×

الكتاب:القرآن.. وتحريف الغالين ج2

الوصف: رواية حول الدعوة للتعامل المقاصدي مع القرآن الكريم

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1443 هـ

عدد الصفحات: 527

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72146-0

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو الجزء الأول من أجزاء ثلاثة من هذه السلسلة تحاول أن تصحح الأخطاء الكبرى التي وقعت أثناء التعامل مع القرآن الكريم، وهي التي أشار إليها الحديث المعروف المشهور، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)

وبناء على هذا؛ فإن هذا الجزء يعالج المبالغات والغلو الذي ارتبط ببعض العلوم القرآنية، أو الفهوم المتعلقة به، والتي صرفت عن التدبر الحقيقي للقرآن الكريم، وجعلت من أولئك الغلاة، مثل الذي يهتم بالقشر أكثر من اللباب، وبالأجزاء أكثر من الكل.

ولذلك؛ فهو لا يدعو لطرح تلك العلوم أو الفهوم طرحا كليا، وإنما يدعو إلى تصحيحها، ونفي الغلو عنها، ووضعها في محالها المناسبة، حتى لا تكون سببا يصرف عن تدبر القرآن الكريم، أو يؤثر في فاعليته في الواقع.

وقد رأينا أنه يمكن انحصار تلك المبالغات في سبعة قضايا وعلوم كبرى، هي: الرسم والإملاء .. والتجويد والقراءات .. وأسباب النزول .. ومحال النزول .. ومصاديق التنزيل، أو ما يطلق عليه [الجري والتطبيق] .. والناسخ والمنسوخ .. وعقبات التأويل، وقد تناولنا فيه سبع عقبات كبرى، هي: عقبة الفضول، وعقبة الخرافة، وعقبة الوهم، وعقبة المحدودية، وعقبة الحرفية، وعقبة الأهواء، وعقبة الدجل.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/10 )

تقديم

هذا هو الجزء الثاني من كتاب [القرآن وتحريف الغالين]، وهو يتضمن ما يلي:

الفصل الرابع ـ القرآن .. ومحال النزول: وقد تناولنا فيه الاهتمام المبالغ فيه بما يطلق عليه [المكي والمدني]، وبينا كيفية الاستثمار الصحيح لها.

الفصل الخامس ـ القرآن .. ومصاديق التنزيل: وقد تناولنا فيه خصوصا ما يطلق عليه [الجري والتطبيق]، وخصوصا في تطبيقاته الخاطئة التي قام بها غلاة الشيعة الذين حملوا كل آيات القرآن الكريم على أئمة الهدى، من غير مراعاة أي مناسبة تدعو إلى ذلك .. وقد بينا فيه أقوال العلماء العدول من الشيعة في الرد على تلك المبالغات، سواء من خلال نقد أسانيدها، أو من خلال بيان تفسيراتهم لتلك الآيات.

الفصل السادس ـ القرآن .. وتعطيل التنزيل: وقد تناولنا فيه بتفصيل شديد ما يطلق عليه [الناسخ والمنسوخ]، وبينا أنه ـ بأنواعه جميعا ـ معارض لتفعيل القرآن الكريم في الواقع، ثم استعرضنا كل الآيات التي قيل بنسخها، وبينا إمكانية الاستفادة منها، وتفعيلها فيما نزلت من أجله.

الفصل السابع ـ القرآن .. وعقبات التأويل: وقد تناولنا فيه العقبات الكبرى التي وقع فيها المفسرون، وقد رأينا أنها سبعة عقبات، ذكرنا نماذج عن كل واحدة منها، لأننا سنستعرض تفاصيلها في سائر الأجزاء، وهي:

1 ـ عقبة الفضول: ونقصد بها التكلف في البحث عن القضايا والأخبار التي لم يرد في القرآن الكريم تفصيلها، ولم تكن هناك حاجة تدعو إلى ذلك.

2 ـ عقبة الخرافة: ونقصد بها الخرافات التي ألصقت بالقرآن الكريم، وجعلته

القرآن.. وتحريف الغالين (2/11)

يتعارض مع العقل أو العلم.

3 ـ عقبة الوهم: ونقصد بها تلك الأوهام التي تسربت خصوصا إلى التفاسير الباطنية؛ فجعلت للكشف والإلهام دورا في تفسير القرآن الكريم من غير أي دليل أو حجة.

4 ـ عقبة المحدودية: ونقصد بها ما تعلق به المتأثرون بالتفسير المأثور من قصر فهم القرآن الكريم على سلف الأمة دون خلفها.

5 ـ عقبة الحرفية: ونقصد بها ما نشأ عن التعلق بالظواهر القرآنية، من انحرافات ترتبط بالتجسيم والتشبيه ونحوها.

6 ـ عقبة الأهواء: ونقصد بها تلك التفاسير التي انطلق فيها أصحابها من تعصبهم لطوائفهم؛ فجعلوه متحكما في القرآن الكريم، وحاكما عليه.

7 ـ عقبة الدجل: ونقصد بها ربط القرآن الكريم بالشعوذة والدجل، كنوع من الاستغلال الخاطئ لما ورد فيه من البركات وتحقيق الشفاء ونحوهما.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/12)

رابعا ـ القرآن .. ومحال النزول

في صباح اليوم التالي، وجدت نفسي في شارع آخر، لم يكن يختلف كثيرا عن الشارع السابق، إلا أني لاحظت بدل الاهتمام بأسباب النزول، اهتماما مبالغا فيه بمحال النزول، وأماكنها، وخصوصا بما يطلق عليه [المكي والمدني]، والخلاف الوارد في بعض السور والآيات إلى حد الجدل والصراع الصارف عن التدبر والتأثر والانفعال.

1. تصنيفات وتحقيقات

لكن ـ مع ذلك ـ سمعت الكثير من الحوارات العلمية الطيبة التي يمكن أن يستفاد منها في تدبر القرآن الكريم والتعرف على الظروف التي نزل فيها، والتي قد لا تختلف عن ظروف أخرى يمر بها المتدبر للقرآن الكريم، ويستعين بذلك على فهمه وتطبيقه الجيد لظروف النزول على ظروف واقعه.

المفهوم والحدود

ومن تلك الحوارات الجميلة النافعة، أني التقيت في بعض حدائق ذلك الحي صبيان، يقول أحدهما لصاحبه: ما الذي تراه في تحديد مفهوم المكي والمدني .. هل ترى اعتبار الزمان أم المكان؟

قال الثاني: أنا أرى اعتبار الزمان .. فالمكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني هو ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، في سفر أو في حضر (1) ..

__________

(1) البرهان 1/ 178.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/13)

وقد روي هذا التعريف عن يحيى بن سلام البصري المفسر، حيث قال: (ما نزل بمكة وما نزل بطريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني)(1)

قال الأول: أما أنا؛ فأرى أن التعريف المناسب هو تعريفه بحسب المكان؛ فالمكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة (2) .. وقد قسّم هبة الله بن سلامة المفسر البغدادي المكي إلى قسمين، هما: المكي الأول، وهو ما نزل في مكة قبل الهجرة، والمكي الأخير: وهو ما نزل فيها بعد الفتح (3).

قال الثاني: لكن التعريف الأول أكثر فائدة، وأكثر ارتباطا بالواقع .. ذلك أن المسلمين كانوا في تلك الفترة مستضعفين مظلومين، بخلاف حالهم في الفترة الثانية، والتي شملت وجودهم في مكة أو المدينة.

قال الأول: من هذه الناحية لك الحق في ذلك .. فالمكي يمثل فترة استضعاف المسلمين، والمدني يمثل فترة خروجهم من ذلك الاستضعاف .. ثم تحولهم تدريجيا إلى قوة معتبرة يحسب لها ألف حساب.

قال الثاني (4): نسيت أن أذكر لك أن هناك تعريفا آخر للمكي والمدني، وهو أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة .. ويروى عن عبد الله بن مسعود، فقد روي عنه قوله: (كل شيء نزل فيه: {يا أيها الناس} فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه {يا أيها الذين آمنوا} فهو بالمدينة)(5)

__________

(1) الداني: كتاب البيان/132.

(2) البرهان 1/ 178.

(3) الناسخ والمنسوخ/322.

(4) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 56.

(5) البرهان: 1/ 189 ـ 190.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/14)

قال الأول (1): لكن هذا الأثر ليس صالحا للاستدلال لهذا المذهب، لأن ابن مسعود لم يقصد وضع ضابط وتعريف للمكي والمدني، إنما أراد بيان علامة من علامات القرآن المكي والمدني، أو تفسيرا لبيان المراد بهذا الخطاب، وهو أمر أغلبي ليس مضطردا دائما.

قال الثاني (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هذا المذهب في تفسير المكي والمدني أضيق من غيره، لأنه قد تقيد بالأشخاص المعينين في أمكنة معينة، وتقيد بموضوع معين هو ما كان فيه خطاب من آيات القرآن، فبقي القسم الأكبر من القرآن خارج هذا المنهج في تعريف المكي والمدني.

قال الأول (3): نسيت أن أذكر لك أيضا أنه يندرج في ضمن المكي والمدني أنواع كثيرة من البحوث المتصلة بالظروف المحيطة بنزول القرآن كالسفري والحضري، والليلي والنهاري، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وغيرها من البحوث التي تدل على الاعتناء العجيب الذي أحيط به القرآن الكريم، وتوفير وسائل دراسته من جميع الجهات.

قال الثاني: هيا بنا نراجع ترتيب سور القرآن الكريم بحسب تاريخ نزولها ومحله .. فلاشك أن الأستاذ سيمتحننا عنها اليوم.

قال الأول: هيا .. فلنبدأ بالسور المكية؛ فأنا أحفظها جيدا .. فقد قال مجد الدين الفيروز آبادي في ترتيبها: (اتفقوا على أن أول السور المكية اقرأ باسم ربك الذي خلق، ثم ن والقلم وما يسطرون، ثم سورة المزمل، ثم سورة المدثر، ثم سورة تبت، ثم إذا الشمس

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 56.

(2) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 56.

(3) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 56.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/15)

كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعصر، ثم والعاديات، ثم الكوثر، ثم ألهاكم، ثم أرأيت، ثم الكافرون، ثم ألم تر كيف فعل، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم، ثم عبس، ثم القدر، ثم والشمس وضحاها، ثم البروج، ثم والتين، ثم لإيلاف، ثم القارعة، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة لمزة، ثم والمرسلات، ثم ق والقرآن المجيد، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم والسماء والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قل أوحى، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة (فاطر)، ثم مريم، ثم طه، ثم الواقعة، ثم الشعراء، ثم النمل، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم عسق، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم سورة نوح، ثم سورة إبراهيم، ثم سورة الأنبياء، ثم قد أفلح المؤمنون، ثم الم السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك، ثم الحاقة، ثم سأل سائل، ثم عم يتسآءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم المطففين .. فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة، وبهذا الترتيب (1).

قال الثاني: ولا تنس ما ذكره الزركشي بعد ذكر هذا الترتيب، فقد قال ـ بعد ذكر سورة الروم ـ: (واختلفوا في آخر ما نزل بمكة، فقال ابن عباس: العنكبوت .. وقال الضحاك وعطاء: المؤمنون .. وقال مجاهد: ويل للمطففين .. فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة، وعليه استقرت الرواية من الثقات، وهي خمس وثمانون سورة)(2)

__________

(1) بصائر ذوي التمييز (1/ 98 ـ 99)

(2) البرهان في علوم القرآن (1/ 193 ـ 194)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/16)

قال الأول: لقد سردت عليك ما حفظته من ترتيب السور المكية؛ فاسرد علي ما تحفظه من ترتيب السور المدنية.

قال الثاني: لقد ذكروا أن أول ما نزل بالمدينة: سورة البقرة، ثم سورة الأنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم زلزلت، ثم الحديد، ثم سورة محمد، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم هل أتى على الإنسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم التحريم، ثم الجمعة، ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم التوبة، ثم المائدة .. وقد قال الفيروز آبادي بعد ذكره لها: (فهذه جملة ما نزل بالمدينة. ولم نذكر الفاتحة لأنه مختلف فيها: قيل أنزلت بمكة، وقيل بالمدينة؛ وقيل بكل مرة)(1) .. وقد رجح لنا الأستاذ أنها نزلت بمكة المكرمة، ورد ردا شديدا على من زعم أنها نزلت بالمدينة، أو نزلت مرتين.

قال الأول: كما أنه رد بشدة (2) على ما رواه النحاس في [الناسخ والمنسوخ] عن أبي عمرو بن العلاء، قال: سألت مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي فقال: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: (سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: قل تعالوا أتل إلى تمام الآيات الثلاث .. وما تقدم من السور مدنيات .. ونزلت بمكة: سورة الأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل ـ سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرفه من أحد ـ وسورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج ـ سوى ثلاث آيات: هذان

__________

(1) بصائر ذوي التمييز (1/ 99)

(2) سنعرض للردود المرتبطة بالاستثناءات المتعلقة بالآيات في محله من هذا الفصل.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/17)

خصمان إلى تمام الآيات الثلاث فإنهن نزلن بالمدينة ـ وسورة المؤمنين والفرقان وسورة الشعراء ـ سوى خمس آيات من أخراها نزلن بالمدينة: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها ـ وسورة النمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان ـ سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام إلى تمام الآيات ـ وسورة السجدة ـ سوى ثلاث آيات: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا إلى تمام الآيات الثلاث ـ وسورة سبأ وفاطر ويس والصافات وص والزمر ـ سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة: قل يا عبادي الذين أسرفوا إلى تمام الثلاث آيات ـ والحواميم السبع وق والذاريات والطور والنجم والقمر والرحمن والواقعة والصف والتغابن ـ إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة ـ والملك ون والحاقة وسأل وسورة نوح والجن والمزمل ـ إلا آيتين: إن ربك يعلم أنك تقوم ـ والمدثر إلى آخر القرآن، إلا إذا زلزلت وإذا جاء نصر الله وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فإنهن مدنيات. ونزل بالمدينة سورة الأنفال وبراءة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد وما بعدها إلى التحريم)(1)

الميزات والخصائص

ومنها أني مررت على فتاتين تتحدثان، قالت إحداهما: أنا لم أتعجب من شيء في المصاحف، كتعجبي لوضع محل نزول السور القرآنية .. فكيف تسنى لهم معرفة ذلك، مع أنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي حديث يبين مكية أي سورة أو مدنيتها؟

قالت الثانية: صدقت فيما ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وهو يدل على أن الاهتمام بالمكي والمدني ليس من أصول المعارف القرآنية .. وإنما هو اجتهاد، ودليل على الحرص على

__________

(1) الإتقان في علوم القرآن (1/ 39 ـ 40)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/18)

التعرف على الظروف التي نزل فيها القرآن الكريم.

قالت الأولى: فكيف تسنى لهم معرفة ذلك؟

قالت الثانية: ذلك بسيط جدا .. وقد شرحه القاضي أبو بكر الباقلاني بقوله: (إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة التابعين، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك قول، لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)(1)

قالت الأولى: فالطريق لمعرفة المكي والمدني من سور القرآن الكريم إذن محصور في ما ورد في الروايات؟

قالت الثانية: أكثره كذلك .. فقد روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: (كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سرّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فجعلت أسأل أبيّ بن كعب يوما، وكان من الراسخين في العلم، عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة)(2)

ومنها ما روي عن ابن مسعود قال: (والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت)(3)

قالت الأولى: كيف تذكرين أن أكثره كذلك .. فهل يمكن معرفة مثل هذا بالاجتهاد؟

__________

(1) نقلا عن السيوطي: الاتقان 1/ 23.

(2) الطبقات الكبرى 2/ 371.

(3) البخاري: 6/ 186 ـ 187 ومسلم: 7/ 148.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/19)

قالت الثانية: هو ليس اجتهادا بمعنى الاجتهاد الذي تستنبط به الأحكام، وإنما هو نوع من القياس الذي يعتمد على جملة من الضوابط التي استخلصها العلماء من الروايات المنقولة عن عدد من الصحابة والتابعين في بيان خصائص السور المكية والسور المدنية.

قالت الأولى: فهلا ذكرت لي طرفا منها.

قالت الثانية: منها ما روي عن عبد الله بن مسعود، قال: (كل شيء في القرآن {يا أَيُّهَا النَّاسُ} أنزل بمكة، وكل شيء في القرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أنزل بالمدينة)(1) .. وقد لاحظ العلماء بناء على هذا أن {يا أَيُّهَا النَّاسُ} منه مكي ومنه مدني، لكن أكثره مكي (2).

قالت الأولى: أجل .. فمع أن سورة البقرة مدنية إلا أن فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]

قالت الثانية: ومثلها سورة النساء، ففيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 170]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]

قالت الأولى: ومثلها سورة الحج، ففيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ

__________

(1) الحاكم: المستدرك 3/ 18، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 144.

(2) الزركشي: البرهان 1/ 188.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/20)

زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج: 49] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]

قالت الثانية: ومثلها سورة الحجرات، ففيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]

قالت الأولى: وعيت هذا .. فهل هناك ضوابط أخرى غير هذه؟

قالت الثانية (1): أجل .. لكنها ليست منضبطة دائما.

قالت الأولى: فهلا ذكرت لي طرفا منها .. فإني أرى الكثير من زميلاتي يسخرن مني بسبب جهلي بهذه الأمور.

قالت الثانية (2): لا حرج عليك .. فتدبر القرآن الكريم لا يستلزم كل هذه التفاصيل .. لكن مع ذلك سأذكر لك طرفا منها .. وأولها أن كل سورة فيها الاستفتاح بالحروف المقطعة مكية سوى الزهراوين: البقرة وآل عمران .. و كل سورة فيها {كلا}

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 58.

(2) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 58.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/21)

مكية .. وكل سورة فيها ذكر آدم وإبليس مكية سوى سورة البقرة .. وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية، لكن ليس على عمومه .. وكل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى العنكبوت.

قالت الأولى: فهل هناك غيرها؟

قالت الثانية (1): أجل .. فمن سمات أسلوب القرآن المكي الغالبة عليه أنه يغلب عليه قصر الآيات والسور .. وكثرة الفواصل القرآنية وقصرها، وتنوعها بما يتناسب مع المعاني والمواقف والصور .. وكثرة أسلوب التأكيد، والاعتناء بوسائل التقرير وترسيخ المعاني وتثبيتها، ولذلك كثر في المكي القسم، وضرب الأمثال، والتشبيه وتكرار بعض الجمل أو الكلمات.

قالت الأولى: فما الحكمة من اختيار هذا الأسلوب في السور المكية؟

قالت الثانية (2): لأن بداية التعريف بالإسلام كانت تقتضي ذلك، وخاصة بين قوم أصحاب عنجهية، وحمية جاهلية، فكان المناسب لهم النذر القارعة، والعبارات الشديدة الرادعة ليزدجروا عن غيّهم، ويسلسلوا قيادهم أمام التأكيدات والتخييلات الحسية، كما أن مضمون خطابات القرآن في مكة لا يختص بالمؤمنين، بل يتوجه للناس أجمعين، يحمل الدعوة إلى أصول الإيمان، فكان من المناسب أن يبرز في إعجازها عنصر الجانب الصوتي، والجرس الموسيقى، فتصخ آياته الآذان، وتستولي على المشاعر وتدعهم في حيرة ودهشة مما يسمعون، فلا يلبث البليغ منهم أن يلقي عصا العجز، بل يرسلها قولة صريحة تعلن إعجاز القرآن.

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 66.

(2) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 66.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/22)

قالت الأولى: ذكرت لي خصائص أسلوب السور المكية الغالبة عليها .. فما أسلوب السور المدنية الغالبة عليها؟

قالت الثانية (1): من سمات أسلوب القرآن المدني الغالبة عليه طول أكثر السور والآيات، كما هو واضح ظاهر من سورة البقرة وآل عمران مثلا .. ومنها أنها غالبا ما تسلك سبيل الهدوء، واللين في أسلوبها، واسترسال فواصلها.

قالت الأولى: فما الحكمة من اختيار هذا الأسلوب في السور المدنية؟

قالت الثانية (2):الحكمة في اختيار هذا الأسلوب اشتمال القرآن المدني على الموضوعات المرتبطة بأحكام الشريعة وغيرها، وهي تقتضي البسط والإسهاب، كما أن الخطاب في المدينة توجّه في أكثره للمؤمنين وذلك يناسب الهدوء واللين.

الموضوعات والمقاصد

ومنها أني مررت على كهلين يتحدثان، قال أحدهما لصاحبه: هلم بنا نتحدث عن موضوعات ومقاصد السور المكية والمدنية.

قال الثاني: لقد قمت أنا ببحث مفصل حول السور المدنية .. فهل قمت أنت بما اتفقنا عليه من البحث في السور المكية.

السور المكية

قال الأول: أجل .. لقد قمت بالبحث في الموضوعات التي اهتمت بها السور المكية؛ فوجدت أنه يمكن تصنيفها إلى خمسة مواضيع كبرى .. وطبعا هذا لا يعني انحصارها فيها، بل إن السور المكية تناولتها، ولكن بصورة أقل مما تناولته السور المدنية.

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 67.

(2) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 67.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/23)

قال الثاني: فما أولها؟

قال الأول (1): أولها تقرير أصول العقائد الإيمانية، بدعوة الخلق إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة .. والإيمان باليوم الآخر وما يتبع ذلك من الجزاء والجنة والنار .. وتقرير رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرسل من قبله، والإيمان بالملائكة عليهم السلام.

وإن شئت دليلا على ذلك يمكنك أن تقرأ سورة القصص المكية، ودعوتها لهذه الأصول؛ ففيها هذه الآيات التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 69 - 73]

ومثل ما ورد في الآيات الخاتمة من سورة إبراهيم، والتي تعرض بعضا من مشاهد القيامة، قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 47 - 52]

ومثل ذلك ما ورد في هذه الآيات من سورة ق المكية، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 59.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/24)

السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6 - 11]

ومثل ذلك ما ورد من الحجة البالغة في هذه الآيات الخاتمة من سورة القيامة المكية، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]

قال الثاني: بورك فيك، والأمثلة أكثر من أن يستوعبها هذا المجلس .. فما الثاني؟

قال الأول (1): الحملة على كل الديانات والأفكار المنحرفة .. مثل الشرك والوثنية، والإلحاد والدهرية، وإقامة الحجج والبراهين الدامغة على بطلان عقائدهم الزائغة .. ومن الأمثلة على ذلك هذه الآيات من سورة العنكبوت المكية، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]

وبما أن التقليد كان منبعا خطيرا من منابع الضلال، واحتج المشركون بما وجدوا عليه آباءهم، فقد عني القرآن الكريم بتوسيع آفاق العقل والفكر وأمر بالتفكر وحض على النظر

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 60.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/25)

والتعقل، وسفّه أحلامهم وأحلام آبائهم، حتى جعل التقليد الأعمى للآباء عارا وشنارا، يعتبر به المعتبر، فضلا عن تقليد الأعداء فيما يبتكرونه في الفكر من الأزياء .. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21] .. وقال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 22 - 25]

قال الثاني: بورك فيك .. فما الثالث؟

قال الأول (1): الاستدلال بدلائل الأنفس والأكوان على عظمة الله تعالى وسلطانه، ووجوب طاعته والانقياد له، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته، والإيمان بالقيامة والبعث بعد الموت .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة لقمان المكية: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] .. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 25 - 28]

ومثل ذلك هذه الآيات من سورة الأنعام المكية، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 61.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/26)

وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 95 - 99]

قال الثاني: بورك فيك .. فما الرابع؟

قال الأول (1): اعتناء القرآن المكي بقصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، حتى كاد ذلك أن يكون علامة تميزه، إذ لم يوجد قصص الأنبياء عليهم السلام في القرآن المدني إلا في سور قليلة، كقصة موسى عليه السلام وقومه في سورة البقرة والمائدة وهما مدنيتان، وقصة عيسى وموسى عليهما السلام في سورة آل عمران والصف وهما مدنيتان أيضا .. والحكمة في ذلك ظاهرة جدا، وهي من أسباب نزول القرآن الكريم منجما، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33] .. وقد كان لذلك أثر عظيم في تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ومواساتهم فيما كان يصيبهم، وإنذار أعدائهم، وإثارة العبرة والعظة بقصص من سبقهم.

وإن شئت أمثلة على ذلك؛ فاقرأ القصص الواردة في سور الأعراف، ويونس، وهود

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 62.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/27)

وغيرها تجد فيها أبلغ المواعظ وأنفع العبر لتقرير سننه تعالى في إهلاك أهل الكفر والطغيان وانتصار أهل الإيمان والإحسان.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في آخر قصة موسى مع فرعون في سورة غافر المكية: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 45 - 52]

قال الثاني: بورك فيك .. فما الخامس؟

قال الأول (1): إن القرآن المكي شرح أصول الأخلاق، وقواعد عامة في الاجتماع مما لا يختلف فيه حال ولا عقل، لكونها من البدهيات الظاهرة والمقوّمات الأساسية لإنسانية الإنسان، واطمئنانه بالإيمان، كالصدق، والبرّ، والصلة، وبرّ الوالدين، وإكرام الجار، وطهارة القلب واللسان، وغير ذلك .. وقد شرح القرآن تلك القيم ببيانه المعجز شرحا غرسها في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق، والظلم، ووأد البنات، والقتل والفواحش وغيرها.

ومن الأمثلة على ذلك هذه الآيات في الوصايا الأخلاقية والاجتماعية في سورة

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 63.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/28)

الإسراء المكية، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 23 - 39]

قال الثاني: بورك فيك، وجزاك الله خيرا على هذه المعلومات القيمة التي أفدتنيها.

السور المدنية

قال الأول: والآن جاء دورك .. لقد ذكرت لك ما رأيته في غالب السور المكية ..

القرآن.. وتحريف الغالين (2/29)

فاذكر لي أنت ما رأيته في غالب السور المدنية.

قال الثاني: لقد رأيت الغالب على السور المدنية الاهتمام بأربعة موضوعات كبرى.

قال الأول: فما أولها؟

قال الثاني (1): أولها بيان جزئيات التشريع وتفاصيل الأحكام العملية، في العبادات كأحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والمعاملات كالبيوع والأموال، والاجتماعيات كالزواج والطلاق والرضاع، والعقوبات كالحدود والقصاص كما هو ملاحظ في سورة البقرة والنساء والمائدة والنور.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في ذكر التشريعات المرتبطة بالطلاق في سورة البقرة المدنية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 231 - 232]

ومثلها قوله في التشريعات المرتبطة بالرضاعة والأولاد: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ

__________

(1) علوم القرآن الكريم، عتر، ص 64.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/30)

أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]

ومثلها قوله في التشريعات المرتبطة بالعدة ونحوها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234 - 235]

ومثلها قوله في التشريعات المرتبطة بالإرث في سورة النساء المدنية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]، وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]

ومثلها قوله في التشريعات المرتبطة بالطهارة في سورة المائدة المدنية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ

القرآن.. وتحريف الغالين (2/31)

وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .. وغيرها من الأمثلة الكثيرة.

قال الأول: وعيت هذا .. فما الثاني؟

قال الثاني: الثاني الاهتمام بدعوة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إلى الإسلام، وإقامة الحجج عليهم، مثلما أقيمت الحجج على المشركين والوثنيين في السور المكية.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في محاجة أهل الكتاب في سورة آل عمران المدنية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 64 - 71]

ومثل ذلك قوله في محاجتهم في سورة البقرة المدنية: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ

القرآن.. وتحريف الغالين (2/32)

لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 111 - 113]

ومثل ذلك قوله في محاجتهم في سورة المائدة المدنية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 18 - 19]، وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 64 - 66]

ومثل ذلك قوله في محاجتهم في سورة التوبة المدنية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31] .. وغيرها

القرآن.. وتحريف الغالين (2/33)

من الآيات الكثيرة .. مع العلم أنه قد يذكر أهل الكتاب في السور المكية، لكن بقدر محدود جدا، مقارنة بذكرهم في السور المدنية.

قال الأول: وعيت هذا .. فما الثالث؟

قال الثاني: الثالث وصف المنافقين، وكشف فضائحهم والتحذير من أساليبهم، لأن النفاق أخطر ما تبتلى به أي دعوة، حتى أنزلت سورة خاصة تحمل اسمهم.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة النساء المدنية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 61 - 62]، وقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 88 - 89]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 137 - 139]، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142 - 143]، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145 -

القرآن.. وتحريف الغالين (2/34)

146]

ومثل ذلك قوله تعالى عنهم في سورة التوبة المدنية: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 67 - 68]

لكن ذلك ليس عاما؛ فقد يرد ذكرهم في السور المكية، ولكنه ذكر محدود جدا، مقارنة بالسور المدنية، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت المكية: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11]

قال الأول: وعيت هذا .. فما الرابع؟

قال الثاني: الرابع بيان الأحكام الخاصة بالعلاقات بين الأمة الإسلامية وغيرها .. كالأحكام المتعلقة بالحرب، والسلم والصلح، والمعاهدات، والغنائم والأسرى، وقد ورد ذلك بصفة خاصة في سور البقرة والأنفال وبراءة والقتال والفتح والحشر.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال المدنية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 60 - 62]

ومثل ذلك قوله في سورة الممتحنة المدنية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ

القرآن.. وتحريف الغالين (2/35)

اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] .. وغيرها من الأمثلة الكثيرة.

2. اختلافات وخلافات

بعد أن سمعت كل تلك الحوارات النافعة المؤدبة .. انتقلت إلى محل آخر في الحي، وقد تعجبت من كثرة اللافتات التي علقت في محاله المختلفة .. وكلها كانت لافتات حول القرآن الكريم، لكنها كانت تكتفي منه بمحال النزول دون غيرها من المعاني .. فقد كان أمام كل آية أو سورة ذكر كونها مكية أو مدنية، والاكتفاء به، وكأنه هو الغاية الكبرى من الآية والسورة .. بل كنت أرى ذكر الخلاف الوارد في ذلك، وبالخطوط العريضة المزخرفة التي تزاحم السور نفسها.

سور مختلف فيها

ومن الأمثلة على ذلك أني مررت على محل كتب عليه سورة الفاتحة، وكتب أمامه (1): هذه سورة مكية .. وقال مجاهد: إنّها مدنيّة (2) .. وقال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد، لأنّ العلماء على خلاف قوله (3) .. ولقول الإمام عليّ: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش (4) .. و لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، وسورة الحجر مكيّة باتّفاق، وهذا إخبار عن ماض سبق .. و لأنّها أوّل سورة كاملة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم علّمه إيّاها جبريل عليه السلام، ومن ثم سميّت بفاتحة الكتاب، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بها، ولا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب.

__________

(1) التمهيد: 1/ 147.

(2) مجمع البيان: 1/ 17.

(3) الإتقان: 1/ 12.

(4) الإتقان: 1/ 12.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/36)

ورأيت أمام محل آخر كتب عليه بالبنط العريض اسم [سورة النساء]، وكتب أسفلها بخطوط مزخرفة مزينة (1): زعم النحّاس أنّها مكيّة، نظرا الى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]؛ فقد قال ابن جريح: إنّها نزلت بمكة عام الفتح بشأن مفتاح البيت الحرام، أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يدفعه الى العباس بن عبد المطلب فأمره اللّه أن يدفعه الى عثمان بن طلحة، حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذه منه (2) .. لكن المفسّرين اتفقوا على أنّها مدنيّة، نظرا لضعف إسناد هذا الحديث .. على أنّ نزول آية أو سورة بمكة عام الفتح لا يجعلها مكيّة، على الاصطلاح المشهور: ما نزل بعد الهجرة فهو مدنيّ ولو كان نزوله بمكة .. بالإضافة إلى أن السورة بكاملها لا تتّسم بسمة آية واحدة فيها، كان نزولها على غير نزول السورة.

ورأيت أمام محل آخر كتب عليه بالبنط العريض اسم [سورة يونس]، وكتب أسفلها بخطوط مزخرفة مزينة (3): في رواية شاذة عن ابن عباس: أنّها مدنية (4) .. ولم تثبت هذه الرواية، فضلا عن مخالفتها لما روي عن ابن عباس نفسه في ترتيب نزول السور.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الرعد]، وكتب أسفلها بخطوط مزخرفة مزينة (5): قال محمد بن السائب الكلبي ومقاتل وعطاء إنّها مكية .. وكذا في رواية رواها مجاهد عن ابن عباس .. ورجّح سيّد قطب هذا القول، فقال: (مكيّة هذه السورة شديدة الوضوح، سواء في طبيعة موضوعها أو طريقة أدائها أو في جوّها العام الذي لا

__________

(1) التمهيد: 1/ 148.

(2) مجمع البيان: 3/ 63.

(3) التمهيد: 1/ 148.

(4) الإتقان: 1/ 12.

(5) التمهيد: 1/ 148.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/37)

يخطئ تنسّمه من يعيش في ظلال هذا القرآن)(1) .. لكن روايات الترتيب اتفقت على أنّها مدنيّة نزلت بعد سورة محمد، كما جاء في رواية عكرمة والحسين بن أبي الحسن، ورواية خصيف عن مجاهد عن ابن عباس نفسه (2) .. وأمّا سياق السورة فإنّه توجيه عام للبشريّة الى آيات التوحيد، الأمر الذي تشترك فيها السور المكيّة والمدنيّة.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الحج]، وكتب أمامها (3): الأصح أنها مدنية، وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب: إنّها مكيّة (4) .. وروى ذلك عن مجاهد بسند فيه ضعف، قال: سألت ابن عباس عن نزول السور، حتى انتهى الى سورة الحج، فقال: أنزلت بمكة سوى الآيات الثلاث (19 و 20 و 21) نزلن بالمدينة (5) .. وأيضا فإنّ لهجتها الشديدة تناسب نزولها بمكة .. ورواية مجاهد ـ مع ضعف سندها ـ معارضة بروايات الترتيب المتفق عليها .. وأمّا اللهجة فهي غالبيّة وليست دائميّة، ومن ثم لا تصلح مستندا للحكم عليها.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الفرقان]، وكتب أمامها: سورة مكية، وزعم الضحّاك أنّها مدنية، نظرا لآيات في آخرها قيل فيها: انّها مدنية (6) .. وهذا لوحده لا يصلح دليلا على مدنيّتها بعد اتفاق روايات الترتيب على كونها مكية.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة يس]، وكتب أمامها (7): سورة مكية، وقيل: إنّها مدنيّة .. ولم يعرف هذا القائل ولا دليله الذي استند إليه .. والإجماع منعقد

__________

(1) في ظلال القرآن.: 13/ 63.

(2) الإتقان: 1/ 10.

(3) التمهيد: 1/ 149.

(4) الدر المنثور: 4/ 42.

(5) الإتقان: 1/ 9.

(6) الإتقان: 1/ 13.

(7) التمهيد: 1/ 150.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/38)

على أنّها مكيّة.

ورأيت أمام محل آخر [سورة ص] مكية .. وقيل: مدنيّة، وهو شاذّ مخالف للإجماع .. و [سورة محمد] مدنية، وفيها قول ضعيف: أنّها مكيّة، وهو غريب جدا .. و [سورة الحجرات]، قيل: إنّها مكية، وهي مدنيّة بالإجماع قولا واحدا (1).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الرحمن]، وكتب أمامها: مكيّة، لما رواه الترمذي والحاكم عن جابر قال: لما قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ، قال: ما لي أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا! ما قرأت من مرّة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] إلّا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد (2)، وقصة الجنّ كانت بمكة .. وأصرح من ذلك ما رواه أحمد عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلّي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] (3) وهذا دليل على أنّها نزلت قبل سورة الحجر .. لكن كل هذا لا يدل على كونها مكية، بل هي مدنية، وكل التعليلات المذكورة ضعيفة لا تقاوم روايات الترتيب المتفق عليها.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الحديد]، وأمامها (4): قال قوم: إنّها مكيّة استنادا الى حديث إسلام عمر، دخل على أخته فوجد عندها صحيفة فيها سورة الحديد (5)، و هذا الحديث معارض بحديث ابن إسحاق: كانت في الصحيفة سورة طه .. وقيل إنّ الصحيفة كان فيها مع سورة طه سورة التكوير (6) .. ومعارض أيضا بحديث

__________

(1) الإتقان: 1/ 13.

(2) الترمذي، (3291)

(3) مسند أحمد: 6/ 349.

(4) التمهيد: 1/ 152.

(5) أسد الغابة: 4/ 54.

(6) سيرة ابن هشام: 1/ 370.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/39)

شريح بن عبيد، قال: قال عمر: خرجت أتعرّض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن أسلم فوجدته سبقني الى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقّة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فلمّا أتمّها وقع الإسلام في قلبي كلّ موقع (1) .. والحديث مرسل، أرسله من لا يوثق به .. قال ابن حجر: والحديث بسند فيه إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة، وأشار بذلك الى غمز في السند، لأنّ ابن أبي فروة هذا مطعون فيه متروك الحديث (2) .. و تمسّك بعضهم بحديث ابن مسعود: قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] إلّا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا (3) .. وهذا الحديث معارض بأحاديث تنصّ على أنّها نزلت بعد الهجرة بسنة، بشأن المنافقين أو بعد ما أترف المؤمنون فكادت تقسو قلوبهم (4).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الصف]، وأمامها: قال ابن حزم: مكيّة (5) .. لكن الجمهور وروايات الترتيب على خلاف قوله، فالصحيح أنّها مدنيّة، ونسب ابن الغرس ذلك الى الجمهور (6).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الجمعة]، وأمامها: مدنيّة بالإجماع، والمخالف غير معروف .. لكن ثبت في نصوص صحيحة أنّها مدنية كلّها (7).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة التغابن]، وأمامها: قيل: مكيّة إلى

__________

(1) الاصابة: 2/ 519.

(2) ميزان الاعتدال: 1/ 193.

(3) الاتقان: 1/ 13.

(4) أسباب النزول بهامش الجلالين: 2/ 94.

(5) رسالة الناسخ والمنسوخ بهامش الجلالين: 2/ 199.

(6) الإتقان: 1/ 13.

(7) الإتقان: 1/ 13.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/40)

قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]، نسب ذلك الى ابن عباس (1)،غير أنّ روايات الترتيب مطبقة على أنّها مدنيّة كلّها.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الملك]، وأمامها: فيها قول غريب أنّها مدنيّة (2)، والصحيح أنّها مكيّة قولا واحدا.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الإنسان]، وأمامها (3): قال عبد اللّه بن الزبير: نزلت بمكة، وتبعه على ذلك جماعة ممّن يروقهم إنكار أي فضيلة لأهل البيت .. وهكذا أصرّ سيّد قطب على أنّها مكيّة، مستشهدا بالسياق وقال: واحتمال أنّ هذه السورة مدنيّة ـ في نظرنا ـ احتمال ضعيف جدا، يمكن عدم اعتباره (4) .. وقال الحافظ الحسكاني: اعترض بعض النواصب بأنّ هذه السورة مكيّة باتفاق المفسّرين، وهذه القصة ـ إن كانت ـ فهي مدنيّة، فكيف كانت سبب نزول السورة؟ فقال ـ ردّا على هذا القائل ـ: كيف يسوغ له دعوى الإجماع، مع قول الأكثر: أنّها مدنيّة .. ثم ذكر نصوص الأئمة على ترتيب السور مصرّحة بأنّها نزلت في المدينة بعد سورة الرحمن وقبل سورة الطلاق (5) .. وهكذا حقّق العلّامة الطبرسي في تفسيره وغيره من محقّقي المفسّرين .. والعمدة: إطباق روايات الترتيب، لا تشذّ منها في ذلك ولا رواية واحدة، وعليه فالاعتماد على السياق غير كاف.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة المطففين]، وأمامها: أوّل سورة نزلت بالمدينة .. وقيل: نزلت عليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو مهاجر في طريقه الى المدينة .. وعن ابن عباس، قال: لمّا قدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل اللّه هذه السورة، فأحسنوا

__________

(1) مجمع البيان: 10/ 296.

(2) الإتقان: 1/ 13. وتفسير شبر، ص 542.

(3) التمهيد: 1/ 155.

(4) في ظلال القرآن: 29/ 215.

(5) شواهد التنزيل، ص 310 و 315.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/41)

الكيل (1) .. لكن هذا يناقض روايات الترتيب المتّفقة على أنّها آخر السور المكيّة.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الأعلى]، وأمامها (2): قيل: إنّها مدنيّة، استنادا الى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] إشارة الى صلاة العيد وزكاة الفطرة .. لكن الآية عامّة، والرواية ـ إن صحت ـ جاءت لتطبّق هذا العموم على مصداق من مصاديقه، لا أنّه هو المقصود الذاتي لا غير .. ثم لو سلّمنا أنّ هاتين الآيتين نزلتا بالمدينة، فلا يدلّ ذلك على أنّ جميع السورة بكاملها مدنيّة .. فالصحيح أنّ السورة مكيّة حتى ولو كانت بعض آيها مدنيّة.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الفجر]، وأمامها: مكيّة باتفاق، والقائل بالخلاف غير معروف (3) .. وأمامها لافتة مكتوبا عليها [سورة البلد]، وأمامها: مكيّة بالإجماع، لأنّ البلد هي مكة المكرّمة بالاتفاق، فكيف يقال: إنّها مدنيّة (4)؟!.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الليل]، وأمامها (5): قيل: انّها مدنيّة، نظرا لما روي في سبب نزولها: كانت نخلة متدلّية في دار رجل فقير، وكان صبيانه يتناولون تمرها، أمّا صاحب النخلة ـ وهو رجل ثريّ ـ فكان يجفوهم. فساومه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على نخلة في الجنة فأبى، حتى ساومه أنصاريّ على أربعين نخلة، فاشتراها منه ووهبها للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فوهبها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الى الرجل الفقير. قيل: فنزلت: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10] غير أنّ السند مقطوع غير موصول (6) .. إضافة إلى أن الآية لا تنطبق تماما على فحوى القصّة؛ والصحيح: أنّ الآية عامّة في كلّ بخيل بحقّ اللّه سبحانه

__________

(1) الإتقان: 1/ 13.

