الكتاب: القرآن.. وتأويل الجاهلين ج1
الوصف: رواية حول كبرى التأويلات المنحرفة والردود عليها
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1443 هـ
عدد الصفحات: 512
ISBN: 978-620-4-72026-5
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
هذا الكتاب هو المقدمة الخامسة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثالث من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [تأويل الجاهلين]
ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي لا يقتصر تأويلها على الانحراف في فهم القرآن الكريم فقط، بل له تأثيره الواقعي أيضا، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، والتي يمكن أن تشمل الدين، ويمكن أن تشمل الدنيا.
ومع كثرة التأويلات المنحرفة عن التنزيل، والتي تكاد تشمل كل آية من القرآن الكريم إلا أننا وجدنا من خلال تطبيق ما أسميناه [التأويل الواقعي] أن من يُطلق عليهم لقب [السلفية]، أو [أهل الحديث]، أو [الوهابية]، وغيرها من الألقاب، هم أجدر الناس بهذا النوع من التأويل.
ولذلك نراهم يخالفون الأمة جميعا وبمدارسها المختلفة في تلك التأويلات، والتي لم تقتصر على الجانب النظري فقط، بل تعدته إلى إحداث فتن كثيرة في الواقع.
وقد تجلت في بدايتها بتكفير الأمة من خلال اتهامها بالتعطيل والجهمية، نتيجة تنزيهها لله تعالى عن الجسمية ولوازمها.
ثم ترقت إلى ما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تأويل كل الآيات الواردة في المشركين وتطبيقها على المسلمين بجميع مدارسهم، وعدم الاكتفاء بذلك، بل محاربتهم وسفك دمائهم.
ثم ترقت إلى ما حصل في عصرنا من إنكار للحقائق العلمية القطعية، وتأويل الآيات القرآنية بخلاف ما يقتضيه العلم، مما جر فتنة كبيرة لا نزال نعاني آثارها.
ومثل ذلك ما حصل في كل تاريخ هذه الطائفة من تشويه للأنبياء عليهم السلام، وتفسير ما ورد في القرآن الكريم من المتشابه في شأنهم بالروايات الإسرائيلية، وبذلك شوهوا القيم النبيلة التي ضرب الله تعالى لها الأمثال بتلك القصص التي أوردها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/8)
هذا الكتاب هو المقدمة الخامسة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثالث من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [تأويل الجاهلين]، فقال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)(1)
ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات المقصودة بقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
وبذلك؛ فإن تأويل هؤلاء الجاهلين لا يقتصر على الانحراف في فهم القرآن الكريم فقط، بل له تأثيره الواقعي أيضا، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بإحداث الفتنة، والتي يمكن أن تشمل الدين، ويمكن أن تشمل الدنيا.
ومع كثرة التأويلات المنحرفة عن التنزيل، والتي تكاد تشمل كل آية من القرآن الكريم إلا أننا وجدنا من خلال تطبيق ما أسميناه [التأويل الواقعي] أن من يُطلق عليهم لقب [السلفية]، أو [أهل الحديث]، أو [الوهابية]، وغيرها من الألقاب، هم أجدر الناس بهذا النوع من التأويل.
ولذلك نراهم يخالفون الأمة جميعا وبمدارسها المختلفة في تلك التأويلات، والتي لم تقتصر على الجانب النظري فقط، بل تعدته إلى إحداث فتن كثيرة في الواقع.
__________
(1) الحديث مروي في المصادر السنية والشيعية، ومنها: البيهقي في السنن الكبرى 10/ 209، ومعاني الأخبار ص 33.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/9)
وقد تجلت في بدايتها بتكفير الأمة من خلال اتهامها بالتعطيل والجهمية، نتيجة تنزيهها لله تعالى عن الجسمية ولوازمها، وتفسير كل ما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ذلك، وفق أساليب اللغة العربية، ووفق الآيات المحكمة التي تنزه الله تعالى عن مشابهة خلقه.
ثم ترقت إلى ما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تأويل كل الآيات الواردة في المشركين وتطبيقها على المسلمين بجميع مدارسهم، وعدم الاكتفاء بذلك، بل محاربتهم وسفك دمائهم، وتهديم الآثار التي وضعت للصالحين، لتكون منارة هدى يهتدي بها المهتدون.
ثم ترقت إلى ما حصل في عصرنا من إنكار للحقائق العلمية القطعية، وتأويل الآيات القرآنية بخلاف ما يقتضيه العلم، مثل قولهم بدوران الشمس حول الأرض، وثبات الأرض، ونحو ذلك، مما جر فتنة كبيرة لا نزال نعاني آثارها.
ومثل ذلك ما حصل في كل تاريخ هذه الطائفة من تشويه للأنبياء عليهم السلام، وتفسير ما ورد في القرآن الكريم من المتشابه في شأنهم، لا بالمحكم الذي ورد فيه، وإنما بالروايات الإسرائيلية، وبذلك شوهوا القيم النبيلة التي ضرب الله تعالى لها الأمثال بتلك القصص التي أوردها.
وبناء على هذا قسمنا هذا الكتاب إلى أربعة فصول، تناولنا في كل فصل نوعا من أنواع تلك التأويلات، وذكرنا الردود المفصلة لعلماء الأمة بمدارسها المختلفة عليها.
أما الفصل الأول؛ فتناولنا فيه الآيات الكريمة التي استعملها من لقبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلقب [الجاهلين] في الحكم على الأمة بالشرك نتيجة احترامها للصالحين وتوقيرها لهم، وتوسلها إلى الله بهم، أو بناء الأضرحة والمشاهد على قبورهم وزيارتها، تأسيا بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي عظمته الأمة من أول عهدها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/10)
وقد استعرضنا كل الأدلة التي يعتمد عليها المؤولون الجهلة، ومن مصادرها المعتمدة، وذكرنا الردود المفصلة عليهم، سواء تلك التي حصلت في عهد الشيخ ابن عبد الوهاب، أو التي سبقته، أو التي تلته.
أما الفصل الثاني، وهو أطول الفصول؛ فتناولنا فيه المنهج الذي اعتمده أهل الحديث أو السلفية في تفسير ما ورد في القرآن الكريم من إضافات لله تعالى كاليد والعين والوجه والاستواء ونحوها، والتي حملوها على ظواهرها الحسية، وبذلك وقعوا في التجسيم والتشبيه.
وقد ذكرنا ـ كذلك ـ أدلتهم المفصلة سواء من فهومهم لتلك الآيات الكريمة، أو ما استندوا إليه من أحاديث شريفة، ثم ذكرنا الردود المفصلة عليهم، بعد التعريف بمناهجهم ومصادرهم ومناقشتها، وبتفصيل شديد، لأهميتها، وكونها لا ترتبط فقط بالعقائد، وإنما بالفتن التكفيرية ونحوها.
ثم استعرضنا كل الآيات الكريمة التي اشتبهت عليهم، وبينا تفسيرها الصحيح، ومن المدارس الإسلامية المختلفة، ومثلها ما استدلوا به من أحاديث، ببيان ضعفها، أو بتأويلها بما يتناسب مع تنزيه الله تعالى.
أما الفصل الثالث؛ فتناولنا فيه التأويلات المشوهة للأنبياء عليهم السلام من خلال استعمال بعض ما ورد في القرآن الكريم من المتشابهات، وبينا الفهم الصحيح لها، والذي ينسجم مع عصمتهم عليهم السلام، كما ينسجم مع دعوة القرآن الكريم للاهتداء والاقتداء بهم.
أما الفصل الرابع؛ فتناولنا فيه ما ورد في تفاسير السلفية الحديثة للآيات التي تتحدث عن الكون، والتي خالفوا فيها جمهور المسلمين الذين لم يروا فيها أي تعارض بينها
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/11)
وبين العلم، وذكرنا التفسير الصحيح لها، والذي ينسجم مع العلم القطعي الحديث، بل يبين مدى دقة القرآن الكريم في التعبير عن تلك الحقائق العلمية.
أما الجانب الروائي من الكتاب؛ فهو يحاول أن يحاكي ما قام به الوهابية من قتل للمسلمين بسبب تلك القضايا التي طرحناها، وهي تصور مجموعة من المؤمنين يتعرضون للأسر، أو يعرضون أنفسهم له، حتى يتاح لهم في جلسة المحاكمة العلنية، أن يعبروا عما يؤمنون به، لأنهم وجدوا أنه الوسيلة الوحيدة التي يُسمح لهم فيها بالكلام.
وهؤلاء المؤمنون هم تلاميذ المعلم، والذي سميته [الراسخ]، الذي هو أستاذ هذه الرحلة استنباطا من قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
وبعد تلك المحاكمات، والتي استمرت أربعة أيام، وحين موعد الإعدام، تحدث أحداث كثيرة، نترك للقارئ الكريم الاطلاع عليها.
وقد رجعنا في هذا الكتاب إلى الكثير من المصادر الكلامية وكتب التفسير وغيرها، بالإضافة إلى المصادر التي يعتمد عليها السلفية، وقد حاولنا أن نكون موضوعيين قدر الإمكان؛ فلذلك انتقينا من مصادرهم أقواها وأرجحها عندهم، حتى يكون الرد متناسبا معها، وبمستواها، مع العلم أننا في بعض الأحيان أو في الكثير منها نجعل تعبيرنا عن القول نفسه نوعا من الرد عليه؛ فخير ما يبطل الباطل التعبير عنه بالصيغة التي تتناسب معه.
وننبه إلى أننا في ردودنا المفصلة اعتمدنا المدارس والمناهج المختلفة، ذلك أن البعض قد لا يستطيع فهم رد من الردود بسبب لغته أو منهجه؛ فلذلك وضعنا له ردودا أخرى وبمناهج مختلفة.
بالإضافة إلى اعتمادنا على المدارس الإسلامية المختلفة، لأن الخلاف في هذه القضايا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/12)
ليس بين تلك المدارس، وإنما بينها وبين المدرسة السلفية.
ونعتذر في الأخير لطول الكتاب؛ فهدفنا من هذه السلسلة ـ كما ذكرنا سابقا ـ الاستيعاب والشمول بالإضافة للتقريب والتوضيح، وكلاهما يستدعي التفصيل، والذي قد يستدعي التطويل، والذي يبتعد عن الحشو أو ذكر ما لا داعي لذكره.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/13)
بعد أن طلب مني معلم القرآن أن أهيء نفسي للرحلة الخاصة بتعلم ما يتعلق بـ[القرآن .. وتأويل الجاهلين] رحت أتدبر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، ولمدة طويلة.
وقد جعلني تدبرها أخشى على نفسي وديني؛ ذلك أن الله تعالى أخبر أن الذين يتبعون المتشابه، ويبتغون تأويله هم الذين زاغت قلوبهم وانحرفت .. وانحرفت حياتهم ومصيرهم بسبب ذلك.
وفي نفس الوقت ذكرت الآية الكريمة أن الذين ينجون من ذلك الزيغ هم الراسخون في العلم، الذين جمعوا بين العلم الحقيقي الأصيل الذي لم يُحرف ولم يبدل، وبين القلوب الصافية السليمة النقية.
وعندما رحت أبحث عن عدد أولئك الذين تحققوا بذلك الوصف الذي جعلهم يميزون بين المحكم والمتشابه، ويعرفون الحق الذي لم يختلط بالباطل، رأيتهم ثلة قليلة محدودة .. ورأيت معهم جموعا كثيرة من الناس، لا بسبب رسوخهم في العلم، وعلمهم بالتأويل، وإنما لتواضعهم وعبوديتهم وتسليمهم للراسخين، وتنفيذهم الحقيقي لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]
فلذلك تمنيت أن أظل واحدا من تلك الجموع التي راعت الورع والتقوى، واحتمت بحمى الصادقين، ولم تتعرض للفتن، ولم تقع في الزيغ، لا ببحثها في تفاصيل التأويل، وإنما بتسليمها لأهل التأويل من الصالحين والراسخين.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/14)
وقد تذكرت حينها ذلك الأثر المشهور الذي كنت أسمعه كثيرا من شيوخي الذين تربيت على أيديهم في صغري وشبابي، وهو ما يروى مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثر أهل الجنة البله)(1)
وقد تمنيت حينها أن أكون من أولئك البُله الذين يدخلون الجنة، وينعمون برضوان الله؛ فهو خير لي من أكون من أولئك الفطنين الحاذقين الأذكياء الذين يردون المهالك بسبب ذكائهم المفرط.
عندما شعرت نفسي بتلك المعاني، وأردت أن أرفع يدي إلى ربي لأطلب منه أن يجنبني الفتن، ما ظهر منها وما بطن .. بدا لي معلمي الجديد، وهو يشع بأنوار الهداية، ليخاطبني بقوة قائلا: منذ متى كان البله محمودا؟ .. ألم تسمع ثناء الله تعالى على أولي الألباب؟
قلت: بلى .. فقد أخبر الله تعالى أن التذكر والتفكر والاعتبار والتدبر لا يتحقق به إلا أولو الألباب، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال: {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 54]، وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 ـ 18]، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] .. وغيرها من الآيات الكريمة.
__________
(1) الطحاوي في مشكل الآثار (4/ 121)، والبزار في المسند (2/ 411 ـ الكشف)، وابن عدي في الكامل (3/ 313)، وعنه البيهقي في الشعب (2/ 126/ 1367)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 452/1559)، وابن عساكر (12/ 108)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/15)
قال: فهل ذكر الله تعالى أولي الألباب في تلك الآية التي كنت تتدبر فيها، والتي جعلتك تؤثر البله على أولي الألباب؟
قلت: بلى .. فقد ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
قال: فلم لم تحن نفسك، وترتفع همتك لأن تكون منهم؟
قلت: الخشية على نفسي .. والعبرة بما حصل لغيري .. فكم رأيت من أصحاب العقول من أردتهم عقولهم .. بل ما أكثر ما أردت العقول أصحابها.
قال: وما أكثر ما أردى المغفلين والأغبياء والحمقى غفلتهم وحمقهم وغباؤهم.
قلت: لكن أولئك مهما فعلوا فسيبقى ضلالهم محصورا في أنفسهم بخلاف أصحاب العقول.
قال: العقول أكرم من أن تردي أصحابها .. وكيف ذلك، وهي {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] .. وهي نور الله الذي تبصر به الحقائق، وتجلى به الظلمات؟
قلت: أنت تتحدث عن عقل المسلم المسلّم لربه، أو عقل الراسخ في العلم .. لا عن عقول أولئك الذين يتربعون على كل عروش الفلسفة والفكر والعلوم.
قال: العلم والفلسفة والفكر ليست دليلا على العقل بالضرورة .. فقد يتيسر لأغبى الناس لأن يصبح فيلسوفا يكفيه أن تكون لديه القدرة على التعبير، والتلاعب بالكلمات .. ويكفيه أن يجد تلاميذ وجمهورا.
قلت: صدقت في هذا .. فقد كان السفسطائيون يدعون أنهم مفكرون وعقلاء وعباقرة .. وكانوا يعتبرون أعقلهم أكثرهم تلاعبا بالألفاظ.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/16)
قال: وهكذا غيرهم كثير .. حتى أولئك الذين قضوا أعمارهم يسخرون من سفسطائيي اليونان، لم يكونوا سوى نسخ لا تختلف عنهم.
قلت: أجل .. فعند دراستي للفلسفة الغربية، ولكبار فلاسفة الغرب، وجدت من عجائب السفسطة ما لم أجده في أسواق أثينا وأكاديمياتها.
قال: وهكذا في أسواق المسلمين .. بل حتى في أسواق مكة والمدينة .. ما أكثر السفسطة، وما أكثر السفسطائيين، أولئك الذين يتلاعبون بالألفاظ، من دون تأمل في المعاني.
قلت: تقصد مكة والمدينة في عصر الجاهلية؟
قال: وفي عصور الإسلام .. فالسفسطة لا دين لها .. وكل من يحجب عقله عن الحقائق، ويتلاعب بالألفاظ، ويحتال عليها، سفسطائي، وإن سمى نفسه مفسرا أو محدثا أو فقيها.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: ستفهم قصدي عندما ترحل إلى ما كلفك به معلمك .. معلم القرآن .. فقد طلب مني أن أرسلك إلى حيث تتعرف على الجاهلين وتأويلاتهم.
قلت: لكني أخشى على نفسي أن تتأثر بجهلهم؟
قال: لا تخف .. فسيكون معك في رحلتك هذه سبعون من تلاميذي .. أرادوا أن يقدموا أنفسهم قربانا لله .. ليخلصوا بعض البلاد من شر جهلة المؤولين الذين انحرفوا بكلمات ربهم المقدسة عن معانيها وحقائقها وأنوارها .. وسترى من تضحياتهم ما يجعلك تعيش بعض ما ذكره الله تعالى عن أولئك الذين قال فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/17)
قلت: لم أفهم .. هل سيحصل في رحلتي الجديدة هذه سفك للدماء .. أنا لا أحب هذا .. ولم أعتد في رحلاتي أن أرى إلا السلام.
قال: السلام قد يقتضي في بعض الأحيان، أو في الكثير منها أن تُقدّم الدماء في سبيله، ألم تسمع بإذن الله تعالى للمظلومين بالدفاع عن أنفسهم؟
قلت: بلى .. ولكن أولئك مظلومون .. وقد ظلمهم المعتدون المتجبرون.
قال: هناك من يظلم البشر، وهناك من يظلم الحقائق .. وظلم الحقائق أخطر من ظلم البشر.
قلت: فهل سأرى تلاميذك، وهم يحملون السلاح في وجه من يظلم الحقائق؟ .. وهل علي أن أشاركهم في ذلك؟
قال: لا .. ستراهم، وهم يحملون الحجج البالغة والبراهين الدامغة .. ومعها دماؤهم ورؤوسهم، ليبلغوا الحقائق أمام الظلمة الذين شوهوها وحرفوها وأولوها على غير ما هي عليه.
قلت: وأنا .. ماذا سيحصل لي؟
قال: أنت بالخيار بين أن ترضى أن تضحي بنفسك مثلهم .. ويمكنك ألا تفعل وتجنح لما أذن الله لك فيه من التقية.
قلت: ولم لم يجنح تلاميذك للتقية؟ .. أهم يكفرون بها؟ .. أم أنهم أكثر إيمانا ممن استعملها؟ .. أليس هو عمار ذلك الذي تفرح به الجنة، وملئ إيمانا من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه؟
قال: الوضع مختلف .. عمار لم يخش على الحقائق أن تُدنس بتقيته، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحفظها ويدعو إليها .. أما تلاميذي، فهم في بيئة تجعل من تقيتهم وسيلة لتحريف
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/18)
الحقائق .. ولذلك كانوا مطالبين بالشهادة بها أمام الله .. لقد كان وضعهم يشبه وضع الإمام الحسين تماما؛ فقد خشي على تحريف الدين .. وهكذا هؤلاء خشوا على تحريف كلمات ربهم المقدسة؛ فلذلك راحوا يقتدون بالإمام الحسين وأهل بيته في تضحياتهم.
قلت: وعيت هذا .. وأسأل الله أن يمكنني من نفسي، حتى أبذلها في سبيله، وفي سبيل الحق الذي دعانا إليه.
قلت: لقد ذكرت لي أنهم تلاميذك .. فمن أنت؟
قال: أنا مثل جميع معلميك .. نقطة تحت الباء.
قلت: فمن أنت منهم؟
قال: هم يدعونني الراسخ، تيمنا بما ورد في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، وقوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162] وأنا أدعو نفسي عبدا .. والله هو الذي يسمي عباده بحسب علمه بهم.
قلت: لقد تعود جميع المعلمين أن يخبروني عن مسار رحلتي، وما أجد فيها من العلم والحقائق، وما يعترضني من العقبات والعوائق.
قال: ستقضي في هذه الرحلة أربعة أيام في بلاد الجاهلين أو الجاهليين الذين أولوا القرآن الكريم بحسب أهوائهم؛ فلذلك شوهوه وحرفوه وبدلوه، وحولوه من كتاب سلام إلى كتاب عنف، ومن كتاب عقل إلى كتاب خرافة، ومن كتاب حقائق إلى كتاب أباطيل .. ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يقتلون من لا يؤمن بما يدعون إليه، بحجة أن عملهم جهاد في سبيل الله، مع أنه ليس سوى جهاد في سبيل الشياطين.
قلت: لكن كيف أتاحوا لتلاميذك فرصة الدعوة إلى الحقائق؟
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/19)
قال: ألم تسمع بما روي عن بعض الصالحين الذي أراد أن يمر على بلاد بعض المتشددين، ممن يستحلون دماء المسلمين لخلافهم معهم في بعض الآراء؟
قلت: بلى .. حيث ادعى لهم أنه كافر، فتركوه، ولم يقتلوه، وإنما راحوا يسمعونه بعض القرآن، تأويلا منهم لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]
قال: فهكذا فعل تلاميذي، ولكن بطريقة مختلفة .. لقد رأوا أن أئمة الجهل المتحكمين في تلك المدينة لا يسمحون لأحد بالحديث بحرية إلا في محل واحد، وهو مجلس القضاء، حيث يتيحون للمتهمين أن يتحدثوا بكل حرية، وأمام الجموع الكثيرة، قبل إعدامهم .. ولذلك رضوا بأن يحاكَموا، وأن يحكم عليهم بالإعدام في سبيل إيصال الحقائق لأهل تلك المدينة، لينقذوهم من التأويل الذي أوقعهم فيه أئمتهم من الجهلة.
قلت: أنت تذكرني بما ورد في الحديث الذي فُسر به قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4 ـ 8]، من قصة ذلك الذي طلب من الملك أن يذكر اسم الله عليه قبل أن يقتله، ليكون ذلك وسيلة لإيمان عامة الناس، فقد قال للملك: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به .. تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني عَلَى جذع، ثم خذ سهما مِنْ كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم اللَّه رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني)، وقد ورد في تتمة الحديث أن الملك جمع الناس في صعيد واحد، وصلبه عَلَى جذع، ثم أخذ سهما مِنْ كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: (بسم اللَّه رب الغلام)، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/20)
صدغه فمات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام (1).
قال: إن هذا الحديث هو الذي ألهم تلاميذي لأن يقدموا أنفسهم في سبيل تبيين الحق.
قلت: ولكن من يضمن لهم أن يسمح لهم بذلك؟ .. أليس من الممكن أن يقاطعوهم ويمنعوهم إن رأوا لكلامهم تأثيرا في عامة الناس؟
قال: لا تخف .. ففي تلك المدينة يوجد مثل ذلك المؤمن الذي كان يكتم إيمانه، ويمارس التقية الشرعية، وفي محلها المناسب.
قلت: تقصد مؤمن آل فرعون .. ذلك الذي نطق بالحق في الوقت المناسب.
قال: أجل .. فقد استطاع بعض الصالحين أن يصل إلى مناصب عليا في تلك المدينة من غير أن يعرفوه، وهو الذي وعد تلاميذي بأن يسمح لهم بالكلام بحرية.
قلت: فهل سأراه؟
قال: أجل .. ستراه .. وسيبدو لك مثل فرعون وهامان والنمروذ، لكنه في حقيقته لم يكن سوى أحد إخوان مؤمن آل فرعون .. وما أكثرهم.
قلت: فلم لم يقتد بتلاميذك في بيان الحق، وترك التقية؟
قال: لأن وضعه مختلف، ولولا أنه مارس التقية لما استطاع تلاميذي أن يؤدوا واجبهم في البلاغ والتصحيح.
قلت: وعيت هذا .. وأظنني قد استوعبت ما ارتبط بالتقية من أحكام من خلال هذين النموذجين .. نموذج من تركها، ونموذج من استعملها.
قال: أجل .. فعبوديتك لله تجعلك جنديا من جنوده؛ لا تفعل إلا ما تراه مرضيا له،
__________
(1) أحمد (6/ 16) ومسلم (8/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/21)
ومظهرا لدينه .. سواء كان بالتقية والاستتار، أم بالتضحية والمجاهرة.
قلت: لكن ماذا لو حصل لي مكروه .. أو قتلت .. ماذا سيحصل للأحداث، وكيف ستصل للقراء .. ومن سينشرها؟
قال: لا تخف .. فذلك الصالح الذي ذكرته لك، يعرفك، وسيوصل للأمة ما تكتبه إن تعرضت لما سيتعرض له تلاميذي.
قلت: فما هي المحال الكبرى التي سأمر بها في هذه الرحلة .. لأجعلها فصولا لما أكتب؟
قال: ستقضي في رحلتك هذه أربعة أيام .. بعدد الأيام التي سيحاكم فيها تلاميذي .. وأمام جماهير الناس .. فقد خطط ذلك الذي مارس التقية لذلك بعد أن درس القضايا الكبرى التي وقع فيها الانحراف في التأويل .. ولذلك دعا كبار العلماء الذين انحرفوا بالتأويل لطرح ما لديهم أمام تلاميذي، ليجيبوهم على كل إشكال.
قلت: فلم لم يدعهم إلى مناظرتهم بدل ذلك؟
قال: لأنهم لا يؤمنون بمناظرة من يبدعونهم ويكفرونهم .. بسبب كبرهم واستعلائهم .. لذلك لم يجد ذلك الحكيم سوى أن يضعهم في المحل الذي يريدون، ويضع تلاميذي في المحل الآخر، لتتحقق المناظرة، ومن غير أن يشعروا.
قلت: فالقضايا التي سأستمع لها في هذه الأيام الأربعة أربعة إذن؟
قال: أجل .. وهي تشمل كل المسائل التي أولها الجهلة تأويلا منحرفا عن الحقائق.
قلت: فما أولها؟
قال: تأويلهم لتوحيد الله .. حيث جعلوه وسيلة لسفك الدماء، ورمي المؤمنين بالشرك الجلي .. لتأويلهم لما ورد في القرآن الكريم بشأنه.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/22)
قلت: أنت تذكرني بالوهابية الذين قاتلوا المسلمين وقتلوهم وحكموا عليهم بالردة نتيجة قولهم بالتوسل والاستغاثة وزيارة أضرحة الصالحين؟
قال: أجل .. وهؤلاء الذين ستذهب إليهم فرع عنهم، وطائفة منهم .. وهم إن لم يكونوا يشبهونهم في كل أفكارهم، لكنهم يشبهونهم في طريقة تفكيرهم.
قلت: وعيت هذا .. فما الثانية؟
قال: تأويلهم لما ورد في القرآن الكريم من الإضافات لله، كاليد والعين والوجه ونحوها، حيث اعتبروها صفات لله.
قلت: وعيت هذا .. فما الثالثة؟
قال: تأويلهم لما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء، مما أساؤوا فهمه؛ فشوهوا الأنبياء عليهم السلام بذلك أعظم تشويه.
قلت: وعيت هذا .. فما الرابعة؟
قال: تأويلهم لما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن الكون، والذي جعلهم يقعون في الخرافة، ويوقعون معهم كلام ربهم المقدس، حيث فسروه بها.
- - -
ما إن انتهى المعلم من الحديث عن القضايا التي سأمر بها في رحلتي إلى بلاد الجاهلين، حتى وجدت نفسي في السجن مع مجموعة كبيرة من الشباب والكهول، والذين لم أشك أبدا في كونهم تلاميذ معلمي الجديد، ذلك أني بمجرد أن صرت بينهم، راحوا يصافحونني بحرارة، ويسألوني عن معلمي الذي لم يكن سوى معلما لهم قبل أن أعرفه، بل كانت معرفتهم به أكثر من معرفتي.
حاولت أن أستدرجهم في الحديث لأعرف تفاصيل أكثر عن قصتهم، وعلاقتهم
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/23)
بالمعلم، وعلاقتهم قبل ذلك بتلك المدينة، لكنهم أبوا أن يضيفوا حرفا واحد لما قاله المعلم، بل كلهم كان يذكر لي ما كنت أتعود سماعه من المعلمين من قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وقوله له: {إِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70]
وبينما نحن كذلك إذا بنا نسمع السجان، يصيح قائلا: فليتقدم المرتدون إلى الباب، لأسير بهم إلى ساحة المدينة حيث سيستتابون .. فإن تابوا وإلا قطعت أعناقهم، وأمام الملأ من الناس.
سرت معهم إلى ساحة المدينة، وهناك وجدنا جموعا كثيرة من الناس، ثم ما لبثنا حتى وضعونا في قفص المتهمين، حيث كان يقابلنا في مجلسنا منصة كبيرة جلس فيها القاضي، وأمامه مقصلة بجانبها رجل ضخم يحمل سيفا كبيرا، وكانوا يدعونه [السياف] .. وفي مقابلهم جلس على طاولة كبيرة بعض الشيوخ الذين أحضروهم للاستتابة والبيان.
وقبل أن تبدأ المحاكمة جاء رجل على فرس له، ثم قال مخاطبا القاضي والشيوخ بكل قسوة: لا تنسوا .. طبقوا الشريعة بحروفها .. وإياكم والتساهل والتمييع والتلاعب بالأحكام الشرعية .. ولا تأخذكم بهم رأفة ولا رحمة .. لكن لا تنسوا أن تسمحوا لهم بالكلام بكل حرية، ليدافعوا عن أنفسهم، حتى لا يعتقد أحد أننا نظلمهم بأحكامنا .. فنحن ما أقمنا هذه المدينة إلا لنطبق شريعة الله فيها.
ثم قال: وإن رأيتم بعضهم يكتب؛ فاتركوه يفعل ما يريد؛ فلعله يهتدي إلى الحق بعد سماعه منا، ومن هؤلاء الذي انحرفوا عنا.
ثم التفت للشيوخ الجالسين في مواجهتنا، وقال: لقد اخترناكم باعتباركم من كبار علماء هذه المدينة .. فلذلك لا تبثوا كلماتكم وشروحكم لهؤلاء المجرمين المبتدعين فقط،
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/24)
وإنما اطرحوا كل ما لديكم ليعلم الحضور مبلغ علمكم، ومبلغ الحق الذي تحملونه، في نفس الوقت الذي يعرف فيه مبلغ جهل أعدائكم، وأعداء الحق.
بعد أن ألقى هذه التعليمات انصرف .. ولم أره بعدها إلا في نهاية الرحلة كما سأحكي لكم خبره.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/25)
أولا ـ المؤولون .. والتوحيد والشرك
بعد انصراف ذلك المؤمن الصالح المتستر بستر العنف والقسوة، قال القاضي موجها كلامه لتلاميذ الراسخ: بناء على ما وردنا من الدعاوى المرتبطة بكم، رأينا أن تقسم الجلسات إلى أربعة مجالس .. في كل يوم سنعقد جلسة نتناول فيها قضية من القضايا الكبرى .. وقد فعلنا ذلك رحمة بكم، لعلكم عند عودتكم للسجن كل يوم تراجعون أنفسكم، وتتوبون إلى الله، وحينها سنقبل توبتكم .. ولذلك لن نستعجل في تطبيق أحكام الشريعة عليكم إلى نهاية اليوم الرابع.
ثم التفت إلى الشيوخ، وتحدث معهم بكلام كثير لم أسمعه، ثم قال بعدها: جلستنا اليوم لمحاكمتكم، مرتبطة بأكبر قضية من قضايا الدين، وهي التوحيد المتنافي مع الشرك .. وقد بلغنا، وبأدلة كثيرة أنكم وقعتم في الشرك الجلي الذي يُحكم على صاحبه بالردة.
وطبعا لن أستعجل في الحكم عليكم، بل سأنتظر حتى يشرح لكم شيوخنا الأعزاء حيثيات الحكم، ثم يبينوا لكم علله وأسبابه من خلال ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة وكلام علمائنا المحققين الراسخين .. ثم يتاح لكم بعد ذلك الدفاع عن أنفسكم .. وفي الأخير .. سنرى هل ستتوبون؛ فيفرج عنكم، أم ستظلون على غيكم، وحينها سنسلمكم لهذا السياف الذي سيعرف دوره معكم؟
ما إن قال ذلك، حتى قام كبير الشيوخ، وقال: بناء على ما قال القاضي، وبناء على توجيهات الوزير المكلف بهذه الشؤون؛ فإننا في جلستنا الأولى هذه سنطرح عليكم الحق والصواب في القضايا المتعلقة بالتوحيد والشرك .. وذلك من خلال ثلاث مسائل كبرى .. ونحن طوع أمر القاضي في البدء بطرح ما لدينا.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/26)
قال القاضي: نعم .. أظن أن الوقت مناسب لأن نبدأ .. فابدؤوا بطرح المسألة الأولى، وأرجو من المتهمين أن يصغوا جيدا، وسأسمح لهم بالكلام بعد سماعهم للشيوخ الأفاضل، وأتمنى أن يكون كلامهم خاصا بالتراجع والتوبة، لا بالمناقشة والجدل .. فأنتم تعلمون أن الله نهى عن الجدل.
قام أحد الشيوخ، وقال: كما علمتم؛ فإن القضية الأولى التي ندعوكم فيها إلى التوبة ومراجعة أنفسكم مرتبطة بتوحيد الله، الذي هو الغاية العظمى من إرسال الرسل، وقد رأينا أنكم اقتحمتم حمى هذا التوحيد بما وقعتم فيه من نواقضه، من تلك الشركيات التي اتفق جميع العلماء على اعتبار من وقع فيها مشركا شركا جليا.
قال آخر: وبناء على ذلك قاسوا الذين يدّعون الإسلام ويقعون في تلك الشركيات، فحكموا عليهم بالشرك .. لا حكما مجردا فقط، وإنما ربطوه بالعقوبة الشرعية المناسبة لهم، وهي القتل، لارتدادهم عن دينهم.
قال آخر: ولذلك سنذكر لكم أقوال علمائنا الربانيين في هذين الوجهين ـ ارتباط التكفير بالتوحيد أو ببعض أقسامه، وتشبيه أدعياء الإيمان بالمشركين ـ وأدلتهم على ذلك .. فاسمعوا وعوا وتوبوا وارجعوا، لتحفظوا دينكم ونفوسكم.
قال القاضي: فحدثونا شيوخنا الأفاضل عن الوجه الأول.
قال أحد الشيوخ: الوجه الأول مرتبط بالسبب الأكبر الذي أوقع هؤلاء، كما أوقع
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/27)
أكثر المسلمين في توهم أن كل من شهد شهادة التوحيد؛ صار مسلما وموحدا، مع أن التوحيد أكبر من أن ينحصر في ذلك.
قال آخر: ولهذا؛ فقد اعتنى أئمتنا وعلماؤنا بتقسيم التوحيد، والتفريق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ذلك أن مشركي العرب كانوا مقرّين بتوحيد الربوبية، ولكنهم أنكروا توحيد الألوهية والعبادة، كما حكى القرآن الكريم عنهم قولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]
قال آخر: وقد قال شيخنا محمد بن عبد الوهاب في ذلك: (فإذا تحققت أنهم مقرّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] .. فإقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وإن قصدهم الملائكة والأنبياء، والأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم .. وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله الله)(1)
قال آخر: وقد بين الشيخ الإمام الفرق بين التوحيدين، فقال: (فإذا قيل لك ما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر، وإنبات النبات، وتدبير الأمور .. وتوحيد الإلهية فعلك أيها العبد مثل: الدعاء، والرجاء، والخوف، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، والنذر، والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة)(2)
قال آخر: ووضح الشيخ الإمام اجتماع الربوبية والألوهية، وافتراقهما، فقال: (اعلم
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 1/ 156.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 1/ 371.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/28)
أن الربوبية والألوهية يجتمعان، ويفترقان كما في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 1 ـ 3]، وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك؟ كما في قول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، فالربوبية في هذا هي الألوهية، وليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة)(1)
قال آخر: هل رأيتم كيف وضح الشيخ الإمام، وفصّل متى يجتمع توحيد الربوبية والألوهية، ومتى يفترفان مما أثبت صواب هذا التقسيم والتفريق، وأن نصوص القرآن والسنّة تثبته وتدل عليه؟
قال آخر: وهكذا رد حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه [التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] على من أدعى أن الألوهية هي القدرة على الاختراع، حيث ذكر قوله، ثم أجاب عليه بقوله: (لم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرّين بهذا المعنى معترفين، فلم يقولوا أن العالم له خالقان، أو مدبران بل الخالق والمدبر واحد، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] .. فهذا التوحيد من الواجب على العبيد، ولكن لا يحصل به التوحيد لإله كل العبيد، ولا يخلص بمجرده عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر، ولا يغفره الله يوم تبلى السرائر، بل لابد أن يخلص الدين
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 5/ 17.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/29)
كله لله فلا يتأله بقلبه غير الله، ولا يعبد إياه مخلصاً له الدين)(1)
قال آخر: وهكذا رد على من زعم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لغير الله، فقال: (زعمه أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون النفع والضر، والعطاء والمنع من غير رب العالمين، ويرد هذا صريح قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 ـ 41]، وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106])(2)
قال آخر: وهكذا ذكر العلامة محمد بن ناصر الحازمي في كتابه القيم [إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان] الغاية من إرسال الرسل، حيث أشار إلى الفرق بين التوحيدين، فقال: (اعلم أن الله تعالى لم يبعث رسله عليهم السلام، وينزل كتبه ليعرف خلقه بأنه هو الخالق لهم، الرازق لهم .. ونحو ذلك، فإن هذا يقرّ به كل مشرك قبل بعثة الرسل، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] .. بل بعث رسله، وأنزل كتبه، لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة، ولا يتمّ إلا بأن الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة، والاستعانة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره، ولا من غيره، ولا يدعى مع الله أحد .. وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله تعالى إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم، وتقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم عنده مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها، وخالقهم، ورازقها، ورازقهم، ومحييها ومحييهم، ومميتها ومميتهم)(3)
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 180.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 180.
(3) إيقاظ الوسنان، ص 2.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/30)
قال آخر: ثم قال مبيناً وجه الشبه بين المشركين الأولين وبين عبّاد القبور: (فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإنما استغاثوا بالأموات قصداً لإنجازه ما يطلبونه من الله عزّ وجل، قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله سبحانه هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز)(1)
قال آخر: ومثل ذلك أورد الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبابطين هذا التقسيم، وساق بعض أقوال أهل العلم التي توضح ذلك التقسيم وتقرره، ثم قال: (وأما الإقرار بتوحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره، فهذا يقر به المسلم والكافر ولا بد منه، لكن لا يصير الإنسان به مسلماً حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار، فقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الألوهية، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31])(2)
قال آخر: ثم نقل عن بعض المفسرين قوله في تفسير الآية: (إذا قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، لكن في طرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة عند الله، اتخذناها أصناماً على
__________
(1) إيقاظ الوسنان، ص 2.
(2) الانتصار، ص 8، 9.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/31)
هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وقالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً متوكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله)(1)
قال آخر: ومثل ذلك ذكر الشيخ صالح بن محمد الشثري في كتابه [تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان] الفرق بين التوحيدين من خلال إقرار المشركين بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فقال: (توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا به، فلو أشرك أحد فيما يختص بالرب من ذلك، لكان شركاً في توحيد الربوبية لا يغفر، والرب سبحانه يأمر نبيّه في كتابه العزيز بأن يحتج على المشركين في شركهم في توحيد الألوهية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، وقال: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34]، وغيرها من الآيات .. أتراهم مشركين في ربوبيته التي أقروا بها أم شركهم في توحيد الإلهية بجعل معبوديهم وسائط بينهم وبين الله؟)(2)
قال آخر: وقال في بيان نوع الشرك الذي كان عليه مشركو الجاهلية: (إذا عرفت أنهم لم يعتقدوا فيمن عبدوهم صفات الربوبية، وإنما جعلوهم وسائط بينهم وبين الله يحبونهم كحب الله، يدعونهم ويتذللون لهم، ويتضرعون إليهم لطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، بزعمهم أن رتبتهم قصرت عن التأهل لسؤال رب الأرض والسماوات قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
__________
(1) الانتصار، ص 8، 9.
(2) تأييد الملك المنان، ص 24، 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/32)
[الزمر: 3])(1)
قال آخر: ومثل ذلك قال الشيخ العلامة الكبير المحدث الفقيه النحرير محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه [صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان]، حيث قال في الجواب على اعتراض دحلان: (لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبود ليس لنا معبود غيره، وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية)(2)، وبعد ذكره الآيات الدالة على كلا الأمرين، قال: (ولا أظنك شاكاً في أن مفهوم الرب، ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر، وفي اعتقاد المسلمين الخالص واحداً، وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيد، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد (الرب) ولا يعتقد توحيد (الإله)، وأن يشرك واحد من المبطلين في الإلهية، ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلاً في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء والخالق، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومصداق الإله واحد؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرّون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما ويشركون في الألوهية والعبادة)(3)
قال آخر: ثم ذكر أن كون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين، فقال: (فعبّاد القبور يقرون بتوحيد الرازق، والمحي والمميت،
__________
(1) تأييد الملك المنان، ص 26.
(2) صيانة الإنسان، ص 444.
(3) صيانة الإنسان، ص 446، 447.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/33)
والخالق والمؤثر، والمدبر والرب، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفاً وطمعاً، ويذبحون لهم، ويطوفون لهم، ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءاً لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية، وهذه الأمة .. أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان، والمضاف في كليهما كلي، وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه في كليهما، فإن الربوبية والألوهية منتزعان من الرب والإله، وهم كليان، أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر، والمربي، والجابر، والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي .. وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معنى كلي، فالمنتزع منهما أيضاً يكون معنى كلياً، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره)(1)
قال آخر: وبعد هذه المقدمات المهمة، قال: (إذا تقرر هذا نقول: يمكن أن يوجد في مادة توحيد الربوبية ولا يوجد توحيد الألوهية لمن يعتقد أن الرب واحد، ولا يعتقد أن الإله واحد، بل يعبد آلهة كثيرة، ويمكن أن يوجد في مادة توحيد الألوهية ولا يوجد توحيد الربوبية لمن يعتقد أن المستحق للعبادة واحد، ولا يعتقد وحدانية الرب، بل يقول إن الأرباب كثيرة متفرقة، ويمكن أن يجتمعا في مادة واحدة كمن يعتقد أن الرب والإله واحد، فثبت أن مفهوم توحيد الربوبية مغاير لمفهوم توحيد الألوهية، نعم توحيد الربوبية من حيث أن الرب مصداقه إنما هو تعالى لا غير يستلزم توحيد الألوهية من حيث أن الإله مصداقه
__________
(1) صيانة الإنسان، ص 447 – 449.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/34)
إنما هو الله تعالى لا غير، لكن هاتين الحيثيتين زائدتان على نفس مفهومي التوحيدين، ثابتان بالبرهان العقلي والنقلي)(1)
قال آخر: ثم قال: (على أنا لو قطعنا النظر عن بحث تغاير مفهومي التوحيدين، فمطلوبنا حاصل أيضاً، فإن توحيد الألوهية لا يتأتى إنكاره من أحد من المسلمين .. وهو كاف لإثبات إشراك عبّاد القبور، فإنهم إذا دعوا غير الله رغبة ورهبة، وطلبوا منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحروا لهم، ونذروا لهم، وطافوا لهم، وحلقوا لهم، وصنعوا غير ذلك من العبادات فقد عبدوا غير الله، واتخذوهم آلهة من دون الله)(2)
قال آخر: ثم ساق ما استدل به دحلان على اتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، مثل قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، حيث اعتبرها دليلا على أن الله اكتفى من البشر بتوحيد الربوبية، لأنه لم يقل (ألست بإلهكم)، ثم رد عليه بقوله: (إن غاية مايثبت من الآية أن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية توحيد الألوهية، وهذا لا دلالة له بشيء من الدلالات على اتحادهما، فرب حكم يذكر في آية دون أخرى، وتوحيد الألوهية وإن لم يذكر في هذه الآية فهو مذكور في آيات أخرى، وتوجيه الاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منحصراً في أنهما لما كانا متحدين اكتفى بذكر أحدهما، بل هناك احتمالات أخر)(3)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمال الأول، وهو (أن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية، وهي أن غير الرب لا يستحق العبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، كما قال ابن كثير تحت قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
__________
(1) صيانة الإنسان، ص 447 – 449.
(2) صيانة الإنسان، ص 449.
(3) صيانة الإنسان، ص 450.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/35)
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]: يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانية ربوبيته على وحدانية ألوهيته)(1)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمال الثاني، وهو أن في الآية اختصاراً والمقصود: (ألست بربكم وإلهكم؟)، واستدل عليه بأثر ابن عباس: (إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق)(2)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمال الثالث، وهو (أن المراد بالرب المعبود، كما قال القرطبي: الرب المعبود، وعن عكرمة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، قال: يسجد بعضنا لبعض، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره، وقال الله تعالى في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فالمراد بالأرباب في تلك الآية هم المعبودون)(3)
قال آخر: ومثل ذلك رد الشيخ العلامة سليمان بن سحمان في كتابه [الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد] على دعاوى الحداد في اعتراضه على ذلك التقسيم، فقال: (وأما قوله: فيا عجباً هل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان توحيده صحيحاً لأخرجه من النار .. والجواب: لم يقل الشيخ أن للكافر المشرك توحيداً صحيحاً، ولكن أخبر أن مشركي العرب كانوا مقرّين بأن الله وحدة خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
__________
(1) صيانة الإنسان، ص 450.
(2) صيانة الإنسان، ص 452.
(3) صيانة الإنسان، ص 454.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/36)
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، قال طائفة من السَّلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره، فإيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وهذا الإيمان بتوحيد الربوبية لا يدخلهم في الإسلام وهم يعبدون غير الله، أي يشركون به في توحيد الألوهية)(1)
قال آخر: ومثل ذلك ذكر الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين ضرورة التفريق بين نوعي التوحيد، وذلك بعد أن أورد بعض الآيات الدالة على ذلك، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 86 ـ 89]، ثم قال بعدها: (فتبيّن لك أن المشركين من العرب الأُول كانوا يقرون بربوبية الله تعالى، وينكرون وحدانيته تعالى في الألوهية أي العبودية، ويقولون إنكاراً منهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .. فلأجل ذلك تنوع التوحيد بنوعين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فإنكار هذا إنكار الحس)(2)
قال آخر: ومثل ذلك أجاب عبدالله القصيمي في كتابه [الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم] على دعاوى الدجوي، وتتبعها بالرد والنقاش، ثم أعقبها بالبراهين الدالة على خلاف تلك الدعوى .. ومن ذلك استدلال الدجوي على أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله مستدلاً لذلك بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، فقد أجاب القصيمي على هذا بأنه ليس في الآية الكريمة إنكار للرحمن، وإنما فيها استفهام عنه (بما) التي يسأل بها حقيقة الشيء، والمصدق بوجود الأمر يسأل عنه، لا خلاف بين اللغويين في ذلك فهم يقولون: ما الروح؟ كما قال تعالى:
__________
(1) الأسنة الحداد، ص 117.
(2) الحق المبين، ص 36.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/37)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وهم يؤمنون بها .. فالسؤال عن الأمر ليس إنكاراً له (1).
قال آخر: ثم قال: (هب ذلك جحوداً، ولكن هل هو جحود لذاته تعالى؟ أم جحود لتسميته بالرحمن؟ هو لم يدلل على ما قال، وقد سمع العربي لفظ عقار وخندريس وكميت، من أسماء الخمر، فيقول ما العقار وما الخندريس وما الكميت؟ وهو مؤمن بها، وقد يكون شربها، ولكن يجحد تسميتها بهذا الاسم، أو يجهلها، فالاسم غير المسمى، والمدلول غير الدال)(2)
قال آخر: ثم رد القصيمي مقالة الدجوي بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر الفرق بين التوحيدين فقال: (نقول: إما أن يريد أنهم لم يذكروه باللفظ المذكور، وإما أن يريد أنهم لم يذكروه ولا بالمعنى، ولم يفهموا من دخل في الدين أن هناك توحيدين، إن أراد الأول فلا يضرنا ولا ينفعنا .. وإن أراد الثاني نازعناه، وقلنا: إنك لم تقم دليلاً عليه، بل نقول إن الرسول وأصحابه أعلموا الداخلين في الدين أن هناك توحيد ألوهية وربوبية بقولهم لهم قولوا لا إله إلا الله، ولا تعبدوا إلا الله ولا تدعوا إلا إياه، مع قولهم لا خالق ولا رازق إلا الله، وهؤلاء يريدون أن يكون كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول: ينقسم التوحيد إلى قسمين)(3)
قال آخر: ثم ذكر البراهين الدالة على الفرق بين توحيد الألوهية، ومنها أن كتب اللغة والتفسير فرقت بين معنى كلمة الإله، وبين معنى كلمة الرب، فإله بمعنى المعبود، والرب بمعنى المالك للشيء وصاحبه (4).
قال آخر: ومنها ما ورد في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ
__________
(1) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 23.
(2) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 23.
(3) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 59.
(4) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 67.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/38)
النَّاسِ} [الناس: 1 ـ 3]، حيث ذكر الرب ثم المالك ثم الإله، فلو كان الرب والإله شيئاً واحداً لكان في الآية تكرار ينبو بها عن حدّ البلاغة (1).
قال آخر: ومنها اتفاق أهل اللغة على أن إلهاً بمعنى مألوه ككتاب أي مكتوب، وأن رباً بمعنى راب أي اسم فاعل، لأنه يقال رب الناس أي ملكهم، فلا يصح تفسير اسم الفاعل باسم المفعول (2).
قال آخر: ومنها أن القرآن الكريم أخبر أن الكفّار كان يسمون أصنامهم آلهة، حيث قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53]، ولم يخبر في آية أنهم قالوا لها أرباباً، فلو كان لا فرق بين اللفظين لسموها أرباباً كما سموها آلهة (3).
قال آخر: ومنها أن الذي يحقن دم المشرك أن ينطلق بكلمة الإخلاص على ألا يأتي بما ينقضها، وهذه الكلمة التي تحقن الدم هي لا إله إلا الله باتفاق المسلمين، ولا يعصمه أن يقول: لا خالق إلا الله، بإجماع المذاهب، ولو كان معنى الإله والرب واحداً لما عصم دمه أحد اللفظين دون الآخر (4).
قال آخر: ومثل ذلك ذكر الشيخ حسين بن مهدي النعمي إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية، دون الإقرار بتوحيد العبادة، فقال: (وقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه، وأصول أساليبه، فلم نجده تعالى حكى عن المشركين أن عقيدتهم في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه، أنها تخلق، وترزق، وتحي، وتميت، وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت، والميت من الحي .. بل إذا ضاق عليهم الأمر واشتدت بهم الكرب، فزعوا إلى الله وحده، فإذا سئلوا عن حقيقة دينهم هل هو شرك في الربوبية؟ دانوا وأذعنوا
__________
(1) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 67.
(2) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 67.
(3) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 67.
(4) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص 67.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/39)
للرب وحده بالاختصاص بكل ذلك والإنفراد، وهذا واضح لمن ألقى السمع للقرآن فيما حكى عنهم .. فهذا شرك القوم واتخاذهم الآلهة الذي كان سبباً أن سجّل عليهم ربهم القاهر فوق عباده بالشرك والغي والضلال والكفر والظلم والجهلة)(1)
قال آخر: وقال: (ومن أمعن النظر في آيات الكتاب وما قصَّ من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أسّ الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً، وكثرةً وانتشاراً وشهرةً، هو دعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له، وأن الغافلين كانوا بنقيض هذه الصفة من دون أن يضيفوا لما عبدوا شيئاً من صفات الربوبية كخلق ورزق وغيرهما، أو يجعلوا لها من ذواتها وصفاتها مقتضياً وملزماً للعبادة، بل أعربوا عن اتخاذها آلهة لتقريبهم إلى الله وشفاعتها عنده)(2)
التفت الشيخ الأكبر إلى القاضي، وقال: هذه بعض النقول عن أئمة الدين وأعلامه، في تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتفريق بينهما، وأن ذلك تقسيم وتفريق تثبته الأدلة، وتقرّره النصوص، ويشهد له أئمة العلم والهدى؛ فليس تقسيماً مبتدعاً استحدثه ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، بل الصواب والحق في هذا التقسيم والتفريق، والزيغ والضلال في الإعراض عنه، والاعتراض عليه.
قال آخر: ولهذا اعتبر كل شيوخنا جميع المسلمين في جميع البلاد الاسلامية الذين وقعوا في تلك النواقض كفارا ومشركين، لا يشفع لهم في ذلك صلاة ولا صوم ولا تلاوة قرآن.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه الأمير عبد العزيز بن سعود في رسالة إلى أهل المخلاف السليماني يعرفهم بدين الإسلام الصحيح، فقد قال: (إن الله تبارك وتعالى، أرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع
__________
(1) معارج الألباب، ص 202.
