واستنبطوا البراهين العقلية الكثيرة الدالة على استحالة المثلية على
__________
(1) التوحيد: 80.
(2) الكافي: 1/ 92 / 3، التوحيد: 456.
(3) التوحيد: 125/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 117.
(4) التوحيد: 47.
(5) الكافي: 1/ 117 / 7، التوحيد: 194.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/147)
الله تعالى، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فقد ذكر في تفسيرها الكثير من وجوه دلالتها على ذلك، فقال: (احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]) (1)
قال آخر: ثم فصل وجه الاستدلال بها، فقال: (ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد ليس كمثله شيء في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسما) (2)
قال آخر: وقد رد على ما ذكره ابن خزيمة الذي ذكرتم أقواله في وجه نفي المماثلة بين الله وعباده، فقال: (هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين، ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية، فنقول
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 582)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 582)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/148)
المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول: المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية، وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به) (1)
قال آخر: ثم بسط هذا المعنى ووضحه بالأمثلة، فقال: (وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة، ثم صارت في غاية السواد والحلاوة، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة، وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض، فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات) (2)
قال آخر: وبناء على هذا فإن (اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثم يصير متحركا، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات) (3)
قال آخر: ثم استعرض ما ذكره ابن خزيمة، وبين وجه المغالطة فيه، فقال: (إذا عرفت هذا فنقول: الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس، وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها، فالاختلاف إنما وقع
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 583)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 583)
(3) مفاتيح الغيب (27/ 583)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/149)
بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها) (1)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الخطيرة المرتبطة بالاقتصار على نفي المماثلة الذي أورده ابن خزيمة وغيره من أهل منهج الإثبات، فقال: (هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود، وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام فكان هو قديما أزليا واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟ .. فإن قالوا هذا باطل لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به) (2)
قال آخر: ومن اللوازم التي ذكرها، ما عبر عنه بقوله: (وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 584)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 584)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/150)
على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثا مخلوقا قابلا للعدم والفناء قابلا للتفرق والتمزق، وأما النقل فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]) (1)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي يورده بعضهم حول كون ظاهر الآية يوجب إثبات المثل لله، لأنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه، وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى، فقال: (إن العرب تقول مثلك لا يبخل، أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه، ويقول الرجل: هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر: (ومثلي كمثل جذوع النخيل)، والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفيا عمن كان مشابها بسبب كونه مشابها له، فلأن يكون منتفيا عنه كان ذلك أولى، ونظيره قولهم: سلام على المجلس العالي، والمقصود أن سلام الله إذا كان واقعا على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعا عليه كان ذلك أولى، فكذا هاهنا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا اللفظ ساقطا عديم الأثر، بل كان مفيدا للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه) (2)
قال آخر: ثم رد على ما يستدل به أهل منهج الإثبات من قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، بأن الْمِثْل ـ بكسر الميم ـ هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الماهية والمَثل ـ بفتحها ـ هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفا في تمام الماهية.
قال آخر: وهكذا استدل الشيرازي على نفي المثلية المطلقة عن الله تعالى بقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، فقال: (الآية تشير إِلى منطق المشركين في عصر الجاهلية ـ ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه أُولئك المشركين ـ
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 584)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 585)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/151)
حيث كانوا يقولون: إِنّما نعبد الأصنام لأنّنا لا نمتلك الأهلية لعبادة اللّه، فنعبدها لتقربنا إِلى اللّه .. وإِنّ اللّه مثل ملك عظيم لا يصل إِليه إِلاّ الوزراء والخواص، وما على عوام الناس إِلاّ أن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إِلى خدمة اللّه .. وهذا الانحراف في التوجه والتفكير، والذي قد يتجسم أحياناً على هيئة أمثال منحرفة، إِنّما هو من الخطورة بمكان بحيث يطغى على كل الإِنحرافات الفكرية؛ ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلا: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] التي هي من صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات ممكنة الوجود ومليئة بالنواقص .. وإِنّكم لو أحطتم علماً بعظمة وجوده الكريم وبلطفه ورحمته المطلقة، لعرفتم أنّه أقرب إِليكم من أنفسكم ولما جعلتم بينكم وبينه سبحانه من واسطة أبداً؛ فالله الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار، لا ينبغي أن تشبّهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أيّ أحد من الوصول إِليه ودخول قصره إِلاّ بعض الخواص) (1)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بقوله: (إنّ منزلق التشبيه من أخطر المنزلقات في طريق معرفة صفاته سبحانه وتعالى، ولا ينبغي مقايسة صفاته سبحانه بصفات العباد، لأنّ الباري جلت عظمته وجود مطلق، وكل الموجودات بما فيها الإِنسان محدودة، فهل يمكن تشبيه المطلق بالمحدود!؟) (2)
قال آخر: ثم ضرب مثالا على ذلك، فقال: (وإذا ما اضطررنا إِلى تشبيه ذاته المقدسة بالنّور وما شابه ذلك فينبغي أن لا يغيب عن علمنا بأنّ هذا التشبيه ناقص على أيّة حال، وأنّه لا يصدق إِلاّ من جهة واحدة دون بقية الجهات) (3)
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (8/ 261)
(2) الأمثل، الشيرازي: (8/ 261)
(3) الأمثل، الشيرازي: (8/ 262)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/152)
قال آخر: ثم ذكر اهتمام القرآن الكريم بهذه النواحي وترسيخها، فقال: (وبما أنّ أكثر الناس قد غفلوا عن هذه الحقيقة، وكثيراً ما يقعون في وادي التشبيه الباطل والقياس المرفوض فيبتعدون عن حقيقة التوحيد، فلذا نجد القرآن الكريم كثيراً ما يؤكّد على هذه المسألة، فمرّة يقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وأُخرى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وثالثة {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ولعل عبارة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] في ذيل الآية مورد البحث، تشير إِلى أنّ أغلب الناس في غفلة عن أسرار صفات اللّه) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة التركيب على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن السادس الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن السادس ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات الصورة لله تعالى؛ فالمعطلة ينفون ذلك مع ورود الأدلة الصحيحة الصريحة به.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أول أدلتنا، وأقواها، وأصرحها، ما ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تبارك وتعالى
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (8/ 262)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/153)
في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة) (2)
قال آخر: فهذه الأحاديث الصحيحة قد تضافرت في إثبات صفة الصورة لله تعالى على ما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه؛ فهي صفة ذاتية لله، خلافا لمن أنكرها من المعطلة.
قال آخر: ولهذا اتفق أئمتنا على إثباتها، وقد قال ابن قتيبة: (والذي عندي ـ والله تعالى أعلم ـ أن الصُّورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدٍّ) (3)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه تعالى يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة، لكن يقال لهم: لفظ (الصُّورة) في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت
__________
(1) البخاري (6573) ومسلم (182)
(2) الترمذي (3235) وأحمد (2580)
(3) تأويل مختلف الحديث، ص 261.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/154)
على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك) (1)
قال آخر: وقال: (لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله اختصت به، مثل العليم، والقدير، والرحيم، والسميع، والبصير، ومثل خلقه بيديه، واستوائه على العرش، ونحو ذلك) (2)
قال آخر: وقد ورد في الحديث ما يحدد تلك الصورة بدقة، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا) (3)
قال آخر: وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبحوا الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) (4)
قال آخر: والحديث الأخير، وإن ضعفه كبار أئمتنا كابن خزيمة (5)، والألباني (6) إلا أنهم تلقوا معناه بالقبول .. بالإضافة إلى ذلك إلى أن هناك من صححه، وهو أجل منهما، وهما إسحاق بن راهويه وأحمد، ولا متمسك لمن نفى تصحيح أحمد لهذا الحديث؛ لأن الاحتجاج فرع التصحيح، ولا يمكن للإمام أحمد أن يتساهل في مثل هذا كما هو معلوم من أصوله.
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 131)
(2) نقض التأسيس 3/ 396.
(3) البخاري (3326) ومسلم (2841)
(4) عبدالله بن أحمد في السنة 498، وابن أبي عاصم في السنة 529، وابن خزيمة في التوحيد 1/ 85، والدارقطني في الصفات 45.
(5) ضعف هذا الحديث ابن خزيمة في كتاب [التوحيد 1/ 87]، وقد أعله بثلاث علل: الأولى: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسله. الثانية: عنعنة الأعمش، وهي مردودة؛ لأنه مدلس ما لم يصرح بالسماع من حبيب بن أبي ثابت. والثالثة: لا يعلم لحبيب بن أبي ثابت سماع من عطاء.
(6) بالإضافة للعلل السابقة ذكر الألباني علة رابعة، وهي تغير جرير بن عبدالحميد وسوء حفظه، وقد اضطربت روايته برواية لفظ (على صورته) عند ابن أبي عاصم 530، واللالكائي 716. وقد قوى الشيخ طارق عوض الله هذه العلة في حاشيته على [المنتخب من العلل] للخلال بذكر الإمام الدارقطني لتفرد جرير بن عبدالحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء؛ انظر [المنتخب من علل الخلال، لابن قدامة ص 269]. والخامسة: الانقطاع بين عطاء وابن عمر.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/155)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فللحديث شواهد تقويه، ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله ـ تعالى ـ خلق آدم على صورة وجهه) (1)
قال آخر: ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قاتل فليجتنب الوجه؛ فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن) (2)
قال آخر: والحديث، وإن رواه ابن لهيعة الذي رمي بسوء الحفظ، إلا أن حديثه يعتبر به، ويصلح في الشواهد والمتابعات.
قال آخر: ولهذا رد علماؤنا على ما ذكره ابن خزيمة في هذا الموضع، حيث قال: (توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله (على صورته) يريد صورة الرحمن، عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله (خلق آدم على صورته) الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ردودهم ما عبر عنه ابن قتيبة بقوله في [تأويل مختلف الحديث] بعد سرد الأقوال في تأويل هذا الحديث: (ومنها أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه، قال: وهذا لا فائدة فيه، والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده، وجهه على وجوههم، وزاد قوم في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يضرب وجه رجل آخر، فقال (لا تضربه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) أي صورة المضروب، وفي هذا القول من الخلل ما في الأول) (4)
__________
(1) السنة لابن أبي عاصم (1/ 227 ـ 228)
(2) السنة لابن أبي عاصم (1/ 230)
(3) التوحيد (1/ 84 ـ 85)
(4) تأويل مختلف الحديث ص (319)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/156)
قال آخر: ومثله الطبراني فقد اعتبر هذا التأويل تجهما، فقال في كتاب السنة: (حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال (قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته، أي صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا) (1)
قال آخر: ومثله الذهبي، فقد قال معاتبا من يشتدون على ابن خزيمة بسبب ذلك: (وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه) (2)
قال آخر: ومثلهم جميعا شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد ذكر ثلاثة عشر وجهاً للرد على هذا التأويل، وقد قدم لها بقوله: (والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب كالتوراة وغيرها، ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته، ويروي بعضه كما يكره رواية لعض الأحاديث لمن يخاف على نفسه ويفسد عقله أو دينه كما قال عبد الله بن مسعود: (ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم) وفي البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)، وإن كان مع ذلك لا يرون كتمان ما جاء به الرسول مطلقاً، بل لابد أن يبلغوه حيث يصلح ذلك) (3)
__________
(1) ميزان الاعتدال (1/ 603)
(2) سير أعلام النبلاء (14/ 374)
(3) بيان تلبيس الجهمية (6/ 373)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/157)
قال آخر: ثم ذكر اتفاق الأمة على ثبوته، فقال: (ولهذا اتفقت الأمة على تبليغه وتصديقه، وإنما دخلت الشبهة في الحديث لتفريق ألفاظه فإن من ألفاظه المشهورة إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته، ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته، وهذا فيه حكم عملي يحتاج إليه الفقهاء، وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بلا وكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط وهي قوله فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، ولم يذكر الثانية وعامة أهل الأصول والكلام إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله خلق الله آدم على صورته ولا يذكرون الجملة الطلبية فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين وصاروا متفقين على تصديقه لكن مع تفريق بعضه عن بعض وإن كان محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم) (1)
قال آخر: ثم ذكر كيف تصرف المتأخرون في تأويله وتحريفه، حتى من أهل الحديث أنفسهم، فقال: (وقد ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء في إخباره بخلق آدم في ضمن حديث طويل إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة، ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم) (2)
قال آخر: وانطلاقا من هذا ذكر وجوه الرد على ابن خزيمة، ومثله كل المعطلة الذين عطلوا الحديث عن معناه، ومنها ما عبر عنه بقوله: (لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد، لا سيما وقوله (وإذا قاتل أحدكم .. وإذا ضرب أحدكم) عام في كل
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (6/ 375)
(2) بيان تلبيس الجهمية (6/ 376)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/158)
مضروب، والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير، وكذلك قوله (لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم) (1)
قال آخر: ومنها (أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم، فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال أو نسيج هذا على منوال هذا) (2)
قال آخر: ومنها (أنه إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا، فإذ هذه العبارة إنما تستعمل فيما فطر على مثال غيره، بل يقال إن وجهه يشبه وجه آدم، أو فإن صورته تشبه صورة آدم) (3)
قال آخر: ومنها (أنه لو كانت علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهى أيضاً عن الشتم والتقبيح وسائر الأعضاء، لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك) (4)
قال آخر: ومنها تكذيبه لمورد الحديث، الذي ذكره المعطلة، فقال: (وما ذكر بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يضرب رجلاً ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال خلق الله آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء لا أصل له ولا يعرف في شيء من كتب الحديث) (5)
قال آخر: وبناء على هذا المعنى كتب شيخنا الكبير حمود بن عبدالله بن حمود التويجري
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (6/ 426)
(2) بيان تلبيس الجهمية (6/ 427)
(3) بيان تلبيس الجهمية (6/ 427)
(4) بيان تلبيس الجهمية (6/ 426)
(5) بيان تلبيس الجهمية (6/ 424)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/159)
كتابه العظيم [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، والذي قدم له شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، بقوله: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن .. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وشيخ الإسلام ابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى) (1)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا التويجري دوافع تأليفه، وهي الدوافع التي لا تختلف كثيرا عن تلك الدوافع التي كان ينطلق منها شيوخنا وأئمتنا من أمثال الدارمي وابن خزيمة وابن تيمية وغيرهم، فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا، وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة، وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض، ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية، عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به) (2)
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (7)
(2) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (6)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/160)
قال آخر: وقد ذكر في كتابه هذا الوجوه الكثيرة على كون آدم عليه السلام خلق على صورة الرحمن، ومنها ما عبر عنه بقوله: (الوجه الثاني: أن يقال إن خلق آدم على صورة الرحمن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أربعة أحاديث .. أولها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته)، وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة والضمير في قوله (على صورته) عائد إلى الله تعالى كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة .. وثانيها: حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وهذا نص صريح في أن الله تعالى خلق آدم على صورته، وهذا النص لا يحتمل التأويل، ومن تأوله فقد أبعد النجعة وتكلف غاية التكلف .. وثالثها: حديث أبي يونس الدوسي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإنما صورة الإنسان على صورة وجه الرحمن) وهذا نص صريح في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورة وجهه الذي هو صفة من صفات ذاته، وهذا النص لا يحتمل التأويل، وفيه أبلغ رد على ابن خزيمة وعلى كل من تأول الحديث بتأويلات الجهمية المعطلة .. ورابعها: حديث أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة وجهه)، وهذا نص صريح في خلق آدم على صورة وجه الله تعالى، وهذا النص لا يحتمل التأويل، وفي هذه الأحاديث الأربعة أبلغ رد على من تأول حديث ابن عمر على غير تأويله ونفى إضافة الصورة إلى الرحمن، وزعم أنها من إضافة الخلق والتصوير إلى الله تعالى) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ورد في الحديث ما يدل على أن لله تعالى صورا متعددة يظهر بها، كما يدل على ذلك الحديث الطويل الذي يذكر رؤية المؤمنين لله تعالى يوم
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (40)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/161)
القيامة، فمما ورد فيه: أنا ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟) قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك ترونه، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه) (1)
قال آخر: فهذا الحديث أصل من أصولنا، وهو يحوي الكثير من الأسس التي تقوم عليها عقائدنا في التعرف على الله؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبه رؤية لله برؤية القمر .. أي أنه كما أن القمر له حيز وحدود وجسم وهو مقابل لهم .. فرؤية لله تكون مثل ذلك .. ومنها أن الله تعالى له صورة، بل له صور متعددة، وأن له بذلك القدرة على التشكل، ولذلك ورد أن الله نزل عند رغبة عباده المؤمنين، فاختار لهم الصورة التي تتناسب مع مطالبهم .. وغيرها كثير.
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث التي اتفق على صحتها علماؤنا ما يعرض صورة الله تعالى بالتدقيق، سواء تلميحا أو تصريحا.
قال آخر: وبما أن ذكر ذلك من الصعب تقبله خاصة بسبب انتشار التجهم والتعطيل في الأمة، فلذلك قدموا لذلك الكثير من المقدمات؛ فمن فهم تلك المقدمات جيدا، سهل عليه الوصول للنتيجة، وبأيسر سبيل.
قال آخر: وأول تلك المقدمات تلك المباحث الكثيرة الواردة في كتب التوحيد
__________
(1) البخاري (7439) ومسلم (183)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/162)
والسنة من المسألة المعروفة بـ[رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه]، وهي مسألة حظيت باهتمام كبير من شيوخنا وأئمتنا .. وأكثرهم يميل إلى أنها وقعت.
قال آخر: وحتى الذي لا يميل إلى ذلك يذكر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في الرؤيا .. ثم يعقب على ذلك بأن رؤيا الأنبياء حق .. وبذلك فإن ما وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه من الصفات الحسية مقبول سواء قيل برؤية اليقظة، أم بالرؤيا المنامية.
قال آخر: ولأن النتيجة في كليهما واحدة، فقد تعامل شيوخنا بهدوء مع هذه المسألة على الرغم من وجود آثار كثيرة تثبت الرؤية، والمثبت عندهم مقدم على النافي، قال الذهبي: (ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة) (1)
قال آخر: أما الفريق الذي يرى أنها قد وقعت، ويصف بالضبط صورة الله بدقة، فهم أكثر شيوخنا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأكثر علماء أهل السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه ليلة المعراج) (2)
قال آخر: ويستند هذا الفريق إلى بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، والتي يجزمون فيها، ويحلفون برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه، وأهمها ما رووه عن عكرمة عن ابن عباس قال: (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
قال آخر: ومنها ما رووه عن قتادة أن أنسًا قال: (رأى محمدٌ ربَّه) (4) .. ومنها ما رووه أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه عز وجل؟ فقال: (نعم، قد رآه) (5)
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10/ 114
(2) مجموع الفتاوى 3/ 386.
(3) ابن أبي عاصم في السنة (1/ 192)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 299)، والنسائي في الكبرى (5/ 165)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 479، ح 272)، والآجري في الشريعة (3/ 1541، ح 1031)، (2/ 1048، ح 627)
(4) ابن أبي عاصم في السنة 1/ 188 432. وابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 487، 280.
(5) عبد الله بن أحمد في السنة 1/ 176، 218، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 571، 908.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/163)
قال آخر: ومثل ذلك رووا عن التابعين أن عكرمة سئل عن قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11]، فقال: (أتريد أن أقول لك: قد رآه .. نعم قد رآه، ثم قد رآه، ثم قد رآه، حتى ينقطع النفس) (1) .. ورووا عن المبارك بن فضالة قال: (كان الحسن يحلف ثلاثة لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه) (2)
قال آخر: وقد ورد في بعض تلك الروايات وصفا دقيقا لكيفية رؤيته له، وهو ما روي عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13]، حيث روي عن عبد الله بن عمر أنه بعث إلى عبد الله بن عباس يسأله: هل رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟ فبعث إليه: (أن نعم قد رآه)، فرد رسوله إليه وقال: كيف رآه؟ فقال: (رآه على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء، دونه فراش من ذهب) (3)
قال آخر: هذا هو الفريق الأول الذي مال إليه أكثر شيوخنا .. أما الفريق الثاني، فتمثله عائشة، فقد ردت على ما روي عن ابن عباس ردا شديدا، واستدلت بالقرآن الكريم في ردها، مما أثار بعض شيوخنا المتقدمين عليها.
قال آخر: فقد حدث مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين: أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً
__________
(1) ابن جرير في تفسيره 27/ 48. وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 178 221. واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/ 571 907
(2) ابن خزيمة في التوحيد 2/ 488 281. وتفسير عبد الرزاق 2/ 204. والشفا للقاضي عياض 1/ 258.
(3) ابن أبي شيبة في كتاب العرش ص 391 38، وابن خزيمة في التوحيد 2/ 483 ب 275، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 175. والآجري في الشريعة 3/ 1543.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/164)
أُخْرَى} [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. فقالت: ألم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]. أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى 51]) (1)
قال آخر: وقد اعترض شيخنا وإمام أئمتنا ابن خزيمة على قولها هذا اعتراضا شديدا، فقال: (هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب، ولو كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها كان أجمل بها، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائلة: قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم .. ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها، أكثر ما في هذا أن عائشة وأبا ذر وابن عباس وأنس بن مالك، قد اختلفوا هل رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه فقالت عائشة: لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وقال أبو ذر وابن عباس صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علماً، والإثبات هو الذي يوجب العلم، لم تحكِ عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل، وإنما تلت قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً .. } [الشورى 51]، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق الرمي بالفرية على الله، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله!) (2)
قال آخر: وبعد أن فند ما استدلت به من الآيتين الكريمتين قال: (نقول كما قال معمر
__________
(1) مسلم 3/ 9 ـ 13، والبخاري 8/ 472.
(2) التوحيد لابن خزيمة (2/ 556)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/165)
بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة وابن عباس في هذه المسألة: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس، نقول: عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة، كذلك ابن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء، وهو المسمى ترجمان القرآن، وقد كان الفاروق يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سناًّ منه وأقدم صحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله، لأنه قد أثبت شيئاً نفته عائشة، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة، وإن غلط بعض العلماء في معنى آية من كتاب الله أو خالف سنةً أو سنناً من سنن النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم تبلغ المرء تلك السنن، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئاً لم يبينه كتاب ولا سنة، فتفهموا هذا لا تغالطوا) (1)
قال آخر: وقد حاول شيوخنا بعد ذلك الجيل التوفيق بين هذه الأقوال، ومنها ما ذكره ابن القيم، نقلا عن شيخه ابن تيمية، حيث قال: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى)، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه ـ تبارك وتعالى ـ تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقا فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد إنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك) (2)
قال آخر: وبعد تثبيت شيوخنا لهذه المقدمات بمختلف أنواعها، يذكرون أهم
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (2/ 559)
(2) زاد المعاد 3/ 37.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/166)
نتيجة، وهي تحديد صورة الله تعالى بدقة، حتى إذا ظهر للمؤمنين المثبتين يوم القيامة لم يخطئوا فيه.