(2) التمهيد: 1/ 156.

(3) الإتقان: 1/ 14.

(4) الإتقان: 1/ 14.

(5) التمهيد: 1/ 157.

(6) الإتقان: 1/ 14.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/42)

فلا يخشى عقابه.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة القدر]، وأمامها (1): قال ابن حزم وأبو محمد: إنّها مدنيّة (2) لما رواه الحاكم عن الإمام الحسن قال: رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فنزلت تسلية لخاطره (3) .. وقال المزي: وهو حديث منكر (4) .. لكنّه تعصّب مفضوح، لأنّ الحاكم رواها بسند صحيح، وقال: هذا إسناد صحيح. وقرّره على ذلك، الحافظ الذهبي في التلخيص .. وأضاف إليه طريقا آخر ووثقه أيضا، ثم قال: و ما أدري آفته من أين (5)؟! .. ولذلك؛ فإنّ دلالة هذا الحديث على مدنيّة السورة، جاءت من قبل لفظ (المنبر) إذ لم يكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة منبر .. لكن هذا وحده لا يصلح دليلا على ذلك، إذ يجوز أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أري ذلك بمكة قبل هجرته لتكون بشارة له باعتلاء ذكره، وإلماحه الى الاغتصاب الذي يرتكبه شرار أمّته، فلا تتنافى هذه الرواية مع روايات الترتيب أصلا .. ويدل لذلك أيضا ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]، فهي تشير الى نفس الرؤيا المذكورة، والآية من سورة الإسراء المكيّة بالاتفاق، ولم يستثن أحد هذه الآية، وإن استثنوا غيرها، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة، وأنزل اللّه في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]، قال: (والشجرة الملعونة، يعني الحكم وولده)

__________

(1) التمهيد: 1/ 158.

(2) الكشف عن القراءات السبع: 1/ 385.

(3) مستدرك الحاكم: 3/ 171.

(4) الإتقان: 1/ 14.

(5) تلخيص المستدرك بالهامش: 3/ 170.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/43)

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة البيّنة]، وأمامها (1): قال مكيّ بن أبي طالب: مكيّة .. لكن اتفاق روايات الترتيب ونصوصه على أنّها مدنيّة، ويؤيّده ما ورد: أنّها لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دعا أبي بن كعب فقرأها عليه، وأبي، أنصاريّ، أسلم على يدي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة (2).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الزلزلة]، وأمامها: قال ضحّاك وعطاء: مكيّة .. وهكذا قال مكيّ بن أبي طالب .. لكن اتفقت الروايات على أنّها مدنيّة (3) .. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا نزلت {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] قلت: يا رسول اللّه إنّي لراء عملي؟ قال: نعم، قلت: تلك الكبار الكبار؟ قال: نعم، قلت: الصغار الصغار؟ قال: نعم، قلت: واثكل أمي (4) .. وأبو سعيد أنصاريّ لم يبلغ إلّا بعد وقعة أحد (5).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة العاديات]، وأمامها (6): عن قتادة: أنّها مدنيّة، لرواية منسوبة الى ابن عباس، قال: نزلت في خيل بعثها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في سريّة فأبطأت، فشقّ ذلك عليه، فأخبره اللّه بما كان من أمرهم (7) .. لكن الرواية فيها تهافت ظاهر، وفي نفس الوقت معارضة بما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري والحاكم ـ وصحّحه ـ وابن مردويه، عن ابن عباس: أنّ عليا نهره عن تفسير العاديات بالخيل تغير في سبيل اللّه، وأوضح له: أنّها الإفاضة من عرفات الى المزدلفة .. قال ابن عباس: فنزعت عن

__________

(1) التمهيد: 1/ 160.

(2) الدر المنثور: 6/ 378.

(3) الدر المنثور: 6/ 379.

(4) الدر المنثور: 6/ 381.

(5) مستدرك الحاكم: 3/ 563.

(6) التمهيد: 1/ 161.

(7) الدر المنثور: 6/ 383.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/44)

قولي ورجعت الى قول عليّ (1).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة التكاثر]، وأمامها: قيل: إنها مدنيّة، لحديث ابن بريدة: أنّها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا .. وقال قتادة: إنّها نزلت في اليهود .. وعن أبي بن كعب ـ وهو أنصاريّ ـ: كنّا نزعم أنّ (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنّى ثالثا .. ) آية قرآنيّة، حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] .. وعن عليّ: كنّا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت .. وعذاب القبر لم يذكر إلّا بالمدينة (2) .. وكل ما ذكروه من هذه الأدلة باطل (3): لأن هذه السورة لا تمسّ مسألة التفاخر، وإنّما تعرّضت للتكاثر .. ثم كيف يبقى أبي بن كعب في شكّ من آية قرآنية، ولا يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو كاتبه الأوّل، الى أن يذهب شكّه بنزول سورة لا شأن لها ونفي قرآنيّة غيرها .. ثم كيف نجيز لأنفسنا تصديق رواية تنسب الشّك إلى مثل الإمام عليّ في مسألة من مسائل الآخرة، وهو باب علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .. وأمّا اختصاص نزولها باليهود، فضيق في فحوى السورة العام، إذ هي تعالج مسألة عامّة تمسّ حياة البشريّة جميعا .. والصحيح ـ كما جاء في روايات الترتيب المتّفقة ـ: أنّها من أوّليات السور المكيّة، وقد رواه عن ابن عباس (4) .. هذا مضافا الى ما نلمسه من لهجة السورة العنيفة، التي تناسب أجواء مكة المسيطر عليها النزعة الماديّة بشدّة، ويزيد العنف استعمال لفظة (كلا) الخاصة بأهل مكة.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الماعون]، وأمامها (5): قال الضحّاك: إنّها مدنيّة (6) .. لكن روايات الترتيب ونصوصه المتّفق عليه ترفض هذا القول،

__________

(1) الدر المنثور: 6/ 383. وتفسير الطبري: 30/ 177.

(2) الإتقان: 1/ 14.

(3) التمهيد: 1/ 162.

(4) الدر المنثور: 6/ 386.

(5) التمهيد: 1/ 162.

(6) مجمع البيان: 10/ 546.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/45)

مضافا الى أنّ لهجة السورة تقريع عنيف بأولئك المكذّبين بالدين، فهي بأوّليّات السور المكيّة أشبه، فقد كانت السابعة عشرة في الترتيب، نزلت بعد سورة التكاثر (1).

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الكوثر]، وأمامها (2): سورة مكية .. وعن عكرمة والضحّاك: أنّها مدنيّة (3) .. ورجّحه السيوطي، والنووي لما رواه مسلم عن أنس، قال: بينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، فرفع رأسه وقال: انزلت عليّ آنفا سورة، فقرأها .. لكنّ ما ذكروه غير صحيح، ويؤيّد ذلك، أنّ مسلم نفسه روى هذا الحديث بسند آخر ليس فيه (أنزلت عليّ)، بل قال: أغفى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه فقرأها (4) .. بالإضافة إلى أن المفسرين أجمعوا على أنّها مكيّة، نزلت تسلية لخاطر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عند ما شنأه ذلك الأبتر اللعين .. هذا مضافا لاتفاق روايات الترتيب: أنّها نزلت بمكة.

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [سورة الإخلاص]، وأمامها: سورة مكية .. لكن رجّح السيوطي كونها مدنيّة، لأحاديث رواها بشأن نزولها، حيث قال: نزلت في طائفة من يهود المدينة سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصف لهم ربّه، فنزل جبريل بسورة التوحيد (5) .. وفي مقابل هذه الروايات روايات أخرى تذكر أن هذا السؤال كان للمشركين، حيث قالوا: انسب لنا ربّك يا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت (6) .. مضافا الى اتفاق روايات الترتيب على ذلك .. وقد ذكر بعض الباحثين: أنّها نزلت مرّتين .. وهو قول مستغرب جدا؛ فكيف تنزل السورة مرتين (7).

__________

(1) مجمع البيان: 10/ 405. والإتقان: 1/ 11.

(2) التمهيد: 1/ 163.

(3) مجمع البيان: 10/ 548.

(4) الدر المنثور: 6/ 401.

(5) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 147. والإتقان: 1/ 14.

(6) الدر المنثور: 6/ 410.

(7) رجح هذا القول الشيخ محمد مهدي معرفت، حيث قال: لا يبعد ذلك، ولكن معنى نزول السورة مرّتين: أنّ الثانية كانت تذكيرا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمناسبتها الحاضرة، فمن المحتمل ـ على هذا الفرض ـ: أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سؤالا، كان المشركون قد سبقوهم الى مثله، فتردّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أن يقرأ عليهم السورة التي كانت إجابة على سؤال المشركين من ذي قبل، وذلك نظرا للفرق بين مستوى اليهود ومستوى المشركين، فعند ذلك نزل جبريل بكفاية نفس الإجابة الأولى، بعد أن لم تكن السور القرآنية خاصّة بقوم دون قوم، وبمستوى دون مستوى إذ الناس على مختلف مستوياتهم يستفيدون من جميع آي القرآن، وإن كانت نوعيّة الاستفادة تختلف حسب مراتب الثقافات، وعلى ذلك فالسورة مكيّة وإن تكرّر نزولها بالمدينة أيضا. [التمهيد: 1/ 164]. وهو ترجيح غريب جدا، وذرائعه أغرب منه.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/46)

ورأيت أمام محل آخر لافتة مكتوبا عليها [المعوذتان]، وأمامها (1): سورتان مكيتان، وقال السيوطي: المختار أنّهما مدنيّتان، لأنّهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن الأعصم (2) .. والتي حدثت فيها عائشة، قالت: (سحر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رجل من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم .. حتى كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يخيّل إليه إنّه يفعل الشيء وما يفعله .. )(3) .. وهذه القصّة ـ بالإضافة لمخالفتها القرآن الكريم في عدم إمكانية سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ ليس فيها شاهد بنزول السورتين، وقد تنبّه السيوطي لذلك، ومن ثم استدرك بما ورد من طرق لم يصحّ إسنادها.

آيات مختلف فيها

لم تكن اللافتات الكثيرة المعلقة في تلك المحال وحدها ما أثار انتباهي إلى مبالغة أهل ذلك الحي في التعامل مع [المكي والمدني]، بل رأيت الكثير من المظاهر التي تدل على أن الاختلاف لم يكن مجرد اختلاف علمي، وإنما تحول إلى جدل وصراع صرف أهل ذلك الحي عن التأمل في القرآن الكريم، والانشغال بمحال نزوله.

ومن الأمثلة على ذلك أني وجدت شحناء وقعت في الحي، وعندما رحت أبحث عن أسبابها، وجدت خلافا جرى بين اثنين حول مكية بعض الآيات أو مدنيتها.

لكن ذلك ليس عاما؛ فقد مررت في ذلك الشارع بمن يتحاور بطريقة علمية مهذبة مثل تلك الحوارات التي ذكرت لكم طرفا منها عند الحديث عن التصنيفات والتحقيقات.

__________

(1) التمهيد: 1/ 164.

(2) الإتقان: 1/ 14.

(3) صحيح البخاري: 7/ 177.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/47)

سورة البقرة

ومن تلك الحوارات العلمية اللطيفة، أني مررت على رجلين، قال أحدهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة البقرة مدنية.

قال الثاني: لكن استثني منها ثلاث آيات .. الأولى، قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]، فقد روي أنها نزلت بشأن المشركين أيام كان المسلمون بمكة ضعفاء.

قال الأول: لكن صدر الآية: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] شاهد نزولها بشأن أهل الكتاب، أوائل هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، ولم تقو شوكة الإسلام بعد.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، فقد روي أنها نزلت بشأن تعنت المشركين تجاه الحقّ.

قال الأول (1): لكن روي أن الآية نزلت بشأن إنفاق المسلمين على الكفّار، حيث امتنعوا من ذلك زعما أنّها محرّمة عليهم وهم على غير دينهم، فنزلت (2).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، فقد قيل: هي آخر آية نزلت على رسول

__________

(1) التمهيد: 1/ 225.

(2) مجمع البيان: 2/ 385. والدر المنثور: 1/ 357.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/48)

اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنى في حجّة الوداع (1).

قال الأول: حتى لو صح ذلك .. فالعبرة بالمكي والمدني ليس بمحل النزول، وإنما بزمنه، فما نزل قبل الهجرة مكي، والآخر مدني.

سورة الأنعام

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الأنعام مكيّة، وأنها (نزلت بمكة جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد، وقد طبقوا ما بين السماء والأرض، وكانت ليلة جمعة، وكان لنزولهم هيبة وعظمة، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سبحان اللّه العظيم، سبحان اللّه العظيم، وخرّ ساجدا .. ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم) .. وهذا الحديث مستفيض رواه الفريقان بطرق يعضد بعضها بعضا (2).

قال الثاني (3): أنا معك في مجمل السورة، لا في جميع آياتها .. فقد قيل باستثناء تسع آيات، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20] .. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].

قال الأول (4): لا شاهد للاستثناء في هاتين الآيتين إطلاقا، ولا دليل عليه .. ولعلّ السبب في هذا القول الضعيف المستهجن ما ورد من ذكر أهل الكتاب فيهما، وهو استدلال ضعيف؛ فقد ورد ذكر أهل الكتاب في كثير من سور مكيّة، كقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ

__________

(1) الدر المنثور: 1/ 370.

(2) مجمع البيان: 4/ 271 والدر المنثور: 3/ 2.

(3) الإتقان: 1/ 15.

(4) التمهيد: 1/ 173.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/49)

الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، ولم يستثنها أحد .. وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47] .. وأمثال ذلك كثير.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، فقد قيل: إنها نزلت في جماعة من اليهود، قالوا: يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا .. وقيل: نزلت في مالك بن الصيف، وكان حبرا من أحبار يهود قريظة، وكان سمينا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة: (إنّ اللّه يبغض الحبر السمين؟)، فغضب وقال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء .. وقيل: الذي خاصم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقال هو فنحاص بن عازوراء اليهودي .. و قيل: نزلت في مشركي قريش، حيث أنكروا النبوّات رأسا (1).

قال الأول (2): لقد رد أبو جعفر الطبري على هذه الروايات بقوله: (وأولى هذه الأقوال بالصواب، هو القول الأخير، إذ لم يجر لليهود ذكر قبل ذلك، وليس إنكار نزول الوحي على بشر ممّا تدين به اليهود، بل المعروف من دينهم الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود .. ولم يكن الخبر بأنّها نزلت في اليهود خبرا صحيحا متصل السند، ولا أجمع

__________

(1) تفسير الطبري: 7/ 177، ومجمع البيان: 4/ 333.

(2) التمهيد: 1/ 174.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/50)

المفسّرون على ذلك .. وكان سياق السورة من أوّلها الى هنا جاريا في المشركين، فناسب أن تكون هذه الآية أيضا موصولة بما قبلها لا مفصولة منه؛ فلم يجز لنا أن ندّعي فصلها إلّا بحجّة قاطعة من خبر أو عقل .. ولعلّ الذي أوقع هذا القائل في الوهم المذكور ما وجده في قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ} على وجه الخطاب (1) .. أمّا القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الجميع، فلا تستدعي اختصاص الخطاب بأهل الكتاب، بل هو موجه إلى البشرية جميعا باعتبار فعل بعضهم ممّن نزل عليهم الكتاب، ولهذا جاء الكلام عن بني إسرائيل في سور مكيّة كثيرة، كما في سورة الأعراف .. ويشهد بذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، فهي خطاب لأهل مكة، وسورة الأنبياء مكية .. وقد كان للعرب صلة وثيقة وثقة بأهل الكتاب، ويعرفونهم أهل علم، وكثيرا ما يسألونهم عن تاريخ الأمم والأنبياء، ويعتمدون كلامهم، فجاز أن يخاطبوا بخطاب اليهود المجاورين لهم المخالطين معهم الموثوق بهم عندهم.

قال الأول (2): فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، فقد روي أنها نزلت في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أخي عثمان من الرضاعة، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولمّا نزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ

__________

(1) تفسير الطبري: 7/ 178.

(2) التمهيد: 1/ 175.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/51)

لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] دعاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأملاها عليه، فلمّا انتهى الى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} عجب عبد اللّه في تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك اللّه أحسن الخالقين، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أنزلت عليّ، فشك عبد اللّه حينئذ، وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال؛ فارتدّ عن الإسلام، ولحق أهل مكة، فجعلوا يقولون له: كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن؟ قال: كنت أكتب كيف شئت .. وذلك أنّه كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يملي عليه (عليما حكيما) فأكتب (غفورا رحيما)(1) .. ومثل ذلك ما روي أنها نزلت في مسيلمة والأسود العنسي، اللذان ادعيا النبوة في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).

قال الثاني (3):الحديث الأول مكذوب من أصله .. لأنّ سورة (المؤمنون) مكيّة، ولم يستثن أحد تلك الآية؛ فكيف يكتبها ابن أبي سرح بالمدينة، ثم يرتدّ الى مكة!؟ .. ثم أنّى لبشر أن يتقوّل على اللّه كذبا وينتحله وحيا، وقد ضمن اللّه لكتابه الكريم الحفظ!؟ .. ثم كيف لا يشعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدسّ كاذب مفتر على اللّه فيما أنزله اللّه عليه!؟ .. نعم هناك ثلاث آيات من ثلاث سور، قيل في كلّ واحدة منها: إنّها نزلت بشأن ابن أبي سرح، هذه إحداها، وقد ذكرت ضعفها .. والثانية قوله: تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .. والثالثة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] .. وهذه الأخيرة أنسب وأولى

__________

(1) مجمع البيان: 4/ 335. والدر المنثور: 3/ 30.

(2) مجمع البيان: 4/ 335. والدر المنثور: 3/ 30.

(3) التمهيد: 1/ 175.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/52)

بالقبول، كما روي ذلك عن الإمام الباقر، والإمام الصادق (1).

قال الأول: فما تقول في معنى الآية الذي لا ينطبق إلا على مدعي النبوة؟

قال الثاني (2): أقول: إنها عامّة، تصف موقف الإنسان عموما تجاه رسالات الأنبياء عليهم السلام؛ فمن منكر معاند لا يصدّق بأي رسالة جاءت من قبل اللّه .. وآخر مسترسل ضعيف يؤمن بكلّ دعوى رساليّة، حتى ولو كانت نزغة شيطانيّة، من غير تدبّر ولا تفكير صحيح .. ومن ثم وبّخت الآية هذا النمط من الاسترسال الهابط، وتلك الجرأة الظالمة تجاه ربّ العالمين، فيفترى عليه تعالى ظلما وعدوانا.

قال الأول: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114]؟

قال الثاني (3): ليس في الآية ما يدعو الى الظنّ بأنّها مدنيّة إلّا ذكر أهل الكتاب فيها، وهذا وحده ليس دليلا، فقد ورد مثلها في آيات مكيّة كثيرا .. فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] يعني أهل الكتاب، ولا سيّما اليهود، وهذه الآية مكيّة بالإجماع، ما خلا ما نسب الى جابر بن زيد.

قال الأول: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]،

__________

(1) تفسير العياشي: 1/ 281 ح 288.

(2) التمهيد: 1/ 176.

(3) التمهيد: 1/ 177.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/53)

فقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} لا يفسّر إلا بالحقّ الواجب بالزكاة، والزكاة لم تقرّر بأنصبتها المحددة في الزروع والثمار إلّا في المدينة.

قال الثاني (1): لكن هذا المعنى ليس متعيّنا في الآية، لأنّها فسّرت بمطلق الصدقة من غير تحديد، وهي بهذا الإطلاق كانت واجبة في مكة، وقد جاءت الإشارة إليها في قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]، وهي من سورة الذاريات المكيّة بإجماع .. بالإضافة إلى أنه جاء ذكر الإنفاق والصدقة في كثير من الآيات المكيّة .. بالإضافة إلى ما جاء في الروايات بأنّ الحقّ في هذه الآية يعني الإنفاق وإعطاء اليتامى والمساكين (2).

قال الأول: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] .. وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] .. وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .. فقد قال السيوطي: وقد صحّ النقل عن ابن عباس باستثناء هذه الآيات الثلاث، وهي ما أخرجه أبو جعفر النحّاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ) عن طريق أبي عبيدة معمّر بن المثنى (3).

__________

(1) التمهيد: 1/ 178.

(2) مجمع البيان: 4/ 375.

(3) الإتقان: 1/ 9.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/54)

قال الثاني (1): أبو عبيدة هذا كان رجلا به شذوذ، وكان يرى رأي الخوارج، وكان بذي اللسان متهتّكا قليل العناية بالقرآن، وإذا قرأه قرأه نظرا (2) .. ومن ثم لا يعتمد على نقله فيما يخصّ الكتاب والسنّة، اللهمّ إلّا في رواية الشعر والأدب .. بالإضافة إلى هذا؛ فقد روى أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن علي بن أبي طالب قال: لمّا أمر اللّه نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرض نفسه على القبائل، خرج الى منى وأنا معه وأبو بكر، وكان رجلا نسّابة، فوقف على مضاربهم بمنى وسلّم عليهم فردّوا عليه السلام، فتكلم معه القوم، حتى سألوه: الى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتلا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] إلى تمام الآيات الثلاث، فأعجبهم كلام اللّه، وقالوا: فو اللّه ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان لعرفناه (3) .. فالآيات كانت نازلة حينذاك بمكة.

قال الأول: بورك فيك .. الآن اقتنعت أنّ سورة الانعام كلّها مكيّة، ليست منها آية مدنية إطلاقا، ولم يثبت شيء مما قيل باستثنائه أصلا، لا نقلا ولا عقلا.

سورة الأعراف

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الأعراف مكيّة؛ فقد أخرج ابن ضريس والنحّاس وابن مردويه من عدّة طرق عن ابن عباس: أنّها نزلت بمكة (4).

قال الثاني: لكن قتادة استثنى آية واحدة، وهي قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا

__________

(1) التمهيد: 1/ 179.

(2) ميزان الاعتدال: 4/ 155.

(3) الدر المنثور: 3/ 54.

(4) الدر المنثور: 3/ 67.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/55)

يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]، فقال: نزلت بالمدينة (1) .. و قال غيره: بل المستثنى هذه الآية إلى قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] .. ودليل قتادة هو الأمر بسؤال اليهود، وهو يناسب أيّام كونه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة.

قال الأول (2): هذا ليس دليلا، إذ لا مستند لعود الضمير الى اليهود، فلعلّه يعود الى المشركين أنفسهم، لمكان معرفتهم بقصّة أصحاب السبت، والقرية ـ وهي أيلة ـ كانت على ساحل البحر الأحمر، مما يلي الشام. وهي آخر الحجاز وأوّل الشام، وهي مدينة يهوديّة صغيرة كانت عامرة (3)، وكانت قريش تمرّ عليها في رحلتها الصيفيّة التجاريّة، وكانت تتّصل بهم أخبارها، ومن ثمّ كانوا على معرفة من أهلها اليهود الذين عتوا عن أمر ربّهم .. وأمّا قول غيره فلا مستند له إطلاقا .. فالصحيح أنّ هذه الآيات متناسقة مع غيرها من قصص أمم الأنبياء عليهم السلام نزلت على قريش ليعتبروا.

سورة الانفال

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الانفال مدنية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، فقد روي أنها نزلت في قصة دار الندوة حين اجتمعت فيها قريش للتآمر على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وفشلت

__________

(1) الكشف عن القراءات السبع: 1/ 460.

(2) التمهيد: 1/ 180.

(3) معجم البلدان: 1/ 292.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/56)

مؤامرتهم بهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).

قال الأول (2): لكن نزول الآية بشأن ذلك لا يستدعي نزولها حينذاك، ولا سيّما بعد ملاحظة أداة ظرف الماضي (إذ) في صدر الآية، لأن فيها حكاية عن أمر سابق.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]؟

قال الأول (3): فيها أيضا حكاية عن ماض وإخبار عن حال، أي لم يعذّبهم اللّه فيما قبل، بسبب وجودك بين أظهرهم، ولا يعذّبهم الآن ـ بعد خروجك ـ لوجود جماعة من المؤمنين لم يستطيعوا الخروج وهم على عزم الهجرة، فرفع اللّه العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفار هؤلاء المؤمنين الباقين بين أظهرهم (4).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، وقد صحّح هذا الاستثناء ابن العربي وغيره لما روي عن عمر، قال: أسلمت رابع أربعين فنزلت (5).

قال الأول (6): لكن يعارضه ما روي أنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر (7)، وقال الواقدي: نزلت بالمدينة في بني قريظة وبني النضير (8) .. بالإضافة إلى أن سياق الآية يشهد بمدنيّتها، حيث نزلت إبان تشريع القتال، سواء مع المشركين أم مع أهل الكتاب .. بالإضافة إلى أنه لا معنى لكفاية أربعين رجلا أسلموا بمكة وهم على ضعف ما داموا فيها .. الأمر

__________

(1) مجمع البيان: 4/ 537.

(2) التمهيد: 1/ 228.

(3) التمهيد: 1/ 227.

(4) مجمع البيان: 4/ 539.

(5) الدر المنثور: 3/ 200.

(6) التمهيد: 1/ 228.

(7) مجمع البيان: 4/ 557.

(8) تفسير التبيان: 5/ 152.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/57)

الذي يؤكّد نزولها بالمدينة حيث ازدادت شوكة المؤمنين وتقوى جانبهم، فكانت فيهم الكفاية والكفاءة، وهكذا فسّرها الطبري، حيث قال: (يقول لهم جلّ ثناؤه: ناهضوا عدوّكم فإنّ اللّه كافيكم أمرهم ولا يهوّلنّكم كثرة عددهم وقلّة عددكم فإنّ اللّه مؤيّدكم بنصره)، وذكر لهذا المعنى روايات، ولم يتعرّض لشيء من روايات نزولها بشأن إسلام عمر (1).

سورة براءة

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة براءة مدنية.

قال الثاني: لكن استثني منها أربع آيات .. أما الأولى والثانية، فقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113 - 114]، فقد روي أنها نزلت بشأن أبي طالب عندما حضرته الوفاة، حيث دخل عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أميّة. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أي عم، قل: لا إله إلّا اللّه، أحاجّ لك بها عند اللّه؛ فقال القرشيان: يا أبا طالب، أترغب عن ملّة عبد المطلب!؟ .. فكانا كلّما عرض عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلمة الشهادة أعادا كلامهما .. فكان آخر كلام أبي طالب: أنّه على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا اللّه؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك. فنزلت الآية .. ومثلها يروى نزول قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ

__________

(1) تفسير الطبري: 10/ 26.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/58)

بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] .. ويروى أيضا: أنّها نزلت بشأن والدي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم .. حيث أراد أن يستغفر لهما، فقد روي أنه استجاز ربّه في زيارة قبر أمّه فأجازه، فبدا له أن يستغفر لها فنزلت الآية تنهاه؛ فما رئي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أكثر باكيا من يومه ذاك.

قال الأول (1): واضح جدا الكذب والاختلاق في الروايتين، وأن الذي وضعهما صاحب عصبيّة جاهليّة، أو نزعة أمويّة ممقوتة عمدت إلى الحطّ من كرامة بني هاشم، وإلى تشويه أقارب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتجعل من أبيه وأمّه مشركين، ولتعتبر أبا طالب كافرا، وهو المحامي الأوّل والمدافع الوحيد في وقته عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، ولا شكّ أنّ أبا طالب كان أوّل من آواه ونصره ووقف دونه بنفسه ونفيسه، والآية الكريمة شهادة عامّة تشمله قطعا (2).

و يكفي دليلا على إيمانه الصادق، قوله في قصيدته التي يحمي بها عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مهدّدا قريش أجمع (3):

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنه سورة المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيّده ربّ العباد بنصره ... وأظهر دينا حقّه غير باطل

__________

(1) التمهيد: 1/ 230.

(2) حق اليقين للسيد عبد اللّه شبر: 1/ 100.

(3) سيرة ابن هشام: 1/ 299.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/59)

ومثل ذلك أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن كل الأدلة تدل على أن جميع أجداد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلوّثوا بدنس شرك قط؛ وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذّبا)(1)

وبهذا المعنى جاء تأويل قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219]، أي لم تزل تنتقل من صلب مؤمن موحّد إلى صلب مؤمن موحّد، قال الطبرسي: (وقيل: معناه: وتقلّبك في أصلاب الموحّدين حتى أخرجك نبيّا .. وهو مروي عن ابن عباس وعن الإمام الباقر، والإمام الصادق)(2)

والصحيح في سبب نزول الآية، ما ذكره الطبرسي: أنّ المسلمين جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يطلبون إليه الاستغفار لموتاهم الذين مضوا على الكفر أو النفاق، وقالوا: ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية، فنزلت الآية (3).

و ممّا يدلّ على صحّة هذه الرواية وبطلان الرواية الأولى، أنّ الآية الكريمة جاءت بلفظ {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا}، فلو صحّت تلك الرواية لما كان هناك سبب معقول لإرداف غيره صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين معه في هذا الإنكار الصارم (4).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128 - 129]، فقد قال ابن الغرس: إنّهما مكيّتان (5).

__________

(1) الدر المنثور: 3/ 294.

(2) مجمع البيان: 7/ 207.

(3) مجمع البيان: 5/ 76.

(4) مجمع البيان: 5/ 54 و 56، والدر المنثور: 3/ 64 و 66.

(5) الإتقان: 1/ 15. والدر المنثور: 3/ 296.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/60)

قال الأول: وقد قال السيوطي: (وهذا غريب، كيف وقد ورد أنّهما آخر ما نزل)(1) .. بالإضافة إلى ما روي في سبب نزولهما، وهو أن جهينة جاءت تسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ أوّل قدومه المدينة ـ عهدا يأتمنون اليه، فنزلت الآيتان (2).

سورة يونس

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة يونس مكيّة.

قال الثاني (3): استثنى بعضهم منها أربع آيات، ذكر بعضهم أنّها نزلت في اليهود .. أولاها قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] .. والثانية، قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94] .. والثالثة، قوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] .. والرابعة، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]

قال الأول (4): لا دليل لهم في ذلك؛ فالسياق فيها واحد متّصل .. ولعلّ ذكر أهل الكتاب هو الذي أوقعهم في هذا الزعم، مع العلم بأنّ هذه الآيات ليست بأصرح من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، الآية مكيّة بإجماع.

سورة هود

__________

(1) الإتقان: 1/ 15. والدر المنثور: 3/ 296.

(2) الدر المنثور: 3/ 297.

(3) التمهيد: 1/ 180.

(4) التمهيد: 1/ 180.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/61)

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة هود مكيّة.

قال الثاني (1): لكن بعضهم استثنى منها ثلاث آيات .. أولاها قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12]

قال الأول: لكن السياق يشهد بأنّها مكيّة، وقد روي في سبب نزولها ما يجعلها أيضا مكيّة قطعيّا (2).

قال الثاني: فما تقول في استثناء الثانية، وهي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، فقد استشهد من قال بمدنيتها بقوله تعالى: {كِتَابُ مُوسَى}، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ}

قال الأول (3): لا شاهد فيهما، فقد جرى ذكر موسى عليه السلام في كثير من آيات السور المكيّة .. أما الأحزاب؛ ففيها إشارة الى قبائل عربيّة كانت متحزّبة ضدّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت تحزّبت منذ أن شعر المشركون بسرعة انتشار الدعوة الإسلامية .. ولا شاهد فيها على إرادة وقعة الأحزاب.

قال الثاني: فما تقول في استثناء الثالثة، وهي قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ

__________

(1) التمهيد: 1/ 181.

(2) مجمع البيان: 5/ 146.

(3) تفسير التبيان: 5/ 461.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/62)

وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فقد روي عن أبي ميسرة، قال: ذكرت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أني وقعت في بعض المعاصي، فقال: هل جهّزت غازيا؟ قلت: لا، فقال: هل خلفت غازيا في أهله؟ قلت: لا، فقال: استغفر ربّك وصلّ أربع ركعات .. ثم تلا الآية .. ثم قال: إنّها للناس عامّة، وفي رواية: نزل بها جبرئيل لساعته (1).

قال الأول (2): الكذب واضح في هذه الرواية، لأنّها تجرئ على المعاصي، وهي بذلك تخالف القرآن الكريم، ذلك أنها تبيح لكل إنسان أن يفعل ما يريد، ثم يعمد الى صلاة يصليها لتكون كفّارة عن كلّ ذنب يقترفه .. هذا فضلا عن التهافت في نفس الرواية وعدم انسجامها مع الآية، وهو دليل آخر على وهنها .. بالإضافة إلى أنه في بعض رواياتها أنه تلا عليه الآية، وليس فيها أنّها نزلت حينذاك.

سورة يوسف

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة يوسف مكيّة.

قال الثاني (3): لكن بعضهم استثنى منها أربع آيات، ثلاث منها وردت في أولها، وهي قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]، والرابعة، قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]

__________

(1) تفسير الطبري: 12/ 82 ـ 83.

(2) التمهيد: 1/ 182.

(3) التمهيد: 1/ 181.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/63)

قال الأول: لقد قال السيوطي في ذلك: وهو واه جدا، لا يلتفت إليه (1).

سورة إبراهيم

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة إبراهيم مكية.

قال الثاني (2): لكن بعضهم استثنى منها آيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين وهما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، وذلك لما روي عن عمر قال: الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا، هما: الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أميّة، أمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر .. وأمّا بنو أميّة؛ فمتّعوا الى حين (3) .. وهكذا روي عن الإمام الصادق، وزاد، بلى هي قريش قاطبة (4).

قال الأول (5): لكن لا دلالة في ذلك على أنّهما نزلتا يوم بدر أو بعده .. وإنّما كانت وقعة بدر مصداقا من مصاديق البوار الذي أنذروا به .. أمّا المصداق الأوفى فهي جهنم يصلونها وبئس القرار.

سورة الحجر

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الحجر مكية.

قال الثاني: لكن بعضهم استثنى منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24]، لما أخرجه الترمذي: أنّها نزلت في صفوف

__________

(1) الإتقان: 1/ 15.

(2) إبراهيم: 28 ـ 29. البرهان: 1/ 200.

(3) تفسير الطبري: 13/ 146.

(4) تفسير العياشي: 2/ 229 ح 22. وتفسير الصافي: 1/ 888.

(5) التمهيد: 1/ 183.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/64)

الصلاة (1) .. واستثنى آخر قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] وقوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 90 - 91] (2)

قال الأول (3):: سياق الآية الأولى يأبى حملها على صلاة الجماعة بدليل قوله تعالى قبلها {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]، وكذا الآية بعدها: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الحجر: 25]، وإنّما المعنى: ولقد علمنا بالأموات الماضين وبالأحياء الباقين (4) .. أمّا رواية الترمذي فهي مقطوعة، وفي اسنادها ضعف، مضافا الى عدم انسجامها مع الآية.

وأمّا استثناء الثانية؛ فمستند الى قول مجاهد: (إنّ سورة الفاتحة نزلت بالمدينة)، وهي هفوة منه، والإجماع على خلاف قوله (5).

و أمّا آية المقتسمين، فزعموا أنها نزلت في اليهود والنصارى ممّن آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعض (6)، لكنّه زعم باطل، لأنّ اليهود لم يؤمنوا بالقرآن إطلاقا، ولم يكونوا هم المنزل عليهم .. نعم كان إيمانهم بالكتب النازلة عليهم كذلك يؤمنون بالبعض ويكفرون بالبعض .. والصحيح أنّ الآية المذكورة نزلت في المشركين الذين جعلوا من القرآن بعضه سحرا وبعضه أساطير الأوّلين وبعضه مفترى وغير ذلك، وكانوا يتفرّقون على أبواب مكّة يصدّون الناس عن القرآن ويقولون على اللّه الكذب (7) .. بالإضافة إلى ذلك كله، فقد روي عن الإمامين الباقر والصادق: أنّها نزلت في قريش (8).

__________

(1) الإتقان: 1/ 15.

(2) مجمع البيان: 6/ 326.

(3) البرهان: 1/ 200.

(4) تفسير الطبري: 14/ 16 و 18.

(5) الإتقان: 1/ 12.

(6) تفسير الطبري: 14/ 42.

(7) الميزان: 12/ 205.

(8) تفسير العياشي: 2/ 151 ـ 252، ح 43 و 44.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/65)

سورة النحل

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة النحل مكية

قال الثاني: لكن قتادة استثنى منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]، وقيل: إلى آخر السورة، وأنهن نزلن بالمدينة (1) .. وعن عطاء بن يسار استثناء قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 126 - 128]، وهن ثلاث آيات نزلن في أحد، بعد مقتل حمزة (2) .. وروي عن ابن عباس استثناء قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 95 - 96]، وأنهما نزلتا بالمدينة .. وأنها نزلت بشأن امرئ القيس الكندي، كان قد غصب أرضا من عبدان الأشرع الحضرموتي؛ فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر امرؤ القيس، فاستحلفه فاستعظم أن يحلف كاذبا، فنزلت الآية (3).

قال الأول (4):: أمّا الآية الأولى؛ فلا دلالة فيها على أنّ المراد هي الهجرة الثانية إلى المدينة، بل الظاهر منها أنّها: الهجرة الأولى إلى الحبشة، كما روي ذلك عن قتادة أيضا (5) .. وأمّا قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} والقصة الواردة بشأنها؛ فقد وقعت

__________

(1) الإتقان: 1/ 15. وفي مجمع البيان: 6/ 347.

(2) الدر المنثور: 4/ 135.

(3) مجمع البيان: 6/ 347.

(4) التمهيد: 1/ 185.

(5) الدر المنثور: 4/ 118.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/66)

بالمدينة .. لكن القصة لم تثبت، ولهجة الآية عامّة، وسياقها يشهد بانسجامها الوثيق مع آيات قبلها .. وأمّا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، فقد اختلف المفسّرون فيها على ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّها نزلت يوم أحد، عند ما وقف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة وقد مثّل به، فقال: أما واللّه لامثّلنّ بسبعين، أو قال: بثلاثين منهم مكانك .. وهكذا لمّا سمع المسلمون ذلك، قالوا: لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلا عن الأموات، وقال بعضهم: لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب .. فنزل جبريل بالآية، فكفّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد، وهذا مستبعد جدا من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تأبى عليه أن يأخذ البريء بذنب المجرم .. والثاني: أنّها نزلت يوم الفتح، حين همّ المسلمون أن يقعوا في المشركين، ويقتلوهم شرّ قتلة، تشفّيا بما كانوا فعلوا بهم يوم أحد؛ فقد أصيب من الأنصار يومذاك أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة بن عبد المطلب، وقد مثّل بهم المشركون؛ فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم، فلمّا كان يوم فتح مكة، وأمكن اللّه المسلمين من المشركين، نزلت الآية للأخذ من حدّة المسلمين، وأن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل اللّه .. والثالث: أنّها عامّة في كلّ ظلم، يحاول المظلوم الانتقام من الظالم، بعد ما يمكّنه اللّه منه .. و هذه الآية جاءت مزيجا بين إباحة الانتقام العادل والصفح الجميل، الأمر الذي يتناسب مع حالة المسلمين يوم كانوا بمكة .. و هذا الرأي الأخير هو الصحيح، نظرا إلى سياق الآية نفسها، ومناسبتها الوثيقة مع آيات قبلها وبعدها.

سورة الإسراء

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الإسراء مكية.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/67)

قال الثاني (1): لكن روي أن فيها سبع عشرة آية نزلن بالمدينة، وأولها قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، فقد قيل: إنها نزلت بالمدينة بعد ما فتح اللّه خيبر على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأعطى فاطمة فدكا (2).

قال الأول (3): لكن ظاهر الآية يدل على كونها شريعة عامّة، لكلّ مسلم، وجاءت مجملة بوجوب الإنفاق على ذوي القربى والمساكين، كما هو طابع التشريعات المكيّة، ثم فصّلت حدودها بعد الهجرة بالمدينة .. و الآية بعمومها شاملة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فهو أيضا مأمور بصلة الأرحام والإنفاق عليهم وعلى الفقراء، كأحد المسلمين .. لذلك، بعد فتح خيبر، وبعد ما أفاء اللّه على رسوله والمؤمنين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وأعطاها فدكا، ولا دليل على أنّ الآية نزلت حينذاك .. ويدل لذلك أيضا أن الآية التي نزلت بخيبر، بشأن صلة القربى، كانت قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] .. و أهل القرى: هم بنو قريظة وبنو النضير .. والقرى، هي فدك وخيبر وعرينة وينبع، وقد نزلت الآية بشأنها حينذاك (4).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 32 - 33] لما فيهما من الأحكام؟

__________

(1) التمهيد: 1/ 186.