(2) معارج الألباب، ص 214.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/40)
التام؛ وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته، هو: إخلاص الدين، لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك)، ثم وضح معنى ذلك الشرك، فقال: (وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم؛ فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له؛ ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له؛ وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له؛ وهذا معنى قول لا إله إلا الله؛ فإن المألوه هو: المقصود، المعتمد عليه؛ وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه. فمن عرف هذه المسألة، عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم)(1)
قال آخر: بل إنه ذكر أن المسلمين في زمانه ـ بسبب تلك السلوكات ـ أكثر شركا من المشركين الذين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في ذلك: (المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء؛ وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]. والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة)(2)
قال آخر: ولا يزال إخواننا المخلصون في كل بقاع الأرض يتبنون هذه المواقف، ومن الأمثلة عنهم العلامة محمد حامد الفقي ـ وهو علم من كبار علمائنا في مصر ـ فقد قال: (كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة. ومع هذا فصار أعظم آلهتهم .. وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني؛ كما يعتقد أهل مصر في البدوي. وعبد القادر
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 265)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 41)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/41)
من متأخري الحنابلة .. كما جرى من الرافضة مع أهل البيت .. وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به، وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي، وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من يعتقد فيه هؤلاء لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيره، وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا .. وفي الحجاز واليمن وغيرها من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى، كعبادتهم للجن وطلبهم للشفاعة منهم)(1)
قال القاضي: وعينا هذا .. وشكرا لكم .. فحدثونا ـ شيوخنا الأفاضل ـ عن الوجه الثاني.
قال أحد الشيوخ: الوجه الثاني مرتبط بالرد على تلبيس الخصوم، وتمويههم على سواد الناس، حيث جعلوا عبّاد القبور والمتوسلين والمستغيثين بالموتى، مسلمين موحدين، بحجة أنهم يعترفون بأن الله هو الفاعل دون غيره .. ولذلك اعتبروا تنزيل آيات المشركين على المسلمين تأويلا منحرفا وجاهلا.
قال آخر: وقد أشار الشيخ العلامة عبد الله أبو بطين إلى خطر هذا الوهم، فقال: (وأما قول من يقول إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول ما يقوله إلا ثور مرتكس في الجهل، فهل يقول إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يحد الزاني اليوم، ولا تقطع يد السارق، ونحو ذلك، مع أن هذا قول يستحي من ذكره، أفيقول هذا أن المخاطبين بالصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام انقرضوا وبطل حكم القرآن؟)(2)
__________
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 220.
(2) الدرر السنية، 8/ 237.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/42)
قال آخر: ومثله تحدث الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن الآثار الخطيرة لهذه الدعوى، فقال: (من منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل العموم اللفظي، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له وعزلاً عن الاستدلال به في موارد النزاع، فنصوص القرآن وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب .. وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به. مع معرفته؟)(1)
قال آخر: وهو يذكر أن تلك الشبهة قد وقع فيها خصوم شيخنا، وخصوصا داود بن جرجيس فقال: (ومن شبهاته قوله في بعض الآيات هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان يريد ـ قاتله الله ـ تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدله بربه)(2)
قال آخر: وقد بين أن هذه الشبهة من الأسباب المانعة عن فهم القرآن، فقال: (ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا، وانقرضوا، لم يعقبوا وارثاً .. وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين هذه نزلت في عبّاد الأصنام، هذه في النصارى .. فيظن الغر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة)(3)
قال آخر: ومثلهما تحدث الشيخ صالح بن محمد الشثري عن خطورة هذه الشبهة
__________
(1) مصباح الظلام، ص 140.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل، 3/ 78.
(3) دلائل الرسوخ، ص 44.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/43)
ومدى انحرافها، فقال في رده على دحلان: (فيا سبحان الله كيف بلغ اتباع الهوى بصاحبه إلى هذا الجهل العظيم، والتناقض البين، وتحريف آيات الله المحكمات الدالة على السؤال والطلب، ويحتج بها على أنها وردت في المشركين وأن حكمها لا يتعداهم .. مع أن أحكام القرآن متناولة لجميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] .. وعلى قول هذا المبطل أن حكم القرآن لا يتعدى من نزل فيه، فيقال: قد خاطب الله الصحابة بشرائع الدين كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وبآيات المواريث، وبآيات الحدود، فيلزم على قول هذا المبطل أن حكمها لا يتعدى الصحابة، وهذا كفر وضلال، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)(1)
قال آخر: ومثلهم أيد الشيخ محمد بشير السهسواني صحة معتقد الشيخ الإمام في تلك المسألة، فقال: (نعم قد استدل الشيخ رحمه الله على كفر عباد القبور بعموم آيات نزلت في الكفّار، وهذا مما لا محذور فيه، إذ عبّاد القبور ليسوا بمؤمنين عند أحد من المسلمين .. وإنما تمسك الشيخ في تكفير الذين يسمّون أنفسهم مسلمين، وهم يرتكبون أموراً مكفرة بعموم آيات نزلت في المشركين، وقد ثبت في علم الأصول أن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، وهذا مما لا مجال فيه لأحد)(2)
قال آخر: ومثلهم كتب الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين ـ رداً على دحلان وغيره ـ يقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل آية نزلت في مشرك على مؤمن بتشبيه به شائع ذائع، ولأجل ذلك أجرى الفقهاء حكم الكفر بالتشبه بالكفر، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)(3)
__________
(1) تأييد الملك المنان، ص 39.
(2)(، صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان، ص 487.
(3) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين، ص 46.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/44)
قال آخر: ومثلهم كتب الشيخ ابن سحمان يقول: (فمن فعل كما فعل المشركون من الشرك بالله، بصرف خالص حقّه لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، واستغاث بهم كما يستغيث بالله، وطلب منهم ما لا يطلب إلا من الله، فما المانع من تنزيل الآيات على من فعل كما فعل المشركون، وتكفيره، وقد ذكر أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن إذا عميت قلوبهم عن معرفة الحق، وتنزيل ما أنزله الله في حق المشركين على من صنع صنيعهم واحتذا حذوهم فلا حيلة فيه)(1).
قال آخر: ومثلهم كتب الشيخ محمد رشيد رضا في الرد على هذه الشبهة، فقال: (ومن عجائب جهل دحلان وأمثاله أنهم يظنون أن ما بيّنه القرآن من بطلان شرك المشركين خاص بهم لذواتهم، وليس بحجة على من يفعل مثل فعلهم كأن من ولد مسلماً يباح له الشرك لجنسيته الإسلامية، وإن أشرك بالله في كل ما عده كتاب الله شركاً، وعلى هذا لا يتصور وقوع الردة في الإسلام، لأن من سمي مسلماً يجب أن يسمى كفره وشركه إسلاماً، أو يعد مباحاً له أو حراماً على الأقل، وقد يعدونه مشروعاً بالتأويل)(2)
قال آخر: ومثلهم كتب الشيخ فوزان بن سابق آل فوزان، يقول: (وأما القول بأن الآيات التي نزلت بحق المشركين من العرب لا يجوز تطبيقها على من عمل عملهم ممن يتسمى بالإسلام لأنه يقول: لا إله إلا الله، فهو قول من أغواه الشيطان، فآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض لأن مجرد التلفظ بالشهادة مع مخالفة العمل بما دلت عليه لا تنفع قائلها، وما لم يقم بحق لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، وإلا كان قوله لغواً لا فائدة فيه .. فالمعترض يريد تعطيل أحكام الكتاب والسنة، وقصرها على من نزلت فيهم، وهذا القول يقتضي رفع
__________
(1) كشف غياهب الظلام عن أوهاب جلاء الأوهام، ص 195.
(2) صيانة الإنسان، للسهسواني، تعليق محمد رشيد رضا، ص 487.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/45)
التكليف عن آخر هذه الأمة)(1)
قال آخر: ومثلهم كتب القصيمي ردا على هذه الشبهة، يقول: (وما زال المسلمون والعلماء والأئمة الأعلام، يستدلون بالآيات العامة النازلة في الكفار على ما يفتون به المسلمين .. وما زالوا يأخذون من تلك العموميات الحجج والدلالات على معتقداتهم وإيمانهم، ولا خلاف عندهم أن القرآن إذا ما نهى اليهود، والنصارى، أو المجوس عن أمر من الأمور، أو أخبر أن ذلك كفر فيهم، أنهم هم أيضاً منهيون عن ذلك الأمر، وأنه كفر فيهم .. وقد عقد الشاطبي في أول كتابه (الاعتصام) فصلاً مبسوطاً رد به على البدع والمبتدعين، محتجاً بعموم الآيات النازلة في أهل الكتاب، وذكر فيه أقاويل كثيرة عن السلف من صحابة وتابعين ومن بعدهم قد احتجوا فيها بالآيات المطلقة النازلة أصلاً في طوائف الشرك، وأهل الكتاب على إثم البدعة، وخطأ المبتدعين من المسلمين)(2)
بعد أن انتهى الشيوخ من الحديث في المسألة الأولى المرتبطة بأقسام التوحيد، وعلاقتها بالإيمان والكفر، التفت القاضي إلى المتهمين، وقال: ها قد سمعتم من شيوخنا الأفاضل هذا الشرح المفصل لحقيقة التوحيد وأحكامه ومستلزماته، ومن خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة وكلام العلماء الربانيين .. فهل تقبلون ما ذكروه، وتتوبوا إلى الله عما كنتم عليه من الشرك والضلالة، وحينها سنمن عليكم بالعفو والبراءة؟ .. أو تستمروا على ما كنتم عليه، وحينها لا مناص لنا من أن نقيم عليكم حد الردة، تطبيقا للشريعة.
قال أحد التلاميذ: نحن مع احترامنا للشيوخ الأفاضل، وللكثير من المعاني الطيبة التي ذكروها، والتي نتفق معهم فيها خاصة تلك التي ترتبط بأهمية التوحيد، وكونه الركن
__________
(1) البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار، ص 277.
(2) الصراع بين الإسلام والوثنية، 1/ 419.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/46)
الأكبر في الدين، إلا أننا نختلف معهم في بعض ما طرحوه .. وليتكم تسمحون لنا بطرح وجهة نظرنا، وبعدها يمكنكم أن تفعلوا ما تروه مناسبا مع العدالة.
قال القاضي: لا بأس .. يحق لكم ـ كما قال الوزير ـ أن تتحدثوا بما تشاءون، وتدافعوا عن أنفسكم بما ترون من صنوف الدفاع، لكني مع ذلك أنصحكم بعدم الجدل، والمسارعة إلى التوبة؛ فأنتم تعلمون قوانيننا الصارمة.
قال أحد التلاميذ: أجل .. ولكنا مع ذلك نصر على أن نذكر ما عندنا، ولكم أن تفعلوا بنا بعد ذلك ما شئتم.
قال القاضي: هيا .. تحدثوا بما تشاءون .. فنحن جميعا نستمع لكم .. لكن احذروا أن تحرفوا آية واحدة من القرآن الكريم؛ فإن السياف حينها سيقطع رؤوسكم مباشرة، ومن دون استشارة أحد .. فهو أكثرنا حفظا للقرآن الكريم، وأكثرنا حرصا على حروفه وكلماته .. ولكم أن تسألوه عن عدد الذين قتلهم بسبب أخطائهم في قراءة القرآن.
قال أحد التلاميذ: نحن لا نختلف في القرآن الكريم، بل نحن نحفظه أيضا، والخلاف بيننا ليس في حروف القرآن الكريم وكلماته، وإنما في تأويله وفهمه.
قال آخر: بما أن شيوخنا الأفاضل قسموا أدلتهم إلى وجوه، فسنقسم أدلتنا كذلك لتبسيطها وتيسير فهمها .. ولذلك ائذن لنا أن نذكر لكم سبعة وجوه في الرد على ما ذكروه.
قال القاضي: سبعة وجوه كاملة .. إن هذا لكثير.
قال المتهم: أيهما الكثير .. قتل المسلمين واستباحة دمائهم .. أم الاستماع لكلامهم عندما يحتجون لأنفسهم، ويدافعون عنها؟
قال القاضي: لا بأس .. فما الوجه الأول منها؟
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/47)
قال أحد التلاميذ: الوجه الأول مرتبط بتلك النقول التي نقلها شيوخنا الأفاضل؛ فهم قد استندوا فيما ذكروه إلى علماء ومشايخ، يقرون بأنهم كسائر العلماء والمشايخ ليسوا معصومين فيما ذكروه، أو فهموه من القرآن الكريم، ولذلك كان عليهم أن يحترموا ما رآه غيرهم من العلماء، ويعتبروا المسألة من المختلف فيه، والذي أمرنا بتركه لله تعالى، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 69]
قال آخر: ولذلك؛ فإن أول رد نرد به على ما ذكرتم هو أن نذكر العلماء والمشايخ الذين ردوا على من استدللتم به، إلا إذا كنتم تقولون بعصمة شيوخكم، ولا نظنكم تذكرون هذا.
قال آخر: ونحن نذكر لكم هذا لترحموا عوام المسملين، فلا تعاملوهم بأحكامكم المشددة؛ فهم ليسوا سوى مقلدين لمشايخهم وعلمائهم الذين يثقون فيهم، ولا قدرة لهم على التمييز بين الأقوال.
قال آخر: وقبل أن نذكر ما قال مخالفوكم، نذكر أن حسين بن أبي بكر ابن غنام، صاحب كتاب [العقد الثمين] و [تاريخ نجد]، وصاحب القصائد الكثيرة في الدفاع دعوتكم، والمؤرخ الأول لها ذكر معارضة العلماء الكثيرين لما ذكرتموه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعد إيراده ما فعله الشيخ ابن عبد الوهاب، وابن معمر في العيينة من هدم القباب وقطع الأشجار التي يتبرك بها، حيث قال: (فأخذوا في رده والإنكار عليه وأتوا بأعظم الأسباب، وزجوا الخلق في لجة الضلال والارتياب وضجوا على كلمة الحق بالتكذيب والإكذاب .. وأشر الناس والعلماء إنكاراً عليه، وأعظم تشنيعاً وسعياً بالشر إليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد، فقد اهتم في ذلك وأنجد وجد في التحريش عليه والتحريض، وأرسل بذلك إلى الإحساء والحرمين والبصرة، فلم ينل من
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/48)
مراده سوى الخزي والعار والحسرة، ولقد كاد وشنع وعادى وحشر علماء السوء ونادى وكذب عليه وبهت وزور، فقاموا معه فوراً بالإنكار، وأفتوا للحكام والسلاطين بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي .. وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع النبوي وتبديله وتجهيله وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله)(1)
قال آخر: ومثل ذلك أرخ عبد الله العثيمين لتلك المعارضة الشديدة من طرف العلماء، فقال: (واضح من رسائل الشيخ أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالماً أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم ـ أيضاً ـ من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى)(2)
قال آخر: ومن الأمثلة على أولئك العلماء الذين ردوا على شيخكم ابن عبد الوهاب محمد بن عبد الرحمن بن حسين الأحسائي المشهور بابن عَفالِق الحنبلي، فقد قال في جوابه على رد ابن معمر: (وهذا الرجل ـ أي ابن عبد الوهاب ـ كفَّر الأمة، بل والله وكذّب الرسل، وحكم عليهم وعلى أممهم بالشرك)(3) ..
قال آخر: وقال مخاطباً عثمان ابن معمر: (فجعلتم تكفير العترة النبوية، وسبّهم،
__________
(1) روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد وغزوات ذوي الإسلام، ص 31.
(2) الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ)، ص 108.
(3) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ص 58.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/49)
ولعنهم، أصلاً من أصول دينكم)(1) .. ويصف شيخكم بأنه: (حلف يميناً بالله فاجرة أن اليهود والمشركين أحسن حالاً من هذه الأمة)(2)
قال آخر: وخاطب شيخكم في رسالة سمّاها [تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين]، فقال: (وقفت على القواعد التي بنيت عليها مذهبك .. فوجدتك قد ارتقيت فيها مرتقاً صعباً .. شتمت فيه الأئمة، وسببت به أعلام الأمة، وهدمت به قواعد الملَّة المحمدية، وثلبت به جميع الأئمة المحمدية، حتى ارتقيت فيه إلى الجزم بزيغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأربعة)(3)
قال آخر: ونفى أن يكون الذبح والنذر الذي يقوم به المسلمون شركاً، فقال: (فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله .. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله)(4)
قال آخر: ومنهم العلاّمة أحمد بن علي القبّاني البصري الشافعي الذي وصف شيخكم بأنه (كفّر هذه الأمة بأسرها، وكفّر كل من لم يقل بضلالتها وكفرها)(5) .. ثم صور متهكما حاله يوم القيامة، فقال: (وجاء كل واحد من الأنبياء والمرسلين، ومعه الألوف من أمته، وجاء النبي الكريم، وليس معه من أمته إلا النفر اليسير من أهل العيينة (6)، وأما الباقون فكلهم مخلدون في النار مع الكفار، مع ما لهم من كثرة الطاعات وأنواع العبادات)(7)
قال آخر: وقد أنكر إقرار المشركين الأولين بتوحيد الربوبية، فقال: (فهل سمعت
__________
(1) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ص 63.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ص 65.
(3) تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين، ص 1.
(4) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ص 60.
(5) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب، ص 36.
(6) ألف القباني كتابه في الرد على ابن عبد الوهاب سنة 1157 هـ أي أثناء وجوده في العيينة.
(7) فصل الخطاب، ص 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/50)
عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه)(1)
قال آخر: ومنهم العلامة الفقيه سليمان بن سحيم، وهو من حنابلة نجد، وقد أيد في البداية دعوة شيخكم، ثم رجع عنها لما تبين له حقيقتها، وأنها ما قامت إلا للتكفير والقتل، فقد قال في رسالته التي بعثها إلى علماء الأمصار محرضاً على الشيخ، ومنفراً عن دعوته: (ومنها أنه ثبت أنه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء)(2) .. ثم قال: (ومن أعظمها أنه من لم يوافقه في كل ما قاله، ويشهد أن ذلك حق، يقطع بكفره، ومن وافقه، ونحى نحوه، وصدّقه في كلَّ ما قال، قال: أنت موحَّد، ولو كان فاسقاً محضاً أو ما شاء)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد بن محمد القادري الذي خاطب عبد العزيز بن محمد بن سعود ـ لما بلغته رسالته ـ فقال: (فإنك لو تدبرت فيه بعين بصيرتك واعتبرت بها، لما كنت تحكم على الأمة المحمدية بالشرك الأكبر، من غير برهان، وليس هذا إلا شقاوة وخسران وحرمان)(4) .. ووصفه (بأنه حكم على عوام المؤمنين والعلماء العاملين من أمة سيد الأنبياء والمرسلين بالشرك الأكبر)(5)
قال آخر: وقال: (وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة .. ولا يشك في مسلم أن يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته)(6)
قال آخر: ومنهم الشيخ علوي بن أحمد الشافعي الحداد في كتابه [مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام]، فقد قال عن شيخكم: (إذا أراد رجل أن يدخل
__________
(1) فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب، ص 61.
(2) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب، ص 165.
(3) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب، ص 168.
(4) رسالة في الرد على الوهابية، ص 4.
(5) رسالة في الرد على الوهابية، ص 3.
(6) رسالة في الرد على الوهابية، ق 6، 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/51)
في دينه، يقول له اشهد على نفسك أنك كنت كافراً، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على العالم الفلاني والفلاني أنهم كفّار وهكذا، فإن شهد بذلك قبله، وإلا قتله)(1)
قال آخر: ثم خاطبه بقوله: (أيها النجدي كيف لا ترضى بالأحياء أن تجعلهم مشركين حتى تعديت على أموات المسلمين من سنين عديدة تقول ضالين مضلين، حتى عينت أناساً من أكابر العلماء المحققين وأئمة مقتدى بهم صالحين)(2)
قال آخر: ثم دعا إلى مواجهة دعوة شيخكم، فقال: (وينبغي اليوم في هذا الوقت من الحوادث التي حدثت في الثلم في الدين باعتقاد العامة قول البدعي أن الاستغاثة شرك، فالعالم والمقتدى به ينبغي له أن يظهر الاستغاثة ليقتدى به)(3)
قال آخر: ثم بين الفرق الكبير بين المؤمنين والمشركين، فقال: (هؤلاء مهما عظموا الأنبياء والأولياء، فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه)(4)
قال آخر: ومنهم الشيخ حسن بن عمر الشطي الذي قال في تذييله الذي كتبه في نهاية [رسالة إثبات الصفات]، حيث ذكر من صفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (تكفير المسلمين واعتقاده حل دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم)(5)
قال آخر: ثم أورد في تذييله الآخر الذي كتبه في خاتمة [رسالة في مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد] أن هذه الرسالة (مدارها على تكفير المسلمين وحل دمائهم وأموالهم)(6)
قال آخر: وقد استنكر بشدة اعتبار الاستغاثة بغير الله شركاً، فقال يحكي معتقد
__________
(1) مصباح الأنام، ص 5.
(2) مصباح الأنام، ص 22.
(3) مصباح الأنام، ص 60.
(4) مصباح الأنام)، ص 5.
(5) رسالة إثبات الصفات، ص 164.
(6) رسالة إثبات الصفات، ص 49.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/52)
الوهابيين: (فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ عبد الرؤوف بن محمد بن عبد الله العراقي في كتابه [فصل الخطاب في نقض مقالة ابن عبد الوهاب]، وفيه يقول: (فكيف حال رجل قتل آلاف من المسلمين القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله المتصدقين الصائمين الحاجين بيت الله الحرام، بل قتل الذريَّة والنسوان من غير بغي منهم، ولا عدوان زعماً منه أنه من أهل التوحيد فقط، والمسلمون كلهم مرتدون)(2)
قال آخر: ومنهم الشيخ علي نقي اللكنهوري، في كتابه [كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب]، حيث قال عن شيخكم: (اعلم أن عقيدته هو أن جميع المسلمين سوى أهل نحلته كفّار مشركون، يحل أموالهم ودمائهم، ويجوز اتخاذهم عبيداً، ويستدل على ذلك بتلفيقات ما أنزل الله بها من سلطان)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ عثمان بن منصور الذي قال عن شيخكم: (قد ابتلى الله أهل نجد، بل جزيرة العرب، بمن خرج عليهم، وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة، إلا من وافقه على قوله، لما وجد من يعينه على ذلك)(4)
قال آخر: ومنهم الشيخ أحمد زيني دحلان، الفقيه والمؤرخ وشيخ علماء الحجاز في عصره، والذي تولى منصب الإفتاء وشيخ العلماء في مكة المكرمة، فقد وصف شيخكم وأتباعه، فقال: (لا يعتقدون موحداً إلا من تبعهم فيما يقولون، فصار الموحدون على
__________
(1) النقول الشرعية، ص 101.
(2) فصل الخطاب في نقض مقالة ابن عبد الوهاب، ص 33.
(3) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب، ص 52.
(4) نقلاً عن كتاب (مصباح الظلام)، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ص 16.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/53)
زعمهم أقل من كل قليل .. وقال له أخوه سليمان يوماً: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب فقال: خمسة، فقال: أنت جعلتها ستة، السادس من لم يتبعك فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام)(1)
قال آخر: وقال: (كانوا يصرحون بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة، وأول من صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب، فتبعوه على ذلك، وإذا دخل إنسان في دينه، وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك، يقولون له حج ثانياً فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك، فلا تسقط عنك الحج)(2)
قال آخر: وقال: (وكان يقول لهم: إني أدعوكم إلى الدين، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق، ومن قتل مشركاً فله الجنة، فتابعوه، وصارت نفوسهم بهذا القول مطمئنة)(3)
قال آخر: وقال: (إنه كان يكتب إلى عماله الذين هم من أجهل الجاهلين: اجتهدوا بحسب فهمكم، وانظروا واحكموا بما ترونه مناسبا لهذا الدين، ولا تلتفتوا لهذه الكتب، فإن فيها الحق والباطل، وقتل كثيرا من العلماء والصالحين وعوام المسلمين لكونهم لم يوافقوه علي ما ابتدعه)(4)
قال آخر: وقد ذكر أن الشرك هو اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، فقال: (فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله .. ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى)(5)
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 42.
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 50.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 46.
(4) الدرر السنية في الرد علي الوهابية، ص 118.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 33.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/54)
قال آخر: ومنهم أخوه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب، والذي هو أكثر الناس به معرفة، فقد قال عنه: (إنّ هذه الأمور حدثت من قبل زمن الإمام أحمد في زمان أئمة الإسلام وأنكرها من أنكرها منهم، ولا زالت حتى ملأت بلاد الإسلام كلّها، وفعلت هذه الأفاعيل كلّها التي تكفّرون بها، ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنّهم كفّروا بذلك، ولا قالوا: هؤلاء مرتدّون، ولا أمروا بجهادهم، ولا سمّوا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب، كما قلتم أنتم، بل كفّرتم من لم يكفّر بهذه الأفاعيل، وإن لم يفعلها .. أيظنّون أنّ هذه الأمور من الوسائط التي في العبارة الذي يكفّر فاعلها إجماعاً، وتمضي قرون الأئمة من ثمان مائة عامّ، ومع هذا لم يرو عن عالم من علماء المسلمين أنّها كفر، بل ما يظنّ هذا عاقل، بل واللّه لازم قولكم: إنّ جميع الأمّة بعد زمان الإمام أحمد، علماؤها، وأمراؤها، وعامّتها، كلّهم كفّار، مرتدون، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وا غوثاه إلي اللّه، ثمّ وا غوثاه، أم تقولون ـ كما يقول بعض عامّتكم ـ إنّ الحجّة ما قامت إلاّ بكم، وإلاّ قبلكم لم يعرف دين الإسلام)(1)
قال آخر: وقال مخاطبا لهم: (من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه)(2) .. وقال: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ جميل صدقي الزهاوي الذي قال عن شيخكم: (ثم إنه صنف لابن سعود رسالة سماها [كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات] كفّر فيها جميع المسلمين، وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة)(4)
__________
(1) الصواعق الإلهيّة في الرّد علي الوهابيّة ص 38.
(2) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، ص 6.
(3) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، ص 7.
(4) الفجر الصادق، ص 19.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/55)
قال آخر: وقال: (فمما تمذهبت به الفرقة المارقة الوهابية من الأباطيل: تكفيرهم لكل من خالفهم من المسلمين)(1) .. وقال: (لو سأل سائل عما تمذهبت به الوهابية ما هو وعن غايته ما هي، فقلنا في جواب كلا السؤالين هو تكفير كافة المسلمين، لكان جواباً على اختصاره تعريفاً كافياً لمذهبها)(2)
قال آخر: ومنهم الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب [سبل السلام]، وهو من المعاصرين شيخكم؛ فقد ذكر التكفيرات الكثيرة التي كانت توزع على الأمة جميعا، وما يتبعها من السلب والنهب والقتل، فقال: (وكان قد تقدمه في الوصول إلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها، من سفك الدماء، ونهبه الأموال، وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال، وتكفير الأمة المحمدية في جميع الأقطار، فبقي معنا تَرَدُّدٌ فيما نقله الشيخ الفاضل عبد الرحمن، حتى وصل الشيخ العالم مربد بن أحمد وله نباهة، ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفيره أهل الإيمان، وقتلهم ونهبهم، وحقق لنا أقواله وأفعاله وأحواله، فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا، ولم يمعن النظر، ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية، ويدله على العلوم النافعة ويفقهه فيها .. ولما حقق لنا أحواله، ورأينا في الرسالة أقواله، وذكر لي أنه إنما عَظُمَ شأنه بوصول الأبيات التي وجهنا إليه، وأنه يتعين علنيا نقض ما قدمناه، وحَلُّ ما أبرمناه)(3)
قال آخر: ومنهم محمد بن علي بن محمد الشوكاني ـ وهو ممن يثق فيه الكثير من شيوخكم، ويعتمدون على كتبه، مثله مثل الصنعاني ـ فقد قال: (ولكنهم يرون أن من لم
__________
(1) الفجر الصادق، ص 27.
(2) الفجر الصادق، ص 64.
(3) إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبد الوهاب، ص:110، وقد أقر أعلام السلفية الكبار بهذه الرسالة، ومنهم: الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في، المصارعة، (ص 417)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/56)
يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام، ولقد أخبرنى أمير حجاج اليمن السيد محمد بن حسين المراجل الكبسى أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن بأنهم كفار وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم فما تخلصوا منه إلا بجهد جهيد)(1)
قال آخر: ومنهم مصطفى بن أحمد بن حسن شطي، صاحب كتاب [النقول الشرعية في الرد على الوهابية]، والذي اعتبر الشرك الأكبر محصورا في (عبادة الأوثان والأصنام)(2)، ويذكر حكاية لجده توضح حال العوام، فقال: (ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزاً تقول: يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلاً، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد حسين، الذي قال: (أراد الله أن يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدو أعواناً .. فنقض ابن عبد الوهاب تلك القاعدة الأساسية، وعكس الآية، فصار يكفر المسلمين، ويضرب بعضهم ببعض، وما انجلت تلك الفترة إلا وهم بأيدي الأعداء ينقضون دعائم الدين)(4)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد بن نجيب سوقية، حيث قال: (إن مذهبهم تكفير الأموات، ورمي الأحياء بالشرك من الموحدين .. ولقائل أن يقول ممن عرفت إسناد الكفر
__________
(1) البدر الطالع، (1/ 499 ـ 500)
(2) النقول الشرعية، ص 100.
(3) النقول الشرعية، ص 102.
(4) نقض فتاوى الوهابية، ص 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/57)
والشرك لعامة الموحدين من طرف الوهابية، فالجواب أن ذلك مصرح في رسائلهم وكتبهم)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد جواد، حيث قال: (وليس من شك أنهم يريدون بالموحدين الوهابية أنفسهم، وبالمشركين جميع المسلمين بدون استثناء)(2)
قال آخر: ومنهم العلاّمة ابن عابدين، فقد قال في كتاب [ردّ المحتار] في [باب البغاة] عند الحديث عن حكم الباغي والخوارج، عن أتباع شيخكم ابن عبدالوهاب: (كما وقع في زماننا في أتباع ابن عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة، وقتل علمائهم، حتى كسر الله تعالى شوكتهم، وخرب بلادهم، وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف)(3)
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من الوجه الأول .. فما الوجه الثاني؟
قال أحد التلاميذ: الوجه الثاني مرتبط بمفهوم الإيمان والكفر، والحدود التي تضبطهما؛ فأنتم تعلمون جميعا صعوبة الحكم على مسلم بالكفر من دون بينة قوية قطعية .. وقد رأينا أن شيوخنا الأفاضل، ومن يستندون إليهم من العلماء قد بالغوا كثيرا في ذلك، وهم يخالفون به ما اجتمع عليه أكثر علماء الأمة.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن التكفير بناء على ما يترتب عليه من الأحكام، ينطبق عليه ما ورد في الحديث المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ادفعوا الحدود، ما
__________
(1) تبيين الحق والصواب، ص 8.
(2) هذه هي الوهابية، ص 111.
(3) رد المختار، ج 4، ص 262.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/58)
وجدتم لها مدفعا)(1)، وقال: (ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)(2) .. ولذلك يمكن اعتبار تكفير المختلف فيه نوعا من الشبهات التي ينبغي الحذر فيها.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الإيمان في حقيقته عبارة عن الإذعان للّه تعالى واليوم الآخر ورسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. فهذه الأمور الثلاثة هي التي تشكِّل دعامات الإيمان وأركانه، وما سواها يرجع إليها.
قال آخر (4): وبما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك تراثا كبيرا من المعارف والأحكام لا يمكن لعوام الناس وأكثرهم استحضاره في الذهن، ثمّ التصديق به، فقد اضطرّ العلماء إلى تقسيم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين .. قسم معلوم بالتفصيل كتوحيده تعالى والحشر يوم المعاد في أبواب العقائد، ووجوب الصلاة والزكاة ونحوهما في أبواب الأحكام .. وقسم منه معلوم بالإجمال، كالتفاصيل الكثيرة المرتبطة بجميع مسائل الدين، والتي لا يمكن لعوام الناس الاطلاع عليها .. ولذلك اكتفي من المؤمن أن يؤمن بالأوّل على وجه التفصيل، وبالثاني على وجه الإجمال.
قال آخر: وقد عبر عضد الدين الإيجي عن هذا بقوله: (الإيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيها علم إجمالاً)(5)
قال آخر: وقد وردت بهذا الأحاديث الكثيرة، والتي تضع حدودا بسيطة للإيمان والإسلام غير التي ذكرها شيوخنا الأفاضل، ومن تلك الأحاديث الواردة ما روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا نبي الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن ـ لأصابع يديه ـ أن لا
__________
(1) ابن ماجه (2545)
(2) الترمذي (1424)، والحاكم (4/ 384)
(3) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 13.
(4) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 13.
(5) الايجي، المواقف، ص 384.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/59)
آتيك ولا آتي دينك وإني كنت امرؤا لا أعقل شيئا إلا ما علمني الله ورسوله، وإني سألتك لوجه الله: بم بعثك الله إلينا؟ قال: (بالإسلام) قال: وما آيات الإسلام؟ قال: (أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرمٌ أخوان نصيران، لا يقبل من مشرك بعدما أسلم عمل أويفارق المشركين إلى المسلمين)(1)
قال آخر: وروي أن بعضهم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم)(2)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا يكفره بذنب، ولا يخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله .. والإيمان بالأقدار)(3)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، فلا تخفروا الله في ذمته)(4)
قال آخر: وروي أن بعضهم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمنٌ)(5)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)(6)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثٌ من كن فيه يجد حلاوة الإيمان:
__________
(1) النسائي 5/ 82 ـ 83، وابن ماجة مختصرا (2536)، وأحمد 5/ 4، والحاكم في المستدرك 4/ 643.
(2) مسلم (38)
(3) أبو داود (2532)،وأبو يعلى في مسنده 7/ 278 (4311) والبيهقي في الكبرى (9/ 156)
(4) النسائي 8/ 105، والحديث عند البخاري (391)
(5) الطبراني 8/ 117 (7540)، ورواه أحمد (5/ 252)
(6) البخاري (16)، ومسلم (43)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/60)
ترك المراء في الحق، والكذب في المزاحة، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)(1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)(2)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18])(3)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من استقبل قبلتنا وصلى صلواتنا، وأكل ذبيحتنا، فله مالنا وعليه ما علينا)(4)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله بعثني بالحق، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت، وحتى يؤمن بالقدر)(5)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى جعل الإسلام دينه، وجعل كلمة الإخلاص حسنا له، فمن استقبل قبلتنا، وشهد شهادتنا، وأحل ذبيحتنا فهو مسلم، له مالنا وعليه ما علينا)(6)
قال آخر: وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا تضع تلك النواقض الكثيرة التي
__________
(1) الطبراني 9/ 157 (8790)،وعبد الرزاق (20082)
(2) الترمذي (2627)، والنسائي 8/ 104 ـ 105، وأحمد 2/ 379، والحاكم في المستدرك 1/ 54.
(3) الترمذي (2617)، وابن ماجة (802) والدارمي (1223)
(4) الخصال: ج 1 ص 84.
(5) الخصال: ج 1 ص 93.
(6) نوادر الراوندى ص 21.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/61)
اعتبرتموها هادمة للإسلام والإيمان، مع أنه لو كان الأمر كما تقولون، لكان ذلك الزمن أولى بأن توضع فيه، لقربه من الجاهلية.
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من الوجه الثاني .. فما الوجه الثالث؟
قال أحد التلاميذ: الوجه الثالث مرتبط بما ورد في السنة المطهرة المتفق عليها من النهي عن التكفير، مهما كان الاعتبار، ومن الأمثلة على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيّما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلاّ كان هو الكافر)(1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما)(2) .. وفي رواية: (أيّما امرءٍ قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلاّ رجعت عليه)(3)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على العبد نذر فيما لا يملك، ولاعن المؤمن كقاتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله)(4)
قال آخر: وعن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في سرية إلى الحرقات، فغذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً فلمّا غشيناه قال: لا إله إلاّ اللّه، فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من لك بلا إله إلاّاللّه يوم القيامة؟)، قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ .. من لك بلا إله إلاّ اللّه يوم القيامة؟) قال: فمازال يقولها حتى وددت أنّي لم أسلم إلاّ يومئذ (5).
قال آخر: وروي أنه لما خاطب ذو الخويصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: اعدل، قال له
__________
(1) سنن أبي داود:4/ 221، برقم 4687.
(2) مسلم: 1/ 56.
(3) مسلم: 1/ 57.
(4) الترمذي: 5/ 22 برقم 2636.
(5) البخاري: 5/ 144.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/62)
بعض الصحابة: يا رسول اللّه ألا أضرب عنقه؟ .. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، فلعله يكون يصلّي) فقال: إنّه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي لم أُؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم)(1)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك)، قال حذيفة: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟، قال: (بل الرامي)(2)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه)(3)، وفي رواية: (كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن أكفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب)، فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضابطا واحدا لإدخال المؤمن في الدين، وحماية عرضه من التكفير، وهو قول لا إله إلا الله، أو هو التوجه للقبلة في الصلاة، وهي محل اتفاق بين المسلمين جميعا.
قال آخر: وكل هذه الأحاديث تتوافق مع قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]
قال آخر: وتتوافق مع الآيات الكثيرة التي تحصر الإيمان في صفات يقوم بها المسلمون جميعا، مهما اختلفت طوائفهم أو آراؤهم، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
__________
(1) البخاري: 5/ 164.
(2) ابن حبان: 1/ 282. والبخاري في التاريخ الكبير (2907)، والبزار (2793)
(3) ابن أبي الدنيا وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، عن تخريج أحاديث الإحياء، المغني عن حمل الأسفار (ص 1007)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/63)
غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 ـ 11] .. فقد أخبر الله تعالى عن فلاح المؤمنين وفوزهم العظيم، لا بسبب تلك الآراء التي تطرحونها، وتكفرون الناس بسببها، وإنما بسبب أعمال يقوم بها المؤمنون جميعا.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 ـ 4]، فهذه الأوصاف مما يتفق عليه المسلمون جميعا.
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من الوجه الثالث .. فما الوجه الرابع؟
قال أحد التلاميذ: الوجه الرابع مرتبط بما ورد عن العلماء من السلف والخلف، وخصوصا أولئك الذين يستند إليهم شيوخنا الأفاضل، ويعتبرونهم أكثر المؤمنين فهما للدين، ولذلك نتمنى أن يرجعوا إليهم ليتعلموا منهم الورع عن تكفير المسلمين.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد أن رجلا سأل جابر بن عبد الله: هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله، ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا (1).
قال آخر: وعن يزيد الرقاشي أنه قال لأنس بن مالك: يا أبا حمزة! إن أناسا يشهدون علينا بالكفر والشرك، قال: أولئك شر الخلق والخليقة (2).
__________
(1) أبو يعلى والطبراني في الكبير، مجمع الزوائد،1/ 107.
(2) أبو يعلى، مجمع الزوائد، 1/ 107.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/64)
قال آخر: وروي عن مسعر بن كدام، قال: (ما أدركت من الناس من له عقل كعقل ابن مرة، جاءه رجل فقال: ـ عافاك الله ـ جئت مسترشداً، إنني رجل دخلت في جميع هذه الأهواء فما أدخل في هوى منها إلا القرآن أدخلني فيه ولم أخرج من هوى إلا القرآن أخرجني منه حتى بقيت ليس في يدي شيء، فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلا هو جئت مسترشداً؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد جئت مسترشداً. قال: نعم أرأيت هل اختلفوا في أن محمداً رسول الله وأن ما أتى به من الله حق؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في القرآن أنه كتاب الله؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في دين الله أنه الإسلام؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنها قبلة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنها خمس؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في رمضان أنه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الحج أنه بيت الله الذي يحجونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنه واجب؟ قال: لا. قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا، قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه والمتشابه ما اختلفوا فيه شد نيتك في المحكم وإياك والخوض في المتشابه، فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك فوالله لقد قمت من عندك وإني لحسن الحال. قال: فدعا له وأثنى عليه (1).
قال آخر: وعلى هذا اتفق جماهير علماء المسلمين، والذين يقلدهم عوام الناس الذين تكفرونهم، مع إقراركم بأن قدرتهم لا تسمح لهم بالاجتهاد أو البحث .. مع العلم أن أكثرهم ممن تعتبرونهم وتحترمونهم وتأخذون العلم منهم، بل تستدلون بهم.
__________
(1) أحسن التقاسيم ص 366.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/65)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قاله ابن حزم في الباب الذي عقده (فيمن يُكفَّر ولا يكفر)، فقد قال: (وذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفَّر ولا يُفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وأنّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدانَ بما رأى أنّه الحقّ فإنّه مأجور على كلّ حال، إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد .. وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود بن علي، وهو قول كلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رضوان اللّه عليهم) ما نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً)(1)
قال آخر: ومثله قال الباقلاني: (ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لايوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك، فيكفر)(2)
قال آخر: ومثلهما قال الغزالي: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأِ في سفك محجمة من دم مسلم)(3)
قال آخر: وقال: (الوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، غير مناقضين لها .. فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه)(4)
قال آخر: ومثلهم قال تقي الدين السبكي: (إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً، وكلّ من في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لاإله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر)(5)
__________
(1) ابن حزم: الفصل: 3/ 291.
(2) فتاوى السبكي (2/ 578)
(3) الاقتصاد في الاعتقاد (223 ـ 224)
(4) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (128)
(5) نقلا عن: اليواقيت والجواهر:2/ 125.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/66)
قال آخر: ومثلهم قال أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري: (لما حضرت الوفاةُ أبا الحسن الأشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه ثمّ قال: اشهدوا على أنّني لا أُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمهم)(1)
قال آخر: ومثلهم قال التفتازاني: (إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر مالم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدل بقوله: إنّ رسول الله ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحقّ)(2)
قال آخر: ومثلهم قال الشوكاني: (اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن (من قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما) .. ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير)(3)
قال آخر: ومثلهم قال ابن الوزير: (في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط .. أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، نعوذ بالله من الخطأ في الجميع، ونسأله الإصابة والسلامة والتوفيق والهداية)(4)
قال آخر: وقال: (وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة
__________
(1) نقلا عن: اليواقيت والجواهر:2/ 126.
(2) التفتازاني: شرح المقاصد:5/ 227.
(3) السيل الجرار (4/ 578)
(4) إيثار الحق على الخلق (405)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/67)
المعارَضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة، ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق، وتجتمع عليه الكلمة، وتحقق إليه الضرورة)(1)
قال آخر: ومثلهم قال صالح بن مهدي المقبلي: (فأقول اللهم إنه لا مذهب لي إلا دين الإسلام، فمن شمله فهو صاحبي وأخي، ومن كان قدوة فيه عرفت له حقه، وشكرت له صنعه، غير غالٍ فيه ولا مقصر، فإن استبان لي الدليل، واستنار لي السبيل، كنت غنياً عنهم في ذلك المطلب، وإن ألجأتني الضرورة إليهم وضعتهم موضع الإمارة على الحق، واقتفيت الأقرب في نفسي إلى الصواب بحسب الحادثة، بريئاً من الانتساب إلى إمام معين، يكفيني أني من المسلمين، فإن ألجأني إلى ذلك الله، ولم يبق لي من إجاباتهم بد، قلت: مسلم مؤمن، فإن مزقوا أديمي، وأكلوا لحمي، وبالغوا في الأذى، واستحلوا البذا، قلت: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، {لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50]، وأجعلك اللهم في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم، رب نجني مما فعله المفرقون لدينك، وألحقني بخير القرون من حزب أمينك صلى الله عليه وآله وسلم)(2)
قال آخر: ومثلهم قال الشيخ جمال الدين القاسمي ـ وهو من علماء الحديث والتفسير الذي تعتبرونهم، وتستندون إليهم ـ: (من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها، وكثر سوادها، لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى، وأعظم استجابة، لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب
__________
(1) إيثار الحق على الخلق (402)
(2) العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، المقبلي، صالح بن المهدي، ص 7 ـ 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/68)
الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل، فحاولت الاستئثار بالذكرى، والتفرد بالدعوى، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها، والإيقاع بسواها، حسب ما تسنح لها الفرص، وتساعدها الأقدار، إن كان بالسنان، أو اللسان)(1)
قال آخر: وقال مدافعا عن المتهمين بالبدعة: (ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: أنهم تعمدوا الانحراف عن الحق، ومكافحة الصواب عن سوء نية، وفساد طوية، وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم: إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا، وبهذا كان ينتقد على كثير من الأعلام سلفاً وخلفاً لأن الخطأ من شأن غير المعصوم، وقد قالوا: المجتهد يخطئ ويصيب: فلا غضاضة ولا عار على المجتهد أن أخطأ في قول أو رأي، وإنما الملام على من ينحرف عن الجادة عامداً معتمداً، ولا يتصور ذلك في مجتهد ظهر فضله، وزخر علمه)(2).
قال آخر: وقال: (دع مخالفك ـ إن كنت تحب الحق ـ يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك وإما أن تقنعه ولا تعامله بالقسر فما انتشر فكر بالعنف أو تفاهم قوم بالطيش والرعونة. من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه لأن ذلك من طبع البشر مهما تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم. وبعد فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، وهو من أهم العوامل في رقي البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها في كل مجتمع. والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا العالمين، والمهوسين لا المعتدلين)(3)
__________
(1) الجرح والتعديل ـ ص 4.
(2) الجرح والتعديل ـ ص 10.
(3) الجرح والتعديل ـ ص 38.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/69)
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من الوجه الرابع .. فما الوجه الخامس؟
قال أحد التلاميذ: الوجه الخامس مرتبط بأساس الخلاف بيننا وبين شيوخنا الأفاضل في هذه المسألة، وهو ذلك التقسيم الذي اختاروه للتوحيد، أي تقسيمه إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية، لأن هذا التقسيم لم ينحصر في الدائرة العلمية، وإنما تعداه إلى التكفير والتضليل، بل والحكم بالردة، والقتل .. واستعمال القرآن الكريم وسيلة لذلك، عبر تحميله ما لا يحتمل.
قال آخر: ولهذا أنكر علماؤنا هذا التقسيم، نتيجة لوازمه الخطيرة .. ومن أوائل من أنكر ذلك على شيخكم شيخنا علوي الحداد، فقد قال معترضا على ذلك التقسيم: (توحيد الألوهية داخل في عموم توحيد الربوبية، بدليل أن الله تعالى لما أخذ الميثاق على ذرية آدم، خاطبهم الله تعالى بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] ولم يقل بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقر له بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه .. ومن العجب العجاب قول المدعي الكذّاب لمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من أهل القبلة أنت لم تعرف، التوحيد نوعان: توحيد الربوبية الذي أقرت به المشركون والكفّار، وتوحيد الألوهية الذي أقرت به الحنفاء وهو الذي يدخلك في دين الإسلام، وأما توحيد الربوبية فلا، فيا عجباً هل للكافر توحيد صحيح، فإنه لو كان توحيده صحيحاً لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد كما صرحت به الأحاديث)(1)
قال آخر: ومثله الشيخ عبد الله بن عيسى، حيث قال معترضاً على هذا التقسيم: (ثم إن المخالف ـ يعني ابن عبد الوهاب ـ جعل التوحيد توحيدين توحيد الربوبية، وتوحيد
__________
(1) مصباح الأنام، ص 17.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/70)
الألوهية، فقال: إن الأول اعترف به المشركون، وأما الثاني فلم يعترفوا به، وجعل توحيد الإلهية راجعاً إلى العبادة .. ولا نعلم سلفا له في هذا، ونحن لا نسلم الفرق، بل توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، إذ الصفة لا تزول عن الموصوف، فرب السموات والأرض إلههما)(1)
قال آخر: ثم أنكر إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية مستدلاً بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، وعلق عليه بقوله: (فلم يكن مشركوا العرب مقرّين بالأحدية والربوبية كما زعم)(2)
قال آخر: ومثلهما الشيخ داود بن جرجيس الذي قال عن ذلك التقسيم: (إن هذه الشبهة هي التي غرّ بها إبليس هؤلاء وأشباههم، فإذا رأيت جوانبها سقطت وتبين المؤمن من الكافر، والموحد من المشرك، فاعلم أن الكفّار كانوا مشركين بالله تعالى أصنامهم في الربوبية والعبادة .. فمن قال إن الكفّار يوحدون الله توحيد الربوبية أخذاً من ظاهر بعض الآيات، فقد أخطأ، وما أصاب، ولا تدبر السنّة ولا الكتاب، فإن الربوبية والألوهية متلازمان .. الرب والإله معناهما واحد، لأن الذي يستحق أن يعبد لابد أن يكون رباً)(3)
قال آخر: ومثلهم الشيخ ابراهيم بن عثمان السمنودى المصري الذي قال: (لقد جاء مشركوا العرب الكفر من جهة اعتقادهم استحقاق العبادة لغير الله، واتخاذه رباً من دون الله، وأما المسلمون فإنهم بحمد الله بريئون من ذلك، إذ لا يعتقدون شيئاً يستحق الألوهية والعبادة غير الله تعالى، فهذا هو الفرق بين الحالين .. وأما هؤلاء الجاهلون المكفرون للمسلمين، فإنهم لم يعرفوا الفرق بين الحالين، تخبطوا وقالوا إن التوحيد نوعان: توحيد
__________
(1) لفحات الوجد، ص 23.
(2) لفحات الوجد، ص 24.
(3) نقلاً عن: سعادة الدارين: 2/ 22.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/71)
الربوبية وتوحيد الألوهية)(1)
قال آخر: وقال: (وأما المشركون الذين نزلت فيهم الآيات القرآنية، فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية والعبادة، ويعظمونها تعظيم الربوبية، وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئاً)(2)
قال آخر: ومثلهم الشيخ أحمد دحلان الذي أنكر هذا التقسيم، وذكر الأدلة الكثيرة على بطلانه، ومن ذلك قوله: (وقالوا إن التوحيد نوعان توحيد الربوبية، وهو الذي أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية وهو الذي أقر به الموحدون، وهو الذي يدخلك في دين الإسلام، وأما توحيد الربوبية فلا يكفي، وكلامهم باطل .. فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية .. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ولم يقل: ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقرّ لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه .. وفي الحديث: (إن الملكين يسألان في قبره فيقولان له: من ربك؟)، ولا يقولا: من إلهك؟، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية)(3)
قال آخر: وقال متسائلا: (وهل للكافر توحيد صحيح؟ .. فإنه لو كان للكافر توحيد صحيح لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد .. فهل سمع المسلمون في الأحاديث والسير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب ليسلموا على يده، يفضّل لهم توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في دين الإسلام، أو يكتفي منهم بمجرد الشهادتين، وظاهر اللفظ ويحكم بإسلامهم، فما هذا
__________
(1) سعادة الدارين، 2/ 22.
(2) سعادة الدارين، 1/ 304.
(3) الدرر السنية، ص 40، 41.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/72)
الافتراء والزور على الله ورسوله، فإن من وحّد الربّ فقد وحّد الإله، ومن أشرك بالرب فقد أشرك بالإله، فليس للمسلمين إله غير الرب، فإذا قالوا لا إله إلا الله، إنما يعتقدون أنه هو ربهم، فينفون الألوهية عن غيره، كما ينفون الربوبية عن غيره)(1)
قال آخر: ومثلهم الشيخ يوسف الدجوي الذي أنكر هذا التقسيم بشدة، وذكر أدلته وحججه، فقال: (فقولهم إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية .. وغير معقول، وما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام إن هناك توحيدين، وأنك لا تكون مسلماً حتى توحّد توحيد الألوهية، ولا أشار إلى ذلك بكلمة واحدة، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء، ولا معنى لهذا التقسيم، فإن الإله الحق هو الرب الحق، والإله الباطل هو الرب الباطل، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان رباً، ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنه رب ينفع ويضر)(2)
قال آخر: ومن أدلته التي ساقها لهذا، قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]، ثم علق عليه بقوله: (فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أرباباً، يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب أنهم موحدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلا رب واحد، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية)(3)
قال آخر: ثم ذكر قول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما إلى التوحيد: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]،
__________
(1) الدرر السنية، ص 40، 41.
(2) مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان (توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية)، ص 255.
(3) توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ص 256.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/73)
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] .. وغيرها، ثم قال: (فليس عند هؤلاء الكفّار توحيد الربوبية، كما قال ابن تيمية، وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية، لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية، وشيء آخر يسمى توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام .. فهل هم أعرف بالتوحيد منه أم يجعلونه مخطئاً في التعبير بالأرباب دون الآلهة؟)(1)
قال آخر: ثم ذكر قول الله تعالى في أخذ الميثاق: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، ثم قال: (فلو كان الإقرار بالربوبية غير كاف، وكان متحققاً عند المشركين، ولكنه لا ينفعهم كما يقول ابن تيمية، ما صحّ أن يؤخذ عليهم الميثاق بهذا، ولا صحّ أن يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية، حيث أن توحيد الربوبية غير كاف كما يقول هؤلاء إلى آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه، وهو لا يخفى عليك، وعلى كل حال فقد اكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ولو لم يكونا متلازمين لطلب إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضاً)(2)
قال آخر: ثم قال: (فهل ترى للمشركين توحيداً بعد ذلك يصح أن يقال فيه أنه عقيدة؟ أما التيميون (3) فيقولون بعد هذا كله أنهم موحدون توحيد الربوبية، وأن الرسل لم يقاتلوهم إلا على توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه، ولا أدري ما معنى هذا الحصر مع أنهم كذبوا الأنبياء وردّوا ما أنزل عليهم، واستحلوا المحرمات وأنكروا البعث واليوم الآخر، وزعموا أن لله صاحبةً وولداً .. وذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل في رأي هؤلاء، وإنما قاتلوهم على عدم توحيد الألوهية كما يزعمون)(4)
__________
(1) توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ص 256.