قال آخر: والحديث الذي يدل على هذا هو ما رووه عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب، في رجليه نعلان من ذهب)، وفي رواية (رأيت ربي في المنام في صورة شاب موقر في خضر، عليه نعلان من ذهب، وعلى وجهه فراش من ذهب)، وفي رواية: (أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب) (1)
قال آخر: وفي رواية عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (رأيت ربي، عز وجل، في حلة خضراء في صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر)، وفي وراية: (أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة)، وفي رواية (رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء) (2)
قال آخر: وقد دافع شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث والروايات الواردة فيه أيما دفاع، فقال: (قال الخلال أبوبكر المروذي: قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه، فذكر الحديث، قلت إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان، قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ربي، وقال
__________
(1) ابن أبي عاصم في السنة 1/ 205 471. والطبراني في المعجم الكبير 25/ 143 346. والبيهقي في الأسماء والصفات 2/ 367 ـ 369 942. والدارقطني في الرؤية ص 190 316.
(2) هذا الحديث صححه جمعٌ من أعلام السلفية الكبار منهم: الإمام أحمد (المنتخب من علل الخلال: ص 282، وإبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 139)، وأبو زرعة الرازي (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 144)، والطبراني (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 143)، وأبو الحسن بن بشار (إبطال التأويلات 1/ 142، 143، 222)، وأبو يعلى في (إبطال التأويلات 1/ 141، 142، 143)، وابن صدقة (إبطال التأويلات 1/ 144) (تلبيس الجهمية 7/ 225)، وابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية 7/ 290، 356)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/167)
المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله: فشاذان كيف هو؟ قال: ثقة، وجعل يثبته، وقال: في هذا يشنع به علينا، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول، قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله: قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق) (1)
قال آخر: وقال في موضع آخر: (شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: رأيت ربي، قال: حدث به فقد حدث به العلماء، قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال: حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء) (2)
قال آخر: ثم روى أحاديث الرؤية المنامية، ويبين انطباقها على الأحاديث الدالة على الرؤية في اليقظة، فقد روى عن امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب) (3)
قال آخر: ثم علق عليه بقوله: (وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام، وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس) (4)
قال آخر: بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية فوق ذلك، وحتى يبين إمكانية الاستدلال بحديث الرؤية المنامية على صفة الله، قال: (وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)
(2) بيان تلبيس الجهمية (7/ 196)
(3) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)
(4) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/168)
ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس .. وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه) (1)
قال آخر: وما يريده شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الكلام واضح، ذلك أنه يعرف أن المسلمين جميعا يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الخلق بربه، ولذلك رؤيته مقاربة أو مطابقة لله نفسه .. خاصة إذا انضم إليها ما صححه من الأحاديث المتعلقة بالرؤية الحسية.
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات الصورة لله تعالى، وكونها مثل صورة آدم عليه السلام؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي الصورة عن الله تعالى.
قال آخر: ومن الأحاديث الواردة في ذلك عن أئمة الهدى، قول الإمام الصادق في
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 73)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/169)
تنزيه الله تعالى: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحد ولا يحس ولا يجس (1)، ولا تدركه الأبصار ولا الحواس، ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد) (2)
قال آخر: وقال في تنزيه الله: (لا جسم ولا صورة، وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشىو المنشا؛ لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) (3)
قال آخر: وسئل الإمام الكاظم عن الجسم والصورة، فقال: (سبحان من ليس كمثله شيء، لا جسم ولا صورة) (4)
قال آخر: وسئل الإمام الرضا عن التوحيد، فقال: (الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء، ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء، كيف شاء، متوحدا بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال) (5)
قال القاضي: لكن ما تقولون في تلك الأحاديث التي أوردها شيوخنا الأفاضل، وذكروا صحتها واعتبارها؛ فهل الدين يؤخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم من أئمتكم؟
__________
(1) الجس: المس باليد.
(2) الكافي: 1/ 104 / 1.
(3) الكافي: 1/ 106 / 6.
(4) الكافي: 1/ 104 / 2.
(5) الكافي: 1/ 105 / 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/170)
قال أحد التلاميذ: لقد ذكرنا لكم سيدي القاضي أن علماءنا، ومن جميع المدارس الإسلامية لا يقبلون أمثال تلك الأحاديث لكونها أحاديث آحاد، ولأنها رويت بالمعنى، ولذلك لم تبق مصدرا صحيحا وموثوقا في مثل هذه المسائل الخطيرة.
قال آخر: ومما يدل على ذلك ما روي عن الإمام الرضا، أنه قيل له: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله خلق آدم على صورته)، فقال: (قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح الله وجهك ووجه من يشبهك! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك؛ فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته) (1)
قال آخر: وهكذا ذكر العلماء من أهل منهج الإثبات وجوه التأويل المرتبطة بهذا الحديث وغيره، والتي تحمل الكثير من المعاني التربوية والأخلاقية، وتبعد الحديث عن تلك الخرافات التي وقع فيها أهل منهج الإثبات.
قال آخر: وبما أن الإشكال في الهاء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (على صورته)، وعلى من تعود؛ فقد بحثوا في ذلك؛ وذكروا الاحتمالات المختلفة في عودتها.
قال آخر: وأول الاحتمالات كون الهاء عائدة إلى غير صورة آدم عليه السلام وغير الله تعالى .. وعلى هذا التقدير يكون المراد (أن من قال للإنسان قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فهذا يكون شتما لآدم عليه السلام، فإنه لما كان صورة هذا الإنسان مشابهة لصورة آدم عليه السلام كان قوله قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك شتما لآدم عليه السلام ولجميع الأنبياء عليهم السلام، وذلك غير جائز، فلا جرم نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وإنما خص آدم بالذكر لأنه عليه السلام هو الذي ابتدأت خلقة وجهه على هذه الصورة) (2)
__________
(1) التوحيد: 153/ 11، عيون أخبار الرضا: 1/ 119/12.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 69.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/171)
قال آخر: ويدل لهذا الوجه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على رجل يضرب غلامه أو يزجره ويقول له: (قبح الله وجهك ووجه من أشبهك)، فسمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر ذلك لأن وجوه البشر كلها على صورة أبيهم آدم عليه السلام، وهو نبي مرسل فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقبح الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)، أي على صورة هذا الوجه الذي تقبحه وتضربه (1).
قال آخر: وبذلك يكون بعض الرواة قد اقتصر على بعض الحديث، (فيحمل المقتصر على المفسر) (2) .. ويدل لهذا ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) (3)
قال آخر: ويدل هذا الوجه كذلك على (إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة، بحيث يكون رأسه قريبا من السماء، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى إنسان معين وقال: (إن الله خلق آدم على صورته)، أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت ألبتة، فأبطل هذا البيان وهم من توهم أن آدم عليه السلام كان على صورة أخرى غير هذه الصورة) (4)
قال آخر: أما الاحتمال الثاني، فهو أن يكون الضمير عائدا إلى آدم عليه السلام، وقد رجحوا هذا الوجه؛ (لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وفي هذا الحديث أقرب الأشياء المذكورة هو آدم عليه السلام، فكان عود الضمير إليه أولى) (5)
قال آخر: وبناء على هذا الوجه، أولوا الحديث بأن المراد منه أن الله تعالى لم يعاقب آدم عليه السلام بتغيير خلقه، بل تركه على الخلقة الأولى إكراما له وصونا له من عذاب
__________
(1) أحمد (2/ 434)
(2) دفع شبه التشبيه، ص 144.
(3) مسلم (4/ 2017)
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 69.
(5) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/172)
المسخ؛ فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) معناه (خلق آدم على هذه الصورة التي هي الآن باقية من غير وقوع التبدل فيها) (1)
قال آخر: أو أن المراد منه (إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا بواسطة النطفة ودم الطمث، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) إبتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة) (2)
قال آخر: أو أن المراد منه الرد على من يذكرمن الفلاسفة (أن الإنسان لا يتكون إلا في مدة طويلة وزمان مديد بواسطة الأفلاك والعناصر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، أي من غير هذه الوسائط) (3)
قال آخر: أو أن المراد منه (بيان أن هذه الصورة الإنسانية، إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده لا بتأثير القوة المصورة والمولدة على ما تذكره الأطباء والفلاسفة، ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، فهو الخالق، أي، فهو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات والباريء، أي هو المحدث للأجسام والذوات بعد عدمها والمصور، أي هو الذي يركب تلك الذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة) (4)
قال آخر: أو أن المراد منه الصفة، كما يقال: (شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة)، والمراد من الصورة في كل هذه المواضع الصفة، وبذلك يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، (أي على جملة صفاته وأحواله، وذلك؛ لأن الإنسان حين يحدث يكون في غاية الجهل والعجز، ثم لا يزال علمه وقدرته إلى أن يصل حد الكمال، فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آدم خلق من أول الأمر كاملا تاما في علمه وقدرته، وبذلك يكون معنى
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/173)
قوله (خلق الله آدم على صورته) أنه خلقه في أول الأمر على صفته التي كانت حاصلة في آخر الأمر) (1)
قال آخر: أما الاحتمال الثالث، فهو أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى، كما يذكره المجسمة، وبناء على استحالة الصورة على الله تعالى؛ فقد ذكروا وجوها لتأويلها عند إرادة هذا الاحتمال.
قال آخر: ومنها أن المراد من الصورة الصفة، (فيكون المعنى أن آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالما بالمعقولات، قادرا على استنباط الحرف والصناعات، وهذه صفات شريفة، فصح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) بناء على هذا التأويل) (2)
قال آخر: ومنها أنه كما (يصح إضافة الصفة إلى الموصوف، فقد يصح إضافتها إلى الخالق والموجد فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور بمزيد الكرامة والجلالة) (3)
قال آخر: ومنها أن الإنسان (ليس عبارة عن هذه البنية، بل هو موجود ليس بجسم ولا بجسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير، أو التصرف فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، أي إن نسبة ذات آدم عليه السلام إلى هذا البدن كنسبة الباري تعالى إلى العالم من حيث أن كل واحد منهما غير حال في هذا الجسم، وإن كان مؤثرا فيه بالتصرف والتدبير) (4)
قال آخر: وقد لخص ابن الجوزي أكثر التأويلات المتداولة للحديث، فقال: (اختلف
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/174)
أرباب هذا المذهب في الهاء على من تعود على ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على بعض بني آدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وإنما خص آدم بالذكر، لأنه هو الذي ابتدأت خلقة وجهه على هذه الصورة التي احتذي عليها من بعده، وكأنه نبه على أنك سببت آدم وأنت من أولاده وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب، ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى الله عزوجل بقوله، ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسب إليه شبه سبحانه وتعالى كان تشبيها صريحا، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) (1)
قال آخر: ثم ذكر القول الثاني، وهو أن (الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصح أن يضاف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة، فعادت إلى آدم، ومعنى الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه)، وهذا مذهب أبي سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه) (2)
قال آخر: ثم ذكر القول الثالث، وهو أن (الهاء تعود إلى الله تعالى، وفي معنى ذلك قولان: أحدهما: أن تكون صورة ملك، لأنها فعله، فتكون إضافتها إليه من وجهين: أحدهما: التشريف بالاضافة كقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]، والثاني: لأنه ابتدعها على غير مثال سابق .. والقول الثاني: أن تكون صورة بمعنى الصفة، تقول: هذا صورة هذا الأمر: أي صفته، ويكون المعنى خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والارادة والكلام فميزه بذلك على جميع الحيوانات، ثم ميزه على
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 28.
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 29.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/175)
الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له) (1)
قال آخر: أما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد، قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السموات والأرض) (2)
قال آخر: فقد ذكر أئمتنا أن هذا الحديث مكذوب موضوع، وقد ألف فيه بعضهم رسالة سماها: (عبارات الحفاظ المنثورة في بيان حديث رأيت ربي في أحسن صورة)، وقد رواه وذكره الذهبي، وقال: (وهو بتمامه في تأليف البيهقي، وهو خبر منكر، نسأل الله السلامة في الدين) (3)، ورواه البيهقي، وقال عقبه: (وقد روي من وجه آخر وكلها ضعيف) (4) .. وقال عنه الحافظ ابن حجر: (قال محمد بن نصر المروزي في كتاب (تعظيم قدر الصلاة) هذا حديث اضطرب الرواة في إسناده وليس يثبت عند أهل المعرفة) (5) .. وقال الدارقطني: (كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح) (6) .. وقال البيهقي: (روي من أوجه كلها ضعيفة، وأحسن طرقه تدل على أن ذلك كان في النوم) (7)
قال آخر: وقال أحمد: (أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة يرويه معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح، ورواه قتادة عن أنس واختلف على قتادة فرواه يوسف بن عطية عن قتادة ووهم فيه، ورواه هشام عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس ووهم في قوله عن ابن عباس وإنما رواه خالد عن عبد الرحمن بن عائش وعبد الرحمن لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما رواه عن مالك بن يخامر عن
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 29.
(2) الترمذي (5/ 369)، والخطيب البغدادي في تاريخه (8/ 152) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 125) والطبراني في الكبير (1/ 317) اللآلي المصنوعة في الاحاديث الموضوعة (1/ 31)
(3) سير اعلام النبلاء (10/ 113 ـ 114)
(4) الاسماء والصفات ص (300)
(5) النكت الظراف (4/ 382)
(6) العلل المتناهية (1/ 34)
(7) الاسماء والصفات ص (300)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/176)
معاذ) (1)
قال آخر: وقال ابن الجوزي: (والعجب مع اضطراب هذه الأحاديث وكون مثلها لا يثبت به حكم في الوضوء، كيف يحتجون بها في أصول الدين والعقائد!؟) (2)
قال آخر: ثم قال: (روى ابن حامد من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ولما أسرى بي رأيت الرحمن تعالى في صورة شاب أمرد، له نور يتلالا، وقد نهيت عن وصفه لكم، فسألت ربي أن يكرمني برؤيته، وإذا هو كأنه عروس حين كشف عن حجابه مستو على عرشه) (3)، وهذا الحديث كذب قبيح، ما روي قط لا في صحيح ولا في كذب؛ فأبعد الله من عمله، فقد كنا نقول: ذلك في المنام، فذكر الوضاع هذا في ليلة الاسراء كافأهم الله وجزاهم النار، يشبهون الله سبحانه بعروس .. لا يقول هذا مسلم) (4)
قال آخر: أما الحديث الذي يروونه عن أم طفيل امرأه أبي بن كعب، وأنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أنه: (رأى ربه عزوجل في المنام في أحسن صورة، شابا موفرا، رجلاه في خضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب) (5)
قال آخر (6): فهو مثل السابق مكذوب موضوع، فقد رواه نعيم بن حماد بن معاوية المروزي، وقد قال ابن عدي فيه: كان يضع الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس نعيم بشئ في الحديث، وفي إسناده مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر، قال أبو عبد الرحمن النسائي: ومن مروان حتى يصدق على الله عزوجل؟ وقال مهنى بن يحيى، سألت أحمد عن هذا الحديث، فأعرض بوجهه وقال: هذا حديث منكر مجهول يعني مروان بن عثمان قال ولا
__________
(1) تهذيب التهذيب (6/ 185)
(2) دفع شبه التشبيه، ص 151.
(3) اللآلئ المصنوعة في الاحاديث الموضوعة (1/ 28 ـ 31)
(4) دفع شبه التشبيه، ص 151.
(5) الطبراني في الكبير (25/ 143) واالبيهقي في الاسماء والصفات (446 ـ 447) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 125)
(6) دفع شبه التشبيه، ص 151.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/177)
يعرف أيضا عمارة.
قال آخر: أما الحديث الذي يروونه عن عبد الله بن أبي سلمة قال: بعث عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن العباس يسأله هل رأى محمد ربه؟ فبعث إليه: أن نعم قد رآه، فرد رسوله إليه وكيف رآه؟ فقال: (رآه على كرسي من ذهب يحمله أربعة: ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء دونه فراش من ذهب) (1)
قال آخر: فهو أيضا حديث مكذوب موضوع، وقد قال فيه ابن الجوزي: (هذا يروى من طريق حماد بن سلمة، وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد يدس في كتبه هذه الاحاديث، على أن هذا كان مناما والمنام خيال .. ومثل هذه الاحاديث لا ثبوت لها، ولا يحسن أن يحتج بمثلها في الوضوء) (2)
قال آخر: أما حديث القيامة الطويل، والذي ورد فيه: (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعبدون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا .. فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول أن ربكم فيقولون أنت ربنا) (3)
قال آخر: فقد علق عليه ابن جماعة بقوله: (اعلم أن الأدلة العقلية والنقلية تحيل الصورة التي هي التخطيط على الله تبارك وتعالى، فوجب صرفها على ظاهرها إلى ما يليق بجلاله تبارك وتعالى مما هو مستعمل في لغة العرب، وهو [الصفة والحالة] يقال: كيف صورة هذه الواقعة وكيف صورة هذه المسألة؟ وفلان من العلم على صورة كذا وكذا .. فالمراد بجميع ذلك الصفة لا الصورة التي هي التخطيط، فعلى هذا الصورة هنا بمعنى
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد (42)
(2) دفع شبه التشبيه، ص 154.
(3) البخاري (7439) ومسلم (183)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/178)
الصفة وتكون في بمعنى الباء) (1)
قال آخر: ثم ذكر التأويلات المحتملة لذلك، ومنها أن الله تعالى (أظهر لهم شدة البطش والبأس والعظمة والأهوال والجبروت، وكان وعدهم في الدنيا يلقاهم في القيامة بصفة الأمن من المخاوف والبشرى والعفو والإحسان واللطف، فلما أظهر لهم غير الصفة التي هي مستقرة في نفوسهم أنكروها واستعاذوا منها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا أتانا ربنا عرفناه)، أي بما وعد من صفة اللطف والرحمة والإحسان، ولذلك قال: (فيكشف عن ساق)، أي يكشف عن تلك الشدة المتقدمة وتظهر لهم صفة الرحمن فيسجدون شكرا له، ويدل لهذا أن المراد بالصورة الصفة دلالة صريحة قوله في الصورة التي يعرفونها) (2)
قال آخر: ومنها أن معنى (يأتيهم في الصورة التي يعرفونها): (التي يعرفونها في الدنيا، لأنهم لم يعرفوه يوم القيامة قبل ذلك بصورة متقدمة ولا رؤية سابقة، فدل على أن المراد التي يعرفونها في الدنيا، ولا خلاف بين الخلائق أجمع أن الله تعالى لم تعرف له في الدنيا صورة، وإنما عرفت صفاته تعالى وما وعد به الصالحين في القيامة من لطفه وأمنه وبشارتهم بجنته) (3)
قال آخر: ومنها أن (الله تعالى يبعث لهم ملكا في صورة يمتحن إيمانهم في الآخرة، كما امتحنهم في الدنيا بالدجال، فيقول: أنا ربكم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما يشاء إذا شاء .. وفائدة ذلك ثبات المؤمنين على إيمانهم وظهور ذلك منهم لمن خالفهم تشريفا لهم) (4)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة الصورة على الله تعالى، قال القاضي
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 157)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 157)
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 158)
(4) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 159)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/179)
متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن السابع الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن السابع ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات الرؤية لله تعالى؛ فالمعطلة ينفون ذلك مع ورود الأدلة الصحيحة الصريحة به.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أول أدلتنا، وأقواها، وأصرحها، ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية، ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22 - 23]، وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 34 - 35]
قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر اللقاء مع الله تعالى، فهي دليل على الرؤية، ومنها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، وقوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]، وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]، وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]
قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر حجب الكفار عن الله جل وعلا، كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]
قال آخر: أما قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]،
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/180)
والذي استدل به المعطلة؛ فهو ينفي الإدراك والإحاطة، وليس الرؤية، وقد قال إمامنا أبو بكر الآجري في ذلك: (إن قال قائل: فما تأويل قوله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قيل له: معناها عند أهل العلم: أي: لا تحيط به الأبصار، ولا تحويه عز وجل، وهم يرونه من غير إدراك ولا يشكون في رؤيته؛ كما يقول الرجل: (رأيت السماء)، وهو صادق، ولم يحط بصره بكل السماء، ولم يدركها) (1)
قال آخر: وقال أبو محمد البغوي: (اعلم أن الإدراك غير الرؤية؛ لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به، والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك؛ قال الله تعالى في قصة موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61 - 62]، وقال: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به) (2)
قال آخر: أما الأحاديث؛ فكثيرة، ومنها ما روي عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ .. فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز، وجل وهي الزيادة ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]) (3)
قال آخر: وعن جرير، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) (4)، وفي رواية (إنكم
__________
(1) الشريعة للآجري (2/ 1048)
(2) معالم التنزيل البغوي (3/ 174)
(3) مسلم (181)، والترمذي (2552)، وابن ماجه (187)
(4) البخاري (7434)، ومسلم (633)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/181)
سترون ربكم عيانا) (1)
قال آخر: وعن أبي هريرة، أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تضارون في القمر ليلة البدر؟)، قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارون في الشمس، ليس دونها سحاب؟)، قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فإنكم ترونه كذلك) (2)
قال آخر: وعن أبي بكر بن عبدالله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما، وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) (3)
قال آخر: وفي حديث الشفاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيأتوني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك: سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع) (4)
قال آخر: وعن عدي بن حاتم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له) (5)
قال آخر: ومنها ما روي في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم في معرض التحذير من الدجال: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) (6)، وبمفهوم المخالفة الرؤية ممكنة بعد الموت؛ أي: يوم القيامة.
قال آخر: أما قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
__________
(1) البخاري (7435)
(2) البخاري (7437)، ومسلم (182)
(3) البخاري (4878)، ومسلم (180)
(4) البخاري (6565)، ومسلم (193)
(5) البخاري (1413) وغيره.