(2) الدر المنثور: 4/ 177. ومجمع البيان: 6/ 411.

(3) التمهيد: 1/ 188.

(4) مجمع البيان: 9/ 260 ـ 161. و الدر المنثور: 6/ 189.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/68)

قال الأول (1): نعم كان تشريع أكثر الأحكام بالمدينة، أمّا أسس الشريعة وكليّات الأحكام في صورها الإجمالية فقد جاءت في سور مكيّة كثيرة .. وقد قال السدّي: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} نزلت يوم لم تكن حدود، وقال الضحّاك في آية القتل: كان هذا بمكة، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يومذاك، فهمّ أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعلوا بهم مثل ذلك، فقال جلّ ثناؤه: من قتلكم فلا يحملنّكم عمله على أن تقتلوا أباه أو أخاه أو أحدا من المشركين، كما كانت العادة الجاهليّة جارية على قتل الأخ بأخيه أو آخرين من أفراد قبيلته، فلا يقتلنّ أحدكم إلّا القاتل نفسه (2).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 - 75]؟

قال الأول (3): لا شك أنّ الآيات مكيّات، نزلن بشأن مشركي قريش حين عرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسالمته مع آلهتهم، فنهرهم نهرا شديدا، ونزلت الآيات تثبيتا لموقف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتيئيسا للمشركين نهائيا، لئلا يطمعوا في رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 76 - 77]، فقد قيل في وجه الاستثناء ما روي في سبب نزولهما،

__________

(1) التمهيد: 1/ 189.

(2) الدر المنثور: 4/ 181.

(3) مجمع البيان: 6/ 431. والدر المنثور: 4/ 194.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/69)

وهو أنّ اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا له: إن كنت نبيّا فأت الشام أرض الأنبياء، فصدّقهم على ذلك .. وغزا غزوة تبوك، لا يريد إلّا اللحاق بالشام، فلمّا بلغ تبوك أنزل اللّه عليه هاتين الآيتين، فأمره بالرجوع إلى المدينة، ففيها محياه ومماته ومبعثه يوم القيامة (1).

قال الأول (2): هذا معارض بما ورد أنّهما نزلتا بشأن مشركي مكة حين همّوا بإخراج الرسول من مكة بنفس الأسلوب، وقالوا له: كانت الأنبياء يسكنون الشام فما لك وسكنى هذه البلدة .. أو همّوا بإخراجه عنفا، لأنّ الاستفزاز هو الإزعاج بعنف، وظاهر الآية يرجّح المعنى الثاني، كما أنّ المشركين لمّا فعلوا ذلك بعدئذ طبّقت عليهم سنّة اللّه في الخلق، حيث بدأت بقتلى بدر، وانتهت بفتح مكة وإخراج المشركين منها نهائيا (3).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 78 - 80]، فقد قيل: إنّها من تتمّة الآيتين السابقتين نزولا بالمدينة (4).

قال الأول (5): بعد أن لم يثبت الأصل لن يثبت الفرع .. وقد ورد في الحديث عن ابن عباس أنها نزلت بمكة قبيل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم (6) .. بالإضافة إلى أنّ الآيات في سياقها المتّصل، سبقا ولحوقا، بنفسها تشهد بنزولها بمكة، ولا تنسجم مع القول بنزولها في المدينة.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ

__________

(1) مجمع البيان: 6/ 432. والدر المنثور: 4/ 195.

(2) التمهيد: 1/ 191.

(3) مجمع البيان: 6/ 432. والدر المنثور: 4/ 195.

(4) الإتقان: 1/ 15.

(5) التمهيد: 1/ 192.

(6) الدر المنثور: 4/ 198. وتفسير الطبري: 15/ 100.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/70)

أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .. فقد روي أنّ هذا السؤال كان من يهود المدينة، بعد الهجرة (1).

قال الأول (2): وهو معارض بما ورد أنّ هذا السؤال وقع من مشركي قريش، سألوه عن الروح الذي جاء ذكره في القرآن .. أو أنّ اليهود أوعزوا إلى المشركين توجيه هذا السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: إن أجابكم فليس بنبيّ، وإن لم يجبكم فهو نبيّ (3) .. بالإضافة إلى أنّ ذيل الآية يشهد بأنّها خطاب مع المشركين .. وعن عطاء بن يسار: أنّ قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] نزل بمكة (4).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فقد أخرج الطبري: أنّ الآية نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، بسبب قوم من اليهود جادلوه في القرآن، وزعموا أنّ التوراة أفضل منه (5).

قال الأول: وهي نفس المعاني التي كان يطلبها مشركو قريش، حين سألوه عن الآيات والخوارق .. وهي تتناسب مع قوله تعالى بعدها {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93]

__________

(1) الدر المنثور: 4/ 199. وتفسير الطبري: 15/ 105.

(2) التمهيد: 1/ 193.

(3) مجمع البيان: 6/ 437 والدر المنثور: 4/ 199.

(4) تفسير الطبري: 15/ 106.

(5) الإتقان: 1/ 15.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/71)

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]؟

قال الأول (1): الآية بسياقها تشهد بأنّها مكيّة، نزلت توبيخا لصمود المشركين تجاه نزول القرآن وإباءهم عن الإيمان به، وتلميحا بأنّ هذا العناد هو أثر الجهل الأعمى والتوحّش الفادح الذي تمكّن من نفوسهم القاسيّة، أمّا أهل المدنية والثقافة فإنّهم إذا لمسوا من حقيقة القرآن الواضحة يؤمنون به فورا بلا ارتياب.

سورة الكهف

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الكهف مكية.

قال الثاني: لكن روي أن فيها اثنتين وثلاثين آية، نزلن بالمدينة، وهذا يعني أنّ ثلث السورة، ولا سيّما ثماني آيات من أوّلها مدنيّة .. قال السيوطي: استثنى من أوّلها إلى قوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] (2)

قال الأول (3):لا دليل لهذا الاستثناء إطلاقا، مضافا إلى استلزامه أن تكون السورة مدنيّة لا مكيّة! لأنّ الاعتبار في المكيّة والمدنيّة إنما هو بمفتتح السورة، وشيء من آيات من أوّلها، والإجماع منعقد على أنّ سورة الكهف مكيّة لا اختلاف فيها (4) .. ولعلّ المستثني نظر إلى قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4]، لكن ذلك لا يستدعي نزولها

__________

(1) التمهيد: 1/ 194.

(2) الدر المنثور: 4/ 208.

(3) التمهيد: 1/ 195.

(4) الدر المنثور: 4/ 208.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/72)

بالمدينة لمناسبة وجود اليهود فيها، بل هي عامّة تشمل النصارى والمشركين أيضا، على أنّ نزول آية بشأن قصّة يهوديّة لا تستوجب مقارنة نزولها يوم كانوا ينابذون الإسلام، والآيات بهذا النمط كثيرة في سور مكيّة، وذلك لوجود الصلة القريبة بين اليهود والمشركين قبل مهاجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فقد روي أنها نزلت في عيينة بن حصن، عرض على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو آنذاك بالمدينة، أن يبعد مجلس فقراء المؤمنين (1).

قال الأول: لا .. بل الصحيح أنها نزلت في أميّة بن خلف، حين عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وهو بمكة، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طرد الفقراء وتقريب صناديد قريش (2) .. وأسلوب الآية وسياقها يدل على بذلك.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] إلى آخر قصته، وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101]، فقد روي أنّ الذين وجّهوا هذا السؤال إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانوا هم اليهود أنفسهم، ومن ثم كان نزول الآيات ـ بصدد الإجابة ـ في المدينة (3).

قال الأول (4): الصحيح أنّ المشركين هم الذين سألوا هذا السؤال، لكن بتعليم من

__________

(1) الدر المنثور: 4/ 220.

(2) أسباب النزول بهامش الجلالين: 1/ 230. والدر المنثور: 4/ 220.

(3) الدر المنثور: 4/ 340.

(4) التمهيد: 1/ 196.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/73)

اليهود، حيث كان المشركون قد بعثوا من يسأل اليهود عن أوصاف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابوهم بأسئلة يوجّهونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فإن أجاب فهو نبيّ حقا .. فقد روى الطبري: أنّ قريشا بعثت النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل ـ التوراة ـ وعندهم علم ما ليس عندنا، من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، ما كان من أمرهم، فإنّه قد كان لهم حديث عجيب سلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ .. وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنّه نبيّ فاتّبعوه .. إلى آخر الحديث (1).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 107 - 110]، فعن مجاهد قال: كان من المسلمين من يقاتل وهو يحبّ أن يرى مكانه، فأنزل اللّه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] (2)

__________

(1) تفسير الطبري: 215/ 127 و: 16/ 7. والدر المنثور: 4/ 210.

(2) الدر المنثور: 4/ 255.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/74)

قال الأول (1): لكن لحن الآية وفحواها لا يدل على ذلك، وقد روي عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]) قالت اليهود، أوتينا التوراة وفيها علم كثير .. فأنزل اللّه {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، ولذلك قال الحسن: أراد بالكلمات العلم (2) .. لكن هذا لا يدلّ على كونها نزلت بالمدينة.

سورة مريم

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة مريم مكية.

قال الثاني: لكن روي أن فيها آيتان مكيتان (3) .. أولهما قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]

قال الأول (4): وذلك غير صحيح .. فقد نزلت تعقيبا على الآيات التي سبقتها من أوّل السورة، حيث ذكرت أحوال الأنبياء عليهم السلام وأممهم بتفصيل، ثم جاء مدحهم جميعا بصورة إجماليّة في هذه الآية، وكأنّها تلخيص لما سبق .. ولذلك إما أن نقول بأن جميعها من أوّل السورة إلى هذه الآية مدنيّة أو كلّها مكيّة، ولا محل لهذا الاستثناء الغريب، والذي لم يبيّن المستثنى سنده في ذلك.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ

__________

(1) التمهيد: 1/ 197.

(2) مجمع البيان: 6/ 499.

(3) الإتقان: 1/ 15.

(4) التمهيد: 1/ 197.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/75)

حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]؟

قال الأول (1): هي كسابقتها مرتبطة تمام الارتباط بآيات اكتنفتها سبقا ولحوقا، بما لا يدع مجالا لاستثنائها وحدها، فقد وردت في هذا السياق: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 70 - 72]

سورة طه

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة طه مكية.

قال الثاني (2): لكن استثني منها آيتان، أولاهما قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]

قال الأول: لكن السياق الذي وردت فيه لا يسمح بذلك .. فقد وردت في هذا السياق: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 129 - 131]

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، فقد روي عن أبي

__________

(1) التمهيد: 1/ 197.

(2) التمهيد: 1/ 198.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/76)

رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه ليقترض من يهودي طعاما، فأبى إلّا برهن، فحزن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، فنزلت الآية (1).

قال الأول: الرواية ـ على فرض صحّتها ـ لا تصلح داعية لنزول هذه الآية بشأنها، فالكثير من الآيات المكية والمدنية تحوي هذا المعنى.

سورة الشعراء

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الشعراء مكية.

قال الثاني: لكن ورد استثناء خمس آيات منها .. أولها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] .. فقد حكى ابن غرس: أنّها مدنيّة (2) .. ويدل لذلك ما ورد في تفسيرها من أنّ المراد من علماء بني إسرائيل ـ هنا ـ هم أسد واسيد وابن يامين وثعلبة وعبد اللّه بن سلام (3).

قال الأول (4): لكن وجه الآية بلا شكّ عام يشكل مشركي قريش وغيرهم، وهو توبيخ لاذع لهم .. أمّا التفسير الوارد فلا يعني نزول الآية بعد إيمان هؤلاء اليهود، وإنّما هو بيان مصداق من المصاديق تحقّقت فيما بعد .. وقد تتحقق في كل الأجيال .. بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في كتب السيرة والتاريخ ما يدل على رجوع المشركين لليهود فيما يخصّ معرفة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يعرّفونهم خصائص وسمات كانت موجودة فيه صلى الله عليه وآله وسلم والآية إنّما تعني ذلك، فهذا شيء كان يعرفه أهل الكتاب، كما اعترفوا به قبل هجرته، وإنّما أنكروه بعد ذلك

__________

(1) الإتقان: 1/ 16. وتفسير الطبري: 16/ 169.

(2) الإتقان: 1/ 16.

(3) تفسير الطبري: 19/ 69. والدر المنثور: 5/ 95.

(4) التمهيد: 1/ 200.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/77)

طمعا في حطام الدنيا، ولم تعن الآية إيمانهم وإنما عنت معرفتهم .. وبذلك لا يصلح التفسير الوارد لتعيين نزول الآية بالمدينة.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224 - 227]، فقد حكي استثناء ذلك عن ابن عباس، فقد روي عنه أنّها نزلت في رجلين تهاجيا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين (1).

قال الأول: لكن ذلك معارض بما هو أقوى سندا وأكثر عددا، والذي يدل على أنّها نزلت في مشركي قريش، حيث كان شعراؤهم يهجون رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ويقرؤها سفلتهم على ملأ من الناس امتهانا لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية تقريعا وتنديدا بسلوكهم (2).

سورة القصص

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة القصص مكية.

قال الثاني: لكن ورد استثناء قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55]، فقد قيل: إنها نزلت في جماعة من أهل الكتاب كانوا قد أسلموا، منهم: عبد اللّه بن

__________

(1) الدر المنثور: 5/ 99. وتفسير الطبري: 19/ 78.

(2) مجمع البيان: 7/ 208، تفسير الطبري: 19/ 78.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/78)

سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي (1) .. وقيل: نزلت في أصحاب النجاشي قدموا المدينة وشهدوا وقعة أحد (2).

قال الأول (3): لو صحّ تفسير الآية بالمذكورين فإنّما عنت الإخبار عمّا سيكون لا عمّا هو واقع، فضلا عن معارضة هذا التفسير بتفسيرها بجماعة من أهل الكتاب كانوا مؤمنين بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه، وهم أربعون رجلا على ما جاء في كتب التفسير (4) .. ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، فهذه الآية مكيّة، وردت بشأن مجادلة أهل الكتاب .. ومثلها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47]، وهي مكية أيضا بالاتفاق.

سورة العنكبوت

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة العنكبوت مكية.

قال الثاني: لكن استثني من أوّلها إلى الآية الحادية عشرة، فقد قيل: أنها نزلت بالمدينة (5)، وأنها نزلت في ناس من المسلمين تخلّفوا عن الهجرة، ثم كتب إليهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فعمدوا إلى المهاجرة، فردتهم قريش ووقع بينهم قتال وعنف (6).

__________

(1) مجمع البيان: 7/ 258.

(2) الإتقان: 1/ 16.

(3) التمهيد: 1/ 201.

(4) مجمع البيان: 7/ 358. والدر المنثور: 5/ 133.

(5) الإتقان: 1/ 16.

(6) أسباب النزول بهامش الجلالين: 2/ 32.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/79)

قال الأول (1): لكن الآية عامّة، وقد ورد أنها نزلت في مؤمني مكة الذين وقعوا تحت البلاء والشدّة، وكانت ابتلاء لهم ليعلم الصادق من الكاذب .. وهكذا فسّرها الطبري (2)، وجاءت بذلك الرواية عن الإمام الصادق (3) .. بالإضافة إلى أنّ مفتتح السورة هو المراعى في تحديد مكية السورة أو مدنيتها، ولو صحّ نزولها بالمدينة لأصبحت السورة مدنيّة، مع أنه لم يخالف أحد في مكيّتها.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]، فقد استثناها السيوطي، لما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده .. قال ابن عمر: فو اللّه ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت الآية (4).

قال الأول (5): الرواية مطعون في سندها، فضلا عن اضطراب متنها وعدم معقوليّة فحواها .. بالإضافة إلى هذا، فقد روي عن مقاتل والكلبي: أنّها نزلت في جماعة من المؤمنين المستضعفين، ضاق بهم المقام بمكة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووقعوا في عسر وشدّة، فأمروا بالهجرة إلى المدينة، فقالوا: كيف نخرج إلى بلد ليس لنا به دار ولا عقار ولا معيشة؛ فنزل قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا

__________

(1) التمهيد: 1/ 202.

(2) تفسير الطبري: 20/ 83.

(3) مجمع البيان: 7/ 272.

(4) الإتقان: 1/ 16. والدر المنثور: 5/ 149.

(5) التمهيد: 1/ 203.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/80)

تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 56 - 60] .. و هذه الرواية أوفق بنصّ الكتاب وأولى بالاعتبار، ومن ثمّ فهي الصحيحة المقبولة.

سورة لقمان

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة لقمان مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 27 - 29]، فقد روي عن ابن عباس في سبب نزولها: أنّ أحبار يهود قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة: إنّا قد أوتينا التوراة، وفيها علم كثير، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّها في جنب علم اللّه قليل، فنزلت الآيات (1).

قال الأول (2): لكن هذا التعليل إن كان يتناسب مع الآية الأولى من باب التسليم الجدلي، فإنّه لا يتناسب مع الآيتين بعدها .. والصحيح أنّ الآيات الثلاث، هي كسوابقها ولواحقها منسجمة بعضها مع بعض، وهي جميعا بيان لعظمة ربّ العالمين، فلا سبب يفصلها عن قريناتها، ومن ثم لا وجه لاستثنائها .. ولو صحّت الرواية المذكورة عن ابن عباس، فإن ذلك يعني أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قرأها عليهم حينما عرضوا عليه ذلك التحدّي الغريب، لا أنّها نزلت حينذاك.

__________

(1) الدر المنثور: 5/ 167. والإتقان: 1/ 16.

(2) التمهيد: 1/ 204.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/81)

سورة السجدة

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة السجدة مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]، لما أخرجه البزّار وابن مردويه عن بلال، قال: كنّا جلوسا وناس من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يصلّون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت (1).

قال الأول (2): الآية عامّة، وانسجامها مع قريناتها من آيات بادية الوضوح، فضلا عن عدم التئامها مع فحوى الرواية في شيء.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]؟

قال الأول: هي كسابقتها عامّة .. ولا دليل يستثنيها.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 18 - 19]، فقد روي بطرق وأسانيد كثيرة ومعتبرة: أنّها نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، في مشاجرة جرت بينهما يوم بدر، حيث قال له الوليد: اسكت فإنّك صبيّ وأنا أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأردّ منك للكتيبة، فقال له علي:

__________

(1) الإتقان: 1/ 16. والدر المنثور: 5/ 175.

(2) التمهيد: 1/ 205.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/82)

على رسلك فإنّك فاسق، وليس كما تقول (1).

قال الأول (2): سياق الآية عام، وهي مرتبطة مع بقيّة الآيات، سابقة ولا حقة .. ويُحتمل أنّ المحاورة المذكورة بلغت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ الآية الكريمة، تطبيقا مع المورد، فقد فسق الوليد هذا في آيات اخرى، ونزلت في حقه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] بشأنه (3).

سورة سبأ

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة سبأ مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]، فأهل العلم هنا هم أهل الكتاب.

قال الأول: لا .. بل في هذه الآية إشارة إلى أنّ أهل العلم الحقيقي يؤمنون بالقرآن الكريم إيمانا صادقا عن علم ويقين، ولا شكّ أنّ الأمر كذلك، فالنابهون العقلاء وأرباب الفضيلة والكمال، لا يتردّدون في الإيمان فور معرفتهم به .. وقد رجّح هذا المعنى العلّامة الطبرسي، فقال: (وهذا أولى، لعمومه .. لأنّهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه، فيعلمون بالنظر والاستدلال أنّه ليس من قبل البشر)(4)

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ

__________

(1) الدر المنثور: 5/ 178. ومجمع البيان: 8/ 332.

(2) التمهيد: 1/ 206.

(3) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 80 ـ 82.

(4) مجمع البيان: 8/ 378 ـ 379.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/83)

عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 15 - 21]، فقد روي عن فروة بن مسيك، أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن سبأ: جبل أم أرض، رجل أم امرأة؟ .. فنزلت الآيات، وكان هذا السؤال بعد مرجعه من غزو قبائل سبأ، أرجعه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه لم يؤمر بذلك (1) .. وبناء على هذا قال ابن الحصار: (وهذا يدلّ على أنّ نزول الآيات كان بالمدينة، لأنّ مهاجرة فروة كانت بعد إسلام ثقيف سنة تسع من الهجرة)(2)

قال الأول (3): لكنه قال بعد ذلك: (ويحتمل أن يكون قوله: (وأنزل في سبأ ما أنزل) حكاية عمّا تقدّم نزوله قبل الهجرة بمكة، لا نزوله حينذاك)(4) .. بالإضافة إلى أن ملاحظة القصد من القصة تكفي للدلالة على أنّ الهدف منها عامّ كسائر القصص الواردة في القرآن الكريم .. والصحيح في قصة فروة بن مسيك: أنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة سبأ بعد أن قرأها في القرآن، فسأله صلى الله عليه وآله وسلم عن سبأ أرجل هو أم امراة، أم هو اسم أرض أم جبل؟ فشرح له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رجل من العرب كان له من الأولاد كذا وكذا (5) .. وهذا يدلّ على تأخّر السؤال عن

__________

(1) مجمع البيان: 8/ 386. والدر المنثور: 5/ 231.

(2) الاتقان: 1/ 16.

(3) التمهيد: 1/ 207.

(4) الاتقان: 1/ 16.

(5) مجمع البيان: 8/ 386.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/84)

نزول الآيات .. بالإضافة إلى كل ذلك؛ فإنّ الرواية بهذا الشأن عن فروة مضطربة ومتناقضة بعضها مع بعض، بما يجعل الاستناد إليها في الحكم بنزول الآيات بشأنها مستحيلا، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح قال: حدّثني فلان أنّ فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبيّ اللّه إنّ سبأ قوم كان لهم في الجاهلية غزو، وإنّي أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فانزلت هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] .. وهي رواية مفكّكة سندا ومتنا وأسلوبا، ولا يوجد أيّ مناسبة بينها وبين مضمونها .. وهكذا سائر الروايات الواردة بهذا الشأن.

سورة فاطر

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة فاطر مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها آيتين .. أولاهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] .. والثانية قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] .. ولعلّ الأولى لذكر الصلاة فيها .. والثانية من أجل تعقيبها بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، فقد روى عكرمة عن ابن عباس: أنّ الظالم هو المنافق (1).

__________

(1) مجمع البيان: 8/ 399 و 409.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/85)

قال الأول (1): لكن هذا يتعارض مع كون الصلاة فرضت بمكّة .. أما تطبيق الظالم على المنافق؛ فإنه لا يستدعي نزول الآية بالمدينة حيث وجد المنافقون، لأنّه تطبيق وبيان مصداق من المصاديق، واللّفظ عامّ لا يتقيّد بموارد تطبيقه.

سورة يس

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة يس مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها آيتان .. أولاهما قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]؛ فقد أخرج الحاكم والترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه، فنزلت الآية، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ آثاركم تكتب، فلم ينتقلوا (2).

قال الأول (3): لكن القصّة لا تصلح سببا لنزول جميع ما ورد في الآية، لعدم المناسبة، ولعلّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم استشهد بجزء منها بعد ما شكوا إليه بعد منازلهم، حيث ذكر أن أفضل الأعمال أحمزها.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]، فقد قال ابن عباس: نزلت بالمدينة بشأن المنافقين (4).

__________

(1) التمهيد: 1/ 209.

(2) مجمع البيان: 8/ 418. والإتقان: 1/ 16. وتفسير الطبري: 22/ 100.

(3) التمهيد: 1/ 209.

(4) الإتقان: 1/ 16. ومجمع البيان: 8/ 413.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/86)

قال الأول: لكنّها صريحة في خطابها مع الذين كفروا، وقد نصّ ابن جرير على أن نزولها بشأن المشركين (1) .. وهذا ما يدل عليه سياق الآية ذاتها.

سورة الزمر

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الزمر مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقد روي أنّها نزلت بالمدينة (2).

قال الأول: لكن سياق الآية يدل على أنّها مكيّة .. بالإضافة إلى ما روي أنها نزلت تحرّض المؤمنين المستضعفين على الهجرة (3).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]، فقد حكى ابن الجزري عن بعضهم أنّها نزلت بالمدينة (4).

قال الأول: لكن سياق الآية شاهد على أنّها مكيّة، ولا وجه لهذا الاستثناء أبدا.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ

__________

(1) تفسير الطبري: 23/ 9.

(2) الإتقان: 1/ 16.

(3) مجمع البيان: 8/ 492.

(4) الإتقان: 1/ 16.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/87)

وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53 - 55]، فقد قيل: إنها نزلت في وحشي قاتل حمزة (1).

قال الأول (2): سند الرواية المذكورة ضعيف، وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في مشركي مكة (3) .. وهكذا فسّرها الطبري بعدّة طرق (4) .. وقال الطبرسي: (لا يصحّ نزولها بشأن (وحشي) لأنّ الآية نزلت بمكة، ووحشي أسلم بعدها بسنين كثيرة، ولكن يحتمل أن يكون قرئت عليه الآية فكانت سبب إسلامه)(5)

سورة غافر

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة المؤمن (غافر) مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها ثلاث آيات .. أولاها قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، فقد روي أنّها تعني بذلك صلاة المغرب وصلاة الفجر، وقد ثبت أنّ فرض الصلاة نزل بالمدينة (6).

قال الأول (7): هذا غريب .. لأنّ الصلاة أوّل ما فرضت فرضت بمكة، وكان المسلمون يصلّون بها جماعة وفرادى، وهي أوّل شيء نزل به جبريل عليه السلام، وعلّم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء والصلاة في بدء بعثته .. بالإضافة إلى أن صدر الآية: {فَاصْبِرْ إِنَّ

__________

(1) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 63.

(2) التمهيد: 1/ 211.

(3) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 63.

(4) تفسير الطبري: 24/ 10.

(5) مجمع البيان: 8/ 503.

(6) مجمع البيان: 8/ 512.

(7) التمهيد: 1/ 211.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/88)

وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} دليل على مكيّتها، فضلا عن السياق المتناسب.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى في الثانية والثالثة: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 56 - 57]، فقد أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية، قال: إنّ اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: الدجّال منّا يخرج في آخر الزمان .. وجعلوا يعظّمون من شأنه، فأنزل اللّه هاتين الآيتين (1).

قال الأول (2): معنى الآية عام؛ فقد قارنت بين خلق السماوات وخلق الناس، وجعلت الأولى أكبر، وهو ما يتنافى مع تلك المزاعم.

سورة الشورى

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الشورى مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 24 - 26]، فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار (3) .. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي

__________

(1) الدر المنثور: 5/ 353. وأسباب النزول بهامش الجلالين: 2/ 65.

(2) التمهيد: 1/ 212.

(3) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 68.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/89)

الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، فقد قيل: نزلت في أصحاب الصفّة (1).

قال الأول (2): من المستبعد جدا، بل من المستحيل، نزول الآيات الأولى في الأنصار، إذ كيف يعقل نسبة هذا الكلام إليهم: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، ثم إن الرواية تذكر أنّ الأنصار أساءوا الظنّ برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فحسبوه يقاتل دون أهل بيته خاصّة!؟ .. أمّا الآية الأخيرة فهي عامّة، ولو صحّت الرواية عن الإمام علي، فإنّما تعني شمولها لهم بعمومها، لا أنّها نزلت بشأنهم الخاص، إذ ذلك ـ على هذا الفرض ـ قدح لاذع بأهل الصفّة، وحاشا القرآن أن يجرح من عاطفة جماعة من المؤمنين لفقرهم.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 39 - 41]، فقد حكى أبو غرس عن بعضهم: أنّهنّ نزلن بالمدينة (3).

قال الأول (4): غير أنّ السياق يمنع ذلك، وهو يدل على أنها نزلت بشأن المؤمنين في مكة أيام كانوا مستضعفين.

سورة الزخرف

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الزخرف مكية.

__________

(1) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 68.

(2) التمهيد: 1/ 213.

(3) الإتقان: 1/ 16، مجمع البيان: 9/ 20.

(4) التمهيد: 1/ 214.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/90)

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، فقد قال مقاتل: نزلت ببيت المقدس ليلة المعراج، وقيل: نزلت بالمدينة (1).

قال الأول (2): لكن الآية مرتبطة بقريناتها المكتنفة بها ارتباطا وثيقا، وقد نزلت بشأن المشركين، أمّا نزولها في السماء (3) أو ببيت المقدس فلا يجعلها مدنيّة، وإنّما هي مكيّة باعتبار نزولها قبل الهجرة.

سورة الجاثية

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الجاثية مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14]، فقد قال قتادة: نزلت بالمدينة (4).

قال الأول (5): الصحيح أنّها من آيات الدعوة إلى الصفح، والتي نزلت بمكة أيام كان المؤمنون مستضعفين.

سورة الاحقاف

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الاحقاف مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ

__________

(1) مجمع البيان: 9/ 38. والدر المنثور: 6/ 19.

(2) التمهيد: 1/ 214.

(3) الإتقان: 1/ 16.

(4) مجمع البيان: 9/ 70. والإتقان: 1/ 16.

(5) تفسير الطبري: 25/ 87.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/91)

وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]، فقد أخرج الطبراني أنّها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد اللّه بن سلام (1).

قال الأول (2): لا .. بل هي عامة، وإنّما خصّ بنو إسرائيل بالذكر ـ هنا ـ لمزيد عناية العرب آنذاك بهم وثقتهم بعلمهم .. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: نزلت هذه الآية بمكة بشأن المشركين، وهكذا أخرج بعدة أسانيد (3).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 15 - 19]، فقد قيل: نزلت الآيات في أبي بكر حيث برّ والديه وفي ابنه عبد الرحمن عند ما عقّ والديه، وهما يحاولان إسلامه (4).

قال الأول (5): لكن الآيات في كلا الموضعين عامّة، بدليل صيغة الجمع، فالآيات

__________

(1) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 72. وتفسير الطبري: 26/ 8. والإتقان: 1/ 16.

(2) التمهيد: 1/ 215.

(3) تفسير الطبري: 26/ 7. والدر المنثور: 6/ 39.

(4) الدر المنثور: 6/ 41. وتفسير الطبري: 26/ 13.

(5) التمهيد: 1/ 216.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/92)

تصوير تفصيلي عن الذي يبرّ بوالديه والذي يعقّهما بصورة عامّة (1) .. وعلى تقدير نزولها بشأن أبي بكر وابنه عبد الرحمن فلا موجب لعدّها مدنيّة بعد أن كانت تلك القصة بشأنهما ـ على فرض الصحّة ـ بمكة.

سورة ق

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة ق مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، فقد روي أنها نزلت بالمدينة، ردّا على قول اليهود: إنّ اللّه استراح يوم السبت بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، من يوم الأحد إلى يوم الجمعة (2).

قال الأول (3): نزولها ردّا على تلك الخرافات الباطلة لا ينفي كونها مدنية؛ ذلك لأنّ العرب كانوا على اتصال دائم بأهل الكتاب، وربّما كانوا يأخذون منهم معارف ممّا يخصّ خلق السماوات والأرض، فكانت مشهورة بين العرب المشركين، فهذا الردّ ـ لو صحّ أنّه ردّ ـ لا يدلّ على أنّه نزل بالمدينة؛ فلعلّ الرواية القائلة بأنّها نزلت في اليهود، إنّما تعني أنها نزلت في تعاليم كانوا بثّوها بين العرب، والشاهد على أنّ الآية مكيّة ما جاء تفريعا عليها، وهو قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]، والتي هي من آيات الصفح المكيّة.

__________

(1) مجمع البيان: 9/ 87.

(2) الدر المنثور: 6/ 110. والإتقان: 1/ 16.

(3) التمهيد: 1/ 217.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/93)

سورة النجم

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة النجم مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، فقد روي عن ثابت بن الحرث الأنصاري، قال: كانت اليهود تقول ـ اذا هلك لهم صبيّ صغير ـ: صدّيق .. فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كذبوا، ما من نسمة يخلقها اللّه في بطن أمّه إلا أنّه شقيّ أو سعيد، فأنزل اللّه عند ذلك الآية (1).

قال الأول: الحديث ظاهر المخالفة للقرآن؛ فالله لا يميز الشقي من عباده من السعيد إلا بما كسبت يداه، لا بعلمه فيه، وإلا ارتفع التكليف، وتوقف الجزاء على علم الله فقط .. بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الرواية المذكورة لا علاقة لها بالآية رأسا، لأنّ قوله تعالى: {أَعْلَمُ بِكُمْ} تعليل لقوله: {واسع المغفرة} .. وهو يعني (2): إنّ هذا الإنسان مفطور على اقتراف مطاليب أرضيّة سافلة وفقا لفطرته البشريّة المتركّبة من نزعات ورغبات، واللّه أعلم بذلك.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 33 - 41]، فقد قيل: إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى غزاة،

__________

(1) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 89. والدر المنثور: 6/ 128.

(2) التمهيد: 1/ 218.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/94)

يطلب مركبا وسلاحا فلم يجد، فلقي صديقا له فقال: أعطني شيئا، فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمّل بذنوبي، فقال: نعم. فنزلت الآيات (1).

قال الأول: لكن الآيات لا تنطبق على فحوى القصة في شيء، وإنّما نزلت في صنديد من صناديد قريش كما ذكر ذلك أبو جعفر الطبري (2).

سورة القمر

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة القمر مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها ثلاث آيات .. الأولى، قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، فقد روي أنها نزلت يوم بدر (3).

قال الأول: وهو غير صحيح .. والآية تدل على ذلك، لأن فيها وعد بظفر المسلمين فيما يأتي، فتحقّق يوم بدر (4).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى في الثانية والثالثة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]

قال الأول: فما دليل اسثنائها؟

قال الثاني: لا أعرف .. لكن هذا ما وجدته في المصاحف المستندة للمصحف الأميري.

قال الأول: ليس كل ما أثبت في ذلك صحيح .. والسياق وحده كاف في إثبات

__________

(1) الدر المنثور: 6/ 128.

(2) تفسير الطبري: 27/ 41 ـ 42.

(3) لباب النقول بهامش الجلالين: 2/ 90.

(4) مجمع البيان: 9/ 194. والإتقان: 1/ 17 و 36.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/95)

ارتباطها بما قبلها وما بعدها.

سورة الواقعة

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الواقعة مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 - 40] لما رواه ابن مسعود من رؤيا رآها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقصّها على أصحابه، ثم قرأ عليهم الآيتين، وهذه القصة كانت بالمدينة (1).

قال الأول (2): لكن قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لا تدلّ على نزولهما حينذاك.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75 - 82]، فقد روى مسلم والحاكم وغيرهما: أنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أصيبوا بجدب، أو نفدت مياههم في سفر من الأسفار، أو في غزوة تبوك، فشكوا إليه، فقام صلى الله عليه وآله وسلم وصلّى ركعتين ثم دعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت عليهم، فجعل بعض المنافقين يسرّ إلى بعضهم: إنّما مطرنا بنوء كذا، فنزلت الآيات (3).

قال الأول (4): لكن الآيات تأبى الانطباق على هذه القصة، بل هي ردّ على منكري الوحي .. كما أنّ انسجام الآيات مع بعضها يجعل من قبول الرواية المذكورة مستحيلا.

__________

(1) مجمع البيان: 9/ 219.

(2) التمهيد: 1/ 219.

(3) اسباب النزول بهامش الجلالين: 2/ 92 ـ 93

(4) التمهيد: 1/ 220.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/96)

سورة الملك

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة الملك مكية.

قال الثاني: لكن ما تقول فيما روي عن ابن عباس: أنزلت تبارك الملك في أهل مكة إلّا ثلاث آيات (1).

قال الأول (2): ليس معنى هذا الكلام أنّها نزلت بمكة غير ثلاث آيات نزلن بغيرها، وذلك لأنّه قال: (في أهل مكّة)، ولم يقل: في مكة أو بمكة .. بل المعنى: أنّ هذه السورة نزلت تقريعا وتشنيعا بأهل مكة أي المشركين، فكلّ آياتها تهديد وتوعيد بشأنهم، غير ثلاث آيات تخصّ المؤمنين .. أولاها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] .. والثانية قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] .. والثالثة قوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29] .. والصحيح ـ كما في حديث ابن خديج ـ: أنّها نزلت جملة واحدة بمكة (3).

سورة القلم

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة القلم مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ

__________

(1) الدر المنثور: 6/ 246.

(2) التمهيد: 1/ 220.

(3) الدر المنثور: 6/ 246.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/97)

أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33]، وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 48 - 50] .. فهذه عشرون آية ذكر أنها نزلت بالمدينة .. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جريح أنّ أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذا، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحدا، فنزلت: {إِنَّا بَلَوْناهُمْ} (1).

قال الثاني (2): لا توجد مناسبة ظاهرة بين كلام أبي جهل، وما ورد في الآيات المذكورة، ليكون الداعي لنزولها .. والصحيح: أنّها نزلت بشأن المشركين عموما، انسجاما مع بقية آيات السورة (3) .. وأمّا قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فهي من آيات الصفح المكيّة بلا ريب.

سورة المزّمل

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة المزّمل

__________

(1) الدر المنثور: 6/ 253.

(2) التمهيد: 1/ 221.

(3) مجمع البيان: 10/ 336. وتفسير الطبري: 29/ 19.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/98)

مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 10 - 11]، كما حكاه الأصبهاني (1).

قال الأول: الآيتان واضحتان في كونهما دعوة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للصبر تجاه أذى المشركين، فهما من آيات الصفح المكيّة، ولا وجه لعدهما مدنيّتين.

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]؟

قال الأول (2): يردّه ما أخرجه الحاكم: أنّه نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، وذلك حين فرض قيام الليل في أوّل الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس (3) .. ومثله ما روى عبد بن حميد عن عكرمة، قال: لبث المسلمون بعد نزول {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} سنة فشقّ عليهم وتورّمت أقدامهم، حتى نزل آخر السورة: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} (4).

قال الثاني: فما تقول في استثناء قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا

__________

(1) الإتقان: 1/ 17.

(2) التمهيد: 1/ 222.

(3) الإتقان: 1/ 17.

(4) الدر المنثور: 6/ 280.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/99)

وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]، لأنّ الصلاة والزكاة لم تفرضا بمكة.

قال الأول: هذا استدلال غريب، لأنّ الصلاة هي أولى فريضة فرضت بمكة، وأمّا الزكاة فليست هي الزكاة المفروضة بحدود وأنصبة مقررة، وإنّما هي مطلق التصدّق الذي كان واجبا حينذاك، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] وقوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 7] .. نعم جاءت تفاصيل حدودها وأحكامها بالمدينة، أمّا أصلها فكانت واجبة بمكة بلا شك.

قال الثاني: فما تقول في الاستدلال على الاستثناء بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، والقتال لم يشرّع أصلا إلّا بالمدينة؟

قال الأول (1): في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى أسباب تخفيف ذلك التكليف الشديد، ومنها تشريع القتال بعدئذ، من غير أن يكون هناك دليل صريح على إرادة فعليّته حينذاك.

سورة المرسلات

ومنها أني مررت بآخرين، قال أولهما لصاحبه: لقد ذكرت لك سابقا أن سورة المرسلات مكية.

قال الثاني: لكن استثني منها قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]، فقد روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، فإنّ ذلك سبّة علينا (2)، وثقيف أسلمت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.

__________

(1) التمهيد: 1/ 222.

(2) مجمع البيان: 10/ 419.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/100)

قال الأول (1): بالإضافة إلى عموم الآية، إلا أن سياقها، يدل على أن المكذّبين، هم مشركو العرب، ولا معنى لأن يكون هذا الموضع من السورة خلوا من هذه الآية إلى أواخر سني الهجرة ثم تكتمل، لأن ذلك يخلّ بفصاحة السورة ويخلخل من نظمها المنسجم .. على أنّ الركوع هنا بمعنى: الخضوع للّه والانقياد التامّ لأوامره ونواهيه، لا الركوع المصطلح عليه كجزء من الصلاة (2)، وقد جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] (3) .. أو أريد به الخضوع والانقياد للحقّ، وحينها يكون المعنى: إذا قيل لهم سلّموا واخشعوا أو انقادوا .. وبذلك لا علاقة للآية بإسلام ثقيف، بل هي عامّة حكاية عن صمود المشركين أمام الحقّ الصراح.

3. شبهات وردود

بينما كنت أتجول في تلك الشوارع، لا أسمع إلا الأحاديث عن المكي والمدني، طرق سمعي صوت عال، يدعو أهل الحي للاجتماع في ساحة من ساحاته، وكان يردد: لقد حضر أخيرا المتكلمون الذين سيردون على الشبه التي أثارها أولئك الذين أساءوا فهم المكي والمدني؛ فتصوروا أن للقرآن الكريم إصدارين مختلفين متناقضين .. أحدهما مكي، والثاني مدني.

وما هي إلا لحظات حتى رأيت الكثير من سكان ذلك الحي نسائهم ورجالهم، وكهولهم وشبابهم، يسرعون إلى الساحة التي ذكرها، وكأنهم على موعد بحدث مهم انتظروه كثيرا.

__________

(1) التمهيد: 1/ 223.

(2) تفسير الطبري: 29/ 150.

(3) تفسير شبر، ص 46 و 545.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/101)

سرت معهم إليها .. وعندما وصلنا فوجئت بمعلمي يقف في المنصة، ومعه بعض الشيوخ الذين يبدو عليهم الوقار.