(2) توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ص 256.
(3) يريد الدجوي بهذا اللقب: أتباع ابن تيمية.
(4) توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ص 259.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/74)
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من الوجه الخامس .. فما الوجه السادس؟
قال أحد التلاميذ: الوجه السادس مرتبط بالتأسيس للفهم الصحيح لتلك الآيات الكريمة التي استدل بها مشايخكم على ذلك، وهو ما يدعونا إلى البحث عن مقومات العبادة الصحيحة التي وردت في القرآن الكريم، ونقارنها بالعبادات والطقوس الباطلة التي كانت تُمارَس من قِبَل الوثنيين، وفي كل الجاهليات.
قال آخر (1): ولا شكّ أنّ الجامع بين جميع أقسام العبادات صحيحها وباطلها هو الخضوع للمعبود سواء أكان مستحقاً له كاللّه تعالى، أو غير مستحق له كالأصنام والأوثان أو الأجرام السماوية، أو الأرواح والمثل النورية المجردة .. فالعبادة في الجميع تستلزم الخضوع، وهو عمل قائم بالجوارح كالرأس واليد وغيرهما، فالعابد يخضع بجلّ جوارحه أو بشيء منها أمام المعبود.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك هناك خصوصية أخرى موجودة في الجميع، وهي أمر قائم بالضمير والقلب، ولعله الأساس لإضفاء العبادة على عمل الجوارح، وهي عبارة عن اعتقاد خاص بالمعبود الذي يكون مبدأ للخضوع الظاهري.
قال آخر (3): أمّا الموحدون الذين يعبدون اللّه تبارك وتعالى، فخضوعهم نابع عن اعتقادهم بأنّ الله تعالى خالق للكون والإنسان، ومدبر للعالم .. بيده كلّ شيء في الدنيا والآخرة، وليس هناك أي خالق ومدبر ومالك لمصالح العباد ومصائرهم في العاجل والآجل سواه .. أمّا العاجل فيعتقدون أنّ الخلق والتدبير والإحياء والإماتة وإنزال المطر
__________
(1) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 35.
(2) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 36.
(3) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 36.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/75)
والخصب والجدب وكلّ ما يعدّ ظاهرة طبيعية، من فعله سبحانه، لا من فعل غيره ممن لا يملك أي تأثير في مصير الإنسان .. أمّا الآجل فيعتقدون أنّ الشفاعة ومغفرة الذنوب وغيرهما من الأمور الأخروية بيده تعالى.
قال آخر (1): وعلى ضوء ذلك التعريف؛ فالعبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بكونه تعالى خالقا ومدبرا، وكون أزمَّة الأمور ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة بيده .. وهذا ما يعتقده جميع الموحدين، ومن جميع طوائف المسلمين.
قال آخر (2): أمّا المشركون في عصر الرسالة وقبلها وبعدها؛ فخضوعهم لمعبوداتهم كان نابعاً عن اعتقاد خاص يضادُّ ذلك، وعندما نتدبر القرآن الكريم نجد ذلك واضحا جليا، ومن خلاله نستطيع أن نفسر الآيات التي ذكرها الشيوخ، والتي نرى أنهم أساءوا فهمها، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]
قال آخر: فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن العرب في العصر الجاهلي كانوا موحدين في الخالقية، لكنّهم في الوقت نفسه كانوا مشركين في التدبير المرتبط بالربوبية، حيث كانوا يعتقدون بأرباب، لا برب واحد، ويعتقدون أن لكلّ رب شأن في عالم الكون.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أن الموحدين يرون أن العزة بيد اللّه وحده، كما قال
__________
(1) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 37.
(2) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 37.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/76)
تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، بخلاف المشركين الذين توهموا أن العزة بيد أصنامهم، أو أن الله شريك لأصنامهم في إعطائها من يشاء، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81]
قال آخر: ولهذا يدعو الله تعالى من يريد العزة إلى التمسك بالتوحيد، كما قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65]، وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]
قال آخر: ومثل ذلك؛ فإن الموحد يرى أنّ النصر بيد اللّه تعالى وحده، كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] .. لكن المشرك يعتقد بأن لأصنامه دورا في تحقيقه، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74]، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 75]
قال آخر: ومثل ذلك؛ فإن الموحد يؤمن بأنّ تدبير كل شيء بيد اللّه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، كما أنّ بيده الجدب والخصب، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 ـ 156] .. لكن المشرك كان يستمطر بالأنواء، بل يستمطر بالأصنام.
قال آخر: وقد ذكر ابن هشام في سيرته ذلك، فقال: كان عمرو بن لُحَيّ أوّل من
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/77)
أدخل الوثنية إلى مكة وضواحيها، فقد رأى في مآب من أرض البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ .. وهكذا استحسن طريقتهم واصطحب معه إلى مكة صنماً كبيراً يقال له (هبل) ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته (1).
قال آخر: ومثل ذلك؛ فإن الموحد يرى أنّ غفران الذنوب والشفاعة بيده سبحانه، فليس هناك غافر للذنوب إلاّ اللّه تعالى، ولا شفيع إلاّ بإذنه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44]
قال آخر (2): وأمّا المشرك فكان يعتقد بأنّ الشفاعة بيد الآلهة والأرباب المزيفة، والشاهد على ذلك أن الآيات الكريمة التي ذكرناها نزلت رداً على عقيدة المشركين، حيث كانوا يعتقدون بأنّهم مالكون مقام الشفاعة بتفويض من اللّه تعالى، ولأجل ذلك يؤكد على نفي تلك العقيدة في آيات أُخرى، ويقول: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]، وقال: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]
قال آخر: ومثل ذلك؛ فإن الموحد يرى أنّ مصيره عاجلاً وآجلاً بيده سبحانه، بخلاف المشرك الذي يراه بيد آلهته المزيفة، كما قال تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه السلام ـ
__________
(1) السيرة النبوية: 1/ 76 ـ 77.
(2) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 40.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/78)
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 ـ 82]
قال آخر: بخلاف المشرك الذي يرى أن كلّ ذلك أو أكثره بيد آلهته وأربابه، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]، وقال حاكياً قول المشركين يوم الحشر: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 97 ـ 102]
قال آخر: ومثل ذلك؛ فإن الموحد يرى أنّ التشريع والشريعة والحاكمية لله، وفي كل الشؤون، كما قال تعالى في التفريق بين المؤمنين والمشركين في هذا الجانب: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]
قال آخر: في نفس الوقت الذي أخبر فيه عن شرك الحاكمية، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 103 ـ 104]
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/79)
قال آخر (1): وغيرها من الآيات الكريمة التي تصور عقيدة المشركين في الجاهلية، وتبين أن خضوعهم لأصنامهم لم يكن خضوعا مجردا نابعا عن الحب المجرد فقط، بل ناجما عن عقيدة خاصة في الآلهة والأرباب، والاعتقاد بأن أمر التدبير بعضه أو كله بيدهم وأن مصيرهم موكول إليهم.
قال آخر: وقد فسر العبادة بهذا المعنى كل العلماء الذين أنكروا على شيوخكم من المدارس المختلفة .. ومنهم العلامة الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطا، الذي قال في كتابه الذي ألفه ردا على رسالة عبد العزيز بن سعود: (لا ريب أنه لا يراد بالعبادة ـ التي لا تكون إلا لله، ومن أتى بها لغير الله، فقد كفر ـ مطلق الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلا لزم كفر العبيد والأجراء وجميع الخدام للأمراء، بل كفر الأنبياء في خضوعهم للآباء، وجميع من تواضع للاخوان، أو لأحد من أصحاب الإحسان .. وإنما الباعث على الكفر، انقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الأمر من الكريم المتعال، وأن لهم تدبيرا واختيارا)(2)
قال آخر: ثم طالب شيوخكم بتطبيق هذا الحكم على واقع المسلمين، فقال: (أين حال المسلمين من حال من جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، واتخذ الملائكة أربابا دون الله، وبعض المخلوقين أندادا وشركاء، يعبدونها من دون الله أو مع الله، إما لأهليتهم، أو لترتب التقرب إلى الله زلفى، من دون أمر الله لهم بذلك، قال تعالى: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40])(3)
قال آخر: ثم دعا المكفرين إلى العودة إلى اللغة العربية لفهم الآيات فهما سليما، فقال:
__________
(1) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 41.
(2) منهج الرشاد، ص 86.
(3) منهج الرشاد، ص 87.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/80)
(اعلم أن الألفاظ اللغوية والعرفية العامة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواء وردت في السنة والقرآن أم لا .. وأما إذا انقلبت عن المعاني الأولية إلى غيرها، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان، كلفظ الصلاة، والصيام، والحج، فإنه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والإمساك والقصد، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان وتحديد .. ومن هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فانه لا يراد بهما في لحوق الشرك بهما، المعنى القديم، وإلا لزم كفر الناس من يوم آدم إلى يومنا هذا، لأن العبادة بمعنى الطاعة، والدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لا يخلو منها أحد، ومن أطوع من العبد لسيده، والزوجة لزوجها، والرعية لملوكهم، ولا زالوا ينادونهم ويطلبونهم إعانتهم ومساعدتهم، بل الرؤساء، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم ويندبونهم .. فعلم أنه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات، وتعينت إرادة المعاني الجديدة)(1)
قال آخر: ثم طبق هذا المعنى على الدعاء والتوسل والاستغاثة ونحوها، فقال: (إن أريد بدعوة غير الله والاستغاثة، اسناد الأمر إلى المخلوق على أنه الفاعل المختار، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار، والمسلمون بجملتهم برآء من هذه المقالة، ومن قائلها، وما أظن أن أحدا ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي، ولا سمعناه من أحد إلى يومنا هذا .. وإن أريد أن المدعو والمستغاث به، له اختيار وتصرف في أمر الله، فيحكم على الله، فهذا أشد كفرا من الأول .. وإن أريد دعاؤه والاستغاثة به، للدعاء والشفاعة ـ أي ليدعو له أو يشفع له عند الله ـ فهذا من أعظم الطاعات، وفيه محافظة على الآداب من كل الجهات .. وكون الدعاء عبادة إنما يجري في قسم منه، وهو الطلب من الخالق
__________
(1) منهج الرشاد، ص 88.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/81)
المدبر الذي جل شأنه عن الأشياء والنظائر، ولو جعلت كل دعاء عبادة، للزم أن يكون دعاء زيد لإصلاح بعض الأمور، أو دفع بعض المحذور، من قبيل الكفر)(1)
قال آخر: ومن العلماء الذين ميزوا الحقيقي والمجازي من معنى العبادة، ومقتضياتها، العلامة المحقق، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي الذي قام بتفسير العبادة في تفسيره المسمى بـ[آلاء الرحمن في تفسير القرآن]، فقال: (لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رسلهم ومجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر، ويعرفون بذوقهم مجازه ووجه التجوز فيه .. وإن المحور الذي يدور عليه استعمالهم وتبادرهم هو أن العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالالهية، أو بعنوان أنه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلها، تعالى الله عما يشركون)(2)
قال آخر: ثم ذكر وجوه الخطأ التي وقع فيها هؤلاء، فقال: (ولكن الخطأ والشرك أو البهتان والزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة .. لأول: الإتيان بما تتحقق به حقيقة العبادة لما ليس أهلا لذلك، بل هو مخلوق لله كعبادة الأوثان مثلا .. الثاني: مقام البهتان والافتراء وخدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة، فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئا من الاحترام بعنوان أنه عبد مخلوق لله، مقرب عنده لأنه عبده وأطاعه، أنه عبد ذلك المحترم وأشرك بالله في عبادته .. ألا تدري لمن يبهتون بذلك، يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقربا إلى الله، لأنه اختاره وأكرمه بمقام الرسالة أو الإمامة التي هي بجعل الله وعهده .. وهذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه، ولا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هؤلاء المتحزبين، لملوكهم، وزعمائهم، وحكامهم، وخضوعهم لهم
__________
(1) منهج الرشاد، ص 90.
(2) آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 57.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/82)
بالقول والعمل .. المقام الثالث، وكثيرا ما فسرت العبادة بأنها ضرب من الشكر، مع ضرب من الخضوع، أو الطاعة، وهل يخفى عليك أن هذه التفاسير مبنية على التساهل بخصوصيات الاستعمال، أو الارتباك في مقام التفسير، وهل يخفى أن أغلب الأفراد من كل واحد مما ذكروه لا يراه الناس عبادة ويغلطون من يسميها أو بعضها عبادة إلا على سبيل المجاز .. وإن لفظ العبادة وما يشتق منه كعبد ويعبد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلا فيما ذكرناه من معاملة الإنسان لمن يتخذه إلها معاملة الإله، المستحق لذلك بمقامه في الآلهة)(1)
قال آخر: ومنهم العلامة المحقق الشيخ سلامة القضاعي العزامي المصري الذي كتب كتابا أسماه [فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان]، والذي رد فيه على الطروحات التي طرحها ابن تيمية وأتباعه في هذا الجانب، ومن ذلك قوله عند الحديث عن معنى العبادة: (إن الغلط في تفسير العبادة، المزلقة الكبرى والمزلة العظمى، التي استحلت بها دماء لا تحصى، وانتهكت بها أعراض لا تعد، وتقاطعت فيها أرحام أمر الله بها أن توصل، عياذا بالله من المزالق والفتن .. ولا سيما فتن الشبهات)(2)
قال آخر: ثم بين وجوه الخطأ في ذلك الفهم، ونتائجه، فقال: (فاعلم أنهم فسروا العبادة بالإتيان بأقصى غاية الخضوع، وأرادوا بذلك المعنى اللغوي، أما معناها الشرعي فهو أخص من هذا كما يظهر للمحقق الصبار على البحث من استقراء مواردها في الشرع، فانه الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلبا، باعتقاد ربوبية المخضوع له، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعا، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به ولو سجودا .. ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع
__________
(1) آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1/ 57.
(2) فرقان القرآن، (ص 111)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/83)
والضر، وكنفوذ المشيئة لا محالة ولو بطريق الشفاعة لعابده عند الرب الذي هو أكبر من هذا المعبود)(1)
قال آخر: ثم بين سبب كفر المشركين في هذا، فقال: (وإنما كفر المشركون بسجودهم لأوثانهم ودعائهم إياهم، وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقق هذا القيد فيهم، وهو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له، أو خاصة من خواصها .. ولا يصح أن يكون السجود لغير الله فضلا عما دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد، عبادة شرعا كسجود الملائكة لآدم، فإنه حينئذ يكون كفرا وما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع، ولا يأمر الله عزوجل به {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7])(2)
قال آخر: ثم ذكر مثالا قرآنيا على هذا، فقال:: (وها أنت ذا تسمع الله تعالى قد قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] .. والقول بأن آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق ويرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم)(3)
قال آخر: ثم ذكر مثالا واقعيا على هذا، فقال: (فإن تعسر عليك فهم هذا، وهو ليس بعسير إن شاء الله تعالى، فانظر إلى نفسك فإنه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك واحترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها، ولا يكون ذلك منك عبادة له، لماذا؟ .. لأنه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه .. وتقف في الصلاة قدر الفاتحة وتجلس فيها قدر التشهد وهو قدر
__________
(1) فرقان القرآن، (ص 111)
(2) فرقان القرآن، (ص 111)
(3) فرقان القرآن، (ص 111)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/84)
دقيقة أو دقيقتين، فيكون ذلك منك عبادة لمن صليت له، وسر ذلك هو أن هذا الخضوع الممثل في قيامك وقعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعت له عزوجل)(1)
قال آخر: وضرب مثالا واقعيا آخر على ذلك، فقال: (وتدعو رئيسك في عمل من الأعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك وأنت معتقد فيه انه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر، ولكن الله جعله سببا في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلا منه سبحانه، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعو، وأنت على ما وصفنا، فإن دعوته وأنت تعتقد فيه أنه مستقل بالنفع، أو الضر، أو نافذ المشيئة مع الله لا محالة، كنت له بذلك الدعاء عابدا، وبهذه العبادة أشركته مع الله عزوجل لأنك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية، فإن الاستقلال بالجلب أو الدفع ونفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية، والمشركون إنما كفروا بسجودهم لأصنامهم ونحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع، أو الضر ونفوذ مشيئتهم لا محالة مع الله تعالى، ولو على سبيل الشفاعة عنده، فإنهم يعتبرونه الرب الأكبر ولمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته، وبمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ المشيئة معه لا محالة)(2)
قال آخر: ثم استدل لهذا بالآيات التي تخاطب المشركين، وتندد بشركهم، كقوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20 ـ 21] .. وقوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء: 43] .. ثم علق على هذا بقوله: (والاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه)
__________
(1) فرقان القرآن، (ص 112)
(2) فرقان القرآن، (ص 113)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/85)
قال آخر: ثم استدل بقوله تعالى للمشركين موبخا لهم يوم القيامة على ما اعتقدوه لأصنامهم من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92 ـ 93]، وقولهم وهم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية وخصائصها: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 ـ 98]، ثم علق على الآيات الكريمة بقوله: (فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم؛ فإن التسوية المذكورة إن كانت في إثبات شيء من صفات الربوبية فهو المطلوب، ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم، لأن صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزو جل، وإن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق، وهو صفات الألوهية أو بعضها، وإن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلا لمن يعتقد استحقاقه لها كرب العالمين، تعالى الله عما يشركون)(1)
قال آخر: ومنهم العلامة المحقق أبو القاسم الخوئي الذي قال تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]: (إن حقيقة العبادة خضوع العبد لربه بما أنه ربه والقائم بأمره، والربوبية تقتضي حضور الرب لتربية مربوبه، وتدبير شئونه .. وكذلك الحال في الاستعانة فإن حاجة الإنسان إلى إعانة ربه وعدم استغنائه عنه في عبادته، تقتضي حضور المعبود لتتحقق منه الإعانة، فلهذين الأمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربه غير غائب عنه)(2)
قال آخر: ثم بين وجه اختصاص العبادة بالله تعالى، فقال: (مما لا يرتاب فيه مسلم أن العبادة بمعنى التأله، تختص بالله سبحانه وحده، وقد قلنا: إن هذا المعنى هو الذي
__________
(1) فرقان القرآن، ص 114.
(2) البيان في تفسير القرآن، ص 455.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/86)
ينصرف إليه لفظ العبادة عند الإطلاق، وهذا هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] .. فالإيمان بالله تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق، وإنكار التوحيد في الذات، أم نشأت عن الاعتقاد بأن الخلق معزولون عن الله فلا يصل إليه دعاؤهم، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة أخرى تكون وسائط بينهم وبين الله يقربونهم إليه، وشأنه في ذلك شأن الملوك وحفدتهم، فإن الملك لما كان بعيدا عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم، ويجيبون دعواتهم)(1)
قال آخر: ثم ذكر ما ورد في القرآن الكريم من إبطال كلا الاعتقادين الفاسدين، حيث قال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، وقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]
قال آخر (2): وأما الاعتقاد الثاني ـ وهو إنما ينشأ عن مقايسته بالملوك والزعماء من البشر ـ فقد أبطله الله بوجوه من البيان .. ومنها طلب البرهان على هذه الدعوى، وانها مما لم يدل عليه دليل، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، وقوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 71 ـ 74]
__________
(1) البيان في تفسير القرآن، ص 456.
(2) البيان في تفسير القرآن، ص 458.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/87)
قال آخر (1): ومنها إرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أن ما يعبدونه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، والذي لا يملك شيئا من النفع والضر، والقبض والبسط، والإماتة والإحياء، لا يكون إلا مخلوقا ضعيفا، ولا ينبغي أن يتخذ إلها معبودا، كما قال تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 ـ 67]
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من الوجه السادس .. فما الوجه السابع؟
قال أحد المتهمين (2): الوجه السابع مرتبط بالفهم الصحيح لما حكاه االقرآن الكريم عن المشركين بأنّ عبادتهم كانت لأجل التقرب بعبادتهم إلى اللّه فقط لا غير، كما قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، أي أنهم يقولون: (نحن لا نعدُّهم مؤثرين في حياتنا ومصيرنا وإنّما نعبدهم لنتقرب بعبادتهم إلى اللّه)
قال آخر: فعندما نقرأ هذا القول ونجمعه مع ما ورد في الآيات السابقة؛ والتي تذكر أنّهم كانوا يتّخذونهم آلهة وأرباباً، وأنهم كانوا يستمطرون ويستنصرون ويعتَّزون بهم .. نعلم أن الله تعالى لم يحك قولهم ذلك عنهم تصديقا لهم، وإنما لكونهم قالوه بألسنتهم فقط، ولذلك عقب الله تعالى الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، وهو ما يشير إلى أنهم كانوا كاذبين في تلك الدعوى، وأنهم إنّما كانوا يعبدونهم لغايات دنيوية، وهي اكتساب العزة والنصرة والخصب والنعمة والشفاء والشفاعة.
__________
(1) البيان في تفسير القرآن، ص 459.
(2) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 45.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/88)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد صرح القرآن الكريم بكونهم يمارسون النفاق إضافة إلى الكذب، كما قال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]، ولذلك لا يمكن أن يوثق في أقوالهم التي حكاها القرآن الكريم عنهم.
قال آخر: ومما يؤكد ذلك ما اشتهر عنهم من أنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام ويحجون لها ويتقربون إليها، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81]، وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3]، وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74]، وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19 ـ 23]
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد اشتهر عنهم أنهم كانوا يقولون: (ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر)، كما قال تعالى مخبرا عنهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: 37 ـ 38]، وقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، بل قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، فرد الله عليهم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]
قال آخر (1): فهل يجوز لنا بعد هذا أن نصف من لا يقر بأن الله خالق ومحيي أنه
__________
(1) التنديد بمن عدد التوحيد، ص 12.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/89)
موحد توحيد ربوبية، والله تعالى يقول عنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] .. بل بلغ من كفرهم ما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]
قال آخر (1): فهل هؤلاء يقولون بوجود الرحمن الرحيم .. ولو كانوا يقرون أن الله هو الخالق لما قال الله لهم: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 ـ 92]، وقد عبر بالإله ولم يعبر بالرب إشارة إلى أنهم لا يوحدون، لا الرب ولا الإله، ولأن الرب هو الإله، والإله هو الرب.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سماهم موحدين للربوبية، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة الهدى، بل إن ابن عباس الذي نقل عنه قوله: (كفر دون كفر) لم ينقل عنه في حقهم قوله: (إيمان دون إيمان) .. وهذا ما يدل على أن اللغة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ينطقون بها، والعرف الذي كان سائدا بينهم يمنعان إطلاق موحد أو توحيد ربوبية على من كان حاله حال المشركين.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإنه يمكن النظر إلى الآيات الكريمة من جهة أخرى، وهي أن المشركين لم تكن عقيدتهم في ربوبية أصنامهم على درجة واحدة، بل كانت تختلف حسب اختلاف الظروف والشرائط .. فطائفة منهم تعتقد بسعة ربوبية الأرباب والآلهة كما كان عليه المشركون في عصر إبراهيم عليه السلام حيث كانوا يعتقدون بربوبية النجم والقمر والشمس للموجودات الأرضية، كما حكاه الله تعالى عنهم في عدّة من
__________
(1) التنديد بمن عدد التوحيد، ص 12.
(2) التنديد بمن عدد التوحيد، ص 17.
(3) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 41.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/90)
الآيات، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 75 ـ 76] .. إلى آخر الآيات الكريمة.
قال آخر: وهكذا توجد طائفة أُخرى تعتقد بضيق ربوبية تلك الآلهة وتخصها ببعض ما يمتُّ إلى الإنسان بصلة كاختصاصهم بحقّ الشفاعة والمغفرة والعزّة والنصرة في الحروب إلى غير ذلك، كما تشرح ذلك كتب الملل والنحل بالتفصيل والأدلة (1).
قال آخر: وقد كان القاسم المشترك بينهم جميعا هو اعتقادهم بمالكية الآلهة شيئاً من الربوبية وإدارة الكون وحياة الإنسان .. وهو ما يجعلهم مختلفين تماما عن المؤمنين الذين يجعلون كل شيء لله، ومن الله، وبالله.
قال آخر: ومما يدل على ذلك ما روي عن زيد بن عمرو بن نوفل الذي ترك عبادة الأصنام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يحكي عن عقيدته في الجاهلية ويقول (2):
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبور
ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير
قال آخر (3): هذه الأشعار وغيرها ومثلها ما يروى من النثر المروي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثبت أنّ آلهتهم التي كانوا يعبدونها، كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبية مالكة لها
__________
(1) الشهرستاني: الملل والنحل:2/ 244.
(2) بلوغ الارب: 2/ 249.
(3) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك، السبحاني، ص 43.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/91)
مؤثرة في الكون ومصير الإنسان، وأنّ هؤلاء آلهة وأرباب، واللّه سبحانه إله الآلهة وربّ الأرباب.
قال آخر: ويدل على ذلك الآيات الكثيرة التي تذكر ذلك، وتصرح به، والتي استعملها للأسف شيوخنا الأفاضل ليطبقوها علينا وعلى جماهير المسلمين.
قال آخر: ومن تلك الآيات الكريمة التي تندد بالمشركين وتشجب عملهم، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 194 ـ 196]
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 106 ـ 107]، وقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]
قال آخر: وغيرها من الآيات الكريمة المندّدة بعمل المشركين، وكلها تدل على أنّ حقيقة العبادة قائمة بأمرين .. أولهما يرجع إلى جوارح الإنسان المشعرة بالتعظيم والخضوع .. وثانيهما يرجع إلى عقيدة الخاضع في حقّ المخضوع له بنحو من الأنحاء من كونه خالقاً أو رباً أو من بيده مصير الإنسان كلاً أوجزءاً فلا تتحقق مفهوم العبادة إلاّ بتحققهما.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/92)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم على المسألة الأولى المرتبطة بأقسام التوحيد، وعلاقتها بالإيمان والكفر، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك لا داعي لأن تجادلوهم، بل علينا أن ننتقل إلى المسألة الثانية، والمرتبطة بالتوحيد.
قام أحد الشيوخ، وقال: بناء على المسألة الأولى التي رأينا عدم استجابتكم لما طرحناه بشأنها، فسنطرح لكم المسألة الثانية إقامة للحجة عليكم، وحتى يستفيد غيركم أيضا من الحاضرين معنا .. وهي ترتبط بالتوسل والاستغاثة، باعتبارهما من الأسباب الكبرى للوقوع في الشرك الجلي، كما نص على ذلك كل شيوخنا الموحدين الربانيين.
قال آخر: ومثلما تعلمون؛ فنحن لا نحب أن نطيل الكلام كثيرا، مثلما تفعلون، ولهذا سنقتصر على وجهين فقط يشرحان كل ما ذكره شيوخنا من العلماء المجددين الربانيين بشأنهما .. فالاختصار سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا.
قال القاضي: فحدثونا شيوخنا الأفاضل عن الوجه الأول.
قال أحد الشيوخ: الوجه الأول مرتبط بما ذكره شيوخنا الربانيون عن الفرق بين الشفاعة والتوسل والاستغاثة، فقد شبه شيوخنا أولئك المشركين الذين اتخذوا الصالحين شفعاء، ووسائط بينهم وبين الله، ويدعونهم، ويرجونهم، بحال المشركين الذين قاتلهم
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/93)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن اتخذ الأصنام أو الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى، مع اعتقاد أن النفع والضر من عند الله.
قال آخر: وقد أورد شيخنا محمد بن عبد الوهاب اعتراضات المخالفين، ورد عليها بالقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع العلماء المحققين، فقال: (إن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدون بها الناس عنه، منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق، ولا يرزق ولا ينفع، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضراً، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم)(1)
قال آخر: ثم ذكر جواب هذه الشبهة الخطيرة، فقال: (فجوابه هو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه، والشفاعة، كما في القرآن)(2)
قال آخر: ثم أورد شبهة أخرى يتعلق بها المشركون، فقال: (فإن قال هؤلاء الآيات إنما نزلت فمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ .. أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟)، ثم رد عليها بقوله: (فجاوبه بما تقدم .. فإنه إذا أقرّ أن الكفّار يشهدون بالربوبية كلها، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعله، وفعلهم بما ذكر؛ فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] ويدعون عيسى بن مريم وأمه، ويدعون الملائكة .. وقل له: أعرفت أن الله كفّر من قصد الأصنام، وكفّر أيضاً من
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 160.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 161.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/94)
قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. فإن قال: الكفّار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبّر، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم، فالجواب أن هذا قول الكفّار سواء بسواء، واقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، واعلم أن هذه الشبهة أكبر ما عندهم)(1)
قال آخر: وبناء على هذا، اهتم علماؤنا ومشايخنا بتصحيح مفهوم الشفاعة، مثلما اهتموا بتصحيح مفهوم الوحدانية، وأنواعها؛ ولذلك يردون بشدة على من يتهمهم بإنكار شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال شيخنا ابن عبد الوهاب: (يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله رب العرش العظيم أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه .. هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباع شرعه)(2)
قال آخر: لكنه يصحح مفهومها، ويذكر شروطها، ويرد على من قال إن الله أعطى الشفاعة محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأطلبها منه، يقول في ذلك: (فإن قال أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ منها؟ .. فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وآله وسلم الشافع المشفع، وأرجوا شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، ولا يشفع في
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 161.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 5/ 48.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/95)
أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيها، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلّها لله فاطلبها منه، وقل: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه فيّ وأمثال هذا .. فإن قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله .. فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا فقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، فإن كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك، فأطعه في قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه)(1)
قال آخر: وهكذا يحمي شيخنا الشفاعة من أن تتحول إلى وسيلة إلى عبادة غير الله، ويضيف إلى ذلك شرطا مهما، هو أن الشفاعة لا تُطلب في الدنيا إلا من الله، فلا تطلب من الأنبياء، أو الأولياء بعد موتهم، يقول في ذلك: (والشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الشفعاء، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء، بل (يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد لهم حداً فيدخلهم الجنة)(2) فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه، ولا يخالف فيه أحداً من علماء المسلمين.
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 165.
(2) البخاري (7510)، ومسلم (193)(326)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/96)
بل قد أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين الأئمة الأربعة وغيرهم)(1)
قال آخر: وقد تحدى شيخنا كل العلماء أن يأتوه بدليل على جواز طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، فقال: (القائل أنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو من اجتماع الأمة، والحق أحق أن يتبع)(2)
قال آخر: وأكد على أن طلب الشفاعة من موتى الصالحين يضاد توحيد العبادة وينافيه، فقال: (إن أهل الجاهلية يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله، وعبادته. يريدون شفاعتهم، لظنهم أن الله يحب ذلك، وأن الصالحين يحبونه كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .. وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص)(3)
قال آخر: وهكذا ذكر نجله شيخنا الجليل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المعتقد الصحيح في الشفاعة، والمختلف تماما عما يفعله الجهلة من التوسل والاستغاثة، فقال: (ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذا نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضاً، ونسألها من المالك لها، والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: اللهم شفّع نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينا يوم القيامة، أو اللهم شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال يا رسول الله، أو يا ولي الله،
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/ 113.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/ 48.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/ 334.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/97)
أسألك الشفاعة، أو غيرها كأدركني، أو أغثني، أو اشفعني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى)(1)
قال آخر: ومثلهم ذكر حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه [التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق] شروط الشفاعة، فقال: (ومسألة الشفاعة لم ينفها الله سبحانه، لكن أخبر أنها لا تكون ولا تنفع إلا لمن أذن له، فالشفاعة بعد رضائه تعالى عن المشفوع فيه وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين، فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة وقبل استئذان المشفوع إليه .. وهذا يوجب انقطاع تعلق القلوب بغيره، ولو كان نبياً، أو ملكاً؛ فكيف بالمشايخ، والعلماء، والملوك، فإن غاية الراجي لهم المعتقد أن يقول هم يشفعون لي، فقد أخبر سبحانه أنه ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وأنكر أن يشفع أحد إلا بإذنه وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له)(2)
قال آخر: وقد ذكر سبب إيراد جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب لباب (الشفاعة) ضمن أبواب [كتاب التوحيد]، فقال: (لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه، إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة. كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها، وأخبر أنه شرك، ونزّه نفسه عنه، ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] أراد المصنف ـ الشيخ الإمام ـ في هذا الباب، إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له، كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وأنها لله،
__________
(1) الهدية السنية، ص 42.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 77.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/98)
هو الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع ابتداء كما يظنه أعداء الله)(1)
قال آخر: ورد بشدة على دعوى الخصوم بأن طلب الشفاعة من الموتى ليست عبادة لهم، لأنه دعاهم للشفاعة فقط، فقال: (فإن قلت: إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء، أما من دعاهم للشفاعة فقط، فهو لم يعبدهم، فلا يكون ذلك شركاً .. قيل: مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك، والشرك لازم له، كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى، والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى، وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج، وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإذا دعاهم للشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى)(2)
قال آخر: وذكر اللوازم الشركية لاتخاذ الشفعاء من دون الله، فقال: (إن المتخذ للشفعاء والأنداد، إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني من كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع، وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع، أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا .. وهذا أصل شرك الخلق، وكله تنقص للربوبية وهضم لحقها، ولهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك، ونزّه نفسه عنه فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18])(3)
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 273.
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 276.
(3) تيسير العزيز الحميد، ص 275.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/99)
قال آخر: وبين حقيقة الشفاعة ومحلها الصحيح، فقال: (وحقيقة أمر الشفاعة، أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فهذا هو حقيقة الشفاعة، لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنّة، وينجيه من النار. ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم)(1)
قال آخر: وهكذا يرد شيخنا وإمامنا الإمام عبد العزيز الأول على من ادعى عدم شرط الإذن من الله في مسألة الشفاعة، فيبين أن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب، فقال: (ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما؛ لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولا سيما إن كانت من غير إذنه فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44])(2)
قال آخر: وقد رد ردا شديد على المستشفعين بالموتى، فقال: (وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعاً ووسيلة، ونحن نقول: هؤلاء الداعون الهاتفون بذكره، المعتقدون في الأحياء الغائبين المدعوين، والأموات يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم، وإبراء مريضهم وتكثير رزقهم .. لم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة، وهما من أعظم المخاصمة الجارية علينا مما قاتلنا وبدّعنا، وجعل اليهود والنصارى أخف شراً منا ومن أتباعنا .. وحقيقة قولنا أن الشفاعة وإن كانت حقاً في الآخرة فلها أنواع مذكورة في محلها،
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 295.
(2) الهدية السنية، ص 14.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/100)
ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم، بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص، ماعدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون، فالوصف من مات لا يشرك بالله شيئاً)(1)
قال آخر: ومثلهم ذكر شيخنا محمد بن ناصر بن معمر أن الشفاعة كلّها لله وحده، وأنها لا تكون إلا بشرطيها: الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، فقال: (وبيان أن الشفاعة كلّها لله، ليس لأحد فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضى قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، ومعلوم أن أعلى الخلق، وأفضلهم، وأكرمهم عند الله الرسل والملائكة المقرّبون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم وأمره، فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى، والذي شفع عنده إنما بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته أن يرحم عبيده)(2)
قال آخر: ومثلهم ذكر شيخنا عبد الرحمن بن حسن الأدلة على امتناع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، فقال: (وأما دليله من العقل، فالعقل الصريح يقضي، ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، وإخلاص الدعاء، والالتجاء له؛ لأن الخير كله بيده، وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، فالذي له الخلق، والأمر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه لا
__________
(1) الهدية السنية، ص 12.
(2) الهدية السنية ص 61.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/101)
يستغني عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه ويرهب منه)(1)
قال آخر: ورد على من كذب وادعى فرية الإجماع على طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، فقال: (الله أكبر ما أعظمها من فرية على الله، وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى السلف، وأئمة الدين؛ فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة، جعل ما أجمع عليه الرسل، والكتب، والسلف، والمسلمون من تحريم دعاء غير الله، وتشديد النهي عنه، وعن اتخاذا الشفعاء، جعل ذلك المحرم أشد التحريم مجمعاً على جوازه)(2)
قال آخر: وذكر شناعة اتخاذ الشفعاء من دون الله، وما يتضمنه من الطامات، فقال: (ولا ريب أن اتخاذ الشفعاء والتوجه إليهم بالقلب واللسان ينافي إسلام القلب والوجه لله وحده، وقد قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51] أخبر تعالى أن النذارة بالقرآن لا ينتفع بها إلا من تخلى عن الشفعاء في دار العمل، وعلق رغبته، ورهبته وسؤاله وطلبه بمن له الملك وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله)(3) .. وقال: (ولا ريب أن الاستشفاع بالموتى يتضمن أنواعاً من العبادة: سؤال غير الله، وإنزال الحوائج به من دون الله، ورجائه، والرغبة إليه، والإقبال عليه بالقلب والوجه والجوارح واللسان .. وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله)(4)
قال آخر: وبين المراد بالاستشفاع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، فقال: (وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصاً به صلى الله عليه وآله وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه، وأن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة
__________
(1) القول الفصل النفيس، ص 253.
(2) القول الفصل النفيس، ص 82.
(3) القول الفصل النفيس، ص 86.
(4) القول الفصل النفيس، ص 90.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/102)
والعامة)(1)
قال آخر: ومثلهم فرّق شيخنا العلامة عبد الله أبو بطين بين الشفاعة الصحيحة والشفاعة الشركية، فقال: (وقد فرق القرآن بينهما في قول صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23]، فالإنقاذ هو بالنصرة والمظاهرة، والشفاعة بالجاه والمكانة)(2)
قال آخر: وذكر ما يقع في هذا من اللبس فيه، فقال: (إطلاق القول بأن الله ملّك المؤمنين الشفاعة، خطأ، بل الشفاعة كلّها لله وحده {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحين يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة، يصح أن يقال أنه ملك ما أذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال (3)، وسيد الشفعاء صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع حتى يقال له ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع)(4)
قال آخر: وشبه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن من طلب الشفاعة من الأولياء الموتى، بحال النصارى، فقال: (ولو قال: يا ولي الله اشفع لي، فإن نفس السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى، يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله .. وقد أجمع المسلمون أن هذا شرك، وإذا سألهم معتقداً تأثيرهم من دونه فهو أكبر وأطم)(5)
قال القاضي: وعينا هذا .. وشكرا لكم .. فحدثونا ـ شيوخنا الأفاضل ـ عن الوجه الثاني.
__________
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 504.
(2) تأسيس التقديس، ص 24.
(3) يقصد داود بن جرجيس.
(4) تأسيس التقديس، ص 82.
(5) البراهين الإسلامية، ص 49.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/103)
قال أحد الشيوخ: الوجه الثاني مرتبط بالرد على ما يستدل به الخصوم المشركون من جواز التوسل إلى الله تعالى بالموتى الذين لا يسمعون ولا يبصرون.
قال آخر: وقد ساق الشيخ عبد الله القصيمي ـ قبل إلحاده ـ الدلائل الكثيرة على بطلان الاستشفاع بالموتى، فقال: (المستشفعون بالموتى لابد أن يعتقدوا أنهم قد أعطوا من كمال السمع، والإحاطة بالغيب ما لم يكن لهم، وما لم يكن إلا لله وحده، ولابد أن يعتقدوا فيهم أيضا أنهم يعلمون الغيوب، ويحيطون علماً بالقريب والبعيد .. ولهذا يدعو النبي والولي في الوقت الواحد منهم الداعون الكثيرون المختلفون لغات، ولهجات، وحاجات، ثم لا يشكون أن ذلك النبي، أو الولي يسمع دعاءهم، واستشفاعهم؛ فإذا كان الاستشفاع بالموتى يلزمه نحلهم هذه الصفات التي لا يمكن أن تعدو رب العالمين، أو نحل بعضها فلا ريب في بطلان هذا الاستشفاع، وفساد عقائد القائلين به)(1)
قال آخر: ومن الأدلة التي ذكرها لذلك ما عبر عنه بقوله: (كما أن الله قد ذكر في كتابه إنكار شفاعات المشركين، ونعى عليهم أنواع استشفاعاتهم، فنفى شفاعاتهم جملة، ونعى عليهم استشفاعهم أيضاً جملة، وأخبر أن من جملة ضلال القوم، وفساد عقائدهم، ومن جملة شركهم بالله، واستحقاقهم النقمة والمقت، اتخاذهم الشفعاء إليه، وطلبهم الشفاعة من معبوديهم)(2)
قال آخر: ورد على الشبه المرتبطة بهذا، فقال: (ولا يمكن أيضا أن يقال: إن هذا الاستشفاع المنكر على المشركين هو الاستشفاع المقرون باعتقاد صاحبه بأن ذلك المستشفع به المرجو للشفاعة قديم مع الله مساوٍ له في القدرة والسلطان، وذلك لأن المشركين كانوا مقرّين بأن الله وحده هو خالق الخلق وخالق العالم وخالق أصنامهم وشفعائهم وما يعبدون
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية، 2/ 212.
(2) الصراع بين الإسلام والوثنية، 2/ 279.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/104)
ويدعون من دون الله .. ولا يمكن أيضاً أن يحمل هذا الاستشفاع الذي يعتقد صاحبه أن من استشفع به يشفع بدون إذن الله، وبدون رضاه، بل يشفع قهراً وقسراً، لأن المشركين كانوا مقرّين بخضوع أصنامهم وخضوع كل شيء لله لا ينازعون في هذا ولا يمحالون، ولهذا يتخذون أصنامهم شفعاء لديه تعالى، ويقولون إنها تقربهم إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولا ريب أنه لابد أن يكون الشافع والمشفوع له خاضعين دائنين لسلطانه وقهره؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن الأصنام مستقلة عن الله، قادرة على منح الخير، والفلاح، والسعادة من دون الله، وبدون إذنه ورضاه، لما احتاجوا إلى جعلهم شفعاء لديه سبحانه)(1)
قال آخر: وبناء على هذا يشبه المستشفعين بالموتى بالمشركين الأولين في اتخاذهم الأصنام شفعاء، ووسائط تقربهم إلى الله زلفى، يقول في ذلك: (إن تجويز الاستشفاع بالموتى يلزمه أنواع كثيرة من أنواع المحرمات المحظورة في الدين، وفي العقول، فإن الميت إذا استشفع به، وقصد للشفاعة، فلابد أن يعكف على قبره وأن يطاف به، وأن يستلم، ويقصد، ويحج من كل مكان .. ومما يدل على هذا التلازم الواقع والعادة)(2)
قال آخر: وقد رد على الخصوم الذين يذكرون بأن الله أعطى الصالحين الشفاعة، فلا مانع من سؤالهم ما أعطوا، فقال: (قد أعطى الله الملائكة الشفاعة على ما ذكر في الآية، ولا يجوز طلبها منهم، ولا الاستشفاع بهم بالضرورة، بل لقد أعطى الجماد الشفاعة كما قال: أنه أعطاها الحجر الأسود، وأخبر أنه يشفع ويشفّع يوم القيامة .. وهل يجرأ المخالف أن يدعي أنه يجوز طلب الشفاعة من الجماد ومن الحجر الأسود، وأنه يجوز الاستشفاع به؟ .. بل لقد جاء وصح أن القرآن يشفع، وأن الأطفال يشفعون لآبائهم وأقاربهم؛ فهل يزعمون أن
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية، 2/ 286.
(2) الصراع بين الإسلام والوثنية، 2/ 288.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/105)
الاستشفاع بالقرآن، والقرآن عندهم مخلوق، وبالأطفال جائز مطلوب ودين يتقرب إلى الله به؟)(1)
قال آخر: ثم زاد الدليل توضيحا وتأكيدا، فقال: (ثم من ذا الذي قال بأن كل من أعطي شيئاً جاز طلبه منه؟ .. وأي دليل على هذا القول إذا قيل؟ .. وهل يجوز للناس جميعاً أن يسألوا الأغنياء الأموال والأشياء التي أعطاها الله إياها؟ .. وهل يجوز لكل مسلم أن يسأل كل مخلوق ما أعطاه الله وما ملّكه إياه من أنواع الأموال والأعطيات بحجة أن الله أعطاه ذلك وبحجة أن لا مانع من سؤال الخلق ما أعطوا؛ لأن طلب الحق لا يكون باطلا)(2)
قال آخر: وقبله ذكر شيخنا الإمام الأدلة الكثيرة على كون التوسل بالأموات شركا لا يختلف عن شرك الجاهلية، وقد عقد باباً في كتابه [كتاب التوحيد] بعنوان: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره)(3)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك ألف رسالة موجزة في مسائل مستنبطة من قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ذكر فيها عشرة درجات، منها ما عبر عنه بقوله: (الأولى: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف .. الثانية: أنها منكر يجب فيها البغض، وقد خالف فيها من خالف .. الثالثة: أنها من الكبائر، والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة وقد خالف فيها من خالف .. الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله الذي لا يغفره، وقد خالف فيها من خالف .. الخامسة: أن الداعي لغير الله لاتقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية، 2/ 300.
(2) الصراع بين الإسلام والوثنية، 2/ 301.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/ 42.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/106)
كفراً)(1)
قال آخر: ولهذا؛ فإنه لما دخلت جيوش الموحدين مكة سنة 1218 هـ، استتيب علماء مكة، ومن تلك الاستتابات ما ذكره نجل شيخنا ابن عبد الوهاب الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، حيث قال: (عرّفناهم أنّا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لديهم شبهة، فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنّة حتى أذعنوا، ولم يبق عندهم أحد منهم شك ولا ارتياب فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه، وحلفوا لنا الأيمان المعقدة من دون استحلاف على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم، أنه لم يبق لديهم شك فيمن قال: يا رسول الله أو قال ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير في كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المريض، والنصر على العدو، ونحو ذلك أنه مشرك الشرك الأكبر الذي يهدر دمه ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متقرباً لهم لقضاء حاجته)(2)
قال آخر: ومثله ذكر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بطلان التوسل بالموتى، فقال: (نحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذا الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، يقول تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/ 388.
(2) الهدية السنية، ص 36.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/107)
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 ـ 57] .. فهذه الآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذا الآية، وقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله)(1)
قال آخر: وقد ذكر حكم من دعا ميتاً أو غائباً، فقال: (من دعا ميتاً أو غائباً فقال يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني، أو اكشف عني شدتي، ونحو ذلك فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل .. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم لم يكونوا يقولون: أنها تخلق، وترزق وتدبر أمر من دعاها بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع في كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها)(2)
قال آخر: وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب إجماع العلماء على ذلك، فقال: (اعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء ـ أي دعاء العبادة ودعاء المسألة ـ لغير الله فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام .. إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله، فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا إله إلا الله وهم مشركون)(3)
قال آخر: وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ
__________
(1) الهدية السنية، ص 54.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل، 4/ 596.
(3) تيسير العزيز الحميد، ص 227.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/108)
لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]، والتي علق عليها بقوله: (حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، واستغاثة من هذه حاله، ومعنى الاستفهام في إنكار أن يكون الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم ولا قدرة على استجابة أحد منهم مادام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة)(1)
قال آخر: ولما سئل شيخنا عبد الرحمن بن حسن عن حكم الاستغاثة بالموتى، قال: (أما مسألة استغاثة الأحياء بالموتى في طلب الجاه والسعة والرزق والأولاد؛ فالجواب هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية، والألوهية، وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم بطلب الشفاعة والقربة، وأما طلب الرزق والأولاد وشفاء المرضى فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31])(2)
قال آخر: ورد على من زعم إمكانية سماع الموتى، فقال: (من قال إن الميت يسمع، ويستجيب، فقد كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه .. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5])(3)
قال آخر: وذكر لوازم دعاء الموتى والتعلق بهم، فقال: (إن التعلق بالأموات والالتجاء والرغبة إليهم هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 239.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/ 36.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/ 37.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/109)
ومعظمها، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبداً .. ولو جاز التعلق بالأموات، لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة الذين هم لا يفارقونه بيقين، وهم كما وصف الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـ 27]، وهذا لا يقوله مسلم أصلاً، بل لو فعله أحد لكان مشركاً بالله، فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة الحاضرين، فإنه لا يجوز في حق أرواح أموات قد فارقت أجسادها لا يعلم مستقرها إلا الله من باب أولى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 ـ 21])(1)
قال آخر: وهكذا اعتبر أن الاستمداد بالأموات شرك أكبر، فقال: (إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب، كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً، وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً؛ فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد ألهمه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى صار مألوهاً له)(2)
قال آخر: ورد على دعوى التفريق بين الدعاء والنداء، وأثبت أنهما مترادفان، ومن الأدلة القرآنية التي ساقها لذلك قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، فعطف النداء على
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل، 4/ 385.
(2) الدرر السنية، 9/ 152.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/110)
الدعاء عطف مرادف .. ومثله ما أخبر الله تعالى به عن نوح عليه السلام، حيث قال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76]، فأخلص القصد لله بندائه في كربه وشدته فاستجاب الله له .. ومثله ما أخبر الله تعالى به عنه، حيث قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، فسماه تعالى دعاء (1).
قال آخر: ومما كتبه شيخنا أبو بطين في الرد على من يزعم حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لذلك أهل لأن يتوسل به، قوله: (النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد مات بنص القرآن والسنّة، ومن شك في موته فهو كافر، وكثير من الناس خصوصاً في هذه الأزمنة، يدعون أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ميت، وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره مثل حياته على وجه الأرض يسأله أصحابه عما أشكل عليهم، ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وآله وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجيء أحد إلى قبره صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عما اختلفوا فيه، وفي الحديث المشهور (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام)(2)، فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وآله وسلم ليست دائمة في قبره)(3)
قال آخر: وذكر شيخنا الأكبر ابن تيمية، ودوره في التحذير من تلك الشركيات، فقال: (والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم صدرت من كثير من المتأخرين ممن يشار إليهم بالعلم، وقد صنف رجل يقال له ابن البكري كتاباً في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد عليه الشيخ ابن تيمية، بين فيه بطلان ما ذهب إليه وبين أنه من الشرك .. وهو يذكر أنه طاف ـ يعني ابن البكري ـ على علماء مصر، فلم يوافقه منهم أحد، وطاف عليهم بجواب ابن تيمية الذي كتبته، وطلب منهم معارضته، فلم يعارضه أحد منهم، مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى)(4)
__________
(1) القول الفصل النفيس، ص 29، 30.
(2) أحمد (2/ 527) وأبو داود (2041)
(3) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/ 128.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/ 242.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/111)
قال آخر: وهكذا رد على افتراء داود، حين زعم الإجماع على مشروعية الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ثم زعم أن الاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم في الشدائد أمر مشهور معمول به عند الصحابة والتابعين، فنسب إلى خير القرون ما هم أبعد الناس عنه، ويكفي في إبطال الشبهة كلّها قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]، وقوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، وهذا في حال حياته صلى الله عليه وآله وسلم فكيف الحال بعد الممات)(1)
قال آخر: وهكذا استنكر أبو بطين دعوى التفريق بين الدعاء والنداء، فقال: (من العجب قول بعض من ينسب إلى علم ودين أن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم بل هو نداء، أفلا يستحي هذا القائل من الله إذا لم يستح من الناس من هذه الدعوى الفاسدة السّمجة التي يروج بها على رعاع الناس، والله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء نداء كما في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، وقوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجة، وبين ما إذا طلبها من غيره ميت أو غائب، بأن الأول يسمى دعاء والثاني نداء؟ .. ما أسمج هذا القول وأقبحه .. وهو قول يستحي من حكايته لولا أنه يروج على الجهال)(2)
قال آخر: ومما كتبه شيخنا محمد بن ناصر التهامي في تحريم دعاء غير الله في الرد على بعض الخصوم المشركين، قوله: (فإذا رددنا ما تنازعنا فيه، وقلنا بتحريم دعوة غير الله والاستغاثة به .. وجدنا القرآن ينادي بالنهي عن دعوة غير الله ويختمها بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك، ولو لم يحتج على صاحب الرسالة إلا بآية واحدة، لانقطعت حجته، ووهت
__________
(1) تأسيس التقديس، ص 114.
(2) الانتصار، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/112)
شبهته، والسنة كذلك تنادي في النهي عن أن يدعى مع الله غيره، كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار)(1) .. ومسمى الدعاء هو السؤال والطلب لغة وشرعاً، والند هو الشبه والمثل؛ فمن استغاث بغير الله من ميت أو غائب، أو دعاه فقد شبهه بالله الذي يصمد إليه كل مخلوق في كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وأخراهم)(2)
قال آخر: ومما كتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في الرد على دعوى تصرف الموتى، والتي يستند إليها القائلون بالتوسل والاستغاثة، قوله: (وأما القول بالتصرف بعد الممات، فيقول تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] .. وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله .. )(3)، فجميع ذلك دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته، فضلاً عن غيره بحركة، وإن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره)(4)
قال آخر: ورد على من يزعم سماع الموتى، فقال: (واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علماً إلا من فقه عن الله قلبه، ودق في باب العلم نظره وفهمه .. فتأمل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 ـ 14]، فإن هذه الآيات فيها دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء
__________
(1) ابن حبان (251)، وابن منده (72)
(2) إيقاظ الوسنان، ص 26.