(6) مسلم (7356)، والترمذي (2235)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/182)
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]؛ فإن المقصود منه نفي الرؤية في الدنيا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في معرض التحذير من الدجال: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) (1)
قال آخر: وفي الحديث عن عائشة أنها أنكرت على من قال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه عز وجل بعينه حتى قالت: (من زعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) (2)
قال آخر: وعن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) (3)
قال آخر: وعن عائشة لما سألها مسروق، فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟ قالت: (سبحان الله لقد قف شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن، فقد كذب، من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقد كذب) (4)
قال آخر: وقد اتفق جميع أئمتنا على إثبات الرؤية الحسية لله تعالى، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (وإنما يكذب بها أو يحرفها ـ أي: أحاديث الرؤية في الآخرة ـ الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم، من الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته، وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة) (5)
قال آخر: وقد نقل أئمتنا الإجماع على ذلك، فقد قال الإمام عبدالغني المقدسي: (وأجمع أهل الحق واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله تعالى يرى في الآخرة كما جاء في كتابه وصح عن رسوله) (6)
قال آخر: وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي: (وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة
__________
(1) مسلم (7356)، والترمذي (2235)
(2) البخاري (3062)، ومسلم، (439)
(3) مسلم (443)، وأحمد (21017)
(4) البخاري (3062) ومسلم (177)
(5) مجموع الفتاوى (3/ 391 ـ 392)
(6) عقيدة الحافظ عبدالغني المقدسي (58)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/183)
والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة) (1)
قال آخر: ولهذا حكم أئمتنا على كفر جاحد الرؤية، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة، فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم ذلك، عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له، فهو كافر) (2)
قال آخر: وقال العلامة ابن باز: (رؤية الله في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر، يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة) (3)
قال آخر: وقد اتفق أئمتنا على أن رؤية الله تعالى هي أعظم نعيم لأهل الجنة، وقد قال ابن القيم في ذلك: (فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها، هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه منه، والقرب منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية) (4)، وقال: (فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وألذ ما في الآخرة رؤيته ومشاهدته)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا عبدالمحسن العباد حكمة تأخير رؤية الله إلى الآخرة، فقال: (الرؤية هي النعمة العظيمة، والفائدة الكبيرة، ولم يجعلها الله لأحد في الدنيا حتى تبقى غيبا، وحتى يستعد كل مسلم للظفر بها والحصول عليها، كما أن أمور الآخرة قد أخفاها الله عز وجل عن الناس، ولم يطلعهم عليها، ولا على ما في الجنة من النعيم، ولما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس صلاة الكسوف، عرضت عليه الجنة وهو يصلي بالناس، ورأى عناقيد العنب متدلية، فمد يده ليتناول قطفا منها، وكان الصحابة وراءه يصلون، فرأوا يده الكريمة
__________
(1) شرح الطحاوي (153)
(2) مجموع الفتاوى (6/ 486)
(3) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (28/ 412)
(4) الداء والدواء (283 ـ 284)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/184)
تمتد، ولم يروا الذي مدت إليه، ثم إنه عرضت عليه النار، فرجع القهقرى ولم يعرفوا لماذا فعل ذلك!؟ ولما فرغ سألوه عن ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مددت يدي لآخذ عنقودا من العنب، ثم تركته، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)، فقد شاء الله عز وجل أن تكون أمور الآخرة غيبا، وألا تكون علانية؛ لأنها لو كانت علانية لم يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن بالغيب) (1)
قال آخر: وأما رؤية الله تعالى في الدنيا؛ فإن هناك خلافا في وقوعها، وقد قال شرح الطحاوية في ذلك: (وهذا القول الذي قاله القاضي عياض هو الحق، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة؛ إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام) (2)، وقال النووي: (أما رؤية الله في الدنيا، فقد قدمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا) (3)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها، ضعف عن رؤيتها لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقا؛ قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم) (4)
قال آخر: وبناء على هذا اختلف أئمتنا في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه تعالى على ثلاثة أقوال، أولها قول من أثبت الرؤية مطلقا، واستدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس قال: (أتعجبون
__________
(1) شرحه لسنن أبي داود (1/ 2)
(2) شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (1/ 434)
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 320)
(4) منهاج السنة النبوية (2/ 332)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/185)
أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .. وعنه أيضا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] قال: (رأى ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى) (2).
قال آخر: والثاني، قول من قيدها بالرؤية القلبية، واستدلوا لذلك بقول ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بقلبه) (3)، وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين.
قال آخر: والثالث، قول من نفى الرؤية مطلقا، واستدلوا بما روي عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: (ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدا رأى ربه، فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة، سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء، سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض)، فقالت: ألم تسمع أن الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]) (4)
قال آخر: واستدلوا لذلك أيضا بما روي عن ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]: (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته، له ستمائة
__________
(1) ابن أبي عاصم في السنة (1/ 192)
(2) الترمذي، (5/ 395، ح 3280)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 191)
(3) مسلم (435)
(4) مسلم (428)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/186)
جناح) (1)
قال آخر: وقد علق ابن كثير على هذا بقوله: (وفي رواية عنه ـ يعني ابن عباس ـ أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة) (2)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات إمكانية رؤية الله تعالى، فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة رؤية الله تعالى.
قال آخر: ولذلك؛ فإن كل الآثار التي استدل بها المثبتة في حال صحتها، لا تدل على ما توهموه من الرؤية الحسية، وإنما تدل على الرؤية القلبية، والتي لا علاقة لها بالأجسام.
قال آخر: وقد روي عن أئمتنا الكثير من الأحاديث الدالة على ذلك، ومنها ما روي عن هشام، قال: كنت عند الإمام الصادق إذ دخل عليه معاوية بن وهب، وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله، ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، على أي صورة رآه؟ .. وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، على أي صورة يرونه؟ فتبسم، ثم قال: يا فلان، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون
__________
(1) البخاري (3232)، ومسلم (431)
(2) تفسير ابن كثير (7/ 448)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/187)
سنة، أو ثمانون سنة، يعيش في ملك الله، ويأكل من نعمه، لا يعرف الله حق معرفته، ثم قال: يا معاوية، إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ربه تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإن الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر؛ فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شبه الله بخلقه فقد كفر) (1)
قال آخر: وقيل له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ .. فقال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، قيل: متى؟ قال: حين قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ثم سكت ساعة، ثم قال: (وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟) قال السائل: فقلت له: جعلت فداك؛ فأحدث بهذا عنك؟ فقال: (لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون) (2)
قال آخر: وقال: (رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب، وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته) (3)
قال آخر: وقال لمن سأله: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟: (نعم، رآه بقلبه، فأما ربنا ـ جل جلاله ـ فلا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به أسماع السامعين) (4)
قال آخر: وهكذا روي عن إمام أئمة الهدى الإمام علي، فقد روي أنه كان يخطب على منبر الكوفة، إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب، ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب، ما كنت أعبد ربا لم أره، فقال:
__________
(1) كفاية الأثر: 256.
(2) التوحيد: 117/ 20، بحار الأنوار: 4/ 44 / 24.
(3) الاحتجاج: 2/ 212 / 223، بحار الأنوار: 10/ 164 / 2.
(4) الأمالي للسيد المرتضى: 1/ 103، روضة الواعظين: 41.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/188)
يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب، إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، وبعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة في الأشياء كلها، غير متمازج بها ولا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة، قريب لا بمداناة (1)
قال آخر: وروي أن رجلا من اليهود أتاه، فقال: يا علي، هل رأيت ربك؟ فقال: ما كنت بالذي أعبد إلها لم أره، ثم قال: لم تره العيون في مشاهدة الأبصار، غير أن الإيمان بالغيب بين عقد القلوب (2).
قال آخر: وهكذا روي عن سائر أئمة الهدى، فعن سنان، قال: حضرت الإمام الباقر، فدخل عليه رجل من الخوارج، فقال له: يا أبا جعفر، أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى، قال: رأيته؟ قال: (بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (3)
قال آخر: وعن المدائني، قال: بينما محمد بن علي بن الحسين (الإمام الباقر) في فناء الكعبة، فإذا أعرابي فقال له: هل رأيت الله حيث عبدته؟ فأطرق وأطرق من كان حوله، ثم رفع رأسه إليه فقال: (ما كنت لأعبد شيئا لم أره، فقال: وكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيته، بان من الأشياء وبانت
__________
(1) الكافي: 1/ 138 / 4، التوحيد: 308/ 2.
(2) المحاسن: 1/ 373.
(3) الكافي: 1/ 97 / 5، التوحيد: 108/ 5.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/189)
الأشياء منه، ليس كمثله شيء، ذلك الله لا إله إلا هو)، فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته (1).
قال القاضي: دعونا من كل هذا .. فما أدرانا بصحة هذه الروايات، خاصة وأن أسانيدها مملوءة بالرافضة المشهورين بالكذب .. فكيف تجيزون لأنفسكم أن تردوا بها الآية الواضحة في الدلالة على الرؤية، وهي قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فقد اتفق الجميع على دلالتها على الرؤية الحسية.
قال أحد التلاميذ: هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالرؤية .. وكبار اللغويين يعرفون ذلك، ويقرون به، ومنهم الشريف المرتضى، الذي رد على من استدل بها على جواز رؤية اللّه تعالى، بحجة أن النظر اذا عدّى بـ (إلى) اختصّ بالرؤية وزال عنه الاحتمال، وقد قال جوابا على ذلك: (يجاب عن ذلك بأن الآية التي تعلّقوا بها إنّما يتضمّن ذكر النظر دون الرؤية، وليس النظر محتملا للرؤية، ولا هي ممّا يستفاد بهذه اللفظة في اللغة) (2)
قال آخر: ثم استدل على ذلك بما ورد في اللغة العربية من شواهد على جعل الرؤية غاية للنظر، حيث يقولون: (ما زلت أنظر إليه حتّى رأيته) .. (ودعوى من ادّعى منهم أنّ ذلك وإن استعمل فعلى سبيل المجاز، لا يلتفت إليها؛ لأنّه تحكّم واقتراح بغير حجّة، والظاهر من الاستعمال الحقيقة، وإنّما ينتقل إلى المجاز بالأدلّة) (3)
قال آخر: واستدل على ذلك أيضا بقولهم (نظرت إلى الهلال فلم أره)، و (نظرت كذا فما رأيته)، كما يقولون: (أصغيت إليه فلم أسمعه)، و (ذقته فلم أجد له طعما)، فلو كان النظر هو الرؤية لكان هذا الكلام يتضمّن النفي والإثبات للشي ء الواحد (4).
__________
(1) تاريخ دمشق: 54/ 282؛ الإرشاد: 1/ 225، الاحتجاج: 1/ 493.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 425.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 425.
(4) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/190)
قال آخر: واستدل لذلك أيضا بما نراه في المشاهدة من (كون الناظر ناظرا إذا كان محدقا نحو الشيء، ولا نعلمه رائيا له إذا كان المرئي خفيا ملتبسا، ولهذا يحتاج في أنّه راء له إلى الرجوع إلى قوله، ولا يحتاج إلى ذلك في كونه ناظرا، ولهذا يقولون: (رأيته ينظر إلى كذا)، ولا يقولون: (رأيته يرى كذا) (1)
قال آخر: واستدل لذلك أيضا بأن أهل اللغة جعلوا للنظر أصنافا من حيث عرّفوه، وجرى في الحكم مجرى ما يشاهدونه، فقالوا: (نظر غضبان) و (نظر راض) و (نظر شرر) و (نظر متعة) و (نظر بغضة) في نفس الوقت الذي لم يصنّفوا للرؤية أصنافا، ولا جعلوها ضروبا، وبذلك (يجب أن يكون المختلف الضروب عندهم غير ما هو شيء واحد، ولهذا لا يسمع من أحد منهم (رؤية محبّ) و (رؤية راض)، ولا أن يبدّلوا لفظة (النظر) في تلك المواضع بلفظ الرؤية، فدلّ على أنّ الفائدة فيهما مختلفة) (2)
قال آخر: ثم استدل على ذلك بإحالة العقل للرؤية الحسية، فقال: (والنظر عندنا هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئيّ أو مكانه طالبا لرؤيته، وهذه الفائدة لا تصحّ فيه تعالى، فينبغي أن ينفي عن الآية فائدة النظر المختصّة بالغير، ويحمل ذلك على ما يصحّ من الانتظار أو غيره) (3)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمالات المختلفة التي يدل علىها لفظ النظر، وبذلك ينتفي الاستدلال به، فقال: (على أنّا لو سلّمنا لهم أنّ النظر يفيد الرؤية وأنّها إحدى فوائده، لم يسلّم استدلالهم أيضا بالآية؛ لأنّ لفظ (النظر) له فوائد كثيرة من الذكر والاعتبار والتعطّف والانتظار، فما المنكر من أن يريد بها في الآية الانتظار، ولا شبهة في أنّ الانتظار ممّا يفاد بهذه
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/191)
اللفظة، قال اللّه تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، ويقول القائل: (إنّما أنظر إلى اللّه وإليك) ولا يريد إلّا الانتظار، وقال الشاعر: (إنّي إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر) .. و قال آخر: (كلّ الخلائق ينظرون سجاله نظر الحجيج إلى طلوع هلال) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن (احتمال لفظة: (النظر) للانتظار أوضح من أن يستشهد عليه وأظهر، وكلّ ما استشهد بأنّه ممّا عدّي النظر فيه بـ (إلى) ولم يرد به الرؤية، ويسقط تعلّقهم بالتعدية) (2)
قال آخر: ثم رد على اعتبار اقتران النظر بالوجه دليلا على قصد الرؤية، فقال: (من أين لكم أنّ (النظر) إذا قرن بالوجه وعدّي بـ (إلى) لم يحتمل إلّا الرؤية، وما الشاهد على ذلك، فليس هذا ممّا يقبل فيه محض الاقتراح؟ ومتى طلبوا على ذلك شاهدا معروفا عجزوا عنه .. فأمّا استشهاد بعضهم على هذه الدعوى، بأنّهم يقولون: (أنظر إليّ بوجهك) فخلف من الكلام غير مستعمل ولا معروف، وإنّما المعروف قولهم: (أقبل عليّ بوجهك) و (انظر إليّ بعينك) من حيث كانت العين آلة في الرؤية، على أنّ هذا لو كان معروفا لم يكن نظيرا للآية؛ لأنّ النظر في قولهم: (انظر إليّ بوجهك) لو صحّ، معلّق بالوجه على حدّ يقتضي كونه آلة فيه، والوجه ليس يكون كالآلة إلّا في النظر الذي هو الرؤية، والآية أضيف النظر فيها إلى الوجوه إضافة لا يقتضي كونها آلة، فجاز أن يحمل على الانتظار؛ لأنّه لا مانع من ذلك كما منع فيما أوردوه) (3)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الذي يطرحه المخالفون حول استحالة أن تكون
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 427.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 427.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/192)
الوجوه منتظرة، فقال: (لأنّها كما لا تكون منتظرة كذلك لا تصحّ أن تكون رائية على الحقيقة، فما لقائل ذلك إلّا مثل ما عليه؟ وهذا هو الذي يدلّ على أنّ المراد بالوجوه غير الجوارح) (1)
قال آخر: ثم أجاب على من أشكل بأن (تعليق الإدراك بالبصر يقتضي أن تكون الرؤية دون سائر ما تحتمله هذه اللفظة، فكذلك النظر إذا علّق بالوجه يجب أن يكون مفيدا للرؤية) بقوله: (الفرق بين الأمرين أنّ الإدراك إنّما وجب فيه متى علّق بالبصر أن يكون محمولا على الرؤية، من حيث علّق بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية دون غيرها، وليس كذلك الآية؛ لأنّ النظر لم يعلّق فيها بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية من حيث لم تكن الوجه آلة في الرؤية، وليس من حيث كانت العين وهي آلة الرؤية في الوجه تلحقه هذه التسمية، كما لم يجب أن تكون آلة في الشمّ لكون آلة الشمّ فيه؛ ولأنّ الوجوه المذكورة فيها لم ترد بها الجوارح، وإنّما كنى بها عن الحمل؛ ولأنّا لما ادّعينا ذلك في الإدراك استشهدنا عليه بالمتعارف في الخطاب، وليس في شي ء من الخطاب تعليق النظر على الوجوه) (2)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بأن المراد بالوجوه في الآية ليس مقصودا منه الوجوه الحسية، فقال: (إنّ المراد بها ذو الوجوه، وبهذا جرت عادة العرب؛ لأنّهم يقولون: (هذا وجه الرائي) و (وجه الأمر)، وقال اللّه تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .. ولا شبهة في أنّ المراد بكلّ ذلك الذوات دون غيرها، و قد قيل: إنّه إنّما جاز أن يعبّر عن الجملة بالوجه، من حيث كان التمييز يقع بين الجمل بالوجوه، والمعرفة بها يتعلّق، فأجريت مجراها) (3)
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 427.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 428.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 429.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/193)
قال آخر: ثم بين سر ارتباط الوجوه بالنضارة، وعدم دلالة ذلك بالضرورة على الحس، فقال: (من شأن العرب بأن يثنّي الكلام تارة على ألفاظه وأخرى على معانيه، والبناء على الألفاظ أحسن، وإذا كان تعالى قد كنّى عن الجمل بلفظ الوجوه تارة، وأخرى في الوصف على اللفظ والنضارة من صفة الوجوه، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وإنّما أراد أهلها ولم يقل فيها، وكذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] فأجرى الوصف على اللفظ، ثمّ قال: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] فعاد إلى المعنى، على أنّ البشارة أيضا من صفات الوجوه التي هي الجوارح، وكذلك النعمة، ولم يقتض ذلك في حمل قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24]، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8] على الجوارح التي تليق بها هذه الصفات) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تلك الآية الكريمة تفهم على ضوء قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقوله بعدها: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]
قال آخر: وقد قال الشيرازي في تفسيرها: (إن هذه الآية تنفي كل إمكانية لرؤيته تعالى سواء في هذا العالم أم في العالم الآخر .. وبديهي أن المقصود من معنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} هو عدم قدرة البشر على رؤيته بواسطة العين، وجلي أيضا أن كلمة {الْأَبْصَارُ} وردت بصيغة الجمع هنا من أجل التعميم والشمول لتشمل أي عين مهما كانت قدرتها البصرية شديدة) (2)
قال آخر: ثم أورد الأدلة التي استدل بها مثبتو الرؤية، ومنها أن الآية الكريمة تفيد كونه تعالى جائز الرؤية، (لأن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 429.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/194)
عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء) (1)
قال آخر: وقد رد على هذا الدليل بقوله: (لو شاع هذا الأسلوب، أي أن يتشبث الإنسان لإثبات مطلب معين بأمور تدل بالضبط على عكس ذلك المطلب، ويستدل بكل شي ء لإثبات كل شي ء لتعرضت الحقائق للاندثار والضياع، ولأمكن إيجاد استدلال قرآني لأي موضوع، ولذا كان لابد لنا من الحديث بهذه الطريقة) (2)
قال آخر: وبناء على هذا راح يرد على هذا الاستدلال، بذكر مستلزماته ونتائجه في حال تطبيقها على تفسير القرآن الكريم، فقال: (إننا نمدح الله تعالى بصفات سلبية كثيرة وجميعها محال بشأنه، كقولنا بأن الله لايفنى ولا يهلك أبدا {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ومن المسلم به أن هلاك واجب الوجود محال، فهل يمكن أن يستدل أحد بها على إمكانية هلاك وفناء الله تعالى، بحجة أنه لو كان محالا لما صح مدحه بعدم الهلاك .. فهل يتفوه عاقل بمثل هذا!؟ .. وكذلك مدح القرآن لله تعالى بتنزيهه عن الأب والصاحبة والولد والشريك: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، وقال سبحانه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4] .. وعلى هذا الأساس فإن جميع الصفات السلبية أمور محالة بشأن الله تعالى، لأنها من صفات الممكنات، والله واجب الوجود) (3)
قال آخر: ثم رد على استدلال المثبتين للرؤية بأن الله تعالى (لا يُرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة)، فقال: (لايوجد في الآية المذكورة أي إشارة إلى الحاسة السادسة وما شاكلها، ولا تدخل في إطار أي من المفاهيم المعروفة الموجودة في كتب الأصول، إذن فليس إثبات الشي بمعنى نفي غيره، ولا نفي الشي ء يثبت شيئا آخر، وعليه
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
(3) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/195)
فإذا قالت الآية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فليس مفهومها: إمكانية رؤية الله بواسطة أخرى .. علاوة على ذلك فما هو المقصود من الحاسة السادسة؟ .. فإن كان المقصود منها المشاهدة القلبية والرؤية بعين العقل فلا أحد ينكرها، ولا علاقة لها بالرؤية البصرية) (1)
قال آخر: ثم بين أن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] (معناه عدم قدرة أي بصر على رؤيته، وهو من قبيل العموم الإفرادي، ويمر علينا مثل هذا التعبير في كلامنا اليومي بكثرة، كقولنا لا تطوله الأيدي، أو: لا يعرف الناس قدره، أي، أي يد وأي إنسان، كما ورد في بعض الأدعية: (كلت الألسن عن غاية صفته، والعقول عن كنه معرفته)، وقال الإمام علي: (وأعجز الألسن عن تلخيص صفته) (2)
قال آخر: ومثل ذلك استدلوا على استحالة الرؤية الحسية لله، بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]
قال آخر: ومع اتفاق أهل التأويل على عدم تعارض طلب موسى عليه السلام مع تنزيه الله تعالى عن الإدراك إلا أنهم اختلفوا في توجيه ذلك الطلب.