قال المعلم: ها قد جاء من انتظرتموهم طويلا .. وهم سيجيبونكم على كل الأسئلة والشبه التي تطرحونها .. فسلوا ما بدا لكم.

قام بعض الحضور، وقال (1): لعل أول الشبه وأكثرها انتشارا بين أولئك الذين يدعون الاستنارة بيننا هي ذكرهم أن للقرآن الكريم أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة، وهو ما جعلهم يتوهمون أن القرآن الكريم خضع لظروف مختلفة، وتأثر ببيئات متباينة.

قال آخر (2): فهم يذكرون مثلا أن القسم المكي من القرآن الكريم يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة، بخلاف القسم المدني منه، والذي تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة.

قال آخر (3): وهم يستدلون لذلك، بأن القسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد .. ويضربون المثل على ذلك بسورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وسورة {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وسورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وبمثل قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

قال آخر (4): وطبعا هم استثمروا في هذه الشبهة ما ذكره علماؤنا من خصائص المكي والمدني، والاختلافات بينهما .. ومبالغة البعض في ذلك إلى الدرجة التي مكنت من هذه

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 205)

(2) مناهل العرفان (1/ 205)

(3) مناهل العرفان (1/ 205)

(4) مناهل العرفان (1/ 205)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/102)

الشبهة، وسهلت انتشارها.

قام كبير المتكلمين، وقال (1): لقد سمعنا هذه الشبهة؛ فائذنوا لنا في جوابها .. وبحسب ما يقضته المنهج العلمي الذي يشخص القضايا قبل الحكم عليها .. وعندما تأملنا فيما طرحتموه، نجد أن الشبهة تتألف من ثلاث علل نحتاج إلى الإجابة على كل واحدة منها .. وهي أن القسم المكي تفرد بالعنف والشدة .. وأن فيه سبابا وإقذاعا .. وأنه يمتاز بكل ميزات الأوساط المنحطة .. والغرض من كل هذا الوصول إلى أن القرآن الكريم مفكك الأجزاء، غير متصل الحلقات، وأنه خاضع للظروف متأثر بالبيئة.

قال آخر (2): وغرضهم الأكبر من هذا معروف طبعا، وهو استخدام المكي والمدني وسيلة لإثبات أن القرآن الكريم ليس كلام الله، وليس معجزا، وإنما هوكلام محمد الذي تأثر أولا بأهل مكة فكان كلامه خشنا بعيدا عن المعارف العالية التي اكتسبها من أهل الكتاب في المدينة.

العنف والشدة

قال آخر (3): فأما اعتبارهم القسم المكي متفردا بالعنف والشدة؛ فغير صحيح، ذلك أن في القسم المدني شدة وعنفا .. لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب وسياسة الأمم والدول تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة وهي مدنية: {فَإِنْ لَمْ

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 205)

(2) مناهل العرفان (1/ 205)

(3) مناهل العرفان (1/ 206)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/103)

تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] .. وفيها في التحذير من الربا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] .. وفيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران وهي مدنية كذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 10 - 12] .. وفيها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116]

قال آخر (1): ثم إن دعواهم انفراد المكي بالعنف والشدة يفهم منه دعوى انفراد المدني باللين والصفح، ودعوى خلو المكي من ذلك اللين والصفح، وهذا المفهوم باطل كمنطوقه أيضا.

قال آخر: والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصرها هنا .. فبين السور المكية آيات كريمة كثيرة تفيض لينا وصفحا، كما في قوله تعالى في سورة فصلت المكية: {وَمَنْ أَحْسَنُ

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 207)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/104)

قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 33 - 35]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الشورى المكية: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 36 - 43]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحجر المكية: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 87 - 99]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الزمر المكية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]

القرآن.. وتحريف الغالين (2/105)

التقريع والتوبيخ

قال آخر (1): أما ادعاؤهم أن في القسم المكي من القرآن الكريم سبابا وفحشا .. فهو من جهلهم بالقرآن الكريم .. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، ونحن نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله مكيه ومدنيه يحوي ما ذكروه من البذاءة والفحش.

قال آخر: هل يعقل أن يحوي الكتاب المقدس الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب أن يخرج هوعن تلك الأصول .. إنه بذلك يصبح غرضا لكل منتقديه الذين يذكرون تناقضه بين ما يدعو إليه، وبين ما يحويه.

قال آخر: كيف يحوي القرآن الكريم السباب والشتائم، وهو الذي حرم على المؤمنين به أن يسبوا أعداءه المشركين، كما قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]

قال آخر: إن ما يذكره هؤلاء لا يختلف عن قول المشركين الذين كانوا يعتبرون نقد القرآن الكريم الشديد للعقائد والسلوكات الجاهلية سبا وشتائم .. فمنذ متى كان النهي عن المنكر والدعوة لتغييره سبابا وشتائم؟

قال آخر (2): ولذلك؛ إن أرادوا بالسب والشتائم الدعوة للتغيير والإصلاح؛ فإن القرآن كله ـ لا في القسم المكي وحده ـ تسفيها لأحلام المتنطعين الذين يصمون آذانهم، ويغمضون أعينهم عن الحق، ويهملون الحجج والبراهين.

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 208)

(2) مناهل العرفان (1/ 208)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/106)

قال آخر (1): وهوفي ذلك شديد عنيف .. بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يعدل عن سنن الحق، ولم يصدف عن سبيل الحكمة .. بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة .. ومن مصلحتهم هم ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرعووا عن باطلهم ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ويسيروا على هدى الدليل والحجة على حد قول القائل:

قسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم

قال آخر (2): أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية كما تجده في السور المكية .. وإن كان في المكي أكثر من المدني لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة، صعاب المراس، مسرفين في العناد والإباء، لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل، بل وجهوا إليه الأذى في مهاجره.

قال آخر (3): ومن الأمثلة على ما في السور المدنية من التقريع والتوبيخ الذي تقتضيه الدعوة والإصلاح، قوله تعالى من سورة البقرة المدنية في شأن المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 - 7]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 208)

(2) مناهل العرفان (1/ 208)

(3) مناهل العرفان (1/ 209)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/107)

بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 8 - 15] .. فكل هذه الآيات الكريمة مليئة بالتوبيخ والتعنيف لأولئك المخادعين الذين ينفثون سمومهم ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذي حدين هوسلاح النفاق والذبذبة.

قال آخر: ومثل ذلك نقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز، تنقدهم وتنعي جرائمهم، وتحمل عليهم حملة شعواء، تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] .. وقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90]

قال آخر: ومثل ذلك نقرأ في سورة آل عمران المدنية قوله تعالى في شأن اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]

قال آخر: ومثل ذلك نقرأ في سورة آل عمران المدنية قوله تعالى في شأن النصارى:

القرآن.. وتحريف الغالين (2/108)

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 55 - 56]

قال آخر: ومثل ذلك نقرأ في سورة آل عمران المدنية قوله تعالى في شأن المرتدين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 90 - 91]

قال آخر (1): أما السور والآيات التي اعتمد عليها مثيرو الشبهة؛ فلا تدل على ذلك السباب الذي زعموه ووصموا به القرآن الكريم لأن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبي لهب وامرأته، جزاء ما أساءا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل على ذلك سبب نزولها، فقد روي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا فجعل ينادي: (يا بني فهر يا بني عدي) لبطون قريش حتى اجتمعوا؛ فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبولهب وقريش فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيتكم لوأخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي) قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقال أبولهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فنزلت (2) .. ومثل ذلك زوجته؛ فقد كانت تشاركه في كل جرائمه إن لم تتفوق عليه فيها.

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 210)

(2) البخاري برقم (1394، 4801،3525)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/109)

قال آخر (1): فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبي لهب بما يستحق من إنذاره بالهلاك والقطيعة، وأن ماله لا ينفعه، ولا كسبه، وأنه خاسر هووامرأته وأن مصيرهما إلى النار وبئس القرار .. ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له، ولأمثاله وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وذلك هواللائق بالعدالة الإلهية والتربية الحكيمة الربانية.

قال آخر (2): وأما سورة العصر؛ فكل ما عرضت له هو تقسيم الناس قسمين: قسما غريقا في الخسران، وقسما فاز ونجا من هذا الخسران، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة .. تأملوا قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] .. فهل فيها إلا الحكمة والنصح.

قال آخر (3): وأما سورة التكاثر؛ فمبلغ ما تشير إليه أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين، وألهتهم الأموال عن رب الأموال، حتى انتهت أعمارهم وهم على هذه الحال، وغدا يسألون عن هذا النعيم، ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم.

قال آخر (4): وأما قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] فهو حكاية لما حل بالأمم السابقة كثمود وعاد حين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لأولئك الكفار ومزدجر، فلا يقعوا فيما وقع فيه أسلافهم، لأن سنة الله واحدة في الأمم وميزان عدالته قائم في كل جيل وقبيل، قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43]

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 210)

(2) مناهل العرفان (1/ 211)

(3) مناهل العرفان (1/ 211)

(4) مناهل العرفان (1/ 211)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/110)

قال آخر (1): والخلاصة أن القرآن الكريم كله قام على رعاية حال المخاطبين، فتارة يشتد، وتارة يلين تبعا لما يقتضيه حالهم، سواء منهم مكيهم ومدنيهم، بدليل أننا نجد بين ثنايا السور المكية والمدنية ما هو وعد ووعيد، وتسامح وتشديد، وأخذ ورد، وجذب وشد.

قال آخر (2): وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدة والعنف، فذلك لما مردوا عليه من أذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم، ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم.

قال آخر (3): وكان القرآن الكريم في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول بعيدا عن كل معاني السباب والإقذاع، متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع، حاثا على الصبر والعفووالإحسان حتى ليخاطب الله رسوله في سورة الأنعام المكية بقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 34 - 36]

قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإننا نلاحظ أن القسم المكي خلا خلوا تاما من تشريع القتال والجهاد، كما خلت أيامه في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة، فلم يسمع للمسلمين فيها صلصلة لسيف، ولا قعقعة لسلاح، ولا زحف على عدو .. إنما هوالصبر والعفووالمجاملة والمحاسنة بالرغم من إيغال الأعداء في

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 211)

(2) مناهل العرفان (1/ 211)

(3) مناهل العرفان (1/ 212)

(4) مناهل العرفان (1/ 212)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/111)

أذاهم، ولجاجهم في عتوهم.

الانحطاط والتعارض

قال آخر (1): أما ادعاؤهم أن القسم المكي يمتاز بكل ميزات الأوساط المنحطة؛ فهومردود عليهم، بل هو باطل من كل وجه أرادوه، لأنهم إن أرادوا بذلك ما توهموه من انفراده بالشدة والعنف، أوالسباب والإقذاع، فهو كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب في شطريه المكي والمدني على السواء.

قال آخر (2): وإن أرادوا بانحطاطه أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية؛ فالتاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب، يصدرون عن رأيها، ويرجعون إلى حكمها، ويأخذون عنها، وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور، ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة.

قال آخر (3): ثم إن وصف القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة تهمة جريئة، ما رضيها أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب وعرب وعجم وأميين ومثقفين، على حين أن أولئك العرب كانوا على أميتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيه وعلوه ونزوله، كما كانوا أحرص الناس على إحراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودحض حجته ونقض دينه والقضاء على الإسلام في مهده، لكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذي يهرف به هؤلاء.

قال آخر (4): بل نعلم بجانب هذا أن القرآن الكريم كان له سلطان على نفوسهم إلى

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 213)

(2) مناهل العرفان (1/ 213)

(3) مناهل العرفان (1/ 213)

(4) مناهل العرفان (1/ 213)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/112)

حد خارق مدهش، فقد كان يقودهم بقوته إلى الإسلام، ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته، ويهتز لفصاحته، ويأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثره بسماعه.

قال آخر (1): وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني والتعارض بين أسلوبيهما فهوزعم مبني على اعتبارات خاطئة .. وأدل دليل على ذلك أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن الكريم لم يستطيعوا أن يتهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام، لأنهم كانوا يرون أن هذا الاتهام سيكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا.

قال آخر (2): ولعلكم سمعتم بالوليد بن المغيرة، وهو يقول للملأ من قريش: (والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هومن كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلووما يعلى)، ولما قالت قريش عندئذ: صبأ والله الوليد واحتالوا عليه أن يطعن في القرآن لم يجد حيلة إلا أن يقول: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24]، ولم يستطع أن يرمي القرآن بالتهافت والتخاذل وانقطاع الصلة بين أجزائه وانحطاط شيء من أساليبه على نحوما يرجفون.

القصار والطوال

قام أحد الحضور، وقال (3): ومن الشبه التي لا نزال نسمعها ما يذكرونه في سر الفرق في الطول والقصر بين السور المكية والمدنية .. حيث يذكرون إن قصر السور والآيات

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 214)

(2) مناهل العرفان (1/ 214)

(3) مناهل العرفان (1/ 215)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/113)

المكية مع طول السور والآيات المدنية يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني، ويدل على أن القسم المكي يمتاز بمميزات الأوساط المنحطة، ويدل على أن القرآن في نمطه هذا نتيجة لتأثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوسط والبيئة، فلما كان في مكة أميا بين الأميين جاءت سور المكي وآياته قصيرة، ولما وجد في المدينة بين مثقفين مستنيرين جاءت السور المدنية وآياتها طويلة.

قال أحد المتكلمين (1): وهذا ناتج عن جهلهم بالقرآن الكريم، ذلك أن في القسم المكي سورا طويلة مثل سورة الأنعام، وفي القسم المدني سورا قصيرة مثل سورة النصر .. وبذلك؛ فإن كلاهما لا يسلم على عمومه.

قال آخر (2): إذا أرادوا الكثرة الغالبة لا الكلية الشاملة فهذا نسلمه لهم، لكنه لا يدل على ما افتروه ورتبوه عليه، لأن قصر معظم السور المكية وآياتها وطول معظم السور المدنية وآياتها لا يقطع الصلة بين قسمي القرآن: مكيه ومدنيه، ولا بين سور القرآن وآياته جميعا، بل الصلة كما يحسها كل صاحب ذوق في البلاغة محكمة وشائعة بين كافة أجزاء التنزيل.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم قد تحدى الناس جميعا مكيهم ومدنيهم، وعربيهم وعجميهم، أن يأتوا ولوبمثل أقصر سورة من تلك السور القصيرة فعجزوا أجمعين، وأسلم المنصفون منهم لله رب العالمين .. فلوكان القصر أثرا للانحطاط كما يقول أولئك المرجفون لكان في مقدور الممتاز غير المنحط أن يأتي بمثل ذلك المنحط، بل بأرقى منه.

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 215)

(2) مناهل العرفان (1/ 215)

(3) مناهل العرفان (1/ 217)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/114)

تشريعات وأحكام

قام أحد الحضور، وقال (1): ومن الشبه التي لا نزال نسمعها ما يذكرونه من أن القسم المكي خلا من التشريع والأحكام، بينما القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام .. وهم يستدلون بذلك على أن القرآن الكريم من وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأليفه تبعا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه، فهوحين كان بمكة بين الأميين جاء قرآنه المكي خاليا من العلوم والمعارف العالية، ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء قرآنه المدني مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية.

قال أحد المتكلمين (2): وهذا من دلائل عدم معرفتهم بالقرآن الكريم .. فالقسم المكي لم يخلو جملة من التشريع والأحكام، بل عرض لها، ولكن بطريقة إجمالية .. ولذلك نجد جميع مقاصد الدين مذكورة فيه .. ابتداء من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .. وانتهاء بالدعوة إلى حفظ النفس .. وحفظ العقل .. وحفظ النسل .. وحفظ المال .. وغيرها.

قال آخر (3): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى من سورة الأنعام المكية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 218)

(2) مناهل العرفان (1/ 218)

(3) مناهل العرفان (1/ 218)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/115)

فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153] .. فقد جمعت هذه الآيات الكريمة جمعت الوصايا العشر، والتي تحوي المقاصد الكبرى للدين.

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن آيات العقائد في القسم المكي ظاهرة واضحة وكثيرة شائعة، ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف .. وذلك لقيام الدين على الإيمان قبل التشريعات.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة ليس نتيجة لما زعموه .. إنما هوأمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب وهداية الخلق .. ولهذا بدأ الله عباده في مكة بالدعوة لإصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح، حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم، وشعروا بمسؤولية البعث والجزاء، وتقررت فيهم هذه العقائد الراشدة، فطمهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق، وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات، ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات .. وهذا ما حصل في مكة .. ولما مرنوا على ذلك وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال بتطاول الأيام والسنين، وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة، جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام، وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام.

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 218)

(2) مناهل العرفان (1/ 218)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/116)

قال آخر (1): ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم، من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخف المسائل وأوجزها فيما يشبه قصار السور ومختصر القصص، حتى إذا تقدمت بهم السن، وعظم الاستعداد، تلاطم بحر التعليم وزاد، على حد قولهم: الإمداد على قدر الاستعداد.

قال آخر (2): أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهل المدينة المستنيرين، فينقضه أن القرآن الكريم جاء يصلح عقائد أهل الكتاب وأخطاءهم في التشريع وفي التحليل والتحريم وفي الأخبار والتواريخ، فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران المدنية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .. وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 65 - 68] .. وقوله {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] .. وغيرها من الآيات الكريمة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة المائدة المدنية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 218)

(2) مناهل العرفان (1/ 218)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/117)

فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]

قال آخر (1): أما ما زعموه من استفادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب .. فلوكان صحيحا لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة، ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة، ولسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط.

قال آخر (2): بالإضافة إلى هذا؛ فإن القرآن الكريم تحدى الكافة من مكيين ومدنيين، بل من جن وإنس، فهلا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولوفي مقدار سورة قصيرة واحدة؟

براهين وأدلة

قام أحد الحضور، وقال (3): ومن الشبه التي لا نزال نسمعها ما يذكرونه من أن القسم المكي خلا من الأدلة والبراهين، بخلاف قسمه المدني فإنه مليء بالأدلة مدعم بالحجة .. ويذكرون أن هذا برهان جديد على تأثر القرآن بالوسط الذي كان فيه.

قال أحد المتكلمين (4): أول ما يرد به على هذه الشبهة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو تأثر بالوسط الذي يعيش فيه لكان الوسط أولى بتوجيه هذا المطعن عليه، ولكان أعرف بهذا

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 219)

(2) مناهل العرفان (1/ 219)

(3) مناهل العرفان (1/ 236)

(4) مناهل العرفان (1/ 236)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/118)

النقض فيه، فيظفر عليه ويدخل إلى إبطال دعوته من هذا الباب الواسع، لا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والمدينة كان له أعداء ألداء ليس لعداوتهم دواء .. ولوصح هذا لبطلت نبوته، ولصح أن تكون النبوة لهم باعتبار أنهم مصدرها، وأنهم أساتذته فيها.

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كذبهم في هذه الشبهة صريح مكشوف، لأن القسم المكي حافل بأقوى الأدلة وأعظم الحجج على عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون المكية في البرهنة على التوحيد: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء المكية في الاستدلال للتوحيد: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 22 - 24]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت المكية في البرهنة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 48 - 51]

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 236)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/119)

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة ق المكية: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 9 - 15] .. وقوله فيها: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون المكية في الاستدلال على البعث والجزاء: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 115 - 117]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة السجدة المكية: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 18 - 20]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الجاثية المكية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 21 - 22]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى سورة الأنعام المكية في نقض أوهام المشركين في

القرآن.. وتحريف الغالين (2/120)

احتجاجهم لأباطيلهم بالمشيئة الإلهية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]

الحس والمعنى

قام أحد الحضور، وقال (1): ومن الشبه التي لا نزال نسمعها ما يذكرونه من أن القرآن الكريم أقسم كثيرا بالضحى والليل والتين والزيتون وطور سينين .. وغيرها من المخلوقات .. ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكة لأن القوم فيها كانوا أميين، لا تعدو مداركهم حدود الحسيات .. أما بعد الهجرة واتصال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهل المدينة وهم قوم مثقفون مستنيرون، فقد تأثر القرآن بهذا الوسط الراقي الجديد، وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة.

قال أحد المتكلمين (2): وهذه الشبهة دالة على الجهل بالقرآن الكريم وبالأقسام نفسها وبأهل مكة والمدينة .. وهي دالة على أن الغرض منها الإشكال فقط .. فأهل مكة وأهل المدينة سواء في إدراك جمال الألفاظ والمعاني .. وكانوا سواء في البحث عن أي ثغرة يمكن أن يعارضوا بها القرآن الكريم .. ولو وجدوا لفعلوا.

قال آخر (3): أما القسم بالأمور الحسية في القرآن؛ فليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون، وإنما رعاية مقتضى الحل فيما سيق القسم لأجله .. ذلك أن القرآن الكريم كان

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 220)

(2) مناهل العرفان (1/ 220)

(3) مناهل العرفان (1/ 220)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/121)

بصدد علاج أفحش العقائد فيهم، وهي عقيدة الشرك، ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من دلائل عظمة الله، وإلا بفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ما دام هوالخالق وحده، لأنه لا يستحق العبادة عقلا إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا.

قال آخر (1): فعرض بعض المخلوقات على أنظار الجاحدين بالتوحيد بعد إقرارهم أن ليس لها خالق إلا الله إلزام لهم بطرح الشرك وتوحيد الخالق .. وهذا مطمح نبيل أجاد القرآن الكريم في أساليب عرض نعم الله عليهم من أجله، وكان في إجادته هذه موفيا على الغاية .. فمرة يحدث عن خلق السماء، ومرة عن خلق الأرض، وثالثة عن أنفسهم، ورابعة عن أنواع الحيوان والنبات والجماد وهلم جرا.

قال آخر (2): وتارة يختار القرآن في عرضه طريقة السرد والشرح .. وتارة يختار طريقة الحلف والقسم، لأن في الحلف والقسم معنى العظمة التي أودعها الله في هذه النعم، وهي دالة على توحيده وعظمته حتى صح أن يدور القسم عليها وأن يجيء الحلف بها.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم لم يكتف بالقسم بالأمور الحسية، بل أقسم أيضا بالأمور المعنوية (4) .. وكل ذلك لينبههم إلى مدى إنعامه عليهم بتلك الأقسام كلها حسيها ومعنويها، فيرعووا عن عبادة تلك الآلهة المزيفة التي لا تملك ضرا ولا نفعا، وليس لها أي شأن في هذا الخلق.

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 220)

(2) مناهل العرفان (1/ 221)

(3) مناهل العرفان (1/ 221)

(4) ومن الأمثلة على ذلك القسم بالقرآن الكريم في قوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 1 ـ 5]

القرآن.. وتحريف الغالين (2/122)

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة .. ومن الأمثلة على ذلك قسم الله تعالى بالضحى والليل في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 1 - 5]، وسبب نزول هذه الآيات: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتر عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه، أي تركه وأبغضه، فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم، مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الضحى الذي تقوى به الحياة، وما عرض بعد ذلك من فترة الوحي بمنزلة الليل إذا سجى، لتستريح فيه القوى، وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل .. وبذلك فإن فترة الوحي كانت لتثبيته صلى الله عليه وآله وسلم وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتم به حكمة الله في إرساله إلى الخلق .. ولهذا قال له: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، أي إن كرة الوحي ثانيا سيكمل بها الدين وتتم بها نعمة الله على أهله .. وأين بداية الوحي من نهايته؟ .. وأين إجمال الدين الذي جاء في قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] من تفصيل العقائد والأحكام الذي جاء في مثاني القرآن .. ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] .. فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ليس مجرد تذكير بآياته ونعمه فحسب، بل هوأيضا إقامة دليل على أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار، وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل، فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار والنوم والاستجمام بالليل، يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 222)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/123)

سلف.

لغو وغموض

قام أحد الحضور، وقال (1): ومن الشبه التي لا نزال نسمعها ما يذكرونه من أن القسم المكي من القرآن الكريم اشتمل على لغومن الكلام في كثير من فواتح السور، مثل الحروف المقطعة .. وذلك يبطل دعوى المسلمين أن القرآن بيان للناس وهدى وأنه كلام الله .. وأي بيان وأي هدى في قوله: {الم} وقوله: {كهيعص}؟

قال آخر (2): ويقولون: إن هذه الأحرف وأمثالها في غاية البعد عن الهدى، بدليل أنه لم يهتد أحد منهم، ولا الراسخون في العلم لإدراك معناها، فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل.

قال آخر (3): ويقولون: إن الحروف المقطعة المفتتح بها أوائل بعض السور إما أن يكون قصد منها التعمية أوالتهويل، أوإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف، أوهي رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة، ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا .. أو هي أثر من آثار اليهود فيه بسبب كونهم من كتبته.

قال أحد المتكلمين (4): وهذه الشبهة أيضا دليل على الجهل بالقرآن الكريم، وعدم التعمق في أسراره، بل حتى في أبسط المعارف المرتبطة به .. وأولها أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له كتبة من اليهود أبدا .. وها هوالتاريخ حاكم عدل لا يرحم ولا يحابي فليسألوه إن كانوا صادقين؟

قال آخر (5): بالإضافة إلى ذلك .. فإن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن الكريم

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 225)

(2) مناهل العرفان (1/ 225)

(3) مناهل العرفان (1/ 225)

(4) مناهل العرفان (1/ 225)

(5) مناهل العرفان (1/ 225)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/124)

بمثل هذا .. ولوكان هذا مطعنا عندهم لكانوا أول الناس جهرا به وتوجيها له، لأنهم كانوا أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يتمنون أن يجدوا في القرآن مغمزا من أي نوع يكون ليهدموا به دعوة الإسلام .. كيف وهم يكفرون به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق؟

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك .. فإن اشتمال القرآن الكريم على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصفه بأنه بيان للناس وهدى ورحمة، فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعه، لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه .. ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية، وهداية للخلق إلى الحق، ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة.

قال آخر (2): وهذا الجواب مبني على التسليم الجدلي بأن فواتح تلك السور من الأسرار التي استأثر الله بعلمها، ولم يطلع عليها أحد من خلقه، وذلك لحكمة من حكمة السامية، وهي ابتلاؤه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب، وصادق الإيمان من المنافق، بعد أن أقام لهم أعلام بيانه، ودلائل هدايته، وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أوغيضا من فيض.

قال آخر (3): أما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم، ولولم يفهموا معناها، أو لم يدركوا مغزاها، ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم، عمت

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 225)

(2) مناهل العرفان (1/ 225)

(3) مناهل العرفان (1/ 226)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/125)

حكمته ما خفي وما ظهر من معاني كتابه، ووسع علمه كل شيء عرفه الخلق أو لم يعرفوه من أسرار تنزيله .. {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]

قال آخر (1): ونظير ذلك أن يكون لك أصدقاء تريد أن تعرفهم أوتعرف منهم مدى صداقتهم لك، فتبتليهم بأمور يزل عندها المزيفون ويظهر الصادقون .. كما قال الشاعر:

ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد

فإذا ظفرت بذي اللبانة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد

قال آخر (2): ونظير ذلك أن تكون أستاذا معلما، وتريد أن تقف على مدى انتباه تلاميذك، ومبلغ ثقتهم فيك وفي علمك بعد أن زودتهم منك بدراسات واسعة وتعاليم واضحة، فإنك تختبرهم في بعض الأوقات بكلمات فيها شيء من الإلغاز والخفاء، ليظهر الذكي من الغبي، والواثق بك الوامق لك من المتشكك فيك المتردد في علمك وفضلك .. فأما الواثق فيك فيعرف أن تلك الألغاز والمعميات صدرت عن علم منك بها، وإن لم يعلم هو تفسيرها، ويعرف أن لك حكمة في إيرادها على هذه الصورة من الخلفاء، وهي الاختبار والابتلاء .. وأما المتشكك فيك فيقول: ماذا أراد بهذا؟ وكيف ساغ له أن يورده؟ وما مبلغ العلم الذي فيه؟ ثم ينسى تلك المعارف الواسعة الواضحة التي زودته بها من قبل ذلك، وكلها من أعلام العلم وآيات الفضل.

قال آخر (3): بالإضافة إلى هذا .. فإن إبتلاء الله لعباده ليس المراد منه أن يعلم تعالى

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 226)

(2) مناهل العرفان (1/ 226)

(3) مناهل العرفان (1/ 227)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/126)

ما كان جاهلا منهم، حاشاه .. فقد وسع كل شيء علما .. إنما المقصود منه إظهار مكنونات الخلق، وإقامة الحجج عليهم من أنفسهم، فلا يتهمون الله في عدله وجزائه إذا جعل من الناس أهلا لثوابه وآخرين لعقابه.

قال آخر (1): هذا على التسليم الجدلي بعدم العلم بها .. أما على الثاني .. فإن لهذه الفواتح معاني لا تعرف إلا بالتدبر والتأمل .. فالقرآن كتاب هداية، والهداية لا تتحقق إلا بتدبره والاستنباط منه.

قال آخر (2): ومن الأمثلة على الفهوم المرتبطة بها أن المقصود منها إفهام المخاطبين أن الذي سيتلى عليهم من الكلام الذي عجزوا عن معارضته والإتيان بمثله إنما يتركب من مثل هذه الحروف التي في الفواتح، وهي معروفة لهم يتخاطبون بما يدور عليها ولا يخرج عنها .. ومنهم من قال: إن المقصود منها هوالدلالة على انتهاء سورة والشروع في أخرى .. ومنهم من قال: إن المقصود منها القسم بها لإظهار شرفها وفضلها إذ هي مبنى كتبه المنزلة.

قال آخر (3): ومنهم من قال: إن المقصود منها تنبيه السامعين وإيقاظهم .. ذلك أن قرع السمع في أول الكلام بما يعيي النفوس فهمه أو بالأمر الغريب دافع لها أن تصغي وتتيقظ وتتأمل وتزداد إقبالا: فهي كوسائل التشويق التي تعرض في مقدمة الدرس على منهج التربية الحديثة في التعليم.

قال آخر (4): ومنهم من قال: إن المقصود منها سياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها إلى الاستماع إليه .. والمعروف أن أعداء الإسلام في صدر الدعوة كان يقول

__________

(1) مناهل العرفان (1/ 227)

(2) مناهل العرفان (1/ 227)

(3) مناهل العرفان (1/ 227)

(4) مناهل العرفان (1/ 228)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/127)

بعضهم لبعض: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]

القرآن.. وتحريف الغالين (2/128)

خامسا ـ القرآن .. ومصاديق التنزيل

في صباح اليوم التالي، نهضت على أصوات ضجة تملأ الشارع الذي كنت أقيم فيه؛ فأسرعت أنظر ما يحصل؛ فوجدت جمعا من الكهول والشباب، يسيرون بسرعة، وهم يرددون: هيا إلى المحكمة؛ فاليوم سيحاكَم الباطنيون الضالون المحرفون للقرآن، وسنرى القاضي كيف يطبق عليهم أحكام الردة والمحاربة.

قال آخر: كم انتظرنا ذلك اليوم الذي نرى فيه تلك الرؤوس معلقة على الرماح، والأجساد معلقة على الصلبان.

قال آخر: سيكون ذلك أعظم انتقام للقرآن الكريم، ولعله يصبح بركة علينا؛ فنخرج من هذا الضيق الذي نعيشه؛ فلعل سببه أولئك المحرفين الذين قصرنا في عقوبتهم.

قال آخر: أجل .. ولن نكتفي بأولئك الضالين المبتدعين، بل سنفتش عن كل من يفكر بنفس تفكيرهم، ويحرف القرآن بنفس تحريفهم، لنمتحنه، ونعاقبه بنفس عقوبتهم.

مع أن كل ما ذكروه كان مهما بالنسبة لي، لكني لفرط نعاسي، لم أبال به، إلى أن مر بي رجلان قال أحدهما لصاحبه: لست أدري كيف بقي أولئك الضالون الباطنيون كل تلك السنين سجناء لا يلتفت لهم أحد إلى أن قرر القاضي اليوم إحضارهم، ودعوة الجميع لحضور جلسة محاكمتهم؟

قال الثاني: لقد سمعت أن شخصا فاضلا زار بلدتنا، يقال له [المعلم]، وأنه هو من استطاع إقناع القاضي بذلك .. وقد سمعت أيضا أن هذا المعلم سيحضر الجلسة، وهو ما دفعني إلى الحضور؛ فالكل يثني عليه، وعلى الأنوار التي تشع منه، والتي لا يملك أحد من

القرآن.. وتحريف الغالين (2/129)

الناس أن يقاومها.

ما نطق الرجل بذلك، حتى وجدتني أسرع إلى حيث يسرعون، وأنا أتعجب من أن يدعو معلم الاعتدال إلى تلك المحاكمة الشديدة القاسية.

لكني .. ما إن وصلت حتى تغير موقفي تماما، كما تغير موقف الجميع .. وسأحكي لكم كل ما ذكروه في الجلسة، والتي تشكلت من القاضي والمدعي والمتَّهمين والمعلم طبعا .. والذي جعله القاضي معه في منصة المحكمة.

1. المصاديق والتأويل الصحيح

قال القاضي: ها نحن نجتمع أخيرا في البت في هذه القضية التي طال تأجيلنا لها، خوفا من الفتنة التي زعم البعض أن مدينتنا قد تقع فيها .. لكن هذا المعلم الفاضل أقنعني بأن العدل لن يجر إلى الفتنة، والحقيقة هي وحدها من يقضي على كل صراع .. ولذلك طلبت من المدعي أن يجمع كل الشهادات والوثائق التي تدين هؤلاء المتهمين، ومعها كل الشهود، وسنسمح للمتهمين طبعا بأن يجيبوا عليها، ثم بعد ذلك نقرر ما يقتضيه العدل الذي نراه، والذي ترونه معنا معشر الحضور، وخاصة أهل العلم منكم.

قال المدعي: وقد فعلت ذلك .. وسأبدأ بأول ما قد نكتفي به لإدانتهم.

ثم التفت للمتهمين، وقال: إن التهمة الكبرى الموجهة لكم هي تحريف فهم القرآن الكريم، وأنتم بذلك تشبهون بني إسرائيل الذين كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويستبدلون بمعانيه ما يريدون هم لا ما تريده كتبهم المقدسة.

قال أحد المتهمين: كيف ذلك؟

القرآن.. وتحريف الغالين (2/130)

قال المدعي: ألستم تقولون بأن للقرآن الكريم ظاهرا وباطنا .. وأنكم تأخذون بباطن القرآن؟

قال أحد المتهمين: وبظاهره .. فنحن نؤمن بكليهما، ونحاول أن نفهم كليهما.

قال المدعي: وذلك هو التحريف بعينه .. فظاهر القرآن الكريم هو المقصود .. وكل من يرى أن هناك باطنا له فهو من زنادقة الباطنية.

قال أحد المتهمين: فأنت تتهم نفسك بذلك إذن؟

قال المدعي: كيف ذلك؟

قال أحد المتهمين: ألم تشبهنا ببني إسرائيل وتحريفهم لكتبهم؟

قال المدعي: ولا أزال أصر على ذلك .. فأنتم معشر الباطنية هم يهود هذه الأمة .. بل منافقوها.

قال أحد المتهمين: وهذا هو معنى الباطن الذي نريده .. فنحن نؤمن بأن اليهود والمنافقين المذكورين في القرآن الكريم لم يذكروا لذواتهم، وإنما لصفاتهم وأفعالهم المشينة، ولذلك فإن كل من تشبه بهم يجري ويطبق عليه حكمهم.

قال آخر: لقد قال إمامنا الباقر يذكر ذلك: (ظهر القرآن الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم)(1)

قال آخر: ومثله ما روي عنه قوله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، فقد قال: (عليٌّ الهادي، ومنَّا الهادي)، فقيل له: فأنتَ جعلتُ فداك الهادي؟، قال: (صدقت إنَّ القرآن حيٌّ لا يموت، والآية حيَّةٌ لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في

__________

(1) تفسير العيّاشي، 1/ 11.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/131)

الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضيين)(1)

قال آخر: ومثله ما روي عنه قوله: (ولو أنَّ الآية إذا نزلت في قومٍ ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكنَّ القرآن يجري أولُه على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكلِّ قوم يتلوها هم منها من خيرٍ أو شر)(2)

قال آخر: ومثله ما روي عنه قوله في تفسير ما ورد في الحديث من أنه (ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن): (ظهره تنزيلُه وبطنه تأويلُه، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر كلَّما جاء تأويلُ شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] نحن نعمله)(3)

قال آخر: ومثله ما روي عن الإمام الصادق، فقد قال: (إنَّ القرآن حيٌّ لم يمت، وانَّه يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا)(4)

قال آخر (5): نحن نعبر عن هذه المعاني التي ذكرها هؤلاء الأئمة بـ[الجري والانطباق] .. فهذه الروايات تدل على أنَّ فاعليَّة القرآن الكريم وحيويَّته تكمنُ في التعاطي معه على أساس الجري والانطباق .. فـ[الجري] يستبطن معنى الحركة والتجددُّ والديمومة، فكما أنَّ الليل والنهار والشمس والقمر في تجدُّدٍ دائم فكذلك هو القرآن لا يختص به زمان،

__________

(1) تفسير العياشي: ج 2/ 203.

(2) تفسير العياشي: ج 1/ 10.

(3) تفسير العياشي: ج 1/ 11.

(4) تفسير نور الثقلين: ج 3/ 484.

(5) الجري والانطباق: معناه وضوابطه، الشيخ محمد صنقور، موقع الهدي القرآن ي.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/132)

وكما أنَّ الليل والنهار يتعاقبان على كلِّ بقاع الأرض فكذلك هو القرآن لا يختصُّ به مكان دون مكان، فالمراد من الجري هو إجراء أحكام القرآن وتوصيفاته على كلِّ من كان واجداً لخصوصياتها بقطع النظر عن الزمان والمكان .. وهذا هو معنى الانطباق والذي هو تطبيق أحكام القرآن وتوصيفاته على كلِّ مَن كان منطَبقاً لخصوصيات أحكامه وتوصيفاته.

قال آخر: وذلك هو عين ما يدعو إليه القرآن الكريم فالله تعالى عند بيانه سبب ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم، فقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]

قال آخر: انظروا كيف عقب الله تعالى الآية بقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] .. فلو أنا أخذنا بظاهر القرآن الكريم فقط، لما كان فيه تفصيل كل شيء .. بل نحتاج إلى التعمق في معانيه، وتطبيقها على الواقع لنبحث عن حكم الله فيها.

قال آخر (1): ولذلك يذكر أئمتنا وعلماؤنا أنه يمكن أن يظهر في كلّ زمان موسى وفرعون، وإبراهيم والنمرود، وعاد وثمود، في مظهر وصورة ما، ويتجسّد فيه الحقّ والباطل مرّة أخرى، فلا بدّ من التمييز بين أهل الهداية والضلالة في كلّ عصر على ضوء النماذج والعيّنات التي طرحها القرآن الكريم، والتي ينبغي تطبيقها عليهم.

قال آخر: ولهذا فسر أئمتنا قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، بما ورد في الأخبار الكثيرة المتواترة

__________

(1) مجلة المنهاج، ع 32/ 244.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/133)

عن الإمام المهدي، ودوره الإصلاحي في الأمة، وخروج المستضعفين في عصره من ضعفهم، مع أن سياق الآيتين كان حديثا عن موسى وفرعون وهامان والمستضعفين من بني إسرائيل، ومع أنها اشتملت على وعد إلهي بهلاك فرعون وهامان وجنودهما والتمكين للمستضعفين من بني إسرائيل في الأرض وجعلهم الوارثين لها واصطفاء أئمة لهم يكونون منهم .. فظاهر الآية أن الوعد الإلهي لا يختص بأمة دون أخرى، وأن إرادة الله قد تعلقت بالتمكين للمستضعفين في الأرض واصطفاء أئمة منهم.

قال آخر: من تلك الروايات ما رواه الإمام الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نظر إلى علي والحسن والحسين، وبكى وقال: (أنتم المستضعفون بعدي)، قيل للإمام الصادق: ما معنى ذلك يا ابن رسول الله؟، قال: (معناه إنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة)

قال آخر: ومثله ما روي عن الإمام علي، فقد قال في الآية الكريمة: (هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم)

قال آخر: ومن الأمثلة على تلك التطبيقات التي لا حرج في قبولها ما ذكره الإمام الباقر في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، فقد قال: (إلى علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه)(1) .. ذلك أنه (لا شكّ أن العلم غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد؛ فكما يجب على الإنسان أن يعرف أنّ الطعام الصالح والغذاء النافع الكافل لسلامة الجسد وصحّة البدن، هو الذي يأتيه من جانب اللّه، وأنه تعالى هو الذي هيّأه له ترفيها لمعيشته،

__________

(1) رجال الكشّي/10.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/134)

كذلك يجب عليه أن يعلم أن العلم النافع والغذاء الصالح لتنمية روحه وتزكية نفسه هو الذي يأتيه من جانب اللّه، وعلى يد أوليائه المخلصين الذين هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، فلا يستطرق أبواب البعداء الأجانب عن مهابط وحي اللّه، ومجاري فيضه المستدام .. ذلك لأن الطعام يشمل طعام البدن وطعام الروح جميعا كما أنّ الإنسان يشمل البدن والروح؛ فكما أنه مأمور بأن ينظر إلى غذائه الجسماني ليعلم أنه نزل من عند اللّه، فكذلك غذاؤه الروحاني الذي هو العلم، ليعلم أنه نزل من عنده تعالى بأن صبّ أمطار الوحي إلى أرض النبوّة وشجرة الرسالة، وينبوع الحكمة، فأخرج منها حبوب الحقائق وفواكه المعارف، ليغتذي بها أرواح القابلين للتربية .. فقوله: (علمه الذي يأخذه عمن يأخذه)، أي ينبغي له أن يأخذ علمه من مهابط الوحي ومنابع الحكمة، أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الذين أخذوا علومهم من مصدر الوحي الأمين، خالصة صافية ضافية .. فهذا تأويل الآية، الذي هو باطن الآية، مرادا إلى جنب ظاهرها)(1)

قال المدعي: ولكن ذلك سيجعل القرآن الكريم لعبة بيد العابثين يجرون آياتها ويطبقونها على حسب ما تقتضيه أهواؤهم .. وبذلك فإن سد هذا الباب خير من فتحه، لأن فتحه شر مطلق.