(3) مسلم (1631)
(4) البراهين الإسلامية، ص 10.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/113)
أصل السماع، لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال، لا في جميع حالاته)(1)
قال آخر: وبين اختلاف حياة البرزخ عن حياة الدنيا، فقال: (والذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها ويكفي المؤمن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .. )(2)، فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأن الأسباب الحسية تزول بالموت، فكيف بغيره، وإذا كان لا يملك لنفسه شيئاً وعمله قد انقطع فكيف يتصرف، ويدبر ويستمد منه، وتطلب منه الحوائج، إن هذا لهو الضلال المبين)(3)
قال آخر: ورد على افتراء داود ابن جرجيس حين كذب، وزعم إباحة دعاء الموتى فقال: (من المستحيل شرعاً وفطرةً وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول القائل يا علي، أو يا حسين أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله والتسوية به تعالى وتقدس وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام)(4)
قال آخر: وقد أكد كل ما ذكره جميع شيوخنا من أن دعاء الموتى شرك أكبر، ونقل إجماع العلماء على ذلك، فقال: (الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى، والتوجه إليه شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره، وأنه
__________
(1) البراهين الإسلامية، ص 14.
(2) مسلم (1631)
(3) البراهين الإسلامية، ص 36، 37.
(4) دلائل الرسوخ، ص 79.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/114)
أصل شرك العالم، وقد حكى الإجماع على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كلامه، وكذلك ابن قيّم الجوزية قرر تحريمه، وأنه من الشرك الأكبر، وأنه أصل شرك العالم في كتابه (إغاثة اللهفان) وغيره، وابن عقيل كفّر بطلب الحوائج من الموتى)(1)
قال آخر: وقد رد بشدة عما يزعمه المخالفون الذين ادعوا الحياة الحقيقية للموتى، ومن ثم جوّزوا سؤالهم، فقال: (ليست حياة الأنبياء والشهداء كما يظنه هؤلاء وأسلافهم من الصابئة من أن لهم علماً بحال من دعاهم، وقدرة على إجابته، وتصرفاً في العالم وجولاناً في الملكوت، ويكفي المؤمن في بيان حياتهم والإشارة إلى حقيقتها قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] .. ويكفي في إبطال قول الصابئة وورثتهم قوله تعالى في المسيح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، فإن في هذه الآية ما يدل على أنه عليه السلام لا علم له بما صدر وجرى منهم بعد وفاته، وأنه إنما يشهد بما كان منهم مدة حياته، وبقائه فيهم، ولا يعلم سواه)(2)
قال آخر: ورد على من ادعى حياة الأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم كحياتهم الدنيا، فقال: (إن هذه مقالة جاهل لا يفرق بين حياة الأنبياء والشهداء بعد الموت، وحياتهم في الدنيا فظنّ الغبي أنها هي الحياة الدنيوية، ولذلك نفى الموت، والله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، والحياة البرزخية تجامع الموت، ولا تنافيه كحال الشهداء)(3)
قال آخر: ورد دعوى داود حين ظنّ جواز دعاء الموتى، مادام أن الذي يدعوهم ويستغيث بهم يعتقد أن الفاعل والموجد هو الله وحده، فقال: (وهذا الأحمق زاد قيداً، فقال
__________
(1) مصباح الظلام، ص 252.
(2) مصباح الظلام، ص 291.
(3) مصباح الظلام، ص 249.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/115)
لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله، وفي تلبية المشركين في الجاهلية لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين، وقوله وهذا نداء لا دعاء من أدل الأشياء على جهله، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر أو النهي ويقابله النجا الذي هو المسارة وخفض الصوت. هذا بإجماع أهل اللغة كما حكاه ابن القيم في نونيته، وشيخ الإسلام في تسعينيته، وليس قسيماً للدعاء، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]، فما فعلوه هو عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله)(1)
قال آخر: ومما كتبه الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن في هذا الباب ما أجاب به عن بعض الأحاديث التي تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى موسى عليه السلام وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء عليهم السلام، فأجاب: (هذه الأحاديث وأشباهها تمر كما جاءت ويؤمن بها، إذ لا مجال للعقل في ذلك، ومن فتح على نفسه هذا الباب هلك، في جملة من هلك، فهذه الأحاديث التي مر البحث فيها خاض فيها بعض الزنادقة، وصنف مصنفاً بناه عليها، وجادل وماحل في أن من كان حياً هذه الحياة التي أطلقت في القرآن فينبغي أن ينادى، لا فرق عند هذا الجاهل بين الحياة الحسية والبرزخية، لأنه اشتبه عليه أمر هذه الصلاة .. ولم يعلم أنه لا خلاف في أن أهل البرزخ يجري عليهم من نعيم الآخرة ما يتلذذون به مما هو ليس من عمل التكليف، ومعاذ الله أن نعارض نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه مسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، والحديث عام؛ لأن المقصود به جنس بني آدم؛ لأن الفرد يعم كما هو مقرر في محاله،
__________
(1) دلائل الرسوخ، ص 81، 82.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/116)
ألم يعلم المسكين أن البرزخ طور ثان وله حكم ثان؟ إذ لو كان صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المثابة أن يلاقي الأولياء والأفاضل كما زعم بعض المصنفين، لبطل حكم الاجتهاد بعده، ولم يتراجع الصحابة بعده مسائل طال فيها نزاعهم إلى زماننا هذا)(1)
قال آخر: ثم نقل كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية يجيب به على ذلك، وهو قوله: (أما رؤيا موسى في الطواف فهذا كان رؤيا منام لم يكن ليلة المعراج، كذلك جاء مفسراً لما رأى المسيح أيضاً، ورأى الدجال، أما رؤيته ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صورة أبدانهم .. وأما كونه رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضاً، فهذان لا منافاة بينهما فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة تصعد وتهبط، كالملك ليست كالبدن)(2)
قال آخر: ومما كتبه الشيخ علامة العراق محمود الآلوسي عن اختلاف الحياة البرزخية عن الحياة المعهودة، ومن ثم عدم جواز سؤال الموتى، قوله: (إن الأموات لا يُسألون سؤال الأحياء بوجه من الوجوه، إذ الموت غير الحياة، وما ثبت لهم من الحياة فهي برزخية غير الحياة المعهودة في الدنيا؛ فمن أراد بها الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا انتكاس ظاهر، والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص، ومن أراد أنها حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح)(3)
__________
(1) الدرر السنية، 1/ 274، 275 يسير.
(2) مجموع الفتاوى (4/ 328)
(3) تتمة منهاج التأسيس، ص 379.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/117)
قال آخر: ومثل ذلك وضح الشيخ ابن سحمان الفرق بين طلب الغوث من الأحياء، وطلبه من الأموات، والفرق بين الأحياء والأموات، فقال: (وأما الإغاثة بالأسباب العادية، وما هو في طوق البشر وقدرتهم فهذا ليس الكلام فيه، والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية وما هو في طوق البشر وقدرتهم .. والله سبحانه خلق في الحي اختياراً ومشيئة بها يثاب وبها يعاقب وبها يكلّف، والميت ليس له قدرة الحي، ولا يكلف، بل ينقطع عمله بموته، وتطوى صحيفته، ولا يسأل، ولا يستفتى ولا يرجع إليه في شيء مما للعباد عليه قدرة، وسائر الحيوان يفرقون بين الحي والميت)(1)
قال آخر: وقد رد على من جوّز الاستغاثة بالأموات بشرط الإقرار بأن الله هو المؤثر، والموجد وحده، فقال: (إن مجرد عدم التأثير، والخلق والإيجاد، والإعدام والنفع والضر إلا الله لا يبريء من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرّين بأن الله هو الخالق الرازق النافع والضار، بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والطلب منه والنداء، والاستغاثة كلها يكون لله)(2)
بعد أن انتهى الشيوخ من الحديث في المسألة الثانية المرتبطة بالتوسل والاستغاثة، التفت القاضي إلى المتهمين، وقال: ها قد سمعتم ما قاله شيوخنا الأفاضل، واستدلالاتهم الكثيرة الواضحة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة وكلام العلماء المحققين .. فهل تتوبون إلى الله، وتتراجعون عن مواقفكم، أم أن لكم رأيا آخر؟
قام أحد المتهمين، وقال: سمعنا ما ذكر شيوخنا الأفاضل، ونحن نوافقهم في بعض
__________
(1) كشف غياهب الظلام، ص 303.
(2) الصواعق المرسلة الشهابية، ص 62.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/118)
فهومهم لما تلوه من الآيات الكريمة، لكنا لا نوافقهم عليها جميعا، وسنشرح لكم ما نراه مما استفدناه من علمائنا الذين نعتقد رسوخهم في العلم من خلال ثلاثة مصادر.
قال القاضي: لا بأس .. ما المصدر الأول منها؟
قال أحد التلاميذ: المصدر الأول مرتبط بما ذكره شيوخنا الأفاضل؛ فهم قد استندوا إلى علماء ومشايخ يرون أنهم علماء ومجتهدون، وليسوا أنبياء ورسلا .. ونحن كذلك استندنا مثلهم إلى علماء نرى علمهم ورسوخهم.
قال آخر: ولذلك لا نطلب منهم أن يتوسلوا أو يستغيثوا، وإنما نطلب منهم أن يتركونا وشأننا؛ فلا يسفكون دماءنا لأجل قضايا قد وقع الخلاف فيها، ولا حرج عليهم بعدها ـ إن سمح لهم دينهم وورعهم ـ بتكفيرنا، فنحن لا يهمنا من يحكم علينا بالكفر والإيمان، لأن الله هو الديان الذي يقضي بين عباده.
قال آخر: وبما أن شيوخنا الأفاضل يدعون اهتمامهم بما ورد عن سلفهم، ويعتبرونهم أكثر فهما للدين؛ فإننا ندعوهم إلى مطالعة ما ورد عنهم في هذا الشأن؛ فقد قال يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من كبار التابعين المعتبرين عندهم: (ما برح المستفتون يُستفتَوْن، فيُحل هذا، ويُحرِّم هذا، فلا يرى المحرِّم أنَّ المحلِّل هلك لتحليله، ولا يرى المحلِّل أن المحرِّم هلك لتحريمه)(1)
قال آخر: ومثله قال سفيان الثوري، وهو من الذين يعتبرونهم من أئمته الكبار: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه)(2)
قال آخر: ومثله قال عطاء، وهو من أعيان المدرسة السلفية الأولى: (لا ينبغي لأحد
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، (2/ 903)
(2) الفقيه والمتفقه، (2/ 69)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/119)
أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، وإن لم يكن كذلك ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي هو في يده)(1)،
قال آخر: ومثله قال الموفق ابن قدامة المقدسي في المرجع الذي تعتمدونه عند ذكركم للأخلاق والآداب: (لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه؛ فإنه لا إنكار على المجتهدات)(2)
قال آخر: وهكذا قال الغزالي، وهو من كبار أئمة الشافعية، بل له حضور في كل المذاهب الفقهية: (فكل ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد)(3)
قال آخر: وقال أبو إسحاق الشيرازي، وهو من كبار أصوليي وفقهاء الشافعية: (الصحابة أجمعت على تسويغ الحكم بكل واحد من الأقاويل المختلف فيها، وإقرار المخالفين على ما ذهبوا إليه من الأقاويل)(4)
قال آخر: وقال النووي، وهو من الشافعية الذين تستدلون بهم كثيرا، خصوصا من شرحه على صحيح مسلم، والذي قال فيه: (العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأمة، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، ولكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، (2/ 46)
(2) الآداب الشرعية والمنح المرعية، (1/ 186)
(3) إحياء علوم الدين، (2/ 325)
(4) اللمع في أصول الفقه، (ص 360)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/120)
محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر)(1)
قال آخر: وقال العز بن عبد السلام وهو الشافعي الذي جمع بين الفقه والأصول والمقاصد: (الإنكار مُتَعَلِّقٌ بما أُجْمِعَ على إيجابه أو تحريمه، فمن ترك ما اختلف في وجوبه، أو فعل ما اختُلِف في تحريمه؛ فإن قلَّد بعض العلماء في ذلك فلا إنكار عليه، إلا أن يقلده في مسألة ينقض الحكم في مثلها، فإن كان جاهلا لم يُنكر عليه، ولا بأس بإرشاده إلى الأصلح، وإنما لم ينكر عليه لأنه لم يرتكب محرما، فإنه لا يلزمه تقليد من قال بالتحريم ولا بالإيجاب)(2)
قال آخر: وغيرها من الأقوال الكثيرة التي نجدها في كتب الفقه والأصول والحسبة، والتي لا يجادل فيها إلا المتعنت المتكبر الذي يتصور أنه وحده صاحب الحق المجرد.
قال القاضي: فهمنا مرادكم .. ولا حاجة لنا إلى ما ذكرتم .. هلم حدثونا عن هؤلاء العلماء الذين تزعمون أنهم خالفوا شيوخنا الأفاضل.
قال أحد التلاميذ: سنذكر لكم سيدي القاضي نماذج من العلماء الذين يذكرون هذا، وهم يمثلون جميع مذاهب المسلمين التي يعتبرها شيوخنا الأفاضل، ونفسها نجدها عند سائر مذاهب المسلمين التي لا يعتبرونها .. وكلهم لهم جمهورهم الكثير، كما أن لهم مؤلفاتهم ومدارسهم التي تدل على سعة علمهم.
قال القاضي: ما دمتم قد ادعيتم هذا .. فاذكروا لنا ما قال علماء الحنفية في ذلك .. وإياكم والكذب عليهم.
__________
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، (2/ 23)
(2) شجرة الأحوال والمعارف، (ص 379)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/121)
قال أحد التلاميذ: من أعلام الحنفية الذين ذكروا هذا محمد زاهد بن حسن الحلمي الكوثري، الذي استنكر موقف شيوخكم ابتداء من ابن تيمية، فقال: (إني أرى أن أتحدث هنا عن مسألة التوسل التي هي وسيلة دعاتهم إلى رميهم الأمة المحمدية بالإشراك، وكنت لا أحب طرق هذا البحث لكثرة ما أثاروا حوله من جدل عقيم مع ظهور الحجة واستبانة المحجة، وليس قصد أول من أثار هذه الفتنة سوى استباحة أموال المسلمين ليؤسس حكمه بأموالهم على دمائهم باسم أنهم مشركون، وأنا يكون للحشوية صدق الدعوة إلى التوحيد!؟، وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث والمعقول)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد عاشق الرحمن، فقد قال ـ بعد أن ساق حديث توسل آدم عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل، أو الاستعانة، أو التشفع، أو الالتجاء، والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه ومستغيث به)(2)
قال آخر: ويدخل في هؤلاء أعلام المدرسة الحنفية الذين نصوا على التوسل عمليا في كتبهم، والذين تنطبق عليهم أحكام التكفير التي يحكم بها شيوخنا الأفاضل على جميع المسلمين.
قال آخر: منهم أبو بكر محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي البخاري الحنفي الذي قال في كتابه [التعرف لمذهب أهل التصوف]: (وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وعلى نبيه أصلي وبه أتوسل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)(3)
__________
(1) مقالات الكوثري (ص 409)
(2) عذاب الله المجدي لجوف منكر التوسل النجدي، ص 43.
(3) التعرف لمذهب أهل التصوف (1/ 21)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/122)
قال آخر: ومنهم علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، والذي قال في أوائل حاشية على [المطالع] عند بيان الشارح وجه الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل الكتب، ووجه الحاجة إلى التوسل بهم في الاستفاضة: (فإن قيل هذا التوسل إنما يتصور إذا كانوا متعلقين بالأبدان، وأما إذا تجردوا عنها فلا، إذ لا وجهة مقتضية للمناسبة، قلنا: يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية، فإن أثر ذلك باق فيهم، وكذلك كانت زيارة مراقدهم معدة لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين كما يشاهده، أصحاب البصائر)(1)
قال آخر: ومنهم محمود بن أحمد الغيتابى الحنفى بدر الدين العيني الذي قال في [عمدة القاري شرح صحيح البخاري]: (فها نحن نشرع في المقصود بعون الملك المعبود ونسأله الإعانة على الاختتام متوسلا بالنبي خير الأنام وآله وصحبه الكرام)(2) .. وقال: (فيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين وفيه أن من دعا من الصلحاء إلى شيء يتبرك به منه فله أن يجيب إليه إذا أمن العجب وفيه الوفاء بالعهد وفيه صلاة النافلة في جماعة بالنهار وفيه إكرام العلماء إذا دعوا إلى شيء بالطعام وشبهه)(3)
قال آخر: ومنهم كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام الذي قال في [فتح القدير]، في كتاب الحج، باب زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ويسأل الله حاجته متوسلا إلى الله بحضرة نبيه)، ثم قال: (يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة فيقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة يا رسول الله أتوسل بك إلى الله)(4)
قال آخر: ومنهم محمد بن يوسف الصالحي الشامي الذي جمع أبواب التوسل بالنبي
__________
(1) الحاشية على مطالع الأنوار، ص 7.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 11)
(3) عمدة القاري، (4/ 170)
(4) فتح القدير، ج 2، ص 332.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/123)
صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه [سبل الهدى والرشاد في سير خير العباد] ومن أقواله: (اللهم إنا نسألك، ونتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)(1)
قال آخر: ومنهم عبد الرحمن وجيه الدين بن عيسى العمري الحنفي، والذي قال في خطاب له: (فالله تعالى يبقيك محروساً بجناب مأنوس القباب، متلفعاً من الجلالة بأشرف جلباب، مستقراً على كراسي الملك، وأعداؤك في الهلك، بجاه جدك عليه السلام، وآله البررة الكرام، وصحبه الخيرة الأعلام)(2)
قال آخر: ومنهم حسن بن عمار بن علي الشرنبلالي المصري الحنفي الذي قال في [مراقي الفلاح في آداب الزيارة]: (يقف عند رأسه الشريف ويقول: اللهم انك قلت وقولك الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وقد جئناك سامعين قولك، طائعين أمرك، مستشفعين بنبيك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا انك رؤوف رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، ويدعو بما يحضره من الدعاء)(3)
قال آخر: ومنهم محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، فقد قال في خاتمة [تاج العروس] داعياً: (ولا يكلنا إلى أنفسنا فيما نعمله وننويه بمحمد وآله الكرام البررة)، وذكر في كتابه [إتحاف المتقين بشرح إحياء علوم الدين] صفوان بن سليم عند أحمد بن حنبل فقال: (هذا رجل يستسقى بحديثه وينزل القطر من
__________
(1) سبل الهدى والرشاد: (12/ 408)
(2) سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر لابن معصوم الحسني ص 41.
(3) نور الإيضاح مع مراقي الفلاح (ص 381)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/124)
السماء بذكره)(1)
قال آخر: ومنهم أبو سعيد الخادمى الحنفي، فقد قال في كتابه [بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية]: (ويجوز التوسل إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد موتهم، لأن المعجزة والكرامة لا تنقطع بموتهم، وعن الرملي أيضا بعدم انقطاع الكرامة بالموت، وعن إمام الحرمين: ولا ينكر الكرامة ولو بعد الموت إلا رافضي، وعن الأجهوري: الولي في الدنيا كالسيف في غمده، فإذا مات تجرد منه فيكون أقوى في التصرف)(2)
قال آخر: ومنهم ابن عابدين الدمشقي الحنفي الذي قال في حاشيته على [الدر المختار] داعيا: (دام في عز وإنعام، ومجد واحترام، بجاه من هو للانبياء ختام، وآله وصحبه السادة الكرام، عليه وعليهم الصلاة والسلام، في البدء والختام)(3)، وقال في [تنقيح الفتاوى الحامدية] في ذكر حال بعض الجراد الذي غزا البلاد: (وادفع شرها عن أرزاق المسلمين بجاه النبي الأمين وآله وصحبه أجمعين)(4) .. وقال: (يقول أسير الذنوب جامع هذه الاوراق راجيا من مولاه الكريم، متوسلا بنبيه العظيم وبكل ذي جاه عنده تعالى أن يمن عليه كرما وفضلا بقبول هذا السعي والنفع له للعباد، في عامة البلاد، وبلوغ المرام، بحسن الختام، والاختتام، آمين)(5) .. وقال: (وإني أسأله تعالى متوسلا إليه بنبيه المكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبأهل طاعته من كل ذي مقام علي معظم، وبقدوتنا الامام الاعظم، أن يسهل علي ذلك من إنعامه، ويعينني على إكماله وإتمامه، وأن يعفو عن زللي، ويتقبل مني عملي، ويجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم)(6)
قال آخر: ومنهم محمد عابد السندي الحنفي المحدث، الذي كتب رسالة فى الرد على
__________
(1) إتحاف المتقين بشرح إحياء علوم الدين ج 10 ص 130.
(2) بريقة محمودية (1/ 204)
(3) حاشيته على الدر المختار (4/ 294)
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين (7/ 417)
(5) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1/ 84
(6) قره عين الأخيار لتكملة رد المحتار علي الدر المختار (7/ 416)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/125)
ابن تيمية فى التوسل.
قال آخر: ومنهم شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي الذي قال: (بحرمة سيد الثقلين)(1)، وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]: (بعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة العامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل أتوسل إليك بجاه نبيك صلى الله عليه وآله وسلم أن تقضي لي حاجتي يعني إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي)(2)
قال آخر: ومنهم مؤلفو كتاب [الفتاوى الهندية]، وهم جماعة من علماء الهند برئاسة الشيخ نظام الدين البلخي بأمر من سلطان الهند أبي المظفر محيى الدين محمد أورنك زيب في كتاب المناسك، قالوا: (خاتمة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن ذكر كيفية وآداب زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر الأدعية التي يقولها الزائر فقال: (ثم يقف (أي الزائر) عند رأسه صلى الله عليه وآله وسلم كالأول ويقول: اللهم إنك قلت وقولك الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك، مستشفعين بنبيك إليك)(3)
قال القاضي: يكفي ما ذكرتم .. فحدثونا عما قاله علماء المالكية .. وإياكم والكذب
__________
(1) روح المعاني (1/ 82)
(2) تفسير الألوسي (3/ 297)
(3) كتاب الفتاوى الهندية (ج 1/ 266)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/126)
عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام المالكية الذين ذكروا هذا الشيخ يوسف الدجوي، فمن أقواله في الرد على شيوخكم: (لا أدري كيف يكفرون من يقول: إن الله خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، والمتوسل ناطق بهذا في توسله .. فإن المتوسل إلى الله بأحد أصفيائه قائل أنه لا فاعل إلا الله، ولم ينسب إلى من توسل به فعلاً ولا خلقاً، وإنما أثبت له القربة والمنزلة عند الله .. حتى أننا لو رأيناه أسند شيئاً لغير الله تعالى، علمنا بمقتضى إيمانه أنه من الإسناد المجازي، لا الحقيقي كقولهم أنبت الربيع البقل)(1)
قال آخر: ومما ذكره في الرد على شيوخكم قوله: (ولست أدري هل يأخذ هؤلاء بالظواهر أم بالمقصود منها؟ .. فإن كان التعويل عندهم على الظواهر، كان قول القائل (أنبت الربيع البقل، وأرواني الماء وأشبعني الخبز) شركاً وكفراً .. وإن كانت العبرة بالمقاصد والتعويل على ما في القلوب التي تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وأن الإسناد لغيره إنما هو لكونه كاسباً له، أو سبباً فيه، لا لكونه في التفرقة بين الحي والميت على نحو ما يقولونه، وكأن الحي يصح أن يكون شريكاً لله دون الميت)(2) .. ثم قال: (فالتفرقة بين الأحياء والأموات في هذا المقام غير صحيحة، فإن الطلب من الله، والفعل لله لا من المستغاث به)(3)
قال آخر: وقال ردا عليهم: (إن تخصيص جواز التوسل بالحي دون الميت أقرب إلى إيقاع الناس في الشرك، فإنه يوهم أن للحي فعلاً يستقل به دون الميت، فأين هذا من قولنا إن الفعل في الحقيقة لا للحي ولا للميت؟ ومن أمعن النظر في كلامهم لم يفهم منه إلا مذهب المعتزلة في الأحياء ومذهب الذين يئسوا من أصحاب القبور في الأموات)(4)
__________
(1) مجلة نور الإسلام، م 1، حكم التوسل بالنبي، ص 588.
(2) مجلة نور الإسلام، م 2، التوسل وجهلة الوهابيين، ص 31.
(3) التوسل وجهلة الوهابيين، ص 33.
(4) التوسل وجهلة الوهابيين، ص 114.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/127)
قال آخر: وقال: (فالمستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالى، أو راجع إليه، وذلك شيء مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات، فإن الله خالق كل شيء)(1) .. وقال: (لا فرق بين الحي والميت، فإن منزلته ميتاً كمنزلته حياً؛ لأن الفاعل حقيقة هو الله .. كما أن الأرواح بعد موتها باقية مدركة فاهمة على نحو ما كانت عليه في حياتها أو أشد، ولذلك يتساءلون عن الأحياء، ويفرحون، ويحزنون بما يكون منهم)(2)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد حسنين مخلوف، فقد قال في بيان شرعية الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدعاء بنحو أغثني أو أعني يا رسول الله ليس توسلاً ممنوعاً، بل هو جائز سائغ، فإن الاستغاثة طلب الغوث والتخلص من البلية، وهذا كما يسند إلى الله تعالى، يسنده إلى غيره .. وكذلك الاستعانة فإنها طلب المعونة من الغير، وهي من الله تعالى خلق الفعل في العبد، ومن العباد المشاركة في الفعل ليسهل)(3) .. وقال: (إن الاستغاثة تستعمل تارة في طلب الإغاثة بمعنى خلق التخلص من البلية وهذا مختص به تعالى، وتارة في طلب الإغاثة بمعنى السعي في التخلص من الشدة، وهذا المعنى يصح إسناده إلى العباد)(4)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد بن مصطفى الحسني، ومن أقواله في ذلك: (والمسلمون لم يعتقد أحد منهم التأثير في الواسطة المتوسل بها إلى الله، كيف وصغار الولدان منهم يعرف ذلك ضرورة لقراءته كلام الله كل حين، وقد نفوا التأثير عما يحكم عليه بالعادة أنه مؤثر بحاسة العيان كالنار مثلاً، فإن إحراق ما مسته لا دلالة للعادة عليه أصلاً، وإنما غاية ما دلت عليه العادة الاقتران فقط بين الأمرين)(5)
__________
(1) التوسل وجهلة الوهابيين، ص 30.
(2) التوسل وجهلة الوهابيين، ص 30.
(3) رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء، ضمن مجموعة كتب، ص 173.
(4) رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء، ص 175.
(5) إظهار العقوق في الرد على منع التوسل إلى الله تعالى بالنبي والولي الصدوق، ص 48.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/128)
قال آخر: ومنهم عمر بن قاسم المحجوب المالكي، فقد قال: (إن التوسل بالمخلوق مشروع، ووارد في السنة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها، ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين في خلافة عمر واستسقاؤهم عام الرمادة بالعباس)(1)
قال آخر: ومنهم إسماعيل التميمي الذي قال: (إذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض جاز التوسل بالذوات الفاضلة بعد موتها من باب أولى)(2) .. وقال: (إن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر مجمع عليه لا خلاف فيه .. وإن التوسل بغيره الأكثر على المشروعية)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي، الذي قال في رده على شيوخكم، مفسرا معنى الإذن ـ الذي هو أحد شرطي قبول الشفاعة ـ: (والذي يظهر ـ والله أعلم ـ تفسير الإذن بلازمه، من الرضى والاختيار، والمعنى: لا أحد يشفع عنده شفاعة نافعة، إلا برضاه، واختياره تعالى، إذ لا ينفذ لأحد مراد لم يرده الله تعالى .. والمتحصل من هذا أن الشفاعة لا تتوقف على إذن خاص، بمعنى إطلاقها وإباحتها للشافع، ولكن يتوقف نفعها على رضاه تعالى أن يقبلها واختياره لذلك)(4)
قال آخر: وفرّق بين المؤمنين والمشركين في الاستغاثة، فقال: (والمشركون كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تنفع وتضر .. فأين هذا ممن يستغيث من المسلمين بنبي، أو ولي، ويسأله الشفاعة، معتقدا أنه لا يملك نفعاً ولا ضراً)(5)
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية ص 5.
(2) المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية، ص 39.
(3) المرجع السابق ق 44.
(4) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية، ص 13.
(5) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية، ص 16.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/129)
قال آخر: ورد في هذا على بعض شيوخكم وأئمتكم، فقال: (وأما تمسكه ـ أي الإمام سعود بن عبد العزيز ـ في منع استشفاعهم إلى الله بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] قلنا مسلم، ولا ينافي طلبنا منهم الشفاعة في مآرب الدنيا والآخرة، لأن شفاعتهم لنا من بعد إذنه تعالى لهم بإلهام، أو غيره مما يعلمونه أولاً، ولأن شفاعتهم مجرد دعائه لله تعالى، وطلب وابتهال، كما يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب، ومعنى توقفها على الإذن توقف قبولها على رضاه تعالى، واختياره الإجابة، لا كما زعم المشركون أن معبوداتهم تشفع لهم عنده، وجزموا بذلك، ولم يلتفتوا إلى توقف نفع شفاعتها على قبوله تعالى، ورضاه، حتى كأنهم لا يجوزون رد شفاعتها)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد بن علوي بن عباس المالكي؛ فمن أقواله في التوسل والاستغاثة: (إن الاستغاثة، والتوسل إن كان المصحح لطلبها هو الحياة كما يقولون فالأنبياء أحياء في قبورهم وغيرهم من عباد الله المرضيين، ولو لم يكن للفقيه من الدليل على صحة التوسل والاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم إلا قياسه على التوسل والاستغاثة به في حياته الدنيا لكفى، فإنه حيي الدارين، دائم العناية بأمته متصرف بإذن الله في شؤونها)(2) .. وقال: (أما دعوى أن الميت لا يقدر على شيء فهي باطلة)(3) .. وقال: (إن الأرواح لها من الإطلاق والحرية ما يمكنها من أن تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم)(4)
قال آخر: ومن أعلام المدرسة المالكية الذين نصوا على التوسل عمليا أبو عبد الله محمد بن موسى المراكشي المالكي الذي نص على جواز الإستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن
__________
(1) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية، ص 47.
(2) مفاهيم يجب أن تصحح، ص 91.
(3) مفاهيم يجب أن تصحح، ص 92.
(4) مفاهيم يجب أن تصحح، ص 93.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/130)
مؤلفاته في هذا [مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام عليه السلام في اليقظة والمنام] (1)
قال آخر: ومنهم أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي القرطبي الذي قال في كتابه [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة]: (نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة وصحبه الكرام البرزة، وجعلنا ممن حشر في زمرتهم، ولا خالف بنا على طريقهم ومذهبهم بمنه وكرمه آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)(2) .. وقال في تفسيره: (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وددت أنا لو رأينا إخواننا) الحديث فجعلنا إخوانه إن اتقينا الله واقتضينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق (وفي نسخة: بجاه) محمد وآله)(3)
قال آخر: ومنهم عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندري، تاج الدين الفاكهاني، الذي قال فرحون المالكي في ترجمته: (وأخبرني جمال الدين: عبد الله بن محمد بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري المحدث: أحد الصوفية بخانقاه سعيد السعيداء في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة قال: رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني إلى دمشق فقصد زيارة نعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وكنت معه، فلما رأى النعل المكرمة حسر عن رأسه وجعل يقبله ويمرغ وجهه عليه ودموعه تسيل، وأنشد:
فلو قيل للمجنون: ليلى ووصلها ... تريد أم الدنيا وما في طواياها؟
لقال: غبار من تراب نعالها ... أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها؟)(4)
قال آخر: ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج، والذي يستدل به التكفيريون في إنكار البدع، فقد قال: (فالتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم هو محل حط أحمال الأوزار، وأثقال الذنوب والخطايا، لأن بركة شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه لا
__________
(1) انظر: الوافي بالوفيات (5/ 60)
(2) التذكرة، ص 254
(3) تفسير القرطبي، (8/ 240)
(4) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (2/ 81)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/131)
يتعاظمها ذنب، إذ إنها أعظم من الجميع، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من لم يزره، اللهم لا تحرمنا شفاعته بحرمته عندك، آمين يا رب العالمين، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم)(1)
قال آخر: ومنهم خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي، أبو البقاء، فقد قال في كتابه [تاج المفرق في تحلية علماء المشرق]: (وأسأل الله العلي الكبير، بجاه سيدنا ومولانا محمد رسوله البشير النذير، أن يجعله حجا مبرورا سعيا مباركا مشكورا وعملا صالحا متقبلا مذخورا)(2)
قال آخر: ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، فقد قال في تاريخه: (نسأله سبحانه وتعالى من فيض فضله العميم، ونتوسل إليه بجاه نبيه الكريم، أن يرزقنا إيمانا دائما، وقلبا خاشعا، وعلما نافعا)(3)
قال آخر: ومنهم محمد بن عبد الله الخرشي المالكي أبو عبد الله، والذي قال في شرح مختصر خليل: (نتوسل إليك بجاه الحبيب أن تبلغ المقاصد عن قريب فإنك قريب مجيب)(4)
قال آخر: ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي، والذي قال في شرحه على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: (وليتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم، ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسل به إذ هو محط جبال الأوزار وأثقال الذنوب، لان بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته، وأضل سريرته، ألم يسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
__________
(1) المدخل (1/ 259 ـ 260)
(2) تاج المفرق في تحلية علماء المشرق ص 143.
(3) تاريخ ابن خلدون، (6/ 43)
(4) شرح مختصر خليل للخرشي (1/ 58)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/132)
[النساء: 64])(1)
قال القاضي: يكفي ما ذكرتم .. فحدثونا عما قاله علماء الشافعية .. وإياكم والكذب عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام الشافعية الذين ذكروا هذا الشيخ أحمد زيني دحلان، فمن أقواله في ذلك: (فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى، لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، فالمؤثر والموجد حقيقة هو الله تعالى، وذكر هؤلاء الأخيار سبب عادي في ذلك التأثير، وذلك مثل الكسب العادي فإنه لا تأثير له)(2)
قال آخر: وقال في الرد على شيوخكم: (الحي والميت مستويان في أن كلاًّ منهما لا تأثير له في شيء .. واعتقادكم أن الحي قادر على بعض الأشياء يستلزم اعتقادهم أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وهو اعتقاد فاسد ومذهب باطل، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده لا شريك له، والعبد ليس له إلا الكسب الظاهري .. فيستوي الحي والميت في أن كلاًّ منهما لا خلق له ولا تأثير، والمؤثر هو الله تعالى وحده)(3)
قال آخر: واستدل بحديث عثمان بن حنيف في عهد عثمان، والذي سنذكره بعد حين، ثم قال: (فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم)(4) .. واستدل بحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (فهذا دليل على جواز التوسل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وجوده)(5) .. واستدل على جواز
__________
(1) شرح المواهب (8/ 317)
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 14.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 34.
(4) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 8.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/133)
التوسل بالأنبياء بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اغفر لأمي فاطمة بنت أسيد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي)(1) .. كما استدل على جواز التوسل بالأحياء بحديث استسقاء عمر بالعباس (2).
قال آخر: وقد ذكر ما قرره شيوخكم من اشتراط إذن الله في قبول الشفاعة، ثم قال: (ومما يعتقده المنكرون للزيارة، والتوسل منع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويقولون أن الله تعالى قد قال في كتابه العزيز: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، فالطالب للشفاعة لا يعلم حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشفاعة للمؤمنين .. وقد صحت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وآله وسلم يشفع لمن قال بعد الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة) إلى آخر الدعاء المشهور، ولمن صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، ولمن زار قبره صلى الله عليه وآله وسلم .. فالطالب للشفاعة كأنه يتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحفظ عليه الإيمان إلى أن يتوفاه الله، فيدخل في شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون من أهلها)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ داود بن جرجيس، الذي قال: (كيف يستغرب طلب التسبب من الموتى والتشفع والتوسل بدعائهم إلى ربهم؟ .. فهل إذا عامل أحد هؤلاء الذين هذا حالهم معاملة الأحياء يلام على ذلك، أو يعاب أو يؤثم أو يكفّر .. مع اعتقاده أن الفعل لله وحده خلقاً وإيجاداً لا شريك له، وأنه يكون من أهل القبور من الأنبياء، والأولياء تسبباً وكسباً؟)(4) .. وذكر أن الصالحين بعد وفاتهم أحياء في قبورهم، كما هم عليه في الدنيا فقال: (وكان بعد من يدعي العلم في زعمه وهو أجهل من هبنقة، يقول كيف يعلم الأنبياء، والأولياء بمن يستشفع بهم ويناديهم؟ فقلت لهم هم مكشوف لهم في الدنيا، وهم على ما
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 8.
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 8.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 33.
(4) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/134)
هم عليه بعد موتهم)(1) .. وقال: (إن سائر الموتى أحياء حياة برزخية، ولا ينكر التوسل والتشفع بهم إلا من جعلهم تراباً وعظاماً، وترك ما يجب لهم ويسند إليهم إكراماً وتعظيماً .. )(2).
قال آخر: وذكر أن منكري التوسل والاستغاثة بالموتى، إنما أتاهم الإنكار بسبب اعتقادهم أن الميت لا يسمع ولا يرى وليس له حياة برزخية، فقال: (اعلم أيها المؤمن أن المنكر للتوسل والتشفع من الأنبياء، والأولياء من عبّاد الله الصالحين والاستغاثة بهم .. إنما أتاه الإنكار من اعتقاده أن الميت إذا مات صار تراباً، لا يسمع ولا يرى وليس له حياة برزخية في قبره .. ولو كان معتقداً أن سائر أهل القبور أحياء حياة برزخية يعقلون، ويسمعون، ويرون، ويتزاورون، وأن أعمال الأحياء تعرض عليهم، لما وسعه الإنكار)(3)
قال آخر: وقال في الرد على شيوخكم: (إن الأنبياء والأولياء المنقولين بسيف المجاهدة لله كالشهداء الوارد فيهم النص القرآني في حياتهم الحقيقة، كيف يستغرب طلب التسبب منهم والتشفع .. فهل إذا عامل أحد هؤلاء الذين هذا حالهم معاملة الأحياء يلام على ذلك، أو يعاب، أو يؤثم .. مع اعتقاده أن الفعل لله وحده خلقاً وإيجاداً لا شريك له، وأنه يكون من أهل القبور من الأنبياء والأولياء تسبباً وكسباً)(4)، وقال: (فالأحاديث الواردة في الطلب من الموتى، وأجمع عليها العلماء مبني أمرها على هذا الأصل)(5)
قال آخر: ومنهم الشيخ جميل صدقي الزهاوي الذي نقل عند ردوده على شيوخكم تجويز العلماء الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وقد جوّز العلماء الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر نطقت به اللغة،
__________
(1) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية، ص 15.
(2) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية، ص 25.
(3) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية، ص 2، 3.
(4) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية، ص 25.
(5) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/135)
وجوّزه الشرع)(1)
قال آخر: ورد على من يفرق بين الحياة والموت في ذلك، فقال: (لا يقال إن حياة الأنبياء والشهداء غير الحياة الدنيوية، فلا تنطبق هذه على تلك، لأنا نقول لو سلمنا أن تلك الحياة ليست من نوع الحياة الدنيوية، فمجرد ثبوت الحياة لهم أي حياة كانت، كاف لثبوت السماع لهم وتجويز التوسل والاستغاثة بهم)(2)
قال آخر: ومن أقواله في هذا: (المراد من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين والتوسل بهم هو أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله هو الفاعل .. لا أنهم هم الفاعلون كما هو المعتقد الحق في سائر الأفعال، فإن السكين لا يقطع بنفسه بل القاطع هو الله، والسكين سبب عادي خلقه الله تعالى القطع عنده)(3)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد سليمان الكردي، الذي قال: (وأما التوسل بالأنبياء والصالحين فهو أمر محبوب ثابت في الأحاديث الصحيحة وغيرها، وقد أطبقوا على طلبه، واستدلوا بأمور يطول شرحها .. بل ثبت في الأحاديث الصحيحة التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض؛ فالبذوات أولى)(4)
قال آخر: ومنهم الشيخ علوي بن أحمد الشافعي الحداد الذي قال: (ثبت في الأحاديث الصحيحة أن التوسل بالأنبياء والصلحاء أمر محبوب، وقد أطبقوا على طلبه، واستدلوا بأمور يطول شرحها)(5)
قال آخر: ومنهم الشيخ ابراهيم بن عثمان السمنودي المصري الذي استدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ندائه بعد وفاته بمرثية صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها رثته
__________
(1) الفجر الصادق، ص 54.
(2) الفجر الصادق، ص 68.
(3) الفجر الصادق، ص 53، 54.
(4) صرة العين بفتاوى علماء الحرمين، ص 259.
(5) مصباح الأنام، ص 85.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/136)
بأبيات تقول فيها:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافياً
وقد علق عليها بقوله: (ففي ذلك النداء بعد وفاته مع قولها أنت رجاؤنا، وقد سمع تلك المرثية الصحابة رضوان الله عليهم فلم ينكر عليها أحد منهم)(1)
قال آخر: ورد على ما اشترطه شيوخكم لقبول الشفاعة، من الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، فقال: (وأقول أن منعهم المذكور، واحتجاجهم هذا عليه مردود عليهم، وباطل بالأحاديث الصحيحة الصريحة في حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشفاعة للمؤمنين، لكونهم ممن ارتضى الله تعالى أن يشفع له، وبما صح متواتراً من طلب بعض الصحابة الشفاعة لله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2)
قال آخر: وساق الآيات والأحاديث التي تثبت الشفاعة والتوسل والاستغاثة، ثم قال: (وهذه الآيات، والأحاديث وما ماثلها على عمومها، ولم يخصصها أحد بحال الحياة دون الممات)(3)
قال آخر: وذكر أن كل ذلك من باب الأسباب والوسائل، فقال: (والشفاعة وإن كانت في الحقيقة بإذن الله .. ولكن على المسلم أن يباشر السبب، وأمر الإذن في القضاء إلى الله تعالى إن شاء، وإن لم يشأ، لم يكن، هذا هو اعتقاد المسلمين لا يعتقدون غيره، فمقصودهم بطلبهم الشفاعة من الأنبياء، والصالحين إنما هو التسبب)(4)
قال آخر: ومنهم العلاّمة أحمد بن علي القبّاني البصري الشافعي الذي ذكر عدم الفرق بين لفظ التوسل، ولفظ الاستغاثة، ولفظ التشفع فقال: (جواز التوسل والتشفع
__________
(1) سعادة الدارين، 1/ 204.
(2) سعادة الدارين، 2/ 2.
(3) سعادة الدارين، 2/ 6.
(4) سعادة الدارين، 2/ 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/137)
والاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء .. ولا فرق في ذلك بين التعبير بالتوسل، أو الاستغاثة، أو التشفع، أو التوجه به صلى الله عليه وآله وسلم في الحاجة)(1)
قال آخر: وذكر معنى الاستغاثة، حين تكون مرادفة لمعنى التوسل، فقال: (فالمستغاث في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو تعالى مستغاث، والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً)(2)
قال آخر: وذكر الفرق الكبير بين المشركين الذين اتخذوا الأصنام شفعاء لهم عند الله لتقربهم إليه زلفى، وبين المسلمين الذين يطلبون الشفاعة من الأنبياء والأولياء، يقول في ذلك: (العلة التي وجبت كفر المشركين هي اعتقادهم في الأنبياء، والأولياء، والملائكة أنهم أبناء الله، وبنات الله تعالى الله عن ذلك)(3) .. ويقول: (إن عبادة المشركين للأنبياء، والأولياء إنما هي بالسجود لتماثيلهم، ليتقربوا إليهم)(4).
قال آخر: ولهذا رد على شيخكم قائلا: (أما أنهم كفروا بمجرد قولهم: يا رسول الله اشفع لي، أو أغثني، وأنها مساواة لقول المشرك واعتقاده أن المسيح هو الله، ولعبادة تمثاله من السجود والذبح كما ادعيت ذلك، وجزمت به؛ فما أقمت على ذلك الدليل والبرهان يا طويل الآذان)(5)
قال آخر: ومنهم العلامة الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني الذي ذكر الأدلة الكثيرة على ذلك في كتابه [شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق] (6)، ومن ذلك قوله في تبرئة المسلمين من الشرك: (وأنت إذا نظرت إلى كل فرد من أفراد المسلمين عامتهم وخاصتهم، لا تجد في نفس أحد منهم غير مجرد التقرب إلى الله لقضاء حاجاتهم الدنيوية والأخروية
__________
(1) فصل الخطاب، ص 19.
(2) فصل الخطاب، ص 28.
(3) فصل الخطاب، ص 36.
(4) فصل الخطاب، ص 38.
(5) فصل الخطاب، ص 38.
(6) شواهد الحق، ص 98.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/138)
بالاستغاثات، مع علمهم بأن الله هو الفعّال المطلق المستحق للتعظيم بالأصالة وحده لاشريك له)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد توفيق سوقية؛ فمن أقواله في الرد على شيوخكم: (واعتقاد أهل السنة والجماعة أن الفاعل في هذه العوالم هو الله وحده لا شريك له، لا تأثير لشيء من الأشياء كبر أو صغر، شديداً كان أو ضعيفاً، والشيء يوجد عنده لا به .. مثل قول الموحد أنبت الربيع البقل، فإسناد الإنبات إلى الربيع إسناد مجازي، للعلم بأن المنبت حقيقة هو الله وحده لا يشاركه فيه غيره)(2)
قال آخر: أما المواقف العملية المؤيدة لهذا، فكثيرة جدا، لا يمكن حصرها، وهي تبدأ من الإمام الشافعي صاحب المذهب نفسه، فقد روى عنه ابن حجر المكي في كتابه [الصواعق المحرقة] هذه الأبيات التي يتوسل فيها بآل البيت (3):
آل النبي ذريعتي ... وهم إليه وسيلتي
أرجو بهم أعطى غدا ... بيدي اليمين صحيفتي
قال آخر: ومنهم عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، الذي قال في [أدب المفتي والمستفتي] عند حديثه عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره صلى الله عليه وآله وسلم بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عليه وآله وسلم على تعاقب العصور، وذلك أن كرامات الأولياء من أمته، وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له صلى الله عليه وآله وسلم قواطع ومعجزات له سواطع، ولا يعدها عد، ولا يحصرها حد أعاذنا الله من الزيغ عن ملته، وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته)(4)
__________
(1) شواهد الحق، ص 116.
(2) تبيين الحق والصواب، ص 14.
(3) الصواعق المحرقة: 180.
(4) أدب المفتي والمستفتي (210)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/139)
قال آخر: وقال في [معرفة أنواع علوم الحديث]: (فالله العظيم الذي بيده الضر والنفع، والإعطاء والمنع أسأل، وإليه أضرع وأبتهل، متوسلا إليه بكل وسيلة، متشفعا إليه بكل شفيع، أن يجعله مليا بذلك وأملى وفيا بكل ذلك وأوفى، وأن يعظم الأجر والنفع به في الدارين، إنه قريب مجيب)(1)
قال آخر: ومنهم أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الذي قال: (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار .. ،)(2)
قال آخر: وقال: (وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، وتارة يطلب الغوث من خالقه وهو الله تعالى وحده، كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذين القسمين تعدى الفعل تارة بنفسه كقوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وتارة بحرف الجر كما في كلام النحاة في المستغاث به، وفي كتاب سيبويه: (فاستغاث بهم ليشتروا له كليبا)، فيصح أن يقال: (استغثت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأستغيث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم)، بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق، وذلك في حياته وبعد موته، ويقول: (استغثت الله وأستغيث بالله) بمعنى طلب خلق الغوث منه، فالله تعالى مستغاث فالغوث منه خلقا
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح (ص 6)
(2) فتاوى السبكي، ص 119.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/140)
وإيجادا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغاث والغوث منه تسببا وكسبا، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه أو لازما أو تعدى بالباء، وقد تكون الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه آخر، وهو أن يقال: (استغثت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) كما تقول: (سألت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيرجع إلى النوع الأول من أنواع التوسل، ويصح قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يحذف المفعول به ويقال استغثت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المعنى، فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم له معنيان: أحدهما: أن يكون مستغاثا، والثاني: أن يكون مستغاثا به، والباء للاستعانة فقد ظهر جواز إطلاق الاستغاثة والتوسل جميعا، وهذا أمر لا يشك فيه، فإن الاستغاثة في اللغة طلب الغوث وهذا جائز لغة وشرعا من كل من يقدر عليه، بأي لفظ عبر عنه كما قالت أم إسماعيل: أغث إن كان عندك غواث)(1)
قال آخر: ومنهم صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، الذي قال في كتابه [أعيان العصر وأعوان النصر]: (ساترا بخلاله الكريمة ما خفي عن المملوك من إخلاله بمحمد وآله إن شاء الله تعالى)(2)
قال آخر: ومن يطلع على كتابه [الوافي بالوفيات] يجد الكثير من المواضع التي يذكر فيها تأييده للتوسل والاستغاثة، ومن ذلك قوله عند ترجمة تقي الدين السبكي، وهو يعدد مؤلفاته: (وكتاب [شفاء السقام في زيارة خير الأنام]، ردا عليه ـ على ابن تيمية ـ أيضا في إنكاره سفر الزيارة .. وقرأته عليه بالقاهرة سنة سبع وثلاثين وسبع مائة، من أوله إلى آخره، وكتبت عليه طبقة ـ أي: طبقة السماع على طريقة المحدثين ـ جاء مما فيها نظما:
لقول ابن تيمية زخرف ... أتى في زيارة خير الأنام
فجاءت نفوس الورى تشتكي ... إلى خير حبر وأزكى إمام
فصنف هذا وداواهم ... فكان يقينا شفاء السقام)(3)
قال آخر: ومنهم شمس الدين أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني الدمشقي الشافعي الذي قال في كتابه [ذيل تذكرة الحفاظ] في ترجمة سبط ابن العجمي: (فالله تعالى يبقيه ويمتع الإسلام ويديم النفع به الأنام بجاه المصطفى سيدنا محمد عليه أفضل صلى الله عليه وآله وسلم .. ،)، وقال وفي ترجمة ابن ناصر الدين يقول: (فالله تعالى يبقيه في خير ونعمة شاملة وأفراح بلا كدر كاملة بمحمد وآله)
قال آخر: ومنهم أبو محمد عفيف الدين عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي، والذي نرى في كتابه [مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان] الكثير من توسلاته واستغاثاته، ومنها قوله (4):
ووفق لما ترضى بجاه محمد ... وواصل له أزكى الصلاة مديماً
وللشمال أجمع غداً بأحبة ... يداولها نعم النديم نديماً
قال آخر: ومنهم أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس، الذي قال في خاتمة كتابه [المصباح المنير في غريب الشرح الكبير]: (ونسأل الله حسن العاقبة في الدنيا والآخرة وأن ينفع به طالبه والناظر فيه وأن يعاملنا بما هو أهله بمحمد وآله الأطهار وأصحابه الأبرار)(5)
قال آخر: ومنهم أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، وهو تلميذ ابن تيمية، ومن المعتبرين لدى شيوخكم، وقد قال في كتابه [البداية والنهاية] عند ذكره النار التي خرجت من أرض الحجاز عام 654 هـ: (هذه النار في أرض ذات حجر لا
__________
(1) شفاء السقام ص 187.
(2) أعيان العصر (2/ 366)
(3) الوافي بالوفيات (21/ 167)
(4) مرآة الجنان وعبرة اليقظان (2/ 68)
(5) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 712)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/141)
شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين)(1)
قال آخر: ومنهم محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري، أبو البقاء، كمال الدين الشافعي، الذي توسل في مواضع من كتابه [حياة الحيوان الكبرى] منها قوله: (نسأل الله تعالى السلامة، وحسن الخاتمة، بجاه سيدنا محمد وآله)(2)
قال آخر: ومنهم أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي ثم القاهري، والذي توسل كثيرا في كتابه المشهور [صبح الأعشى في صناعة الإنشاء]، وقد ذكرها في خطابات العديد من العلماء والملوك (3)
قال آخر: وقال مبينا ما جرت به عادة المسلمين من كتابة الرسائل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، والتوسل والاستغاثة: (وأما الكتب التي تكتب إليه ـ يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد وفاته فقد جرت عادة الأمة من الملوك وغيرهم بكتابة الرسائل إليه بعد وفاته بالسلام والتحية والتوسل والتشفع به إلى الله تعالى في المقاصد الدنيوية والأخروية)(4)
قال آخر: ومنهم أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، وهو المحدث الذي يرجع إليه شيوخكم، ويعتبرونه حافظ الدنيا وأمير المؤمنين في الحديث، وله نصوص كثيرة تشير إلى تأييده للتوسل والاستغاثة، ومنها قوله في قول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
(يشير إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معه
__________
(1) البداية والنهاية (13/ 224)
(2) حياة الحيوان الكبري (1/ 220)
(3) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (11/ 302)، (8/ 178)، (12/ 361)، (14/ 367) وغيرها.