قال آخر: ومن الأقوال في ذلك، وهو أشهرها، ما عبر عنه المدرسي بقوله: (وواعد الله موسى عليه السلام ثلاثين ليلة لميقاته، وذهب موسى الى الميقات بعد أن وصّى أخاه هارون تلك الوصايا المؤكدة، التي كان الرسل عليهم السلام يوصون بها قومهم باتباع سبيل الإصلاح، وترك سبل المفسدين، وجاء موسى لميقات ربه وهو يحمل رجاء قومه
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/196)
بالنظر الى الله، فلما كشف لربه عن هذا الطلب الغريب النابع عن جهل الناس بالله وبصفاته الحسنى، أمره ربه بالنظر الى الجبل فإن استقر مكانه فقد يكون لكلامه وجه، ولكن الجبل تدكدك وخرّ موسى صعقا، وأغمي عليه من هول المنظر، ولما أفاق قال: سبحانك أنت منزه عن هذا الطلب، وأنا أول المؤمنين بك) (1)
قال آخر: وقال الشيرازي في جوابه عن سر سؤال موسى عليه السلام ربه الرؤية مع أنه كان رسولا: (يمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة، وذلك بالإستعانة بآيات قرآنية أخرى، وهو: إن هذا السؤال صدر من جهلاء بني إسرائيل الذين كانوا يشكلون الأغلبية، كما نجد في القرآن الكريم أن موسى عليه السلام قال بعد هذه الحادثة مخاطبا ربه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، فيستنتج من هذا التعبير أن هذا السؤال لم يصدر من موسى عليه السلام، بل قد تعرض لضغوط أجبرته على طرح سؤال أولئك الجهلاء ليحصل لهم على جواب من ربه وكذلك لألقاء الحجة عليهم) (2)
قال آخر: ثم استدل على هذا بما ورد في القرآن الكريم من تعنت أهل الكتاب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو مع أنبيائهم، فقال: (ويستفاد بوضوح من قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]، وقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55] .. إن تعنت سفهاء بني اسرائيل هو الذي دفعهم لتوجيه مثل هذا السؤال إلى موسى عليه السلام، وكان عليه السلام قام بنقل سؤالهم فقط، ليسمعوا الجواب الإلهي الرادع) (3)
__________
(1) من هدي القرآن، المدرسي: (3/ 436)
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 171.
(3) نفحات القرآن، ج 4، ص 172.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/197)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك استدل بالآيات التي طلب فيها بنو اسرائيل الرؤية من موسى عليه السلام، كقوله تعالى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، والتي اعتبر الله تعالى فيها ذلك الطلب ذنبا عظيما وظلما فاحشا .. بل إنه الذنب الذي أعقبه نزول العذاب الإلهي، لذا قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء: 153]
قال آخر: والظلم الذي ارتكبوه هو (أنهم اعتبروا ربهم العظيم بمستوى موجود جسماني مادي، وطلبوا مشاهدته .. وبسبب اساءتهم الأدب في اعتبارهم هذا أخذتهم الصاعقة لتكون عقوبة وعبرة لهم في نفس الوقت، وليعلموا أنهم عندما لا يقدرون على مشاهدة هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي لا يساوي أكثر من شرارة في عالم الوجود العظيم، فكيف يريدون مشاهدة خالق الشمس والقمر والنجوم وعالم الوجود!؟) (1)
قال آخر: وقد استدل كل أولئك العلماء على أن قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] على الدلالة على استحالة الرؤية مطلقا، كما عبر عن ذلك الشيرازي ـ في رده على مثبتي الرؤية ـ بقوله: (بالرغم من أن الآية الشريفة تصرح: {لَنْ تَرَانِي} وكون (لن) أداة للنفي الأبدي، أي إنك لن تراني أبدا، وعدت الآية هذا السؤال من قبل بني إسرائيل تعديا ووقاحة، وأنذرت بالصاعقة عقابا عليه، مع كل ذلك نجد أن جماعة من المتعصبين يصرون على عدم دلالة الآية بأي شكل على نفي رؤية الله، بل بالعكس) (2)
قال آخر: ثم ذكر معنى التجلي، والمتناسب مع تنزيه الله تعالى، فقال: (المقصود من التجلي الإلهي في هذه الآية هي (الصاعقة) بذاتها، والتي تعد مخلوقا من المخلوقات، وشعاعا من الأفعال الإلهية، وهي كناية عن أنكم إذا لم تقدروا على رؤية الصاعقة التي تعد
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 173.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 172.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/198)
شرارة صغيرة في هذا الوجود العظيم وما لها من تأثير عليكم، حيث تكون مصحوبة بالهول والرعب، فهي قادرة على أن تصرعكم جميعا، وتدك الجبل، وتزلزل الأرض، فكيف تريدون رؤية الذات الإلهية المنقطعة النظير!؟) (1)، وبذلك يكون التجلي الإلهي كان إجابة وعقوبة لأولئك الذين طلبوا من موسى عليه السلام الرؤية في نفس الوقت.
قال آخر: ثم أجاب عن سر طلب موسى عليه السلام التوبة من الله تعالى بعد أن أفاق، فذكر أنه كما أن طلبه الرؤية كان نيابة عن بني إسرائيل؛ فإن طلبه التوبة من الباري كان نيابة عن قومه أيضا (2).
قال آخر: أو أن موسى عليه السلام كان يخشى من أن هذا المقدار من النيابة عن بني اسرائيل يمكن أن يؤثر سلبيا على إيمانه وقدسية اعتقاده، لذا فانه أعلن توبته وإيمانه لتسمو قداسته قدر الإمكان (3).
قال آخر: ثم رد على مثبتي الرؤية الذين ذكروا (أن هذا التوبيخ والعقاب الذي نزل بهم كان بسبب طلبهم هذا الشي من الله تعالى في الدنيا، مع كون الآخرة هي محل المشاهدة .. لأن التفاوت الموجود بين الدنيا والآخرة في مثل هذه الموارد موضوع لا يستحق التوبيخ والعقاب، ولحن الآية يدل على أنهم قد ارتكبوا إساءة فظيعة تجاه ساحة القدس الإلهية، وهي وصفهم الذات الإلهية بصفة لا تليق به سبحانه، بل هي خاصة بالممكنات، وإنهم سلكوا طريق الشرك) (4)
قال آخر: أما الطباطبائي؛ فقد فسر الآية بما ورد في النصوص من جواز الرؤية القلبية، وأن موسى عليه السلام لم يطلب الرؤية الحسية، وإنما طلب الرؤية القلبية، وقد قدم
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 172.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 173.
(3) نفحات القرآن، ج 4، ص 173.
(4) نفحات القرآن، ج 4، ص 174.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/199)
لذلك بقوله: (والذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الأبصار، ولا نشك ولن نشك أن الرؤية والإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الأبصار يهيئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه، وبالجملة هذا الذي نسميه الإبصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميعا، وهذا لا شك فيه .. والتعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم ولا جسماني، ولا يحيط به مكان ولا زمان، ولا تحويه جهة ولا توجد صورة مماثلة أومشابهة له بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة، وما هذا شأنه لا يتعلق به الإبصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة، ولا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة) (1)
قال آخر: وبناء على هذا ذكر أن موسى عليه السلام أكرم من أن يجهل هذا المعنى المعقول الواضح، فقال: (ولا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم وسادة الأنبياء عليهم السلام ممن يليق بمقامه الرفيع وموقفه الخطير أن يجهل ذلك، ولا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الإنسان على أن يراه ويشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة والزمان، والجهة والمكان، وألواث المادة الجسمية وأعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول: أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي ـ مع حفظ حقيقة السبب وهوية أثره ـ بأمر هوخارج عن المادة وآثارها متعال عن القدر والنهاية؟ فهذا الإبصار الذي عندنا وهوخاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية وخواصها) (2)
قال آخر: وبناء على هذا، ذكر أنه (إن كان موسى عليه السلام سأل الرؤية؛ فإنما سأل
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 237.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 238.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/200)
غير هذه الرؤية البصرية، وبالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية، فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال ولا جواب) (1)
قال آخر: ثم ذكر الآيات التي وردت فيها الرؤية، فقال: (وقد أطلق الله الرؤية وما يقرب منها معنى في موارد من كلامه وأثبتها كقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] .. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية وما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وغير ذلك) (2)
قال آخر: ثم علق عليها بقوله: (لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري، فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية، وما في معناه من اللقاء ونحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل وإسكندر وكسرى فيما مضى ولم نرهم، ونعلم علما ضروريا بوجود لندن وشيكاغو وموسكو ولم نرها، ولا نسميه رؤية وإن بالغنا، فأنت تقول: أعلم بوجود إبراهيم عليه السلام وإسكندر وكسرى كأني رأيتهم، ولا تقول رأيتهم أوأراهم، وتقول: أعلم بوجود لندن وشيكاغو وموسكو، ولا تقول: رأيتها أوأراها .. وأوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الأولية التي هي لكليتها غير مادية ولا محسوسة مثل قولنا: (الواحد نصف الاثنين) و (الأربعة زوج) و (الإضافة قائمة بطرفين) فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها ولا يصح إطلاق الرؤية البتة .. ونظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية، وكذا المعاني الوهمية وبالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية وإن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها ولا نقول: رأيناها
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 238.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 238.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/201)
إلا بمعنى القضاء والحكم لا بمعنى المشاهدة والوجدان) (1)
قال آخر: وفي مقابل هذا ـ كما يذكر الطباطبائي ـ نجد (بين معلوماتنا ما لا نتوقف في إطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه، حيث نقول: أرى أني أنا، وأراني أريد كذا وأكره كذا، وأحب كذا وأبغض كذا وأرجوكذا وأتمنى كذا .. أي أجد ذاتي وأشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، وأجد وأشاهد إرادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة ولا فكرية، وأجد في باطن ذاتي كراهة وحبا وبغضا ورجاء وتمنيا وهكذا .. وهذا غير قول القائل: رأيتك تحب كذا وتبغض كذا وغير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا وبغضا ونحوذلك، وأما حكاية الإنسان عن نفسه أنه يراه يريد ويكره ويحب ويبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الأمور بنفسها وواقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها ولا توسل بوسيلة تدل عليها البتة) (2)
قال آخر: ثم ذكر صحة اعتبار هذا النوع من العلم رؤية، فقال: (وتسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة، وهي علم الإنسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخلية وليس فيها مداخلة جهة أومكان أوزمان أوحالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك وأجد التدبر فيه) (3)
قال آخر: ثم أورد شواهد على ذلك من القرآن الكريم، فقال: (والله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات ويضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239.
(3) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/202)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 53 - 54]، حيث أثبت أولا أنه على كل شيء حاضر أومشهود، لا يختص بجهة دون جهة، وبمكان دون مكان، وبشيء دون شيء، بل شهيد على كل شيء، محيط بكل شيء، فلووجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه وعلى نفس وجدانه وعلى نفسه، وعلى هذه السمة لقاؤه لوكان هناك لقاء لا على نحواللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية وتعين جهة ومكان وزمان، وبهذا يشعر ما في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هوالنفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا) (1)
قال آخر: وهكذا راح يفسر كل الآيات الموهمة للرؤية الحسية بهذا المعنى، فقال: (ونظير ذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15]، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة، ولو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم) (2)
قال آخر: ثم استدل لذلك أيضا بما ورد في القرآن الكريم من استخدام لفظ الرؤية في غير معناها الحسي، فقال: (وقد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7]، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]) (3)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
(3) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/203)
قال آخر: ثم عقب على هذه المقدمات كلها بقوله: (فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أوفكرية، وأن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب، ولا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية ومن أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن (هذا ما بينه كلامه سبحانه، ويؤيده العقل بساطع براهينه، وكذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت) .. كما ذكرنا ذلك سابقا لكم.
قال آخر: ثم ذكر أن هذا النوع من الرؤية أو اللقاء لا يتم بكماله إلا في الآخرة، فقال: (والذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، وهوسالك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، وفي معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع والمصير والمنتهى، وإليه يرجعون وإليه يقلبون) (2)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 241.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/204)
قال آخر: ثم دعا إلى الاهتمام بهذه المعاني التي أكدها القرآن الكريم بعيدا عن الألفاظ، فقال: (فهذا هوالعلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحوالحقيقة أو المجاز، فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك، فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة، وإن كانت مجازا كانت صارفة، والقرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية) (1)
قال آخر: وبناء على هذا التفسير للرؤية فسر قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، حيث قال: (هذا سؤال منه عليه السلام للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه، فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته، ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته وبتكليمه وهوالعلم بالله من جهة السمع رجا عليه السلام أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية، وهوكمال العلم الضروري بالله، والله خير مرجوومأمول .. فهذا هوالمسئول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الذي يجل موسى عليه السلام ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى وتقدس) (2)
قال آخر: وبناء على هذا فسر قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] على ما فسره بها مثبتو الرؤية مع الفرق بينهم في نوعها، فقد قال: (وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للإنسان
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 241.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 241.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/205)
اشتغال بتدبير بدنه، وعلاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، والانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شيء حتى البدن وتوابعه وهوالموت .. فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، والتعبير في قوله: {لَنْ تَرانِي} بـ {لَنْ} الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]، وقوله: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 75]) (1)
قال آخر: ثم ذكر أنه (لوسلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا والآخرة جميعا، فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها) (2)
قال آخر: ثم استدل لما ذكره بما ورد في أمر موسى عليه السلام بالنظر إلى الجبل، فقال: (والذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] إلى نفي الطاقة والاستطاعة يؤيده قوله بعده: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى عليه السلام بتجليه للجبل، والمراد أن ظهوري وتجليي للجبل مثل ظهوري لك، فإن استقر الجبل مكانه، أي بقي على ما هو عليه، وهو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك وظهوره .. فقوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف وقد تجلى له؟ بل إشهاد وتعريف لعدم استطاعته
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 242.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 242.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/206)
وإطاقته للتجلي وعدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لووقع التجلي كما بطل الجبل بالدك، وقد دل عليه قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وبصيرورة الجبل دكا، أي مدكوكا متحولا إلى ذرأت ترابية صغار بطلت هويته وذهبت جبليته وقضى أجله) (1)
قال آخر: ثم ذكر سر الصعق الذي حصل لموسى عليه السلام، وارتباطه بالتجلي، فقال: (ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى وشاهد، غير أنه يجب أن نتذكر أنه هو الذي ألقى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين تلقف الألوف من الثعابين والحيات، وفلق البحر فأغرق الألوف ثم الألوف من آل فرعون في لحظة، ورفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل كأنه ظلة، وأتى بآيات هائلة أخرى وهي أهول من اندكاك جبل، وأعظم، ولم يصعقه شيء من ذلك ولم يدهشه، واندكاك الجبل أهون من ذلك، وهو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الأمر .. فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هوما تمثل له من معنى ما سأله وعظمة القهر الإلهي الذي أشرف أن يشاهده ولم يشاهده هو وإنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه ولا طرفة عين، ويشهد بذلك أيضا توبته عليه السلام بعد الإفاقة) (2)
قال آخر: ثم ذكر سر توبته بعد الإفاقة، فقال: (قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] توبة ورجوع منه عليه السلام بعد الإفاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه، فأخذته العناية الإلهية بتعريفه ذلك وتعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن؛ فبدأ بتنزيهه تعالى وتقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك، ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه، وهويطمع في أن يتوب عليه، وليس من الواجب في
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 242.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 243.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/207)
التوبة أن تكون دائما عن معصية وجرم، بل هوالرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان .. ثم عقب عليه السلام ذلك بالإقرار والشهادة بقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى .. هذا ما يدل عليه المقام، وإن كان من المحتمل أن يكون المراد وأنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني وهديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أوقصور، لكنه معنى بعيد) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد استدل علماؤنا كذلك على استحالة الرؤية الحسية بقوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153]
قال آخر: وقد قال فضل الله في دلالتها على تنزيه الله تعالى عن الرؤية الحسية: (كيف واجه أهل الكتاب ـ وهم في هذه الآيات اليهود ـ دعوة رسول الله إلى الإسلام؟ .. لقد دعاهم إلى الحوار بالأسلوب الهادئ، والفكر المتّزن، والقلب المفتوح، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك، لأنهم لا يملكون الحجة التي تواجه الحجة، ولا يعيشون مسئولية الفكر والإيمان بوعي وانفتاح، بل كان العناد والتمرّد والمناورة والمداورة هي العناصر التي تمثّل أجواء الصراع التي خاضها الإسلام معهم؛ فكيف عبّروا عن ذلك؟ لقد سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، كأسلوب من أساليب التعجيز، لأنهم يعرفون أن الله لا يستجيب للتحديات التي تطلق من أجل التعجيز والإثارة، ويعلمون أن طريق الإيمان لا يمرّ بمثل هذه المعاجز التي لا معنى لها، لأنها لا تحقق شيئا في مواجهة الكفر كقوة، بل تظل تتنقّل من اقتراح إلى اقتراح إلى ما لا نهاية، ولهذا، لم يلتفت النبي إليهم، في ما أوحاه الله إليه،
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 243.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/208)
بأن هؤلاء ليسوا في موقع الاقتناع، بل هم في موقع اللجاج والعناد) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن ذلك الطلب ليس شيئا أمام طلبهم الذي طلبوه من موسى عليه السلام، فقال: (ثم بدأ القرآن يثير أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم تاريخهم المتمرّد الذي لم يتحرك في الاتجاه الصحيح، بل انطلق في الاتجاه المنحرف الذي يلعب ويلفّ ويدور ويقف المواقف المضادّة لكل دعوة خيّرة، ويتصرّف ضد الأنبياء بكل أساليب التعسّف والقتل والتشريد .. فكيف يمكن أن يأمل بهدايتهم وإقبالهم على دعوة الإسلام؟ .. {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وهو من طلب المستحيل، لأن الله ليس جسما حتى يراه الناظرون) (2)
قال آخر: ثم تساءل عن جدوى هذا الطلب، فقال: (ثم ما معنى أن يطلبوا هذا الطلب؟! فإذا كان ذلك من أجل الوصول إلى قناعة الإيمان، فإن وسائل القناعة لا تقف عند حدّ لمن أراد الاقتناع، أما إذا أرادوا اللعب على موسى عليه السلام وإظهار عجزه، فإن ذلك يوحي بالانحراف والتفاهة .. ، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] لأنفسهم ولموسى عليه السلام في ما طلبوه، وما أثاروه كمظهر من مظاهر التحدّي .. {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ} [النساء: 153]، فلم يستجيبوا لها، بل انحرفوا عنها وأقبلوا على الدعوات الكافرة التي تدعوهم إلى عبادة العجل تشبّها بالقوم الذين شاهدوهم يعبدون الأصنام على هذه الطريقة) (3)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد استدل علماؤنا كذلك على استحالة الرؤية الحسية بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ
__________
(1) من وحي القرآن، فضل الله: (7/ 531)
(2) من وحي القرآن، فضل الله: (7/ 531)
(3) من وحي القرآن، فضل الله: (7/ 531)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/209)
اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]
قال آخر: وهي الآية التي وبخت وبشدة أولئك الذين سألوا الرؤية، وقد قال الشيرازي في تفسيرها: (فهم قد سألوا أحد أمرين: إما نزول الملائكة عليهم أو رؤية الله عز وجل، والمقصود من الملائكة هو ملك الوحي جبرائيل، أي أن ينزل عليهم بصورة مباشرة بدلا من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن ينزل عليهم ليشهد على صدق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .. وقد نزل الجواب القرآني على شطرين أيضا، والذي يعتقد بأن الأول يخص سؤال نزول الملائكة فيقول: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الفرقان: 21] بسؤالهم هذا .. والشطر الثاني يخص سؤال رؤية الله حيث قال: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21] .. وأي عتو أكبر من مقارنة الذات الإلهية الفريدة بالأجسام المادية والموجودات الممكنة الوجود، وجعلها عرضة للزمان والمكان والعوارض الجسمانية؟ .. ويشير لحن الآية بوضوح إلى عدم إمكانية رؤية الله عز وجل، لأنه لو كان ممكنا لما كان هنالك خلل وإشكال في سؤالهم ذاك) (1)
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 175.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/210)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسائل المرتبطة بالأركان التي يستدل بها المجسمة على التشبيه والتجسيم، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك ننتقل إلى المسألة الرابعة، والمرتبطة ـ كما ذكرتم ـ بالصفات الذاتية التي ينكرها هؤلاء المعطلون.
قال أحد الشيوخ: لقد رأينا أن هؤلاء الجهمية المعطلة، يعطلون أربع صفات كبرى لله، ويعطلون معها كل ما ارتبط بها من صفات وأفعال .. ولذلك نطلب منكم سيادة القاضي، أن تطلب منهم أن يجيبونا عن كل صفة نتحدث عنها، حتى لا يفروا كعادة كل المبتدعة.
قال القاضي: لكم ذلك .. فحدثونا عن الصفة الأولى.
قال كبير الشيوخ: الصفة الأولى هي اليد .. وقد ورد ذكرها في آيات كثيرة .. منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقوله: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، وقوله: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] .. وكل هذه الآيات
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/211)
تصرح بأن لله تعالى يدين.