قال أحد المتهمين: ما ذكرته من فتح الباب للتأويل الباطن مطلقا صحيح جدا، ونحن نوافقك عليه .. فإجراء آيات القرآن الكريم وتطبيقها على فرد أو فئة أو أمة من الأمم لا يكون جزافا ولا يتيسر لكل أحد ما لم تكن له إحاطة بمعاني آيات القرآن ومراداته؛ فقد يكون مقتضى الظهور بادئ الرأي انطباق آية على أمة من الأمم إلا أن ذلك لا يصحح إجراء

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 476.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/135)

الآية وتطبيقها على تلك الأمة، وذلك لأن المصحح للجري والانطباق إنما هو الظهو ر الجدي، إذ هو الكاشف عن المراد الواقعي للمتكلم، وهو لا يتيسر إلا بعد الملاحظة لتمام القرائن والخصوصيات المكتنفة بالآية الكريمة أو المستفادة من مجموع الآيات ذات الصلة.

قال آخر: ولذلك نحن نرى أن هذا النوع من التدبر القرآني ليس معصوما، ذلك أنه لم يُعتمد على أنه كاشف قطعي عن المرادات الواقعية للمتكلم.

قال المدعي: ما دام الأمر كذلك؛ فكيف تشوهون المعاني القرآنية بما ترون أنه ليس معصوما ولا قطعيا .. فهل يمكن تفسير القطعي بالظني؟

قال أحد المتهمين: لو أنا طبقنا ما تذكر سيدنا لما بقي هناك تفسير واحد للقرآن الكريم .. فكل المفسرين يذكرون أن ما فهموه من القرآن الكريم اجتهاد اجتهدوه، وليس معصوما .. بل حتى الروايات والأحاديث التي يوردونها أكثرها إن لم نقل كلها ظني، لم يرد عن طرق قطعية ثابتة.

قال المدعي: فأنتم تؤمنون إذن بأن ما تذكرونه من الجري والانطباق غير صحيح ولا جازم.

قال أحد المتهمين: لا .. بل نحن نؤمن بكونه جازما وصحيحا .. وأنت كذلك سيدنا .. بل القاضي .. بل الجميع.

قال المدعي: كيف تتهمنا بهذه التهمة؟

قال أحد المتهمين: لاشك أنكم تعلمون الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل الإمام علي وتقواه وصلاحه.

قال المدعي: لا أحد يشك في ذلك، وقد كتب علماؤنا الكتب في فضله ومناقبه وكونه

القرآن.. وتحريف الغالين (2/136)

إماما للمتقين الصالحين.

قال أحد المتهمين: فما المانع أن نطبق آيات التقوى عليه .. ونعتبره نموذجا لها.

قال المدعي: وأين غيره من باقي الصحابة والتابعين وغيرهم؟

قال أحد المتهمين: يمكنك أن تطبق الآيات على من تراه أهلا لها .. لا يمنعك أحد من ذلك .. لكن لو عرفت الواقع الذي عاشه أئمتنا لعرفت سر الاهتمام بهذا .. لقد ظل الطلقاء وأبناؤهم وتلامذتهم يسبون الإمام علي وبقية العترة الطاهرة فترة طويلة من الزمن، ويشوهونهم ويحاربونهم .. فلذلك كانوا يدعون الناس إلى تدبر القرآن الكريم والبحث فيه عن الصالحين وأوصافهم لتطبيقها عليهم .. فهم أولى الناس بها.

قال آخر: وعلى هذا يفسر قول الإمام الباقر لبعض أصحابه: (إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمّة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممّن مضى فهم عدوّنا)(1)

قال آخر (2): وهذا القول ليس منكرا لا عقلا ولا شرعا .. فالقرآن الكريم عندما يعبّر عن بعض الناس بـ (الصالحين، الصادقين، المحسنين، المتّقين)، فإنّ العترة الطاهرة بلا شك، أول من تنطبق عليهم هذه الأوصاف قطعاً، بل هم المصداق الأكمل والأفضل لذلك .. وفي مقابل ذلك، فإنّه كلّما ورد في القرآن وصف (الفاسقين، المتكبّرين، الظالمين) فإنّه ينطبق جزماً على كل من استبدل المودّة لأهل البيت التي هي أمر الله تعالى بها، بالبغض والعداوة لهم، والاتّباع لهم بالتخلّف عنهم، والتعظيم والتكريم لهم بقتْلهم وسفك دمائهم.

__________

(1) تفسير العيّاشي، 1/ 13.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 244.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/137)

2. المصاديق والتأويل المنحرف

قال المدعي: لا بأس .. قد أوافقكم في كل ما ذكرتم .. ولكن ألا ترون من المبالغة أن يفسر القرآن الكريم جميعا بذلك؛ ففي تفاسيركم المأثورة نجد معظم القرآن الكريم يفسر على هذا الأساس، بحيث يلغى القرآن الكريم جميعا بمقتضى ذلك التفسير.

نماذج للتفسير المنحرف

أخرج بعض الأوراق، ثم راح يقول: من الأمثلة على ذلك الحديث الذي تروونه عن الإمام الباقر، أنه قال: (يا خيثمة، القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفي أحبّائنا، وثلث في أعدائنا وعدومن كان قبلنا، وثلث سنّة ومثل)(1) .. وعنه أنه قال: (نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدوّنا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام)(2)

قال أحد المتهمين (3): إن هذه الروايات سيدنا غير صحيحة، بل هي ضعيفة سنداً، مضطربة متناً، وهي في أغلبها، بل كلها من وضع الغلاة الذين نصبهم أئمة السوء لتشويه أئمة الهدى.

قال آخر: والدليل على ذلك ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (لا تقولوا في كلّ آية هذا رجل وهذا رجل، من القرآن حلال ومنه حرام، ومنه نبأ ما قبلكم وحكم ما بينكم وخبر ما بعدكم وهكذا هو)(4) .. وقال: (إنّ القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن، وربع أحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل

__________

(1) تفسير العيّاشي، 1/ 10.

(2) الكافي، 2/ 628.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 242.

(4) البرهان في تفسير القرآن، 1/ 23.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/138)

بينكم)(1)

قال آخر: وفي حديث آخر أنّ الإمام الصادق كتب لأبي الخطّاب (2) ـ وهو من الغلاة الذين حذر منهم أئمة الهدى ـ يقول: (بلغني أنّك تزعم أنّ الخمر رجل، وأنّ الزنا رجل، وأنّ الصلاة رجل، وأنّ الصوم رجل، وليس كما تقول)(3)

قال آخر: وفي حديث آخر عنه أنّه قيل له: (روي عنكم أنّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال (4)، فقال: (ما كان الله ليخاطب خلقه بما لا يعلمون)(5)

قال آخر: ولهذا وردت التحذيرات الشديدة من أئمتنا من الغلاة، ومن الأحاديث التي كذبوا بها عليهم .. بل قد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ففي الحديث عنه ـ مخاطبا الإمام علي ـ: (يا علي مثلك، في هذه الأمّة، كمثل عيسى بن مريم أحبّه قوم فأفرطوا فيه، وأبغضه قوم فأفرطوا فيه)(6) .. وقال: (إنّ أمّتي ستفترق فيك ثلاث فرق: ففرقة شيعتك وهم المؤمنون، وفرقة عدوّك وهم الشاكّون، وفرقة تغلو فيك وهم الجاحدون .. وعدوّك والغالي في النار)(7)

قال آخر: وعلى هذا النهج نرى أئمة الهدى يحذرون من الغلاة، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الصادق: (إنا أهل بيت صدّيقون، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويُسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس .. كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصدق الناس لهجةً وأصدق البرية كلها، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان الإمام علي أصدق مَن برأ الله بعد رسول الله، وكان الذي

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، 1/ 23.

(2) محمّد بن مقلاص الأسدي الكوفي (أبوزينب) غال، (رجال الطوسي/345)

(3) البرهان في تفسير القرآن، 1/ 23.

(4) إشارة إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]

(5) وسائل الشيعة، 12/ 121.

(6) بحار الأنوار، 25/ 284 (نقلًا عن مسند أحمد)

(7) بحار الأنوار، 25/ 246 و 365.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/139)

يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبدُ الله بن سبأ)(1)

قال آخر: وقيل للإمام الصادق: إنّ بنانا يتأول هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، أن الذي في الأرض غير إله السماء، وإله السماء غير إله الأرض، وأنّ إله السماء أعظم من إله الأرض، وأنّ أهل الأرض يعرفون فضل إله السماء ويعظّمونه، فقال: (والله ما هو إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ في السماوات وإلهٌ في الأرضين، كذب بنان ـ عليه لعنة الله ـ صغّر الله جلّ جلاله، وصغّر عظمته)(2)

قال آخر: وقيل للإمام الصادق: إنهم يقولون: يعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب، فرفع يده إلى السماء وقال: (سبحان الله سبحان الله لا والله ما يعلم هذا إلا الله)(3)

قال آخر: وذكر الإمام الصادق أصحاب أبي الخطاب والغلاة فقال: يا مفضّل، لا تقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا توارثوهم)(4) .. وقال فيهم: (إنّ فيهم مَن يكذب حتى أنّ الشيطان ليحتاج إلى كذبه)(5)

قال آخر: وقيل للإمام الصادق: جُعلنا فداك، إنّ المفضّل بن عمر يقول إنكم تقدّرون أرزاق العباد، فقال: (والله ما يقدّر أرزاقنا إلا الله، ولقد احتجت إلى طعامٍ لعيالي فضاق صدري، وأبلغت إليّ الفكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم، فعندها طابت نفسي)(6)

قال آخر: وروي أن الإمام الصادق خرج وهو مغضب، ثم قال: (إني خرجت آنفاً في حاجة فتعرّض لي بعض سودان المدينة فهتف بي: لبيك جعفر بن محمد لبيك، فرجعت

__________

(1) بحار الأنوار: 25/ 287، والكشي ص 71.

(2) بحار الأنوار: 25/ 296، والكشي ص 196.

(3) بحار الأنوار (25/ 294)، رجال الكشى: 193.

(4) بحار الأنوار: 25/ 296، والكشي.

(5) بحار الأنوار: 25/ 296، والكشي ص 191.

(6) بحار الأنوار: 25/ 301، والكشي ص 207.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/140)

عَودي على بدئي إلى منزلي، خائفاً ذعراً مما قال، حتى سجدت في مسجدي لربي، وعفّرت له وجهي، وذلّلت له نفسي، وبرئت إليه مما هتف بي،، ولو أن عيسى بن مريم عليه السلام جاوز ما قال الله فيه لصم صمما لا يسمع بعده أبدا وعمي عمى لا يبصر بعده أبدا، وخرس خرسا لا يتكلم بعده أبدا)(1)

قال آخر: وسئل الإمام الرضا عن الغلاة والمفوضة، فقال: (الغلاة كفار، والمفوضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم أو شاربهم أو واصلهم أوزوجهم أو تزوج إليهم أو أمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عزوجل وولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وولايتنا أهل البيت)(2)

قال آخر: وروي أنه قيل للإمام الرضا: يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه عنكم الناس؟، قال: وما هو؟، قيل: يقولون: إنكم تدّعون أنّ الناس لكم عبيد، فقال: (اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت شاهدٌ بأني لم أقل ذلك قطّ، ولا سمعت أحداً من آبائي قال قطّ، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة، وإنّ هذه منها)(3)

قال آخر: وكان الإمام الرضا يقول في دعائه: (اللهم إني بريءٌ من الحول والقوة، ولا حول ولا قوة إلا بك .. اللهم، إني أعوذ بك، وأبرأ إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحق .. اللهم، إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا .. اللهم، لك الخلق ومنك الرزق، وإياك نعبد وإياك نستعين .. اللهم، أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا

__________

(1) بحار الأنوار: 25/ 321، وروضة الكافي ص 225.

(2) بحار الأنوار (25/ 273)، عيون الاخبار: 326.

(3) بحار الأنوار: 25/ 268، والعيون ص 311.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/141)

الآخرين .. اللهم، لا تليق الربوبية إلا بك ولا تصلح الإلهية إلا لك .. اللهم، إنا عبيدك وأبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً .. اللهم، مَن زعم أنّا أرباب فنحن منه براءٌ، ومَن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براءٌ منه، كبراءة عيسى بن مريم عليه السلام من النصارى .. اللهم، إنّا لم ندعُهُم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدّعون، ولا تدع على الأرض منهم ديارا، إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفّاراً)(1)

قال آخر: وفي حديث طويل للإمام الرضا مع بعض أصحابه ردا على الغلو والمغالين، قال: (ومن تجاوز بالإمام علي العبودية، فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين)(2)

قال آخر: وقيل للإمام الرضا: يا ابن رسول الله، إنّ عندنا أخباراً في فضائل الإمام علي، وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عنكم، أفندين بها؟، فقال: (يا ابن أبي محمود، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جده أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عزّ وجلّ فقد عبدَ الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس)، ثم قال: (يا ابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة: أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:

__________

(1) بحار الأنوار: 25/ 343، واعتقادات الصدوق ص 109.

(2) بحار الأنوار: 25/ 278، والاحتجاج ص 242.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/142)

108])(1)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن أئمتنا وضعوا لنا المعيار الذي نكتشف به كل حديث مدسوس عليهم .. وهو عرضه على القرآن الكريم والقيم النبيلة التي جاء بها؛ فما انحرف عنها كذبناه ورميناه ونزهنا أئمتنا عنه.

قال آخر: وفي إمكانكم ـ سيدي ـ أن تذكروا لنا أي حديث شئتم لنذكر لكم وجه رده أو قبوله، وسترون أننا نتفق جميعا، وأن الخلاف الجاري بيننا ليس له من سبب إلا عدم توفر فرصة للحوار بيننا .. والحمد لله، فقد أتيحت لنا هذه الفرصة.

مثال البعوضة

أخرج المدعي بعض الأوراق، وقال: من الأمثلة على ذلك ما تروونه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] ما روي عن الإمام الصادق، أنه قال: (إن هذا المثل، ضربه الله لأمير المؤمنين علي .. فالبعوضة أمير المؤمنين، وما فوقها، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدليل على ذلك قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، يعني: أمير المؤمنين كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الميثاق عليهم أخذ له)(2)

ثم التفت للجمع، وقال: هل رأيتم هذا التهكم والسخرية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأخيه الإمام علي، وتشبيههما بالبعوض؟

قال أحد المتهمين: ليس كل ما يوجد في كتبنا صحيح، مثلما هو الحال في كتب الأمة

__________

(1) بحار الأنوار: 25/ 278، والاحتجاج ص 242.

(2) تفسير القمي 1/ 34.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/143)

جميعا، والتي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخير فيها سيختلط بالدخن .. وهذا الحديث منها، ولو رجعت ـ سيدي ـ إلى ما كتبه علماءنا عنه، لوجدت تكذيبهم له، وبيان علة ذلك.

قال آخر: الرواية فيها علتان في السند وهما: القاسم بن سليمان، والمعلى بن خنيس .. فالأول مجهول كما يقول المحقق الأردبيلي (1) .. ومن الأمثلة على عدم قبوله الاستدلال بحديثه قوله ـ في رواية لبس الديباج: (ويكره لبس الحرير) مع أنه حرام كما مر، على أن السند ليس بصحيح، لوجود قاسم بن سليمان المجهول)

قال آخر: وأما المعلى بن خنيس فهو في غاية الضعف كما يقول السيد الخوئي (2) .. وقال النجاشي: معلي بن خنيس، أبو عبد الله: مولى الإمام الصادق، ومن قبله كان مولى بني أسد، كوفي، بزاز، ضعيف جداً، لا يعول عليه، له كتاب يرويه جماعة (3) .. وقال ابن الغضائري عنه: الغلاة يضيفون إليه كثيرا ولا أرى اعتمادا على شيء من حديثه.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الآية الكريمة وردت في مقام التحقير، وقد ذكر جمع من المفسرين عن ابن عباس أن سبب نزولها اعتراض المنافقين على ما ورد من أمثلة في الآيات السابقة، وقالوا إن الله أسمى من أن يضرب مثل هذه الأمثال، وبذلك راحوا يشككون في الرسالة وفي القرآن .. وفي هذه الظروف نزلت الآية الكريمة المذكورة .. وقال آخرون: عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون (4).

قال آخر: ولو رجعت إلى علمائنا المحققين ـ سيدي الكريم ـ لوجدت أنهم يعرضون

__________

(1) مجمع الفائدة: 2/ 86.

(2) معجم رجال الحديث: 9/ 258.

(3) النجاشي في رجاله: 417 رقم 1114.

(4) الأمثل، (1/ 134)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/144)

عند تفسير الآية ما يذكره عامة المفسرين من المدارس الإسلامية المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك قول بعض أكبر مفسرينا المتأخرين: (لماذا التمثيل بالبعوضة؟ .. المعاندون اتخذوا من صغر البعوضة والذبابة ذريعة للإستهزاء بالأمثلة القرآنية، لكنهم لو أنصفوا وأمعنوا النظر في هذا الجسم الصغير، لرأوا فيه من عجائب الخلقة وعظيم الصنع والدقة ما يحير العقول والألباب)(1)

ثم ساق حديثا للإمام الصادق بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير يقول فيه: (إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته)(2) .. ثم علق عليه بقوله: (يريد الله سبحانه بهذا المثال أن يبين للمؤمنين دقة الصنع في الخلق، التفكير في هذا الموجود الضعيف على الظاهر، والشبيه بالفيل في الواقع، يبين للإنسان عظمة الخالق .. خرطوم هذا الحيوان الصغير يشبه خرطوم الفيل، أجوف، ذو فتحة دقيقة جدا، وله قوة ماصة تسحب الدم .. ومنح الله هذا الحيوان قوة هضم وتمثيل ودفع، كما منحه أطرافا وأذنا وأجنحة تتناسب تماما مع وضع معيشته .. هذه الحشرة تتمتع بحساسية تشعر فيها بالخطر بسرعة فائقة وتفر عندما يداهمها عدو بمهارة عجيبة، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات)(3)

قال آخر: ومثل ذلك ساق حديثا للإمام علي يقول فيه: (كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مرحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها،

__________

(1) الأمثل، (1/ 137)

(2) تفسير البرهان: 1/ 72.

(3) الأمثل، (1/ 138)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/145)

ومتبلدة أممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها مقهورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها)(1)

قال آخر: هذا مجرد مثال .. وهكذا يمكنكم الرجوع إلى كتب تفسيرنا، فستجد نفس هذه التعابير والمعاني.

قال المدعي: لكني وجدت خلاف ذلك أيضا .. ومن الأمثلة على ذلك وجدت بعضهم يدافع عن الحديث، ويسوق في ذلك رواية عن الإمام العسكري، وفيها أنه قيل للإمام الباقر: إن بعض من ينتحل موالاتكم، يزعم أن البعوضة، عليّ، وما فوقها ـ وهو الذباب ـ محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الإمام الباقر: سمع هؤلاء شيئا، لم يضعوه على وجهه .. إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدا، ذات يوم، وعلي، إذ سمع قائلا يقول: ما شاء الله وشاء محمد، وسمع آخر يقول: ما شاء الله وشاء علي .. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقرنوا محمدا وعليا، بالله عز وجل، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم ما شاء محمد .. ما شاء الله، ثم ما شاء علي .. إن مشيئة الله هي القاهرة التي لا تساوي ولا تكافأ ولا تداني .. وما محمد رسول الله، في الله وفي قدرته، إلا كذبابة .. وما علي في الله وفي قدرته إلا كبعوضة، في جملة هذه الممالك)(2)

قال أحد المتهمين: بغض النظر عن صحة الرواية أو عدم صحتها .. هل ترى معناها صحيحا، ومتوافقا مع ما ورد في القرآن الكريم وما تعتقده الأمة جميعا؟

سكت المدعي، فقال أحد المتهمين: بل فيها رد شديد على الذين يتهموننا بأننا ـ معاذ

__________

(1) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة 186/ 275.

(2) التفسير المنسوب للإمام العسكري /101 ـ 102.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/146)

الله ـ نصف أئمتنا بالربوبية؛ فهم عبيد الله الذين لا يساوون شيئا أمام عظمته.

السماء والطارق

قال المدعي: دعنا من تلك الرواية .. فما تقولون في تلك الروايات المخالفة للنصّ والسِّياق القرآنيين، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1 ـ 3]، حيث فسرت (السماء) بعليّ، و (الطارق) بالروح، و (النجم الثاقب) بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

قال أحد المتهمين (1): تلك الرواية رواها أبو محمّد الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني، وهو واقفي ضعيف، وقال علي بن الحسن بن فضّال فيه: (ملعون كذّاب، وقد كتب عنه تفسيره، ولا أرى جواز روايته) .. ومثله علي بن أبي حمزة، فكلاهما ضعيف.

قال آخر: ولهذا نرى كل علمائنا يفسرون الآيات بحسب ما يدل عليه ظاهرها، فقد قال بعضهم في معنى الطارق: (اختلفوا في تأويل هذه الكلمة .. والذي يبدو لي أنّ الطارق هي الأقدار التي تتواصل في الليل والنهار بخيرها وشرّها، ولذلك نستعيذ بالله من طارق السوء حسب النص المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن) .. وفي الدعاء: (بك أستجير يا ذا العفو والرضوان من الظلم والعدوان، ومن غير الزمان، وتواتر الأحزان، وطوارق الحدثان، ومن انقضاء المدّة قبل التأهب والعدّة) .. وحسب هذا الرأي فإنّ النجم الثاقب هو بيان لهذا الطارق الذي يشبه النجم الثاقب، كما قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] .. ويكون القسم ـ إذا ـ بتلك الشهب التي يحفظ الله بها السماء من الشياطين الذين

__________

(1) مجلة المنهاج، ع 32/ 255.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/147)

يسترقون السمع، ويكون السياق متناسبا مع الحديث عن حفظه سبحانه لأهل الأرض .. وقيل: إنّ كلّ نجم يسمّى طارقا باعتباره يطلع بالليل، وعليه فإنّ القسم بكلّ نجوم السماء أو النجوم اللّامعة .. وقال البعض: بل النجم هنا هو زحل، وقد روي ذلك عن الإمام الصادق، وقال بعضهم: بل هو الثريا، وقال الآخر: بل هو الزهرة)(1)

ثم علق على ذلك بقوله: (وقد تتسع العبارات لكلّ تلك التطبيقات، ذلك لأنّ آية نتلوها في سورة الملك يظهر منها أنّ مصابيح السماء هي رجوم الشياطين أو مراكز لرجمهم، قال ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] .. فمن المحتمل أن تكون النجوم هي ذات الشهب الطارقة أو أنّها مصادر للشهب، يبقى أن نقول: إنّ المراد من النجم يمكن أن يكون جنس النجم فيشمل سائر الأنجم وليس واحدا منها)(2)

وبعد كل هذه التطبيقات التي لا يوجد من يعارض فيها، قال: (حينما ينظر الإنسان إلى متانة بناء السماء، وكيف جعلها الله سقفا محفوظا، وزرع في أرجائها مراجم للقوى الشيطانية التي تسعى لإفساد النظام فيها، يطمئنّ إلى تلك اليد العظيمة التي تمسك السموات والأرض أن تزولا، ويعرف أنّه في كنف ربّ عظيم، يحفظه من طوارق السوء {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4])(3)

قال آخر: وهكذا لو ذهبت إلى كل التفاسير التي فسرت بها الآية وجدتهم يذكرون أمثال هذه المعاني .. ولذلك لا يصح أن نرميها جميعا بسبب انحراف وقع فيه بعضهم، وقد

__________

(1) من هدي القرآن، المدرسي (18/ 11)

(2) من هدي القرآن، المدرسي (18/ 11)

(3) من هدي القرآن، المدرسي (18/ 12)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/148)

نجد أمثاله في تفاسير كل الطوائف.

ليلة القدر

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير سورة القدر، وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4 ـ 5]، فعن محمد بن جمهور، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن حمران، قال: سألت أبا عبد الله عما يفرق في ليلة القدر، هل هو ما يقدر سبحانه وتعالى فيها؟ قال: (لا توصف قدرة الله تعالى، إلا أنه قال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] فكيف يكون حكيما إلا ما فرق، ولا توصف قدرة الله سبحانه، لأنه يحدث ما يشاء .. و أما قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني فاطمة .. وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها} والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والروح روح القدس وهي فاطمة {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ} يقول: من كل أمر سلمه {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يعني حتى يقوم القائم)(1)

قال أحد المتهمين (2): يكفي في رد هذه الرواية أن يكون في سندها محمّد بن جمهور، وهومن الغُلاة المعروفين الذين لا يصح الاستدلال بأحاديثهم .. بالإضافة إلى أنّ التفسير المذكور للملائكة والروح مخالف لظاهر جميع الآيات التي ورد فيها هذا اللفظان .. بالإضافة إلى أنّ فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول هذه الآيات كانت في الأرض، فلا معنى لنزولها.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (محتوى السورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 932)

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 256.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/149)

الكريم في ليلة القدر، وبيان أهمية هذه الليلة وبركاتها)(1) ثم قال ـ عند بيانه لمفهوم ليلة القدر ـ: (في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك: لأنها الليلة التي تعين فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، يشهد على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3 - 5] .. فهذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الروايات تقول: في هذه الليلة تعين مقدرات الناس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، وأمور أخرى تفرق وتبين في تلك الليلة المباركة .. وهذه المسألة طبعا لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الاختيار، لأن التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنما يتم حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيتهم وأعمالهم، أي يقدر كل فرد ما يليق له، وبعبارة اخرى، أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافى مع الاختيار بل يؤكده .. وقال بعض إنها سميت بالقدر لما لها من قدر عظيم وشرف كبير في القرآن جاء قوله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] .. وقيل لأن القرآن بكل قدره ومنزلته نزل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة الملك العظيم في هذه الليلة .. وقيل لأنها الليلة التي قدر فيها نزول القرآن .. وقيل لأنها الليلة التي من أحياها نال قدرا ومنزلة .. وقيل لأنها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم، لأن القدر جاء بمعنى الضيق أيضا كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]) .. ثم علق على هذه التطبيقات بقوله: (كل هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أن التفسير الأول أنسب وأشهر)(2) .. وهكذا ترى سيدي الكريم أنه مع استيعابه لكل هذه التطبيقات لم يذكر ما ورد في تلك الرواية.

__________

(1) الأمثل، (20/ 339)

(2) الأمثل، (20/ 346)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/150)

النبأ العظيم

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير سورة النبأ، وقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 1 - 3]، وأن المراد بـ (النبأ) هو الإمام عليّ وولايته (1).

قال أحد المتهمين (2): في إسناد الروايات المفسّرة لهذه الآية محمّد بن فضيل الأزدي، وهو ممن روى عن الإمامين الكاظم والرضا، وهو من الضعفاء والغُلاة .. وفيها عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، وقد روى عن الإمام الباقر والصادق، وهو ضعيف غال .. وفيها أبوإسحاق، إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، وهو ضعيف في الحديث، متّهم في دينه بالغلوّ، لا يعتمد على شيء من حديثه.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فإن قوله تعالى: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يخبر عن خلاف حاصل بين المشركين في (النبأ العظيم). ومن المعلوم أنّ مسألة ولاية الإمام علي لم تكن مثارةً في ذلك الوقت .. بالإضافة إلى أن الآيات التي بعدها تتحدّث عن الخلق وعود الحياة للأموات، ما يدلّ على أنّ المراد بالنبأ (القيامة)

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتمدين بهذا المعنى .. فقد قال بعضهم: (أورد المفسرون آراء متباينة في المقصود من (النبأ العظيم)، فمنهم من اعتبره إشارة إلى يوم القيامة، ومنهم من قال بأنه إشارة إلى القرآن الكريم، ومنهم من اعتبره إشارة إلى أصول الدين من التوحيد حتى المعاد .. وبنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها، وما ذكرته

__________

(1) الكافي، 3/ 207 و 418، وتهذيب الأحكام، 3/ 146.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 256.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 256.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/151)

الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض، وبعد هذا العرض تؤكد إحدى الآيات، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 17]، ثم مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ (المعاد)، كل ذلك يدعم التفسير الأول القائل: بأن النبأ العظيم هويوم القيامة)(1)

ثم قال: (فوصف (النبأ) بـ (العظيم) للتأكيد على أهميته، وللبت بأن ما يشك فيه البعض إنما هو: أمر واقع، بالغ الأهمية، خطير .. وكما قلنا فهذا المعنى يناسب كونه يوم القيامة أكثر مما يناسب بقية التفاسير .. وربما كانت جملة {يَتَسَاءَلُونَ} إشارة إلى الكفار دون غيرهم، لأنهم كثيرا ما كانوا يتسائلون فيما بينهم بخصوص (المعاد)، وما كان تساؤلهم لأجل الفحص والتحقيق وصولا للحقيقة، بل كان لغرض التشكيك لا أكثر)(2)

قال آخر: ولكن ذلك لا يمنع ـ بعيدا عن الآية ـ من إطلاق لفظ [النبأ العظيم المختلف فيه] بكل ما تحقق فيه هذا الوصف .. وفي هذا قال بعض المفسرين: (النبأ العظيم: كمفهوم قرآني ـ مثل سائر المفاهيم القرآنية ـ له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان، وإذا كانت قرائن السورة تدل على أن المقصود منه (المعاد)، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق أخرى، كما هومعلوم أن للقرآن بطونا مختلفة وظواهرا متعددة، وأدلة وقرائن الاستخراج مختلفة أيضا، وبعبارة أخرى: أن لمعاني آيات القرآن دلالات التزامية لا يعرفها إلا من غاص في بحر علمها ومعرفتها، ولا يكون ذلك إلا للخاصة من الناس .. وليست الآية المذكورة منفردة في أن لها ظاهر وباطن دون بقية آيات القرآن، حيث أن الأحاديث والروايات الشريفة فسرت كثير من الآيات بمعان مختلفة، بعضها ما ينسجم مع ظاهر الآية،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 318.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 318.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/152)

والبعض الآخر يشير إلى المعنى الباطن لها)(1)

قال آخر: وقد قال آخر يشير إلى المصاديق التي يمكنها أن تنطبق على {النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2]: (النبأ خبر ذوفائدة عظيمة يحصل به علم أوغالب ظن، والخبر الحق الذي يتعرى عن الكذب، والنبي ء هوالموحى إليه بأخبار الحق والصدق، حاملة كافة البراهين المصدقة لهما ثم إذا كان النبأ عظيما كانت الفائدة والعلم فيه أعظم، دون أن يتطرق إليه أية شائبة وريبة اللهم إلا جهلا وعنادا ممن لا يهوى إلا هواه، ولا يهدف هداه .. وأول الأنباء العظيمة ـ منذ بزوغ الإسلام ـ هونبأ الرسالة الإسلامية التي حملها الرسول الأقدس محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فنبأ الرسالة المحمدية هوأعظم الأنباء الرسالية في تاريخ الرسالات، ولأنها تشملها كلها وفيها مزيد هورمز الخلود، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فنزلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1 - 2]، {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] .. فهذه الرسالة السامية كانت نبأ عظيما تحمل كافة الأنباء العظيمة)(2)

ومن المصاديق التي ذكرها (إنذار النبي وإنبائه نبأ التوحيد، هما من الأنباء العظيمة، وقد بدأ بنبإ التوحيد: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 65 - 70])(3)

ومن المصاديق التي ذكرها (القرآن .. فهو نبأ عظيم لأنه المعجزة الخالدة لهذه الرسالة

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 322.

(2) الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن والسنه، 30/ 10.

(3) الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن والسنه، 30/ 10.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/153)

السامية، وأنه يحمل كافة أنباء الغيب {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .. {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120])(1)

ومن المصاديق التي ذكرها (نبأ المعاد .. وهو نبأ عظيم بعد التوحيد .. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] .. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53])(2)

ثم علق على هذه المصاديق بقوله: (هذه هي الدعائم الأربع من الأنباء العظيمة، تشملها: {النَّبَإِ الْعَظِيمِ} .. ومن الأنباء العظيمة استمرارية الولاية والحكم المحمدي المتمثل في أخيه ونفسه ووليه وخليفته علي أمير المؤمنين)(3)

الخنّس

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 15 - 19]، حيث ورد في تفسيرها أن {الخنّس} هوقائم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الغائب عن الأنظار (4).

قال أحد المتهمين (5): وقد وقع في سند بعض هذه الروايات المفسِّرة للآية الشريفة، جعفر بن محمّد بن مالك، وقد ذكروا فيه: إنّه ضعيف، غال، وضّاع، وقد جمع إليه جميع

__________

(1) الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن والسنه، 30/ 11.

(2) الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن والسنه، 30/ 11.

(3) الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن والسنه، 30/ 11.

(4) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 433.

(5) مجلة المنهاج، ع 32/ 257.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/154)

عيوب الرواة الضعاف .. كما أنّ الكثير من رواة هذه الأخبار مجاهيل .. بالإضافة إلى ذلك، فإن القسم الوارد، في هذه السورة، هو لتأكيد حقّانية النبوّة والقرآن، وعليه فكيف يتمّ القسم بغيبة الإمام التي هي فرع النبوّة؟! .. بالإضافة إلى أن الشيء الذي يقع القسم به لا بدّ من أن يكون معلوماً عند المخاطبين في ذلك الزمان، ولم تكن مسألة الغيبة بهذه المثابة.

قال المدعي: فما تقولون في حديث آخر حول نفس الآية الكريمة، رووا فيه عن أمّ هاني أنها قالت للإمام الصادق: ما معنى قول الله عزّ وجلّ: {فَلَا أقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}؟ فقال: يا أمّ هاني، إمام يخنَّس نفسه حتّى ينقطع عن الناس علمه سنة ستّين ومائتين، ثمّ يبدوكالشهاب الواقد في الليلة الظلماء، فإن أدركت ذلك الزمان قرّت عينك (1).

قال أحد المتهمين (2): لا شك في كون هذه الرواية مكذوبة موضوعة؛ ففي سندها جعفر بن محمّد بن مالك، وهوضعيف، غال، وضّاع للحديث .. وقد ذكروا فيه: إنّه جمع عيوب الرواة الضعاف جميعاً .. بالإضفاة إلى ذلك؛ فإنا لوفرضنا أنّ راوية الحديث كان عمرها عند سماع الحديث (15) سنة، وأنّ سماعها الحديث كان في أخريات حياة الإمام الباقر، فمع ملاحظة أنّ وفاته كانت سنة 114، فإنّ عمر أمّ هاني كان آنذاك في سنة 260 هو (161) سنة، وحينئذ فمن المستبعد أن يقول لها الإمام: إذا أدركت زمانه.

قال آخر: ولهذا نرى كل علمائنا يفسرون الآيات الكريمة بحسب ما يدل عليه ظاهرها، فقد قال بعضهم بعد أن أورد المعاني اللغوية لها: (يعتقد كثير من المفسرين، إنها الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري وزحل) .. فلوتأملنا السماء عدة ليال، لرأينا أن نجوم

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، 1/ 47.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 264.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/155)

السماء أوالقبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها، وكأنها لآلئ خيطت على قطعة قماش داكن اللوان، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب، إلا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقية النجوم فواصل ثابتة، وكأنها لئالئ قد وضعت على تلك القطعة وضعا، من دون أن تخيط بها .. وهذه الكواكب الخمس هي المقصود في هذا التفسير، وما نلاحظه من حركتها إنما تكون لقربها منا لا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها .. ومن جهة أخرى: ينبغي التنويه إلى أن علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة)، لأنها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت، فتراها تسير باتجاه معين من الزمن ثم تعود قليلا ومن ثم تتابع مسيرها الأول وهكذا .. ولهؤلاء العلماء من البحوث العلمية في تحليل هذه الظاهرة)(1)

ثم عقب على هذا بقوله: (عليه يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيارة (الجوار)، التي في سيرها لها رجوع (الخنس)، ثم تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس .. فهي تشبه غزالا يتصيد طعامه في الليل وما أن يحل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى (كناسه)، ولذا وصفت الكواكب بـ (الكنس)(2)

ثم ذكر احتمالات أخرى يمكن أن تنطبق عليها الآيات، فقال: (وثمة احتمال آخر لـ {الكنس}: اختفاء الكواكب في ضوء الشمس .. أي إنها حينما تدور حول الشمس، تصل في بعض الوقت إلى نقطة مجاورة للشمس فيختفي نورها تماما عن الأبصار، وهوما يعبر عنه علماء الفلك بـ (الاحتراق) .. و (الكنس) في نظر بعض آخر: إشارة إلى دخول الكواكب في

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 460.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 460.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/156)

البروج السماوية، وذلك الدخول يشبه اختفاء الغزلان في أماكن أمنها .. وكما هو معروف، إن كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحصر بهذه الكواكب الخمس، بل ثمة ثلاثة كواكب أخرى (أورانوس، بلوتون، نبتون) ولكنها لا ترى بالعين المجردة لبعدها عنا، وللكثير من هذه السيارات قمرا أوأقمارا، فعدد كواكب هذه المجموعة بالإضافة إلى الأرض هو تسعة كواكب)(1)

وبعد أن ذكر هذا وغيره بين مغزى القسم، فقال: (وعلى أية حال، فكأن القرآن الكريم يريد بهذا القسم المليء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام، كأنه يريد إثارة الفكر الإنساني، وتوجيهه صوب الكواكب السيارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى، وثمة احتمالات أخرى في هذا الموضوع أهملناها لضعفها)(2)

فها أنتم ترون كيف فسرها بما يقتضيه العلم والواقع، وذكر الاحتمالات المختلفة لكنه لم يعرج أبدا إلى ذلك الفهم الذي وردت به الرواية التي ذكرتم .. بل إنه ذكر ما يخالفها، فقد روى عن الإمام علي أنه سئل: ما الخنس، الجوار الكنس؟ فقال: (هي الكواكب، تخنِس بالنهار فلا ترى، وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها .. وهن: بَهْرام، وزُحَل، وعُطَارد، والزُّهْرة، والمشتري)(3)

قال آخر: وقال آخر في تفسيرها: (قسما بالنجوم التي تختفي وتظهر، وبالليل حيث يخيم ظلامه، وبالصبح حين يبسط نوره على الأفق .. إن القرآن وحي اللّه الذي أنزله جبرئيل

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 460.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 461.

(3) رواه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثورللسيوطي 6/ 528، ومجمع البيان: ج 10، ص 446.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/157)

على الرسول الكريم .. هذه الحقائق تتواصل في جو تلك الصورة المؤثرة لتكون أبلغ أثرا، وأعظم وقعا .. {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} يبدو أن اللام هنا زائدة لتأكيد معنى القسم .. أليس معناه التهويل؟ فإذا نفي القسم دل على عظمة ذلك الشي ء الذي يتحرز المتحدث عن القسم به، وهذا أشد وقعا في النفس، فما هو الخنّس؟ قالوا: خنس بالضم خنوسا: تأخّر، وأخنسه، غيره: إذا خلفه ومضى عنه .. و {الْجَوارِ الْكُنَّسِ} والجوار جمع جارية، بينما الكنس جمع الكناس اي الغيّب .. وروي عن الامام علي: (هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر الليل، وتكنس في وقت غروبها) وروي عنه: (هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة) وقيل: المراد من (الخنس) البقر الوحش، و (الكنس) الظباء .. وروي عن علي وعطاء ومقاتل وقتادة: أنها هي جميع الكواكب، وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار، وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل، أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها .. ويبدو لي أن الفرق: أن هناك نجوما وكواكب ثابتة على مدار السنة، وهناك نجوما وكواكب فصلية ربما تبقى ليلة أو حتى جزء من ليلة أو فصل كامل .. و لكن من ظاهر الآيتين: أن قوله: (الجوار الكنس) تفسير للخنس، فعلى هذا التفسير نستطيع أن نفهم لما ذا كلمة (الخنس) تشابه كلمة الكنس)(1)

ثم علق على هذه التطبيقات المختلفة بقوله: (ألا ترى كيف تهجم جحافل الظلام جند النور فتهزمه دون أن يكون لنا سلطان به نمنع ورود الليل أو نحافظ على بقية ضياء من نهار، أفلا نتذكر آنئذ أننا مربوبون، وأن لهذا العالم ربّا حكيما يدبّر أمره وأمرنا، وأنه لا بد أن قد خلقنا لأمر عظيم، وأنه باعث إلينا رسولا من عنده ينبئنا بذلك الأمر؟!)(2)

__________

(1) من هدي القرآن 17/ 367.