(4) صبح الأعشى، (6/ 458)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/142)
غلام)(1)
قال آخر: وقال في حديث عتبان بن مالك الأنصاري: (وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو وطئها .. ويستفاد منه أن من دعي من الصالحين ليتبرك به أنه يجيب إذا أمن الفتنة)(2) .. وقال: (والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة، فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه، وتعيده، فيشربه صاحب الإناء، أو يغتسل به استشفاء بها فتحصل له بركتها)(3)
قال آخر: ومنهم شهاب الدين الرملي الملقب بالشافعي الصغير، فقد قال في مقدمة كتابه [غاية البيان في شرح زبد ابن رسلان]: (والله أسأل، وبنبيه أتوسل، أن يجعله خالصا لوجهه الكريم) .. وجاء في فتاواه: (سئل عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم؟ وماذا يرجح ذلك؟ فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم، لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم)(4)
قال آخر: ومنهم أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري،
__________
(1) فتح الباري: 2/ 398
(2) فتح الباري لابن حجر (1/ 522)
(3) المرجع السابق، (10/ 303)
(4) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 382)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/143)
أبو العباس، شهاب الدين صاحب [المواهب اللدنية بالمنح المحمدية]، والذي قال فيه: (وينبغي للزائر له صلى الله عليه وآله وسلم أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله فيه)، وقال: (والاستغاثة هي طلب الغوث فالمستغيث يطلب من المستغاث به إغاثته وأن يحصل له الغوث، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التوجه أو التجوه لأنهما من الجاه والوجاهة، ومعناهما علو القدر والمنزلة وقد يتوسل بصاحب الجاه الى من هو أعلى منه، قال: ثم إن كلا من الاستغاثة، والتوسل والتشفع، والتوجه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقع في كل حال: النصرة قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة)(1)
قال آخر: وقال ـ متحدثا عن تجربته في ذلك ـ: (وأما التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته في البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء .. ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفا، ومن علي بالعود في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي والله شيئا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2)
قال القاضي: فاذكروا لنا ما قال علماء الحنابلة في ذلك .. وإياكم والكذب عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام الحنابلة الذين ذكروا هذا، بل من أوائلهم الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب نفسه، فقد جاء في كتاب [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف] لعلاء
__________
(1) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/ 593
(2) المواهب اللدنية، 3/ 418
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/144)
الدين أبو الحسن علي بن سليمان بن أحمد المَرْداوي، وهو من أهم مراجع الفقه الحنبلي: (قال الإمام أحمد للمروذي: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره)(1)
قال آخر: وقال أبو عبد الله الأردبيلي: سمعت أبا بكر بن أبي الخصيب يقول: ذكر صفوان بن سليم عند أحمد بن حنبل فقال: (هذا رجل يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره)(2)
قال آخر: وروي عنه العمل بحديث: (يا عباد الله أعينوا)، فقد قال ابنه عبد الله في [المسائل]: (سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج منها ثنتين راكبا وثلاثة ماشيا، أو ثنتين ماشيا وثلاثة راكبا، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيا، فجعلت أقول: (يا عباد الله دلونا على الطريق!) فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق، أو كما قال أبي)(3)
قال آخر: هكذا روي توسل أصحاب الإمام أحمد بن حنبل به لاضاءة الطريق، فعن عبد الله بن موسى أنه قال: خرجت أنا وأبي في ليلة مظلمة نزور أحمد، فاشتدت الظلمة، فقال أبي: يا بني تعال حتى نتوسل إلى الله تعالى بهذا العبد الصالح حتى يضاء لنا الطريق، فمنذ ثلاثين سنة ما توسلت به إلا قضيت حاجتي، فدعا أبي وأمنت على دعائه، فأضاءت السماء كأنها ليلة مقمرة حتى وصلنا إليه)(4)
قال آخر: ومن أعلام الحنابلة الذين نصوا على مشروعية التوسل والاستغاثة، والذي يُرجع إليهم في التدريس والفتاوى ونحوها جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، فقد صنف كتابا في هذا المجال بعنوان [مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن] وعقد فيه بابا في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (لم يزل ذكر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم منشورا وهو في طي العدم
__________
(1) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2\ 456)
(2) تهذيب الكمال للحافظ المزي (13/ 186)
(3) المسائل، (217) ورواه أيضا بسند صحيح البيهقي في الشعب (2/ 455/2) وابن عساكر (3/ 72/1)
(4) مناقب الإمام أحمد ابن الجوزي ص 297
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/145)
توسل به آدم وأخذ له ميثاق الأنبياء على تصديقه)(1)
قال آخر: وقال: (ذكر في بعض الأخبار أن آدم عليه الصلاة والسلام رفع رأسه فنظر على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال آدم: يا رب من هذا الذي كتبت اسمه مع اسمك فقال الله تعالى: يا آدم هو نبيي وصفيي وهو حبيبي ولولاه ما خلقتك ولا خلقت جنة)(2)
قال آخر: وقال في [صيد الخاطر] يذكر بعض ما حصل له: (وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طلب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي على بعد نفور مني، وأراني عيب ما كنت أوثره، فأفقت من مرض غفلتي)(3)
قال آخر: وقال في [المنتظم] في ترجمة أبي شجاع الوزير: (ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة، ثم مرض فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبوية فقال: يا رسول الله قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وأرجو شفاعتك يوم القيامة)، ثم مات من يومه ذلك، ودفن في البقيع)(4)
قال آخر: ومنهم أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، الذي ذكر في كيفية زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أعط محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعدته، اللهم صل على روحه في الأرواح، وجسده في الأجساد كما بلغ رسالاتك، وتلا آياتك، وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين، اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك
__________
(1) المدهش 1/ 141.
(2) بستان الواعظين (ص 297)
(3) صيد الخاطر (ص 93)
(4) المنتظم 9/ 93.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/146)
صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وإني قد أتيت بنبيك تائباً مستغفراً فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي)(1)
قال آخر: وجاء في تذكرته أيضا قوله: (ويستحب له قدوم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيأتي مسجده فيقول عند دخوله: بسم الله اللهم صل على محمد وآل محمد وافتح لي أبواب رحمتك .. اللهم أني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وآله وسلم بنبي الرحمة يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي)(2)
قال آخر: ومنهم ابن قدامة المقدسي صاحب كتاب [المغني]، الذي قال في وصيته: (وإذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى تريد طلبها منه فتوضأ، فأحسن وضوءك، واركع ركعتين، وأثن على الله عز وجل، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين وإن قلت: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، وروي عن السلف أنهم كانوا يستنجحون حوائجهم بركعتين يصليهما ثم يقول: اللهم بك أستفتح وبك أستنجح، وإليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم أتوجه، اللهم ذلل لي صعوبة أمري، وسهل من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف)(3)
__________
(1) التذكرة في الفقه لابن عقيل (ص 117)
(2) المرجع السابق، (ص 116)
(3) وصية الإمام ابن قدامة المقدسي، ص 92.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/147)
قال آخر: ومنهم نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عيد الكريم الطوفي الصرصري الحنبلي، والذي نقل ردود شمس الدين الجزري على ابن تيمية مؤيدا لها، ومنها قوله تعليقا على قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]: (احتج بها الشيخ شمس الدين الجزري ـ شارح المنهاج في أصول الفقه ـ على الشيخ تقي الدين ابن تيمية فيما قيل عنه أنه قال: لا يستغاث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن الاستغاثة بالله عز وجل من خصائصه وحقوقه الخاصة به فلا تكون لغيره كالعبادة، وتقرير الحجة المذكورة: أنه قال: يجب أن ينظر في حقيقة الاستغاثة ماهي، وهي الاستنصار والاستصراخ، ثم قد وجدنا هذا الإسرائيلي استغاث بموسى واستنصره واستصرخه بنص هذه الآيات، وهي استغاثة مخلوق بمخلوق، وقد أقر موسى عليها الإسرائيلي، وقد أقر الله عز وجل موسى على ذلك، ولم ينكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لمانزلت هذه الآيات، أي فكان هذا إقرارا من الله عز وجل ورسوله على استغاثة المخلوق بالمخلوق، وإذا جاز أن يستغاث بموسى فبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى لأنه أفضل بإجماع)(1)
قال آخر: ومن أقواله في الاحتجاج للاستغاثة: (ومما يحتج به على ذلك: حديث هاجر أم إسماعيل حيث التمست الماء لابنها فلم تجد فسمعت حسا في بطن الوادي فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث وهذا في معنى الاستغاثة منها بجبريل وقد أقرها على ذلك، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها لما حكاه عنها)(2)
قال آخر: ومن حججه عليها قوله: (ولأن اعتقاد التوحيد من لوازم الإسلام فإذا رأينا مسلما يستغيث بمخلوق علمنا قطعا أنه غير مشرك لذلك المخلوق مع الله عز وجل، وإنما ذلك منه طلب مساعدة أو توجه إلى الله ببركة ذلك المخلوق، وإذا استصرخ الناس في
__________
(1) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 89)
(2) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 90)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/148)
موقف القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم في التخفيف عنهم جاز استصراخهم بهم في غير ذلك المقام)(1)
قال آخر: ثم قال ـ ناقلا الإجماع في المسألة ـ: (وقد صنف الشيخ أبو عبدالله النعمان كتبا سماه: [مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام]، واشتهر هذا الكتاب وأجمع أهل عصره على تلقيه منه بالقبول وإجماع أهل كل عصر حجة، فالمنكر لذلك مخالف لهذا الإجماع)(2)
قال آخر: ورد على الشبه التي يتعلق بها منكرو الاستغاثة، فقال: (فإن قيل: الآية المذكورة في قصة موسى والإسرائيلي ليست في محل النزاع من وجهين: أحدهما: أن موسى حينئذ كان حيا ونحن إنما نمنع الاستغاثة بميت، والثاني: أن استغاثة صاحب موسى به كان في أمر يمكن موسى فعله وهو إعانته على خصمه، وهو أمر معتاد ونحن إنما نمنع من الاستغاثة بالمخلوق فيما يختص فعله بالله عز وجل كالرحمة والمغفرة والرزق والحياة ونحو ذلك فلا يقال: يامحمد اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو أجبني أو أعطني مالا وولدا لأن ذلك شرك بإجماع)(3)
قال آخر: ثم ذكر الجواب عن الشبهة الأولى، فقال: (وأجيب عن الأول: بأن الاستغاثة إذا جازت بالحي فبالميت المساوي فضلا عن الأفضل أولى لأنه أقرب إلى الله عز وجل من الحي لوجوه: أحدها: أنه في دار الكرامة والجزاء والحي في دار التكليف، الثاني: أن الميت تجرد عن عالم الطبيعة القاطعة عن الوصول إلى عالم الآخرة والحي متلبس بها، الثالث: أن الشهداء في حياتهم محجوبون وبعد موتهم أحياء عند ربهم يرزقون)(4)
قال آخر: ثم ذكر الجواب عن الشبهة الثانية، فقال: (وعن الثاني: أن ماذكرتموه أمر
__________
(1) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 90)
(2) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 91)
(3) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 91)
(4) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 92)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/149)
مجمع مجمع عليه معلوم عند صغير المسلمين فضلا عن كبيرهم أن المخلوق على الإطلاق لايطلب منه ولا ينسب إليه فعل ما اختصت القدرة الإلهية به، وقد رأينا أغمار الناس وعامتهم وأبعدهم عن العلم والمعرفة يلوذون بحجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يزيدون على أن يسألوا الشفاعة والوسلية: يارسول الله اشفع لنا يالله ببركة نبيك اغفر لنا، فصار الكلام في المسألة المفروضة فضلا لا حاجة بأحد من المسلمين إليه، وإذا لم يكن بد من التعريف بهذا الحكم خشية أن يقع فيه أحد فليكن بعبارة لا توهم نقصا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا غضا من منصبه مثل أن يقال: ما استأثر الله عز وجل بالقدرة عليه فلا يطلب من مخلوق على الإطلاق أو نحو هذا ولا يتعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسلب الاستغاثة عنه مطلقا ولا مقيدا، ولا يذكر إلا بالصلاة والسلام عليه والرواية عنه ونحو ذلك، هذا حاصل ماوقع في هذه المسألة سؤالا وجوابا ذكرته بمعناه وزيادات من عندي)(1)
قال آخر: ومنهم علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي، صاحب كتاب [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف]، والذي قال فيه: (يجوز التوسل بالرجل الصالح، على الصحيح من المذهب، وقيل يستحب قال الإمام أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه وجزم به في المستوعب وغيره)(2)
قال آخر: ومنهم ابن عفالق الحنبلي، فقد قال مخاطبا شيوخكم: (فإن كنتم تنكرون التوسل والتشفع به صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً فالكلام ساقط معكم، والخطاب مستد بيننا وبينكم، وإن كنتم تقولون يجوز ذلك في حياته، وفي عرصات يوم القيامة إظهاراً لعظيم شأنه وتنويهاً برفيع مقامه، وتقولون بعدم ذلك بعد وفاته، فأي دليل قام لكم على ذلك؟ .. وأي أمر
__________
(1) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (3/ 93)
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2/ 456)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/150)
أسقط عظيم جاهه بعد وفاته؟ .. ومن المعلوم أن ما أقره صلى الله عليه وآله وسلم في حياته فهو شرع بعد وفاته)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ حسن الشطي الحنبلي؛ فمن أقواله في الرد على شيوخكم: (فإن قلت شبهة من منع التوسل رؤيتهم بعض العوام يطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا تطلب إلا من الله، ويجدونهم يقولون للولي: افعل لي كذا وكذا، فهذه الألفاظ الصادرة منهم توهم التأثير لغير الله .. والجواب على ذلك: أن الألفاظ الموهمة محمولة على المجاز العقلي، والقرينة عليه صدوره من موحد، ولذا إذا سئل العامي عن صحة معتقده بذلك فيجيبك بأن الله هو الفعال وحده لا شريك له، وإنما الطلب من هؤلاء الأكابر عند الله تعالى المقربين لديه على سبيل التوسط بحصول المقصود .. ولا يصح لنا أن نمنعهم من التوسل والاستغاثة مطلقاً)(2)
قال القاضي: فاذكروا لنا ما قال غيرهم .. وإياكم والكذب عليهم.
قال أحد التلاميذ: أما طوائف الشيعة، وخصوصا الإمامية؛ فلا حاجة لذكر من قال منهم بذلك، لأنهم كلهم قالوا بذلك، ابتداء من أئمتهم، وقد ألفوا في ذلك المؤلفات والرسائل، وخصوصا في الرد على شيوخكم.
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن داود الهمذاني الملقّب بإمام الحرمين، والذي كان فقيها إماميا، نحويا، لغويا، مصنفا، ذا يد طولى في العلوم الأدبية، والذي تحدث في كتابه [إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية] عن عدم الفرق في التعبير بين لفظ الاستغاثة أو التوسل أو التشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرر جواز التوسل أو الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما دام المتوسل أو المستغيث يعتقد أن الله هو المتصرف في الأمور، فقال: (لا فرق أن يعبر
__________
(1) رسالة ابن عفالق إلى ابن معمر، ص 43.
(2) النقول الشرعية، ص 107.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/151)
بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التوجه .. فكل من الاستغاثة والتوسل والتوجه والتشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره في (تحقيق النصرة)، و (مصباح الظلام)، و (المواهب اللدنية) للقسطلاني واقع في كل حال قبل خلقه، وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة)(1) .. ثم قال: (ولا ينبغي أن يستريب أحد في جوازه، كيف والقائل معتقد بأن الله هو الشافي والكاشف للضر، وأن الأمور ترجع إليه)(2) .. وقال: (إن كان يعتقد ـ أي المتوسل والمستغيث ـ أن المتصرف في الأمور هو الله والطلب في الحقيقة، ونفس الأمر منه، وغيره لا يملك شيئاً من الضر والنفع والوضع والرفع، ولكن مع ذلك يتوجه الخطاب، والطلب إلى الوجيه المقرّب لدى الرب .. فالطلب في الحقيقة منه تعالى لا من سواه، وإن كان في الظاهر متوجهاً إلى غيره فلا بأس به في المعنى)(3)
قال آخر: وهو يذكر عدم حاجة طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء إلى إذن من الله، لأن الله أذن لهم في ذلك، فقال: (إن الله تعالى أذن لنا أن نطلب منهم ـ أي الأنبياء والأولياء ـ الشفاعة، وليعلم أولاً أن طلب الشفاعة منهم لا يحتاج إلى ورود إذن من الله في ذلك، فإنا بعد أن علمنا أن لهم جاهاً وجيهاً عنده تعالى، بحيث إذا شفعوا قبلت شفاعتهم، فعلمنا مع ذلك أن الله تعالى أذن لهم في الشفاعة، ساغ لنا أن نطلبها منهم، ونجعلهم شفعاء عنده، ونقول لهم اشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا، فإن لكم عند الله جاهاً وجيهاً، وشفاعة مقبولة كما يسوغ لأحدنا أن يقول لآخر توسط لي عند السلطان واشفع لي لدى فلان)(4)
قال آخر: ورد على شيخكم بشدة؛ فقال: (وقول الزنديق النجدي إن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن طلبها منه، كما قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:
__________
(1) إزهاق الباطل، ص 62.
(2) إزهاق الباطل، ص 72.
(3) إزهاق الباطل، ص 75.
(4) إزهاق الباطل، ص 35.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/152)
18] غلط، فإن الدعاء المنهي عنه هنا بمعنى العبادة، وطالب الشفاعة لا يعبد الشفيع، بل يطلب منه أن يشفّعه عند الله، كما أن يوسف عليه السلام بدعائه لأحد صاحبي السجن لم يكن عابداً له ولا كافراً)(1)
قال آخر: وهكذا رد على قول شيخكم: (فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه)(2) .. فقال: (هذا غلط أيضاً، لما قلنا من أن طلب الشفاعة ممن أعطيها سواء كان نبياً، أو كان ولياً، أو وصياً، أو ملكاً، أو مؤمناً ليس عبادة له، فيصح لنا أن نطلب الشفاعة من الأوصياء، والأولياء، والملائكة، والصلحاء، وليس في ذلك شرك)(3)
قال آخر: وذكر عدم اشتراط أي صيغة في ذلك، فقال: (وإذا ثبت أن لهم ـ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته ـ الشفاعة المقبولة، وأنهم مأذونون في الشفاعة، ونحن مأمورون بطلبها، كان لنا الخيار في الدعاء. فإن شئت طلبناها، وقلنا اللهم شفعهم فينا، أو لا تحرمنا شفاعتهم، أو تقبل شفاعته فينا، وإن شئنا طلبناها منهم، وقلنا يا أولياء الله اشفعوا لنا عند الله، واستغفروا ذنوبنا إلى غير ذلك)(4)
قال آخر: ومنهم الشيخ محمد حسن القزويني الحائري، فقد رد على شيوخكم بقوله: (قالت الوهابية إن الشفاعة للأنبياء والأولياء منقطعة في الدنيا، وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة، فلو جعل العبد بينه وبين الله وسائط من عباده يسألهم الشفاعة كان ذلك شركاً
__________
(1) إزهاق الباطل، ص 35.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 165.
(3) إزهاق الباطل، ص 35.
(4) إزهاق الباطل، ص 53.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/153)
وعبادة لغير الله، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه ويقول: اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز له أن يقول يا محمد اشفع لي عند الله) .. وبعد أن ساق الأدلة التي ترد على ذلك، قال: (وقول ابن عبد الوهاب: أن الله أعطى نبيه الشفاعة، ولكن نهاك عن الاستشفاع به .. كلام شعري مبناه الخيال، فإنه مثل أن يقول أن الله تعالى أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة سقاية الحوض، ولكن نهى الناس عن الورود عليه، والاستسقاء منه)(1)
قال آخر: ثم استدل بقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، وعقب على الآية الكريمة بقوله: (دلت على جواز وقوع الشفاعة الحسنة من المؤمنين، بعضهم في حق بعض، ومتى جاز، جاز التوسل بالشفيع ولو كان ذلك شركاً لما صح الإذن في الشفاعة لا عقلاً ولا سمعاً مع أنها مأذون فيها ومرغب إليها بقوله سبحانه: {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا})(2)
قال آخر: وهو يرد على من اعتبر الاستغاثة بالموتى شركا، فقال: (وأما عدم كون التوسل بالميت إلى الله شركاً، فلأنه نظير التوسل بالحي وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى، فكما أنه ليس من الشرك، كذلك التوسل بالميت، فيجعل أحد التوسلين كالآخر، بجامع السؤال من المخلوق، إذ لا وجه لتوهم كونه شركاً، إلا كونه دعاء لغير الله تعالى، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء جاز مطلقاً .. وذلك لوقوع نداء المخلوق والدعاء، والالتماس له في الكتاب لقوله سبحانه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] وسؤال قوم موسى عليه السلام منه الاستسقاء، وقال سبحانه حكاية عن يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، فلو جازت هذه الأسئلة ولم تكن شركاً جاز سؤال الأنبياء والأولياء عند الوقوف على قبورهم، أو من مكان بعيد إجابة
__________
(1) البراهين الجلية، ص 17.
(2) البراهين الجلية، ص 17.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/154)
للمضطر)(1)
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من المصدر الأول .. فما المصدر الثاني؟
قال أحد التلاميذ: المصدر الثاني، وهو الأول في الحقيقة، مرتبط بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على شرعية التوسل والاستغاثة، وعدم علاقتها بالشرك الذي يدعيه المخالفون.
قال القاضي: فلم لم تبدؤوا بها؟ .. أترون أنها أضعف من أن تذكر؟ .. أم أنكم تعتبرون شيوخكم أعظم منها؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نعتقد ذلك .. إنما أخرناها لتعلموا أن الفهوم التي فهمناها من القرآن الكريم لم ننفرد بها، وإنما قال بها كبار العلماء، ومن كل المدارس الإسلامية.
قال القاضي: لا بأس .. نحن نعلم ما أوتيه أهل البدع من الألسنة والحجج .. فلذلك اذكروا لنا الآيات التي ترون أنها تثبت التوسل.
قال أحد التلاميذ: الآيات الدالة على ذلك كثيرة .. ولذلك سنكتفي بنماذج منها، ونقسمها إلى ثلاثة أصناف.
قال القاضي: لا بأس .. فاذكروا لنا الصنف الأول منها.
قال أحد التلاميذ: الصنف الأول يشمل كل الآيات التي تذكر شرعية الوسائط واستعمالها، ومن الأمثلة عنها الآيات الكريمة التي تخبر عن دعاء الملأ الأعلى للمؤمنين،
__________
(1) البراهين الجلية، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/155)
واهتمامهم بما يجري لهم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]
قال آخر: ولهذا لا مانع من أن نسأل هؤلاء الملائكة بأن يخصونا بدعواتهم، وفي أي شأن من الشؤون .. وما ينطبق على الملائكة عليهم السلام ينطبق على غيرهم من الصالحين، وخصوصا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: وهذا ما صرح به القرآن الكريم نفسه؛ فالله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]
قال آخر: فهذه الآية الكريمة تشير إلى ما كان عليه الحال في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان يأتيه المذنب، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، وقد وجد المسلمون ـ من لدن سلفهم الأول ـ استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قالوا بمشروعية استمرارها بعد وفاته، وذلك بزيارة قبره الشريف، والاستغفار عنده، وسؤال الشفاعة، ذلك لأنّ إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته.
قال آخر: وقد ذكر الشوكاني وجه الاستدلال بها، فقال: (ووجه الاستدلال بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث: الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءا)(1)
قال آخر: وقال السبكي: (دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع
__________
(1) نيل الأوطار 3/ 105.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/156)
بموته، تعظيما له .. والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى)(1)
قال آخر: بل إن فقهاء الصحابة استدلوا بهذه الآية على ذلك، فقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: (إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64])(2)، ففرح ابن مسعود بهذه الآية ظاهر في أنها عامة.
قال آخر: والروايات الكثيرة حول الاستدلال بالآية من لدن السلف الأول، تدل على اشتهار ذلك، واعتباره، حتى أصبح معروفا لدى العامة والخاصة، وقد روى العتبي (توفى 228 هـ) في ذلك ـ وهو من شيوخ الشافعي، وحدّث عن سفيان بن عيينة وغيره ـ عن محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثمَّ قال: (يا خير الرسل، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي مستشفعاً فيها بك. ثمَّ بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
__________
(1) شفاء السقام: 81 ـ 82.
(2) معجم الطبراني 9/ 220، قال الهيثمي 7/ 71: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/157)
ثمَّ استغفر وانصرف (1).
قال آخر: ولهذا؛ فإن قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، لا يتعارض مع قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، ذلك أن الآية الأولى تطلب الدعاء المباشر لله، والآية الثانية تذكر وسيلة من وسائل ذلك الدعاء، أو أدبا من آدابه التي تجعله أكثر جدوى، وهو التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: بل إن القرآن الكريم صرح بذلك ودعا إليه، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، فالآية الكريمة كما تأمرنا بتقوى الله وتوحيده، تأمرنا كذلك بطلب الوسائل ومراعاتها واحترامها .. فمن طلب العلم بحث عن العالم .. ومن طلب الشفاء بحث عن الطبيب .. ومن طلب فضل الله دعاه أو توسل إليه بمن يرى قربه منه .. وليس في ذلك كله أي شرك، لأن المؤمن يعتقد أن الله تعالى هو الذي يملك كل شيء، وما عداه لا يملك إلا ما أعطاه الله.
قال آخر: والأمر في ذلك يشبه ما ورد في القرآن الكريم من كونه يسند الأمور كلها لله تعالى تارة، ويسندها لخلقه تارة أخرى .. وهو ما لا تعارض فيه، فالله تعالى هو المدبر لكل شيء، لكن حكمته اقتضت أن يكون بعض تدبيره عبر الوسائل والأسباب؛ فمن راعاها راعى الحكمة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى عن توفي الأحياء، فمرة يسند الأمر إلى
__________
(1) أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) والقسطلاني بأسانيدهم، انظر: شفاء السقام: 62 ـ 63، مختصر تاريخ دمشق 2/ 408، والمواهب اللدنية 4/ 583.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/158)
الملك الموكل بذلك، ويسنده مرة أخرى إليه، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، ثم قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، فإسناد الأمر للملك ليس شركا، لأن الملك لا يتصرف من عنده، وإنما يتصرف بإذن الله.
قال آخر: وهكذا نرى القرآن الكريم يضيف الأفعال للعباد، ثم يضيفها لله نفسه .. فالعباد يفعلونها باعتبارهم وسائط، بينما الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] أضاف ذلك إلينا، ثم قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 25 ـ 28]
قال آخر: وهكذا قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل .. بل صرح، فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]، وقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]
قال آخر: وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة التي تخبر عن هذه الوسائط التي جعلها الله بينه وبين عباده، وأن مراعاتها لا يتنافى مع التوحيد، فالقيام بالحرث والزرع والسعي في الأرض، لا يتنافى مع الإيمان بكون الله تعالى هو الرزاق، واستعمال كل الوسائل لحفظ النفس من الآفات لا يتنافى مع كون الله تعالى هو الحافظ .. وهكذا عندما يذهب المريض للطبيب، يطلب منه الشفاء لا يتنافى مع كون الله تعالى هو الشافي.
قال آخر: وهكذا فإن التوسل بالرسل أو الصالحين بسبب قربهم من الله تعالى لا يتنافى مع التوحيد، فالله تعالى لم يجعل الصالحين وسائط هداية فقط، بل جعلهم وسائط رحمة أيضا، حيث يغيث الله تعالى بهم عباده، مثلما يغيثهم بالمطر، كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، وقال عنه: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/159)
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]
قال آخر: وهكذا أخبر تعالى عن أدوار الرسل عليهم السلام في حياة الناس في جوانبها المختلفة، لا الدينية فقط، كما قال تعالى عن سليمان عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 36 ـ 39]
قال آخر: ومثل ذلك قال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]، فالآية الكريمة ـ وفق الرؤية التكفيرية ـ تحمل مضامين شركية، لأنها عندهم تجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ندا لله تعالى، لكنها وفق الرؤية التنزيهيه لا تدل على ذلك، بل هي تدل على أن فضل الله تعالى قد يتنزل على عباده مباشرة، وقد يتنزل عليهم عبر تلك الوسائط، مثلما يتنزل الغيث عبر السحب وغيرها.
قال آخر: وبناء على هذا كله، فإن المؤمنين الذين يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغيثون به، يفعلون مثلما كان يفعل أصحابه الذين يعيشون معه في عهده، ذلك أن فضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكونه رحمة للعالمين ليس خاصا بعصر النبوة، بل هو ممتد لكل العصور، ولذلك لا يصح أن نجيز للذين عاصروه أن يستغيثوا به في كل شيء، فيغيثهم، ثم نحرم المؤمنين بعده من ذلك.
قال آخر: ولهذا ورد في الحديث شوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرؤية المؤمنين الذين لم يكتب لهم أن يعيشوا في عهده، بل سماهم [إخوانا]، وهم ـ لغة ـ أكرم وأرفع درجة من [الأصحاب]، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وددت أني لقيت إخواني)،
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/160)
قال: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)(1)
قال القاضي: يكفي هذا .. فاذكروا لنا الصنف الثاني.
قال أحد التلاميذ: الصنف الثاني يشمل كل الآيات التي تذكر انسجام التوحيد مع الوسائط، ذلك أن الإشكال الكبير الذي وقع فيه شيوخنا الأفاضل وشيوخهم وأئمتهم هو توهمهم أن الإقرار بالوسائط يتنافى مع التوحيد، وذلك غير صحيح، فهناك فرق كبير بين الوسائط التي يعتقدها المؤمن بناء على ما ورد في القرآن الكريم، وبين الوسائط التي يعتقدها المشركون، والذين فند الله تعالى أقوالهم وعقائدها، لأن الله تعالى غني عن الوسائط، لأن الحاجة إليها فقر، ويستحيل على الله الفقر والحاجة، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]
قال آخر: لذلك؛ فإن اعتقاد المؤمنين في الوسائط والأسباب التي قدرها الله تعالى ليس مبنيا على كونها وسائط حقيقية تفعل بذاتها، وإنما باعتبارها تابعة لربها، خاضعة له؛ فلولاه لم تكن ولم تفعل.
قال آخر: ودليل ذلك أن الوسيط الحقيقي لا يعدو أن يكون أحد ثلاثة .. أولها أن يكون وسيط علم .. وهو الذي يخبر المتوسط له بما لا يعرفه، كما يقوم الحكام باتخاذ المخابرات والعيون لترصد أحوال الرعية .. وهذا مستحيل على الله تعالى، فهو تعالى يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا
__________
(1) أحمد 20/ 38 ح (12579)، وأبو يعلي (3390)، والطبراني في الأوسط (5490)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/161)
تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
قال آخر: وثانيها أن يكون وسيط عون، ويلجأ إليه الحكام للعجز عن تدبير الرعية، فيدفعون ذلك إلى بطانة تعينهم ووزراء يخولونهم مهام القيام بشؤون الرعية .. والله تعالى غني عن كل ذلك، ولهذا أخبر عن عدم حاجته لهؤلاء الوسطاء، فقال عند ذكره عجائب الخلق في السموات والأرض: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، أي لا يثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه.
قال آخر: وهكذا أخبر عن عجز الذين اعتقد فيهم المشركون وسطاء لله، فقال: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51]، أي هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني، عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً، ولا أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، بل أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها، وليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير.
قال آخر: بل أمرهم أن يدعوهم ليروا مقدار ما عندهم من سلطة، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]
قال آخر: بل أخبر عن العجز التام لمن اعتقدوا فيهم الوساطة ولو على خلق ذبابة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/162)
يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]
قال آخر: ولذلك كان الله تعالى محمودا على هذا التفرد بتصريف الكون، فالمصلحة كلها في تفرده، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الاسراء:111]
قال آخر: وثالثها أن يكون وسيط شفاعة، وذلك حينما يكون المتوسط له لا يتحرك إلا بدافع يحركه من الخارج، كمن يكون قاسيا يحتاج إلى من يحرك فيه دوافع الرحمة، أو أن يكون غافلا فيوقظه وينبهه .. والله تعالى غني عن كل ذلك، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل إن رحمة الوالدة بولدها من فيوضات رحمته.
قال آخر: لكن هذا الاعتقاد الذي يعتقد المؤمن، لا يتنافى مع ما دل عليه القرآن الكريم والسنة المطهرة مما جرت به حكمته تعالى بنفع العباد بعضهم ببعض، أو شفاعة بعضهم لبعض، لأن ذلك من مقتضيات رحمته، والأمر في ذلك كله له من قبل ومن بعد.
قال آخر: ولهذا أخبر الله تعالى أن الشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الانبياء:28]، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109]، وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]
قال آخر: ولهذا؛ فإن الإيمان بكل ما ورد في القرآن الكريم كما يستدعي منا التوحيد المطلق لله تعالى، يستدعي أيضا أن نقر بتلك الوسائط التي جعلها الله تعالى، ونحترمها، لأنها لا تتنافى مع التوحيد، فهي لا تفعل بنفسها، وإنما بربها الذي هيأها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/163)
قال آخر: ولهذا؛ فإنه مع كون الله تعالى هو الهادي، إلا أنه اختار من عباده من جعلهم وسائط لذلك، فقال: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [لأعراف:35]، وقال: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، وقال: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]
قال آخر: وأخبر تعالى أنه يصطفي هؤلاء الوسائط من خلقه، فقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]
قال آخر: وأوجب الله تعالى طاعة هؤلاء الرسل واتباعهم والاقتداء بهم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]
قال آخر: وأخبر تعالى عن ألم أهل النار بسبب عدم احترامهم لتلك الوسائط؛ فذكر أن النار {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 ـ 9]، وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/164)
قال آخر: وغيرها من آيات القرآن الكريم الكثيرة التي تخبر عن هذه الوسائط التي جعلها الله بينه وبين عباده، وكل ذلك لا يتنافى مع الإيمان بتفرد الله تعالى بكل شيء وعدم اتخاذه الوسائط بمفهومها الحقيقي الذي يتنافى مع تنزيهه وغناه.
قال آخر: ذلك أن الحكمة الإلهية التي اقتضت جعل الإنسان خليفة هي التي اقتضت إرسال الرسل لتعريف الخلق بوظيفتهم، لأنه لو كان الخطاب مباشرا لهم من الله، تعالى فصار كل مكلف نبيا، لم يتحقق التكليف الذي يرتبط بالإيمان بالغيب، ولهذا ورد الثناء على المؤمنين بالغيب في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، فقد ذكر تعالى من صفات المؤمنين أنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3]، وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الانبياء:49]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، وقال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [قّ:33]
قال آخر: هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن هؤلاء الرسل ـ بالتأمل في حقيقة وظائفهم ـ ليسوا وسائط بالمعنى الذي قد يفهمه المشركون .. فالله تعالى يخبر عن عدم تميزهم عن البشر العاديين في البشرية، وأنه ليس لهم أي سلطة إلا ما خولوا به من الله تعالى، كما قال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [ابراهيم:11]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6]
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/165)
قال آخر: وهكذا يذكر القرآن الكريم أن ما يأتي به الرسل عليهم السلام من الآيات والخوارق لا يكون إلا بإذن الله وباسمه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38]
قال آخر: ولهذا أخبر الله تعالى أنه ليس من الوظيفة التي كلف بها الرسل عليهم السلام الهداية بمعناها التوفيقي، فقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، بل أخبر أن وظيفته مقتصرة على البلاغ، فقال: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]
قال آخر: وهكذا نفى الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة التي لم يأذن فيها الله تعالى، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:80]، وقال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6]
قال آخر: بل نفى عنه أي سلطة في التوبة أو المغفرة أو العذاب، قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
قال آخر: وكل هذه الآيات الكريمة تنفي مفهوم الوساطة الذي يعني تخويل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره من الرسل أي سلطة إلهية، تفوض لهم فعل ما يشاءون بعيدا عن إذن الله تعالى.
قال آخر: ولهذا، لما قال تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] قال عيسى عليه السلام: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/166)
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]
قال آخر: بل أخبر الله تعالى أن الرسل وخلفاءهم اقتصروا في تبليغهم على الدعوة لتوحيد الله، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]
قال آخر: وأخبر أن هؤلاء المدعوين عباد لله قانتون له متواضعون له لا يعتقدن في أنفسهم إلا العبودية لله، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء:27]، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} [النساء:172]، وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]
قال القاضي: يكفي هذا .. فاذكروا لنا الصنف الثالث.
قال أحد التلاميذ: الصنف الثالث يشمل كل الآيات التي تذكر عدم التناقض بين توحيد الله والاستعانة بالوسائط، ذلك أننا نفعل ذلك بناء على ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة التي أمرتنا باحترام تلك الوسائط والاستعانة بها، لا لكونها تفعل بذاتها، وإنما بكون الله تعالى هو الذي جعلها بحكمته كذلك.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/167)
قال آخر: وكل الناس يفعلون ذلك .. ولا يرون به بأسا، حتى أنت سيدي القاضي، وحتى أولئك الشيوخ الأفاضل .. كلكم وكلنا مضطرون لاستعمال الوسائط والاستعانة بها.
قال القاضي: أنت تتهمنا بالشرك إذن؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن أفعل ذلك .. فتلك الاستعانة ليست شركا، ما دمنا نعتقد أن الوسائط لا تفعل بذاتها، بل تفعل بإذن ربها، وبقدرته، وحكمته، ومشيئته.
قال آخر: ولعل أقرب مثال يوضح لكم ذلك ما ورد في القرآن الكريم من جعل الله المطر سببا لإنبات النبات، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] .. ألا ترون أن المطر واسطة بين إرادة الله لإحياء الأرض وتحقق ذلك الإحياء؟ .. ومثل ما يقال في المطر يقال في كل الأسباب.
قال آخر: وهكذا نجد القرآن الكريم لا يعاتب أولئك الذين راعوا الأسباب من غير أن يعتقدوا بربوبيتها، فقد قال تعالى عن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف:84]، وقد قيل في تفسيرها عن حبيب بن حماد قال: كنت عند علي، وسأله رجل عن ذي القرنين، كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال: (سبحان اللّه سخّر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد)(1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد سمى الله تعالى أبواب السماء أسبابا، إذ منها يدخل إلى السماء، فقال حاكيا قول فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 ـ 37]
قال آخر: وسمى الله تعالى الحبل سببا لإيصاله إلى المقصود، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ
__________
(1) الضياء المقدسي في المختارة برقم (409)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/168)
يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15]
قال آخر: وسمى الله تعالى وصل الناس بينهم أسبابا، وهي التي يتسببون بها إلى قضاء حوائج بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166]
قال آخر: وهكذا يربط القرآن الكريم بين الأسباب والنتائج في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]، وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} [البقرة: 59]، وقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، وقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95]، وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106]
قال آخر: وغيرها من الآيات الكثيرة المثبتة للأسباب، والتي تدعو إلى التعامل معها بما يقتضيه الواقع من غير أن يؤثر اعتقادنا فيها في توحيدنا لله تعالى، فالله تعالى هو المتفرد بكل شيء.
قال آخر: ولهذا يخبر الله تعالى أنه يرسل الرياح، لتؤدي أدوارها في منفعة العباد أو عقوبتهم، مع كونه الغني عنها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/169)
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]
قال آخر: وهكذا يذكر الله تعالى تسخيره للنحل لصنع العسل الذي جعله شفاء للناس، قال تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69]
قال آخر: فهل استعانتنا بالعسل للتداوي، شرك بالله؟ .. وهل طلبنا للري، أو استبشارنا بالمطهر شرك بالله؟
قال آخر: وكيف يكون شركا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتداوي، كما قال: (تداووا عباد الله فإن الله لا يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم)(1)، وقال: (إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه، وجهله من جهله إلا السام وهو الموت)(2) .. مع أننا نعتقد بما قاله إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79 ـ 80] .. فهل ترون أن هناك تعارضا بين هذه النصوص المقدسة، تلك التي تأمر باتخاذ الأسباب، وتلك التي تذكر أن الله تعالى هو المتفرد بتحقيق النتائج؟
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من المصدر الثاني .. فما المصدر الثالث؟
قال أحد التلاميذ: المصدر الثالث، هو قرين المصدر السابق، والمفسر له، وهو السنة النبوية المطهرة، وسنذكر لكم سبعة أحاديث تدل دلالة صريحة على شرعية التوسل والاستغاثة.
__________
(1) أبو داود (3855)، والنسائي في الكبرى (5875)
(2) كشف الأستار (3016)، والحاكم (4/ 401)، والطبراني في الأوسط (1587)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/170)
قال القاضي: فهاتوا الحديث الأول .. وأرجو ألا يكون من تلك الأحاديث المكذوبة التي وضعها شيوخكم.
قال أحد التلاميذ: لا .. سيدنا القاضي .. بل هو مروي في المصادر المعتبرة .. وهو المشهور بحديث توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء علمه إياه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه.
قال آخر: وهو صيغة من صيغ صلاة الحاجة، ولهذا نجد المحدثين في كتبهم يروونه في الأبواب المرتبطة بالدعاء وصلاة الحاجة، فهكذا ذكره النسائي، وابن السُّني في عمل اليوم والليلة، والترمذي في الدعوات، والطبراني في الدعاء، والحاكم في المستدرك، والمنذري في الترغيب والترهيب، والهيثمي في مجمع الزوائد في صلاة الحاجة ودعائها، والنووي في الأذكار، وابن الجزري في (العدة) في باب صلاة الضرِّ والحاجة، وقد قال الشوكاني في [تحفة الذاكرين]: (وفي هذا الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وأنه المعطي المانع ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)(1)
قال آخر: ونص هذا الحديث هو أن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خير؟ قال: فادعُهُ، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويُصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللهمّ شفّعه فيّ)، قال الراوي: فوالله ماتفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضُرّ (2).
__________
(1) تحفة الذاكرين (ص 162)
(2) أحمد (4/ 138)، والترمذي (تحفة): 10/ 132، 133)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 417)، وابن ماجة في السنن (1/ 441) والبخاري في التاريخ الكبير (6/ 210) والطبراني في المعجم الكبير (9/ 19)، وفي الدعاء أيضاً (2/ 1289) والحاكم في المستدرك (1/ 313، 519) وصححه وسلمه الذهبي والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 166)، وفي الدعوات الكبير.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/171)
قال آخر: ونص الحديث واضح في الدلالة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد الأعمى إلى التوسّل به في دعائه الذي علّمه إيّاه: ففي قوله: (بنبيّك) متعلّق بفعلين: أسألك بنبيّك .. وأتوجّه إليك بنبيّك .. والمسؤول به وما يتوجّه به إلى الله هو نفس النبي الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم، لا دعاؤه ـ كما يذكر ابن تيمية ـ وإلاّ كان عليه أن يقول: اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بدعاء نبيّك .. وفي قوله: (محمد نبي الرحمة) دلالة على أنّ المسؤول به نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دعاؤه .. وفي قوله (يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربي) دليل على أن الأعمى بحكم هذا الدعاء اتّخذ منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاهه وسيلة لاستجابة دعائه .. وبذلك يتّضح أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه ونفسه الكريمة، هو محور الدعاء كلّه، وليس فيه أي دليل على التوسّل بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم أصلاً ..
قال آخر: وقد أقر ابن تيمية بصحة هذا الحديث، فقال في كتابه [التوسل والوسيلة]ـ الذي يستند إليه التكفيريون كثيرا ـ يعد طرقه، ويحكم له بالصحة من خلالها: (قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه، بطوله، ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف .. قلت: وقد رواه ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة، من طريقين، وشبيب هذا صدوق روى له البخاري .. وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم ـ ثم ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر ثم قال ـ قال الطبراني: روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر ـ واسمه عمير بن يزيد ـ وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمير عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسي: والحديث صحيح .. قلت: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمير)(1)
قال آخر: لكنه بعد كل هذا الإقرار الذي لم يجد فكاكا عنه، ومع وضوح الحديث،
__________
(1) التوسل والوسيلة: 105 ـ 106.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/172)
وكون صيغة التوسل التي وردت فيه هي نفس الصيغة التي يتبناها القائلون بالتوسل، راح يؤول معناه، ويصرفه عن حقيقته، بوجوه من التأويل، وهي التي تبناها شيوخكم، وتصوروا أنها حقائق لا يجوز الجدال فيها مع كونها فهوما عقيمة لا يراد منها سوى الفرار من مقتضيات الحديث.
قال آخر: ومن تلك الوجوه ذكرهم أنّ التوسّل كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن في محضره، وبذلك لا يصح عندهم التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، مع أن كل الأحاديث تبقى على إطلاقها ما لم تقيد بزمن معين.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإنهم بهذا الموقف يخرجون عما شرطوه على أنفسهم من التقيد بفهم السلف، وخصوصا الصحابة، وخصوصا راوي الحديث، وقد ورد في الروايات ما يدل على أن الراوي للحديث فهم منه شموله لفترة حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، فقد روى الطبراني عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجته، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين وقل: اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاءه البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجّة، فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمتُه فيك، ولكنّي شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه ضرير
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/173)
فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. ، إلى آخر الحديث (1).
قال آخر: بالإضافة إلى هذا فإن التفريق بين حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته عين الشرك، ذلك أن الله هو الفاعل في الجميع، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرد واسطة، فالتفريق بين الحياة والموت يدل على أن الشخص له من القدرة والتأثير في الحياة ما ليس له في المماة، مع أن الأمر لله جميعا.
قال آخر: ومن التأويلات الغريبة التي استعملوها للفرار من الحديث ومقتضايته ذكرهم أن العميان من الصحابة، لم يعد لهم بصرهم، ويعتبرون هذا دليلا على عدم مشروعية التوسل أو عدم جدواه أو كونه خاصا براوي الحديث، يقول ابن تيمية: (ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدعُ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله)(2)، وقد علق على هذا محقق الكتاب بقوله: (وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ابن عباس وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشروعاً لتوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم ولشفي وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عمي عتبان بن مالك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك ابن أم مكتوم)(3)
قال آخر: وقال في موضع آخر: (وكذلك لو كان كل أعمى توسل به، ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني:9/ 30 و 31.
(2) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 123)
(3) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 123)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/174)
وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه)(1)
قال آخر: ومثله قال الألباني: (لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقدره وحقه كما يفهم عامة المتأخرين لكان المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وآله وسلم بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين وكل الأولياء والشهداء والصالحين وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة والإنس والجن أجمعين، ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال هذه القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم)(2)
قال آخر: وإيراد مثل هذا عجيب، وهو دليل على التلاعب بالنصوص والاحتيال عليها، والجواب على هذا هو أن من الصحابة من رضي بحاله، ولم يسأل الله تغييره رضى بقسمة الله، بل في حديث الأعمى دليل على استحباب ذلك، وقد ورد في الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبها طيف، فقالت: (إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله أن يشفيني)، فقال: (إن شئت دعوت لك أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)، فقالت: (بل أصبر ولي الجنة، ولكن ادع اللّه لي أن لا أتكشف)، فدعا لها فكانت لا تتكشف (3).
قال آخر: ومنها أن اشتراط تأييد كل ما ورد من الأحاديث القولية أو الفعلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآثار الدالة على الفعل به من كل الصحابة، يكلفنا شططا، بل يلغي أكثر السنن، فلذلك يكتفي العلماء كلهم ـ بما فيهم ابن تيمية ـ بما ورد من الأحاديث، بل يرون أن في خلاف الصحابة للأحاديث دليل على عدم بلوغ الحديث لهم، لا دليلا على ضعف الحديث
__________
(1) الرد على البكري، ابن تيمية، 1/ 268.
(2) التوسل، (ص 76)
(3) البخاري 7/ 116 ح (5652)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/175)
أو صرفه عن حقيقة معناه، وقد جعل ابن تيمية نفسه ـ هذا المعنى ـ من أسباب الخلاف الفقهي في كتابه [رفع الملام عن الأئمة الأعلام]، بل اعتبره أول الأسباب، فقال: (السبب الأول أن لايكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فان الاحاطة بحديث رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن لأحد من الأمة)(1)
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا بالحديث الثاني.
قال أحد التلاميذ: هو ما ورد من الأحاديث التي تخبر عن الحياة بعد الموت، وعلاقة تلك الحياة بالأحياء على الأرض، أو علاقتها بالقبور، وهي التي يستند إليها علماؤنا في التعامل مع الصالحين وهم موتى، وكأنهم أحياء، فيخاطبونهم، مثلما يخاطبون الأحياء تماما.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)(2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره)(3)
قال آخر: وقد قال ابن القيم ـ وهو تلميذ ابن تيمية النجيب ـ في نونيته عند الكلام على حياة الرسل بعد مماتهم (4):
والرسل أكمل حالة منه بلا ... شك وهذا ظاهر التبيان
فذلك كانوا بالحياة أحق من ... شهدائنا بالعقل والبرهان
وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ ... فنساؤه في عصمة وصيان
ولأجل هذا لم يحل لغيره ... منهن واحدة مدى الأزمان
أفليس في هذا دليل أنه ... حي لمن كانت له أذنان
قال آخر: بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في الروايات الكثيرة ـ التي يقر بصحتها ابن تيمية وغيره من شيوخكم ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى إماماً بالأنبياء عليهم السلام في الإسراء، وهذا متواتر، وكانوا قد ماتوا جميعاً، وراجعه موسى عليه السلام في الصلوات ورأى غيره في السماوات، فمن كان هذا حاله فكيف يقال بالتفريق بين حياته وموته؟
قال آخر: وبذلك فإن العلة التي وضعها شيوخكم ابتداء من ابن تيمية للنهي عن التوسل والاستغاثة، وهي موت المتوسل بهم، منتفية بهذه الأحاديث، ذلك أن المتوسلين يشعرون أنهم يخاطبون أحياء يسمعونهم، ويجيبونهم، مثلما يتعاملون مع الأحياء تماما.
قال آخر: فكما أنه لا يكفر من يقصد طبيبا، ويطلب منه أن يعالجه، فكذلك لا ينبغي أن يكفر من يقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يقصد بعض الصالحين، وهو يشعر بحياتهم، ويطلب منهم أي طلب كتلك الطلبات التي كان يطلبها الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شؤون دنياهم ودينهم، فيقضيها لهم، وقد ورد الكثير منها بصيغة الاستغاثة.
قال آخر: ومع وضوح هذا الدليل، إلا أن شيوخكم استعملوا كل التأويلات لصرف هذا النوع من الأحاديث عن معناها، ومن ذلك قول بعضهم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره)(5): (اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي حياة برزخية،
__________
(1) مجموع الفتاوى:20/ 233.
(2) البيهقي في حياة الأنبياء (ص 15) وأبو يعلى في مسنده (6/ 147)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 44)، وابن عدي في الكامل (2/ 739)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 211): (ورجال أبي يعلى ثقات)
(3) مسلم (4/ 1845)، وأحمد (3/ 120) والبغوي في شرح السنة (13/ 351) وغيرهم.
(4) النونية مع شرح ابن عيسى 2/ 160.
(5) مسلم (4/ 1845)، وأحمد (3/ 120) والبغوي في شرح السنة (13/ 351) وغيرهم.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/176)
ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها؛ ومحاولة تكيفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا، هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء، كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أن حياته صلى الله عليه وآله وسلم في قبره حياة حقيقية .. فإذا أثبتنا حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها ليست من جنس حياة الأحياء في هذه الدنيا، فليس لأحد أن يتوسل بهم، ولا أن يدعوهم، لأن إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن حياته في قبره أو عن حياة الأنبياء ليس فيه إذن ولا أمر بالتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم ولا بغيره من الأنبياء)(1)
قال آخر: ولسنا ندري كيف أجاز لنفسه التفريق بين الحياتين في هذا المعنى، مع أن الله تعالى نهى أن يحسب الشهداء أمواتا من جميع النواحي، كما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170]، فأخبر عن حياتهم، وصلتهم بالأحياء، وارتباطهم بهم.
قال آخر: بل إن ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ عقد فصلا في كتابه [الروح] ليثبت فيه أن الموتى يعلمون بما يقوله الأحياء، ويسمعونهم، ويتفاعلون معهم، قال فيه: (ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثا، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل، ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبرانى في معجمه من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمع ولايجيب، ثم ليقل يا فلان ابن فلانة
__________
(1) الجواب المفصّل عن شبهات في التوسل، ص 9.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/177)
الثانية فإنه يستوي قاعدا، ثم ليقل يا فلان ابن فلانة يقول أرشدنا رحمك الله، ولكنكم لاتسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما، ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا، وقد لقن حجته ويكون الله ورسوله حجيجه دونهما، فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمه قال ينسبه إلى أمه حواء)، فهذا الحديث، وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولا وأوفرها معارف تطيق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لاينكره منها منكر، بل سنه الأول للآخر ويقتدي فيه الآخر بالأول فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وان استحسنه واحد فا لعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة رجل فلما دفن قال: (سلوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يسأل فأخبر أنه يسأل حينئذ وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا منصرفين)(1)
قال آخر: وغيرها من النصوص الكثيرة التي أوردها ابن القيم ليثبت من خلالها أن حياة الميت حقيقية، وأن له علاقة بالأحياء، يسمعهم، ويتفاعل معهم، ولذلك كان التفريق بين الموت والحياة في التوسل والاستغاثة لا معنى له، خاصة مع ورود النصوص بعدم التفريق.