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن اليد صفة من صفات الله تعالى، وهي تليق بجلال الله تعالى وعظمته .. ونعتقد أن لله تعالى يدين، وفيهما أصابع وأنامل، وأنه يمسك بهما ويطوي، ويفعل كل ما تفعل الأيادي، من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: وقد ذكر ابن القيم الأدلة الكثيرة التي تؤكد ذلك، فقال: (ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع ورودا متنوعا متصرفا فيه مقرونا بما يدل على أنها يد حقيقة من الإمساك والطي والقبض والبسط والمصافحة والحثيات والنضح باليد، والخلق باليدين والمباشرة بهما وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده وتخمير طينة آدم بيده ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: (اخترت يمين ربي)، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها، وكتابه بيده على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مسح ظهر آدم بيده ثم قال له ويداه مفتوحتان: اختر، فقال اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يطوي الأرض باليد الأخرى، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده) (1)
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 405)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/212)
قال آخر: وقال تعليقا على ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى): (فهل يصح في عقل أو لغة أو عرف أن يقال: قدرة الله أو نعمته العليا ويد المعطي التي تليها، فهل يحتمل هذا التركيب غير يد الذات بوجه ما؟ وهل يصح أن يراد به غير ذلك؟ .. وكذلك قوله: اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة، فضم هذا إلى قوله: الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي هي التي تليها، وإلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] تقطع بالضرورة أن المراد يد الذات لا يد القدرة والنعمة، فإن التركيب والقصد والسياق لا يحتمله البتة) (1)
قال آخر: ثم قال: (وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، فلما كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيديهم ويضرب بيده على أيديهم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو السفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته وعلى عرشه فوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم كما أنه سبحانه فوقهم، فهل يصح هذا لمن ليس له يد حقيقة؟ فكيف يستقيم أن يكون المعنى قدرة الله ونعمته فوق قدرهم ونعمهم، أم تقتضي المقابلة أن يكون المعنى هو الذي يسبق إلى الأفهام من هذا الكلام؟ .. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تصدق أحد صدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل)، فهل يحتمل هذا الكلام غير الحقيقة؟) (2)
قال آخر: ثم قال ـ في التسليم الجدلي لإقامة الحجة على المعطلة ـ: (وهب أن اليد تستعمل في النعمة، أفسمعتم أن اليمين والكف يستعملان في النعمة في غير الوضع الجديد
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 406)
(2) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 406)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/213)
الذي اخترعتموه وحملتم عليه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .. وكذلك (وبيده الأخرى القسط)، هل يصح أن يكون المعنى وبقدرته الأخرى؟ وهل يصح في قوله: (إن المقسطين عن يمين الرحمن) أنه عن قدرته في لغة من اللغات؟ وهل سمعتم باستعمال اليمين في النعمة والكف في النعمة؟ وكيف يحتمل قوله: (إن الله أخذ ذرية آدم من ظهره، ثم أفاض بهم في كفه)، كف النعمة والقدرة؟ وهذا لم تعهدوا أنتم ولا أسلافكم به استعمالا البتة سوى الوضع الجديد الذي اخترعتموه .. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمر الله طينة آدم ثم ضرب بيده فيها فخرج كل طيب بيمينه وكل خبيث بيده الأخرى ثم خلط بينهما)، فهل يصح في هذا السياق غير الحقيقة؟ فضع لفظ النعمة والقدرة هاهنا، ثم انظر هل يستقيم ذلك، وهل يصح في قوله: (والخير كله في يديك) أن يكون في نعمتيك أو في قدرتيك .. وقال عبد الله بن الحارث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده)، أفيصح أن يخص الثلاث بقدرته، ولا سيما لفظ الحديث: (إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء)؛ أفيصح أن توضع النعمة والقدرة موضع اليد هاهنا؟) (1)
قال آخر: ومما يؤكد ذلك ما ورد من الأحاديث الكثيرة التي تذكر هذه الصفة العظيمة، وتؤكد معناها الظاهر؛ ففي حديث الشفاعة الطويل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن أهل الموقف يأتون آدم يوم القيامة فيقولون: (يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؛ فاشفع لنا إلى ربك) (2)
قال آخر: وروي أن الملائكة عليهم السلام قالوا: (يا رب خلقت بني آدم يأكلون، ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله تعالى: (لا أجعل
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 407)
(2) البخاري (3162)، ومسلم (193)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/214)
صالح ذرية من خلقت بيديّ، ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان) (1)
قال آخر: وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟) (2)
قال آخر: وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي) (3)
قال آخر: ولمّا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلى أهل الجنة منزلة قال الله: (أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها) (4)
قال آخر: وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في استفتاح الصلاة: (لبيك وسعديك والخير كله في يديك) (5)
قال آخر: وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) (6)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار كما يكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة) (7)
قال آخر: وقال: (المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) (8)
قال آخر: وقال: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) (9)
__________
(1) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ص 317.
(2) البخاري (4534)، ومسلم (2787)
(3) البخاري (3022، 7015، 7114)، مسلم (2751)
(4) مسلم (189)
(5) مسلم (222)
(6) مسلم (2759)
(7) البخاري (6155)، مسلم (2972)
(8) مسلم (1827)
(9) البخاري (4407)، ومسلم (993)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/215)
قال آخر: ومما يؤكد هذا ما ورد في الكتب الإلهية بشأنها، وهي نصوص كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومنها ما ورد في سفر [راعوث 1: 13]: (هل تصبران لهم حتّى يكبروا؟ هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل؟ لا يا بنتيّ، فإنّي مغمومةٌ جدا من أجلكما؛ لأنّ يد الرّبّ قد خرجت عليّ) .. وفي سفر صمويل [1: 5/ 6]: فثقلت يد الرّبّ على الأشدوديّين، وأخربهم وضربهم بالبواسير في أشدود وتخومها.
قال آخر: وفي [المزامير 75: 8]: (أنّ في يد الرّبّ كأسا وخمرها مختمرةٌ، ملآنةٌ شرابا ممزوجا، وهو يسكب منها، لكن عكرها يمصّه، يشربه كلّ أشرار الأرض) .. وفي سفر [الحكمة 5: 17]: (فلذلك سينالون ملك الكرامة وتاج الجمال من يد الرب لأنه يسترهم بيمينه وبذراعه يقيهم) .. وفي سفر [سيراخ 10: 4]: (ملك الأرض في يد الرب فهو يقيم عليها في الأوان اللائق من به نفعها)
قال آخر: وفي سفر [أشعيا 11: 15]: (ويبيد الرّبّ لسان بحر مصر، ويهزّ يده على النّهر بقوّة ريحه، ويضربه إلى سبع سواق، ويجيز فيها بالأحذية)، وفي [أشعيا 25: 8]: (ويمسح السّيّد الرّبّ الدّموع عن كلّ الوجوه، وينزع عار شعبه عن كلّ الأرض، لأنّ الرّبّ قد تكلّم) .. وفي [أشعيا 51: 17]: (انهضي، انهضي! قومي يا أورشليم الّتي شربت من يد الرّبّ كأس غضبه، ثفل كأس التّرنّح شربت، مصصت) .. وفي [أشعيا 59: 1]: (ها أن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه عن أن تسمع) .. وفي [أشعيا 51: 9]: (استيقظي، استيقظي! البسي قوّة يا ذراع الرّبّ! استيقظي كما في أيّام القدم، كما في الأدوار القديمة، ألست أنت القاطعة رهب، الطّاعنة التّنّين؟) .. وفي [أشعيا 53: 1]: (من صدّق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرّبّ؟)
قال آخر: وفي سفر [أرميا 51: 6 ـ 8]: (اهربوا من وسط بابل، وانجوا كلّ واحد بنفسه، لا تهلكوا بذنبها، لأنّ هذا زمان انتقام الرّبّ، هو يؤدّي لها جزاءها، بابل كأس ذهب بيد
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/216)
الرّبّ تسكر كلّ الأرض، من خمرها شربت الشّعوب، من أجل ذلك جنّت الشّعوب)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات الكريمة التي وردت بصيغة الجمع، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] والتي وردت فيها اليد بصيغة الجمع؟
قال أحد الشيوخ: لقد أجاب عن ذلك شيخنا العثيمين، فقال: (أجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة؛ فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]!؟ .. فنقول الجمع على أحد الوجهين: فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ {أَيْدِينَا} [يس: 71] لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، ولا إشكال فيه .. فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟ .. فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] [التحريم: 4]، وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط، لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، ولا لامرأة كذلك .. واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فـ {إِخْوَةٌ} جمع، والمراد به اثنان .. واحتجوا أيضاً بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين .. لكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة .. وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين) (1)
قال آخر: ثم قال: (ثم إن المراد باليد هنا ـ أي التي وردت بصيغة الجمع ـ نفس الذات
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 302)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/217)
التي لها يد، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه .. ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، وبين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فـ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، كأنه قال: مما عملنا، لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ {بِيَدَيَّ} [ص: 75]: اليدان دون الذات .. وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد والتثنية والجمع) (1)
قال آخر: ثم لخص ذلك كله بقوله: (فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك أن هذا مفرد مضاف فيعم كل منا ثبت لله من يد .. وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين: أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه ـ وهو الثلاثة فأكثر ـ بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: {إنَّا} و {نَحْنُ} و {وقُلْنَا} .. وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم، أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض) (2)
قال آخر: ثم ذكر سبب جمع اليد في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، فقال: (فالأيدي هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قيد، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: {بِأَيْدٍ}، أي: بقوة .. ونظير ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فإن لعلماء السلف في قوله: {عَنْ سَاقٍ}: قولين: القول الأول: أن المراد به الشدة .. والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل، فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله.
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 302)
(2) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 303)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/218)
ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال: المراد بالساق الشدة) (1)
قال القاضي: فما تقولون فيما ورد في الأحاديث التي أوردتموها من أن كلتا يدي الله تعالى يمين؟
قال آخر: مع أن جميع شيوخنا وأئمتنا يتفقون على أن لله عز وجل يدين، وأن إحدى يديه يمين؛ لكنهم اختلفوا، هل الأخرى توصف بالشمال؟ أم أن كلتا يديه يمين؟
قال آخر: أما الفريق الأول منهم، فهم القائلون بإثبات صفة الشمال أو اليسار، ومنهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى الفراء، ومحمد بن عبد الوهاب، وصديق حسن خان، ومحمد خليل الهراس، وعبد الله الغنيمان.
قال آخر: وقد قال شيخنا أبو سعيد الدارمي في ذلك: (ويلك أيها المعارض! إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد أطلق على التي في مقابلة اليمين الشمال، ولكن تأويله: (وكلتا يديه يمين) (2)؛ أي: منزه على النقص والضعف؛ كما في أيدينا الشمال من النقص وعدم البطش، فقال: (كلتا يدي الرحمن يمين)؛ إجلالا لله، وتعظيما أن يوصف بالشمال، وقد وصفت يداه بالشمال واليسار، وكذلك لو لم يجز إطلاق الشمال واليسار؛ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو لم يجز أن يقال: كلتا يدي الرحمن يمين؛ لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا قد جوزه الناس في الخلق؛ فكيف لا يجوز ابن الثلجي في يدي الله أنهما جميعا يمينان، وقد سمي من الناس ذا الشمالين، فجاز نفي دعوى ابن الثلجي أيضا، ويخرج ذو الشمالين من معنى أصحاب الأيدي) (3)
قال آخر: وقال أبو يعلى الفراء بعد أن ذكر حديث أبي الدرداء: (واعلم أن هذا الخبر يفيد جواز إطلاق القبضة عليه، واليمين واليسار والمسح، وذلك غير ممتنع؛ لما بينا فيما قبل
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 303)
(2) مسلم (2788)
(3) نقض الدارمي على المريسي (2/ 698)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/219)
من أنه لا يحيل صفاته؛ فهو بمثابة اليدين والوجه وغيرهما) (1)
قال آخر: وقال الشيخ محمد خليل هراس: (يظهر أن المنع من إطلاق اليسار على الله عز وجل إنما هو على جهة التأدب فقط؛ فإن إثبات اليمين وإسناد بعض الشؤون إليها كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وكما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن يمين الله ملأى سحاء الليل والنهار؛ يدل على أن اليد الأخرى المقابلة لها ليست يمينا) (2)
قال آخر: وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: (هذا؛ وقد تنوعت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات اليدين لله تعالى وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض وتثنيتهما، وأن إحداهما يمين كما مر، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال؛ كما في [صحيح مسلم]، وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه، فيربيها لصاحبها، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله) (3)، وقال: (وقد أتانا صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الأصابع، وبذكر الكف، وذكر اليمين، والشمال، واليدين مرة مثناة، ومرة منصوص على واحدة أنه يفعل بها كذا وكذا، وأن الأخرى فيها كذا؛ كما تقدمت النصوص بذلك) (4)
قال آخر: أما الفريق الثاني؛ فذهبوا إلى أن كلتا يدي الله يمين لا شمال ولا يسار فيهما، ومنهم الإمام ابن خزيمة، والإمام أحمد، والبيهقي، والألباني، وغيرهم.
قال آخر: ومن أدلتهم في ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه
__________
(1) إبطال التأويلات (ص 176)
(2) في تعليقه على كتاب التوحيد، لابن خزيمة (ص 66)
(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) (1/ 311)
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) (1/ 318)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/220)
يمين) (1)
قال آخر: ومثله ما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعا: (لما خلق الله آدم، ونفخ فيه من روحه؛ قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيها شئت يا آدم، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يداه يمين مباركة، ثم بسطها) (2)
قال آخر: وقد قال ابن خزيمة في ذلك: (باب: ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا جل وعلا يدين، كلتاهما يمينان، لا يسار لخالقنا عز وجل؛ إذ اليسار من صفة المخلوقين، فجل ربنا عن أن يكون له يسار) (3) .. وقال: (بل الأرض جميعا قبضة ربنا جل وعلا، بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليد الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار؛ إذ كون إحدى اليدين يسارا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه) (4)
قال آخر: وقال الإمام أحمد: (وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: (وكلتا يديه يمين)، الإيمان بذلك، فمن لم يؤمن بذلك، ويعلم أن ذلك حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو مكذب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (5)
قال آخر: وسئل شيخنا الألباني: (كيف نوفق بين رواية: (بشماله) الواردة في حديث ابن عمر وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكلتا يديه يمين)؟، فأجاب: (جواب: لا تعارض بين الحديثين بادئ بدء؛ فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكلتا يديه يمين): تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد للتنزيه، فيد الله ليست كيد البشر: شمال ويمين، ولكن كلتا يديه سبحانه يمين .. وأمر آخر؛ أن رواية:
__________
(1) مسلم (1827)
(2) ابن حبان (6167)، والحاكم (1/ 64) البيهقي في (الأسماء والصفات) (2/ 56)
(3) كتاب التوحيد (1/ 159)
(4) كتاب التوحيد (1/ 197)
(5) طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/ 313)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/221)
(بشماله) شاذة .. ويؤكد هذا أن أبا داود رواه وقال: (بيده الأخرى)، بدل: (بشماله)، وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكلتا يديه يمين) (1)
قال القاضي: لقد سمعت أن في يدي الله تعالى أصابع .. وأن الأصابع صفة من صفات الله تعالى، فهل هذا صحيح؟
قال أحد الشيوخ: أجل، فالأصابع صفة من صفات الله تعالى، وهي صفة ذاتية تابعة لليد .. فلا يمكن أن تكون هناك يد من دون أصابع، وإلا ستكون يدا مشوهة، وجل الله تعالى أن تكون يده كذلك .. وقد ورد ما يدل على كون عدد أصابع كل يد خمسة أصابع، وهو ما يؤكد الحديث الوارد في صورة الرحمن ومشابهتها لصورة الإنسان، من غير تكييف ولا تعطيل.
قال آخر: ومما يدل عليها من السنة المطهرة ما حدث به عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن) (2)
قال آخر: وعن عبد الله بن مسعود؛ قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: (أنا الملك)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] (3)
__________
(1) مجلة الأصالة (ع 4، ص 68)
(2) مسلم (2654)
(3) البخاري ب (7414، 7415، 7451) مسلم ب (2786)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/222)
قال آخر: وقد ذكر هذه الأحاديث وغيرها أبو بكر بن خزيمة في كتاب [التوحيد] تحت عنوان: (باب إثبات الأصابع لله عز وجل) (1)، وذكرها أبو بكر الآجري في [الشريعة] تحت عنوان: (باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل، بلا كيف) (2)
قال آخر: وقال البغوي تعليقا على الحديث السابق: (والإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل من صفات الله تعالى؛ كالنفس، والوجه، والعين، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح) (3)
قال آخر: وقد رد ابن قتيبة على الإشكالات الكثيرة التي يطرحها الجهمية المعطلة حول هذه الصفة، فقال بعد ذكره للحديث السابق: (ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في دعائه: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، فقالت له إحدى أزواجه: أو تخاف يا رسول الله على نفسك؟ فقال: (إن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز وجل)، فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى؛ فهو محفوظ بتينك النعمتين؛ فلأي شيء دعا بالتثبيت؟ ولم احتج على المرأة التي قالت له: أتخاف على نفسك؟ بما يؤكد قولها؟ وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسا بنعمتين .. فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ها هنا؟ قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر: (يحمل الأرض على إصبع)، وكذا على إصبعين، ولا يجوز أن تكون الإصبع ها هنا نعمة، وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
__________
(1) التوحيد (1/ 187)
(2) الشريعة، (ص 316)
(3) شرح السنة (1/ 168)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/223)
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، ولم يجز ذلك، ولا نقول: إصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا؛ لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئا منا) (1)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الأنامل؛ فهي مرتبطة بالأصابع، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى؟
قال أحد الشيوخ: أجل؛ فالأنامل صفة من صفات الله تعالى، وهي صفة ذاتية تابعة للأصابع .. فقد وردت في حديث الرؤيا عن معاذ بن جبل قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة عن صلاة الصّبح، حتّى كدنا نتراءى قرن الشّمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا، فثوّب بالصّلاة وصلّى وتجوّز في صلاته، فلمّا سلّم قال: كما أنتم على مصافّكم، ثمّ أقبل إلينا فقال: إنّي سأحدّثكم ما حبسني عنكم الغداة! إنّي قمت من اللّيل فصلّيت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتّى استيقظت، فإذا أنا بربّي عزّ وجلّ في أحسن صورة فقال: يا محمّد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا ربّ، قال: يا محمّد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري ربّ، فرأيته وضع كفّه بين كتفيّ حتّى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلّى لي كلّ شيء، وعرفت، فقال: يا محمّد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّارات، قال: وما الكفّارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، وجلوسٌ في المساجد بعد الصّلاة، وإسباغ الوضوء عند الكريهات، قال: وما الدّرجات؟ قلت: إطعام الطّعام، ولين الكلام، والصّلاة والنّاس نيامٌ، قال: سل، قلت: اللهمّ إنّي أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفّني غير
__________
(1) تأويل مختلف الحديث (ص 245)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/224)
مفتون، وأسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يقرّبني إلى حبّك، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّها حقٌّ فادرسوها وتعلّموها (1).
قال آخر: وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الرازي، وتأويله (برد أنامله) بـ (أثر تلك العناية): (تخصيص أثر العناية لا يجوز؛ إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أنَّ أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك؛ بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه؛ فإنه إذا وضعت الكف على ظهره؛ ثقل بردها إلى الناحية الأخرى، وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نصٌ لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية) (2)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الإمساك؛ فهو من الأفعال التي تقوم بها الأيدي، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أجل .. فقد وصف الله عز وجل نفسه بأنه يمسك السماوات والأرض وغيرهما إمساكا يليق بجلاله وعظمته، ولذلك؛ فإن الإمساك صفة فعلية خبرية ثابتة بالكتاب والسنة.
قال آخر: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]
قال آخر: وأما السنة؛ فما ورد في حديث عبد الله بن مسعود: أن يهوديا جاء إلى النبي
__________
(1) أحمد (22162)، والألباني في الصحيحة (3169)
(2) نقض أساس التقديس، ص 524.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/225)
صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، وفي رواية: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعجباً وتصديقاً له (1)،
قال آخر: ويدل لهذه الصفة من الكتب الإلهية ما ورد في [أشعيا 51: 17]: (انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه، ثفل كأس الترنح شربت مصصت)، وفي سفر [أرميا 51: 7]: (بابل كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الأرض من خمرها شربت الشعوب من أجل ذلك جنت الشعوب)
قال آخر: وقد قال ابن خزيمة في إثبات هذه الصفة في [كتاب التوحيد]: (باب ذكر إمساك الله تبارك وتعالى اسمه وجل ثناؤه السماوات والأرض وما عليها على أصابعه) (2)، ثم أورد حديث ابن مسعود بإسناده من عدة طرق، ثم قال: (أما خبر ابن مسعود؛ فمعناه: أنَّ الله جل وعلا يمسك ما ذكر في الخبر على أصابعه، على ما في الخبر سواء، قبل تبديل الله الأرض غير الأرض؛ لأن الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء، وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها) (3)
قال آخر: ومثله قال أبو بكر الآجري في [الشريعة]: (باب الإيمان بأن الله عز وجل يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع .. ) (4)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن القبض والطي؛ فهي من الأفعال التي تقوم
__________
(1) البخاري (7414) واللفظ له، ومسلم (2786)
(2) التوحيد (1/ 178)
(3) التوحيد (1/ 185)
(4) الشريعة، ص 318.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/226)
بها الأيدي، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أجل .. القبض والطي صفتان فعليتان خبريتان لله عز وجل، ثابتتان بالكتاب والسنة، ولذلك كان (القابض) من أسماء الله تعالى الحسنى.
قال آخر: ومما يدل عليها من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]
قال آخر: ويدل عليها من السنة ما حدث به أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه) (1)
قال آخر: وعلى هذا اتفق جميع سلفنا الصالح، وعلمائنا الربانيين، فقد قال أبو يعلى الفراء بعد ذكر حديث: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها): (اعلم أنه غير ممتنع إطلاق القبض عليه سبحانه، وإضافتها إلى الصفة التي هي اليد التي خلق بها آدم؛ لأنه مخلوق باليد من هذه القبضة، فدلَّ على أنها قبضةٌ باليد، وفي جواز إطلاق ذلك أنه ليس في ذلك ما يُحيل صفاته ولا يُخرجها عما تستحقه) (2)
قال آخر: وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه): (القبض: هو أخذ الشيء باليد وجمعه، والطي: هو ملاقاة الشيء بعضه على بعض وجمعه، وهو قريب من القبض، وهذا من صفات الله تعالى الاختيارية، التي تتعلق بمشيئته وإرادته، وهي ثابتة بآيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مما يجب الإيمان به؛ لأن ذلك داخل في الإيمان بالله تعالى، ويحرم تأويلها المخرج لمعانيها عن ظاهرها، وقد دل على ثبوتها لله تعالى العقل أيضا؛ فإنه لا يمكن لمن نفاها
__________
(1) البخاري (7382)، ومسلم (2787)
(2) إبطال التأويلات (ص 168)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/227)
إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد؛ لأن الفعل لابد له من فاعل، والفاعل لابد له من فعل، وليس هناك فعل معقول إلا ما قام بالفاعل، سواء كان لازما كالنزول والمجيء، أو متعديا كالقبض والطي؛ فحدوث ما يحدثه تعالى من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة به تعالى؛ وهو تعالى حي قيوم، فعال لما يريد، فمن أنكر قيام الأفعال الاختيارية به تعالى فإن معنى ذلك أنه ينكر خلقه لهذا العالم المشاهد وغير المشاهد، وينكر قوله: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]؛ فالعقل دل على ما جاء به الشرع، وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي، قد جاء صريحا أيضا في كتاب الله تعالى؛ كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، والأحاديث والآثار عن السلف في صريح الآية والحديث المذكور في الباب كثيرة وظاهرة جلية لا تحتمل تأويلاً ولا تحتاج إلى تفسير، ولهذا صار تأويلها تحريفاً وإلحاداً فيها) (1)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الأخذ باليد؛ فهي من الأفعال التي تقوم بها الأيدي، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أجل .. فالأخذ باليد صفة فعلية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة؛ فقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]
قال آخر: ويدل عليها من السنة ما روي عن عبد الله بن عمر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه، فيقول: أنا الله ـ ويقبض أصابعه ويبسطها؛ أي: النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنا الملك) (2)
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، (1/ 140)
(2) رواه مسلم (2788 25 و 26)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/228)
قال آخر: ومثله ما رواه أبو هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (وما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه) (1)
قال آخر: وقد اتفق كل سلفنا الصالح على وصف الله تعالى بهذا، كما قال ابن القيم: (ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية؛ من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط .. وأخذ الصدقة بيمينه .. وأنه يطوي السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى .. ) (2)
قال آخر: ومثله قال الشيخ عبد العزيز السلمان في شرح حديث: (اللهم أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأوَّل فليس قبلك شيء): (مما يستفاد من الحديث: صفة الأخذ) (3)
قال آخر: ومثله قال الشيخ ابن عثيمين: (من صفات الله تعالى المجيء والإتيان والأخذ والإمساك والبطش إلى غير ذلك من الصفات .. فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد) (4)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة اليد الحقيقية لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى يدا حقيقية، بل وكل ما يرتبط بها من صفات أخرى كالأصابع والأنامل، وما ارتبط بها من أفعال كالإمساك والطي وغيرها .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية
__________
(1) رواه مسلم (1014)
(2) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 171)
(3) الكواشف الجلية، (ص 487)
(4) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، (ص 30)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/229)
والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة ما يذكرونه من اليد والأصابع والأنامل وغيرها، لأنها تقتضي التركيب والجسمية وكل اللوازم التي تتنافى مع تنزيه الله تعالى وتقديسه عن مشابهة مخلوقاته.