(2) من هدي القرآن 17/ 367.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/158)

قال آخر: وقال آخر: (يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أوبعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة وأوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس والجري والكنوس وهي السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة فهي تسير وتجري حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الإقامة .. وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل وكنوسها غروبها في مغربها وتواريها .. وقيل: المراد بها بقر الوحش أوالظبي ولا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أوالظبي من باب المثال والمراد مطلق الوحوش .. وكيف كان فأقرب الأقوال أولها والثاني بعيد والثالث أبعد)(1)

فهل تلاحظون أن هذا التفسير وما سبقه، يختلف عن أي تفسير آخر يورده عامة المفسرين من المدارس المختلفة.

سنفرغ لكم أيها الثقلان

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31]، فقد روي في تفسيرها عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن هارون ابن خارجة، عن يعقوب بن شعيب، عن الإمام الصادق أنه قال فيها: (الثقلان: نحن والقرآن)(2) .. وفي رواية: (كتاب الله ونحن)

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن 20/ 217.

(2) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 322)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/159)

قال أحد المتهمين (1): في سند هذه الروايات المفسّرة محمّد بن عيسى اليقطيني، وهو من أصحاب الإمام الهادي، وهو ضعيف يرى مذهب الغلو .. وفيها أبان بن عثمان البجلي، روى عن الإمام الصادق والكاظم، وكان ناووسياً، وفي قبول روايته خلاف.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فإن الملاحظ بشكل عابر لسورة (الرحمن) وآياتها يجد أنّها تخاطب الإنسان والجنّ مثل الآيتين السَّابقتين على هذه الآية، وهما: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] و {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15]، كما أنّ الآية التي بعدها صريحة في ذلك، وهي قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] .. بالإضافة إلى أنّه لوكان المراد بـ {الثقلان} الكتاب والعترة، فلا بدّ من أن يكون المخاطب فيها بعد ذلك في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 34] هوالقرآن والعترة أيضاً، فهل يمكن أن يكونا مكذِّبين بنعمته سبحانه؟!

قال آخر: ولهذا نرى كل علمائنا يفسرون الآية الكريمة بحسب ما يقتضيه سياقها، وقد قال بعضهم في ذلك: (نعم، إن الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجن حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، ويعين لكل منهم الجزاء والعقاب .. ومع علمنا بأن الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد، ولا يشغله شيء عن شيء، ولا يشغله شأن عن شأن، ولكننا نواجه التعبير في {سنفرغ} والتي تستعمل غالبا بالتوجه الجاد لعمل ما، والانصراف الكلي له، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها .. إلا أنه إستعمل هنا لله سبحانه، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى

__________

(1) مجلة المنهاج، ع 32/ 258.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 258.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/160)

لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا يغفل عن مثقال ذرة من أعمال الإنسان خيرا أوشرا، والأظرف من ذلك أن الله الكبير المتعال هوالذي يحاسب بنفسه عبده الصغير، وعلينا أن نتصور كم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة)(1)

ثم فسر المراد بالثقلين في الآية الكريمة، فقال: ({الثقلان} من مادة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا، إلا أن (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين، وتطلق على جماعة الإنس والجن وذلك لثقلهم المعنوي، لأن الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أن الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2]، حيث ورد أن أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة، إلا أن التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي، خاصة وأن الجن ليس لهم ثقل مادي، والتأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأن التكاليف الإلهية مختصة بهما في الغالب)(2)

قال آخر: وقال آخر: ({الثقلان}: أصله من الثقل، وكلّ شي ء له وزن وقدر فهو ثقل، وإنّما سمّيت الإنس والجن ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما)(3)

ثم قال: (و {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] لا تعني أن ربنا كان مشغولا عنهم بحيث لم يتسع لهم وقته، ولم تحتمل قدرته بما عنده من الشؤون كلّا .. سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، إنما الغاية من الفراغ تمام التدبير والقدرة والجزاء، ومنه قولنا (تفرغ فلان للعمل أي انصب عليه بكامل قدرته ووعيه وإرادته)، والآية تشير إلى أن أللّه أعطى الثقلين حرية

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 17/ 406.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 17/ 406.

(3) من هدي القرآن 14/ 303.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/161)

نسبية في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر للّه وحده {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] .. و لك أن تتصور شيئا من الرهبة التي تحملها إلينا كلمة سنفرغ، إذا علمت أنه تهديد من رب العزة والقدرة المطلقة، الى مخلوق ضعيف محدود كالإنسان الذي تؤلمه البقة وتقتله الشرقة وتنتنه العرقة، كما يصفه الامام علي بن أبي طالب، ويكفي هذا الوعيد العاقل الذي يلقي سمعه شهيدا أن يتورع عن التكذيب بآيات ربه ونعمه)(1)

قال آخر: وهذا لا يتنافى مع إطلاق اصطلاح [الثقلين] على القرآن الكريم والعترة الطاهرة في غير هذا المحل، كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة المتفق عليها في المصادر الإسلامية جميعا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به، لن تضلوا بعدي: الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(2)

وقد قال القاضي عياض في تفسيرها: (قِيل سُمِّيَا بذلك؛ لعِظم أقدارهما، وقيل: لشدَّة الأخْذ بهما)(3)، وقال النوويُّ: (سمِّيَا ثَقلين؛ لعظمهما، وكبير شأنهما)(4)

هذا الذي كنتم به تكذبون

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 16 ـ 17]، فقد ورد في تفسيرها عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن قلت: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]، قال:

__________

(1) من هدي القرآن 14/ 320.

(2) رواه أحمد (11578)، وابن أبي عاصم في (السنة)(1553)، وأبو يعلى (1140)، والطبراني في (المعجم الكبير)(3/ 65)(2678)، والبغوي في (شرح السنة)(3914)

(3) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 134)

(4) شرح صحيح مسلم (15/ 180)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/162)

(هم الذين فجروا في حق الأئمة واعتدوا عليهم)، قلت: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 17] قال: (يعني أمير المؤمنين)، قلت: تنزيل؟ قال: (نعم)(1)

قال أحد المتهمين (2): يكفي في رد هذه الرواية أن يكون في سندها محمّد بن الفضيل، وهو من الغلاة المعروفين .. بالإضافة إلى أن الآيات السابقة على هذه الآية صريحة في أنّ الأمر الذي وقع مورد التكذيب هويوم القيامة، قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين: 10 - 13]

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذبين، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين: 11]، وهويوم القيامة .. وتقول أيضا: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين: 12] .. فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والاستدلال العقلي، بل هونابع من حب الاعتداء وارتكاب الذنوب والآثام .. فهم يريدون الإستمرار بالذنوب والإيغال بالإعتداءات وبكامل اختيارهم، ومن دون أي رادع يردعهم من ضمير أوقانون، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية من سورة القيامة: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6]، وعليه، فهو يكذب بيوم الدين .. وعلى هذا الأساس، فإن للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان)(3)

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 799)

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 258.

(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 25.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/163)

دين القيمة

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .. فقد ورد في تفسيرها عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن الإمام الباقر .. أن {دِينُ الْقَيِّمَةِ} هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الروايات المفسّرة أبو عبد الله، عمروبن الشمر بن يزيد الجعفي، روى عن الإمام الصادق، وقد عُدّ في الضعاف ووضّاع الحديث .. بالإضافة إلى أن (ذلك) اسم إشارة للأمر السابق الوارد في هذه الآية وهو: عبادة الله سبحانه بإخلاص، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهذه هي الدعائم التي أقام سبحانه عليها دينه وأمر الناس بها.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (جملة {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] إشارة إلى أن الأصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الارتباط بالله)، والزكاة (الارتباط بالناس) من الأصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنها قائمة في أعماق فطرة الإنسان، ذلك لأن مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثم إن الروح الاجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين .. من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كل الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 937)

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 258.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/164)

النبيينصلى الله عليه وآله وسلم)(1)

قال آخر: وقال آخر: (وهذه درجة الحنيفية .. ومن أبعادها الالتزام بشرائع اللّه: من إقامة الصلاة على وجهها، إلى الخضوع فيها وتعاهدها دائما، وكذلك إيتاء الزكاة .. بدلالة قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3] .. بلى، إنها كتب لا عوج فيها ولا تعقيد، ولا تفاوت ولا اختلاف، ولا نشوز عن فطرة البشر أو حقائق الخلق .. ولا يجوز الاختلاف بين أتباع دين واحد، كما لا يمكن توحيد دين الحق ومذهب الباطل، بل لا بد أن يبقى الخلاف ماثلا بين الحق والباطل وهو أساس توحيد اللّه، وحينما ينماث الخلاف بينهما هنالك يغلب الباطل ويهزم أهل الحق، وهكذا يذكرنا السياق هنا بأن الكفار هم شرّ البرية)(2)

قال آخر: وقال آخر: ({وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي الكتب القيّمة أو الشريعة القيّمة .. والمراد: وذلك دين القائمين لله بالتوحيد، وإذا تحدثنا عن التوحيد، فإننا نتحدث عن العقيدة التي تربط الإنسان بكل أحواله الخاصة أو العامة بالله، بحيث لا يتحرك إلا من خلاله، ولا يسكن إلا بأمره، وهو الذي يختصر العقيدة كلها، والشريعة كلها في كلمة واحدة هي كلمة: (ربنا الله) ثم الاستقامة على هذا الخط .. وبذلك يفترق الناس في الموقف والمصير على أساس التزامهم بالخط وابتعادهم عنه، وهذا هو أساس التقييم القرآني لهم، في من هو الشرّير، وفي من هو الخيّر، وفي من هو في النار، أو هو في الجنة)(3)

نارا تلظى

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 361.

(2) من هدي القرآن 18/ 265.

(3) من وحي القرآن 24/ 362.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/165)

تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 14 - 17] فقد ورد أن المراد من قوله {ناراً تلظّى} الإمام المهدي، وأنه عندما يخرج وينتفض غاضباً، يقتل من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، والمراد بـ (الأشقى) عدو آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم و (الأتقى) هوالإمام علي (1).

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الروايات المفسّرة عمروبن شمر، وهوضعيف غال .. بالإضافة إلى أن هذا الحديث يخالف ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة من أن حركة الإمام المهدي كباقي بعثات الأنبياء رحمةً وهداية، وهو يتناقض مع هذا الوصف الذي وصفت به، فلوفرضنا أنّ عدد سكّان الأرض وقتئذ عشرة مليارات إنسان، فإنّه سيبقى منهم عشرة ملايين شخص فقط، والباقي سيقتلون على يديه، فهل ثمّة تشويه من هذا بحقّه؟!

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (الإنذار والتحذير من سبل الهداية، ولذلك قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] .. و {تلظى} من اللظى، وهوالشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر، وتطلق {لظى} أحيانا على جهنم .. ثم تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النار المتلظية الحارقة وتقول: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: 15] .. وفي وصف الأشقى تقول الآية: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 16]، فمعيار الشقاء والسعادة ـ إذن ـ هوالكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي، إنه لشقي حقا هذا الذي يعرض عن كل معالم الهداية وعن كل الإمكانات المتاحة للإيمان

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 471.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 259.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/166)

والتقوى .. بل إنه أشقى الناس .. وعبارة {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 16] قد يكون التكذيب إشارة إلى الكفر، والتولي إشارة إلى ترك الأعمال الصالحة، إذ هوملازم للكفر، وقد يشير الفعلان إلى ترك الإيمان، ويكون التكذيب بنبي الاسلام، والتولي الإعراض عنه)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى} وتشتعل بلهيبها المحرق {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى} الذي بلغ الذروة في شقوته من خلال عمق التنكر لربه، والتمرد على رسله، هذا {الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلَّى} لأنه يعيش أجواء الرفض للرسالة قبل أن يستوعب فكرها ومنهجها وشريعتها، من خلال رفضه للالتزام بالاستقامة في الخط، لأنه يريد أن يأخذ حريته في السير وفق هواه، مما يجعل من تكذيبه للرسول وإعراضه عن الرسالة معنى في العقدة الذاتية المستحكمة، لا خطّا في الفكر المضادّ، لأن المفكر لا يعرض عن أيّة فكرة، بل يقبل على الدخول في نقاش حولها، ليكون قبوله عن وعي، ورفضه عن موقف للفكر في نتائج الحوار .. وإذا كانت العقدة الخبيثة تتحول إلى حالة عدوانية في السلوك، فإن من الطبيعي أن يكون مصيره صورة لعمله، فإن الذي يهيّئ النار الحاقدة في الشعور ضد الإيمان والمؤمنين، لا بد من أن يلتقي في الآخرة بالنار التي أعدها اللَّه للكافرين)(2)

فكّ رقبة

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 11 ـ 14]، فعن محمد بن جمهور، عن يونس، قال: أخبرني من رفعه إلى الإمام الصادق: (يعني بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ}

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 260.

(2) من وحي القرآن 24/ 299.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/167)

ولاية أمير المؤمنين، فإن ذلك فك رقبة)(1)

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الرواية المفسّرة محمّد بن جمهور العمّي، وهومن الغُلاة .. بالإضافة إلى أنه قد ورد في الآية أمران على نحوالتخيير بعنوان: (العقبة)، وهما (فكّ رقبة) و (الإطعام)، فهل ولاية الإمام علي تقدّر بإطعام مسكين؟! .. وهل يمكن بناء على هذا التأويل يصبح الناس مخيّرين بين ولاية الإمام علي وبين إطعام المسكين.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (المقصود من (فك رقبة) على الظاهر هوتحرير العبد والرقيق، وقد روي أن أعرابيا جاء إلى النبيصلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة: اعتق النسمة وفك الرقبة)، فقال الأعرابي: أوليسا واحدا؟! .. قال: (لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها)، ثم قال: (والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من الخير)(3)(4)

ثم ذكر بعض مصاديق ذلك، فقال نقلا عن بعض المفسرين أن معنى (فك رقبة)(تحرير الفرد رقبته من الذنوب بالتوبة، أوتحرير نفسه من العذاب الإلهي بتحمل الطاعات)، ثم عقب عليها بقوله: (غير أن ما جاء في الآيات التالية من توصية باليتيم والمسكين يؤيد أن المقصود هو تحرير رقبة العبد)(5)

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 868)

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 260.

(3) نور الثقلين 5/ 583.

(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 221.

(5) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 221.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/168)

قال آخر: قال آخر: ({فَكُّ رَقَبَةٍ} أي تحريرها وعتقها لتعود إنسانا حرّا يملك إرادته وحركته وكل شؤون حياته، مما يوحي بأن مسألة حرية الإنسان من العبودية في إعتاقه من الرق، تمثل مدخلا لرضى اللَّه، لأن مسألة الاسترقاق في الإسلام لم تكن مسألة اختارها الإسلام في شريعته كواقع تشريعيّ يؤكد على استجابة الناس له، في ما يريد لهم أن يأخذوا به ويسعوا إليه كأمر محبوب لديه، بل هي مسألة الواقع الذي عاش الإسلام في داخله من خلال التاريخ السحيق الذي أوجد للرقّ نظاما وحشيا لا يتقيّد بأيّ خلق إنسانيّ وأيّة عاطفة روحيّة، بحيث أسقط كل إنسانية الإنسان من حساباته التشريعية، فعمل الإسلام على تجفيف منابعه، وأبقى بعضها من خلال ما قد تفرضه الضرورات العامة في حركة العلاقات بينه وبين معسكر الكفر في بعض دوائر الحرب والسلم، وجعل لوليّ الأمر الكثير من الصلاحيات في المنّ والفداء في أسرى الحرب، ووجّه كل التشريع الاجتماعي نحو تحرير الرقيق، كعبادة شرعية ترفع مستوى الإنسان في درجة القرب عند اللَّه، ولذلك، رأينا الواقع الإسلامي خاليا من العبيد، بفضل الطريقة الواقعية للتحرير التي درج عليها المؤمنون في مختلف مواقع التاريخ الإسلامي، حتى في العصور المظلمة منه من دون حاجة إلى أيّة ثورة للتحرير، كما حدث في أنحاء متفرقة من العالم)(1)

هل رأيتم ـ سيدي ـ هذه المعاني السامية التي ذكرها هذا المفسر؟ وهل ترونها متنافية مع ما ذكره سائر المفسرين؟ أو ترونها متنافية مع ما جاء به الإسلام من القيم الإنسانية؟

قال المدعي: لا بأس .. فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 270.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/169)

فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28 - 29]، وأن المراد بقوله {وليقضوا تفثهم} هولقاء الإمام عليّ (1).

قال أحد المتهمين (2): في سند تلك الرواية أبوسعيد، سهل بن زياد الآدمي، وهو من أصحاب الإمام الهادي والعسكري، وهو ضعيف في نقل الحديث، وقد أخرجه أحمد بن محمّد بن عيسى من قم لغلوّه.

قال آخر: ولهذا اتفق جميع المفسرين على المعنى الظاهر من الآية الكريمة، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (كلمة (تفث) تعني ـ كما قال كبار اللغويين والمفسرين ـ القذارة وما يلتصق بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر .. ويقول البعض: إن أصلها يعني القذارة التي تحت الأظافر وأمثالها .. وقد فسرت في الأحاديث الإسلامية بتقليم الأظافر وتطهير البدن ونزع الإحرام .. وبتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج (التقصير) الذي يعد من مناسك الحج، وجاء في أحاديث إسلامية أخرى بمعنى حلاقة الرأس التي تعتبر أحد أساليب (التقصير)، كما جاء في (كنز العرفان) حديث رواه ابن عباس في تفسير هذه الآية: (القصد إنجاز مشاعر الحج كلها) إلا أنه لا سند لدينا لحديث ابن عباس هذا)(3)

قال آخر: لكنه لم يمنع من احتمال أن يراد به معنى آخر من حيث الباطن والمصداق، فقال: (والذي يلفت النظر في حديث عن الإمام الصادق أنه فسر عبارة (ليقضوا تفثهم) بلقاء الإمام، وعندما سأله الراوي عبدالله بن سنان عن توضيح لهذه المسألة قال: (إن للقرآن ظاهرا وباطنا) .. وهذا الحديث ربما كان إشارة إلى ملاحظة تستحق الاهتمام، وهي أن

__________

(1) الكافي، 6/ 549، من لا يحضره الفقيه، 2/ 484 و 485.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 260.

(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 10/ 333.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/170)

حجاج بيت الله الحرام يتطهرون عقب مناسك الحج ليزيلوا الأوساخ عن أبدانهم، فعليهم أن يطهروا أرواحهم أيضا بلقاء الإمام، خاصة وأن الخلفاء الجبابرة كانوا يمنعون لقاء المسلمين لإمامهم في الظروف العادية، لهذا تكون أيام الحج خير فرصة للقاء الإمام، وبهذا المعنى نقرأ حديثا للإمام الباقر قال فيه: (تمام الحج لقاء الإمام) .. وكلاهما ـ في الحقيقة ـ تطهير، أحدهما تطهير لظاهر البدن من القذارة والأوساخ، والآخر تطهير باطني من الجهل والمفاسد الأخلاقية)(1)

وأنت ترى ـ سيدي ـ أن هذا المعنى لا يتناقض مع المعنى الظاهر، ولا يتنافى معه، بل هو فهم من الفهوم المكملة له .. فالحج مناسبة عظيمة للقاء الصالحين والاستفادة منهم، وليس مجرد قيام بالمناسك الظاهرية.

والتين والزيتون

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]، فقد روي في تفسيرها أن التين والزيتون هما الحسن والحسين.

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الروايات المفسّرة محمّد بن القاسم، وهو ضعيف كذّاب .. وعبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ، وهو ضعيف غال كذّاب، من البصرة .. ومحمّد بن الفضيل، وهو غال .. ومحمّد بن عيسى بن عُبيد اليقطيني، وهو غال .. وبدر بن الوليد وأبوالربيع الشامي، وكلاهما مجهول .. ولذلك فإن ما نعتقده، في شأن هذه الأحاديث، هوأنّها من صنع الغُلاة بهدف الحطّ من مقام الأئمّة، ولعلّ وضّاعها كانوا يرمون إلى ذلك أيضاً.

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 10/ 334.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 261.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/171)

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (التين والزيتون: ثمرتان معروفتان، واختلف المفسرون في المقصود بالتين وبالزيتون، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شيء آخر .. بعضهم ذهب إلى أنهما الفاكهتان بما لهما من خواص عذائية وعلاجية كبيرة .. وبعض آخر قال: المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي (دمشق) و (بيت المقدس) لأن المكانين منبثق كثير من الرسل والأنبياء .. وبذلك ينسجم هذان القسمان مع ما يليهما من قسمين بأراض مقدسة .. وقال آخرون: إن تسمية الجبلين بالتين والزيتون يعود إلى وجود أشجار التين على أحدهما والزيتون على الآخر .. وقال بعضهم: إن التين إشارة إلى عهد آدم عليه السلام، إذ أن آدم وحواء طفقا يضعان على عوراتهما من ورق التين في الجنة، والزيتون إشارة إلى عهد نوح لأنه أطلق في آخر مراحل الطوفان حمامة فعادت وهي تحمل غصن الزيتون، ففهم نوح عليه السلام أن الأرض بدأت تبتلع ماءها وظهرت اليابسة، لذلك اتخذ غصن الزيتون رمزا للسلام .. وقيل: إن التين إشارة إلى مسجد نوح عليه السلام الذي بني فوق جبل الجودي، والزيتون إشارة إلى بيت المقدس)(1)

ثم عقب على كل هذه المعاني بقوله: (ظاهر الآية يدل على أن المقصود هوالفاكهتان المعروفتان، ولكن القسمين التاليين يجعلان تفسير التين والزيتون بالجبلين أوالمركزين المقدسين أنسب)(2)

قال آخر: وقال آخر: ({والتِّينِ والزَّيْتُونِ} الظاهر من هاتين الكلمتين اللتين أقسم اللَّه بهما، أن المراد بهما، الفاكهتان المعروفتان المتميزتان بخصائص غذائية ومذاقية معينة،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 306.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 306.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/172)

تجعلهما في موقع الإبداع من خلق اللَّه، وفي موقع النعمة من نعم اللَّه، وقد جاء في بعض التفاسير، أن المراد بهما شجرتا التين والزيتون، وقيل: المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقيل: إن المناسبة في إطلاق الفاكهتين على الجبلين باعتبار أنهما منبتاهما، ولعلّ القسم بهما لكونهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء .. و ربما كان هذا التوجيه ناشئا من محاولة إيجاد نوع من التناسب بين هاتين الكلمتين وبين الكلمتين التاليتين، ولكن ذلك خلاف الظاهر في طبيعة مدلول الكلمتين، وقد لا يكون هناك أيّ ابتعاد عن التناسب في الجمع بين هاتين الفاكهتين اللتين تمثلان موضع نعمة اللَّه المادية، كما هما الكلمتان التاليتان اللتان تمثلان منطلق نعمة اللَّه الروحية)(1)

وطور سينين

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]، فقد روي في تفسيرها أنه الإمام علي، وفي خبر آخر أنه الحسن والحسين (2).

قال أحد المتهمين (3): في سند أحد هذه الروايات المفسّرة محمّد بن الفضيل، وفي الآخر محمّد بن عيسى بن عبيد، وكلاهما غال، وأما قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]، فالرواية في تأويله مرسلة (4).

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: ({طُورِ سِينِينَ} قيل هو: طور سيناء، وهو الجبل المعروف

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 323.

(2) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 457.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 267.

(4) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 477.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/173)

في صحراء سيناء حيث أشجار الزيتون المثمرة، وحيث ذهب موسى عليه السلام لمناجاة ربّه، و (سيناء) تعني المبارك، أو كثير الأشجار، أو الجميل .. و قيل: إنّه جبل قرب الكوفة في أرض النجف .. و قيل: إنّ سينين وسيناء بمعنى واحد وهو كثير البركة .. و {هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}، مكّة، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضا بلدا آمنا وحرما إليها، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد، المجرمون والقتلة كانوا في أمان إن وصلوا إليها أيضا .. وهذه الأرض لها في الإسلام أهمية عظمى، الحيوانات والنباتات والطيور فيها آمنة فما بالك بالإنسان)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({طُورِ سِينِينَ} وقيل في معنى (سينين) الحسن باللغة السريانية، وقيل: إن كل جبل ذا أشجار مثمرة يسمى بسينين .. وأنى كان فإن الصورة تنسجم مع القسم بالتين والزيتون من جهة وبالبلد الأمين من جهة أخرى، حيث قال ربنا سبحانه: {وهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} ذلك أن أصول مدنيّة الإنسان: الطعام، والأرض، والسلام؛ فإذا كان التين والزيتون مثلا لأرقى أنواع الطعام، وطور سينين لأحسن الأراضي وأكثرها بركة، فإن البلد الأمين مثل لأفضل البلاد وهي بلاد الأمن، ويتناسب هذا الإطار مع محور السورة المتمثل في خلق الإنسان بأحسن تقويم، ذلك لأن تسخير الحياة له، وإعداد طعامه وأرضه، وتوفير الأمن، وبالتالي توفير وسائل المدنيّة له بعض جوانب حسن صنعه إليه وجميل عطائه له)(2)

يا ليتني كنت ترابا

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ

__________

(1) الأمثل 20/ 308.

(2) من هدي القرآن 18/ 206.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/174)

عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]، فقد روي في تفسيرها: إنّ الكفّار يقولون يوم القيامة: (يا ليتنا كنّا في زمرة شيعة أبي تراب)(1)

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الروايات المفسّرة محمّد بن عيسى بن عُبيد وبكر بن عبد الله بن حبيب، والأوّل من الغُلاة، والثاني لا يتحاشى نقل الأحاديث المنكرة (3) .. بالإضافة إلى أن تأويل (يا ليتني كنت تراباً) بـ (يا ليتني كنت من شيعة أبي تراب) بعيد جدا، ولا ينسجم مع بلاغة القرآن الكريم .. فالجري والتطبيق لا ينبغي أن يتجاوز بلاغته.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (حينما يرى الكفار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة، حتى يقولون: يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا، وعندما خلقنا في الدنيا، ثم متنا وتحولنا إلى التراب، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد! .. فهم يعلمون بأن التراب بات خيرا منهم، لأنه: تغرس به حبة واحدة فيعطي سنابل، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الأخرى، مهد لحياة الإنسان، ومع ما له من فوائد جمة فهو لا يضر قط، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم، فرغم عدم صدور أية فائدة منهم، فليس فيهم إلا الضرر والأذى! .. نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات، لأن يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه كفر وذنوب)(4)

قال آخر: وقال آخر: (حين يرى المؤمن عمله يفرح كثيرا، ولكن حين يرى الكافر

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 423.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 262.

(3) الحديث المعروف هوالحديث الذي يكون مضمونه أشهر عند الرواة من الحديث المعارض له وبعكسه الحديث المنكر، فهوالذي ينقله غير الثقة ويكون مخالفاً للمعروف. (انظر: دراية الحديث، كاظم مدير شانه چي/69)

(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 363.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/175)

عمله يتمنّى لو كان ترابا ولم يرتكب ذلك العمل السي ء .. {ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} ما أشد هذا الإنسان ندما أن يصل إلى هذه الدرجة فيتمنّى لو كان ترابا، ولم يقترف تلك الجرائم .. هذا الإنسان الذي خلقه اللّه سبحانه ليكون ضيفا عنده في جنات الخلد بلغ به الحال أن يكون أرذل من التراب؛ فكيف والتراب ينتفع به وهو لا ينتفع به؟! بل يستحق المزيد من الهوان والأذى)(1)

قال آخر: وقال آخر: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه من خير أو شر في ما كان يأخذ به من قضايا العقيدة والعمل، ويتطلع إلى النتائج من خلال ذلك، فيرتاح المتقون لأعمالهم ويؤكدون الثقة بمستقبلهم، ويطمئنون لثواب الله .. أما الكافر، فإنه ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويعيش التمنيات اليائسة، ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا لا مجال فيه للحس ولا للوعي ولا للحركة، بل هو الموت الجامد الذي لا ينتهي إلى حياة، لئلا يواجه المسؤولية بهذا المستوى الكبير في مثل هذا اليوم العظيم)(2)

أهل الكتاب

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]، فقد روي في تفسيرها أن (أهل الكتاب) هم الشيعة، و (الذين كفروا) هم المكذِّبون بهم و (المشركون) المرجئة (3).

قال أحد المتهمين (4): في سند هذه الرواية المفسّرة عمرو بن شمر وهوضعيف

__________

(1) من هدي القرآن 17/ 276.

(2) من وحي القرآن 24/ 24.

(3) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 489.

(4) مجلة المنهاج، ع 32/ 262.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/176)

وضّاع .. بالإضافة إلى أنه من الواضح أنّ {من} في الآية بيانيّة، توضّح أنّ المراد من {الذين كفروا} أهل الكتاب والمشركين، كما أنّ {المشركين} عطف على {أهل الكتاب}، ولكن بناءً على التأويل المذكور، فإنّ لفظ {المشركين} عطف على {الذين كفروا} لا على {أهل الكتاب}، وعليه فلا بدّ من أن يكون {المشركون} بالرفع لا بالجرّ (1).

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (في بداية السورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدعون أنهم غير منفكين عن دينهم إلا بدليل واضح قاطع .. و (البينة) التي أرادوها: رسول من الله يتلوعليهم كتابا مطهرا من رب العالمين .. وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هوصحيح وثابت وذوقيمة .. كان هذا ادعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغير هؤلاء، واختلفوا وتفرقوا .. وما تفرقوا إلا بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبي الصادح بالحق .. فالآيات الأولى لهذه السورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنهم سوف يقبلون الدعوة إن جاءهم نبي بالدلائل الساطعة، لكنهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلا فريق منهم آمن واهتدى)(2)

ثم ذكر تفسيرا آخر للآية، فقال: (جمع من المفسرين لهم رأي آخر في تفسير الآية، يقولون: مقصود الآية هوأن أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكين عن دينهم حقيقة ـ لا إدعاء ـ حتى تأتيهم البينة .. وهذا يعني أن هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البينة، لكن الآيات

__________

(1) استعمال مصطلح (أهل الكتاب) في اليهود والنصارى هوالمشهور والمعروف، ولذا فالتأويل المذكور مخالف للنصّ والسياق القرآنيَّين.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 357.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/177)

التالية تدل على غير ذلك، اللهم إلا إذا قيل أن المقصود إيمان مجموعة منهم وإن كانت قليلة وتكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق (موجبة جزئية) .. ولكن على أي حال نستبعد هذا التفسير، ويبدوأن الفخر الرازي لهذا السبب وصف الآية الاولى من هذه السورة بأنها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات التالية، ولحل هذا التعارض ذكر طرقا متعددة أفضلها هوالذي ذكرناه أعلاه)(1)

ثم ذكر تفسيرا آخر للآية، وهو (أن الله لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتم الحجة عليهم ويرسل إليهم البينة ويبين لهم الطريق، ولذلك أرسل إليهم نبي الإسلام لهدايتهم .. وبناء على هذا التفسير، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام وتقرر أن الله يبعث إلى كل قوم دلائل واضحة ليتم الحجة عليهم)(2)

واكتفى بهذه الأقوال الثلاثة، ولم يذكر ما ذكرته تلك الرواية .. فهل ترون في المعاني التي ذكرها أي حرج؟

قال آخر: وقال آخر: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ممن رفض دعوة الرسل وأنكر نبوّتهم، فكان كافرا بالرسول وبالرسالة منفصلين عن موقفهم الكافر حَتَّى {تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهي الحجة القائمة على إثبات حقيّة الرسالة والرسول .. وربما كان الجوّ الذي يعيشه هؤلاء هو جوّ التبرير لإصرارهم على الدين القويم في صورته التي يتمثلونها في طريقتهم الخاصة ووضعهم المعقّد .. ولكن كيف يسألون ذلك، في الوقت الذي تتمثل البيّنة أمامهم مجسدة في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الصحف المطهرة التي يحملها، ليقدم للناس ما تشتمل عليه من كتب قيّمة؟ {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم {يَتْلُوا صُحُفاً

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 358.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 358.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/178)

مُطَهَّرَةً} وهي الصحف القرآنية التي تتضمن أصول العقيدة، وأحكام الشريعة، ومناهج الحياة التي يرضاها اللَّه، وحجج الفكر التي تؤكد حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)(1)

لحبّ الخير لشديد

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8]، فقد روي في تفسيرها أن {الإنسان} هوالخليفة الأوّل، ومرجع الضمير في {إنّه لحبّ الخير لشديد} الإمام عليّ (2).

قال أحد المتهمين (3): في سند هذه الرواية الكثير من الكذابين والغلاة .. منهم علي بن حسّان الهاشمي، وهو من الغُلاة، فاسد العقيدة، ضعيف، له كتاب باسم (تفسير الباطن) نقله بتمامه عن عمّه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، وهومن الغلاة أيضاً .. ومنهم إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، وعلي بن حسّان الهاشمي .. ومنهم عمروبن شمر، وهوضعيف وضّاع .. بالإضافة إلى أنّ الضمير في {إنّه لحبّ الخير لشديد} راجع للإنسان، وعليه فالإنسان هوالمراد أيضاً أيّاً كان المقصود به في قوله {إنّه لحبّ الخير لشديد}، وحينئذ فكيف يمكن تصوّر أن يراد بـ (الإنسان) الخليفة الأوّل، ومرجع الضمير في (إنّه) الإمام عليّ؟!

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (كلمة {الإنسان} في مثل هذه الإستعمالات القرآنية تعني

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 360.

(2) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 498.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 262.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/179)

الأفراد المتطبعين على الشر والشهوات الجامحة والطغيان، وقيل: إنه الإنسان الكافر .. فهذه الصفة لا يمكن إطلاقها على مطلق الإنسان؛ فثمة أفراد ليسوا بقليلين من امتزج الشكر والعطاء بدمائهم، ورفضوا البخل والكفران، واستطاعوا بفضل الإيمان بالله أن يتحرروا من الذاتية والأهواء الدنيئة ويحلقوا في أجواء معرفة أسماء الله وصفاته والتخلق بالأخلاق الإلهية .. {وإنه لحب الخير لشديد} أي إنه شديد الحب للمال والمتاع .. وهذا الانشداد المفرط بالمال والثروة هو سبب هذا البخل والكفران .. وكلمة {الخير} لها معنى واسع يشمل كل نعمة، فكثير من النعم مثل العلم والمعرفة والتقوى والجنة والسعادة ليست مذمومة، ولا ينكر عليها القرآن .. لذلك فسر الخير في الآية بأنه (المال)، يدل على ذلك قرينة المقام والآية السابقة، وآيات أخرى كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .. وإطلاق (الخير) على المال في الآية يعود إلى أن المال في حد ذاته شيء حسن، ويستطيع أن يكون وسيلة لأنواع الخيرات، لكن الإنسان الكنود يصرفه عن هدفه الأصلي، وينفقه في طريق ذاتياته وأهوائه)(1)

قال آخر: وقال آخر: (كلما ذكرت كلمة (الإنسان) أريد بها ـ فيما يبدو ـ طبيعة الإنسان الأولية قبل التزكية والتعليم .. {وإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وحب الخير بذاته فضيلة، ولكنه يصبح رذيلة إذا اشتد في الإنسان، وطغى على حبه للّه وللرسالة، وفضّله الإنسان على الآخرة التي هي الخير حقّا)(2)

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 395.

(2) من هدي القرآن 18/ 294.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/180)

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالي: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 4 - 6]، فقد روي في تفسيرها أن المراد بالإنسان هوالخليفة الأوّل، و {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هو الإمام علي (1).

قال أحد المتهمين (2): هذا الحديث ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمّي مرسلًا .. بالإضافة إلى أنه كيف يمكن أن يكون المراد بالإنسان، في هذه الآية، فرداً معيّناً، ومع ذلك يستثنى منه (الذين آمنوا)، فإنّ المستثنى لا بدّ من أن يكون داخلًا في المستثنى منه حتّى في الاستثناء المنقطع، وإن كان يشترك مع المستثنى منه في الحكم فقط.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: ({لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وسعة مفهوم الآية يشير إلى أن الله سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كل الجهات، الجسمية والروحية والعقلية، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات، وأعده لتسلق سلم السمو، وهوـ وإن كان جرما صغيرا ـ وضع فيه العالم الأكبر، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقا لوسام: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وهذا الإنسان هوالذي يقول فيه الله سبحانه بعد ذكر انتهاء خلقته: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] .. وهذا الإنسان بكل مافيه من امتيازات، يهبط حين ينحرف عن مسيرة الله إلى أسفل سافلين)(3)

__________

(1) انظر: البرهان في تفسير القرآن، 4/ 478.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 262.

(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 309.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/181)

قال آخر: وقال آخر: ({لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في بنيانه الجسدي الذي تقوم به حياته، ويثبت به وجوده، وإذا كان اللَّه يتحدث عن الجانب المادي الذي يتمثل به الكيان الجسدي، في ما يرتفع به إلى المستوى الأحسن الذي يوحي بالمستوى الأفضل والأرفع، فلا بد من أن يكون الحديث عن ذلك مدخلا إيحائيا للاستعداد الإنساني الذي يملكه الإنسان في عقله وروحه وشعوره وحركته للارتفاع بعمله للوصول إلى المستوى الأرفع في السموّ الروحي، ليكون الأحسن في التقويم الروحي، وهذا ما نستفيده ـ إيحائيا ـ من الحديث عن الجزاء، أو عن يوم الجزاء الذي يمثل مستوى التفاضل في المصير)(1)

لعلي حكيم

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، فقد روي في تفسيرها أن المراد منه الإمام علي.

قال أحد المتهمين (2): بالإضافة إلى كون الحديث مجهولا من جهة السند .. فإنه يعلم من ملاحظة الآيات السابقة أنّ مرجع الضمير في (إنّه) القرآن الكريم، حيث ورد فيها قوله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4] .. ومن هنا فإنّ أدنى التفات لهذه الآيات يثبت خواء هذا الادّعاء وزيفه.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (ثم يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أخرى لهذا الكتاب السماوي، فيقول: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، ويشير في الصفة

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 324.

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 263.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/182)

الأولى إلى أن القرآن الكريم قد حفظ وأثبت في أم الكتاب لدى الله سبحانه، كما نقرأ ذلك أيضا في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] .. والآن، لنر ما هوالمراد من (أم الكتاب)، أو (اللوح المحفوظ)؟ .. (الأم) في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه، وإنما يقول العرب للأم أما لأنها أساس العائلة ومأوى الأولاد، وعلى هذا فإن {أم الكتاب} يعني الكتاب الذي يكون أساسا لكل الكتب السماوية، وهوذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه، والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف .. إنه كتاب علم الله المحفوظ لديه، والذي أدرجت فيه كل حقائق العالم، وكل حوادث الماضي والمستقبل، وكل الكتب السماوية، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه، إلا إذا أراد الله سبحانه أن يعلم أحدا بالمقدار الذي يريده عز وجل، وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي، وأصله وأساسه لديه سبحانه، ولهذا يقول في الصفة الثانية: (لعلي) وفي الثالثة (حكيم) .. إن الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات .. واعتقد البعض أن سمو القرآن وعلو مقامه نابع من أنه فاق كل الكتب السماوية، ونسخها جميعا، وهوفي أرفع مراتب الإعجاز .. واعتبر البعض الآخر علو القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم ـ إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن. ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلها في مفهوم {علي} .. وهنا مسألة تستحق الإنتباه، وهي أن {الحكيم} صفة للشخص عادة، لا الكتاب، لكن لما كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلما عظيما وناطقا بالحكمة ناشرا لها، فإن هذا التعبير في محله تماما، وقد وردت كلمة (الحكيم) بمعنى المستحكم الحصين أيضا، وكل هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة، وهي صادقة في شأن

القرآن.. وتحريف الغالين (2/183)

القرآن الكريم، لأنه حكيم بكل هذه المعاني)(1)

قال آخر: وقال آخر: (الظاهر أن المراد بأمّ الكتاب ـ في ما يذكره المفسرون ـ اللوح المحفوظ، وأن علوّه في علوّ المنزلة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان من خلاله، أو في علوّ الفكر الذي يرتفع بالتصور الإنساني لحقائق العقيدة والحياة إلى المرتبة العليا، أو في علوّ البلاغة، كما يذكره البعض .. و قد اعتبر صاحب الميزان، العلو بمعنى (أنه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول) ولكن الظاهر أن الحديث عنه، بلحاظ جانب السموّ في معناه وفي أسلوبه للدلالة على أن اللَّه يريد للإنسان العلو من خلاله، لأنه لا معنى لأن ينزل اللَّه كتابا لا يتعقل الناس حقيقته ومعناه، (بحيث يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أمّ الكتاب نسبة المثل والممثّل، فالمثل هو الممثّل بعينه لكن الممثّل له لا يفقه إلا المثل)(2)، إذ ليس هنالك حكمة من ذلك بالنسبة إلى طبيعة الكتاب .. وربما كان معنى {وإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} هو وصف القرآن هناك بهاتين الصفتين، أمّا الحكمة فيه، فاشتماله على المضمون الذي يحقق للناس التوازن في حياتهم ويساعدهم على وضع الأشياء في مواضعها، فيتصورون القضايا في موازينها، ليملكوا بذلك البصيرة الكاملة في الأمور المتعلقة بقضايا الفكر والحياة)(3)

فإذا فرغت فانصب

قال المدعي: فما تقولون في الروايات التي وردت في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8]، فقد روي في تفسيرها: إذا فرغت من النبوّة

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 16/ 11.