قال آخر: أما الاستدلال بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) الروح (ص 13)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/178)
يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور} [فاطر:22]، فبعيد جدا، بل نص المفسرون الذين يعتمدهم شيوخكم على عدم صحة هذا الاستدلال، ذلك أن الآية الكريمة، تنص على أن الكفار المصرين على الباطل لن ينتفعوا بالتذكير والموعظة كما أن الأموات الذين صاروا إلى قبورهم لن ينتفعوا بما يسمعونه من التذكير والموعظة بعد أن خرجوا من الدنيا على كفرهم، فشبه الله تعالى هؤلاء الكفار المصرين بالأموات من هذا الوجه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول ابن كثير في تفسيرها: (كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مدبرون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه)(1)
قال آخر: ثم ذكر موقف عائشة من ذلك، فقال: (وقد استدلت أم المؤمنين عائشة، بهذه الآية على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون)، وتأولته عائشة على أنه قال: (إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق)(2)
قال آخر: ثم عقب عليه بقوله: (والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له، عن ابن عباس مرفوعا: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام)، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال
__________
(1) تفسير ابن كثير (6/ 324)
(2) تفسير ابن كثير (6/ 324)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/179)
المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم)(1)
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا بالحديث الثالث.
قال أحد التلاميذ: هو ما ورد من الأحاديث التي تدل على حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، وعلاقته بأمته، ومعرفته بها، وتواصله معها، ومن تلك الأحاديث ما رواه عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم)(2)
قال آخر: وهذا الحديث واضح في الدلالة على علاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، وعدم اقتصارها على حياته الدنيوية، وقد اتفق أكثر المحدثين على تصحيحه، فقد رواه البزار في مسنده (3) بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما نص على ذلك الحافظ نور الدين الهيثمي (4)، وقال الحافظ السيوطي: سنده صحيح (5)، وقال الحافظان العراقيان الزين وابنه ولي الدين: (إسناده جيد)(6)، وروى الحديث ابن سعد بإسناد حسن مرسل (7).
__________
(1) تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 324)
(2) البزار (كشف الأستار 1/ 397) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 24) رجاله رجال الصحيح.
(3) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 397)
(4) مجمع الزوائد (9/ 24)
(5) الخصائص الكبرى (2/ 281)
(6) طرح التثريب (3/ 297)
(7) الطبقات (2/ 194)، وانظر: فيض القدير (3/ 401)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/180)
قال آخر: وقد ألف فيه المحدث الكبير عبد الله بن الصديق الغماري جزءا حديثيا خاصا سماه [نهاية الآمال في صحة وشرح حديث عرض الأعمال] قرظه له شقيقه الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري الحسني، وذكر فيه بتفصيل كلمات من صححوه من أمثال الحافظ النووي، والحافظ ابن التين، والقرطبي، والقاضي عياض، وابن حجر العسقلاني، والحافظ زين الدين العراقي، وولده الحافظ ولي الدين العراقي أبو زرعة، والحافظ السيوطي، والحافظ الهيثمي كما في (مجمع الزوائد)، والمناوي في (فيض القدير)، والحافظ المحدث السيد أحمد الغماري، وعبد الله بن الصديق وغيرهم كثير.
قال آخر: بالإضافة إلى هذا، فقد أكد هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)(1)
قال آخر: بل إن المحدث الكتاني ذكر تواتر ذلك، فقد قال في [نظم المتناثر]: (قال السيوطي في مرقاة الصعود: تواترت بحياة الأنبياء في قبورهم الأخبار، وقال في [إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء] ما نصه: (حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا، لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت بها الأخبار الدالة على ذلك، وقد ألف الإمام البيهقي جزءا في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم)، وقال ابن القيم في كتاب الروح: (صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء خصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه: (ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا
__________
(1) مسلم 4/ 1791 ح (2288)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/181)
موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا نراهم)(1)
قال آخر: ويدل لهذا أيضا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدلا، فليكسرن الصليب ويقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فلا يقبله أحد، ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأجبته)، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وسلمه الذهبي (2).
قال آخر: ومع ذلك كله راح شيوخكم يجادلون فيه كعادتهم، فيذكرون أنه ضعيف بسبب غريب جدا، وهو أن هذا الحديث يعارض حديثا ثابتا في الصحيح، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا وإنه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117])(3)، فذكروا أنه لو كانت الأعمال تعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم لعرف ما صنعوا بعده، مع أنهم ينكرون على كل من استعمل عقله في التعامل مع الأحاديث .. بينما هم يجيزون لأنفسهم ما شاءت لهم من صنوف التأويلات البعيدة.
قال آخر: وقد أجاب العلماء الذين تقبلونهم على هذا الإشكال، فقد قال ابن حجر في [فتح الباري] في كيفية الجمع بين الحديثين ناقلا ذلك عن أربع من أكابر حفاظ الأمة وهم: النووي وابن التين والقرطبي والقاضي عياض وهو خامسهم حيث قال: (هؤلاء الذين يذادون عن الحوض هم المنافقون والذين ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء لا تعرض أعمالهم
__________
(1) نظم المتناثر 135 (حديث رقم 115)
(2) المستدرك (2/ 595)
(3) البخاري 6/ 69، مسلم 4/ 2195.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/182)
عليه في الدنيا لخروجهم من أمته حقيقة، وإن كانوا في الصورة يصلون ويتوضأون فيحشرون بالغرة والتحجيل، فإذا أبعدتهم الملائكة، وقال لهم سحقا سحقا أطفا الله تعالى غرتهم وتحجيلهم وأذهبه ساعتئذ)(1)
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا بالحديث الرابع.
قال أحد التلاميذ: هو ما ورد من الأحاديث التي تدل على توسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالموتى، وهي من الأحاديث العملية التي يستدل بها كل المسلمين على شرعية الأعمال، ما لم يرد دليل يخصصها، ولم يرد أي دليل من ذلك النوع.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث ما روي أنه: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس عند رأسها فقال: (رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة) .. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبرها، فاضطجع فيه ثم قال: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين)(2)
قال آخر: وهو حديث حسن، والشاهد فيه واضح على توسله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وبالأنبياء من قبله: (بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي)، وهي من صيغ التوسل، وواضح أن التوسل فيها بذواتهم، وليس بدعائهم، كما يذكر شيوخكم، فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بحق دعاء نبيك)، وإنما قال (بحق نبيك)
__________
(1) فتح الباري (11/ 385)
(2) الطبراني في المعجم الكبير (24/ 352) وفي الأوسط (1/ 152)، ومن طريقه أبونعيم في الحلية (3/ 121)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 268)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 257): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقة ابن حبان، والحاكم، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/183)
قال آخر: ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمع وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك)(1)
قال آخر: وإسناد هذا الحديث من شرط الحسن، وقد حسنه جمع من الحفاظ منهم الحافظ الدمياطي في (المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح)(2)، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ الحافظ المنذري (3)، وغيرهما (4) .. فهؤلاء الحفاظ كلهم صححوا أو حسنوا الحديث وقولهم حقيق بالقبول، والوقوف عنده، والإذعان إليه.
قال آخر: ففي هذا الحديث دلالة واضحة على جواز التوسل بهم بعد موتهم، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بحق السائلين) لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم عليه السلام إلى يوم السائل هذا، بل يستوعب الملائكة وغيرهم، ولا يمكن حصره بالسائلين هذا اليوم أو من الأحياء، إذ لا دليل على هذا يحمله الحديث، ولا مخصص له من خارجه أيضا.
قال آخر: ومن هذا الباب ما رواه الطبراني في معجمه الكبير قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)(5)، وقد قال الحافظ الهيثمي في سنده: (رواه الطبراني ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح)(6) .. والدلالة فيه على التوسل واضحة، لأن معنى الاستفتاح هو التوسل .. فإن كان التوسل بصعاليك المهاجرين شرعيا، فكيف بالتوسل
__________
(1) أحمد (11156)، وابن خزيمة في التوحيد (15)، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2118) و (2119)، والطبراني في الدعاء (421)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (85)، وأبو نعيم الأصبهاني كما في نتائج الأفكار 1/ 273، والحافظ في نتائج الأفكار 1/ 272.
(2) المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح)(ص 471)
(3) الترغيب والترهيب (3/ 273)
(4) ومنهم الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الحياء (1/ 291)، والحافظ بن حجر العسقلاني في أمالي الأذكار (1/ 272)، وقال الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 99): رواه ابن خزيمة في صحيحه، من طريق فضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده.
(5) الطبراني في معجمه الكبير (1/ 292)
(6) مجمع الزوائد (10/ 262)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/184)
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا بالحديث الخامس.
قال أحد التلاميذ: هو ما ورد من الأحاديث صريحا في الاستغاثة، وهو يهدم كل المباني التي ذكرها شيوخكم، والحديث رواه الطبراني وأبو يعلى في مسنده وابن السني في [عمل اليوم والليلة]، ورواه من بعدهم الكثير من المحدثين مقرين له، داعين إلى العمل به، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا علي، يا عباد الله احبسوا علي، فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم)(1) .. وفي رواية أخرى للحديث: (إذا ضل أحدكم شيئا، أو أراد أحدكم غوثا، وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عبادا لا نراهم)(2)
قال آخر: ورواه البزار عن ابن عباس بلفظ: (إن لله تعالى ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله أعينوني)(3)
قال آخر: وقد قال الحافظ تعليقا على الحديث: (هذا حديث حسن الإسناد غريب جدا، أخرجه البزار، وقال: لا نعلم يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد)(4)
قال آخر: وهذا الحديث ـ برواياته المختلفة ـ ينسف كل ما يدعيه شيوخكم من اعتبار الاستغاثة بغير الله شرك، وإلا اعتبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا في هذا الحديث إلى الشرك.
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير (17/ 117) وغيره.
(2) الطبراني في المعجم الكبير (10/ 217)، وأبو يعلى في مسنده (9/ 177)
(3) مسند البزار 11/ 181 ح (4922)
(4) كما في شرح ابن علان (5/ 151)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/185)
قال آخر: وقد أقر كبار المحدثين بالحديث، ودعوا إلى العمل به، ومنهم الإمام أحمد الذي يزعم ابن تيمية أنه ممثل السنة وناصرها، ففي المسائل، وشعب الإيمان للبيهقي: قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج منها اثنتين راكباً، وثلاثة ماشياً، أو ثنتين ماشياً وثلاثة راكباً، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشياً فجعلت أقول: (يا عباد الله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق، أو كما قال أبي)(1)
قال آخر: ومثله أبو القاسم الطبراني، فقد قال بعد أن روى الحديث في معجمه الكبير: (وقد جرب ذلك)(2).
قال آخر: ومثله النووي، فقد قال في الأذكار بعد أن ذكر الحديث: (حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث فقاله، فحسبها الله عليهم في الحال، وكنت أنا مرةً مع جماعة فانفلتت منا بهيمة وعجزوا عنها فقلته فوقفت في الحال)(3)
قال آخر: وقد حاول شيوخكم رده بكل ما أمكنهم من صنوف التأويل، ومن ذلك قول الألباني: (وهذا الوصف إنما ينطبق على الملائكة أو الجن؛ لأنهم الذين لا نراهم عادة، فلا يجوز أن يُلحَق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بيِّن؛ لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة، وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ
__________
(1) البيهقي في الشعب (2/ 455/2) وابن عساكر (3/ 72/1)
(2) معجمه الكبير (17/ 117)
(3) الأذكار (ص 133)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/186)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14])(1)
قال آخر: ولسنا ندري هل كان واعيا في استدلاله بالآية الكريمة أم لا؟ لأنها تنطبق على من يعتقد ندية المخلوق لله، وهو يصدق على الجن والملائكة وغيرهم .. وليس خاصا بالبشر أو الجن فقط.
قال آخر: ومقتضى كلامه أن من اعتقد إغاثة الملائكة له، لا يكون مشركا، بخلاف ما لو اعتقد إغاثة الصالحين له، لما آتاهم الله في عالمهم من القدرات على ذلك.
قال آخر: وقد كان في إمكان شيوخكم لو كانوا متواضعين أن يرحموا أولئك المساكين الذين يعتقدون بأن الله آتى أولياءه في العالم الغيبي من فضله ما يستطيعون به عون الأحياء، لأن العون إلهي، ولا يهم مصدره، هل هو من الملائكة أم من الجن أم من البشر؟
قال آخر: لكنهم لم يفعلوا مع أن ابن تيمية نفسه والفريق الذي ينتمي إليه يرى فضل صالحي البشر على الملائكة، وخاصة بعد موتهم (2) .. ولكنهم للأسف، ونتيجية غلبة المزاجية والهوى، يرمون بكل عقائدهم التي يتبنونها ويدافعون عنها في سبيل الحكم على المسلمين بالشرك الجلي في قضايا فرعية وردت بها الأدلة الصحيحة الصريحة التي لا يمكن دفعها.
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا بالحديث السادس.
قال أحد التلاميذ: هو ما ورد من الأحاديث التي تدل على استغاثة الصحابة
__________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (656)
(2)(مجموع الفتاوى)(11/ 350)، ولوامع الأنوار (2/ 368)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 338)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/187)
وغيرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حال حياته، وهي إذا ضممنا إليها الأحاديث السابقة الدالة على علاقته بأمته بعد موته، كان في ذلك دلالة على مشروعية الاستغاثة به مطلقا.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم من (أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع لنا الله تعالى يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا)(1)، أي أسبوعا كاملا.
قال آخر: وفي حديث آخر عن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك، أتدري ما تقول!؟ إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك)(2)، فقد أنكر عليه صلى الله عليه وآله وسلم قوله (نستشفع بالله عليك) ولم ينكر عليه قوله (نستشفع بك على الله)
قال آخر: وفي حديث آخر عن أنس بن مالك: جاء أعرابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح، ولا بعير ينط، وأنشد:
أتيتك والعذراء تدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع هونا ما يمر ولا يحلي
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه، ثم قال: (اللهم اسقنا .. )
__________
(1) البخاري 2/ 417، ومسلم رقم (897)
(2) سنن أبي داود 4/ 232.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/188)
وذكر الدعاء، ثم قال فما رد النبي يده حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (حوالينا ولا علينا)، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالأكليل، وضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: (لله در أبي طالب، لو كان حيا قرت عيناه، من ينشدنا قوله؟) فقال علي بن أبي طالب: (يا رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطوف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع دونه ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أجل)، فقام رجل من كنانة، فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر
إلى قوله:
فكان كما قال عمه ... أبو طالب أبيض ذو غرر
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت)(1)
قال آخر: وهكذا نجد الأحاديث الكثيرة التي يلجأ فيها الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغيثون به لتحقيق بعض مصالحهم الدنيوية، وهي كثيرة جدا، ومنها ما روي عن حبيب بن فديك أن أباه خرج به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فسأله: (ما أصابك؟) فقال: وقعت رجلي على بيضة حية فأصيب بصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه فأبصر، فرأيته وهو يدخل الخيط في الإبرة، وإنه لابن الثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان (2).
__________
(1) دلائل النبوة 6/ 140 ـ 142، شفاء السقام: 170 ـ 171.
(2) المعجم الكبير للطبراني: 4/ 30.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/189)
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا بالحديث السابع.
قال أحد التلاميذ: هو ما ورد من الأحاديث التي تدل على استغاثة البشر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المحشر، وبعد أن يعرف الناس جميعا حقائق التوحيد والشرك، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ .. فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا، لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصرى)(1)
قال آخر: فهذا الحديث يدل على مشروعية الاستغاثة من نواح كثيرة جدا منها أن
__________
(1) البخاري (4712)، ومسلم (194)، والترمذي (2434)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/190)
البشر عند اتصالهم بكل الأنبياء عليهم السلام، لا يطلبون منهم دعاء الله مباشرة، بل يرسلونهم إلى غيرهم من الأنبياء، على خلاف ما يدعيه شيوخكم من أن الكمال هو دعاء الله مباشرة.
قال آخر: ومنها أنه من الغرابة أن تعتبر الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، واللجوء إليه إيمانا وتسليما، في نفس الوقت الذي يعتبر فيه اللجوء إليه في الدنيا شركا وكفرا .. فهل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجود يوم القيامة، وليس له وجود الآن؟ .. أو أن مكانته عند الله، والتي تؤهله للشفاعة، مؤجلة إلى يوم القيامة، أما في هذه الدنيا، فلا مكانة له؟
قال آخر: والأخطر من ذلك كله هو كيفية استحالة القضية الواحدة إلى إيمان من جهة، وإلى شرك من جهة أخرى .. وهذا من أعجب العجب الذي يقع فيه شيوخكم، إذ أنهم يعتبرون لجوء الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومد أيديهم إليه في الآخرة إيمانا وتسليما، في نفس الوقت الذي يعتبرون مد أيديهم إليه في الدنيا شركا .. مع أنه لو كان ذلك شركا، لكان في الآخرة أكبر لأن الخلق في ذلك الموقف عاينوا أهوال القيامة، وانكشفت الحقائق أمامهم رأي العين.
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسألة الثانية المرتبطة بالتوسل والاستغاثة، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنه لم يبق لدينا اليوم إلا مسألة واحدة، وهي المسألة المرتبطة بالأضرحة والمشاهد وعلاقتها بالشرك الجلي.
قام أحد الشيوخ، وقال: بناء على المسألة الأولى والثانية، والتي رأينا عدم استجابتكم لما طرحناه بشأنهما، فسنطرح لكم المسألة الثالثة إقامة للحجة عليكم، وحتى يستفيد جمهور
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/191)
الحاضرين معنا بشأنها.
قال آخر: وهي ترتبط بتلك الأصنام المزروعة في كل مكان .. تلك التي يسمونها مشاهد وأضرحة، وهي في حقيقتها لا تختلف عن هبل واللات والعزى، وغيرها من الأصنام التي كان يقيمها أهل الجاهلية.
قال آخر: وبناء على هذا سنذكر لكم الأساليب التي مارسها علماؤنا في مواجهة الشرك الأكبر الذي دب إلى الأمة عبر تلك القبور والمشاهد .. وهي تبدأ بالإنكار والبيان، وتنتهي بالجهاد في سبيل الله، وهدم محال الشرك، وقتل المصرين عليه.
قال القاضي: فحدثونا شيوخنا الأفاضل عن الأسلوب الأول .. أسلوب الإنكار والبيان.
قال أحد الشيوخ: الأسلوب الأول هو الإنكار والبيان ورد الشبهات، وقد ألفوا في ذلك المؤلفات والرسائل الكثير، وأرسلوها لجميع الأقطار لإقامة الحجة عليهم، قبل القيام بمحاربتهم، وهدم أوثانهم.
قال آخر: ومن تلك المؤلفات: الرد على البكري في الاستغاثة لابن تيمية .. والرد على الإخنائي لابن تيمية .. وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم .. والصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي .. وكشف الشبهات لشيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب .. وتحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني .. والسيف الباتر لأعناق عباد المقابر للإرياني .. ورياض الجنة في الرد على أعداء السنة للمحدث مقبل الوادعي .. ومعارج الألباب في مناهج الحق والصواب للعلامة حسين بن مهدي النعمي .. وغيرها كثير.
قال آخر: ومن المنكرين الكبار على الشركيات القبورية، حفيد شيخنا ابن عبد
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/192)
الوهاب الشيخ عبد الله بن محمد، فقد اعتبر بناء القباب على القبور من علامات الكفر، فقال: (أما بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر، وشعائره؛ لأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح؛ لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف، وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً، لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدين فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب، وأمرهما بهدمها)(1)
قال آخر: ومنهم حفيده الآخر الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقد قال في كتابه [التوضيح عن توحيد الخلاق]: (وأما تعظيم القبور بمعنى احترامها، فإن كانت للمسلمين فواجب؛ لا يجوز تبول، ولا تغوط، ولا جلوس ووطوء عليها .. وأما تعظيمها بمعنى عبادتها فهو أكبر الكبائر عند الخاص والعام، وأصل فتنة عبّاد الأصنام كما قاله السلف من الصحابة، والتابعين والأئمة المجتهدين)(2)
قال آخر: وبعد أن ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، قال: (وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن يسجد للقبر أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم من تعظيم القبور، وإكرامها، ـوالتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها، وخطاب الموتى بالحوائج ياسيدي يامولاي أفعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها، والخرق التي عليها تبركاً، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها وشد الرحال إليها)(3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل، 1/ 246.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 208.
(3) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 214.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/193)
قال آخر: ومثل ذلك ذكر الشركيات التي كانت تقام عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منكرا لها، فقال: (وأما غير المشروع فهو قصده للدعاء واتخاذه عيداً بالاجتماع عنده، والسفر إليه، لما في (الصحيحين) وغيرها من المسانيد والسنن أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتخذ قبره مسجداً وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) بعد قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف على القاصدين لها من الفتنة بدعائها، أو الدعاء عندها)(1)
قال آخر: وذكر الكثير من الشركيات التي كانت تمارس في كل الأضرحة، فقال: (فإن عبّاد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه، وأنزلوه منزلة الربوبية، وصرفوا له خالص العبودية، حتى أنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادة، وأما القبور المعروفة أو المتوهمة فأفعالهم معها، وعدها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها، كشفوا الرؤوس، فنزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها، واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلّوا عندها ركعتين)(2)
قال آخر: وقد رد على كل ما استدل به المخالفون من أحاديث في مشروعية شد الرحال لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر القبور، حيث ذكر أنها كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل العلم، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل .. وأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيء لأهل الصحيح، ولا السنن، ولا الأئمة المصنفين في المسانيد كالإمام أحمد وغيره .. ومنها نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 246.
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 221.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/194)
عيداً .. وبعدها تساءل قائلا: (فكيف يقول: لا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ثم يقول: من حجّ ولم يزرني فقد جفاني، أو يقول من زار قبري وجبت له شفاعتي، ونحوها من المختلقات، وكيف يسأل ربه لا يجعل قبره وثناً يعبد ثم يأمر بشد الرحال إليه، وأنه للدعاء عنده يقصد؟)(1)
قال آخر: ومنهم شيخنا حمد بن ناصر بن معمر، فقد قال جوابا لمن سأله عن حكم البناء على القبور: (ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي: إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .. كما أخرج مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه)(2)
قال آخر: وبعد أن ذكر أحاديث أخرى، وأورد أقوال العلماء في ذلك، قال مخاطبا المخالفين: (ومن جمع بين سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب، والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البناء على القبور .. وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في المعلاة أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت الذي عليه، ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص)(3)
قال آخر: ومنهم شيخنا صالح بن محمد الشثري، فقد قال في كتابه [تأييد الملك المنان في
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 251.
(2) الهدية السنية، ص 83.
(3) الهدية السنية، ص 85.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/195)
نقض ضلالات دحلان]: (قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن شد الرحال إلى المشاهد، وإلى قبور الأنبياء، والصالحين، لأجل تعظيمهم ليس من عمل المصطفى، ولا من عمل الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، بل هو مبتدع محدث مردود على صاحبه بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(1)
قال آخر: ومنهم العلامة محمد بشير السهسواني الهندي، فقد قال في كتابه [صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان] ردا على قول دحلان: (والزيارة شاملة للسفر، لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نص عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]: (هب أن الزيارة مطلقة شاملة للسفر، ولكن قوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) مقيد لذلك الإطلاق، على أن لفظ الزيارة مجمل كالصلاة والزكاة والربا؛ فإن كل زيارة قبر ليست قربة بالإجماع للقطع بأن الزيارة الشركية والبدعية غير جائزة، فلما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبور وقع ذلك الفعل بياناً لمجمل الزيارة، ولا يثبت السفر من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن الخروج إلى مطلق المسجد أيضاً شامل للسفر وهو قربة .. فيكون السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة أيضاً قربة، والخصم أيضاً لا يقول به، وكذلك الصلاة والذكر شاملان لجميع الصلوات المبتدعة والأذكار المبتدعة، فلو سوغ الاستدلال بمثل تلك الإطلاقات، للزم جواز تلك الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة)(2)
قال آخر: ورد على قول دحلان: (وقد صح خروجه صلى الله عليه وآله وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع، وبأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غير قبره صلى الله عليه وآله وسلم فقبره الشريف أولى)
__________
(1) تأييد الملك المنان، ص 4.
(2) صيانة الإنسان، ص 76.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/196)
بقوله: (الثابت بالحديث المذكور إنما هو مشروعية الانتقال الذي هو دون السفر للزيارة، ولم ينكر أحد، والانتقال الذي تنكر مشروعيته هو السفر، وهو ليس بثابت)(1)
قال آخر: ومثل ذلك رد على ادعاء دحلان بأن وسيلة القربة المتوقف عليها قربة، والتي أراد من خلالها أن يجوّز شد الرحال لزيارة القبور، وذلك بأدلة كثيرة منها أن هذه القاعدة في أي كتاب من كتب الأصول والفقه؟ وما الدليل عليها من الكتاب والسنة؟ ولابد من نقل الإجماع عليها (2).
قال آخر (3): ومنها أن هذه القاعدة منقوضة بأن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه ركعتين قربة، لما روي عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ركعتين .. مع أن السفر إلى قباء ليس بقربة، فإنه سفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.
قال آخر (4): ومنها أنا لا نسلم أن مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قربة، بل القربة هي الزيارة التي لا يقع فيها شد رحل بدليل حديث (لا تشد الرحال)
قال آخر (5): ومنها أنه لو سلم كون مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قربة، فلا نسلم كونها متوقفة على السفر للزيارة، لجواز أن يسافر لزيارة المسجد النبوي، أو أمر آخر من التجارة وغيرها.
قال آخر: ومنها أنه لو سلمت هذه القاعدة فهي إنما هي وسيلة لم ينه الشرع عنها، والسفر للزيارة قد نهى الشارع عنه بدليل (لا تشد الرحال)(6)
قال آخر: ومنهم العلامة الشيخ ابن سحمان، فقد قال في الرد على المنكرين على
__________
(1) صيانة الإنسان، ص 77.
(2) صيانة الإنسان، ص 77.
(3) صيانة الإنسان، ص 77.
(4) صيانة الإنسان، ص 78.
(5) صيانة الإنسان، ص 79.
(6) صيانة الإنسان، ص 79.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/197)
شيخنا ابن عبد الوهاب: (لم يعهد في زمن من الأزمنة، إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم على جواز البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وإسراجها، وخدمتها وسدانتها والعكوف عندها، بل كل أهل العلم بالله وبدينه في كل زمان ومكان ينهون عن البناء عليها، وعن إسراجها، والعكوف عندها، وعن شد الرحال إليها للزيارة)(1) .. وقال: (وأما هدم القباب فنعم، فإن الشيخ فعل ذلك، وقد اتبع في ذلك أئمة الإسلام من سادات الحنابلة وغيرهم من العلماء، فبناء القبور إنما أحدثه الرافضة، فهم سلف الحداد وأشباهه من عبّاد القبور)(2)
قال آخر: ورد على بعض المخالفين المشركين قائلاً: (وأما ما ذكره من منع الوهابية لزيارة قبور الأئمة، فنعم منعوا زيارة المشاهد التي تعبد من دون الله، وشرعوا فيها من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولا كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا هدي أصحابه، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين)(3) .. وقال: (نعم امتثلت الوهابية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هدم القباب التي بنيت على أهل البقيع من أهل البيت وغيرهم؛ لأن ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنّة أصحابه، ومن بعدهم من الأئمة المهتدين، ولا يعيب على الوهابية بهدمهم القباب التي بنيت على ضرائح الأموات إلا من أعمى الله بصيرة قلبه)(4)
قال آخر: ومنهم العلامة أحمد الكتلاني؛ فقد اعتبر اتخاذ القبور مساجد من المحدثات الشركية، فقال: (لم يثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أصحابه بطريق صحيح ولا ضعيف، أنهم اتخذوا القباب والمشاهد، وأوقدوا فيها السرج، ولثموا ترابها، وركبوا عليها التوابيت، وكسوها بالورود والديباج إلى غير ذلك من أنواع البدع التي يفعلها الخارجون
__________
(1) الأسنة الحداد، ص 204.
(2) الأسنة الحداد، ص 205.
(3) الحجج الواضحة الإسلامية، ص 35.
(4) الحجج الواضحة الإسلامية، ص 44.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/198)
عن وفق الشريعة وهديه الذي كان عليه وأصحابه .. بل الثابت الصحيح أنه جاء بهدمها وإبطالها كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمرو بن عبسة بعثت بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحّد الله لا يشرك به شيئاً .. وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن كل عمل جار تحت أحكام الشريعة فما كان موافقاً لها فهو مقبول، وما كان خارجاً عن ذلك فهو مردود، وإن كان تقاضته الطباع، وتحالته النفوس)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ فوزان السابق، فقد ذكر بعض تلبيسات عبّاد القبور، فقال: (إنهم يتعلقون بالأسماء، ويغيرون الحقائق من نصوص الكتاب والسنّة ويحرفونها عن مواضعها، ويعارضونها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، محتجين بها على فتح أبواب شركهم وضلالهم، الذي أضلوا به كثيراً من جهلة هذه الأمة مقتفين في ذلك أثر من حذرهم نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن سلوك سبيلهم، وذلك فيما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث الصحيحة في لعن متخذي القبور مساجد، لأنه من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه، وهو أصل عبادة الأصنام، ولذلك قالت عائشة: (ولو لا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)(2)
قال آخر: ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فقد قال في رده على من سأله عن حكم شد الرحال إلى الأماكن المشرفة للأنبياء والأولياء: (فالجواب لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإذا كان تبركاً للمحل المزور فهو من الشرك؛ لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو الولي لتعود بركته بزعمهم، وهذه حال عبّاد الأصنام سواء كما فعله المشركون باللات، والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم لها، وإتيانهم إليها)(3)
__________
(1) الصيب الهطال، ص 16.
(2) البيان والإشهار، ص 321.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/ 41.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/199)
قال آخر: وهو يرجع كسائر علمائنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قرر هذه المسائل أحسن تقرير، فقال: (إن بعض العلماء قد قال يجوز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وهذا القول لصاحب (المغني)، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله (فزوروها) وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث من قوله (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث .. ويقول ابن تيمية: والصحيح ما ذهب إليه المتقدمون كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف من المتقدمين من أن هذا السفر منهي عنه لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وحجتهم ما في (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد) .. وهذا الحديث أتفق الأئمة على صحته والعمل به في الجملة؛ فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، كما نصَّ عليه، شيخ الإسلام)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن الذي رد بشدة على ما يردده عبّاد القبور من أن (الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب)، فقال: (وهذه العبارة، وهي قولهم الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب، قد تنازعها عبّاد القبور والمتبركون بها، فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة، ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعبّاد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/ 51.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/200)
المشاهد، وعطلت المساجد وبنيت القباب، وأرخيت الستور على التوابيت بمضاهاتها لبيت الله)(1)
قال آخر: وكل هذه المقولات التي قالها شيوخنا وأئمتنا استفادوها من إمامنا الأكبر شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي كان أول من طرح هذه المسائل، وضعف كل الأدلة التي يستدل بها المشركون.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره في مواضع كثيرة من كتبه حول رفضه لكل أحاديث الزيارة، ومنها فتواه لمن سأله عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي)، و (من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني)، وهل زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الاستحباب أو لا؟ فأجاب بقوله: (أمّا قوله: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي) فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وأمّا الحديث الآخر قوله: (مَن حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه مخالف للإجماع، فإنّ جفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر .. وأمّا زيارته فليست واجبة باتّفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنّة، وإنّما الأمر الموجود في الكتاب والسنّة بالصلاة عليه والتسليم. وأكثر ما اعتمده العلماء في الزيارة قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يسلّم عليّ، إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام)(2)
قال آخر: وقد وصل به الحرص على التوحيد أن أفتى بتلك الفتوى التي سجنه بسببها دعاة الشرك والضلالة، والتي يقول فيها: (إن إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقصد
__________
(1) البراهين الإسلامية، ص 39.
(2) مجموع الفتاوى: 27/ 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/201)
ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين، فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد وأن يتخذوا قبره عيدا أو وثنا .. وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولى من عند قبره. وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد سواء قصد ذلك أو لم يقصده والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع)(1)
قال آخر: وقال: (لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا وإن لم يسمى هذا زيارة، بل يكره لهم ذلك عند غير السفر!! كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين)(2)
قال آخر: وقال في [الرد على الأخنائي]: (ولهذا كان الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين إذا دخلوا المسجد .. لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره .. ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء وإن كان الزائر ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها)(3)
قال آخر: وقال في نفس الكتاب: (ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور
__________
(1) مجموع الفتاوى، (27/ 309)
(2) مجموع الفتاوى، 27/ 243.
(3) الرد على الأخنائي ص 385.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/202)
أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم .. ولكن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس كذلك فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن)(1)
قال آخر: ولم يكتف شيخ إسلامنا بهذا، بل راح يحرم السفر لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتبرها بدعة، ويحرم قصر الصلاة لمن فعل هذا، لأن الذي يريد أن يزور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يفعل معصية، ومن فتاواه في ذلك قوله: (وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع ولا مأمور به، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)(2)
قال آخر: ومنها قوله في [مجموع الفتاوى]: (السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة)(3)
قال آخر: ومنها قوله في تبديع تلك الشركيات التي كانت تقام أثناء زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الهم بالحج: (حتى أن أحدهم إذا أراد الحج لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه الله عليه وهو حج بيت الله الحرام، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين الله بل يقصد المدينة. ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة في مسجده .. بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر الله به ورسوله ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين. وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج وربما سوى بين القصدين وكل
__________
(1) الرد على الأخنائي، ص 386.
(2) الفتاوى الكبرى 5/ 146.
(3) الفتاوى الكبرى، 27/ 220.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/203)
هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور ـ قبر نبي أو غيره ـ منهي عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه بناء على أنه سفر معصية .. وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف بل موضوع)(1)
قال القاضي: وعينا هذا .. وشكرا لكم على هذا البيان الرائع .. فحدثونا ـ شيوخنا الأفاضل ـ عن الأسلوب الثاني.
قال أحد الشيوخ: الأسلوب الثاني، هو اتفاق جميع شيوخنا وأئمتناعلى تكفير عبدة المشاهد والأضرحة، والذين نطلق عليهم لقب [القبوريين]، والذين يمارسون الكثير من نواقض الإيمان في تلك المحال من الذبح والنذر بالإضافة للتوسل والاستغاثة وغيرها.
قال آخر: وقد حكم شيوخنا على كل تلك الأفعال بكونها ليست مجرد معاصي وانحرافات، وإنما هي من الشرك الأكبر الذي لا يختلف عن شرك أهل الجاهلية.
قال آخر: وقد ذكر شيخنا وإمام دعوتنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه وأحفاده وتلاميذه الكثير من الأدلة على ذلك، والتي يكفي الاطلاع عليها للإيمان بما فيها، لأنها تمثل الكتاب والسنة والسلف الصالح خير تمثيل.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها ما كتبه شيخنا ابن عبد الوهاب في جوابه على شبهة ابن سحيم حين ظن أن النذر لغير الله حرام، وليس شركا، فقد قال الشيخ مخاطباً له: (فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك فكيف تدعي المعرفة؟ .. يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]، فهذا يدل على أن الشرك حرام
__________
(1) المرجع السابق، (4/ 519)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/204)
ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] .. هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ .. يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في [الإقناع] أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره كيف لا يكون شركاً)(1)
قال آخر: وقد أورد الشيخ الإمام قاعدة مهمة أثناء جوابه على ذلك، حيث قال: (اعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ (التحريم) و (الكراهة) وقوله (لا ينبغي) ألفاظ عامة تستعمل في المكفّرات، والمحرّمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات قولهم لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]، وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم (يحرم كذا) لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم (يكره) كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]، وأما كلام الإمام أحمد في قوله: (أكره كذا) فهو عند أصحابه على التحريم)(2)
قال آخر: وبناء على هذا كفر أئمتنا كل من يعظم الأضرحة، ويعبدها من دون الله،
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 5/ 229.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ 66.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/205)
مهما كان حظه من العلم .. حتى أنه لم ينجو من تكفيرهم أهل مكة والمدينة أنفسهم، لأن الحق أحق أن يتبع، وقد قال بعض علمائنا في ذلك: (وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير استحلال لحرمتهما)(1)
قال آخر: وبهذا السبب كفروا الدولة العثمانية، وكل من توقف في تكفيرها، بل كل من أعانها ووقف معها، لا لأنها دولة مستبدة، وإنما لكونها دولة قبورية، وقد سئل شيخنا عبد الله بن عبد اللطيف، عمن لم يكفر الدولة [يقصد الدولة العثمانية في ذلك الحين]، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه؛ والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟)، فأجاب بقوله: (من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به؛ ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة، ومن لم ير الجهاد مع أئمة المسلمين، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، فهو لم يعرف العقائد الإسلامية، إذا استقام الجهاد مع ذوي الإسلام، فلا يبطله عدل عادل ولا جور جائر؛ والمتكلم في هذه المباحث، إما جاهل فيجب تعليمه، أو خبيث اعتقاد، فتجب منافرته ومباعدته)(2)
قال آخر: ومثله قال آخر: (فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين:
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 285)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 429)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/206)
الأول: قوله: لا إله إلا الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة .. الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدّل سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام (من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر .. الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: ظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارا منه، فقد كفر)(1)
قال آخر: وقد بلغ من قوة شيوخنا في الدين، وعدم سماحهم بأي مظهر من مظاهر الشرك أنهم لم يرحموا حتى أولئك الذين يحبونهم ويوالونهم من أهل الحجاز أواليمن أوالشام أو غيرها ما دام حبهم لم يخرج إلى الخارج، ولم يظهر في الواقع، وقد قال حفيد شيخنا ـ الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ـ في بعض رسائله: (اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 291)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/207)
في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً: أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا)(1)
قال آخر: بل لم يرحم شيوخنا الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم حتى أولئك الذين يقيمون معهم، ويعتقدون بمعتقداتهم، ولكنهم يجمعون معها اعتقادهم بإسلام غيرهم من المسلمين، ففي الدرر السنية: ( .. من يسافر إلى بلاد المشركين للتجارة، ويرجع إلى بلده في المسلمين، فهؤلاء قسمان أيضا: قسم ينزه دينه عن الصلاة وراء أئمتهم، ولا يأكل ذبحهم، ولا يركن إليهم بالمودة ولين الكلام، ويكفرهم، ولا يسلم عليهم، فهذا لا يعادى ولا يهجر، لأن بعض الصحابة سافر، ودخل بلاد الشرك للتجارة. والقسم الثاني: من يسافر إليهم، ويعتقد إسلامهم، وربما فضلهم على المسلمين، فهذا له حكم هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 51 ـ 52]. وهذا يوجد من كثير، يفضل أهل الشرك، ويجادل عنهم، فهذا تجب عداوته وهجره. وما أكثر هذا الضرب في الناس! فإنه يعاقب بالطبع على قلبه، حتى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، بل تراه كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (8/ 121)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/208)
الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]، ومن تدبر الكتاب والسنة، عرف ذلك، وأكثر الناس يتعصب لأهل الباطل، إما لأجل دنيا أو رياسة أو قرابة .. والفقيه الذي ينزل نصوص الكتاب والسنة على الواقع، فينفذ الحكم فيهم على وفق النص، ولا يقدم عادة الناس أو حظوظ نفسه، أو الخوف من أذاهم، فيداهن في دين الله فيهلك مع الهالكين)(1)
قال آخر: وبناء على هذا كله حكم علماؤنا وأئمتنا بكفر كل من يدعي الإسلام من أكثر البلاد الإسلامية؛ فكلها ممتلئة بقباب الشرك والضلالة، وقد قال شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن في بيان أحوال الأمة، وما أصابها من الشرك الذي ضرب بأطنابه وجذوره في كافة بلدان المسلمين، قبل ظهور دعوة شيخنا محمد بن عبد الوهَّاب: (كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة، ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة، والتعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين .. وعلماؤهم ورؤساؤهم، على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون، قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات،
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (8/ 424)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/209)
يحتجون بما رأوه من الآثار الموضوعات، والحكايات)(1)
قال آخر: وقد ذكر الشركيات التي وقع فيها أهل بلاد نجد، والتي جعلت شيوخنا يتعاملون معهم معاملة مشركي الجاهلية، فقال: (فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزور)(2)
قال آخر: ومثل ذلك ذكر الشركيات التي كانت تقع في غيرها من الجزيرة العربية، بسبب تلك الأضرحة والمشاهد، فقال: (ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين، في سرف، وكذلك عند قبر خديجة، يفعل عند قبرها، ما لا يسوغ السكوت عليه، من مسلم يرجو الله والدار الآخرة، فضلا عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة .. وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة، في بلد الله الحرام مكة المشرفة)(3)
قال آخر: وذكر أن في الطائف، (قبر ابن عباس، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها وقوف السائل عند القبر، متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية، والنذر، والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبنية .. وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث، وكشف الضر والبأس)(4)
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 378)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 379)
(3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 379)
(4) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 381)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/210)
قال آخر: وقد حكى عن بعضهم، وهو محمد بن الحسين النعيمي الزبيدي، أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف، من الشعب الشركية والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله، ثم علق عليه بقوله: (فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين، ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم)(1)
قال آخر: وهكذا ذكر الشرك الذي كان في المدينة المنورة، فقال: (كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل)(2)
قال آخر: وذكر الشرك الذي كان في جدة، فقال: (وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام .. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه؛ وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا، ولائذا به، مستغيثا، فتركه أرباب الأموال ولم
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 381)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 382)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/211)
يتجاسر أحد من الرؤساء، والحكام، على هتك ذاك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة، والشياطين)(1)
قال آخر: وذكر وقوع أهل مصر في الشرك الأكبر، فقال: (وأما بلاد مصر وصعيدها، وفيومها وأعماله، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة والنماردة)(2)
قال آخر: وذكر الشرك الذي كان في اليمن، فقال: (كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء، وبرع، والمخا، وغيرها من تلك البلاد ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان .. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم .. وفي حضرموت، والشحر، وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس! .. وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، كذلك رئيسهم، المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته، وتعظيمه، وتقديمه، وتصديره، والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 382)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 383)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/212)
والأصنام)(1)
قال آخر: وذكر الشرك الذي كان في الشام، فقال: (وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من تلك المشاهد والنصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا، من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأحوال الوثنية الشركية)(2)
قال آخر: وذكر الشرك الذي كان في العراق، فقال: (وكذلك الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد، وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، قد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية .. وكذلك مشهد العباس، ومشهد: علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنيتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد .. وبالجملة: فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق، واستكبارا .. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور)(3)
قال آخر: وهكذا ذكر وقوع الشرك في جميع البلاد الإسلامية بسبب تلك الأضرحة والمشاهد، فقال: (وكذلك جميع قرى الشط، والمجرة، على غاية من الجهل، وفي القطيف،
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 383)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 384)
(3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 385)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/213)
والبحرين، من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية)(1)
قال القاضي: وعينا هذا .. وشكرا لكم .. فحدثونا ـ شيوخنا الأفاضل ـ عن الأسلوب الثالث.
قال أحد الشيوخ: الأسلوب الثالث مرتبط بالجهاد العملي الذي قام به شيوخنا، ومن ساندهم من الأمراء لمقاومة الردة التي حصلت للمسلمين، وفي جميع بقاع الأرض.
قال آخر: ذلك أن شيوخنا المجاهدين لم يكتفوا بالتكفير النظري، فهو وحده لا يكفي، بل هو يحتاج إلى الردع، وليس هناك رادع مثل القتل والهدم .. ولذلك قاتلوا كل عبدة القبور، وهدموا كل ما وصلوا إليه منها، ومن غيرها من الآثار.
قال آخر: وقد ذكر مؤرخنا الكبير الشيخ حسين بن غنام بعض جهاد شيوخنا وأئمتنا في ذلك، فقال في جوابه على رسالة ابن سحيم، مع رده على ما زاد ابن سحيم من الكذب والبهتان، وذلك في كتابه العظيم [روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام]: (فهذا الكلام ذكر فيه ما هو حق وصدق، وذكر فيه ما هو كذب وزور وبهتان، فالذي جرى من الشيخ رحمه الله وأتباعه أنه هدم البناء الذي على القبور، والمسجد المجعول في المقبرة على القبر الذي يزعمون أنه قبر زيد بن الخطابن وذلك كذب ظاهر، فإن قبر زيد ومن معه من الشهداء لا يعرف أين موضعه بل المعروف أن الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتلوا في أيام مسيلمة في هذا الوادي، ولا يعرف أين موضع قبورهم من قبور غيرهم، ولا يعرف قبر زيد من قبر غيره، وإنما كذب ذلك بعض
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 386)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/214)
الشياطين وقال للناس: هذا قبر زيد، فافتتنوا به، وصاروا يأتون إليه من جميع البلاد بالزيارة، ويجتمع عنده جمع كثير ويسألونه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فلأجل ذلك هدم الشيخ ذلك البناء الذي على قبره، وذلك المسجد المبني على المقبرة اتباعاً لما أمر الله به رسوله من تسوية القبور، والنهي الغليظ الشديد في بناء المساجد عليها، كما يعرف ذلك من له أدنى ملكة من المعرفة والعلم)(1)
قال آخر: وذكر ما فعله شيخنا الإمام محمد بن عبد الوهاب مع عثمان بن معمر أمير العيينة ـ في باديء دعوته ـ من هدم القباب وأبنية القبور، فقال: (فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنّة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة: ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود، وأحمد بن سويلم، وجماعة سواهم)(2)
قال آخر: ومثله ذكر مؤرخنا الكبير ابن بشر بعض الأعمال التي قام بها إمامنا الإمام سعود بن عبد العزيز في هذا المقام، فذكر في حوادث سنة 1216 هـ توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، حيث هدم القبة الموضوعة على قبر الحسين (3).
قال آخر: وذكر في حوادث سنة 1217 هـ دخول سعود مكة، حيث (طاف وسعى، وفرق جيوشه يهدمون القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها .. فأقام فيها أكثر من عشرين
__________
(1) روضة الأفكار، 1/ 123.
(2) روضة الأفكار، 1/ 78.
(3) عنوان المجد في تاريخ نجد، 1/ 257.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/215)
يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق في مكة شيء من تلك المشاهد، والقباب إلا أعدموها وجعلوها تراباً)(1)
قال آخر: وذكر شيخنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلته جيوش الموحدين أثناء دخولهم مكة المكرمة سنة (1218 هـ)، فقال: (فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك)(2) .. ثم علل ذلك بقوله: (وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء حسماً لذرائع الشرك، وتنفيراً من الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه فإنه لا يغفر)(3)
قال آخر: وقد ذكر الشيخ محمد بن عثمان الشاوي بعض ما رآه عند هدم الأضرحة الشركية في مكة المكرمة سنة 1343 هـ، فقال: (وبعد أن فرغنا من أعمال العمرة، وبادرنا إلى هدم القباب، وجدنا في القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ما لا تستطاع حكايته، من ذلك أنا وجدنا رقاعاً مكتوباً فيها: يا خديجة يا أم المؤمنين جئناك زائرين، وعلى بابك واقفين، فلا تردينا خائبين فاشفعي لنا إلى محمد يشفع لنا إلى جبرائيل، ويشفع لنا جبرائيل إلى الله ووجدنا عندها كبشاً قد جاء به صاحبه ليقربه إليها .. وعند القبة من الشمع والسرج والآلات ما لا يحصى، وعندها من أنواع الطيب، ما لم نجد مثله عند البيت الحرام والحجر الأسود، وأمثال هذا كثير معلوم، فلهذا استعنا بالله تعالى على إزالة تلك القباب .. وأما ما هناك من القباب والأبنية على القبور والكتابة وأنواع الزخرفة فذلك شيء لا يعده
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد، 1/ 263.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 37.
(3) عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 43.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/216)
عاد، لكن الذي نعتقد أن مجرد البناء على القبر من غير صرف شيء من أنواع العبادة لها ذلك بدعة محرمة؛ لأنها من أكبر الوسائل إلى تعظيم أرباب القبور وعبادتهم من دون الله)(1)
قال آخر: وقد أرخ شيخنا عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف كل ذلك في قصيدة يرد بها على من سمى نفسه بـ (فتى البطحاء)، حين استنكر ذلك الفتى، ما فعلته جيوش الموحدين أثناء دخولها مكة من هدم القباب، والأبنية على القبور، ومنها قوله (2):
وقولنا أننا قد هدمنا مشاهداً ... لخير نبي أو لأفضل صاحب
نعم إننا والحمد لله وحده ... نهدم قباب الشرك من كل جانب
ونكسر أوثاناً ونهدم ما بني ... على أثر أو بقعة للأطايب
بعد أن انتهى الشيوخ من الحديث في المسألة الثالثة المرتبطة بالأضرحة والمشاهد، التفت القاضي إلى المتهمين، وقال: ها قد سمعتم ما قاله شيوخنا الأفاضل، واستدلالاتهم الكثيرة الواضحة بكلام العلماء المحققين .. فهل ما تزالون في غيكم وضلالكم؟
قام أحد المتهمين، وقال: نرجو أن تسمع منا سيدي القاضي، ثم بعدها لك الحق في أن تنعت ما نؤمن به بالغي والضلال، أو بالهدى والرشاد .. فلا يصح للقاضي أن يحكم قبل سماع الطرفين.
قال القاضي: لا بأس .. فلولا أن دولتنا العادلة أمرتنا بذلك .. لكان لي معكم تصرف آخر .. هيا هاتوا ردودكم.
قال أحد التلاميذ: بناء على ما أورده شيوخنا الأفاضل من شبهات؛ فإنا نرد عليهم كما سبق من خلال ثلاث مصادر.
__________
(1) القول الأسد، ص 3.
(2) القول الأسد، ص 20.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/217)
قال القاضي: لا بأس .. فما المصدر الأول منها؟
قال أحد التلاميذ: المصدر الأول مرتبط كالعادة بما يبرئ به المقلدون في العادة ذممهم، وهو الاستناد للعلماء، فكما أن شيوخنا الأفاضل يستندون فيما ذهبوا إليه إلى من يرونهم علماء ربانيين؛ فلِم يمنعون غيرهم من العوام أن يستندوا لمن يرونهم من العلماء والصالحين .. وبذلك يعتبرون المسألة خلافية .. وحينها لا يجوز لهم الإنكار عليها، فلا إنكار إلا في المتفق عليه.
قال آخر: وإن اعتبرنا الأمر بأعداد العلماء؛ فأعداد علمائنا الذين أجازوا لنا تلك التصرفات التي يعتبرونها شركا أكبر بكثير من عدد علمائهم .. وهم منتشرون في كل بقاع الأرض، وعلى مدار التاريخ، بخلاف علمائهم المحدودين، وفي منطقة محدودة من الأرض.
قال آخر: ولهذا نرى علماءنا الذين نعتمدهم يجعلون الخلاف وحده دليلا على كون المسألة من الفروع المختلف فيها، لا الأصول المتعلقة بجوهر الدين، والتي ينبني عليها الإيمان والكفر.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما أورده العلامة الحافظ المغربي أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري الحسني في رسالته التي خصصها لهذا، وعنوانها [إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور]، والذي أورد فيها كغيره من فقهاء ومحدثي الصوفية الخلاف الفقهي في هذه المسألة بشقيه المجيز وغير المجيز، ليذكروا للمخالف أن الأمر متسع للجميع، وأن الأمة لم تختلف في هذه المسألة إلا لكون النصوص الواردة فيها غير قطعية، أو معارضة بغيرها.
قال آخر: وليقول لهم كذلك: لا حرج عليكم أن لا تبنوا أو أن لا تزوروا، ولكن
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/218)
كل الحرج عليكم أن تنكروا على من خالفكم لأن من أصول النهي عن المنكر أن يكون من المتفق عليه لا المختلف فيه.
قال القاضي: هيا .. اذكروا لنا ما قاله علماؤكم، ودعونا من هذا الحشو الذي لا حاجة إليه.
قال أحد التلاميذ: سنذكر لكم سيدي القاضي نماذج من العلماء الذين يذكرون هذا، وهم يمثلون جميع مذاهب المسلمين التي تعتبرونها .. وكلهم لهم جمهورهم الكثير، كما أن لهم مؤلفاتهم ومدارسهم التي تدل على سعة علمهم.