قال آخر: ولهذا أول أئمة كل ما ورد في القرآن الكريم من ذلك بحسب ما يقتضيه تنزيه الله تعالى، وتقتضيه اللغة نفسها، وقد روي عن عبد الله بن قيس، قال: قرأت على الإمام الرضا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقلت له: له يدان هكذا؟ وأشرت بيدي إلى يده .. فقال: (لا، لو كان هكذا لكان مخلوقا) (1)
قال آخر: وقد ذكرنا لكم سابقا قول الإمام الباقر في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]: (اليد في كلام العرب القوة والنعمة)؛ قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17]، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي بقوة، وقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] أي قواهم، ويقال: لفلان عندي أيادي كثيرة أي فواضل وإحسان، وله عندي يد بيضاء؛ أي نعمة) (2)
__________
(1) التوحيد: 168/ 2، معاني الأخبار: 18/ 16، تفسير العياشي: 1/ 330 / 145.
(2) التوحيد: 153/ 1، معاني الأخبار: 16/ 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/230)
قال آخر: ومثله قول الإمام الصادق في قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]: (يعني ملكه لا يملكه معه أحد، والقبض من الله ـ تبارك وتعالى ـ في موضع آخر المنع، والبسط منه الإعطاء والتوسيع، كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] يعني يعطي ويوسع ويمنع ويضيق، والقبض منه عز وجل في وجه آخر الأخذ، والأخذ في وجه القبول منه، كما قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها) (1)
قال آخر: وسئل الإمام الصادق عن قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فقال: (اليمين اليد، واليد القدرة والقوة، يقول عز وجل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} بقدرته وقوته {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}) (2)
قال آخر: وسئل الإمام العسكري عن قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فقال: ذلك تعيير الله ـ تبارك وتعالى ـ لمن شبهه بخلقه، ألا ترى أنه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، كما قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، ثم نزه عز وجل نفسه عن القبضة واليمين، فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]) (3)
قال آخر: ولهذا؛ فإن جميع علمائنا فسروا ما ورد في القرآن الكريم والحديث بناء على هذه التأويلات الموافقة لتنزيه الله تعالى، وللغة العربية.
__________
(1) التوحيد: 161/ 2، بحار الأنوار: 4/ 2 / 3.
(2) التوحيد: 161/ 2، بحار الأنوار: 4/ 2 / 3.
(3) التوحيد: 161/ 2، بحار الأنوار: 4/ 2 / 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/231)
قال آخر: بل الموافقة لما انتهجه من يزعمون أنهم يتعاملون مع النصوص بحسب ما تدل عليه ظواهرها، ويعتبرون التأويل تعطيلا، فقد رأينا أنهم يؤولون أيضا ما يخالف فهومهم من النصوص، كما ذكر ذلك شيوخنا الأفاضل.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض شيوخهم، وهو الشنقيطي في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]، وقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3]، فقد قال في تفسيرها: (اعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة، وإنما يراد به معنى أمام .. واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة [بين] خاصة، أعني لفظة (بين يديه)؛ فإن المراد بهذه اللفظة أمامه، وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة، ولا أي صفة كائنة ما كانت، وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31]، أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب، وكقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46]، أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة، وكقوله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]، فالمراد بلفظ (ما بين أيديهم) ما أمامهم، وكقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر، إلى غير ذلك من الآيات) (1)
قال آخر: وقبله قال الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [المائدة:
__________
(1) أضواء البيان (7/ 288، 289)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/232)
46]: (يعني بذلك القرآن أنه مصدق؛ لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده، جميع ذلك واحد فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من ثم غيره كان فيه اختلاف كثير، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .. ثم ذكر بأسانيده عن مجاهد وقتادة والربيع ذلك) (1)
قال آخر: وهكذا أولوا اليد في قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فقد قال الطبري فيها: (اختلف أهل التأويل في تأويله: فقال بعضهم: معناه لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه .. وقال آخرون: معنى ذلك لا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقا ولا يزيد فيه باطلا، قالوا: والباطل هو الشيطان، وقوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبل الحق، {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} من قبل الباطل ذكر من قال ذلك: عن قتادة: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} الباطل: إبليس لا يستطيع أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا .. وقال آخرون: معناه إن الباطل لا يطيق أن يزيد فيه شيئا من الحروف، ولا ينقص منه شيئا منها) (2)
قال آخر: وبمثل ذلك فسروا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، بأن المقصود بقوله: {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} مخالفة الكتاب والسنة .. قال الطبري: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]: (يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، محكيٌّ عن العرب فلان يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن
__________
(1) تفسير الطبري (3/ 166)
(2) تفسير الطبري (24/ 125)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/233)
اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه) (1)
قال آخر: ومثل ذلك أولوا قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، حيث ذكروا أنه ليس للآية علاقة بصفة اليد لله؛ وإنما معناها: أمام رحمته، أو قدام رحمته وهو الغيث، كما قال الطبري: (وأما قوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]؛ فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها، والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: جاء بين يديه؛ لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يد له .. والرحمة التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع: المطر، فمعنى الكلام إذن: والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها، طيبا نسيمها أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابا ثقالا، حتى إذا أقلتها، والإقلال بها: حملها كما يقال: استقل البعير بحمله وأقله: إذا حمله فقام به، ساقه الله لإحياء بلد ميت قد تعفت مزارعه، ودرست مشاربه، وأجدب أهله، فأنزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات) (2)
قال آخر: وهكذا ذكر شيوخنا الأفاضل تأويل أئمتهم وشيوخهم لما ورد في القرآن الكريم من جمع كلمة اليد .. ومثلها تأويلهم لما ورد في الحديث من كلمة الشمال .. وغيرها.
قال آخر: وبذلك؛ فإن إجازتهم التأويل لأنفسهم، وفي تلك الآيات، يمنعهم من الإنكار على غيرهم، خاصة إذا كان ذلك التأويل ضروريا لتنزيه الله تعالى عن الجسمية وتوابعها، وموافقا للسان العرب وتعابيرهم.
قال آخر: ولهذا نرى علماءنا يؤولون كل ما ورد في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة من ذلك، بناء على ما يقتضيه تنزيه الله، وتقتضيه اللغة العربية، ويذكرون في ذلك الوجوه والاحتمالات الكثيرة، التي يؤدي كل منها معنى خاصا، ثم يختمون تأويلاتهم بتفويض
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 116)، تفسير ابن كثير (4/ 206)
(2) تفسير الطبري (8/ 310)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/234)
معناها إلى الله، مع تقديس الله عما لا يليق به.
قال آخر: وهم في أحيان كثيرة يناقشون ما يذكره أصحاب منهج الإثبات من أدلة، ليبينوا لهم وجه الصواب فيها .. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، حيث استعرض الحجج التي استندوا إليها في معنى الآية، فقال: (اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى، فقالت المجسمة: إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، ووجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له، وقالوا ـ أيضا ـ: اسم اليد موضوع لهذا العضو، فحمله على شيء آخر ترك للغة، وإنه لا يجوز) (1)
قال آخر: ثم ذكر أدلة إبطال ما فهموه من الآية عقلا، فقال: (واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث .. ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار، وكل ما كان متناهيا في المقدار فهو محدث .. ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء، وكل ما كان كذلك كان قابلا للتركيب والانحلال، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركبه ويؤلفه، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسما، فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيا) (2)
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 395)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 395)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/235)
قال آخر: ثم ذكر موقف أصحاب منهج التفويض، فقال: (القرآن لما دل على إثبات اليد لله تعالى آمنا به، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى، وهذا هو طريقة السلف) (1)
قال آخر: ثم ذكر موقف أصحاب منهج التأويل، والمعنى الذي يقتضيه تأويلها وفق اللسان العربي، فقال: (اليد تذكر في اللغة على وجوه: أحدها: الجارحة وهو معلوم .. وثانيها: النعمة، تقول: لفلان عندي يد أشكره عليها .. وثالثها: القوة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، فسروه بذوي القوى والعقول، وحكى سيبويه أنهم قالوا: لا يد لك بهذا، والمعنى سلب كمال القدرة .. ورابعها: الملك، يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه، قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، أي يملك ذلك .. وخامسها: شدة العناية والاختصاص، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات، ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئا) (2)
قال آخر: ثم ذكر القاعدة في هذا، فقال: (إذا عرفت هذا فنقول: اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة، وأما سائر المعاني فكلها حاصلة) (3)
قال آخر: ثم رد على الشبهة التي يثيرها أصحاب منهج الإثبات من ذكر الأيدي متعددة في القرآن الكريم، فقال: (فإن قيل: إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 395)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 395)
(3) مفاتيح الغيب (12/ 396)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/236)
مشكل لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة، وبإثبات الأيدي أخرى، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين، ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]؟) (1)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الأول، وهو تفسير اليد بالقدرة، فقال: (إن القوم جعلوا قولهم يد الله مغلولة كناية عن البخل، فأجيبوا على وفق كلامهم، فقيل: بل يداه مبسوطتان، أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد على سبيل الكمال، فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه) (2)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الثاني، وهو تفسير اليد بالنعمة، بأنه (نسبة بحسب الجنس، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها، فقيل: نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء) (3)
قال آخر: كما فسرها بأن المراد بالنسبة قد يكون (المبالغة في وصف النعمة، ألا ترى أن قولهم (لبيك) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك (سعديك) معناه مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين، فكذلك الآية .. المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعي من أنها مقبوضة ممتنعة) (4)
قال آخر: ومثله قال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]: (ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(3) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(4) مفاتيح الغيب (12/ 396)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/237)
أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم)، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية) (1)
قال آخر: ثم ذكر السبب في كثرة معانيها، فقال: (لما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى) (2)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73]: (أي: قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الأخرى، هي جميعا من اللّه، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها، إنّ أحدا لم يأخذ عليه عهدا ووعدا، ولا لأحد قرابة معه، إنّ جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقّهما) (3)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]: (هي كناية عن إعمال القدرة الإلهيّة بشكل مباشر، إذ أنّ أهمّ الأعضاء التي يمارس بها الإنسان قدرته ويعبّر عنها هي يداه، لهذا السبب كانت (اليد) كناية عن القدرة، كأن يقول أحدهم: (إنّ المنطقة الفلانية في يدي) كناية عن أنّها تحت سيطرته ونفوذه، ويقول القرآن في هذا الصدد: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وذكر (الأيدي) هنا بصيغة الجمع إشارة إلى مظاهر متنوّعة لقدرة الباري عزّ وجلّ) (4)
قال آخر: وقد ذكر نفس المعنى الرازي، ونسبه إلى الأشعري، فقال: (وهاهنا قول آخر، وهو أن أبا الحسن الأشعري زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء، وقال: والذي يدل عليه
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 4، ص 74.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 4، ص 74.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 556.
(4) الأمثل، الشيرازي، ج 14، ص 235.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/238)
أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء) (1)
قال آخر: وقال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]: (البيعة، معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك القائد المبايع .. وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم بعضهم إلى بعض عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي والمصافحة فقد أطلقت كلمة (البيعة) على هذه العقود والعهود أيضا، وخاصة أنّهم عند (البيعة) كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له .. و على هذا يتّضح معنى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النّبي هي بيعة اللّه، فكأنّ اللّه قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النّبي فحسب بل يبايعون اللّه، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية .. وبناء على هذا التّفسير فإنّ من يرى بأنّ معنى هذه الجملة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] هو أنّ قدرة اللّه فوق قدرتهم أو أنّ نصرة اللّه أعظم من نصرة الناس وأمثال ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها) (2)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]: (من البديهي أنّ عبارة (يدي) لا تعني الأيدي الحقيقيّة المحسوسة، لأنّ البارئ عزّ وجلّ منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم،
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 16، ص 442.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/239)
وإنّما (اليد) هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل، وكثيرا ما تستخدم اليد بهذا المعنى في محادثاتنا اليومية، إذ يقال: إنّ البلد الفلاني بيد المجموعة الفلانية، أو إنّ المسجد الفلاني بني على يد الشخص الفلاني، وأحيانا يقال: إنّ يدي قصيرة، أو إنّ يدك مملوءة، اليد في كلّ تلك الجمل ليس المقصود منها اليد الحقيقية التي هي أحد أعضاء الجسم، بل كناية عن القدرة والسلطة والتمكّن .. و من هنا فإنّ الإنسان ينفّذ أعماله المهمّة بكلتا يديه، واستخدامه كلتا يديه يبيّن اهتمامه وتعلّقه بذلك العمل، ومجي ء هذه العبارة في الآية المذكورة أعلاه إنّما هو كناية عن الاهتمام الخاصّ الذي أولاه البارئ عزّ وجلّ لعملية خلق الإنسان) (1)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]: (القبضة، هي الشي ء الذي يقبض عليه بجميع الكف، وتستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي .. و (مطويات): من مادة (طي) وتعني الثني، والتي تستعمل أحيانا كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شي ء ما، والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] .. فالذي يثني طومارا ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر .. وخلاصة الكلام، أنّ كلّ هذه التشبيهات
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 14، ص 555.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/240)
والتعابير هي كناية عن سلطة اللّه المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم) (1)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الذي قد يطرح، وهو (هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟)، فقال: (إنّ قدرة البارئ عزّ وجلّ تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شي ء هو من عند اللّه وتحت تصرفه، إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير اللّه بذريعة أنّ أولئك سينقذونه يوم القيامة) (2)
قال آخر: ثم بين سر اللجوء للكنايات والاستعارات في هذا المجال، فقال: (ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة، ولا يرد إمكانية تجسيم البارئ عزّ وجلّ من خلالها، إلّا إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّا، حيث نفتقد ألفاظا تبيّن مقام عظمة البارئ عزّ وجلّ بصورة واضحة، إذن فيجب الاستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة) (3)
قال آخر: ثم بين سر ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: {سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فقال: (فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات اللّه المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 144.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 145.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 145.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/241)
الأصنام) (1)
قال آخر: وقال في بيان الفرق بين استعمال المسيحيين لهذه التعابير والمسلمين: (حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء اللّه بعبارة (يد اللّه)، فإن هذا التعبير ـ حتما ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إلّا .. فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة (ابن اللّه) الواردة عندهم في حق المسيح عليه السّلام أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة للّه سبحانه منحصرة بالمسيح عليه السّلام وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إليه بعض المسيحيين من الادعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس .. و لإيضاح هذا الأمر نحيل القارئ إلى كتاب (القاموس المقدس) في مادة (اللّه) حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة (ابن اللّه) هي واحدة من ألقاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إلّا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي للّه) (2)) (3)
قال القاضي: فما تقولون في الأحاديث الكثيرة التي أوردها شيوخنا الأفاضل، والتي تثبت اليد وما يتعلق بها لله تعالى.
قال آخر: إن كل تلك الأحاديث لم ترو بصيغ متواترة حتى يتم قبولها في هذا الأمر الخطير .. بالإضافة إلى أنها رويت بالمعنى .. بالإضافة إلى أن الكثير منها من المدسوس والمدلس من اليهود والمجسمة، كما ذكرنا لكم ذلك سابقا، وذكرنا حججه وبراهينه.
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 145.
(2) القاموس المقدس، ص 345.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 3، ص 556.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/242)
قال آخر: ومع ذلك؛ فقد قام علماؤنا بتأويلها مما ينسجم تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله وعظمته، ووفقا لما تقتضيه اللغة العربية.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن الجوزي فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض) (1)، فقد قال: (المعنى مقدار قبضته، وليست على ما تتصور من قبضات المخلوفين فإن الحق منزه عن ذلك، وإنما أضيفت القبضة إليه لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك) (2)
قال آخر: ومثله قال ابن جماعة في تأويل بعض الأحاديث التي ذكرها شيوخنا الأفاضل: (اعلم أن الجارحة والأعضاء على الله تعالى محال، وإنما هذا والله أعلم خطاب كما يفهمه الناس من قولهم أخذ فلان إحسان فلان بيمينه، ومعناه أخذه بقبول وبشاشة وأدب، فإن الأخذ باليمين احترام للمعطي، ولأن الأشياء المهمة يتناول بها، ولأن الأخذ بها أسرع غالبا لما فيها من القوة فيكون قوله عن الصدقة: (أخذها بيمينه) عبارة عن معنى ذلك لا الجارحة المعرفة .. فاليمين يعبر بها عن القوة والقدرة، كما قال بعضهم، والقبض والكف وما ورد منه معناه اليد وهي عبارة عن القدرة والسلطنة كما يقال البلد في يد السلطان والتصرف في قبضة الوزير، وقوله تعالى {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] ليس المراد بشيء من ذلك الجارحة، وأما لفظة الكف فتميل لحفظها، لأن المريد لحفظ ما يتناوله بكفه يحفظه بكفه ويطبقها عليه لتكون أحفظ له، فمثل حفظ الله تعالى للصدقة بذلك، وأما لفظ التربية فعبارة عن تضعيف الأجر وزيادته) (3)
__________
(1) الترمذي (4/ 502) وأبو داود (222/ 4 ب 4693)
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه (ص 163)
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 167)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/243)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم على ما طرحه الشيوخ حول إضافة اليد لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الأولى .. فحدثونا عن الصفة الثانية.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثانية هي الوجه .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ} [البقرة: 272]، وقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الوجه صفة من صفات الله تعالى، وهو وجه يليق بجلال الله تعالى وعظمته .. من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: وقد اتفق كل أئمتنا وعلمائنا على ذلك، وعلى اعتبار الوجه من صفات الله تعالى التي يحكم بالكفر على معطلها، ومنهم إمام الأئمة ابن خزيمة الذي قال: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر؛ مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا؛ من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين) (1)
قال آخر: ومثله قال الحافظ ابن منده: (ومن صفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه قوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 25)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/244)
27]، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ بوجه الله من النار والفتن كلها، ويسأل به) (1)
قال آخر: ومثله قال قوام السنة الأصفهاني: (ذكر إثبات وجه الله عز وجل الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام} [الرحمن: 27]) (2)
قال آخر: وقد ورد في السنة ما يدل على ذلك ويؤكده، ومنها ما روي عن ابن مسعود قال: (لما قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم يوم حنين، وقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله) (3)
قال آخر: وورد في حديث ابن عمر عن الثلاثة الذين حبسوا في الغار، فقال كل واحد منهم: (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرج عنا ما نحن فيه) (4)
قال آخر: وورد في حديث سعد بن أبي وقاص: (إنك لن تخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وَجْه الله؛ إلا ازددت به درجة ورفعة) (5)
قال آخر: ومما يؤكد هذا ما ورد في الكتب الإلهية بشأنها، وهي نصوص كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومنها ما ورد في سفر [التكوين 3: 8]: (وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة)، وفيه [التكوين 33: 10]: (فقال يعقوب: لا إن وجدت نعمة في عينيك تأخذ هديتي من يدي؛ لأني رأيت وجهك كما يرى وجه الله فرضيت علي)
قال آخر: ومثله ما ورد في سفر [القضاء 5: 5]: (تزلزلت الجبال من وجه الرب وسيناء هذا من وجه الرب إله إسرائيل)
__________
(1) كتاب التوحيد (3/ 36)
(2) الحجة (1/ 199)
(3) البخاري (3150)، ومسلم (1062)
(4) البخاري (2272)، ومسلم (2743)
(5) البخاري (6733)، ومسلم (1628)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/245)
قال آخر: ومثله ما ورد في سفر صمويل الأول [26: 20]: (والآن لا يسقط دمي إلى الأرض أمام وجه الرب، لأن ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوث واحد كما يتبع الحجل في الجبال) .. وفي [صمويل الثاني 21: 1]: (وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين سنة بعد سنة فطلب داود وجه الرب فقال الرب: هو لأجل شاول ولأجل بيت الدماء لأنه قتل الجبعونيين).
قال آخر: وفي سفر الأخبار [33: 12]: (ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه وتواضع جدا أمام إله آبائه).
قال آخر: وفي [المزامير 34: 16]: (وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم)
قال آخر: وفي [أرمياء 4: 26]: (نظرت وإذا البستان برية وكل مدنها نقضت من وجه الرب من وجه حمو غضبه) .. وفيه [26: 19]: (هل قتلا قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذي تكلم به عليهم فنحن عاملون شرا عظيما ضد أنفسنا) .. وفي مراثي [أرمياء 4: 16]: (وجه الرب قسمهم لا يعود ينظر إليهم لم يرفعوا وجوه الكهنة ولم يترأفوا على الشيوخ)
قال آخر: وفي [دنيال 9: 13]: (كما كتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشر ولم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا لنرجع من آثامنا ونفطن بحقك)
قال آخر: وفي [يوئيل 1: 3]: (فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب) .. وفيه [يوئيل 1: 10] أيضا: (فخاف الرجال خوفا عظيما وقالوا له: لماذا فعلت هذا فإن الرجال عرفوا أنه هارب من وجه الرب لأنه أخبرهم).