(2) تفسير الميزان: 18/ 86.

(3) من وحي القرآن 20/ 213.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/184)

فانصب عليّاً للخلافة (1).

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الرواية المفسّرة عبد الرحمن بن كثير، وهومن الغُلاة .. بالإضافة إلى أنّ هذه السورة نزلت في أوّل البعثة، فمن المستبعد أن يتعرّض لذلك في بدء النبوّة .. بالإضافة إلى أن نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استمرّت إلى آخر حياته، فمن الممكن أن يفرغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلّ عمل، ولكنّه لا يمكن أن يفرغ من النبوّة.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين بمعناها الظاهر .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (الآيتان ـ حسب ما ذكرناه ـ لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمة جديدة بعد الفراغ من كل مهمة، وبالتوجه نحوالله في كل المساعي والجهود، لكن أغلب المفسرين ذكروا معاني محددة لهما يمكن أن يكون كل واحد منها مصداقا للآيتين .. قال جمع منهم: المقصود، إنك إذا فرغت من فريضة الصلاة فادع الله واطلب منه ما تريد .. أو عند فراغك من الفرائض انهض لنافلة الليل .. أو عند فراغك من أمور الدنيا ابدأ بأمور الآخرة والصلاة وعبادة الرب .. أو عند فراغك من الواجبات توجه إلى المستحبات التي حث عليها الله .. أو عند فراغك من جهاد الأعداء انهض إلى العبادة .. أو عند فراغك من جهاد الأعداء ابدأ بجهاد النفس .. أو عند انتهائك من أداء الرسالة انهض لطلب الشفاعة)(3)

قال آخر: ثم بين اتساع معنى الآية ليشمل المعاني الكثيرة جدا، فقال: (موضوع (الفراغ) في الآية لم يذكر، وكلمة (فانصب) من النصب أي التعب والمشقة، ولذلك فالآية تبين أصلا عاما شاملا، وهدفها أن تحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ باعتباره القدوة ـ على عدم الخلود إلى

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 898)

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 264.

(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 299.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/185)

الراحة بعد انتهائه من أمر هام، وتدعوه إلى السعي المستمر .. انطلاقا من هذا المعنى يتضح أن التفاسير المذكورة للآية كلها صحيحة، ولكن كل واحد منها يقتصر على مصداق معين من هذا المعنى العام)(1)

ثم بين الآثار التربوية لتلك المصاديق جميعا، فقال: (ما أعظم العطاء التربوي لهذا الحث، وكم فيه من معاني التكامل والإنتصار .. البطالة والفراغ من عوامل الملل والخمول والتقاعس والاضمحلال، بل من عوامل الفساد والسقوط في أنواع الذنوب غالبا .. وحسب الإحصائيات، مستوى الفساد عند عطلة المؤسسات التعليمية يرتفع إلى سبعة أضعاف أحيانا)(2)

قال آخر: وبناء على هذه المصاديق جميعا لم يستبعد أن يكون من بينها تنصيب المستحقق للخلافة بعده، وخاصة مع كثرة الروايات الواردة في ذلك من مصادر الفريقين، وهي تعني باطن الآية، لا ظاهرها، يقول في ذلك: (الآية الكريمة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] تعني ـ كما جاء في روايات عديدة ـ نصب أمير المؤمنين علي بالخلافة بعد الإنتهاء من أمر الرسالة كمصداق من المفهوم العام للآية)(3)

ثم بين وجه دلالتها على ذلك، فقال: (لأنها تقول: إذا فرغت من مهمة مثل مهمة الرسالة فابدأ بمهمة آخرى كمهمة الولاية، وهذا مقبول باعتباره أحد المصاديق .. ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حسب حديث الغدير المعروف وأحاديث أخرى منتشرة في الصحاح والمسانيد ـ كان في سعي مستمر في هذا المجال)(4)

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 299.

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 299.

(3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 300.

(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 300.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/186)

الذي يكذب بالدين

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1]، فقد روي في تفسيرها أن الدّين هوولاية الإمام عليّ.

قال أحد المتهمين: في سند هذه الرواية المفسّرة محمّد بن جمهور، وعبد الرحمن بن كثير الهاشمي، وهما من الغُلاة.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (هذه السورة المباركة تبدأ بسؤال موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1]، وتجيب عن السؤال: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 2 - 3] .. (الدين) هنا (الجزاء) أويوم الجزاء، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان .. وفي هذه السورة ذكرت خمسة آثار لهذا الإنكار منها: (طرد اليتيم، وعدم الحث على إطعام المسكين)، أي إن الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين، ولا يدعوالآخرين إلى إطعامهم)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} من هؤلاء المنافقين الذين لا يؤمنون بالجزاء في يوم القيامة، أو لا يؤمنون بالدين كله في عقيدته وفي شريعته التي تدعو إلى أن يحمل الإنسان مسئوليّة الفئات المحرومة في الأمة، ليمنحهم من جهده، ومن ماله، ومن جاهه، الإمكانات المادية والمعنوية التي يستطيعون من خلالها الحصول على العيش الكريم، فلا يستجيبون لهذه الدعوة، بل يتمردون عليها في ما يأخذون به من أسباب النفاق

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 20/ 484.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/187)

التي ترتكز على الارتباط بالشكليات الدينية، التي لا تكلّفهم الكثير من جهدهم المالي أو المعنوي الذي قد يثقل عليهم بنتائجه، ولو كانوا قد استجابوا لتلك الدعوة، لابتعدوا عن النفاق .. أرأيت يا محمد، ويا كلّ من يتحرك في الحياة على خط محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الإنسان كيف يتحرك في المجتمع، وكيف يعبّر عن واقعه الداخلي، وكيف يكذّب عمله ما يدّعيه من الإيمان في الصورة الخارجية من حياته؟)(1)

قال آخر: وقال آخر: (تلك الصفات التي تسوقها سورة الماعون هل تؤخذ مفردة أم جميعا؟ نقل عن بعضهم الثاني، فالمكذب بالدين هو الذي يجمع الصفات الثلاث، وهذا هو الظاهر؛ لأن صفات الشر تتداعى كما تتداعى صفات الخير، وهكذا تعرفنا السورة الكريمة بالذين يكذبون بالدين من هم، حتى نتقي تلك الصفات وما يؤول إليها من التكذيب بالدين .. والدين هو الجزاء، وقيل: بل الإسلام والقرآن، ولكن محور أيّ دين هو الايمان بالجزاء، الذي ينعكس على النفس بالإحساس بالمسؤولية، وهو معنى الدين بمعناه الشامل .. الايمان بالدين يزكي نفس الإنسان، ويخرجها من شحّها وضيقها وجهلها، ويستثير فيها فطرة الحب، وبواعث الخير، وحوافز المعروف، ويجليها بالعواطف الجيّاشة تجاه المستضعف والمحروم، بينما الذي يكذب بالدين تراه يدعّ اليتيم، ذلك الطفل البري ء الذي حرم حب والده (أو والدته) وحنانه وعواطفه .. )(2)

عاملة ناصبة

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 1 - 4]، فقد

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 440.

(2) من هدي القرآن 18/ 380.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/188)

روي في تفسيرها أنها نزلت في النواصب، فقد كانوا من أهل الصلاة والصوم، ولكنّهم يعادون الإمام عليّاً (1).

قال أحد المتهمين (2): في سند هذه الرواية المفسّرة سهل بن زياد ومحمّد بن الفضيل، وهما غاليان .. بالإضافة إلى أنّ سياق الآيات يتحدّث عن عاقبة طائفتين في يوم القيامة، إحداهما آمنت بالنبوّة، والأخرى كفرت، وعليه فإنّ تخصيص الآيات ـ الواردة في عامّة من أنكر النبوّة ـ بمجموعة خاصّة جاءت بعد نزول الآيات بسنوات ممّا لا ينسجم والسياق القرآني.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: ({هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ} وهي القيامة التي تفنّن التعبير القرآني عنها، للإيحاء بالأجواء التي تنطلق في مشاهدها وأهوالها وصدماتها الواقعية، ليواجهها القلب البشري، من خلال ذلك، بالخوف الشعوري الذي يدفع إلى المزيد من التفكير ومن التركيز، للوصول إلى مسألة الإيمان والانتماء إليه بكل قوّة، ولعل التعبير عنها بالغاشية من خلال أنها تفرض نفسها على واقع الناس هناك، فتغشاهم وتحيط بهم، كما يحيط الغشاء بالموقع كله، أو لأنّ أهوالها الشديدة تغشاهم فتحول بينهم وبين الرؤية في شدّة تأثيرها عليهم، فتبدو للعيون كالدخان الذي يحجب الأفق بكثافته .. و إذا كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ليس مختصا به بالمضمون، بل هو شامل لكل الناس الذين يبلّغهم النبي ذلك، فيأتيهم كل ما يأتيه، ويخاطبهم بكل ما يخاطبه به، لأن المضمون لا يتوجه إليه كرسول، بل كإنسان مسئول، لا بد من أن يتحمل مسئولية نفسه من خلال القناعة الفكرية الباحثة عن

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 841)

(2) مجلة المنهاج، ع 32/ 265.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/189)

الحق أينما كان .. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ} وتلك هي وجوه الأشقياء الذين رفضوا مواقف الخشوع للَّه في الدنيا، فلم يستغرقوا في مواقع عظمته، ولم يعيشوا روحية العبودية في الابتهال إليه، والصلاة بين يديه، والانفتاح على آفاق رحمته في مواقف رضاه، بل استكبروا وعاندوا وتمردوا على رسوله وكتابه، فجاءت الغاشية، التي أطبقت عليهم من كل جانب، فلا يجدون، الآن، مجالا للفرار ولا للخلاص، ليعيشوا الخشوع في أجواء الذلّ والانكسار عند ما يواجهون المصير المظلم في حاضرهم الذي تنتظره جهنم لتحتويهم في داخلها .. {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} في ما توحي به كلمة العاملة من الجهد القاسي المرهق للأجساد الذي بذله هؤلاء في الدنيا، وكلمة الناصبة التي تدل على التعب والإرهاق، فقد عملوا وتعبوا وعاشوا الإرهاق الجسدي، فلم ينالوا من نتائجه المرضية، لأنهم لم يعملوا للَّه، بل عملوا لغيره، ولهذا، فإن ملامح وجوههم في يوم القيامة هي ملامح الوجوه التي أرهقها العمل وأذواها النصب، فلا تنبض بأيّة حيويّة، ولا توحي بأيّ إشراق)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} قالوا: هذا في الدنيا، إذ لا عمل في الآخرة، وفسّروا العمل بالدأب في السير والنصب بالتعب، ولكن من قال لا عمل في الآخرة ولا نصب؟ بلى. وتحركهم في صحراء المحشر وسط ظلام دامس تسوقهم ملائكة العذاب، ويشهد عليهم ملائكة الحساب .. إنّه عمل ناصب .. إنّما عملهم ثمّة بلا فائدة ترجى لهم، ونصبهم بلا ربح ومكسب، ولو أنّهم أجهدوا أنفسهم في الدنيا قليلا لأعقبتهم راحة طويلة في العقبى، كما قال الإمام أمير المؤمنين في صفة المتقين: (صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة)(2)

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 220.

(2) من هدي القرآن 18/ 63.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/190)

ثم بين اتساع معنى الآيات ليشمل طوائف كثيرة، فقال: (وفي طائفة من النصوص المأثورة تفسير هذه الآية بأولئك الذين يعملون في الدنيا وينصبون ولكن في طريق خاطئ فلا يكسبون من عملهم نقيرا، لأنّهم يوالون الطواغيت، وينصبون لأئمة الهدى، وتابعيهم، وروي عن الإمام علي أنّ هؤلاء هم أهل حروراء، يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من الرميّة) .. و هذا تأويل حسن للآية، بيد أنّ تفسيرها ـ فيما يبدو من السياق ـ أعم وأشمل)(1)

اثنا عشر شهرا

قال المدعي: ليس ذلك فقط .. بل نرى في الروايات التفسيريّة، تطبيق جملة من الألفاظ القرآنية كالشمس، والقمر، والأرض، والسماء، والنجوم، والسنَّة، والشهر، والليل، والمشرق، والمغرب وغيرها على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة وأعدائهم بشكل غير معقول وخال من الترابط، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] أن السنة هي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاثنا عشر شهراً هم الأئمّة من أهل بيته، والأشهر الأربعة الحرم الأئمّة الأربعة المسمّون بعلي (2)(وهم: علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وعلي بن موسى الرضا، وعلي بن محمّد الهادي)

قال أحد المتهمين (3): الحديث مرسل من جهة الإسناد .. بالإضافة إلى أنه لا يوجد

__________

(1) من هدي القرآن 18/ 63.

(2) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 454.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 265.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/191)

ارتباط بين الأئمّة الاثني عشر والأشهر الاثني عشر سوى التشابه في العدد .. وأبعد منه الترابط بين الأئمّة الأربعة المسمّون بعليّ وبين الأشهر الأربعة الحرم.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثا مفصلة حول قتال المشركين، فالآيتان تشيران الى أحد مقررات الحرب والجهاد في الإسلام، وهو احترام الأشهر الحرم .. فتقول الأولى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة: 36] والتعبير بـ {كتاب الله} يمكن أن يكون إشارة الى القرآن المجيد أوسائر الكتب السماوية، إلا أنه بملاحظة جملة {يوم خلق السماوات والأرض} يبدوأن المعنى الأكثر مناسبة هوكتاب الخلق وعالم الوجود .. وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة .. وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعا نظاما طبيعيا، وينظم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر .. ثم تضيف الآية معقبة: {منها أربعة حرم} يرى بعض المفسرين أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان نافذا حتى في زمان الجاهلية على أنه سنة متبعة إلا أن عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذه الأشهر أحيانا تبعا لميولهم وأهوائهم، إلا أن الإسلام أقر حرمتها على حالها ولم يغيرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السرد وهي: ذوالقعدة، وذوالحجة، والمحرم، وشهر منها منفصل عنها، وهورجب ويسمى بالشهر الفرد .. وينبغي التنويه على أن تحريم

القرآن.. وتحريف الغالين (2/192)

هذه الأشهر إنما يكون نافذ المفعول إذا لم يبدأ العدوبقتال المسلمين فيها، أما لوفعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأن احترام الشهر الحرام لم ينتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدو)(1)

رب المشرقين ورب المغربين

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، فقد روي في تفسيرها أن المراد بـ {المشرقين} هما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي، و {المغربين} الحسن والحسين (2).

قال أحد المتهمين (3): الحديث الوارد في هذا مرسل سنداً، إضافةً إلى وجود سيف بن عميرة فيه، وقد ضعّفه بعضهم .. بالإضافة إلى أن المعنى الموضوع له لفظ المشرق والمغرب معلوم لغة، فإذا كان الحديث يشير إلى المعنى المجازي لهما كان ذلك محتاجاً إلى القرينة، وهي مفقودة في الآيات السابقة عليها.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (قد يأتي تعبير المشرق والمغرب أحيانا بصيغة المفرد، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115]، وأحيانا بصيغة المثنى، كما في قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، وأحيانا بصيغة الجمع، كما في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40] .. البعض من ذوي النظرات الضيقة يظنون تضاد هذه التعابير، في حين أنها مترابطة، وكل منها يشير إلى بيان خاص، فالشمس في كل

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 6/ 44.

(2) بحار الأنوار، 24/ 240.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 266.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/193)

يوم تطلع من نقطة جديدة، وتغرب من نقطة جديدة أخرى، وعلى هذا الأساس لدينا بعدد أيام السنة مشارق ومغارب، ومن جهة أخرى فإن من بين كل هذه المشارق والمغارب هناك مشرقان ومغربان ممتازان، إذ أن أحدهما يظهر في بدء الصيف أي الحد الأعلى لبلوغ ذروة ارتفاع الشمس في المدار الشمالي، والآخر في بدء الشتاء أي الحد الأدنى لنزول الشمس في المدار الجنوبي، ويعبرون عن أحدهما بمدار (رأس السرطان)، وعن الآخر بمدار (رأس الجدي)، وقد اعتمد على ذلك لأنهما واضحان تماما، بالإضافة إلى هذين المشرقين والمغربين الآخرين الذين سميا بالمشرق والمغرب والإعتداليان، وهوأول الربيع وأول الخريف، عند تساوي ساعات الليل والنهار في جميع الدنيا، ولذا ذهب البعض إلى هذا المعنى في تفسير الآية: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، وهومعنى مقبول أيضا .. وأما ما جاء بصيغة المفرد فإن المراد به ماهيته، لأن الملاحظ فيه أصل المشرق والمغرب بدون الإلتفات إلى الأفراد، وبهذا الترتيب فإن لكل من العبارات المختلفة مسألة تلفت نظر الإنسان إلى التغييرات المختلفة لطلوع وغروب الشمس، والتغيير المنتظم لمدارات الشمس)(1)

والفجر وليال عشر

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3]، فقد روي في تفسيرها أن {الفجر} هو الإمام المهدي، و (ليال عشر) الأئمّة بدءاً بالإمام الحسن المجتبى وانتهاءً بالإمام الحسن العسكري، و (الشفع) علي وفاطمة، و (الوتر) الله تعالى (2).

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 19/ 34.

(2) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 848)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/194)

قال أحد المتهمين (1): في سند هذه الرواية المفسّرة عمرو بن شمر، وهو ضعيف وضّاع .. والحديث ظاهر التكلف، ويبدو أنّ الوضّاعين قد عقدوا العزم على تأويل اللفظ القرآني في الأئمّة بأيّ نحو اتّفق، فإذا كان فيه إشارة إلى العدد (اثنا عشر) قالوا: إنّ المراد به هم الأئمّة الإثنا عشر، وإذا كان فيه العدد (أربعة) قيل: هم الأئمّة الأربعة الذين سمّوا بعليّ، وإذا كان فيه العدد (اثنان) فإمّا يقال: هما النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ، أويقال: هما علي وفاطمة، أويقال: هما الحسن والحسين .. وهنا حيث كان العدد محدّداً بعشرة فقد قالوا: إنَّ المراد به الأئمّة من الإمام الحسن السبط إلى الإمام الحسن العسكري .. ومن الطريف أنّ بعض من جمع مثل هذه الروايات التفسيرية قد ذكر، في تفسيره، أنّ تفسير (ليال عشر) هنا بالأئمّة العشرة يطلق يدنا في عملية تطبيق مثل هذه الأعداد على الأئمّة.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (فسّر (الفجر) في الآية بمعناه المطلق، أي: بياض الصبح .. ولا شك فهو من آيات عظمة اللّه سبحانه وتعالى، ويمثل انعطافا في حركة حياة الموجودات الموجودة على سطح الأرض، ومنها الإنسان، ويمثل كذلك حاكمية النور على الظلام، وعند مجيئه تشرع الكائنات الحية بالحركة والعمل، ويعلن انتهاء فترة النوم والسكون، وقد أقسم اللّه تعالى ببداية حياة اليوم الجديد .. وفسّره بعضهم بفجر أوّل يوم من محرم وبداية السنة الجديدة .. وفسّره آخرون بفجر يوم عيد الأضحى، لما فيه من مراسم الحج المهمّة ولاتصاله بالليالي العشرة الأولى من ذي الحجّة .. و قيل أيضا: إنّه فجر أوّل شهر رمضان المبارك، أو فجر يوم الجمعة)(2)

__________

(1) مجلة المنهاج، ع 32/ 266.

(2) الأمثل 20/ 172.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/195)

ثم بين اتساع مفهوم الآية لكل المصاديق المناسبة، فقال: (لكنّ مفهوم الآية أوسع من أن تحدد بمصداق من مصاديقها، فهي تضم كلّ ما ذكر)(1)

ثم ذكر من تلك المصاديق التي يمكن اعتبارها فهوما للآية، لكنها لا تلغي ظاهرها، فقال: (وذهب البعض إلى أوسع ممّا ذكر حينما قالوا: هو كلّ نور يشع وسط ظلام .. وعليه، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر، وكذا بزوغ نور قيام المهدي في وسط ظلام العالم .. و من مصاديقه أيضا، ثورة الإمام الحسين في كربلاء الدامية، لشقها ظلمة ظلام بني أميّة، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام النّاس .. و يكون من مصاديقه، كلّ ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على مرّ التاريخ .. وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة، فهو (فجر) .. وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية، أمّا ظاهرها فيدل على (الفجر) المعهود)(2)

والسماء ذات البروج

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، فقد روي في تفسيرها أن (السماء) هي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، و (البروج) هم الأئمّة (3).

قال أحد المتهمين: في سند هذه الروايات المفسّرة سعد بن طريف، وقد ضعّفه بعضهم.

__________

(1) الأمثل 20/ 172.

(2) الأمثل 20/ 172.

(3) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 478.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/196)

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (ابتدأت السّورة بـ {والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ} و (البروج): جمع (برج) وهو القصر، وقيل: هو الشي ء الظاهر، وتسمية القصور والأبنية العالية بالبروج لظهورها ووضوحها، وقيل للمحلات الخاصة من السور المحيط بالبلد والتي يجتمع فيها الحراس والجنود (البروج) لظهورها الخاص، ويقال للمرأة التي تظهر زينتها (تبرجت) .. والأبراج السماوية: إمّا أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شي ء معروف في الأرض، وتسمى ب (الصور الفلكية)، وهي إثنا عشر برجا، وفي كلّ شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج، طبيعي أن الشمس لا تتحرك تلك الحركة، وإنّما الأرض، تدور حول الشمس فيبدو لنا تغيّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج .. والقسم بهذه البروج يشير إلى عظمة أمرها، التي لم تكن معلومة للعرب الجاهليين وقت نزول الآية بينما أصبحت معلومة تماما في هذا الزمان والأقوى أنّ المراد منها هو النجوم المتلألئة ليلا في القبة السماوية، و لذا نقرأ فيما روي عن النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه حينما سئل عن تفسير الآية قال: (الكواكب)(1)

قال آخر: وقال آخر: (القسم بالسماء ذات البروج .. ربما كان كناية عن مواضع الكواكب في السماء، وذلك ما يوحي به قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 16 - 17]، مما يراد فيه الإيحاء بأنها تشبه البروج المعدّة للدفاع .. و على ضوء ذلك، يظهر أن تفسيرها بالبروج الاثني عشر لا يرجع إلى دليل، بل الدليل القرآني على خلافه)(2)

__________

(1) الأمثل 20/ 78.

(2) من وحي القرآن 24/ 166.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/197)

قال آخر: وقال آخر: ({البروج .. يبدو أنّها طبقات السماء المتمثلة في مجاميع المجرات، كل مجرة فيها أعداد هائلة من الشموس .. وأصل معنى البروج الظهور، ولأنّ البناء العالي ظاهر سمّي القصر برجا، كما سمّي موقع الدفاع عن المدينة بالبرج، ولعلّ انتخاب هذه الكلمة هنا كان لأنّ في السماء حرسا اتخذوا مواقع لرصد حركات الإنس والجن والشياطين، ممّا ينسجم مع السياق الذي يجري فيه الحديث عن جزاء الطغاة على جرائمهم بحقّ المؤمنين، فإذا تحصّن الطغاة ببروجهم الأرضية فإنّ للسماء بروجا لا يستطيعون مقاومة جنودها .. و قال بعضهم: البروج هي منازل الشمس والقمر والكواكب وأفلاكها التي لا تستطيع أجرام السماء على عظمتها تجاوزها قيد أنملة، ممّا يشهد على أنّها كائنات مخلوقة مدبّرة)(1)

والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 1 - 2]، فقد روي في تفسيرها أن (الشمس) هي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و (القمر) هو الإمام عليّ، و (الليل) هم أئمّة الجور، و (النهار) هم أئمّة الهدى.

قال أحد المتهمين: الحديث علاوة على إرساله، فإنّ فيه سهل بن زياد الغالي .. ولهذا فسرها جميع مفسرينا بظاهرها .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (القسم عادة يكون بالمهم من الأمور من هنا تعمل هذه الأقسام على تحريك الفكر في الإنسان كي يمعن النظر في هذه الموضوعات الهامّة من عالم الخليقة، وليتخذ منها سبيلا إلى اللّه سبحانه وتعالى .. و {الشمس} ذات دور هام وبنّاء جدّا في الموجودات الحية على ظهر البسيطة فهي إضافة

__________

(1) من هدي القرآن 17/ 469.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/198)

إلى كونها مصدرا للنور والحرارة ـ وهما عاملان أساسيان في حياة الإنسان ـ تعتبر مصدرا لغيرهما من المظاهر الحياتية، حركة الرياح، وهطول الأمطار، ونمو النباتات، وجريان الأنهر والشلالات، بل حتى نشوء مصادر الطاقة مثل النفط والفحم الحجري .. كل واحد منها يرتبط ـ بنظرة دقيقة ـ بنور الشمس .. و لو قدر لهذا المصباح الحياتي أن ينطفئ يوما لساد الظلام والسكوت والموت في كل مكان .. و {الضحى} في الأصل انتشار نور الشمس، وهذا ما يحدث حين يرتفع قرص الشمس عن الأفق ويغمر النور كل مكان، ثمّ يطلق على تلك البرهة من اليوم اسم (الضحى)، والقسم بالضحى لأهميته، لأنّه وقت هيمنة نور الشمس على الأرض .. و القسم الثّالث بالقمر .. وهذا التعبير ـ كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسّرين ـ إشارة إلى القمر حين يكتمل ويكون بدرا كاملا في ليلة الرابع عشر من كلّ شهر، ففي هذه الليلة يطل القمر من أفق المشرق متزامنا مع غروب الشمس. فيسطع بجماله النّير ويهيمن على جوّ السماء، ولجماله وبهائه في هذه الليلة أكثر من أيّة ليلة أخرى جاء القسم به في الآية الكريمة .. واحتمل بعضهم أن يكون في تعبير الآية إشارة إلى تبعية القمر بشكل دائم للشمس، واكتساب النور من ذلك المصدر المشعّ، غير أن عبارة {والْقَمَرِ إِذا تَلاها} تكون في هذه الحالة قيدا توضيحيا .. و ثمّة احتمالات أخرى ذكرت في تفسير الآية لا تستحق الذكر)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({وَالشَّمْسِ وضُحاها} هذا القسم بالشمس التي تمنح الكون الشروق الذي ينفذ إلى السماء ليعطيها الرونق والصفاء، وإلى الأرض ليهبها الحيوية والجمال، وإلى المخلوقات الحيّة المتحركة فيها، ليمنحها الدف ء والحرارة وحيويّة الحياة،

__________

(1) الأمثل 20/ 231.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/199)

وجعل الضحى رديفا للشمس، لأنه الزمن الذي ترتفع فيه وتتجلّى في كبد السماء، لتكون في أكثر أوقاتها رونقا وصفاء، فهي في الشتاء تعطي الدف ء المنعش، وفي الصيف تعطي الإشراق الرائع قبل اشتداد حرارة القيظ .. {وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها} عند ما يطلع في الليل ليكون نوره تابعا للشمس في ما يستمدّه من إشراقها، ليعطي الليل بعض نورها، من خلال النور المنبعث منه، حيث يمتزج امتزاجا هادئا بحبّات الظلام، فيزيد الكون سحرا وصفاء ووداعة توحي بالكثير من الأحلام الغامضة التي تشيع في القلب همسات السعادة، وفي النفس تسبيحات الرحمة المنبعثة من روح اللّه)(1)

والنور الذي أنزلنا

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8]، فقد روي في تفسيرها أن النور هوالأئمّة (2).

قال أحد المتهمين (3): في سند هذه الروايات المفسّرة محمّد بن الفضيل، وهو غال .. وأحمد بن أبي عبد الله البرقي .. وأحمد بن مهران .. والمعلّى بن الخنيس .. وكلهم من الضعاف.

قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنّ تشبيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام بالشمس والقمر والنور وما شابه، وإن كان صحيحاً في نفسه، وكما هو وارد في القرآن الكريم في شأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] إلّا أنّ حمل هذه الألفاظ على النبيّ وعليّ وفاطمة وأهل البيت من

__________

(1) من وحي القرآن 24/ 281.

(2) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 341 و 342.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 268.

(4) مجلة المنهاج، ع 32/ 268.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/200)

دون نصب قرينة على ذلك ممّا لا وجه له، فإنّ استعمال مثل هذه الألفاظ فيهم، استعمال مجازي يحتاج إلى القرينة، وحينئذ فلا بدّ من حملها على معانيها الحقيقيّة.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا بمعناها الظاهر .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (لقد اختلف المفسّرون في المعنى المراد من كلمة (النّور) الواردة في الآية، فذهب البعض منهم إلى أنّها تعني شخص النّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال مفسّرون آخرون: إنّ المعنى بالنور هو القرآن المجيد .. و حين نلاحظ آيات قرآنية عديدة تشبه القرآن بالنور، يتبيّن لنا أنّ كلمة (النور) الواردة في الآية إنّما تعني القرآن، وعلى هذا الأساس فإنّ عطف عبارة (كتاب مبين) على كلمة (النور) يعتبر من قبيل عطف التوضيح، كما نقرأ في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .. وآيات عديدة أخرى تشير إلى نفس المعنى، بينما لا نجد في القرآن آية أطلقت فيها كلمة النور على شخص النّبي صلى الله عليه وآله وسلم .. و إضافة إلى ما ذكر فإنّ الضمير المفرد الوارد في عبارة (به) الواردة في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، يؤكّد هذا الموضوع أيضا، وهو أن النور والكتاب المبين هما إشارتان لحقيقة واحدة)(1)

ثم تحدث عن المصاديق التي وردت في تفسير الآية، فقال: (ومع إنّنا نجد روايات عديدة تفسّر كلمة (النّور) على أنّها إشارة إلى الإمام علي بن أبي طالب أو الأئمّة الإثني عشر، لكن الواضح هو أنّ هذا التّفسير يعتبر من باب بيان بواطن الآيات، لأنّنا كما نعلم أنّ للآيات القرآنية ـ بالإضافة إلى معانيها الظاهرية ـ معان باطنية يعبّر عنها ب (بواطن القرآن) أو (بطون القرآن)، ودليل قولنا هذا أنّ الأئمّة لم يكن لهم وجود في زمن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لكي يدعو

__________

(1) الأمثل 3/ 647.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/201)

القرآن أهل الكتاب للإيمان بهم)(1)

والآخرة خير وأبقى

قال المدعي: لا بأس .. قد نسلم لكم بكل ما ذكرتم .. لكن ما تقولون في تلك التأويلات الخطيرة التي لا هدف لها إلا إنكار أصول الشريعة وفروعها .. بل القضاء على الإسلام تماما.

قال أحد المتهمين: كل ذلك من الغلو .. وكلها من الأكاذيب التي حذر منها أئمتنا، وفي إمكانك أن تذكر لنا ما تشاء منها لنبين لك وجه رده، وكيف لم يعر علماؤنا تلك التفاسير أي اعتبار.

قال المدعي: من الأمثلة على ذلك تأويل أكثر الآيات الوارد فيها أمثال لفظ القيامة، والحشر، والنشر، والبعث، وغيرها بالرجعة أوأهل البيت، ومنها قوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]، حيث فسرت (الآخرة) بأنها الإمام عليّ (2).

قال أحد المتهمين (3): في سند الرواية المفضّل بن عمر، وهو من الغُلاة .. وفيها محمّد بن سنان، والمعلّى بن محمّد، وكلاهما ضعيف، وأوّلهما من الغُلاة أيضاً.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (يشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الانحراف عن جادة الفلاح: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17]، ونقل الحديث النّبوي الشريف هذا المعنى، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة) .. فالإنسان

__________

(1) الأمثل 3/ 647.

(2) تفسير البرهان، 4/ 451.

(3) مجلة المنهاج، ع 32/ 269.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/202)

العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية، ولا أن يستبدل اللذائذ المحدودة والمحفوفة بألوان الآلام بالنعم الخالدة والنقية الخالصة)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقى} إنّها الأكمل، وقدرة الإنسان يومئذ كاملة، إنّك لا تستطيع أن تستمرّ في الأكل إلّا ريثما يمتلئ بطنك، وإذا أسرفت فسوف تصاب بالتخمة والغثيان، ولكنّ أهل الجنة يجلسون على كلّ مائدة أربعمائة عام لا يملّون ولا يسأمون .. و إنّ المرض والهرم والكسل والضجر والموت يهدّد أهل الدنيا، بينما الآخرة باقية مع الأبد)(2)

ثم استدل لهذا بحديث رواه عن الإمام الباقر يقول فيه: (إنّ أهل الجنّة يحيون فلا يموتون أبدا، ويستيقظون فلا ينامون أبدا، ويستغنون فلا يفتقرون أبدا، ويفرحون فلا يحزنون أبدا، ويضحكون فلا يبكون أبدا، ويكرمون فلا يهانون أبدا، ويفكهون ولا يقطبون أبدا، ويحبرون ويسرّون أبدا، ويأكلون فلا يجوعون أبدا، ويروون فلا يظمؤون أبدا، ويكسون فلا يعرون أبدا، ويركبون ويتزاورون أبدا ويسلّم عليهم الولدان المخلدون أبدا، بأيديهم أباريق الفضة وآنية الذهب أبدا، متّكئين على سرر أبدا، على الأرائك ينظرون أبدا، تأتيهم التحيّة والتسليم من اللّه أبدا، نسأل اللّه الجنّة برحمته إنّه على كل شي ء قدير)(3)

ثم علق عليه بقوله: (وهذه الحقائق وبالذات حقيقة الدنيا، وأنّها ليست بدار بقاء، وأنّ الآخرة خير منها وأبقى، إنّها لا تخصّ رسالة النبي بل هي في صحف الأنبياء جميعا، ولا سيما صحف إبراهيم عليه السلام الذي يحترمه العرب كما اليهود والنصارى، وموسى

__________

(1) الأمثل 20/ 140.

(2) من هدي القرآن 18/ 52.

(3) بحار الأنوار: 8/ 220.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/203)

عليه السلام ـ الذي يزعم اليهود أنّهم أنصاره ثم ترى العرب واليهود يعبدون الدنيا، ويزعمون أنّ ذلك من دين اللّه {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى} فلم يكن الرسول بدعا بين إخوانه)(1)

قال آخر: وقال آخر: ({وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقى} لأنها تمنح الإنسان السعادة الدائمة التي لا شقاء فيها ولا موت في طبيعتها، فهي الخير كله، والخلود كله .. فكيف تفضلون الشقاء على السعادة، والفناء على البقاء؟)(2)

وقال الإنسان ما لها

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 1 - 3]، فقد روي في تفسيرها تأويل الإنسان بالإمام عليّ .. وأرجعت بعض هذه الروايات موضوع الآيات إلى الزلزلة التي حدثت في زمانه، وأنه ضرب الأرض برجله مخاطباً لها: (مالكِ مالكِ)؟ حتّى هدأت!؟ (3).

قال أحد المتهمين (4): في سند هذه الروايات ضعاف أمثال أبي عبد الله الرازي، ومحمّد بن سنان، وإبراهيم بن إسحاق النهاوندي، والحسن بن محمّد بن جمهور، مع عدد آخر من المجهولين.

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (عبارة {زلزالها} تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك

__________

(1) من هدي القرآن 18/ 52.

(2) من وحي القرآن 24/ 214.

(3) تفسير البرهان، 4/ 493 و 494.

(4) مجلة المنهاج، ع 32/ 270.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/204)

اليوم خلافا للزلازل العادية الموضعية عادة، أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة .. و {الأثقال} ذكر لها المفسّرون معاني متعددة .. قيل إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال، كما جاء في قوله سبحانه: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4] .. وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا .. ويحتمل أيضا أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم .. ويمكن الجمع بين هذه التفاسير)(1)

ثم تحدث عن المراد بالإنسان في الآية الكريمة، فقال: (في ذلك الجو الملي ء بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟ .. و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الإنسان في الآية هو الكافر الذي كان شاكا في المعاد والبعث، ولكن الظاهر أنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر؛ فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين)(2)

قال آخر: وقال آخر: (نحن في الدنيا نشهد أهوالا تفزعنا وتكاد تقتلع أفئدتنا، ومنها الزلازل العظيمة التي قد تبتلع في لحظات مدينة كبيرة بناها الإنسان عبر قرون متمادية، وانها ـ على ذلك ـ ليست سوى زلزال محدود يضرب ناحية من الأرض، فيكف إذا كان شاملا للأرض كلّها؟! أيّ منظر رهيب، أم أيّ فزع عظيم، أم أي داهية كبري يكون ذلك الزلزال! {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها}، ولعل ضمير (ها) العائد إلى الأرض يوحي بأنّ الزلزال لا يخص منطقة، وأنه يكون كأشد ما يقع في الأرض من زلزال .. ماذا يحدث عندئذ؟ هل تفور

__________

(1) الأمثل 20/ 376.

(2) الأمثل 20/ 376.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/205)

النواة المركزية للكرة الأرضية بعوامل غير معروفة لدينا فتهتز القشرة الفوقية للأرض هزّات عنيفة ومتتالية، ثم تقذف فوقها المواد التي احتسبت فيها منذ ملايين السنين؟ هكذا يبدو من الآيات التي تصرح بأن الأرض تلقي أثقالها)(1)

ثم فسر المراد من الإنسان في الآية، فقال: (ويبقى الإنسان حائرا مدهوشا! ماذا حدث للأرض حتى تزلزلت، وأخرجت ما في أحشائها، ولماذا وما هي الغاية؟ .. {وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها} .. قال بعضهم: هذا هو الكافر الذي جحد بالآخرة، فتساءل مع بروز أشراطها عنها وقال: ماذا حدث؟ ولكن يبدو أن تلك الحوادث المروعة تحمل كلّ إنسان على التساؤل)(2)

فاستبقوا الخيرات

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]، فقد روي في تفسيرها أنّها في أصحاب الإمام المهدي.

قال أحد المتهمين: في سند هذه الروايات المفسّرة ضعاف ومجهولون، مثل محمّد بن سنان، والمفضّل بن عمر، وسهل بن زياد، وبعض منهم مهمل ومجهول .. بالإضافة إلى أن هذه الآية وردت في سياق الآيات التي تشير إلى تعيين الكعبة قبلةً للمسلمين، وحاصل الكلام، على ضوء هذه الآية، هو (أنّ كلّ قوم لهم قبلة مشرّعة على حسب ما تقتضيه مصالحهم وليس حكماً تكوينيّاً ذاتياً لا يقبل التغيير والتحويل، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة فيه، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فإنّ الله

__________

(1) من هدي القرآن 18/ 276.

(2) من هدي القرآن 18/ 278.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/206)

سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه)(1) .. ولذلك فإنه يمكن قبولها من باب الجري والتطبيق المتسامح فيه .. لا من باب التفسير الذي يحرم فيه القول بالرأي المجرد عن الدليل (2).

قال آخر: ولهذا فسرها جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (هذه الآية الكريمة ترد على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: {ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها} كان للأنبياء عليهم السلام على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولونها، وليست القبلة كأصول الدين لا تقبل التغيير، ولا أمرا تكوينيا لا يمكن مخالفته، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}، لأن معيار القيمة الوجودية للإنسان هي أعمال البرّ والخير)(3)

قال آخر: قال آخر: (لكل قوم وجهة يتجهون إليها من خلال القاعدة الفكرية الإيمانية التي يرتكزون عليها في ما يأخذون به أو يتركونه، أو ينطلقون به من مواقع ومواقف وعلاقات بالحياة وبالإنسان، سواء في ذلك الأنبياء الذين ينطلق كل واحد منهم بملّته ووجهته التي تختلف في خصوصياتها فتتعدد جهاتها، ولكنها تلتقي في الإسلام الذي يجمع الرسالات كلها عند الانقياد للّه في كل شي ء، وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يتحركوا فيه في انفتاحهم على الكعبة التي أراد اللّه لهم أن يتوجهوا إليها، بعيدا عن كل عناصر الشك التي يثيرها اليهود والمنافقون في عملية تحويل القبلة التي شرّعها الأنبياء من قبلهم، لأنه من الممكن أن يختلف اتجاه القبلة بين رسالة وأخرى، وبين نبي وآخر، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} فهذا هو الوجه الذي أراد اللّه لكم أن تستقبلوه في كل مواقع حياتكم في رسالتكم التي

__________

(1) المصدر نفسهد/327.

(2) الميزان في تفسير القرآن، 1/ 334 و 335.

(3) الأمثل 1/ 422.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/207)

حمّلكم اللّه إياها من خلال رسوله بالمسارعة إلى الخيرات التي تمثل حركة الحياة في إيجابياتها الروحية والأخلاقية في الإنسان بعلاقته بالإنسان الآخر، وبالكون من حوله، عند ما يقدم من عقله وقلبه وروحه وجهده الكثير من الأفكار والمشاعر والعواطف والأعمال التي تفتح آفاته على عوالم جديدة كما توجّه خطواته إلى دروب جديدة، وترتفع بحياته إلى الدرجات العليا على مستوى تطوير طاقاته وتنميتها وتحويلها إلى عناصر حيّة في كل اتجاه من اتجاهات الحركة في الحياة)(1)

إقامة الصلاة

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فقد روي في تفسيرها أن {الصلاة} هي الإمام عليّ (2) .. ومثل ذلك أو قريب منه ما ورد في تفسير قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، حيث ورد في الرواية أن سعد الخفّاف سأل الإمام الباقر: وهل يتكلّم القرآن؟ فتبسّم ثمّ قال: نعم يا سعد، والصلاة تتكلّم ولها صورة وخلق تأمر وتنهى .. إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر، فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال، ونحن ذكر الله ونحن أكبر (3).