قال القاضي: فاذكروا لنا ما قال علماء الحنفية في ذلك .. وإياكم والكذب عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام الحنفية الذين ذكروا هذا أولئك الذين تصدوا لدعوة ابن تيمية في تبديع زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبروه مبتدعا بذلك، ومنهم الشيخ محمد بن محمد العلاء البخاري الحنفي الذي ورد في ترجمته أنه (كان يُسأل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها فيجيب بما ظهر له من الخطأ، وينفر عنه قلبه إلى أن استحكم ذلك عليه فصرّح بتبديعه ثم تكفيره، ثم صار يُصرح في مجلسه أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الإطلاق كافر واشتهر ذلك)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ أبو الحسنات محمد عبدالحي اللكنوي الحنفي الذي قال في كتابه [إبراز الغي الواقع]: (أقول: مسألة زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم كلام ابن تيمية فيها من أفاحش الكلام، فإنه يحرم السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويجعله معصية ويحرم نفس زيارة القبر النبوي أيضاً، ويجعلها غير مقدورة وغير مشروعة وممتنعة، ويحكم على الأحاديث الواردة
__________
(1) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، ج 2، ص 137.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/219)
في الترغيب إليها كلها موضوعة من حسن بعضها، أو لعلمي أن علم ابن تيمية أكثر من عقله، ونظره أكبر من فهمه، وقد شدّدّ عليه بسبب كلامه في هذه المسألة علماء عصره بالنكير، وأوجبوا عليه التعزير .. )(1)
قال آخر: ومنهم مفتي الديار المصرية وشيخ حنفية عصره الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي، الذي قال في كتابه [تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد]: (ولما أن تظاهر قوم في هذا العصر بتقليد ابن تيمية في عقائده الكاسدة وتعضيد أقواله الفاسدة وبثها بين العامة والخاصة، واستعانوا على ذلك بطبع كتابه المسمى بالواسطية ونشره، وقد اشتمل هذا الكتاب على كثير مما ابتدعه ابن تيمية مخالفاً في ذلك الكتاب والسنة وجماعة المسلمين فأيقظوا فتنة كانت نائمة)(2)
قال آخر: أما مواقفهم العملية المؤيدة لهذا، فكثيرة، ومنها ما كتبه العلامة كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام في كتابه الذي يعتبر من المراجع الكبرى في الفقه الحنفي، وهو [فتح القدير للعاجز الفقير]، وهو شرح على كتاب [الهداية في شرح البداية]، فقد ورد في هذا المرجع الذي لا يزال يدرس إلى الآن في المدارس الحنفية عند حديثه عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قال مشايخنا رحمهم الله تعالى: من أفضل المندوبات، وفي مناسك الفارسي وشرح المختار: أنها قريبة من الوجوب لمن له سعة، هذا والحج إن كان فرضا فالأحسن أن يبدأ به ثم يثني بالزيارة، وإن كان تطوعا كان بالخيار، فإذا نوى زيارة القبر فلينو معه زيارة المسجد .. والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم إذا حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله سبحانه في مرة وأخرى ينويهما فيها لأن في
__________
(1) سعادة الدارين في الرد على الفرقتين، إبراهيم بن عثمان السمنودي، ج 1 ص 173.
(2) تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد، محمد بخيت المطيعي، ص 13.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/220)
ذلك زيادة تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم وإجلاله ويوافق ظاهر ما ذكرناه من قوله عليه الصلاة السلام: لا تعمله حاجة إلا زيارتي)(1)
قال آخر: وهكذا ورد في حاشية الطحطاوي على [مراقي الفلاح]، والذي هو شرح لمتن [نور الإيضاح]، وهو من المتون المعتمدة في المذهب الحنفي، الذي وضعه الشيخ حسن الشرنبلالي، والذي لقي قبولا كبيرا بين فقهاء الحنفية، لأنه يذكر في الغالب ظاهر الرواية عند الحنفية، وقد شرحه في [مراقي الفلاح]، وقام أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي الحنفي بوضع حاشية عليه، وقد قال فيها: (زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: إن كان الحج فرضا قدمه عليه، وإلا تخير والأولى في الزيارة تجريد النية لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم وقيل: ينوي زيارة المسجد أيضا نهر، لأنه من المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال)(2)
قال آخر: وهكذا ورد في [حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار]، أو ما يطلق عليه اختصارا [حاشية ابن عابدين] لصاحبها محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي، وهي من أهم مراجع الفقه الحنفي، وقد قال عند ذكر زيارة شهداء أحد: (استفيد منه ندب الزيارة وإن بعد محلها، وهل تندب الرحلة لها كما اعتيد من الرحلة إلى زيارة خليل الرحمن وأهله وأولاده وزيارة السيد البدوي وغيره من الأكابر الكرام لم أر من صرح به من أئمتنا، ومنع منه بعض أئمة الشافعية إلا لزيارته قياسا على منع الرحلة لغير المساجد الثلاث ورده الغزالي)(3)
قال القاضي: يكفي ما ذكرتم .. فحدثونا عما قاله علماء المالكية .. وإياكم والكذب
__________
(1) فتح القدير، 3/ 179.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، (ص 745)
(3) رد المحتار على الدر المختار، 2/ 242.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/221)
عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام المالكية الذين ذكروا هذا أولئك الذين كانوا معاصرين لتلك الفترة التي حكم فيها شيوخ شيوخنا الأفاضل على جميع المسلمين بكونهم مشركين ومرتدين بسبب الأضرحة والمقامات والمشاهد، وأنكروا عليهم بشدة مواقفهم، وفيهم من ألف الكتب والرسائل في الرد عليهم.
قال آخر: ومنهم الشيخ عمر المحجوب مفتي الديار التونسية، الذي كتب رسالة طويلة مخاطباً إمامكم عبد العزيز الأول، يجيب فيها على طلبه بمبايعته ونصرته على مواجهة الشرك: (أما بعد هذه الفاتحة التي طلعت في سماء المفاتحة، فإنك راسلتنا تزعمُ أنك القائم بنصرة الدين، وأنك تدعو على بصيرة لما دعا إليه سيد الأولين والآخرين، وتحثُّ على الاقتفاء والإتباع، وتنهى عن الفرقة والابتداع، وأشرت في كتابك إلى النهي عن الفرقة واختلاف العباد، فأصبحت كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204 ـ 205])(1)
قال آخر: ثم ذكر ما ورد في الرسالة منكرا لها، فقال: (وقد زعمت أن الناس قد ابتدعوا في الإسلام أمورًا، وأشركوا بالله من الأموات جمهورًا في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات، ونذر النذور إليهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأن ذلك كله إشراك برب الأرضين والسموات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/222)
بما استحللت، وشنّعت وهوّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1)
قال آخر: ثم راح يذكر جرائمهم، ويرد عليها بما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة والسلف الذين يدعون اتباعهم لهم، فقال: (أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حُطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] .. وحيث كنت لكتاب الله معتمدًا، ولعماد سنته مستندًا، فكيف بعد هذا – ويحك ـ تستحلُّ دماء أقوام بهذه الكلمة ناطقون، وبرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدقون، ولدعائم الإسلام يُقيمون، ولحوزة الإسلام يحمون، ولعبدة الأصنام يقاتلون، وعلى التوحيد يناضلون، وكيف قذفتم أنفسكم في مهواة الإلحاد، ووقعتم في شق العصا والسعي في الأرض بالفساد؟)(2)
قال آخر: ثم رد على تأويلات شيوخكم المرتبطة بالأضرحة والمقامات، فقال: (وأما ما تأوَّلته من تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينهم وبين رب العالمين، وزعمت أن ذلك شنشنةُ الجاهلية الماضين، فنقول لكم في جوابه: معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، وأن يأتي إليها معظمًا تعظيم العابد، وأن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بسجود أو ركوع أو صيام، ولو وقع ذلك من جاهل لانتهض إليه
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 3.
(2) رسالة في الرد على الوهابية، ص 4.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/223)
ولاة الأمر والعظماء، وأنكره العارفون والعلماء، وأوضحوا للجاهل المنهج القويم، وهدوه الصراط المستقيم)(1)
قال آخر: ثم رد على ما يعتبره شيوخكم من التوسل والاستغاثة في تلك المشاهد شركا بقوله: (وأما ما جنحت إليه وعوَّلت في التفكير عليه، من التوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدى، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسموات، إلى آخر ما ذكرتم، موقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع، ووارد في السنة القويمة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكلّ اليراع إذا كُلف بإحصائها، ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين، في خلافة عمر بن الخطاب، واستسقاؤهم عام الرمادة بالعباس، واستدفاعهم به الجدب والباس .. فنشأت سحابة ثم تراكمت، وماسَتْ فيها ريح ثم هزّت، ودرَّت بغيثٍ واكفٍ، وعاد الناس يتمسحون بردائه ويقولون له: هنيئًا لك ساقيَ الحرمين)(2)
قال آخر: ثم راح يسأل إمامكم قائلا: (فأخبرني .. هل تكفّر بهذا التوسل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وتكفر معه سائر من حضر من الصحابة والتابعين، لكونهم جعلوا بينهم وبين الله واسطة من الناس، وتشفّعوا إليه بالعباس، وهل أشركوا بهذا الصنيع مع الله غيره .. وإذا قدحت في هذا الجمع من الصحابة .. فمن أين وصل لك هذا الدين، ومن رواه لك مبلغًا عن سيد المرسلين؟ ثم ما تصنع يا هذا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أويس، وأنه أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أعلام النبوءة، وأمر عمر
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 5.
(2) رسالة في الرد على الوهابية، ص 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/224)
بطلب الاستغفار منه، وأنه طلب منه ذلك واستغفر له، وقد قال الله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97])(1)
قال آخر: ثم بين مشروعية ما يحصل في الأضرحة من أعمال مشروعة، فقال: (فالزائر للأولياء والصالحين إما أن يدعو الله لحاجته، ويتوسل بسرّ ذلك الولي في إنجاح بُغيته، كفعل عمر في الاستسقاء، أو يستمدَّ من المزور الشفاعة له وإمداده بالدعاء كما في حديث أويس القرني، إذ الأولياء والعلماء كالشهداء أحياء في قبورهم، إنما انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء .. فأيُّ حرج بعد هذا يا أيها القائم للدين، في زيارة الأولياء والصالحين؟ وأي منكر تقوم بتغييره، وتقتحم شقّ العصا وإضرام سعيره؟ ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعًا كثيرة من الشفاعة، ولا يثبتونها إلا لأهل الطاعة، كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء، وعدم نفع الدعاء، وكلها عقائد عن السنة زائغة، وعن الطريق المستقيم رائغة)(2)
قال آخر: ثم ذكر ما حصل من جرائم في حق المشاهد والأضرحة في الحجاز ونحوها، فقال: (وأما ما جنحت إليه من هدم ما بُنيَ على مشاهد الأولياء من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهياء والعظيمة العظمى من الظلم التي أضلك الله فيها على علم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] .. وكأنك سمعت في بعض المحاضر بعض الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر، فتلقَّفْته مجملاً من غير بيان، وأخذته جُزافًا من غير مكيال ولا ميزان، وجعلت ذلك وليجةً إلى ما تقلدته من العسف والطغيان، في هدم ما على قبور
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 7.
(2) رسالة في الرد على الوهابية، ص 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/225)
الأولياء والعلماء من البنيان .. ولو فاوضت الأئمة، واستهديت هداة الأمة، الذين خاضوا من الشريعة لُججها، واقتحموا ثَبَجها، وعالجوا غِمارها، وركبوا تيارها، لأخبروك أن محلّ ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء في مقابر المسلمين المعدّة لدفن عامّتهم لا على التعيين، لِما فيه من التحجير على بقية المستحقين، ونبش عظام المسلمين .. وأما ما يبنيه المسلمون في أملاكهم المملوكة لهم، ليصلوا بمن يُدفن هناك حبلهم، فلا حرج يلحقهم، ولا حرمة ترهقهم؛ فكما لا تحجير عليهم في بناء أملاكهم دُورًا أو حوانيت أو مساجد، كذلك لا حرج عليهم في جعلها قبابًا أو مقامات أو مشاهد)(1)
قال آخر: ثم دعاه إلى مراعاة الخلاف في المسألة، وأنه لا يصح أن يغلب رأيه أو رأي شيوخه على ما ذكره سائر علماء المسلمين، فقال: (ثم ليتك إذ تلقفت ذلك منهم، ووعيته عنهم، أن تعيد عليهم السؤال، وتشرح لهم نازلة الحال، وهل يجوز بعد النزول والوقوع، هدم ما بُني على الوجه الممنوع، وهل هذا التخريب محظور أو مشروع؛ فإذا أجابوك أنه من معارك الأنظار، ومحل اختلاف العلماء والنُّظار، وأن منهم من يقول بإبقائه على حاله، رعيا للحائز في إتلاف ماله، وأن له شبهة في الجملة تحميه، وفي ذلك البناء منفعة للزائر تقيه، ومنهم من شدد النكير، وأبى إلا الهدم والتغيير؛ فإذا تحقق عندك هذا، فكيف تقدم هذا الإقدام وتخوض مزالق الأقدام، وتطلق العنان في هدم كل مقام، من غير مراعاة في الدين ولا ذمام؛ فإذا انفتحت لك هذه الأبواب، نظرت بنظر آخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرُك تغييره، ليس متفقًا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وقد سقط عنك القيام فيه والانتقاد .. ثم بعد الوصول إلى هذا المقام، أعد نظرًا في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام، واستباحة المسجد الحرام، وإخافة أهل الحرمين الشريفين،
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/226)
والاستهوان لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فسيتضح لك أنك غيَّرت المنكر في زعمك، وبحسب اعتقادك وفهمك، وأتيت بجمل كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من الكبائر، آذيت بها نفسك والمسلمين، وابتغيت بها غير سبيل المؤمنين، وتعرضت بها لإذاية الأولياء والصالحين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل قال من عادى لي وليًّا فقد آذنني بحرب)، فكفى بالتعرض لحرب الله خطرًا، وقذفًا في العطب وضررًا)(1)
قال آخر: ثم ذكر له أحكام الشريعة المرتبطة بالقبور، وأنها تخالف ما يعتقدونه بشأنها، فقال: (وأما إنكار زيارة القبور، فأي حرج فيها أو محظور، وأي ذميمة تطرقها أو تعروها، مع ثبوت حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، فإن هذا الحديث ناسخ لما ورد من النهي عن زيارتها، وماحٍ لما في أول الإسلام من حماية الأمة من أسباب ضلالتها، لقرب عهدها بجاهليتها، وعبادة أصنامها وآلهتها .. وكيف تمنع من زيارتها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شرعها، وسامَ رياضها وأربعها، فقد ثبت في حديث عائشة أم المؤمنين أنه صلى الله عليه وآله وسلم زار بقيع الغرقد واستغفر فيه لموتى المسلمين، وثبت أيضًا أنه زار قبر أمه آمنة بنت وهب واستغفر لها، وأخذ بذلك الصحابة والتابعون، ودرج عليه العلماء والسلف الماضون، فقد ثبت في الأحاديث المروية عن أئمة الهدى ونجوم الاقتداء، أن فاطمة سيدة نساء العالمين زارت عمها سيد الشهداء، وذهبت من المدينة إلى جبل أحد، ولم ينكر من الصحابة أحد، وهم إذ ذاك بالمدينة متآمرون، وعلى إقامة الدين متناصرون .. أفنجعل هؤلاء أيضًا مبتدعين، وأنهم سكتوا عن الابتداع في الدين؟ كلا والله، بل يجب علينا إتباعهم، ومن أدلة الشريعة إجماعهم)(2)
قال آخر: ثم ذكر مواقف جميع العلماء، وفي جميع العصور من ذلك، فقال: (وقد
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 9.
(2) رسالة في الرد على الوهابية، ص 10.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/227)
مضت على ذلك العلماء في جميع الأقطار، وانتدبوا بأنفسهم للاستمداد من قبور الصلحاء وقضاء الأوطار، ودونوا ذلك في كتبهم ومؤلفاتهم، وسطروه في دواوينهم وتعليقاتهم، وقسموا الزيارة إلى أقسام، وأوضحوا ما تلخص لديهم بالأدلة الشرعية من الأحكام، وذلك أن الزيارة إن كانت للاتعاظ والاعتبار، فلا فرق في جوازها بين قبور المسلمين والكفار، وإن كانت للترحم والاستغفار من الزائر، فلا منع فيها إلا في حق الكافر، فإن الشريعة أخبرت بعدم غفران كفره وعليه حملوا قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، وإن كانت الزيارة لاستمداد الزائر من المزور، وتوخي المكان الذي فضله مشهور، والدعاء عند قبره لأمر من الأمور، فلا حرج فيها ولا محظور، بل هو مندوب إليه، ومرغّب فيه، وإنه مما تشد المطي إليه، ومن خالف في هذا الحكم سبيل جمهورهم، واتبع من الشبهات مخالف منشورهم، فقد شدد العلماء في النكير عليه، وسددوا سهام النقد إليه، وأشرعوا نحوه رماح التضليل، وأرهفوا له سيوف التجهيل، واتفقت كلمتهم على بدعته في الاعتقاد، وثنوا إليه عنان الانتقاد، ومن يُضلل الله فما له من هاد)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ العلامة أحمد بن الصديق الغماري الذي كتب رسالة في ذلك بعنوان [إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور]، وقد قال في مقدمتها: (أما بعد فإنك سألت عن حكم البناء على القبور هل هو جائز كما جرى عليه عمل السلف والخلف شرقاً وغرباً أو هو ممنوع كما يذهب إليه القرنيون، ومن يستصوب رأيهم ويستحسن مذهبهم من أهل هذه البلاد ممن خفي عليه أمرهم وراج عليه تمويههم فقام يدعو إلى هدم ما بني من القباب على قبور الأولياء والصالحين متمسكاً في ذلك بأحاديث أرسلها)(2)
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 11.
(2) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/228)
قال آخر: ومن الرسائل المهمة التي ألفها متأخرو المالكية في ذلك رسالة بعنوان [إعلام الراكع الساجد بمعنى اتخاذ القبور مساجد]، وهي للعلامة المحدث الحافظ أبي الفضل عبد الله بن محمد الصديق الغماري، وقد رد فيه ردا مفصلا على أكبر ما يستند إليه شيوخكم في قولهم بعدم مشروعية المزارات الدينية، وهو حديث (لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
قال آخر: ومنهم الذين ردوا على شيوخكم عمليا، بذكر الزيارة واستحبابها ومشروعيتها، ومن أعلام المالكية الذين فعلوا ذلك الإمام مالك صاحب المذهب نفسه، فقد روي أن المنصور العباسي سأل الإمام مالك: (أستقبل القبلة وأدعوا، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟، فقال مالك: (ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64])(1)
قال آخر: وقد نص كبار أعلام المالكية على أن القصة صحيحة (2)، وأن الإمام مالك يرى الخير في استقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء والاستشفاع به، كما أن القصة تشير إلى حديث توسل سيدنا آدم عليه السلام.
قال آخر: هذا موقف إمام المذهب، أما مواقف غيره من أتباع مذهبه، فكثيرة جدا، ومنها ما ورد في أشهر وأكبر مصدر للفقه المالكي، وهو كتاب [مواهب الجليل في شرح مختصر خليل] لصاحبه الحطاب الرُّعيني المالكي، وهو شرح لأشهر متون المذهب المالكي وأوسعها [مختصر العلامة خليل] لمؤلفه خليل بن إسحاق، فقد ورد فيه: (في المتيطية: وقولنا إن عليه الحج بعد
__________
(1) شفاء السقام، السبكي: 69 ـ 70.
(2) أخرج هذه القصة رواها أبو الحسن على بن فهر في كتابه فضائل مالك رواها القاضي عياض في الشفا (2:41) بسنده الصحيح عن شيوخ عده من ثقات مشايخه.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/229)
العمرة والقصد إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأفضل فإن ترك مع ذلك العمرة أو القصد حط له من الأجرة بقدر ما يرى انتهى)(1)
قال آخر: وفيه: (قال العبدي من المالكية في شرح الرسالة: وأما النذر للمشي إلى المسجد الحرام والمشي إلى مكة؛ فله أصل في الشرع وهو الحج والعمرة وإلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبره أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس، وليس عنده حج ولا عمرة؛ فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه؛ فالكعبة متفق عليها، ويختلف أصحابنا في المسجدين الآخرين)(2)
قال آخر: وهكذا ورد في [منسك الإمام خليل بن إسحاق المالكي] صاحب المختصر، وهو من أهم المناسك عند المالكية، فقد قال فيه: (فإذا خرج الإنسان من مكة فلتكن نيته وعزيمته وكليته في زيارته صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة مسجده وما يتعلق بذلك، لا يشرك معه غيره، لأنه عليه الصلاة والسلام متبوع لا تابع، فهو رأس الأمر المطلوب والمقصود الأعظم)(3)
قال آخر: وهكذا ورد في كتاب [المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب]، وهو لأحمد بن يحي الونشريسي المعروف بأبي العباس الونشريسي، وهو من أهم الكتب المؤلفة في النوازل الفقهية، ولا يزال إلى الآن مصدرها الأكبر، فقد جاء فيه: (قال أبو القاسم العبدوسي: وأما الخروج إلى زيارة قبور الصالحين والعلماء فجائز طال السفر أو قصر وممن نص على ذلك الإمام أبو بكر ابن العربي في القبس في شرح الموطأ .. )(4)
قال آخر: ومنهم أبو عمر يوسف بن عبد الله عبد البر النمري القرطبي، وهو من
__________
(1) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 2/ 556.
(2) مواهب الجليل، 3/ 344.
(3) منسك الإمام خليل بن إسحاق المالكي، ص 144.
(4) المعيار المعرب للونشريسي 1/ 321.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/230)
المراجع المعتمدين لدى شيوخكم على الرغم من أقواله الكثيرة في التوسل والزيارة، والتي يكفرون غيره على أساسها، مع أنه يمكن أن تنطبق عليه، ومن أقواله في ذلك: (وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقاماتهم ومساكنهم، وإلى هذا قصد عبد الله بن عمر بحديثه هذا، والله أعلم)(1)
قال آخر: ومنهم أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي، والذي علق على قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] بقوله: (واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال: احلف لي بحق ما حواه هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك بالحرم والمشاعر العظام والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه)(2)
قال آخر: ومنهم القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل الذي روى الكثير من الروايات في إثبات التوسل والاستغاثة، ومنها قصة الإمام مالك واستقبال القبر وغيرها كثير، ومما نقله من ذلك قوله: (مما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه، وينزل جبريل بالوحي فيه عليه، وبمن عمره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين، والاعتبار بذلك كله)(3)
قال آخر: ومنهم عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن سعيد إبراهيم
__________
(1) التمهيد 13/ 66 ـ 67) وذكر حديث مالك الدار عبد البر في الإستيعاب (2/ 464)
(2) ذكره القرطبي في التفسير (10/ 36)
(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ـ وحاشية الشمني (2/ 85)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/231)
الأزدي، الأندلسي الأشبيلي، المعروف بابن الخراط الذي قال في كتاب [العاقبة في ذكر الموت]: (ويستحب لك رحمك الله أن تقصد بميتك قبور الصالحين ومدافن أهل الخير، فتدفنه معهم وتنزله بإزائهم، وتسكنه في جوارهم تبركا بهم وتوسلا إلى الله تعالى بقربهم، وأن تجتنب به قبور من سواهم ممن يخاف التأذي بمجاورته والتألم بمشاهدته، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الميت يتأذى بالجار السوء كما يتأذى به الحي)(1)
قال آخر: ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج، فقد قال: (وأما عظيم جناب الأنبياء، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل، والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره؛ لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله، ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثم يترحم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم، ويطلب حوائجه منهم، ويجزم بالإجابة ببركتهم، ويقوي حسن ظنه في ذلك، فإنهم باب الله المفتوح، وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ومن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم، وذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا من توسل بهم، ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم هذا الكلام في زيارة الأنبياء، والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عموما)(2)
قال آخر: ومنهم أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي
__________
(1) العاقبة في ذكر الموت ص 219
(2) المدخل لابن الحاج (1/ 258)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/232)
الغرناطي، قال في كتابه المشهور [القوانين الفقهية]: (ينبغي لمن حج أن يقصد المدينة فيدخل مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيصلي فيه ويسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى ضجيعيه أبي بكر وعمر، ويتشفع به إلى الله، ويصلي بين القبر والمنبر، ويودع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من المدينة)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ حسن العدوى الحمزاوى، أحد علماء المالكية بالجامع الأزهر، والذي قال في زيارة شهداء أحد والتوسل بهم: (ويتوسل بهم الى الله في بلوغ آماله، لأن هذا المكان محل مهبط الرحمات الربانية، وقد قال خير البرية عليه الصلاة وازكى التحية: (إن لربكم في دهركم نفحات، ألافتعرضوا لنفحات ربكم)، ولا شك ولا ريب أن هذا المكان محل هبوط الرحمات الإلهية، فينبغي للزائر أن يتعرض لهاتيك النفحات الإحسانية، كيف لا؟ وهم الأحبة والوسيلة العظمى إلى الله ورسوله، فجدير لمن توسل بهم أن يبلغ المنى، وينال بهم الدرجات العلى، فإنهم الكرام لا يخيب قاصدهم وهم الأحياء، ولا يرد من غير اكرام زائرهم)(2)
قال آخر: ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي صاحب [حاشية الصاوي على الشرح الصغير]، والذي قال فيه: (قال العلامة السمهودي في كتابه المؤلف في زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ومن خصائصها ـ أي المدينة المنورة ـ وجوب زيارتها كما في حديث الطبراني، وحق على كل مسلم زيارتها، فالرحلة إليها مأمور بها واجبة أي متأكدة على المسلم المستطيع له سبيلا .. والأفضل في الزيارة القرب من القبر الشريف، بحيث يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع قوله على حسب العادة، ويلزم في تلك الحضرة الأدب الظاهري والباطني ليظفر بالمنى .. وحين يدخل المسجد الشريف يأتي الروضة، فيصلي بها ركعتين تحية المسجد، ثم يأتي قبالة القبر الشريف ويقول: (السلام عليك يا سيدي يا رسول الله .. ثم يتوسل به في
__________
(1) القوانين الفقهية (ص 95)
(2) كنز المطالب (ص 230)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/233)
جميع مطلوباته)(1)
قال القاضي: يكفي ما ذكرتم .. فحدثونا عما قاله علماء الشافعية .. وإياكم والكذب عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام الشافعية الذين ذكروا هذا الشيخ أحمد دحلان الذي ذكر مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يعتبرها شيوخكم بدعة، فقال: (وإذا كانت كل زيارة ـ أي للقبر ـ قربة، كان كل سفر إليها قربة، وقد صح خروجه صلى الله عليه وآله وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع وأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غيره صلى الله عليه وآله وسلم، فقبره الشريف أولى وأحرى، والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة أي من حيث إيصالها إليها)(2)
قال آخر: ورد على شيوخكم الذين يعتبرون منع شد الرحال من باب سد الذراع للمحافظة على التوحيد، فقال: (إن هذا تخيل باطل؛ لأن المؤدي إلى الشرك إنما هو اتخاذ القبور مساجد، أو العكوف عليها، وتصوير الصور فيها)(3)
قال آخر: ورد على الاستدلال الخاطئ بالأحاديث، فقال: (وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)؛ فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة؛ فإنها تشد الرحال إليها لتعظيمها والصلاة فيها، وهذا التقدير لابد منه، ولو لم يكن التقدير هكذا، لاقتضى منع شد الرحال للحج، والهجرة من دار الكفر، ولطلب العلم، وتجارة الدنيا وغير
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/ 72)
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 5.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 5.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/234)
ذلك، ولا يقول بذلك أحد)(1)
قال آخر: وذكر الأحاديث الكثيرة في وجوب زيارة القبر النبوي، والتي ينفيها شيوخكم، ويحتالون على تكذيبها، فقال: (ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) رواه ابن عدي بسند يحتج به .. ومنها (من زار قبري وجبت له شفاعتي) رواه الدارقطني .. ومنها (من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي) .. ومنها (من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي)، ثم عقب عليها بقوله: (فتلك الأحاديث كلها في تأكيد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم حياً وميتاً والزيارة شاملة للسفر؛ لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور، وإذا كانت كل زيارة قربة، كان كل سفر إليها قربة)(2)
قال آخر: ومنهم الشيخ ابراهيم بن عثمان السمنودي المصري الذي خصص باباً في الكلام على إثبات مشروعية، التمسح بالقبور، وتقبيلها وكسوتها، وجعل توابيت أو قباب أو عمائم لها، وأعمال المولد للأنبياء، والأولياء. وغيرها ذلك (3).
قال آخر: وقد رد على الفهم الخاطئ إلى حديث (أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته) قائلاً: (لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار .. كما أن ذلك كان في قبور عظماء المشركين محواً لآثار ما كانت تفعله الجاهلية .. فلا حجة فيه للوهابية، وإلا لكان التسنيم والتسطيح ممنوعين، وقد علمت أنهما مشروعان)(4)
قال آخر: أما المواقف العملية المؤيدة لهذا، فكثيرة جدا؛ وهي تبدأ من الإمام الشافعي صاحب المذهب نفسه، والذي يتهمه بعض شيوخكم ـ بناء على تلك الروايات ـ
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 5.
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 6.
(3) سعادة الدارين، 2/ 59.
(4) سعادة الدارين، 2/ 71.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/235)
بكونه قبوريا بسبب ما يروى عنه في الزيارة والتوسل والاستغاثة.
قال آخر: ومنها ما روي من زيارته قبر أبي حنيفة، فقد أخرج الخطيب البغدادي وغيره، عن علي بن ميمون صاحب الشافعي، قال: سمعت الشافعي يقول: (إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد حتى تقضى (1).
قال آخر: وقال ابن حجر: (كان الشافعي ـ أيام كان ببغداد ـ يجيء إلى ضريح أبي حنيفة يزوره فيسلم عليه، ثم يتوسل إلى الله تعالى به في قضاء حاجته، ولما بلغ الشافعي أن أهل المغرب يتوسلون بمالك لم ينكر عليهم)(2)
قال آخر: وهكذا يروى عنه تبركه بقميص الإمام أحمد ابن حنبل، فقد روى ابن عساكر عن علي بن عبد العزيز الطلحي قوله: (قال لي الربيع: إن الشافعي خرج إلى مصر وأنا معه فقال لي يا ربيع خذ كتابي هذا فامض به وسلمه إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وائتني بالجواب قال الربيع: فدخلت بغداد ومعي الكتاب، فلقيت أحمد بن حنبل صلاة الصبح فصليت معه الفجر فلما انفتل من المحراب سلمت إليه الكتاب، وقلت له: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر، فقال أحمد: نظرت فيه قلت: لا، فكسر أبو عبد الله الختم وقرأ الكتاب وتغرغرت عيناه بالدموع فقلت: إيش فيه يا أبا عبد الله، قال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام وقل: إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم فسيرفع الله لك علما إلى يوم القيامة، قال الربيع: فقلت: البشارة فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده ودفعه إلي، فأخذته وخرجت إلى مصر وأخذت جواب الكتاب فسلمته إلى الشافعي، فقال لي الشافعي: يا ربيع إيش الذي دفع
__________
(1) تاريخ بغداد 1: 123، مناقب أبي حنيفة للخوارزمي 2/ 199.
(2) الخيرات الحسان لابن حجر: 94.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/236)
إليك، قلت: القميص الذي يلي جلده، قال الشافعي: ليس نفجعك به، ولكن بله وادفع إلي الماء حتى أشركك فيه)(1)
قال آخر: أما غيره من أتباع مذهبه، فمواقفهم الموافقة للزيارة كثيرة جدا، ومنهم أبو بكر البيهقي، الذي روى في شعب الإيمان بسنده قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو محمد بن زياد، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: سمعت أبا إسحاق القرشي، يقول: (كان عندنا رجل بالمدينة إذا رأى منكرا لا يمكنه أن يغيره أتى القبر، فقال: أيا قبر النبي وصاحبيه .. ألا يا غوثنا لو تعلمونا)(2)، ولم ينكر عليه، ولو كان شركا لما رواه أصلا.
قال آخر: وروى عنه ابن الجوزي في [المنتظم] عند حديثه عن مناقب أحمد بن حرب عدم إنكاره على استجابة الدعاء إذا توسل الداعي بقبره، فقد قال ابن الجوزي: (أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا العباس محمد بن أحمد القاضي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن جعفر الزاهد يقول: سمعت زكريا بن أبي دلويه يقول: (رأيت أحمد بن حرب بعد وفاته بشهر في المنام فقلت: ما فعل بك ربك قال: غفر لي وفرق المغفرة، قلت: وما فوق المغفرة قال: أكرمني بأن يستجيب دعوات المسلمين إذا توسلوا بقبري)(3)
قال آخر: ومنهم أبو حامد الغزالي الذي قال في كتابه المشهور [إحياء علوم الدين] في كتاب الحج، بعد ذكره لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ويزور قبر عثمان وقبر الحسن بن على رضى اللَّه عنهما، وفيه أيضا قبر على بن الحسين ومحمد بن على وجعفر بن محمد رضى اللَّه عنهم، ويصلى في مسجد فاطمة
__________
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 311)
(2) شعب الإيمان (6/ 60)
(3) المنتظم، 11/ 211.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/237)
رضى اللَّه عنها ويزور قبر إبراهيم بن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقبر صفية عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك كله بالبقيع، ويستحب له أن يأتي مسجد قباء في كل سبت ويصلى فيه .. ويأتي بئر أريس، يقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفل فيها، وهي عند المسجد، فيتوضأ منها ويشرب من مائها، ويأتي مسجد الفتح وهو على الخندق، وكذا يأتي سائر المساجد والمشاهد، ويقال إن جميع المشاهد والمساجد بالمدينة ثلاثون موضعا يعرفها أهل البلد، فيقصد ما قدر عليه، وكذلك يقصد الآبار التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ منها ويغتسل ويشرب منها، وهي سبع آبار طلبا للشفاء وتبركا به صلى الله عليه وآله وسلم وإن أمكنه الإقامة بالمدينة مع مراعاة الحرمة فلها فضل عظيم .. ثم إذا فرغ من أشغاله وعزم على الخروج من المدينة؛ فالمستحب أن يأتي القبر الشريف، ويعيد دعاء الزيارة كما سبق، ويودع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ويسأل اللَّه عز وجل أن يرزقه العودة إليه، ويسأل السلامة في سفره، ثم يصلى ركعتين في الروضة الصغيرة، وهي موضع مقام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن زيدت المقصورة في المسجد، فإذا خرج فليخرج رجله اليسرى أولا، ثم اليمنى، وليقل: اللهم صلّى على محمد وعلى آل محمد ولا تجعله آخر العهد بنبيك وحط أوزارى بزيارته وأصحبنى في سفرى السلامة ويسر رجوعى إلى أهلي ووطنى سالما يا أرحم الراحمين، وليتصدق على جيران رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بما قدر عليه، وليتتبع المساجد التي بين المدينة ومكة فيصلي فيها، وهي عشرون موضعا)(1) .. وللأسف، فإن أكثر هذه المزارات التي ذكرها الغزالي لم يعد لها وجود بسبب الجرائم التي ارتكبها الوهابيون في حقها، بل إن هذا النص وحده كفيل بتكفير الغزالي عند شيوخكم، لأنهم يحكمون على كل من يعتقد بركة موضع معين، بكونه قبوريا ومشركا.
قال آخر: ومنهم الشيخ تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الشافعي،
__________
(1) إحياء علوم الدين، (1/ 260)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/238)
والذي كان شديداً في نقد ابن تيمية، بل ألف في ذلك كتبا، استعرض فيها مواقفه المختلفة، وخصوصا من تحريمه وتبديعه لزيارة المزارات الدينية، ومن ذلك قوله في بعض كتبه عنه: (الحمد لله مستحق الحمد زيارة قبر سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرّم ومجّد من أفضل المساعي، وأنجح القرب إلى رب العالمين، وهي سُنة من سنن المسلمين، ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه خبث ومرض المنافقين، وهو من أفراخ السامرة واليهود وأعداء الدين من المشركين، ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شدّ الرحال إليه على ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سواء في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبان، حتى ظهر في آخر الزمان، في السنين الخداعة مبتدع من حران لبّس على أتباع الدجال ومن شابههم من شين الأفهام والأذهان، وزخرف لهم من القول غروراً كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبل أهل الإيمان، وأغواهم عن الصراط السوي إلى بُنيات الطريق ومدرجة الشيطان فهم بتزويقه في ظلمة الخطأ والإفك يعمهون، وعلى منوال بدعته يهرعون، صُمّ بُكم عُميّ فهم لا يعقلون)(1)
قال آخر: ومنهم الحافظ الفقيه الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، صاحب كتاب [المواهب اللدنية بالمنح المحمدية]، والذي قال فيه: (وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في (شفاء السقام) فشفى صدور المؤمنين)(2)
قال آخر: ومنهم الفقيه المفتي الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي، فمن أقواله في ابن تيمية بسبب موقفه من الزيارة: (ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه
__________
(1) الفتاوى السهمية في ابن تيمية، ص 21.
(2) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، ج 4 ص 574.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/239)
وأذله، وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية .. والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن، بل يرمى في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، عامله الله بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله)(1)
قال آخر: وقد خص المزارات الدينية والردود على المخالفين فيها، وخصوصا ابن تيمية، بكتابه [الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم]، والذي قال فيه: (فإن قلت كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله؟ كما رآه السبكي في خطه، وأطال ـ أعني ابن تيمية ـ في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً وأنه لا تقصر فيه الصلاة، وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه .. قلت: من ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شيء من أمور الدين عليه، وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله تعالى وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه، وباه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان، وقد تصدى شيخ الإسلام وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكي قدس الله روحه ونور ضريحه، للرد عليه في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد وأصاب، وأوضح بباهر حججه طريق الصواب فشكر الله تعالى مسعاه .. وما وقع من ابن
__________
(1) الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي، ص 144.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/240)
تيمية مما ذكر، وإن كل عثرة لا تقل أبداً ومصيبة يستمر عليه شؤمهاً دوماً سرمداً ليس بعجيب، فإنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعايب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري، وهو أيضا من الذين تشددوا في الإنكار على ابن تيمية بسبب موقفه من المزارات الدينية، وخصوصا زيارة قبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال في كتابه [نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض]: (واعلم أن هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم إلى مقالته إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها، وصنف فيها السبكي مصنفاً مستقلاً وهي منعه من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشدّ الرحال إليه .. فتوهم أنه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها، فإنها لا تصدر عن عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله عزوجل)(2)
قال آخر: ووصف فهمه لحديث (لاتجعلوا قبري عيداً) بأنه (لا حجة فيه .. فإنه نزعة شيطانية)(3)
قال آخر: ومنهم الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، وهو من مراجع شيوخكم الكبار، خصوصا في كتابه [فتح الباري شرح صحيح البخاري]، وهم يسلمون لعلمه وحفظه، ومع ذلك يخالفهم في هذه المسألة خلافا شديدا، وهم لذلك يستعملون كل الوسائل لكتمان كل ما يقوله حولها، مع أنه ألف رسالة في الردّ على ابن تيمية في مسألة زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي (الإنارة بطرق حديث الزيارة)
قال آخر: وقد قال عن ابن تيمية في كتابه [الدرر الكامنة]: (وافترق الناس فيه شيعاً
__________
(1) الجوهر المنظم في زيارة القبر النبوي المكرم، ص 29.
(2) نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض، ج 5 ص 96.
(3) نسيم الرياض، ج 5 ص 113.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/241)
فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة .. فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا يبغضك إلا منافق)(1)
قال آخر: ومنهم الشيخ المحدث الكبير محمود سعيد ممدوح، الذي قال: (إن شدّ الرحال أي السفر لزيارة القبر النبوي الشريف ـ سواء كان سفراً تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر ـ من أهم القربات، وهو قريب من الوجوب عند بعض العلماء، بل واجب عند الظاهرية وكثير من المالكية والحنفية، وعلى كون هذا السفر قربة درج سائر الفقهاء في المذاهب الإسلامية العقدية والفقهية، فكان إجماعاً للأمة الإسلامية، وقد خالف هذا الإجماع الشيخ أحمد بن تيمية، فَصَرّح بأن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة، وقال: من أراد أن يزور القبر الشريف فليزر المدينة المنورة لأي غرض مشروع ثم تكون زيارة القبر الشريف تبعاً لا استقلالاً، وهي مقالة شنيعة لم يتجرأ عليها أحد من علماء المسلمين وقد سجن الشيخ ابن تيمية بسببها، وأخمدت الفتنة، حتى جاء من يعدون كلامه كالوحي المتلو فدافعوا عن مقالته ونشروها وأوقدوا نار الفتنة، ولله الأمر)(2)
قال آخر: ومنهم أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي الذي قال في [المجموع
__________
(1) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ج 1 ص 153.
(2) كشف الستورعن أحكام القبور، ص 185.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/242)
شرح المهذب]: (ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال: (كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء أعرابي فزاره، ثمَّ قال: (يا خير الرسل، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي مستشفعاً فيها بك، ثمَّ بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
ثمَّ استغفر وانصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال: يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له)، ثم يتقدم إلى رأس القبر فيقف بين الأسطوانة ويستقبل القبلة)(1)
قال آخر: ومنهم أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان البرمكي الإربلي، قال في ترجمة أبي محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس: (وقال ابن بشكوال في تاريخه: كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك، وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد، فأراد غلامه أن يمنعني فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك أهل العلم، فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك، ثم قال: وتوفي يحيى بن يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بمقبرة ابن عياش يستسقى به، وهذه المقبرة بظاهر قرطبة)(2)
قال آخر: ومنهم سعد الدين التفتازاني الشافعي، الذي قال: (ولهذا ينتفع بزيارة
__________
(1) المجموع شرح المهذب (8/ 274)
(2) وفيات الأعيان (6/ 146)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/243)
القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات)(1)
قال آخر: ومنهم أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي العمري الشيرازي الشافعي الذي قال في كتابة [الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين]: (ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين)(2)، وعندما ذكر المواضع المباركة لإجابة الدعاء قال: (وعند قبور الأنبياء عليهم السلام، ولا يصح قبر نبي بعينه سوى قبر نبينا بالإجماع فقط، وقبر إبراهيم داخل السور ومن غير تعيين، وجرب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين بشروط معروفة)(3)
قال آخر: وقد علق محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني على هذا بقوله: (أقول هذا جعله المصنف رحمه الله داخلا فيما تقدم من التجريب الذي ذكره ووجه ذلك مزيد الشرف ونزول البركة وقد قدمنا أنها تسري بركة المكان على الداعي كما تسري بركة الصالحين الذاكرين الله سبحانه على من دخل فيهم ممن ليس هو منهم كما يفيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)(4)
قال القاضي: فاذكروا لنا ما قال علماء الحنابلة في ذلك .. وإياكم والكذب عليهم.
قال أحد التلاميذ: من أعلام الحنابلة الذين ذكروا هذا، بل من أوائلهم الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب نفسه، فقد روى عنه أتباع مذهبه، سواء كانوا تلاميذ مباشرين أو غير مباشرين الكثير من الروايات الدالة على تأييده للزيارات والتوسل والاستغاثة.
قال آخر: ومن ذلك ما رواه المروزي عنه في منسكه، ونقله عنه ابن تيمية في [الرد على
__________
(1) شرح المقاصد (2/ 33)
(2) تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للشوكاني (ص 51)
(3) تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص 74)
(4) تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص 74)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/244)
الأخنائي] فقد جاء فيه: (وسل الله حاجتك متوسلا إليه بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم تقض من الله عز وجل)(1)
قال آخر: وجاء في كتابه [العلل ومعرفة الرجال] ما نصه: (سألته عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد التقرب إلى الله جل وعز فقال: (لا بأس بذلك)(2)
قال آخر: وجاء في كتاب [سؤالات عبد الله بن أحمد بن حنبل لأحمد]: (سألت أبي عن مس الرجل رمانة المنبر يقصد التبرك، وكذلك عن مس القبر، فقال: (لا بأس بذلك)(3)
قال آخر: ومع هذا نجد ابن تيمية يدعي ادعاء عريضا حين يخبر عن اتفاق الأئمة على أن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمس خوفا من الشرك، فقد قال في [مجموع الفتاوى]: (واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد)(4)
قال آخر: وهكذا رويت الروايات الكثيرة عن الزيارة، ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية حول جسد الإمام الحسين، حيث قال: (ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى أنه في مسائله: (مسائل في ما يفعل عند قبره) أي قبر الحسين، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير، في زيارة المشاهد)(5)
قال آخر: فهو يثبت بهذا زيارة الناس قبر الإمام الحسين زمن أحمد وغيره، ويثبت أن أحمد لم ينكر عليهم الزيارة، بل يثبت أنه قد كتب فيما ينبغي أن يفعله الزائر لقبره، مراعاة للسنة في الزيارة، وهذا ما ينقض قول ابن تيمية من أساسه.
__________
(1) الرد على الأخنائي (ص 168)، وذكر معناه برهان الدين بن مفلح في المبدع (2/ 204) وقريب منه ما في الإقناع للعلامة الحجاوي (1/ 208) والفروع لشمس الدين ابن مفلح (توفي 763 هـ)(2/ 159) وغيرهم.
(2) العلل لأحمد بن حنبل (2/ 492)
(3) كشاف القناع (2/ 150)
(4) مجموع الفتاوى (27/ 223.
(5) رأس الحسين، لابن تيمية: 209.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/245)
قال آخر: بل إن المصادر الحنبلية ـ وخصوصا ما يرتبط منها بالسير والأعلام، أو مناقب الإمام أحمد ـ طافحة بذكر زيارة الأضرحة، والتبرك بها، ومن بينها زيارة ضريح أحمد نفسه، فقد ذكر جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي في [مناقب الإمام أحمد بن حنبل] أخبارا كثيرة في زيارة قبر أحمد بن حنبل تدل على أن العادة الجارية عند الحنابلة زيارة إمامهم، مثلما يزور الشيعة أضرحة أئمتهم، والطرق الصوفية أضرحة مشايخهم، بل إنهم يعتبرونها من القربات المهمة التي لا يفرطون بها (1).
قال آخر: ومن رواياتهم في هذا ما رووه عن أبي الفرج الهندبائي، قال: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل، فتركته مدة، فرأيت في المنام قائلا يقول لي: تركت زيارة إمام السنة!؟ (2) .. ومنها أنه قد قصد زيارته في سنة 574 هـ وتبعه خلق كثير يقدرون بخمسة آلاف مسلم (3).
قال آخر: وعن أبي طاهر ميمون، قال: رأيت رجلا بجامع الرصافة في شهر ربيع الآخرة من سنة ست وستين وأربعمئة، فسألته، فقال: قد جئت من ستمئة فرسخ، فقلت: في أي حاجة؟ قال: رأيت وأنا ببلدي في ليلة جمعة كأني في صحراء أو في فضاء عظيم، والخلق قيام، وأبواب السماء فتحت، وملائكة تنزل من السماء تلبس أقواما ثيابا خضرا، وتطير بهم في الهواء، فقلت: من هؤلاء الذين اختصوا بهذا؟ فقالوا لي: هؤلاء الذين يزورون أحمد بن حنبل .. فانتبهت، ولم ألبث أن أصلحت أمري وجئت إلى هذا البلد وزرته دفعات، وأنا عائد إلى بلدي إن شاء الله (4).
قال آخر: وقال ابن الجوزي: (وفي صفر سنة 542 هـ رأى رجل في المنام قائلا يقول
__________
(1) مناقب أحمد: 400، 563، 639، 642، 643، 677 وغيرها.
(2) مناقب أحمد: 6390، وتاريخ بغداد 4: 423.
(3) المنتظم في أخبار الملوك والأمم 18: 248.
(4) مناقب أحمد: 639.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/246)
له: من زار أحمد بن حنبل غفر له، قال: فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره، وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس)(1)
قال آخر: وهكذا ذكر ابن الجوزي في [المنتظم في تاريخ الأمم والملوك] في ترجمة أبي جعفر بن أبي موسى (ت 470 هـ) إمام الحنابلة في وقته، وقد دفن عند قبر أحمد، قال ابن الجوزي: (كان الناس يبيتون هناك كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج المتعيشون فيبيعون المأكولات، وصار ذلك فرجة للناس ـ أي فرجا ـ ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء الشتاء فامتنعوا .. وقال ابن كثير: دفن إلى جانب الإمام أحمد، فاتخذت العامة قبره سوقا كل ليلة أربعاء، يترددون إليه)(2)
قال آخر: وهكذ نجد مصادر الفقه الحنبلي كلها تتفق على مشروعية زيارة الأضرحة، ومنهم أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد الشهير بابن قدامة المقدسي، مؤلف أهم مرجع للحنابلة في الفقه، وخصوصا الفقه المقارن، كتاب [المغني]، والذي يقول فيه: (فصل: ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. )، ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة في الزيارة ثم قال: (وإذا حج الذي لم يحج قط من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد الطرق ولا يتشاغل بغيره)(3)
قال آخر: وقال: (فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد متفق عليه، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وكان يزور القبور وقال: زوروها تذكركم الآخرة)(4)
__________
(1) المنتظم 18: 55.
(2) المنتظم، والبداية والنهاية: أحداث سنة 470 هـ.
(3) المغني، 3/ 346.
(4) المغني، 2/ 100.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/247)
قال آخر: وهكذا نص العلامة شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي في كتابه [الشرح الكبير]، وهو من مصادر الحنابلة المعتبرة، فقد قال: (فإذا فرغ من الحج استحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1)
قال آخر: وهكذا نص العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي في كتابه المعتمد عند الحنابلة [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف]؛ فقد قال فيه: (قوله فإذا فرغ من الحج: استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. هذا المذهب وعليه الأصحاب قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم، وقال في الفصول: نقل صالح وأبو طالب: إذا حج للفرض لم يمر بالمدينة لأنه إذا حدث به حدث الموت كان في سبيل الحج، وإن كان تطوعا: بدأ بالمدينة)(2)
قال آخر: وهكذا نص العلامة منصور بن يونس بن صلاح الدين البهوتى الحنبلى في كتابه المعتمد عند الحنابلة [كشاف القناع عن متن الإقناع]، فقد قال فيه: (تنبيه: قال ابن نصر الله: لازم استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم استحباب شد الرحال إليها؛ لأن زيارته للحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحل، فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم)(3)، وقال: (أو غيره كولي، وحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد أي لا يطلب ذلك، فليس نهياً عن شدها لغيرها خلافاً لبعضهم)(4)
قال آخر: وهكذا نص العلامة موسى بن أحمد بن موسى بن سالم الحجاوي المقدسي، ثم الصالحي، شرف الدين، أبو النجا، فقد قال في كتابه [الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل]: (ويترخص إن قصد مشهداً، أو قصد مسجداً، ولو غير المساجد الثلاثة، أو قصد قبر نبي
__________
(1) الشرح الكبير، 3/ 512.
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 4/ 53.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع، 2/ 515.
(4) كشاف القناع للبهوتي 1/ 505.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/248)
أو غيره)(1)
قال آخر: أما علماء الحنابلة الذين أنكروا على شيوخكم فكثيرون جدا، ومنهم الشيخ سليمان بن سحيم، الذي كان من علماء الرياض، وبعد سقوطها في يد شيوخكم غادر للأحساء ثم العراق، وقد كتب رسالة إلى الأمصار، يخبرهم بالجرائم التي حصلت للمقامات والأضرحة، ومما جاء فيها قوله: (فمن بدعه وضلالاته أن عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكائنين في الجبيلة، زيد بن الخطاب والصحابة، وهدم قبورها وبعثرها؛ لأجل أنهم في حجارة، ولا يقدرون أن يحفروا لهم، فطووا على أضرحتهم قدر ذراع ليمنعوا الرايحة والسباع، والدافن لهم خالد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمد أيضاً إلى مسجد في ذلك وهدمه)(2)
قال آخر: منهم العلامة الكبير محمد بن فيروز الحنبلي الذي لم تشفع له حنبليته ولا نجديته عند شيوخكم؛ فقد قال فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ( .. وأيضا مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:
أيا قبر النبي وصاحبيه ... ووامصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
__________
(1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، 1/ 179.
(2) نقلاً عن: روضة الأفكار، 1/ 112.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/249)
ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال، خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193])(1)
قال آخر: مع العلم أن هذا العلم الذي كفره شيخكم ابن عبد الوهاب وكل من جاء بعده من والوهابية، علم من أعلام الحنابلة الكبار؛ وفقد قال فيه ابن حميد المكي في كتابه [السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة]: (محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز، التميمي، الأحسائي، العلامة الفهامة، كاشف المعضلات، وموضح المشكلات، و محرر أنواع العلوم، ومقرر المنقول والمعقول، بالمنطوق والمفهوم .. )(2) إلى آخر ما ورد في ترجمته، والتي تظهره مكانته الكبيرة في ذلك العصر، بالإضافة لعلمه وخلقه وتدينه .. ولكن كل ذلك لم يجعل لحمه مسموما يحرم التعرض له، كما يذكر السلفية عندما ينتقد أي علم من أعلامهم، وليتهم اكتفوا بنقده، بل أضافوا إلى ذلك تكفيره.