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/246)
قال آخر: وفي [حجي 1: 12]: (حينئذ سمع زربابل بن شالتيئيل ويهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم وكل بقية الشعب صوت الرب إلههم وكلام حجي رسول الله كما أرسله الرب إلههم وخاف الشعب أمام وجه الرب)
قال آخر: وفي [لوقا 1: 76]: (وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه) .. وفي [أعمال الرسل 3: 19]: (فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتى أوقات الفرج من وجه الرب)
قال آخر: أما ما ورد في الحديث عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على النّاس فقال: (ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربّه فيتنخّع أمامه، أيحبّ أحدكم أن يستقبل فيتنخّع في وجهه؟ فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا؛ ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض) (1)، والذي يحتج به المعطلة على التأويل؛ فقد قال فيه شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: (حق على ظاهره، وهو تعالى فوق العرش، وهو قبل وجه المصلى؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجى الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضا قبل وجهه، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المثل بذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه؛ لا تشبيه الخالق بالمخلوق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به" فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليا به، وهو آية من آيات الله، فالله أكبر) (2)
قال آخر: وقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فشبه الرؤية
__________
(1) مسلم (550)
(2) أحمد (15765)، وأبو داود (4731)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/247)
بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه؛ كلٌّ يراه فوقه قبل وجهه كما يري الشمس والقمر، ولا منافاة أصلا، ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله؛ يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الوجه لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى وجها حقيقيا .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة ما يذكرونه مما يسمونه صفة الوجه، لأن إثبات هذا يقتضي التركيب والجسمية، وكل اللوازم التي تتنافى مع تنزيه الله تعالى وتقديسه عن مشابهة مخلوقاته.
قال آخر: ولهذا؛ فإن جميع علمائنا فسروا ما ورد في القرآن الكريم والحديث بناء على التأويلات الموافقة لتنزيه الله تعالى، وللغة العربية.
قال آخر: بل الموافقة لما انتهجه من يزعمون أنهم يتعاملون مع النصوص بحسب ما تدل عليه ظواهرها، ويعتبرون التأويل تعطيلا، فقد رأينا أنهم يؤولون أيضا ما يخالف فهومهم من النصوص، كما ذكر ذلك شيوخنا الأفاضل.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروه في تأويل ما روي في الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فلا يبصق أمامه؛ فإنّما يناجي الله ما دام
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 107 ـ 109)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/248)
في مصلاه ولا عن يمينه فإنّ عن يمينه ملكا وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها) (1)
قال آخر: ومثله ما روي وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه العراجين أن يمسكها بيده، فدخل المسجد ذات يوم وفي يده واحد منها، فرأى نخامات في قبلة المسجد فحتهن حتى أنقاهن ثم أقبل على الناس مغضبا فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبله رجل فيبصق في وجهه!؟! إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه والملك عن يمينه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه) (2)
قال آخر: فقد رأينا ابن تيمية يضطر إلى تأويله، وقد حاول كل جهده أن يتخلص من لوازمه، بل أقر أن من السلف من منع حمله على ظاهره.
قال آخر: وقد رد كذلك على من زعم بأن مذهب السلف تأويل هذا الحديث وأمثاله، أو تفويض معناها، فقال: (واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل؛ فإن قوله: (ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلى أنه مستقر في الحائط الذي يصلى إليه، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد .. ومن قال: (إن مذهب السلف أن هذا غير مراد)؛ فقد أصاب في المعنى؛ لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس،
__________
(1) البخاري (416)
(2) ابن خزيمة في صحيحه (880)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/249)
وهو من الأمور النسبية) (1)
قال آخر: ثم قال: (وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى .. وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: (الظاهر غير مراد عندهم) أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين؛ بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا أو جوازا خارجيا غير مراد؛ فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل لا نصا ولا ظاهرا أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة، وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف، بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله تعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين؛ أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون؛ لجواز أن يراد غيره، وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف) (2)
قال آخر: وهكذا أول نفس الآيات التي يستدلون بها على الوجه، فقال: (وأما قولهم: له وجه يوليه إلى كل مكان؛ فليس هذا في القرآن؛ ولكن في القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وهذا قد قال فيه طائفة من السلف: فثم قبلة الله، أي فثم جهة
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 107)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 107)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/250)
الله، والجهة كالوعد والعدة والوزن والزنة، والمراد بوجه الله: وجهة الله، الوجه، والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة كما قال في أول الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، ثم قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، فإذا كان لله المشرق والمغرب، ولكل وجهة هو موليها وقوله: {مُوَلِّيهَا}؛ أي متوليها أم مستقبلها، فهذا كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أي فأينما تستقبلوا فثم وجهة الله) (1)
قال آخر: وقبله قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]: (يعني بإسلام الوجه التذلل لطاعته، والإذعان لأمره، وأصل الإسلام الاستسلام؛ لأنه من استسلمت لأمره وهو الخضوع لأمره؛ وإنما سمي المسلم مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه) (2)
قال آخر: وقال ابن كثير: (أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20]، وقال أبو العالية والربيع: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يقول: من أخلص لله، وقال سعيد بن جبير: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخلص، {وَجْهَهُ} قال: دينه) (3)
قال آخر: وقال في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]: (كل شيء
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 414، 415)
(2) تفسير الطبري (1/ 493)
(3) تفسير ابن كثير (1/ 155)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/251)
يفنى ولا يبقى إلا الله عز وجل كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]) (1)
قال آخر: وقال: (وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ههنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي: إلا إياه) (2)
قال آخر: وهم يستدلون لهذا بما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) (3)
قال آخر: وهذا عين ما قام به كل العلماء الذين يتهمهم شيوخنا الأفاضل بالتعطيل، فهم أولوا الوجه بما يتناسب مع اللغة العربية، ومع تنزيه الله تعالى، ولهذا لم يعتبروا الوجه صفة لله، وإنما كلمة أضيفت لله، مثلما أضيفت غيرها من الكلمات، لتدل على معان مجازية لا حقيقية.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قاله ابن حزم الظاهري في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27]، فقد قال: (ذهب المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم، وقال الآخرون: وجه الله تعالى إنما يُراد به: الله عز وجل، قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته، لما أبطلنا من القول بالتجسيم، وقال أبو الهذيل: وجه الله هو الله، قال أبو محمد: وهذا لا ينبغي أن يُطلق، لأنه تسمية، وتسمية الله تعالى لا تجوز إلا بنص، ولكنا نقول: وجه الله ليس هو غير الله تعالى، ولا نرجع منه إلى
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 404)
(2) تفسير ابن كثير (3/ 404)
(3) البخاري (3841)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/252)
شيء سوى الله تعالى، برهان ذلك قول الله حاكيًا عمن رضي قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]، فصح يقينًا أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى به، وقوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، إنما معناه: فثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه) (1)
قال آخر: وقال الشريف الرضى في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص:88]: (الوجه ههنا عبارة عن ذات الشيء ونفسه، وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] أي ويبقى ذات ربك، ومن الدليل على ذلك الرفع في قوله {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] لأنه صفة للوجه الذي هو الذات، ولو كان الوجه ههنا بمعنى العضو المخصوص على ما ظنّه الجهّال، لكان وجه الكلام أن يكون (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)، فيكون (ذي) صفة للجملة لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة، كما يقول القائل: (رأيت وجه الأمير ذي الطول والإنعام)، ولا يقول (ذا الطول والإنعام)، من صفات جملته لا من صفات وجهه، ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة {تبارك اسم رَبِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:78]، لمّا كان الاسم غير المسمى وصف سبحانه المضاف إليه، ولمّا كان الوجه في الآية المتقدمة هو النفس والذات، قال تعالى: {ذُو الْجَلالِ}، ولم يقل (ذي الجلال والإكرام)، ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو، وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يُراد بالوجه ههنا ما قُصد الله به من العمل الصالح والمتجر الرابح على طريق القربة وطلب الزلفة، وعلى ذلك قول الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه .. ، رب العباد إليه الوجه والعمل، أي إليه تعالى قصد الفعل الذي يستنزل به فضله، ودرجات عفوه، فأعلمنا سبحانه أن كل شيء هالك إلا وجه دينه الذي يُوصَل إليه منه، ويُستزلف
__________
(1) الفِصل (ج 2، ص 347 ـ 348)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/253)
عنده به، ويُجعل وسيلًا إلى رضوانه وسببًا لغفرانه) (1)
قال آخر: ومثله ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، فقد قال: (الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه) (2)
قال آخر: ثم ذكر من وجوه دلالتها على ذلك (أنه تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له، وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولا وعرضا وعمقا، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، وكل منقسم فهو مؤلف مركب، وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد، وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها، أعني الفوق والتحت، فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها، والخالق متقدم على المخلوق لا محالة، فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزها عن الجهات والأحياز، فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات) (3)
قال آخر: ومن الوجوه التي ذكرها أنه (لو كان الله تعالى جسما، وله وجه جسماني لكان وجهه مختصا بجانب معين وجهة معينة، فما كان يصدق قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية) (4)
قال آخر: ثم ذكر احتجاجات أصحاب منهج الإثبات بالآية على التجسيم، وذلك من خلال دلالتها على ثبوت الوجه لله تعالى، والوجه لا يحصل إلا لمن كان جسما، ولأنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعا، والسعة من صفة الأجسام، ثم رد على ذلك بـ (أن الوجه
__________
(1) مجازات القرآن.
(2) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(3) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(4) مفاتيح الغيب (4/ 21)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/254)
وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص، لكنا بينا أنا لو حملناه هاهنا على العضو لكذب قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، لأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا، فإذن لا بد فيه من التأويل) (1)
قال آخر: ثم بين وجوه التأويل التي يمكن حمل الوجه عليها هنا، ومنها (أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله، والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف، فقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أي: فثم وجهه الذي وجهكم إليه، لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما، والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها، فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة) (2)
قال آخر: ومنها (أن يكون المراد من الوجه القصد والنية، كما قال الشاعر: (أستغفر الله ذنبا لست أحصيه .. رب العباد إليه الوجه والعمل)، ونظيره قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79]) (3)
قال آخر: ومنها (أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] يعني لرضوان الله، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يعني ما كان لرضا الله، ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه، فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته، فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه) (4)
قال آخر: ومنها (أن الوجه صلة كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]،
__________
(1) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(2) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(3) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(4) مفاتيح الغيب (4/ 21)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/255)
ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئا آخر غيره، إنما يريدون به أنه من هاهنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر) (1)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال المرتبط بهذا، وهو اقتضاء بعض التأويلات لتجويز المكان، فذكر أنه (لا بد من تأويله بأن المراد: فثم قبلته التي يعبد بها، أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته) (2)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال المرتبط بوصف الله تعالى نفسه بكونه واسعا، بقوله: (لا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره، وإلا لكان متجزئا متبعضا فيفتقر إلى الخالق، بل لا بد أن يحمل على السعة في القدرة والملك، أو على أنه واسع العطاء والرحمة، أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه، ولعل هذا الوجه بالكلام أليق، ولا يجوز حمله على السعة في العلم، وإلا لكان ذكر العليم بعده تكرارا) (3)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] في الرد على أصحاب منهج الإثبات والتجسيم: (الوجه يطلق على الذات، والمجسم يحمل الوجه على العضو، وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن، لأن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يدل على أن لا يبقى إلا وجه الله تعالى، فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله، أو غير ذات الله شيء، وهو كذلك، وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها، ورجله التي قال بها) (4)
قال آخر: ثم رد على إشكال المجسمة بأنه يلزم من التأويل أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله، لأن الوجه أُول بالذات، والذات غير الصفات، فقال: (الجواب عنه هو أن قول
__________
(1) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(2) مفاتيح الغيب (4/ 22)
(3) مفاتيح الغيب (4/ 22)
(4) مفاتيح الغيب (29/ 355)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/256)
القائل: لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض، وإذا قال: لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله، فكذلك قولنا: يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته، وإذا قلتم: لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده) (1)
قال آخر: ثم أجاب على سر التعبير عن الذات بالوجه، فقال: (لأنه مأخوذ من عرف الناس، فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول: رأيته، وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلا لا يقول: رأيته، وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس، فإن الإنسان إذا رأى شيئا علم منه ما لم يكن يعلم حال غيبته، لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي، وإنما يتعلق ببعضه، ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم فإذا رأى شيئا بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه، لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة، كل واحد يدل على أمر، فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه، فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره، فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام، ثم نقل لي ما ليس بجسم، يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف، وقول من قال: إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية فليس بشيء إذ الأمر على العكس، لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل، فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره، ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب) (2)
قال آخر: ومثلهم قال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]: (المراد من (وجه اللّه) هو ذاته تعالى، وإلّا فليس
__________
(1) مفاتيح الغيب (29/ 355)
(2) مفاتيح الغيب (29/ 356)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/257)
للّه صورة جسمانية، وهذا هو ما اعتمده وأكّده القرآن في كثير من آياته، كما في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، وقوله في الآية التي تصف جلساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]) (1)
قال آخر: وقال: (كلمة (وجه) بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ {وَجْهِ اللَّهِ} تعني ذات اللّه التي يجب أن يتوجّه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه فإنّ ورود كلمة (وجه) في هذه الآية وفي غيرها إنّما يقصد به التوكيد، فمن الواضح أنّ قولنا (لوجه اللّه) أو (لذات اللّه) أكثر تأكيدا من قولنا (للّه)، فيكون المعنى أنّ الإنفاق للّه حتما لا لغير اللّه .. ثمّ إنّ الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهمّ أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق، ولهذا حيثما استعملت كلمة (الوجه) كان القصد إيصال معاني الشرف والأهميّة، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام والأهميّة، وإلّا فإنّ اللّه منزّه عن الصورة الجسدية) (2)
قال آخر: ومثلهم قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (وقد علم السامعون أن الله تعالى يستحيل أن يكون له وجه بالمعنى الحقيقي وهو الجزء الذي في الرأس .. واصطلح علماء العقائد على تسمية مثل هذا بالمتشابه، وكان السلف يحجمون عن الخوض في ذلك مع اليقين باستحالة ظاهرة على الله تعالى، ثم تناوله علماء التابعين ومن بعدهم بالتأويل تدريجا إلى أن اتضح وجه التأويل بالجري على قواعد علم المعاني فزال الخفاء، واندفع الجفاء، وكلا الفريقين خيرة الحنفاء) (3)
قال آخر: ومثلهم قال الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 19، ص 259.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 328.
(3) التحرير والتنوير (27/ 253)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/258)
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]: (المشرق والمغرب، وكل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل والانتقال، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث إن ملكه تعالى مستقر على ذات الشيء محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقر على أثر الأشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة أنه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط بها وهو معها، فالمتوجه إلى شيء من الجهات متوجه إليه تعالى .. و لما كان المشرق والمغرب جهتين إضافيتين شملتا سائر الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقتان ولذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما، بهما بأن يقال: أينما تولوا منهما فكأن الإنسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعا وإنما أخذ بهما لأن الجهات التي يقصدها الإنسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس وغروبها وسائر الأجرام العلوية المنيرة) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم على ما طرحه الشيوخ حول إضافة الوجه لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثانية .. فحدثونا عن الصفة الثالثة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثالثة هي العين .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]، وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (1/ 149)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/259)
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن العين صفة ذاتية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله يبصر بعين، كما يعتقدون أن الله عز وجل له عينان تليقان به.
قال آخر: وقد قال إمام أئمتنا ابن خزيمة في تقرير ذلك بعد ذكر الأدلة الكثيرة عليها: (فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله مبينا عنه عز وجل في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لله عينين فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب) (1)
قال آخر: ومثله وضع الَّلالَكَائي بابا في [أصول الاعتقاد] لتقرير هذا، بقوله: (سياق ما دل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على أن صفات الله عز وجل الوجه والعينين واليدين) (2)
قال آخر: ومثلهما قال الشيخ عبد الله الغنيمان في شرحه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليس بأعور): (هذه الجملة هي المقصودة من الحديث في هذا الباب؛ فهذا يدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقدُ أحد العينين أو ذهاب نورها) (3)
قال آخر: وقد نقل الشيخ ابن عثيمين الإجماع على ذلك، فقال: (وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدجَّال: (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) (4)
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 97)
(2) أصول الاعتقاد (3/ 412)
(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 285)
(4) عقيدة أهل السنة والجماعة (ص 12)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/260)
قال آخر: وقد بين إمامنا ابن خزيمة الفروق الكبيرة بين عين المخلوق وعين الله تعالى، فقال في ذكر عين الله تعالى: (نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السموات العلى، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا خافية في السموات السبع والأرضين السبع ولا مما بينهم، ولا فوقهم ولا أسفل منهن، لا يغيب عن بصره من ذلك شيء، يرى ما في جوف البحار ولججها كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه) (1)
قال آخر: ثم ذكر عين البشر، فقال: (وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم، مما لا حجاب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم، وما يبعد منهم، إن كان يقع اسم القرب عليه في بعض الأحوال، لأن العرب التي خوطبنا بلغتها قد تقول: قرية كذا منا قريبة، وبلدة كذا قريبة منا، ومن بلدنا، ومنزل فلان قريب منا، وإن كان بين البلدين وبين القريتين وبين المنزلين فراسخ، والبصير من بني آدم لا يدرك ببصره شخصا آخر، من بني آدم، وبينهما فرسخان فأكثر، وكذلك لا يرى أحد من الآدميين ما تحت الأرض إذا كان فوق المرئي من الأرض والتراب قدر أنملة، أو أقل منها بقدر ما يغطى ويوارى الشيء، وكذلك لا يدرك بصره إذا كان بينهما حجاب من حائط، أو ثوب صفيق، أو غيرهما مما يستر الشيء عن عين الناظر، فكيف يكون يا ذوي الحجا مشبها من يصف عين الله بما ذكرنا، وأعين بني آدم بما وصفنا) (2)
قال آخر: ثم ذكر فروقا أخرى، فقال: (ونزيد شرحا وبيانا نقول: عين الله عز وجل قديمة، لم تزل باقية، ولا يزال محكوم لها بالبقاء، منفي عنها الهلاك، والفناء، وعيون بني آدم محدثة مخلوقة، كانت عدما غير مكونة، فكونها الله، وخلقها بكلامه الذي هو صفة من
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 97)
(2) كتاب التوحيد (1/ 117)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/261)
صفات ذاته، وقد قضى الله وقدر أن عيون بني آدم تصير إلى بلاء، عن قليل، والله نسأل خير ذلك المصير، وقد يعمي الله عيون كثير من الآدميين فيذهب بأبصارها قبل نزول المنايا بهم، ولعل كثيرا من أبصار الآدميين فيذهب بأبصارها قبل نزول المنايا بهم .. فما الذي يشبه ـ يا ذوي الحجا ـ عين الله التي هي موصوفة بما ذكرنا عيون بني آدم التي وصفناها بعد؟) (1)
قال آخر: ثم ذكر مثالا رائعا لذلك؛ يدل على مبلغ تنزيهه لله تعالى، فقال: (ولست أحسب: لو قيل لبصير لا آفة ببصره، ولا علة بعينه، ولا نقص، بل هو أعين، أكحل، أسود الحدق، شديد بياض العينين، أهدب الأشفار: عينك كعين فلان الذي هو صغير العين، أزرق، أحمر بياض العينين، قد تناثرت أشفاره، وسقطت، أو كان أخفش العين، أزرق، أحمر بياض العينين، قد تناثرت أشفاره، وسقطت، أو كان أخفش العين، أزرق، أحمر بياض شحمها، يرى الموصوف الأول: الشخص من بعيد، ولا يرى الثاني مثل ذلك الشخص من قدر عشر ما يرى الأول، لعلة في بصره، أو نقص في عينه، إلا غضب من هذا وأنف منه، فلعله يخرج إلى القائل له ذلك إلى المكروه من الشتم والأذى ولست أحسب عاقلا يسمع هذا المشبه عيني أحدهما بعيني الآخر، إلا هو يكذب هذا المشبه عين أحدهما بعين الآخر، ويرميه بالعته، والخبل والجنون، ويقول له: لو كنت عاقلا يجري عليك القلم: لم تشبه عيني أحدهما بعيني الآخر، وإن كانا جميعا يسميان بصيرين، إذ ليسا بأعميين، ويقال: لكل واحد منهما عينان يبصر بهما، فكيف لو قيل له: عينك كعين الخنزير، والقرد، والدب، والكلب، أو غيرها من السباع، أو هوام الأرض، والبهائم، فتدبروا يا ذوي الألباب أبين عيني خالقنا الأزلي الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال، وبين عيني الإنسان من الفرقان أكثر، أو مما بين أعين بني آدم وبين عيون ما ذكرنا؟) (2)
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 117)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 117)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/262)
قال آخر: ثم رد على من اتهم شيوخنا من أهل الإثبات بالتشبيه، فقال: (تعلموا وتستيقنوا أن من سمى علماءنا مشبهة غير عالم بلغة العرب، ولا يفهم العلم، إذ لم يجز تشبيه أعين بني آدم بعيون المخلوقين، من السباع والبهائم، والهوام، وكلها لها عيون يبصرون بها، وعيون جميعهم محدثة مخلوقة، خلقها الله بعد أن كانت عدما، وكلها تصير إلى فناء وبلى، وغير جائز إسقاط اسم العيون والأبصار عن شيء منها، فكيف يحل لمسلم ـ لو كانت الجهمية من المسلمين ـ أن يرموا من يثبت لله عينا بالتشبيه، فلو كان كل ما وقع عليه الاسم كان مشبها لما يقع عليه ذلك الاسم، لم يجز قراءة كتاب الله، ووجب محو كل آية بين الدفتين فيها ذكر نفس الله، أو عينه، أو يده، ولوجب الكفر بكل ما في كتاب الله عز وجل من ذكر صفات الرب، كما يجب الكفر بتشبيه الخالق بالمخلوق، إلا أن القوم جهلة، لا يفهمون العلم، ولا يحسنون لغة العرب، فيضلون ويضلون) (1)
قال آخر: ومن الأدلة على إثبات صفة العين لله تعالى، بالإضافة لما ورد في القرآن الكريم ما رواه أبو هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه) (2)
قال آخر: ومنها حديث أنس: (إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور ـ وأشار إلى عينيه ـ وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية) (3)
قال آخر (4): ومما يدل على هذه الصفة من العقل أن العور صفة نقص، والله منزه عن صفة النقص، وقد خلق الله تعالى الدجال بهذه الصفة حتى لا يختلط الأمر عند الناس ويظنوا أنه الله، وخاصة وأن الله تعالى قد أقدره على أشياء لا يقدر عليها إلا هو تعالى؛ فتنة
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 117)
(2) أبو داود (13/ 37)
(3) البخاري (7407)
(4) موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 3/ 57.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/263)
للناس، واختبارا وامتحانا؛ ليكشف الله لخلقه حال الناس فيميز الصادق من الكاذب للناس.