قال آخر: ومن علماء الحنابلة الذين صرح شيخكم ابن عبد الوهاب بتكفيرهم بسبب موقفهم من الأضرحة والمشاهد العلامة عبد الله بن عيسى المويس؛ فقد قال شيخكم ابن عبد الوهاب في بعض رسائله: (وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا؛ ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله)(3) .. فهو في هذا النص لا يكفر الشيخ المويس فقط، بل يكفر كل من تبرك بقبة أبي طالب التي هدمها
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 78)
(2) السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة، ص 969.
(3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 116)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/250)
شيوخكم وأئمتكم، وتصوروا أنهم بهدمها هدموا اللات والعزى)(1)
قال آخر: وهكذا صرح مرة أخرى، فقال: (إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها)(2)
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من المصدر الأول .. فما المصدر الثاني؟
قال أحد التلاميذ: المصدر الثاني، وهو الأول في الحقيقة .. مرتبط بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على شرعية البناء على الأضرحة، وعدم علاقتها بالشرك الذي يدعيه المخالفون، وقد صنفناها بحسب موضوعها إلى صنفين.
قال القاضي: لا بأس .. فاذكروا لنا الصنف الأول منها.
قال أحد التلاميذ: الصنف الأول يشمل الآيات التي تذكر شرعية البناء، وهو ما نجد إشارة واضحة وصريحة عليه في قوله تعالى في قصة أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 123)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 123)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/251)
قال آخر (1): ومن وجوه الاستدلال بالآية الكريمة ـ كما يذكر شيوخنا ـ أنّ الآية الكريمة متعلّقة بأصحاب الكهف، وهم أولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم، وتركوا أهلهم حفاظا على إيمانهم، وهي تكشف عن اختلاف وقع بين المؤمنين المسلمين والمشركين الكافرين فيما يجب فعله بهم، حيث قال الذين لم يؤمنوا: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، أي ضعوا بنيانا على باب كهفهم ليسترهم، ربّهم أعلم بحالهم، وقال الذين أمنوا واستضعفوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، أي نحن سوف نتّخذ هذا المكان مكانا لعبادة الله عز وجل والتقرب إليه من خلال التبرك بهذا المكان الذي وقعت فيه المعجزة.
قال آخر (2): وهي تشير، بل تصرح أن الذين غلبوا على أمرهم هم المؤمنون، لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون، وأما الكافرون فقالوا: ابنوا عليهم بنيانا، والدليل من هذه الآية إقرار الله تعالى إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم، فإن الله تعالى إذا حكى في كتابه عن قوم مالا يرضاه ذكر معه ما يدل على فساده وينبه على بطلانه إما قبله وإما بعده، فإذا لم ينبه على ذلك دل على رضاه تعالى به وعلى صحته إن كان عملاً وصدقة إن كان خبراً.
قال آخر (3): والذين قالوا هذا القول كانوا نصارى، على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله تعالى، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الشرك لم يشرع في أي دين من الأديان، ولذلك حتى لو فرضنا أن هذه الشريعة كانت للنصارى، فإنها تدل على كون البناء على القبور، واتخاذها مساجد لا علاقة لها بالشرك.
__________
(1) انظر: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 11، وما بعدها، وصيانة الآثار الإسلاميّة، الشيخ جعفر السبحاني، ص 26، فما بعدها.
(2) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 26.
(3) إحياء المقبور، ص 26.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/252)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الأديان جميعا تتفق في أصول الشرائع، فكلها تحوي صلاة وصياما وزكاة وحجا وغيرها، كما قال تعالى عن الصيام: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والاختلاف بينها قاصر على الكيفيات، ولذلك فإن مشروعية اتخاذ القبور مساجد في الأمم الأخرى دليل على مشروعيتها في هذه الأمة، وإن كانت تختلف في كيفية تنفيذها.
قال آخر: لكن شيوخكم للأسف، ومع وضوح دلالة هذا النص على عدم ارتباط الشرك بالبناء على القبور، إلا أنهم راحوا يعطلون الآية الكريمة من أجل الحفاظ على ذلك الحكم المشدد الذي تبنوه، وكأن الله تعالى ذكر لنا تلك الحادثة للتسلية فقط، وليس لأي غرض آخر.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم، أو الكثير منهم في الرد على الاستدلال بالآية: (إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي .. (فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس كافة)، فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا!)(1)
قال آخر: وهكذا راحوا يردون الآية بهذا الاعتبار الذي يجعل من السنة متحكمة على الكتاب، فقد قال بعضهم: (هَبْ أن الصواب قول من قال: (شريعة من قبلنا شريعة لنا)، فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يَرِدْ في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية
__________
(1) كشف شبهات الصوفية (ص 117)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/253)
ليس شريعة لنا)(1)
قال آخر: وكان الأصل هو محاولة الجمع بين الآية والأحاديث الواردة، وليس رمي الآية، وعدم تفعيلها بحجة مخالفتها للحديث.
قال آخر: وأعجب أنواع الهروب من الآية الكريمة الواضحة هو ذلك الذي ذكره بعضهم، فقال: (لا نسلِّم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا، غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}، فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى)
قال آخر: وهذا من غلبة الهوى والتحكم في التعامل مع القرآن الكريم، فمع أن المطالبة ببناء المساجد لا تكون إلا من المؤمنين الصادقين المخلصين إلا أن هؤلاء لم يكتفوا بالتهجم على صالحي هذه الأمة، وإنما راحوا إلى صالحي الأمم الأخرى، وكأنهم يستدركون على الله تعالى، والذي لم يذكر هؤلاء بما يشينهم، بل فيه إشارات كثيرة إلى صلاحهم، لأنهم عرفوا كيف يعظمون ويحترمون أولئك الذين فروا بدينهم، في مقابل أولئك الذين آذوهم.
قال آخر: بالإضافة إلى تلك الآية الصريحة التي ترد على اعتبار بناء المساجد على القبور شركا، وردت أدلة أخرى يمكن اعتمادها في هذا الباب مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ
__________
(1) المرجع السابق، (ص 117)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/254)
اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]
قال آخر: فهذه الآيات الكريمة تدعو إلى حفظ شعائر الله وتعظيمها والحرص عليها، ومن الحرص عليها البناء الذي يحفظها، ولاشك أن المعالم الدينية من شعائر الله التي تدعو الآية الكريمة إلى حفظها، وتلك المعالم لا تخلو في العادة من القبور، كما أشار العلامة السبحاني إلى ذلك بقوله: (لاشكّ أنّ صون المعالم الدينية عن الاندراس ـ كالمشاهد المتضمّنة لأجساد الأنبياء والصالحين ـ وحفظها عن الخراب بناءاً وتجديداً نحو من أنحاء التعظيم، كما أنّ حفظ المسجد عن الخراب تعظيم له، لا يخفى أنّ الله تعالى جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التي يجب احترامها، فكيف بالبقاع المتضمّنة لأجساد الأنبياء والأولياء، فإنّها أولى بأن تكون شعاراً للدين، كيف لا؟ وهي من البيوت التي أذن الله أن تُرفع، ويذكر فيها اسمه، فإنّ المراد من البيت في الآية هو: بيت الطاعة، وكلّ محلّ أُعدّ للعبادة، فيعمّ المساجد والمشاهد المشرّفة لكونها من المعابد، ولو لم يكن في الشريعة ما يدلّ على تعمير المساجد، وتعظيمها واحترامها، لأغنتنا الآية بعمومها عن الدلالة على وجوب تعمير المسجد وتعظيمه، وإدامة ذكر الله فيه، لكونه من البيوت التي أذن الله أن تُرفع)(1)
قال القاضي: لا بأس .. فاذكروا لنا الصنف الثاني منها.
قال أحد التلاميذ: الصنف الثاني يشمل الآيات التي تدعو إلى توقير الصالحين وتبجيلهم واحترامهم، لأن ذلك من علامات تعظيمنا لله، بالإضافة إلى أن ذلك يجعل منهم نماذج لاقتداء المؤمنين بهم .. والبناء على قبورهم، وحفظ آثارهم مما يدل على ذلك التوقير،
__________
(1) نقلا عن: موسوعة الأسئلة العقائدية ج 3، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/255)
ويحفظه إلى ما بعد وفاتهم، كما يدل عليه الواقع.
قال آخر: والإشكال الذي وقع فيه شيوخنا الأفاضل وشيوخهم الذين يستندون إليهم، هو توهمهم أن ذلك غلو، ومناف للتوحيد، ولذلك يردون علينا بتلك الآيات التي وردت في المشركين، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، باعتقادهم أن ذلك التبجيل والتعظيم نوع من العبادة.
قال آخر: وهكذا يطبقون علينا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار} [الزمر:3]، ويذكرون أن المتعلقين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بالعلماء والصالحين، اتخذوهم أولياء من دون الله، ليتقربوا بهم إلى الله.
قال آخر: والمشكلة التي جعلتهم يعتقدون هذا هو الرؤية التجسيمية التي يتفقون فيها من حيث لا يشعرون مع المشركين .. ذلك أن المشركين كانوا يرون أن هناك إلها في السماء، وأنه جرم من الأجرام، وأنه وضع في كل محل آلهة تنوب عنه، مثلما يضع الملوك العمال والولاة على الأقاليم، ولذلك كانوا يتصورون أنه يكفيهم التقرب لأولئك العمال والولاة حتى ينالوا ما يشتهون من حظوظ، ولذلك كانوا يقولون، وهم يطوفون بالبيت: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)
قال آخر: ولهذا نرى ربط القرآن الكريم الشرك بكونه من [دون الله]، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة:165]، وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة:76]،
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/256)
وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة:76]، وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة:76].
قال آخر: ولهذا يعتبرون إقامة أي صلة مع عباد الله الصالحين نوعا من الغلو الذي يؤدي إلى الشرك، لتصورهم أن أولئك الولاة الأرضيين قد يقومون بالتمرد، ويصبحون هم المتحكمين في شؤون ولاياتهم.
قال آخر: لكنهم لو اعتمدوا التنزيه الذي ورد به القرآن الكريم، لرأوا الأمر بصورة مختلفة تماما، ذلك أنهم حينها سينطلقون من أن كل شيء من الله تعالى ابتداء وانتهاء، حتى الرحمة التي نراها في الأم، وهي تحن لولدها، وتضحي في سبيله رحمة إلهية، كما قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، باعتبار أن الله تعالى غير محدود، ولا مقيد بتلك القيود التي كان يعتقد بها المشركون.
قال آخر: ولهذا؛ فإن مدح الصالحين، والتعلق بهم، والثناء عليهم وبناء المشاهد لهم ليس إلا مدحا لله تعالى وتعلقا به وثناء عليه، ذلك أن الصالحين ليسوا سوى مظاهر وتجليات للفضل الإلهي .. كما قال تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين} [آل عمران:164]
قال آخر: ولذلك لا يتنافى التوحيد والتنزيه مع التعلق بالصالحين ومحبتهم وزيارتهم أحياء وأمواتا .. ذلك أن الله تعالى هو الذي جعلهم بتلك الصورة، فهم مرائي للكمال الإلهي .. فكما نرى جمال الله تعالى من خلال الطبيعة الجميلة، نرى كذلك جماله وكماله
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/257)
وفضله وهدايته من خلال رسله والصالحين من عباده.
قال آخر: وحتى نقرب المسألة، نذكر أن المباني التكفيرية تُهدم جميعا مع تلك الآيات الكريمة التي يرد فيها السجود لغير الله تعالى، مثل سجود الملائكة لآدم عليه السلام، أو سجود إخوة يوسف عليه السلام له .. ذلك أن السجود ـ عند شيوخنا الأفاضل ـ عبادة لا يستحقها إلا الله .. والذي يسجد لغير الله مشرك، مع أن الله تعالى أثنى على أولئك الساجدين لغيره.
قال آخر: ولهذا؛ فإننا لو طبقنا تلك المعاني التنزيهية؛ فإننا نجد الأمر معقولا جدا، ذلك أن السجود لآدم أو يوسف أو لغيرهما ليس إلا سجودا لله تعالى .. فكلاهما آثار للرحمة والفضل والجمال الإلهي .. وتعظيم الآثار تعظيم للمؤثر .. ومن أثنى على قصيدة شاعر، أو تصميم مهندس، فقد أثنى على الشاعر والمهندس.
قال آخر: ولهذا؛ فإن تعظيمنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا تطبيقا لذلك الأمر الإلهي الوارد بشأنه، وهو قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9]، وقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] .. وغيرها من الآيات الكريمة.
قال آخر: ونفس الأمر ينطبق مع كل الصالحين، الذين نهينا عن إذيتهم، وأمرنا بالولاء لهم، والتقرب إليهم، والسير على صراطهم، كما قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 ـ 7] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]
قال آخر: ذلك أن دوافع ذلك التعظيم ليس مرتبطا بذوات الصالحين بقدر ارتباطه
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/258)
بعلاقتهم بالله؛ فنحن نبجلهم ونعظمهم لكون الله اصطفاهم واختارهم، ولذلك ولاؤنا لهم في حقيقته ليس سوى ولاء لله .. ولو فرضنا أن هؤلاء قطعوا صلتهم بالله، لقطعنا صلتنا بهم.
قال آخر: وهذا الاعتقاد يشبه اعتقادنا في الطبيب الذي نحترمه ونلجأ إليه، لاعتقادنا أنه طبيب .. ولو اعتقدنا أنه ليس كذلك، لم ينل منا ذلك الاحترام الخاص.
قال آخر: وعلى ضوء هذا المثل نفهم ما ورد في القرآن الكريم حول الشفاعة؛ فالله أتاحها للصالحين، ليجعل خلقه أكثر ارتباطا بهم، ومحبة لهم، لكونهم يعتقدون أن الله تعالى جعلهم وسائط لرحمته، مثلما جعل الطبيب واسطة للشفاء.
قال آخر: وبذلك يتحقق الأمران جميعا .. التقرب إلى الله من خلال دعائه .. والتقرب إلى الصالحين .. من خلال التوسل والاستعانة بهم .. ولهذا سن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقديم حمد الله والصلاة عليه على ما نطلبه من حاجات، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن رآه يصلى ويدعو ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (عجل هذا)، ثم دعاه، فقال: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي، وليدع بعد بما شاء)(1)
قال آخر: ففي تقديم الثناء على الله معرفة بالله، تدعو إلى محبته وإيثاره والثقة فيه، وفي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقرب منه ومحبة له تصفي القلب وتطهره، فإذا ما صفا القلب بهذه الصورة كان أهلا لقضاء حاجته.
قال القاضي: يكفينا ما ذكرتم من المصدر الثاني .. فما المصدر الثالث؟
قال أحد التلاميذ: المصدر الثالث، هو قرين المصدر السابق، والمفسر له، وهو السنة
__________
(1) أبو داود الترمذي وصححه.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/259)
النبوية المطهرة، وقد رأينا تصنيف ما ورد في ذلك إلى ثلاثة أصناف .. أولها الأحاديث الواردة حول شرعية البناء على قبور الأنبياء والصالحين .. وثانيها الأحاديث الواردة حول شرعية زيارتها .. وثالثها الروايات المعارضة لذلك، وكيفية توجيهها والجمع بينها وبين النصوص المجوزة لذلك.
قال آخر: وهذا المنهج يعتمد في كل الأبواب الفقهية، وعند جميع الفقهاء، ذلك أنه إذا تعارضت النصوص في أي مسألة يبحثون عن المحكم فيها، ثم يحاولون توجيه المتشابه ليتناسب مع المحكم، وقد يحكمون بضعف المتشابه إذا كان حديثا بسبب مخالفته لما هو أقوى منه.
قال آخر: وبناء على هذا، فإن ما يقوي جانب المشروعية هو ما ذكرنا من الدليل القرآني الصريح والواضح في مشروعية البناء، ذلك أن القرآن الكريم لم يكن ليترك التعقيب على ذكر البناء إن كان حراما، ذلك أن السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز.
قال القاضي: لا بأس .. فحدثونا عن الصنف الأول منها.
قال أحد التلاميذ: الصنف الأول منها ما ورد من الأحاديث حول مشروعية البناء على المقابر، وخصوصا قبور الأنبياء والصالحين .. ومنها ما ورد من أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم نوحاً، وهوداً وصالحاً، وشعيباً، وأن قبورهم بين زمزم والحجر، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام، وهو أشرف مسجد على وجه الأرض، هو ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان وجود القبر في المسجد محرماً لذاته لنبش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجهم؛ فدفنهم خارج المسجد، فإنه
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/260)
أخبر الله أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم أحياء في قبورهم (1).
قال آخر: ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يُدفن في البناء فقال: (لن يقبر نبي إلا حيث يموت فأخروا فراشه، وحفروا له تحت فراشه)(2)، وهو دليل صريح على وجود البناء حول القبر، وأن النهي خاص بما كان فوقه، لأنا بالضرورة نعلم أن النهي عن البناء ليس هو عن فعل الفاعل وبناء البناء، وإنما هو عن وجود نفس البناء على القبر، وإذا جوز الشارع وجود الميت داخل البناء فقد جوز البناء إذ لا فارق بين أن يوجد بعد الدفن أو قبله، لأن الغاية واحدة والصورة متفقة وهي وجود القبر داخل البناء، وإذا جاز ذلك فلا فرق بين أن يكون البناء بيتاً أو قبة أو مدرسة لأن الكل بناء والعلة في ذاته لا في أشكاله وصوره فليس النهي متعلقاً بصورة القبة أو المدرسة، بل بذات البناء كيفما وجد (3).
قال آخر (4): فإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يُدفن في بيته الذي هو بناء فقد تقرر في قواعد الفقه أن الرضي بالشيء رضى بما يؤول إليه ذلك الشيء، وبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ملاصقاً للمسجد، وبابه شارعة إليه حتى أن الرواة يذكرونه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اعتكف يخرج رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهي في البيت وهو في المسجد، وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستكثر، وأن المدينة ستتسع وتعظم حتى يصل بناؤها إلى سلع كما أخبر هو صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وأمر بشد الرحلة إلى زيارة قبره الشريف وإلى مسجده للصلاة فيه ورغب في ذلك بقوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)(5)، وقال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)(6)، ومسجده صلى الله عليه وآله وسلم كان في عصره صغيراً لا يسع عشر معشار ربع من يقصده من أمته.
__________
(1) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 33.
(2) أحمد، (1/ 7)
(3) إحياء المقبور، ص 26.
(4) إحياء المقبور، ص 43.
(5) البيهقي في شعب الإيمان، (6/ 51)
(6) البخاري (2/ 76)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/261)
قال آخر (1): ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده، وزاد فأخبر بـ (أن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة)(2)، وهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى استحباب إدخال قبره الشريف في المسجد لأنه ترغيب يدعو إلى ذلك، إذ المراد فضيلة الصلاة ما بين القبر والمنبر والترغيب فيها في ذلك الموضع إذا لم يكن القبر الشريف داخل المسجد لا تتصور الصلاة بين القبر والمنبر ولا يتأتى التعبير بقوله: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، لأنه إذا كان المنبر وسط المسجد والبيت الذي فيه قبره الشريف خارج المسجد لم يصح في العادة التعبير بالبينية خصوصاً عند إرادة الصلاة، فإن البيت وسوره حاجز بين القبر والمنبر مانع من الصلاة في موضعه.
قال آخر (3): ومنها أن الله تعالى قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عند ربه جل وعز أعلى قدراً وأحمى جانباً من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله تعالى ملعون فاعله، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان، فلو كان اتخاذ المسجد عليه صلى الله عليه وآله وسلم ممنوعاً متخذه لحمى الله تعالى جانب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم منه، ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه جائز ومطلوب، (ومن اعتقد خلاف هذا فهو قرني ممقوت لم يذق للإيمان طعماً ولا عرف من منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العليا ومكانته السامية عند ربه شيئاً فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان)(4)
قال آخر (5): ومنها أن ذلك ما جرى عليه عمل الصحابة، وهو من الأدلة المعتبرة عند شيوخكم، ذلك أنهم في سجالاتهم مع المخالفين لهم، يستدلون بفعل السلف، ويقدمونهم حتى على الأحاديث النبوية نفسها، وبناء على هذا يمكن اعتبار إجماع الصحابة
__________
(1) إحياء المقبور، ص 44.
(2) نص الحديث (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)(مسند أحمد (3/ 64)
(3) إحياء المقبور، ص 41.
(4) إحياء المقبور، ص 41.
(5) إحياء المقبور، ص 50.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/262)
واتفاقهم بعد الاختلاف في موضع دفنه على دفنه في بيته عملاً بما أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان ذلك غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو منسوخاً بما ذكره في مرض وفاته مع أن الخبر لا يدخله النسخ لما أجمع الصحابة عليه، وقد قام الدليل على حجية الإجماع، ولا سيما إجماع الصحابة.
قال آخر (1): ومنها إجماع التابعين ومن بعدهم في عهد وجود كبار أئمتهم مثل عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وفقهاء المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها من أقطار الإسلام، ثم أجمعت الأمة بعدهم على إدخال بيته المشتمل على قبره داخل المسجد وجعله في وسطه، وإجماعهم حجة ولو كان ذلك منهياً عنه لاستحال أن تتفق الأمة في عصر التابعين على المنكر والاجتماع على الضلالة لولا أنهم فهموا من النهي أن المراد به علته التي زالت باستقرار الإيمان ورسوخ العقيدة، ولا يقال إنهم سكتوا على ذلك لأجل ضرورة توسعة المسجد فإنه كان في الإمكان توسعته من جهة القبلة والجهة المقابلة لها والجهة الجنوبية لها دون الجهة الشمالية الواقع فيها قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: ومنها أن الصحابة بنوا على القبر مسجداً في حياته صلى الله عليه وآله وسلم فأقرهم على ذلك ولم يأمرهم بهدمه، ويستحيل أن يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باطل، ويدل لذلك ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي بصير من أن أبا جندل دفن أبا بصير في مكانه الذي مات فيه، وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً، حيث قال: (وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجدا)(2)
قال آخر: وقد علق الغماري على هذا بقوله: (إن كل ذي حس سليم يعرف سيرة
__________
(1) إحياء المقبور، ص 51.
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، (4/ 1613)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/263)
الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدرك أنه لا يمكن إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكرونه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول الله تعالى وخليفته في خلقه، والأمر أمره، والحكم حكمه، والصحابة كلهم جنده ونوابه ومنفذون أمره، وكذلك يستحيل أن يحدث مثل هذا من أصحابه الذين هم تحت حكمه وأمره ويكون ذلك حراماً ملعوناً فاعله يجر إلى كفر وضلال، ثم لا يعلمه الله تعالى به ولا يوحي يوحي إليه في شأنه، كما أعلمه بمسجد الضرار وقصد أصحابه من بنائه وأمره بهدمه بل وبما هو أدون من هذا وأقل ضررا بكثير فإذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على بنائهم المسجد على قبر أبي بصير ولم يأمرهم بهدمه إذ لو أمر بذلك لنقل في نفس الخبر أو غيره، لأنه شرع لا يمكن أن يضيع بل يستحيل ذلك لخبر الله تعالى أنه حفظ الدين من أن يضيع منه شيء ولا يصل إلى آخر هذه الأمة ما وصل إلى أولها. فلما لم يأمر بهدمه دل ذلك على جوازه)(1)
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا عن الصنف الثاني من الأحاديث.
قال أحد التلاميذ: الصنف الثاني هو ما ورد من الأحاديث في مشروعية زيارة الأضرحة، وخصوصا زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال القاضي: ولكنا سمعنا من شيوخنا الأفاضل أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضعف كل تلك الأحاديث وكذبها.
قال أحد التلاميذ: علماء الإسلام أكثر من أن ينحصروا في شخص واحد، إلا إذا قلتم بعصمته .. وحينها يجب عليكم أنتم اتباعه، لا تكليف الناس جميعا بذلك.
قال آخر: ولذلك؛ فإن الكثير من علمائنا، والمحدثين منهم خصوصا، ألفوا الكتب
__________
(1) إحياء المقبور، ص 53.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/264)
والرسائل في بيان صحة تلك الأحاديث، وإمكان الاستدلال بها، إما مفردة، أو مجموعة.
قال آخر: ومن أشهر تلك المؤلفات وأقدمها ما ألفه علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) في الرد على ابن تيمية، وذكر أدلة الزيارة، وهو بعنوان [شفاء السقام في زيارة خير الأنام]، حيث ذكر فيه خمسة عشر حديثا بطرقها، بالإضافة لأدلة أخرى كثيرة.
قال القاضي: لكن الذي أعلمه هو أن الشيخ ابن عبد الهادي (ت 744 هـ)، وهو من تلاميذ ابن تيمية، ألف كتابا سماه [الصارم المنكي في الرد على السبكي]، ورد به على ما ذكره السبكي من أحاديث الزيارة، لينتصر لابن تيمية .. وقد كان لهذا الكتاب القول الفصل في هذه الأحاديث، ولهذا ورد التحذير من كتاب السبكي.
قال أحد التلاميذ: وهذا من المكاييل المزدوجة، والتطفيف في الميزان، ذلك أن الأصل أن يُترك لكل شخص ما يراه متوافقا مع دينه وورعه، فلذلك تبقى المسألة خلافية، لا علاقة لها بالكفر والإيمان، ولا حتى بالطاعة والمعصية.
قال آخر: وقد أشار العلامة محمود سعيد ممدوح في كتابه [رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة] إلى هذه الذاتية والازدوجية في التعامل مع أحاديث الزيارة، فقال: (شاع بين كثير من الناس أن أحاديث الزيارة كلها ضعيفة، بل موضوعة وهو خطأ بلا ريب، ومصادمة لقواعد الحديث بلا مين، ويكفى اللبيب قول الذهبى الحافظ الناقد عن حديث الزيارة: طرقه كلها لينة لكن يتقوى بعضها ببعض لأن ما فى روايتها متهم بالكذب، نقله عنه السخاوى، وأقره فى المقاصد الحسنة، ومنشأ هذا الخطأ هو الاعتماد على كتاب [الصارم المنكى فى الرد على السبكى] للحافظ أبى عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى .. وكنت أرى الإحالة على هذا الكتاب من كثير من الكتاب سواء من المشتغلين بالحديث أو غيرهم فأكتفى بالسكوت رغبة فى اغتنام فرصةٍ لتحقيق مدى صحة هذه المقولة .. وبعد النظر فى [الصارم المنكي] وتحقيق
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/265)
أحاديث الزيارة، رأيت الهول في هذا الكتاب، فتراه يتعنت أشد التعنت فى رد الأحاديث عند كلامه على الرجال، ويطول الكلام جداً على الرجال ناقلاً ما يراه يؤيد رأيه وهو الجرح، ولا يذكرمن التعديل إلا ما يوافقه كما فعل مع عبد الله بن عمر العمري، وتطويله للكلام يخرجه عن المقصود إلى اللغو والحشو مع التكرار الممل .. وهو يذكر أبحاثاً خارجة عن المقصود كالبحث المتعلق بالمرسل وطرق الحديث الذى فيه حفص بن سليمان القاري .. ويطيل الكتاب جداً بذكر فتوى فى الزيارة لابن تيمية عقب كل حديث فى الزيارة، وحاصلها مكرر ومعروف .. وأحياناً يأتى بتعليلات للأحاديث خارجة عن قواعد الحديث، كقوله عند محاولة تضعيف بعض الأحاديث: لم يخرّجه أحد من أصحاب الكتب الستة ولا رواه الإمام أحمد فى مسنده ... وغير خفي أنّ هذا التعليل فيه نظر فالعبرة بالإسناد ولو كان الحديث فى جزء غير مشهور)(1)
قال آخر: بناء على هذا سنذكر هنا ما ورد من الأحاديث الدالة على مشروعية الزيارة، والأدلة التي تقويها بناء على ما ذكره شيوخنا، مع التنبيه إلى أن الكثير من الأحكام الشرعية التي يبالغ فيها شيوخنا الأفاضل من أمثال النقاب ونحوه، لا نجد فيها ولو حديثا واحدا.
قال آخر: وأول تلك الأحاديث، الحديث الذي لا يختلفون في صحته، ولو أنهم يقصرون في الاستدلال به، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها)(2)؛ فهذا الحديث يرغب ترغيبا عاما في زيارة القبور من غير تحديد لقبر منها، ومن المستغرب أن نقيد ما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نخصص ما عممه، كما فعل ابن تيمية حين اشترط نصا
__________
(1) رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسل والزيارة ص 10 ـ 11.
(2) مسلم، 2/ 366/107، الترمذي 3/ 370/1504، السنن الكبرى للنسائي 1/ 653/2159، المستدرك 1/ 530/1385.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/266)
خاصا بزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: ذلك أن الزيارة ـ بهذا الحديث ـ تدخل على الأقل في باب المستحبات ـ وهي لذلك يمكن التنقل بسببها والسفر لأي مقبرة، ولأي قبر، ولا يصح لأحد أن يقيد ذلك بقبور معينة، فيمنع من زيارة غيرها.
قال آخر: ومن روايات الحديث هذه الرواية التي رواها الترمذي وغيره: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة)(1)، وقد عقب عليها بقوله: (حديث بريدة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم: لا يرون بزيارة القبور بأسا، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق)(2)
قال آخر: وهذا الحديث ـ بهذه الرواية خصوصا ـ يدل على مشروعية زيارة قبر معين، أي أن الغرض ليس زيارة المقابر فقط، كما ينص على ذلك شيوخكم، بل يمكن أن تدخل أغراض أخرى، مثل صلة الرحم، كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن إذن الله له بزيارة أمه .. ويدخل أيضا زيارة الصالحين، مثلما كان يفعل صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يزور شهداء أحد.
قال آخر: ومنها الأحاديث الواردة في من قصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبورا معينة بالزيارة، وذلك ما يرد على ما يذكره شيوخكم من أن الزيارة لا يقصد بها إلا الموعظة، والتي تتحقق بزيارة أي قبر.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث ما رواه الحاكم عن بريدة، قال: (زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه في ألف مقنع، فلم ير باكيا أكثر من يومئذ)(3)، وقد صحح الحاكم الحديث ووافقه عليه الذهبي .. ومثله روي عن أبي هريرة أنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من
__________
(1) الترمذي 2/ 361 ح (1054)
(2) الترمذي 2/ 361.
(3) المستدرك 1/ 531/1389.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/267)
حوله)(1)
قال آخر: ويؤكد هذا الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة)(2)
قال آخر: ومن تلك الأحاديث العملية ما رواه طلحة بن عبيدالله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة واقم، فلما تدلينا منها وإذا قبور ممحية، قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: (قبور أصحابنا) فلما جئنا قبور الشهداء، قال: (هذه قبور إخواننا)(3)
قال آخر: وهذا الحديث واضح الدلالة في قصده صلى الله عليه وآله وسلم لقبور الشهداء، وواضح في الدلالة على أن القصد منه ليس مجرد العظة والاعتبار، وإنما لمكانتهم، ولهذا سماهم صلى الله عليه وآله وسلم (إخواننا) للدلالة على شرفهم ومكانتهم، فالأخوة أعظم شرفا من الصحبة.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث العملية ما روي من خروجه صلى الله عليه وآله وسلم مرارا إلى البقيع لزيارة قبور المؤمنين المدفونين هناك، ومنها ما رواه عطاء عن عائشة، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا، مؤجلون، وإنا، إن شاء الله، بكم لاحقون، اللهم، اغفر لأهل بقيع الغرقد)(4)، وهذا الحديث يدل على كثرة زياراته صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وهو يدل على مدى استحباب ذلك، وعلى أن القصد منه ليس العبرة فقط، لأنها تتحقق بأدنى من ذلك.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث العملية ما روي من خروجه صلى الله عليه وآله وسلم مرارا إلى قبور الشهداء بأحد، ومن ذلك ما رواه على رأس كل حول، ومنها ما رواه عن محمد بن إبراهيم
__________
(1) المستدرك 1/ 531/1390.
(2) سنن الترمذي 2/ 361 ح (1054)
(3) سنن أبي داود 2/ 218/357.
(4) مسلم 2/ 669 ح (974)، النسائي 4/ 93 ح (2039)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/268)
التيمي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول، فيقول: (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). قال: وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك (1).
قال آخر: ومن تلك الأحاديث الصريحة والقوية في هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)(2)، وهو من الأحاديث القوية التي اعتمدها كل علماء المسلمين، ولذلك حاول شيوخكم رده على الرغم من ثبوته، مستعملين كل ما أتاح لهم علم الحديث من حيل وخدع، تجعلهم يضعفون ما شاءوا، ويصححون ما شاءوا.
قال آخر (3): ومن دلائل قبول هذا الحديث، وكونه لا يقل عن تلك الأحاديث التي يستدل بها في الأحكام الفقهية صحة السند الذي أورده الدارقطني للحديث، وهو يبدأ من القاضي المحاملي، ثم عبيد بن محمد الوراق، ثم موسى بن هلال العبدي، ثم عبيد الله بن عمر، ثم نافع، ثم ابن عمر .. وكل هؤلاء ثقات، بلا خلاف، وإنما وقع الكلام في عبيد الله بن عمر، وهو ثقة أيضا، غير أن بعضهم رواه عن عبد الله، أخي عبيد الله، وهو دون أخيه ـ بحسب الرؤية الذاتية للرواة، ذلك أنه كان من الخارجين مع محمد ذي النفس الزكية على العباسيين ـ وبهذا تمسك من ذهب إلى تضعيف الحديث.
قال آخر (4): غير أن الثابت في جميع نسخ سنن الدارقطني (عبيد الله) مصغرا، وهكذا رواه الدارقطني في غير السنن أيضا، وكذلك أورده أبو اليمن زيد ابن الحسن في كتابه (إتحاف الزائر وإطراف المقيم المسافر في زيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، والحافظ أبو الحسين القرشي في كتابه (الدلائل المبينة في فضائل المدينة)، والخلعي عن الدارقطني، وأورده ابن عساكر عن الخلعي، كلهم يذكرون (عبيد الله) مصغرا، فاتفقت الرواية بهذا الاسناد عن
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 3/ 573 ح (6716)
(2) سنن الدارقطني 2/ 278/194، السنن الكبرى للبيهقي 5/ 245، شعب الإيمان للبيهقي 3/ 49.
(3) الزيارة والتوسل، سلسلة المعارف الإسلامية، ص 32.
(4) الزيارة والتوسل، سلسلة المعارف الإسلامية، ص 32.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/269)
(عبيد الله)(1)، وهكذا في رواية البيهقي بإسناده الذي يلتقي مع إسناد الدارقطني في عبيد بن محمد الوراق، وفيه (عبيد الله) المصغر (2).
قال آخر: وللحديث رواية أخرى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب من طريق آخر، أخرجها البزار في مسنده، قال: حدثنا قتيبة، ثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، ثنا عبدالرحمن بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري حلت له شفاعتي)، وقد قال فيه الهيثمي: (وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف)(3).
قال آخر: وبذلك فإن هذا الحديث، وانطلاقا من وثاقة جميع رواته، لا يشكك في صحته وقبوله إلا من يعتمد مزاجه ومذهبه، لا الموضوعية العلمية، ولذلك نرى شيوخكم يذكرون طرق الحديث الضعيفة، ويتركون القوية، حتى يوهموا القارئ أنه ليس لذلك الحديث إلا تلك الطريق.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة)(4)، وقد اتفق على رواية هذا الحديث بصيغ مختلفة كلا المدرستين السنة والشيعة، في نفس الوقت الذي اجتهد فيه شيوخكم في رفضه مستعملين كل ما لديهم من مناهج في ذلك.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك هذا المنهج الذي اعتمده ابن تيمية، والذي يبدع شيوخكم من يستعمله، باعتباره يستعمل عقله مع النصوص، فقد قال في كتابه [التوسل والوسيلة]: (إن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته، وكان مؤمنا به،
__________
(1) شفاء السقام، السبكي، ص 2.
(2) شعب الإيمان، 3/ 490.
(3) مجمع الزوائد، 4/ 2.
(4) الدارقطني في سننه (2/ 278)، البيهقي في شعب الإيمان (3/ 488) والمحاملي والساجي كما في الميزان، وعلقه بن عبد البر في الاستذكار. قال ممدوح: ولكن الضعف في هذا الحديث غير شديد، بل ضعفه قريب ويحتج الفقهاء بمثله في إثبات مشروعية أمر ما، ودونك كتب الفقه لتتحقق من صحة مقولتي، فكيف ولأحاديث الزيارة طرق بعضها من شرط الحسن.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/270)
كان من أصحابه، لاسيما إن كان من المهاجرين إليه، المجاهدين معه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .. والواحد من بعد الصحابة لايكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه. وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه هو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب، فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟)(1)
قال آخر (2): مع أن هناك الكثير من الأدلة التي تبين مدى قوة الحديث، خاصة إذا انضم إلى غيره من الأدلة التي ذكرناها سابقا، ومنها أن الحديث رواه الدارقطني عن أبي عبيد، والقاضي أبي عبد الله، وابن مخلد، قالوا: حدثنا محمد بن الوليد البسري، حدثنا وكيع، حدثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون، عن الشعبي والأسود بن ميمون، عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة)(3)، وهكذا رواه البيهقي في (السنن) و (شعب الإيمان)(4)، وأخرجه ابن عساكر بالإسناد نفسه: حدثنا وكيع بن الجراح، عن خالد وابن عون، عن هارون بن قزعة مولى حاطب، عن حاطب (5)، وقد قال الذهبي عن إسناد هذا الحديث: (إنه أجود أحاديث الزيارة إسنادا)، وأقره السخاوي في (المقاصد الحسنة) والسيوطي في (الدرر المنتثرة)(6)
__________
(1) التوسل والوسيلة (ص 134)
(2) الزيارة والتوسل، ص 41.
(3) سنن الدارقطني 2/ 287/193.
(4) السنن الكبرى 5/ 245، شعب الإيمان 3/ 488.
(5) مختصر تاريخ دمشق 2/ 406.
(6) المقاصد الحسنة، 413، الدرر المنتثرة، 173، شفاء السقام، 103.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/271)
قال آخر: ومما يقوي الحديث ما روي من طريق آخر عن الإمام علي، رواه أبو الحسين يحيى بن الحسن ابن جعفر الحسيني في كتاب [أخبار المدينة] قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبو أحمد الهمداني، حدثنا النعمان بن شبل، حدثنا محمد بن الفضل سنة ست وسبعين، عن جابر، عن محمد بن علي، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فكأنما جفاني)(1)
قال آخر: ومما يقوي الحديث ما روي من طريق آخر عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي، ومن زارني كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة)(2)
قال آخر: ومما يقوي الحديث ما روي من طريق آخر عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة)، وقد أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) والعقيلي في (الضعفاء الكبير)، وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات (3)، أما العقيلي، فلم يزد عند الحكم عليه بالضعف على ما نقله عن البخاري: (لا يتابع عليه)(4)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر أن في هذا الإسناد تصحيفا، فهو (رجل من آل حاطب)(5)، مثل الذي ذكرناه من رواية الدارقطني عن هارون بن قزعة نفسه عن رجل من آل حاطب، عن حاطب.
قال آخر: ومن الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على شرعية الزيارة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا)، وقد رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي
__________
(1) نقلا عن: شفاء السقام، 39.
(2) شفاء السقام: 35، 36.
(3) الثقات لابن حبان 7/ 580.
(4) الضعفاء الكبير 4/ 361 رقم 1973.
(5) شفاء السقام: 32.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/272)
وغيرهم (1)، وقد نقل ابن الجوزي رواية ابن أبي الدنيا في كتابه (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن) ومن خطه نقله السبكي (2).
قال آخر: ورواه البيهقي بإسناده ويلتقي مع الأول في إسماعيل بن أبي فديك، عن سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة)(3) .. وله إسناد آخر هو: أبو عوانة موسى بن يوسف القطان، عن عباد بن موسى الختلي، عن ابن أبي فديك، عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك ..
قال آخر: وبذلك دارت الطرق الثلاثة على ابن أبي فديك، وسليمان بن يزيد الكعبي: فأما سليمان الكعبي، فهو التابعي يروي عن أنس، وقد طعن فيه أبو حاتم الرازي، فقال: منكر الحديث، ليس بقوي، غير أن ابن حبان ذكره في الثقات (4) .. وأما محمد بن إسماعيل بن أبي فديك فهو مجمع على وثاقته، وقد روى عنه الشافعي وأحمد والحميدي وغيرهم، وأخرج حديثه الستة (5) .. وبذلك، فإن هذا الحديث لا يهبط عن درجة الحسن الغريب.
قال آخر: وله بالإضافة إلى ذلك شواهد تقويه منها ما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلمقال: (من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا ـ أو قال ـ شفيعا)(6)، وما روي ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من زارني إلى المدينة كنت له شهيدا أو شفيعا)(7)
قال آخر: ومن الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على شرعية الزيارة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
__________
(1) انظر: البيهقي في شعب الإيمان (3/ 488)، وحمزة بن يوسف السهمي في تاريخ جرجان (ص 434) ومن طريقه السبكي في شفاء السقام (ص 35)، وابن أبي الدنيا في (كتاب القبور)
(2) شفاء السقام: 36، 37.
(3) شعب الإيمان 3/ 490/4158.
(4) الثقات لابن حبان 6/ 395.
(5) تهذيب التهذيب 9/ 52/62.
(6) الضعفاء الكبير، للعقيلي 3/ 457.
(7) الدارقطني في السنن 2/ 278/194.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/273)
(ليهبطن عيسى بن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، وليسلكن فجاً حاجاً أو معتمراً أو بنيتيهما، وليأتين قبري حتى يسلم علي ولأردن عليه)، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، ووافقه الذهبي (1).
قال آخر: ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بهذا اللفظ: (والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم، إماماً مقسطًا، وحكماً عدلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليصلحن ذات البين، وليذهبن الشحناء، وليعرضن عليه المال فلا يقبله، ثم لئن قام على قبري فقال: يا محمد لأجبته)(2)
قال آخر: وذكر الهيثمي في تخريجه له أن (رجاله رجال الصحيح)(3)، وقد ذكر الشيخ المحدث محمود سعيد ممدوح أنه بحث في الحديث فوجد أنه حسن على الأقل، خاصة مع وجود الطريق الذي في مسند أبي يعلى الموصلي، والذي لم يقف عليه الألباني فقصر كلامه على الحديث في ضعيفته على إسناد الحاكم فقط فأخطأ.
قال آخر: وذكر أن الألباني مع سعيه المستميت في إنكار أحاديث الزيارة ولو بالتحاكم إلى تشدد وشذوذ ابن عبد الهادي، تنازل، فأورد الحديث من رواية أبي يعلى الموصلي في سلسلته الصحيحة، وقال عنه: (وهذا إسناد جيد)(4)
قال آخر: ثم قال بعد كلام: (والجملة الأخيرة لها طريق أخرى عنه بلفظ: وليأتين قبري حتى يسلم علي، ولأردن عليه .. أخرجه الحاكم وصححه الذهبي وغيرهما من المتأخرين، وفيه علتان بينتهما في الضعيفة تحت الحديث (5540)، لكن لعله يصلح شاهداً للطريق الأولى)، وإذا كان كذلك فهذا مصير منه إلى تقوية ما ضعفه، فعليه أن يخرج هذا
__________
(1) الحاكم في المستدرك (2/ 595)
(2) أبو يعلى الموصلي في مسنده (حديث رقم 6584)
(3) مجمع الزوائد/8/ 211)
(4) السلسلة الصحيحة، (2733)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/274)
القوي من ضعيفته.
قال آخر: وهذا الحديث وحده كافٍ لرد دعوى ابن تيمية ومن شايعه كابن عبد الهادي في زعم وضع أحاديث الزيارة، حتى وإن سلمنا بضعفه ـ وهو بعيد جداً ـ فما بالك إذ ضم للأحاديث المتقدمة.
قال آخر: ومن الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على شرعية الزيارة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي)، وقد رواه الدارقطني في (السنن)(1) من حديث أبي الربيع الزهراني، عن حفص بن أبي داود، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه بنفس الإسناد البيهقي والطبراني، وأبو يعلى، وابن عساكر (2).
قال آخر: وليس في أحد من رجال إسناد هذا الحديث كلام: فأما حفص بن أبي داود، وهو حفص بن سليمان القاراء صاحب القراءة المعتمدة، والمعروفة بـ (قراءة حفص عن عاصم)، فهو أخص الناس بعاصم بن أبي النجود شيخ أصحاب القراءات، وقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال البيهقي بعد أن أخرج الحديث: تفرد به عاصم، وهو ضعيف. وضعفه ابن حبان (3) .. وهذا التضعيف لا يؤثر في الحديث لأن تضعيف عاصم في الرواية مرتبط بالذاتية التي تعامل بها أصحاب الجرح والتعديل مع الرواة، فكيف يقبلون روايته لقراءة القرآن كله عن عاصم، ثم يعدونه في الضعفاء في رواية الحديث، ولو طبقنا هذا المقياس مع الكثير من رواة البخاري ومسلم وأصحاب السنن، لضعفنا الكثير من الأحاديث الصحيحة (4).
__________
(1) سنن الدارقطني 2/ 278/192.
(2) السنن الكبرى، البيهقي 5/ 246، المعجم الكبير 12/ 310/13497، مختصر تاريخ دمشق 2/ 406، نيل الأوطار 5/ 108.
(3) الكامل في الضعفاء 3/ 789، 790، السنن الكبرى 5/ 246، المجروحين/ابن حبان 2/ 250.
(4) الزيارة والتوسل، ص 46.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/275)
قال آخر (1): بالإضافة إلى أن الضعف المنسوب إلى حفص بن سليمان لا يتجاوز حدود الضبط، أو الرواية عن الضعفاء، وهذه العلة ساقطة هنا، لأنه أسند هذا الحديث إلى ثقات مجمع على وثاقتهم عند أهل الجرح والتعديل: ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر.
قال آخر (2): بالإضافة إلى أن ابن حبان ذكر رجلين باسم حفص بن سليمان، أحدهما المقراء وهو هذا، والآخر حفص بن سليمان، وهو ابن أبي داود المذكور في الإسناد، وهو ثقة ثبت، قال السبكي: فإن صح مقتضى كلام ابن حبان زال الضعف المذكور (3).
قال آخر (4): بالإضافة إلى أن أحمد بن حنبل دافع عنه في روايتين، فقد روى الأولى عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن حفص بن سليمان المنقري ـ وهو المقراء ـ فقال: (هو صالح)، وأما الثانية فرواها حنبل بن إسحاق، قال: قال أبو عبد الله (أحمد بن حنبل): (ما كان بحفص بن سليمان المنقري بأس)(5)
قال آخر (6): بالإضافة إلى أن هذا الحديث لم يتفرد به حفص كما ذكر البيهقي، فقد روي عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد عن ابن عمر من طريق آخر عن سبط ليث بن أبي سليم وزوجته: قال سبطه الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم: حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)(7)، وبذلك يزول كل ضعف ينسب إلى الحديث، والاختلاف الوارد في اللفظ بين: (من حج فزار قبري) كما في رواية حفص،
__________
(1) الزيارة والتوسل، ص 46.
(2) الزيارة والتوسل، ص 46.
(3) شفاء السقام، 24، 25.
(4) الزيارة والتوسل، ص 46.
(5) شفاء السقام، 25.
(6) الزيارة والتوسل، ص 46.
(7) الطبراني في المعجم الكبير 12/ 406/13496، وفي حاشية أخرجه المحقق عن المعجم الأوسط أيضا، 1/ 201/157.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/276)
وبين (من زار قبري) لا تمس في دلالة الحديث على استحباب زيارة قبره الشريف وفضيلتها، والنص بعدها متطابق تماما.
قال آخر (1): بالإضافة إلى أن للحديث شواهد، منها حديث النعمان بن شبل، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)
قال القاضي: يكفي هذا .. فحدثونا عن الصنف الثالث من الأحاديث.
قال أحد التلاميذ: الصنف الثالث هو ما ورد من الأحاديث التي تعلق بها شيوخكم، والتي قد يفهم منها ـ بادئ الرأي ـ حرمة بناء المزارات، وحرمة زيارتها، بل اعتبار ذلك بدعة وشركا.
قال آخر: ومنها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد)(2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة حين ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما رأت فيها من الصور: (أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)(3)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)(4)
قال آخر: وقد جمع شيوخنا (5) بين هذه الأحاديث وبين الأحاديث السابقة، وما ورد
__________
(1) الزيارة والتوسل، ص 46.
(2) ابن حبان (6/ 95)
(3) البخاري (1/ 117)
(4) مسلم (2/ 67)
(5) انظر هذه العلل مفصلة مع أدلتها في: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 11، وما بعدها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/277)
في القرآن الكريم بوجوه من الجمع، منها أن الله تعالى حكى مشروعية البناء عن المؤمنين في سورة الكهف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حكاه عن اليهود والنصارى وفرق بين حال الفريقين، فإن المؤمنين فعلوا ذلك للتبرك بآثار الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الآية وحفظ أرواحهم وأجسامهم تلك القرون الطويلة، بينما اليهود والنصارى يفعلون ذلك للعبادة والإشراك مع الله تعالى؛ فالدليلان غير متواردين على محل واحد، ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد يعبدون فيها تلك القبور ويسجدون إليها أو يجعلونها قبلة لاتخاذهم الأنبياء شركاء مع الله تعالى فيما يستحقه من العبادة.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لو كان كل من بنى على المسجد قبراً ولو للتبرك والزيارة ملعوناً كما في الحديث لكان هؤلاء المؤمنون الذي حكى الله عنهم ملعونين أيضاً داخلين في لعنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من فعل الذي حكاه الله عنهم، ولو كانوا كذلك لكان سكوت النص القرآني عن ذمهم ولعنهم والإشارة إلى ضلالهم وخروجهم عن الصراط المستقيم فيما أتوا كما عرف من عادته في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تماثيل)(3)، فاتخاذهم الصور والتماثيل فيه دليل على أنهم يفعلون ذلك لأجل عبادتهم، وقد شهد العيان بذلك وأثبت التاريخ مثله، وأنهم ابتدأوا عبادة الأصنام بعبادة صور الصالحين وقبورهم، وهذا لا يوجد منه شيء عند المسلمين.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن النهي معلل بخشية العبادة، وكما هو مصرح به
__________
(1) إحياء المقبور، ص 29.
(2) إحياء المقبور، ص 29.
(3) مسند إسحاق بن راهويه، (2/ 264)
(4) إحياء المقبور، ص 29.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/278)
في الحديث نفسه فلا يكون تشريعاً عاماً في كل زمان، بل هو التشريع المؤقت بزمن خشية وجود العلة، وهو زمن قرب عهد الناس بالإشراك دون الزمان الذي لم يعد أهله شركاً ولا دار في خلدهم شيء منه، بل نشأوا على الإيمان واليقين والتوحيد واعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، فهو غير معارض لدليل الكتاب العام في كل زمان، بل هو مخصص لعمومه بزمن ارتفاع خشية العبادة، وهو زمن استقرار الإيمان وانتشار التوحيد ورسوخ العقيدة رسوخاً لا يتطرق معه أدنى خلل ولا شك في وحدانية الله تعالى وتفرده بكل معاني الألوهية والربوبية.
قال آخر: وقد ذكر الغماري أن (مثل هذا في الشريعة كثير جداً وهو التشريع المؤقت الذي يشرع لعلة ثم يزول بزوال علته، إلى أنه تارة يكون منصوصاً عليه من الشارع نفسه وهو الناسخ والمنسوخ، وتارة لا ينص الشارع على زوال الحكم ونسخه لاحتمال وجود العلة في كل وقت، ولكنه يشير إلى أن ذلك الحكم غير لازم على الدوام إنما يلزم عند وجود علته فيقول أو يفعل ما يخالف الحكم الأول حتى يظن في بادئ النظر أن بين الأمرين تعارضاً)(1)
قال آخر: وضرب مثالا على هذا بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور (2) أولاً لما كانوا قريبي عهد بالشرك، فلما استقر الإيمان في نفوسهم أباح لهم زيارتها للاعتبار والتذكر والزهد في الدنيا، وكذلك نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وعن ادخارها لأجل مجاعة ألمت بالناس، فلما ذهبت قال: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور وأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وعن نبيذ الأوعية ألا فزوروا القبور فإنها تزهد فى الدنيا وتذكر الآخرة، وكلوا
__________
(1) إحياء المقبور، ص 33.
(2) نص الحديث كما في (صحيح مسلم (3/ 65): (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحى فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا فى سقاء فاشربوا فى الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (1/279)
لحوم الأضاحي وأبقوا ما شئتم فإنما نهيتكم عنه إذا لخير قليل فوسعه الله على الناس ألا إن وعاء لا يحرم شيئا وإن كل مسكر حرام)(1)
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الخلاف في جواز البناء حول القبور نشأ نتيجة الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أولا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً، فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه، ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي، بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف، ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بين المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع (3).
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القائل بكراهة البناء فهم أن النهي عن البناء عام، والدليل يدل على أنه خاص بالبناء الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف (على) الموضوع للاستعلاء، فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر، ف