قال آخر: ولهذا احتج شيخ الإسلام بحديث الدجال على إثبات صفة العين لله تعالى، وردا على النصارى، فقال: (ولهذا لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسيح الدجال وقال: (ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به)، وذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم تبين كذبه: أحدها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مكتوب بين عينيه كافر (ك ف ر) يقرأه كل مؤمن قارئ وغير قارئ) .. والثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت)، فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين، فعلم أن الله لا يتحد ببشر .. والثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور)، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة؛ لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر، واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم، النصارى وغيرهم، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك، ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين) (1)
قال آخر: وقد اتفق علماؤنا على أن لله تعالى عينين فقط، أما ما ورد في القرآن الكريم من هذه الصفة بصيغة المفرد أو الجمع، فقد أوله علماؤنا ليسنجم مع باقي الآيات والأحاديث.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن القيم في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، فقد قال: (ذكر العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كقولك:
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 3/ 324، 325.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/264)
افعل هذا على عيني لا يريد أن له عيناً واحدة، وإنما إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهراً، أو مضمراً فالأحسن جمعها مشاكلة للفظ كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وإن أضيفت إلى ضمير الجمع جمعت، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]) (1)
قال آخر: وقال شيخنا صالح آل الشيخ: (والجمع هذا يُراد به المثنى؛ لأن لغة العرب إذا أضافت المثنى إلى ضمير تثنية أو إلى ضمير جمع جَمعت المثنى، كما في قوله تعالى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، مع أنَّ لهما قلبين: قلب عائشة وقلب حفصة، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أصل الكلام: فقد صغى قلباكما. لكن لما كانت التثنية تضاف إلى ضمير التثنية أو الجمع فيجمع الأول) (2)
قال آخر: ومما يؤكد كون العين من صفات الله تعالى المتفق على ذكرها بين جميع الأمم، ما ورد في الكتب الإلهية بشأنها، وهي نصوص كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومنها ما ورد في سفر [الأمثال 3: 4]: (فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس)، وفي سفر [زكريا 4: 10]: (لأنه من ازدرى بيوم الأمور الصغيرة فتفرح أولئك السبع ويرون الزيج بيد زربابل إنما هي أعين الرب الجائلة في الأرض كلها)، وفي [المزامير 33: 18]: (هو ذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته)، وفي [المزامير 33: 18]: (هو ذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الوجه الحقيقي لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى وجها
__________
(1) نقلا عن: اعتقاد أئمة السلف أهل الحديث (ص 233)
(2) شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ (ص 175)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/265)
حقيقيا .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: هم يسيرون على نفس المنهاج الذي ذكرناه لكم سيدي القاضي .. منهج تنزيه الله تعالى عن الجسمية ولوازمها، ثم تأويل معناها بحسب ما تقضيه اللغة العربية، ثم تفويض علم المراد الحقيقي لله تعالى .. وقد ذكرنا لكم الكثير من الأدلة على ذلك سابقا.
قال آخر: وقد رأينا أن شيوخنا الأفاضل يذكرون تأويل علمائهم وسلفهم لهذا، فلم يجيزون لأنفسهم ما لا يجيزون لغيرهم.
قال آخر: ومن الأمثلة على تأويل علمائنا لما أضيف لله تعالى من لفظ العين، ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، فقد ذكر الرازي في بيان وجوه استحالة حمل معناها على ظاهره وجوها .. منها (أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة، وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]) (1)
قال آخر: ومنها (أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين، كما يقال: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل) (2)
قال آخر: ومنها (أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزها عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض، فوجب المصير فيه إلى التأويل) (3)
قال آخر (4): ثم ذكر وجوه تأويلها التي دل عليها اللسان العربي، ومنها أن معنى بأعيننا أي بعين الملَك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة، حيث يقال: فلان عين على فلان
__________
(1) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(2) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(3) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(4) مفاتيح الغيب (17/ 344)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/266)
نصب عليه ليكون منفحصا عن أحواله ولا تحول عنه عينه.
قال آخر (1): ومنها أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه، فلما كان وضع العين على الشيء سببا لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط، فلهذا قال المفسرون معناه: (بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك)، ومنه قولهم: (عليه من الله عين كالئة)
قال آخر (2): وذلك التأويل مبني على أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل، والثاني: أن يكون عالما بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه .. وبذلك يكون المعنى: (اصنع الفلك بأعيننا أي بحفظنا وكلئنا وتعليمنا)
قال آخر: ومثله ما ذكره الشيرازي في تفسيرها، فقد قال: (إنّ المقصود من كلمة {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] إشارة إلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرآي ومسمع منّا، فواصل عملك مطمئن البال .. و طبيعي أنّ هذا الإحساس بأنّ اللّه حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإنسان قوة وطاقة، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر .. كما يستفاد من كلمة (وحينا) أيضا أن صنع السفينة كان بتعليم اللّه، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ نوحا عليه السّلام لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه) (3)
قال آخر (4): ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، فقد ذكر الرازي في تفسيرها وجوها، منها أنه لما بين الله
__________
(1) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(2) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(3) الأمثل، ج 6، ص 525.
(4) مفاتيح الغيب (28/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/267)
تعالى أن المشركين يكيدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال: اصبر ولا تخف، فإنك محفوظ بأعيننا.
قال آخر (1): ومنها أن معناها: (فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك)، وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال، لكن كونك مسبحا لنا أفضل من كونك داعيا على عباد خلقناهم، فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا.
قال آخر (2): ومنها أن من يشكو حاله عند غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى: (اصبر ولا تشك حالك، فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك)
قال آخر (3): ثم ذكر الفرق بين قوله في هذه الآية الكريمة {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وقوله في موضع آخر: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وهو أنه لما وحد الضمير هناك، وهو ياء المتكلم وحده وحد العين، ولما ذكر هاهنا ضمير الجمع في قوله {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وهو النون جمع العين، وقال: {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، هذا من حيث اللفظ .. وأما من حيث المعنى فلأن الحفظ هاهنا أتم، لأن الصبر مطية الرحمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث اجتمع له الناس وجمعوا له مكايد وتشاوروا في أمره، وكذلك أمره بالفلك وأمره بالاتخاذ عند عدم الماء وحفظه من الغرق مع كون كل البقاع مغمورة تحت الماء تحتاج إلى حفظ عظيم في نظر الخلق فقال {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]
قال آخر: ثم ذكر وجه تعلق الباء في الآية الكريمة ودلالتها على التنزيه، فقال: (إن قلنا بأنه للحفظ فتقديره محفوظ بأعيننا، وإن قلنا للعلم فمعناه بمرأى منا أي بمكان نراك
__________
(1) مفاتيح الغيب (28/ 229)
(2) مفاتيح الغيب (28/ 229)
(3) مفاتيح الغيب (28/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/268)
وتقديره فإنك بأعيننا مرئي وحينئذ هو كقول القائل رأيته بعيني كما يقال كتب بالقلم الآلة وإن كان رؤية الله ليست بآلة) (1)
قال آخر: ومثله قال الشيرازي في تفسيرها: (وجملة {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، تعبير لطيف جدّا حاك عن علم اللّه، وكذلك كون النّبي صلى الله عليه وآله وسلم مشمولا بحماية اللّه الكاملة ولطفه .. أجل، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادرا كبيرا ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ذكروه فيما وردت فيه العين بصيغة المفرد؛ وهو قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقد نقل الرازي عن القفال قوله في تفسيرها: (لترى على عيني، أي على وفق إرادتي، ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئا وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا هاهنا) (3)
قال آخر (4): ثم ذكر وجوه المجاز في الآينة، ومنها أن المراد من العين العلم، أي ترى على علم مني، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه.
قال آخر (5): ومنها أن المراد من العين الحراسة، وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه، فالعين كأنها سبب الحراسة، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازا، وهو كقوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، ويقال: عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة.
__________
(1) مفاتيح الغيب (28/ 229)
(2) الأمثل، ج 17، ص 197.
(3) مفاتيح الغيب (22/ 48)
(4) مفاتيح الغيب (22/ 48)
(5) مفاتيح الغيب (22/ 49)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/269)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة العين لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثالثة .. فحدثونا عن الصفة الرابعة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الرابعة هي الساق وما يرتبط بها من الرجل .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآية الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الساق صفة من صفات الله تعالى، وهو وجه يليق بجلال الله تعالى وعظمته .. من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: ومما يدل عليها من الحديث ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (فيقول الله تعالى: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا) (1)
قال آخر: ومثلها صفة القدم، وقد ورد في الحديث عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في جهنم: (لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد بعزتك وكرمك، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) (2)
__________
(1) البخاري (4635، 7001)
(2) البخاري (6949)، مسلم (2848)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/270)
قال آخر: ومثلها صفة الرجل التي ورد ذكرها في حديث أبي هريرة صلى الله عليه وآله وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تحاجت الجنة والنار، فقالت: النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا) (1)
قال آخر: وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية مقررا لما جاء في هذه الأحاديث: (وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه) ـ وفي رواية: رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض) .. ونحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أنا الديان)، إلى غيرها من الأحاديث هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا، اعتقادنا فيها، وفي الآي الواردة في الصفات: أنا نقلبها، ولا نحرفها، ولا نكيفها، ولا نعطلها، ولا نتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها؛ بل نؤمن بها، ونكل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم، روينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام، ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء، ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك الصفات
__________
(1) البخارى (4569)، مسلم (2846)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/271)
إلا بالأسماء التي عرفهم الرب عز وجل، فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات، فلا يدركه أحد) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الساق والرجل ونحوها لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى ساقا ورجلا حقيقية .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال آخر: وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة ما يذكرونه من الساق والرجل وغيرها، لأنها تقتضي التركيب والجسمية وكل اللوازم التي تتنافى مع تنزيه الله تعالى وتقديسه عن مشابهة مخلوقاته.
قال آخر: ولهذا؛ فإن جميع علمائنا فسروا ما ورد قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] بناء على هذه التأويلات الموافقة لتنزيه الله تعالى، وللغة العربية.
قال آخر: بل الموافقة لما انتهجه من يزعمون أنهم يتعاملون مع النصوص بحسب ما تدل عليه ظواهرها، ويعتبرون التأويل تعطيلا، فقد رأينا أنهم يؤولون أيضا ما يخالف فهومهم من النصوص.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 185، 186)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/272)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن تيمية لتأويل السلف للآية الكريمة، مع أنه يعتبر الخروج عن تأويلاتهم بدعة، فقد قال: (وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فروي عن ابن عباس وطائفة: أن المراد به الشدة؛ أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة: أنهم عدّوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر) (1)
قال آخر: ومثله قال ابن القيم: (نقول من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقا؟ وليس معك إلا قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]؛ والصحابة متنازعون في تفسير الآية؛ هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله؛ لأنه تعالى لم يضف الساق إليه؛ وإنما ذكره مجردا عن الإضافة منكرا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: (فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدا)، ومن حمل الآية على ذلك قال قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 42] مطابق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيكشف عن ساقه فيخرون له سجدا)، وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبيه، قالوا: وحمل
__________
(1) دقائق التفسير لابن تيمية (2/ 482)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/273)
الآية على الشدة لا يصح بوجه؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك: أن يقال كشفت الشدة عن القوم لا كشف عنها، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 50]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} [المؤمنون: 75]، فالعذاب والشدة هو المكشوف؛ لا المكشوف عنه، وأيضا فهناك تحدث الشدة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود؛ وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة) (1)
قال آخر: وبمثل هذا فسرها علماؤنا الذين يتهمهم شيوخنا الأفاضل بالتعطيل .. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الزمخشري من وجوه لتأويل كلمة {ساق}، حيث قال: (معنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: 42]: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل، وإنما هو مثل في البخل .. وأما من شبه فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود: (يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجدا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأنّ فيها سفافيد)، ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن .. فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف، كقوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6]، كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل، ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل: وعن أبى عبيدة: خرج من خراسان رجلان، أحدهما: شبه حتى مثل، وهو مقاتل بن سليمان، والآخر نفى حتى عطل، وهو جهم بن صفوان، ومن أحس بعظم مضارّ هذا العلم علم مقدار عظم منافعه) (2)
__________
(1) الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية (1/ 252 ـ 254)
(2) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 594)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/274)
قال آخر (1): ومثل ذلك ذكر الرازي وجوه تأويل كلمة {ساق} في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، ومنها (الشدة، كما روي أنه سئل ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: (سن لنا قومك ضرب الأعناق .. وقامت الحرب بنا على ساق)، ثم قال: وهو كرب وشدة وروى مجاهد عنه قال: هو أشد ساعة في القيامة، وأنشد أهل اللغة أبياتا كثيرة، منها:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فدنها ربيع ولا تسأم
قال آخر: ثم ذكر وجه هذا التأويل عن ابن قتيبة، فقال: (أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشمر عن ساقه، فلا جرم يقال في موضع الشدة: (كشف عن ساقه)، وعقب عليه بقوله: (واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى، يستحيل أن يكون جسما، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز) (2)
قال آخر: ومن الوجوه التي ذكرها في تأويل كشف الساق، ما عبر عنه بقوله: (أي عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر، وساق الإنسان، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها) (3)
قال آخر: ومنها أن المراد (عن ساق العرش، أو عن ساق ملك مهيب عظيم، واللفظ لا يدل إلا على ساق، فإما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه) (4)
__________
(1) مفاتيح الغيب (30/ 613)
(2) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(3) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(4) مفاتيح الغيب (30/ 614)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/275)
قال آخر: ومنها أنّ (يوم يكشف عن ساق ليس المراد منه يوم القيامة، بل هو في الدنيا، لأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة .. لأن يوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، بل المراد منه، إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها، وإما حال الهرم والمرض والعجز وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83]) (1)
قال آخر: ثم رد على ما ذكره المشبهة، من أن المراد ساق الله، تعالى الله عنه، بوجوه، منها (أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث، لأن كل جسم متناه، وكل متناه محدث ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث، ولأن كل جسم ممكن، وكل ممكن محدث) (2)
قال آخر: ومنها (أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن، أما لو حملناه على الشدة، ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم، كأنه قيل: يوم يكشف عن شدة، وأي شدة، لا يمكن وصفها) (3)
قال آخر: ومنها (أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه) (4)
قال آخر: ومثل ذلك قال الشيرازي في تفسيرها، حيث قال: (جملة {يُكْشَفُ عَنْ
__________
(1) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(2) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(3) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(4) مفاتيح الغيب (30/ 614)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/276)
ساقٍ} [القلم: 42] كما قال جمع من المفسّرين، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم .. و نقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال: كلّما خفي عليكم شي ء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب، أ لم تسمعوا قول الشاعر: (وقامت الحرب بنا على ساق)، إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب) (1)
قال آخر: ثم ذكر الوجه الآخر لتأويلها، وبين مرجوحيته بالنسبة للتأويل السابق، فقال: (وقيل: إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشي ء، كساق الشجرة، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شي ء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر) (2)
قال آخر: ثم ذكر معنى الآية بناء على هذا التأويل، فقال: (في ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئ عزّ وجلّ، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة) (3)
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 18، ص 551.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 18، ص 551.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 18، ص 551.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/277)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسائل المرتبطة بالإضافات التي يعتبرها المجسمة صفات ذاتية لله تعالى، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك لا داعي لأن تجادلوهم، بل علينا أن ننتقل إلى المسألة الخامسة، والمرتبطة بصفات الأفعال.
قال أحد الشيوخ: لقد رأينا أن هؤلاء الجهمية المعطلة، يعطلون عشر صفات أفعال لله، ويعطلون معها كل ما ارتبط بها من معان .. ولذلك نطلب منكم سيادة القاضي، أن تطلب منهم أن يجيبونا عن كل صفة نتحدث عنها، حتى لا يفروا كعادة كل المبتدعة.
قال القاضي: لكم ذلك .. فحدثونا عن الصفة الأولى.
قال كبير الشيوخ: الصفة الأولى هي الاستواء .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [الأعراف: 54، يونس: 3 الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4]، والتي وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، بالإضافة للأحاديث الكثيرة التي سبق ذكر الكثير منها.
قال القاضي: أجل .. فما تفسيركم للاستواء حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسره بحسب ظاهره الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الاستواء صفة من صفات الله تعالى، وهي صفة فعلية خبرية.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/278)
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث الكثيرة تفسيره بالقعود والجلوس، ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن ثعلبة بن الحكم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة ـ إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده ـ: إني لم أجعل علمي، وحكمي فيكم، إلا وأنا أريد أن أغفر لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي) (1)
قال آخر: وقد قوى السيوطي هذا الخبر، وقال: (له طريق لا بأس به قال الطبراني حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا العلاء بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم) (2)، وقال الحافظ ابن كثير: (إسناده جيد) (3)
قال آخر: وقال الذهبي: (ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر: (إذا جلس الرب على الكرسي)، فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث، ولا ينكرونها (4).
قال آخر: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا أدري أخرجه أم لا؟ .. فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح.
قال آخر: فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سرج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث
__________
(1) الطبراني في الكبير، 1364.
(2) اللآليء المصنوعة (1/ 281)
(3) تفسير ابن كثير (3/ 141)
(4) كتاب العرش ص 155.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/279)
بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟ .. بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله عز وجل، وقد قال الإمام أحمد: (لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنعت وإن نبت عن الأسماع)
قال آخر: فانظروا إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث، فإذا كان كل هؤلاء مجسمة، فمن الموحدون؟
قال آخر: وقد قال العلامة سليمان بن سحمان معلقا على كلام الذهبي: (فإذا ثبت هذا عن أئمة أهل الإسلام، فلا عبرة بمن خالفهم من الطغام أشباه الأنعام) (1)
قال آخر: وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن أكثر أهل السنة قبلوا هذا الحديث حيث قال: (ومن ذلك حديث عبد الله بن خليفة المشهور الذي يروي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره) (2)
قال آخر: وهكذا فسرها أكثر سلفنا حتى من ذكر ضعف الحديث، وقد قال قال ابن القيم: (وفي تفسير السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس الرحمن على العرش استوى قال: قعد)، ورواية السدي يصححها جمع أهل العلم، وقد بحث الشيخ أحمد شاكر بحثا طويلا في تفسير الطبري في تقويتها.
قال آخر: وقال الدشتي: (وفيه: عن عباد بن منصور قال: سألت الحسن وعكرمة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قالا: جالس) (3)
قال آخر: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى
__________
(1) الضياء الشارق ص 178.
(2) مجموع الفتاوى (16/ 435)
(3) إثبات الحد ص 82.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/280)
على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن عبد الوهاب قال الرحمن على العرش استوى قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد) (1)
قال آخر: وقال الدشتي: (قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت عبدالوهاب يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قال: قعد، وقيل للإمام أحمد بن حنبل: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبد الوهاب .. وقال الإمام أحمد: عبدالوهاب أهل يقتدى به، عافا الله عبدالوهاب، عبدالوهاب إمام، وهو موضع للفتيا .. قيل له: كلما أجاب عبدالوهاب في شيء تقبله؟ قال: (سبحان الله! الناس يختلفون في الفقه، هو موضع) (2)
قال آخر: وعلى هذا التفسير المتأخرون من علمائنا، وقد سئل العلامة ابن عثيمين هذا السؤال: (عثمان الدارمي في رده على بشر المريسي أورد أن الاستواء يأتي بمعنى الجلوس، ما رأي فضيلتكم؟)، فأجاب بقوله: (الاستواء على الشيء في اللغة العربية يأتي بمعنى الجلوس، قال الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 ـ 13]، والإنسان على ظهر الدابة جالس أم واقف؟ .. هو جالس، لكن هل يصح أن نعديه إلى استواء الله على العرش؟ هذا محل نظر، فإن ثبت عن السلف أنهم فسروا ذلك بالجلوس فهم أعلم منا بهذا، وإلا ففيه نظر، وإلا نقول: كيفية الاستواء مجهول، ومن جملة الجهل ألا ندري أهو جالس أو غير جالس، ولكن نقول: معنى الاستواء العلو، هذا أمر لا شك فيه، استوى على العرش يعني: علا علوا خاصا غير العلو العام الذي على جميع المخلوقات) (3)
قال آخر: وتعليقه الأمر على ما ورد عن السلف يدل على إقراره بالجلوس، فقد ورد
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 435)
(2) إثبات الحد ص 88.
(3) لقاء الباب المفتوح (11/ 14)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/281)
عن جماعة كبيرة منهم تفسير الاستواء بالقعود أو الجلوس، ولهذا أورد عبد الله بن أحمد في السنة، والخلال في السنة قول خارجة بن مصعب: (وهل يكون الاستواء إلا بجلوس)، وحتى لو كان خارجة بن مصعب فيه كلام، فإيراد الأئمة لكلامه يعني إقرارهم له، وقد صح عن التابعي الجليل محمد بن كعب القرظي، أنه أثبت الجلوس لله عز وجل، أمام عمر بن عبد العزيز وأقره.
قال آخر: ويدل لهذا ما رواه ابن وهب في تفسيره، قال: وحدثني حرملة بن عمران، عن سليمان بن حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار أقبل الله في ظللٍ من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام، قال القرظي: وهذا في القرآن {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسألك أي رب، قال: بلى سلوني، قالوا: نسألك أي رب رضاك، قال: رضائي أدخلكم دار كرامتي، قالوا: يا رب، وما الذي نسألك فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لا ينقصنا من ذلك شيئا؛ قال: إن لدي مزيدا؛ قال: فيفعل الله ذلك بهم في درجتهم حتى يستوي في مجلسه؛ قال: ثم تأتيهم التحف من الله تحمله إليهم الملائكة، قال: وليس في الآخرة ليل ولا نصف نهارٍ، إنما هو بكرة وعشيا، وذلك في القرآن، في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، وكذلك قال لأهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]) (1)
قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في الحديث عن عبيد بن حنين، قال: بينا أنا جالس إذ جاءني في قتادة بن النعمان، فقال: انطلق بنا يا ابن حنين إلى أبي سعيد الخدري، فإني قد
__________
(1) تفسير القرآن من الجامع لابن وهب (1/ 83)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/282)