قال أحد المتهمين (4): في سند الرواية الأولى عمروبن شمر، وهوضعيف غال .. وأما الثانية؛ فضعيفة بسعد بن طريف الحنظلي راوي الحديث .. كما أنّ فيها علي بن العبّاس

__________

(1) من وحي القرآن 3/ 92.

(2) البرهان في تفسير القرآن، 4/ 489.

(3) الكافي، 2/ 598.

(4) مجلة المنهاج، ع 32/ 271.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/208)

الخراذيني الرازي، وهوضعيف غال .. وفيها سفيان الحريري أو (صفوان الحريري) والحسين بن عبد الرحمن، وهم مهملون.

قال آخر: والدليل على أن تلك الروايات من وضع المغالين الذين كذبوا على أئمة الهدى، ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شرّ خلق الله) إلى أن قال: (إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله)، فقيل له: كيف ذلك يا ابن رسول اللَّه؟ قال: (الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزَّكاة والصَّيام والحجِّ، فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله عزّ وجل أبداً، وإن المقصّر إذا عرف عمل وأطاع)(1)

قال آخر: ومثله ما روي أنه قيل للإمام العسكري: (إن علي بن حسكة يدَّعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم وأنه بابك ونبيك أمرته أن يدعو الى ذلك ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك، ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدعي من النيابة والنبوة فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصوم والصلاة والحج، وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كله ما ثبت لك، ومال إليه ناس كثير فإن رأيت أن تمن على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة)، فكتب الإمام العسكري: (كذب ابن حسكة عليه لعنة الله وبحسبك أني لا أعرفه في موالي ماله لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمدا والأنبياء من قبله إلا بالحنيفية والصلاة والزكاة والحج والصيام والولاية، وما دعا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا إلى الله وحده لا شريك له)(2)

قال آخر: ومثله ما ورد من الأحاديث الدالة على معارضة الأئمّة لتأويل الآيات

__________

(1) أمالي الطوسي، 264.

(2) بحار الانوار: 25 /265.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/209)

والموضوعات الشرعية فيهم، فقد كتب بعضهم إلى الإمام الكاظم في قوم يتكلّمون ويقرأون أحاديث وينسبونها إليك، ومن أقاويلهم أنّهم يقولون: إنّ قول الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] معناها رجل، لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد درهم ولا إخراج مال، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي تأوّلوها .. فكتب إليه: ليس هذا ديننا فاعتزله (1).

قال آخر: ولهذا فسر جميع مفسرينا المعتبرين المعتمدين إقامة الصلاة بما فسرها به غيرهم، وفي جميع المواضع الواردة في القرآن الكريم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ تردع عن الفحشاء والمنكر، فالإنسان الذي يقف للصلاة، ويكبّر، يرى اللّه أعلى من كل شي ء وأسمى من كل شي ء، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم، ويذكر يوم الجزاء (يوم الدين) ويعترف بالعبودية له، ويطلب منه العون، ويستهديه الصراط المستقيم، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم، ويلتجئ إليه (مضمون سورة الحمد) .. فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ، واندفاع نحو الطهارة، ونهوض نحو التقوى .. يركع للّه .. ويضع جبهته على الأرض ساجدا لحضرته، ويغرق في عظمته، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعا، و يشهد بوحدانيته وبرسالة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، و يصلي ويسلم على نبيّه، ويرفع يديه متضرعا بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين .. جميع هذه الأمور تمنح وجوده موجا من المعنوية، وتكون سدا منيعا بوجه الذنوب، و يتكرر هذا العمل عدة مرّات (ليل نهار) فحين ينهض صباحا يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه ..

__________

(1) بحار الأنوار، 25/ 315 (نقلًا عن رجال الكشي/321 و 322)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/210)

وعند منتصف النهار وبينما هو غارق في حياته المادية يفاجأ بصوت تكبير المؤذن، فيقطع عمله ويسرع إلى حضرته، بل في آخر النهار بداية الليل أيضا وقبل أن يدلف إلى فراش الدعة والراحة، يدعوه ويطلب منه حاجته، ويجعل قلبه مركز أنواره .. وبغض النظر عن كل ما تقدم فإنّ الإنسان حين يتهيأ لمقدمات الصلاة، يطهّر بدنه ويبعد عنه مسائل الحرام والغصب، ويتجه إلى الحبيب، فكلّ هذه الأمور لها تأثير رادع لنوازع الفحشاء والمنكر .. غاية ما في الأمر أنّ كل صلاة ـ بحسب شروط الكمال وروح العبادة لها ـ أثر رادع ناه عن الفحشاء والمنكر، فتارة تنهى نهيا كليّا وأخرى جزئيا ومحدودا .. ولا يمكن لأحد أن يصلي ولا تدع الصلاة فيه أثرا حتى لو كانت الصلاة صورية، وحتى لو كان ملوّثا بالذنب! وبالطبع فإنّ مثل هذه الصلاة قليلة الفائدة ومثل هؤلاء الأفراد لو لم يصلّوا صلاة كهذه لكانوا أسوأ ممّا هم عليه)(1)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال المدعي: فما تقولون في الرواية التي وردت في تفسير (الأمر بالمعروف) بالإمام عليّ، و (النهي عن المنكر) بمن ظلمه، فقد روي في تفسيرها أنه لما قدم الإمام الصادق العراق نزل الحيرة، فدخل عليه أبو حنيفة وسأله عن مسائل، وكان مما سأله أن قال له: جعلت فداك، ما الأمر بالمعروف؟ فقال: (المعروف ـ يا أبا حنيفة ـ المعروف في أهل السماء، المعروف في أهل الأرض، وذاك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) .. قال: جعلت فداك، فما المنكر؟ قال: (اللذان ظلماه حقه، وابتزاه أمره، وحملا الناس على كتفه) .. قال: ألا ما هو أن ترى الرجل على معاصي الله فتنهاه عنها؟ فقال: (ليس ذاك أمرا بالمعروف، ولا نهيا عن

__________

(1) الأمثل 12/ 400.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/211)

المنكر إنما ذاك خير قدمه)(1)

قال أحد المتهمين: في سند هذه الروايات المفسّرة محمّد بن عائر، وهومهمل .. ويمكنك الرجوع لكتب الفقه عندنا لترى ما يقوله فقهاؤنا في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وستجد أنها نفس ما يقوله جميع المسلمين.

قال آخر: ولهذا فسر جميع مفسرينا هذا بما فسرها به غيرهم .. ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم في تفسير قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]: (وبعد الصلاة يتطرّق لقمان عليه السلام إلى أهمّ دستور اجتماعي، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] و بعد هذه الأوامر العمليّة المهمّة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والاستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] من المسلّم أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الاجتماعية، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلّم أيضا أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين، والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء واتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الإنتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والاستقامة أبدا)(2)

ويقول في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]: (من الواضح أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامّة على جميع الناس

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/ 977)

(2) الأمثل 13/ 47.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/212)

ولا تخصّ بعضا دون آخر، غير أنّ مسئولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه أكد من غيرها وأشدّ إلزاما، كما يتجلّى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة في مصادر عديدة، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى جهده لتربية أهله وتعليمهم، ونهيهم عن ارتكاب الذنوب وحثّهم على اكتساب الخيرات، ولا ينبغي عليه أن يقنع ويكتفي بتوفير الغذاء الجسمي لهم .. و بما أنّ المجتمع عبارة عن عدد معيّن من وحدات صغيرة تدعى (العائلة) فإنّ الاهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع أسهل وأيسر، و تبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهميّة خاصّة في العصر الراهن، حيث تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة، وتحتاج إلى وضع برنامج دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثّر بها والانجراف مع تيارها)(1)

مصادر التفسير المنحرف

قال المدعي: لا بأس .. دعنا من كل هذه النماذج .. ولنهتم بالأصول والمصادر .. فكل ما ذكرناه من الأحاديث والروايات مقتبس منها .. ألستم تعتمدون تفسير الحسن العسكرى، وهو أحد أئمتكم .. ومثله تفسير محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمى الكوفى المعروف بتفسير العياشى من علماء القرن الثالث الهجرى، وهو من أُمهات كتب التفسير عندكم .. وعليه تعوِّلون كثيراً .. ومثله تفسير علىّ بن إبراهيم القُمِّى فى أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجرى .. وغيرها، وكلها مملوءة بالضلالات والتحريفات.

قال أحد المتهمين: نحن ـ سيدي ـ مع احترامنا لجميع كتب التفسير والحديث إلا أننا لا نعتبر أحدا منها معصوما، بل نعرض ما فيه على كتاب الله تعالى؛ فإن وافقه قبلناه، وإلا

__________

(1) الأمثل 18/ 456.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/213)

رفضناه، ولهذا؛ فإنه لا يوجد عندنا ما يمكن اعتباره كتابا معتمدا أو صحيحا مجردا، وكيف يكون ذلك، وكل من ألفوها غير معصومين، وحتى لو كانوا كذلك فالرواة عنهم غير معصومين.

قال آخر: نحن نعمل في ذلك بما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال: (إذا جاءكم حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاطرحوه، أو ردوه علينا)(1)

قال آخر: ومثله ما روي عن جميع أئمتنا، ومنهم الإمام علي الذي قال: (الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خيرٌ من روايتك حديثا لم تحصه، إنّ على كل حقّ حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله فدعوه)(2)، وقال: (ما جاءتك رواية من بر أو فاجر توافق القرآن فخذ بها، وما جاءتك من رواية من بر أو فاجر تخالف القرآن فلا تأخذ بها)(3)

قال آخر: ومثله ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (كل شي ء مردود إلى كتاب الله والسنة، فكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(4)

قال آخر: ولهذا اعتبر علماؤنا كل كتبهم الحديثية محال للمناقشة والنقد لأي رجل بلغ درجة الاجتهاد من غير نكير عليه، وقد قال الشيخ المفيد في كتابه [تصحيح الاعتقاد]: (وكتاب الله تعالى مقدَّم على الأحاديث والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحقّ دون سواه)(5)

__________

(1) تهذيب الأحكام 7/ 225.

(2) بحار الأنوار: 2/ 165، وتفسير العياشي.

(3) صحيح الكافي 1 ص 11.

(4) وسائل الشيعة 18/ 78.

(5) تصحيح الاعتقاد: 44.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/214)

قال آخر (1): ولهذا؛ فإن الجوامع الحديثية التي حوت على أمثال تلك التفاسير المأثورة نقلا عن الأئمّة لم يكد يصح منها إلّا القليل النادر .. فتفسير أبي النضر محمد بن مسعود العياشي (توفّي 320) الذي كان من أجمع التفاسير المأثورة، أصبح مقطوع الإسناد، حين حذف أسانيده بعض الناسخين لعذر غير وجيه، وبذلك أسقط مثل هذا التفسير الثمين عن الحجّية والاعتبار.

قال آخر (2): ومثله تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي (توفّي 300)، وقد أسقطت أسانيده أيضا .. ومثلهما تفسير محمد بن العباس ماهيار المعروف بابن الحجّام (توفّي 330)، حيث لم يوجد منه سوى روايات مقطوعة الإسناد.

قال آخر (3): فهذه تفاسير كانت بروايات مسندة إلى أئمة أهل البيت، وقد أصبحت مقطوعة الإسناد فاقدة الاعتبار، لا يجوز الاستناد إليها في معرفة ما قاله الأئمّة في التفسير.

قال آخر (4): وهكذا؛ فإن تفسير أبي الجارود، زياد بن المنذر الهمداني الخارفي الملقّب بسرحوب (توفّي 150) الذي يرويه عن الإمام الباقر، فإنه ضعيف لا اعتبار له.

قال آخر (5): ومثله تفسيرأحمد بن محمد السياري (توفّي 268)، فهو تفسير متقطع مختصر اعتمد المأثور عن الأئمّة، غير أنه ضعيف الحديث، فاسد المذهب، مجفوّ الرواية، كثير المراسيل، حسبما وصفه أرباب التراجم .. وكان القمّيون ـ المحتاطون في نقل الحديث ـ يحذفون من كتب الحديث ما كان برواية السيّاري (6).

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 477.

(2) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 477.

(3) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 477.

(4) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 477.

(5) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 477.

(6) الذريعة: 17/ 52.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/215)

قال آخر (1): ومثله تفسير النعماني، المنسوب إلى أبي عبد اللّه محمد بن إبراهيم النعماني من أعلام القرن الرابع (توفّي 360)، فهو تفسير مجهول، لم يعرف واضعه، وإنما نسب إلى النعماني عفوا ولم يثبت؛ فقد عزي هذا التفسير المشتمل على توجيه الآيات المتعارضة ـ فيما زعمه واضعه ـ إلى ثلاثة من شخصيات لامعة في تاريخ الإسلام، هم: السيد المرتضى علم الهدى، وسعد بن عبد اللّه الأشعري القمّي، والنعماني هذا، والجميع مكذوب عليهم.

قال آخر (2): ومثله التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمّي (توفّي 329 هـ) فهو من صنع أحد تلاميذه المجهولين، وهو: أبو الفضل العباس بن محمد العلوي، الذي أخذ شيئا من التفسير بإملاء شيخه علي بن إبراهيم، ومزجه بتفسير أبي الجارود، وأضاف إليه شيئا ممّا رواه هو عن غير طريق شيخه بسائر الطرق، فهو تفسير مزيج ثلاثي الأسانيد، ولم يعرف لحدّ الآن من هذا العباس العلويّ، واضع هذا التفسير .. كما أن الراوي عن أبي الفضل هذا أيضا مجهول، فلم يصح الطريق إلى هذا التفسير، كما لم يعتمده أرباب الجوامع الحديثية، فلم يرووا عن الكتاب، وإنما كانت رواياتهم عن علي بن إبراهيم بإسنادهم إليه لا إلى كتابه، فهو تفسير مجهول الانتساب (3).

قال آخر (4): و في القرن الحادي عشر قام مؤلّفان كبيران، هما: السيد هاشم بن سليمان البحراني المتوفّى سنة (1107 أو 1109) وعبد علي بن جمعة الحويزي المتوفّى (1091)، فجمعا المأثور من أحاديث أهل البيت الواردة في التفسير، من الكتب الآنفة، وما جاء عرضا في سائر الكتب الحديثيّة، أمثال الكافي وكتب الصدوق وكتب الشيخ،

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 479.

(2) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 479.

(3) الذريعة: 4/ 302 ـ 303. والصيانة/229 ـ 231.

(4) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 1/ 480.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/216)

ونحوها، فجاء ما جمعه السيد البحراني باسم (البرهان)، والشيخ الحويزي باسم (نور الثقلين)، وقد اشتملا على تفسير كثير من الآيات القرآنية، بصورة متقطّعة، ولكن حسب ترتيب السور، من كل سورة آيات، ومن غير وفاء بتفسير كامل الآية، سوى الموضع الذي تعرض له الحديث المأثور .. غير أنّ غالبيّة هذه الروايات ممّا لا يوزن بالاعتبار؛ حيث ضعف إسنادها، أو إرسالها، أو مخالفة مضامينها مع أصول العقيدة أو مباني الشريعة، فضلا عن مخالفة العلم أو العقل الرشيد، الأمر الذي يوهن صدور مثلها عن أئمة أهل البيت؛ إذ يجب تنزيه ساحتهم عن صدور مثل هذه الأخبار الضعاف.

تفسير العسكري

قال المدعي (1): مع احترامي لكل ما ذكرتموه؛ فإن ذلك لا يكفي .. وخاصة مع التفاسير الخطيرة التي تحوي الكثير من المفاسد العقدية .. وأولها التفسير المنسوب للحسن العسكري .. والكتاب مملوء بالافتراء على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل البيت الأطهار.

قال أحد المتهمين: إن هذا التفسير، سيدي، ليس من الكتب المعتبرة عندنا، وقد صرح أكثر علمائنا ومحدثينا بذلك .. ومنهم العلامة أحمد بن الحسين المعروف بابن الغضائري، فقد قال عنه: (محمد بن القاسم المفسّر الاسترابادي، روى عنه أبو جعفر بن بابويه، ضعيف كذّاب، روي عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما: يعرف بيوسف بن محمد بن زياد، والآخر: علي بن محمد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث

__________

(1) مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس، ص 478.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/217)

(العسكري)، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير)(1)

قال آخر: ومثله العلامة أبو القاسم الخوئي، وهو من كبار المراجع المتأخرين، فقد قال عنه: (هذا التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري إنما يرويه هذا الرجل علي بن محمد بن يسار، وزميله يوسف بن محمد بن زياد، وكلاهما مجهول الحال .. هذا مع أن الناظر في هذا التفسير لا يشك في أنه موضوع، وجلّ مقام عالم محقق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام)(2)

قال آخر: ومثله العلامة البلاغي، فقد قال فيه: (وأما التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري، فقد أوضحنا في رسالة منفردة في شأنه أنه مكذوب موضوع، ومما يدل على ذلك نفس ما في التفسير من التناقض والتهافت في كلام الراويين وما يزعمان أنه رواية، وما فيه من مخالفة الكتاب المجيد، ومعلوم التاريخ كما أشار إليه العلامة في الخلاصة وغيره)(3)

قال آخر: ومثله العلامة الحلي، فقد قال فيه: (محمد بن القاسم، وقيل ابن أبي القاسم المفسر الأسترآبادي روى عنه أبو جعفر ابن بابويه، ضعيف كذاب، روى عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين: أحدهما يعرف بيوسف بن محمد بن زياد، والآخر: علي بن محمد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي، عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير)(4)

قال آخر: ومثله العلامة مصطفى بن الحسين التفرشي، فقد قال: (محمد بن القاسم:

__________

(1) معجم رجال الحديث: 18/ 162.

(2) معجم رجال الحديث: 13/ 155.

(3) آلاء الرحمن: 1/ 49.

(4) خلاصة الأقوال: 256.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/218)

وقيل: ابن أبي القاسم المفسر الاسترآبادي، روى عنه: أبو جعفر ابن بابويه، ضعيف كذاب، روى عنه تفسيرا يروي عن رجلين مجهولين أحدهما يعرف بيوسف بن محمد بن زياد والآخر علي بن محمد بن يسار عن أبيهما عن أبي الحسن الثالث، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير)(1) .. وليكن في علمكم ـ سيدي ـ أن قائل هذا الكلام من المحققين الكبار الذي تتملذ عليهم وعلى كتبهم كبار علماء الشيعة، وقد قال عنه محمّد الأردبيلي: (السيّد الأجل، جليل القدر، رفيع الشأن، عظيم المنزلة، فاضل كامل متبحّر، وأمره في جلالة قدره ورفعة شأنه وعظم منزلته وتبحّره أشهر من أن يُذكر، وفوق ما تحوم حوله العبارة، وكفاك في ذلك تأليفه كتاب الرجال في كمال النفاسة ونهاية الدقّة، وكثرة الفائدة، جزاه الله تعالى عنه خير جزاء المحسنين، ورضي عنه وأرضاه) .. وقال عبد الله الإصفهاني: (عالم محقّق ثقة فاضل) .. وقال الخونساري: (الناقد البصير، والفاقد النظير، والمحقّق النحرير، والموثّق التحرير .. والمقدّم قوله في الأقوال .. وكذلك كمال وثاقته وعدالته ونهاية ضبطه وجلالته) .. وقال عباس القمّي: (سيّد جليل ماهر عالم محقّق ثقة فاضل أمين)(2)

قال آخر: ومثله العلامة المحقق الداماد: (وأما تفسير محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي، من مشايخ أبي جعفر بن بابويه وعده رجال الحديث ضعيفا، فهو تفسير مروي عن رجلين مجهولي الحال، وأسنداه إلى أبي الحسن الثالث الهادي العسكري، وعد القاصرون، لا المتبحرون هذا الإسناد معتبرا، ولكن حقيقة الحال أن هذا التفسير موضوع، ويسند إلى أبي محمد سهل بن أحمد الديباجي، ويحتوي على أحاديث منكرة، وأخبار كاذبة.

__________

(1) نقد الرجال: 4/ 303.

(2) نقد الرجال 1/ 7.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/219)

وإسناده إلى الإمام المعصوم اختلاق، وافتراء، وما يتوهمه المتوهم في عصرنا هذا من أنه: يجوز أن يكون تفسير العسكري هو تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، هو أيضا وهم كاذب، وخيال باطل سببه ضعف الخبرة: ونقصان المهارة، وقلة الإطلاع على كتب الرجال)(1)

قال آخر: ومثله العلامة الاسترآبادي، فقد قال عنه: (محمد بن القاسم، وقيل ابن أبي القاسم، المفسر الاسترآبادي، روى عنه أبو جعفر ابن بابويه، ضعيف كذاب، روى عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين، أحدهما: يعرف بيوسف بن محمد بن زياد والآخر: علي بن محمد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير)(2)

قال آخر: ومثله العلامة الاردبيلي، فقد قال عنه: (محمد بن القاسم، وقيل ابن أبي القاسم، المفسر الاسترآبادي، روى عنه أبو جعفر ابن بابويه، ضعيف كذاب، روى عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين، أحدهما: يعرف بيوسف بن محمد بن زياد والآخر: علي بن محمد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير)(3)

قال آخر: ومثله المحقق التستري، فقد قال: (الباب الثاني في الأحاديث الموضوعة، وفيه فصول .. الفصل الثاني في أخبار التفسير الذي نسبوه إلى العسكري بهتانا، يشهد لافترائها عليه السلام وبطلان نسبتها إليه، أولا: شهادة خريت الصناعة ونقاد الآثار أحمد

__________

(1) معالم العلماء: 29.

(2) منهج المقال: 315.

(3) جامع الرواة: 2/ 184.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/220)

بن الحسين الغضائري أستاذ النجاشي أحد أئمة الرجال، فقال: إن محمد بن أبي القاسم الذي يروي عنه ابن بابويه ضعيف كذاب، روي عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين: أحدهما يعرف بيوسف بن محمد بن زياد، والآخر بعلي بن محمد بن يسار، عن أبويهما، عن أبي الحسن الثالث، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير وثانيا بسبر أخباره، فنراها واضحة البطلان مختلقة بالعيان، ثم ذكر نحوا من أربعين موردا من الموارد التي زعم، أنها تشهد بكذب هذا التفسير وكونه موضوعا، ثم قال: ما نقلت من هذه الكتاب نموذج منه، ولو أردت الاستقصاء لاحتجت إلى نقل جل الكتاب لولا كله، فإن الصحيح فيه في غاية الندرة، ثم قال: وأيضا لو لم يكن هذا الكتاب جعلا لنقل هذه المعجزات العجيبة التي نقلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وباقي الأئمة، ولرواها علماء الإمامية، وأيضا لو كان الكتاب من العسكري لنقل شيئا منه علي بن إبراهيم القمي، ومحمد بن مسعود العياشي اللذان كانا في عصره ومحمد بن العباس بن مروان الذي كان مقاربا لعصره في تفاسيرهم، والكل موجود ليس في شئ منها أثر منه، ثم قال: وبالجملة هذا تفسير وإن كان مشتملا على ذكر معجزات كثيرة لأمير المؤمنين كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزلة نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة القرآن، إلا أنه ليس كل ما نسب إليهم صحيحا، فقد وضع جمع من الغلاة أخبارا في معجزاتهم وفضائلهم وغير ذلك .. كما أنه وضع جمع من النصاب والمعاندين أخبارا منكرة في فضائلهم ومعجزاتهم بقصد تخريب الدين، ولأن يرى الناس الباطل منه فيكفروا بالحق منه قال الباقر: (ورووا عنا ما لم نقله، ولم نفعله، ليبغضونا إلى الناس)(1)

قال آخر: ومثله الميرزا أبو الحسن الشعراني، فقد قال عنه: (لم ينقل المصنف (الشيخ

__________

(1) الأخبار الدخيلة: 1/ 152 – 228.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/221)

الطبرسي) عن التفسير المنسوب إلى العسكري .. وقال العلامة في محمد بن القاسم الأسترآبادي: إنه موضوع، وضعه سهل بن أحمد الديباجي، وأحاديثه منا كير)(1)

ثم استدل ببعض ما فيه من أخطاء، فقال: (ومن أغلاطه أن الحجاج حبس المختار بن أبي عبيدة وهم بقتله ولم يمكنه الله منه حتى نجاه وانتقم من قتلة الحسين عليه السلام، مع أن إمارة الحجاج كان من سنة 75 وقتل المختار قبل ذلك بسنين، وكان ظهوره على قتلة الحسين سنة 64، وإنما قتل المختار مصعب بن الزبير وقتل مصعبا عبد الملك، وفي ذلك قال له رجل: هذا رأس مصعب لدى، ورأيت رأس المختار هنا لدى مصعب، ورأس ابن زياد لدى المختار، ورأس الحسين لدى ابن زياد، فقال عبد الملك: لا أراك الله الخامس، في قصة خرب بسببها عبد الملك قصر الإمارة بالكوفة .. ومن أغلاطه أيضا أنه توهم أن سعد بن أبي وقاص كان في فتح نهاوند. وذكر في تفسير {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] ما يستحيى من نقله ويشمئز الطبع من قرائته، نعوذ بالله من الضلال، ونسأله الهداية والصواب)

ثم قال: (ولم يكن واضع هذا التفسير عارفا بالتاريخ، والعجب أن ما نقلنا عن التفسير موجود في البحار ولم يتعرض المجلسي لرده)

قال آخر: ومثله العلامة الخوانساري الذي قال: (إن احتمال الواضع فيه (أي فقه الرضا) بعيد لما يلوح عليه من حقيقة الصدق والحق؛ ولأن ما استعمل عليه من الأصول والفروع والأخلاق أكثرها مطابق لمذهب الامامية، وما صح عن الأئمة، ولا يخفى أنه لا داعي للوضع في مثل ذلك، فان غرض الواضعين تزييف الحق، وترويج الباطل، والغالب

__________

(1) مجمع البيان: 10/ 580، والتفسير المنسوب للإمام العسكري: 200.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/222)

وقوعه عن الغلاة والمفوضة والكتاب خال عما يوهم ذلك بخلاف غيره مما نسب إلى الأئمة .. كمصباح الشريعة المنسوب إلى مولانا الصادق .. وتفسير الإمام المنسوب إلى سيدنا أبي محمد العسكري، فإن من أمعن النظر في تضاعيفهما اطلع على أمور عظيمة مخالفة لأصول الدين أو المذهب، مغيرة لطريقة الأئمة وسياق كلماتهم)(1)

قال المدعي: ولكن مع ذلك، نرى أن هناك من قبل رواياته، ونشرها .. ومن الأمثلة على ذلك الشيخ الصدوق؛ فقد نقل في كتبه بعض روايات هذا التفسير أو غيرها، إما بعين سند التفسير، وإما مع اختلاف يسير، مع العلم أنه صرح بأنه لا ينقل في كتابه [من لا يحضره الفقيه] إلا رواية تكون حجة بينه وبين الله كما قاله في مقدمته، وما نقل في الفقيه بسند هذا التفسير موجود بعينه في تفسير العسكري (2).

قال أحد المتهمين: لاشك أن في روايته له من باب التساهل في نقل الأخبار، وهو نهج وقع فيه للأسف في بعض كتبه، ومنها ـ مثلا ـ ما ذكره في آخر المجلس الرابع والأربعين من أماليه في شأن إطعام الإمام علي للمسكين واليتيم والأسير شعرا لأمير المؤمنين والزهراء لا يرتاب العارف بشأنهما في كذب نسبته لهما لما فيه من الركاكة والألحان واختلال الوزن (3).

قال آخر: ولهذا؛ فإنا لو طبقنا ما يطلق عليه [نقد المتن]، فسنجد الأدلة الكثيرة على الكذب الموجود فيه، وأن الإمام العسكري منزه عنه .. ومن الأمثلة على ذلك (4) ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فقد نقل عن زين العابدين قوله: (أي أطيعوا ربكم من حيث يأمركم

__________

(1) رسالة في تحقيق فقه الإمام الرضا: 7.

(2) الفقيه: 2/ 327، التفسير المنسوب للإمام العسكري: 13.

(3) الامالي ـ الصدوق (ص 330)

(4) اقتبسنا الأمثلة التالية والتعقيب عليها من رسالة في التفسير المنسوب للإمام العسكري للشيخ البلاغي.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/223)

أن تعتقدوا أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له)، وذكر جملة من صفات الله فيما يجب اعتقاده، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، وأن آل محمد أفضل آل النبيين وأن عليا أفضل آل محمد وأن أمة محمد أفضل أمم النبيين وان أصحاب محمد أفضل أصحاب النبيين، ثم قال بعد هذا بمقدار من الكلام: فذلك قوله تعالى {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} اعبدوه بتعظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي)(1)

لقد عقب العلامة الشيخ البلاغي على هذا بقوله: (أفلا ترى الاضطراب والتهافت في ذكر هذين التفسيرين، كيف يصحّ الاقتصار على عبادة الله بتعظيم محمد وعلي؟ .. أترى الكاتب يريد أن الاعتقاد بما ذكر أولا من وحدانية الله وصفاته الكريمة جلّ شأنه كله يرجع في الحقيقة إلى تعظيم محمد وعلي، أو أن الكاتب ذكر رأي زين العابدين أولا ثم ذكر ما يراه هو تأويلا، أو إغماضا عن النقد وهل يكون هذا من إمام أو عالم مستقيم من أصحابه؟)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك هذه الخرافات التي وصف فيها كيفية خلق السموات والأرض، والتي لا تختلف عن الخرافات الإسرائيلية، فقد ورد فيه: (فخلق من دخانه السماوات السبع، وخلق من زبده الأرضين السبع فبسط الأرض على الماء، وجعل الماء على الصفا، والصفا على الحوت، والحوت على الثور، والثور على الصخرة التي ذكرها لقمان لابنه فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، والصخرة على الثرى، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله، فلما خلق الله تعالى الأرض دحاها من تحت الكعبة، ثم بسطها على الماء، فأحاطت بكل شئ، ففخرت الأرض، وقالت: أحطت بكل شئ فمن يغلبني؟ وكان

__________

(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: 139.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/224)

في كل أذن من آذان الحوت سلسلة من ذهب مقرونة الطرف بالعرش، فأمر الله الحوت فتحرك فتكفأت الأرض بأهلها كما تتكفأ السفينة على وجه الماء و قد اشتدت أمواجه لم تستطع الأرض الامتناع، ففخر الحوت وقال: غلبت الأرض التي أحاطت بكل شئ، فمن يغلبني؟ فخلق الله عز وجل الجبال فأرساها، وثقل الأرض بها، فلم يستطع الحوت أن يتحرك، ففخرت الجبال وقالت: غلبت الحوت الذي غلب الأرض، فمن يغلبني؟ فخلق الله عز وجل الحديد، فقطعت به الجبال، ولم يكن عندها دفاع ولا امتناع ففخر الحديد وقال: غلبت الجبال التي غلبت الحوت فمن يغلبني؟ فخلق الله عز وجل النار، فألانت الحديد وفرقت أجزاءه ولم يكن عند الحديد دفاع ولا امتناع)(1)

لقد عقب العلامة الشيخ البلاغي على هذا بقوله: (ومقتضى هذا أن الأرض قبل خلق الجبال فيها كانت آهلة محيطة بكل شيء فليلحظ ذلك مع قوله تعالى في سورة فصّلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 10]، فإن خلق الجبال، فأما يكون في يومي خلق الأرض فهو قبل البركة فيها، وتقدير أقواتها، فلا تكون حينئذٍ آهلة محيطة بكل شيء، وأما أن يكون في يومي البركة في الأرض فيبعد في عادة الله تعالى، سيما في خلق الأرض والسموات والعالم، أن يجعل الأرض آهلة محيطة بكل شيء في يوم ونحوه قبل خلق السموات .. مضافا إلى مقتضى الحديث أن الأرض كانت على الماء لا على الحوت، والحال إن الجبال جزء من الأرض ومن طبيعتها مهما بلغت من العظم فلا تقتضي رسوب الأرض على الصفا على خلاف طبيعة الأرض

__________

(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: 144 – 145.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/225)

التي طبعها الله عليها، على أن الجبال بالنسبة إلى جرم شيء يسير فلو كانت من غير طبيعة الأرض لما اقتضت ثقلا ترسب به الأرض إذا كانت طافية على الماء، أو تضعف به الحوت إذا كانت تقوى على الأرض)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 92] ما ملخّصه: (إن بني إسرائيل قالوا للسامري كيف يكون العجل إلهاً؟ فقال: إنما هذا العجل يكلمكم منه ربكم، وقال: إن السامري نصب عجلا مؤخره إلى الحائط وحفر في الجانب الآخر في الأرض، وأجلس فيه بعض مردته فهو الذي وضع فاه في دبره وتكلم بما تكلم لما قال هذا إلهكم واله موسى)(1) .. وحاصل هذا أن كلمات الضلال كانت تخرج من ناحية فم العجل بدسيسة تكلم المارد من وراء الحائط في دبر العجل، فضلّ بنو إسرائيل وحسبوا أن العجل يكلمهم على أن الله يكلمهم على لسانه .. وكأن هذا المفسّر لم يفطن إلى قوله تعالى في وصف العجل وتوبيخ الضالين بعبادته والاحتجاج والإنكار عليهم: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57]: (لما كنتم في التيه يقيكم حر الشمس وبرد القمر)(2) .. وقد علق عليه الشيخ البلاغي بقوله: (ولا يخفى أنه لا يوجد للقمر برد يحتاج إلى الوقاية، ألا ترى يبدو في الصيف كاملا والناس تضجر من الحر، وينقص في الشتاء ويمحق وتتضور من البرد، فمن أين جاء

__________

(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: 251 – 252.

(2) التفسير المنسوب للإمام العسكري: 258.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/226)

برد القمر في الآية الكريمة أيكون هذا من إمام؟)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/227)

تفسير القمي

قال المدعي: لا بأس .. يمكننا أن نقبل ما ذكرتموه من الأدلة والتصريحات على عدم اعتبار ذلك التفسير .. لكن ما تقولون في تفسير أبي الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، وهو تفسير يشمل القرآن الكريم كله .. وصاحب الكتاب كان في عصر الإمام العسكري، وعاش إلى سنة (307 هـ) .. وهو فوق ذلك ثقة عندكم، بل يعتبر من أجل الرواة، وقد أكثر من النقل عنه تلميذه محمد بن يعقوب الكليني في كتابه (الكافي)، الكتاب الأول في الحديث عندكم .. ومع ذلك كله نجده مملوءا بكل أنوع الغلو والتحريف والضلالة (1) .. وإن شئتم ذكرتم لكم من ذلك الكثير .. فكيف تبرؤون أنفسكم من هذا الكتاب الذي توثقون مؤلفه؟

قال أحد المتهمين (2): ما ذكرته من قدم هذا التفسير، وكونه مصدرا مهما لكثير من التفاسير التي تعتمد على الروايات في تفسير الآيات، كالبرهان والصافي ومجمع البيان وغيرها صحيح .. ومثل ذلك ما ذكرته من توثيق شخصية علي بن إبراهيم القمي؛ فقد أجمع الرجاليون على ذكره بألفاظ المدح والتعديل، حيث قال عنه النجاشي: (علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، أبو الحسن القمي، ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنف كتبا وأضر في وسط عمره، وله كتاب التفسير، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب قرب الإسناد)(3) .. وقال آخر: (إنه من أجل رواة أصحابنا، كان في عصر الإمام

__________

(1) مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس ـ ص 489.

(2) رجعنا في هذا المبحث إلى دراسة بعنوان: تفسير القمّي، دراسة علمية على ضوء علم الرجال والحديث، الشيخ محمود هيدوسفى.

(3) رجال النجاشي: 183.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/228)

العسكري، وعاش إلى سنة 307 هـ، وقد أكثر ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني الرواية عنه في الكافي)(1)

قال آخر: لكن المشكلة ليست فيه، وإنما في صحة نسبة التفسير الموجود إليه .. وذلك لا يعني أننا ننكر أو نشك بأن لعلي بن إبراهيم كتابا باسم التفسير، فهذا مما لا شك فيه؛ إذ إن النجاشي والطوسي قد نصا على وجود التفسير المذكور (2)، وذكرا إليه طريقا صحيحا .. لكن ما يدعو للشك هو التفسير المتداول اليوم .. فراوي التفسير هو أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن الإمام موسى الكاظم، وهو الذي صدر التفسير بقوله: (حدثنا أبو الفضل .. قال: حدثنا علي بن إبراهيم .. )(3) .. وهذا الراوي مجهول الحال، غير مذكور في كتب الرجال .. وهذا وحده كاف لإسقاط الكتاب عن الاعتبار، وبالتالي لا نجزم بصحة نسبة ما بأيدينا إلى علي بن إبراهيم؛ لجهالة الراوي، بل جهالة من أملى عليه أبو الفضل، بقرينة: (حدثنا أبو الفضل .. )

قال المدعي: ولكن ألا تعلم أن السيد طيب الجزائري رفع الجهالة عنه بقوله: (إلا أن ما يدل على علو شأنه وسمو مكانه، كونه من أولاد الإمام موسى بن جعفر ومنتهيا إليه بثلاث وسائط فقط .. ومما يرفع غبار الريب عن اعتبار الراوي ركون الأصحاب إلى هذا الكتاب وعملهم به بلا ارتياب، فلو كان فيه ضعف لما ركنوا إليه)

قال أحد المتهمين (4): هذا التبرير غير كاف، ولا معتبر .. فانتساب الراوي إلى الإمام حتى مع عدم الواسطة ليس دليلا على الوثاقة، فهذا جعفر ابن الإمام الهادي قد لقب بجعفر

__________

(1) تفسير القمي: 8.

(2) الفهرست: 209؛ ورجال النجاشي: 183.

(3) تفسير القمي 1: 27.

(4) تفسير القمّي، دراسة علمية على ضوء علم الرجال والحديث، الشيخ محمود هيدوسفى.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/229)

الكذاب.

قال آخر: أما ركون الأصحاب إلى الكتاب، مع أنه لا يمكن اعتباره دليلا إلا أنه قد يكون لتفسيره الموجود آنذاك، لا لهذا التفسير الذي بين أيدينا .. بالإضافة إلى أن الركون من الأصحاب قد يكون للوثوق بكثير مما تضمنه من روايات توافق القرآن الكريم، ذلك أنه ليس كل ما فيه مرفوض مردود.

قال المدعي: لكني رأيت أن مشكلة جهالة الراوي للكتاب، طرحها الشيخ المعاصر باقر الإيرواني، وأجاب عنها بقوله: (وفيه: أن الشيخ الطوسي في فهرسته يذكر طريقا صحيحا إلى جميع كتب علي بن إبراهيم، والتي منها تفسيره، وينص في ذلك الطريق إلى القمي نفسه، ومع افتراض أن القمي نفسه قد أجاز الشيخ الطوسي بالوسائط في نقل تفسيره، فلا تضر بعدها جهالة أبي الفضل)(1).

قال أحد المتهمين (2): إن هذا الافتراض يتم لو كان القمي قد أعطى الواسطة الأولى كتابه، وقال له: أجيزك أن تنقل هذا الكتاب، وهكذا نكون قد حصلنا على ما في النسخة الأصلية، أو يكون قد قرأ عليه التفسير فأجازه بنقله؛ وهذا بعيد؛ لكثرة مؤلفات علي بن إبراهيم، والإجازة لم تكن للتفسير، بل لجميع كتبه بما فيها التفسير كما ذكر الشيخ الطوسي.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن قوله: (لا تضر بعدها جهالة أبي الفضل) غير مقبول ولا صحيح، ذلك أن أبا الفضل ما زال طرفا من خلال وجوده في كل النسخ التي بأيدينا، فهو الذي يقول: (حدثنا علي بن إبراهيم .. )، مما يبعد من احتمال أن يكون الكتاب قد وصلنا من طريق آخر، بل هناك قرائن كثيرة موجودة في الوسائل والبحار تدل على أن

__________

(1) الشيخ الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 173.

(2) تفسير القمّي، دراسة علمية على ضوء علم الرجال.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/230)

النسخة الموجودة لديهما هي نفس النسخة الموجودة لدينا بتوسط أبي الفضل، فكثيرا ما يرد في الوسائل: (علي بن إبراهيم في تفسيره، عن أبي الجارود)(1)

قال آخر: وهكذا يذكر علماء الرجال كالشيخ محمد سند (2) الشواهد الكثيرة من الوسائل والبحار وغيرها، والتي تفيد أن نسخة صاحب الوسائل لتفسير القمي، وكذلك النسخة التي عند العلامة المجلسي، وأيضا النسخة التي عند صاحب تفسير البرهان، هي النسخة عينها التي بأيدينا بتوسط أبي الفضل.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الفحص والتأمل في تفسير القمي يفضيان إلى القول بأنه عبارة عن خليط من تفسيرين أو أكثر، فبعضه للقمي وبعضه الآخر لغيره، بل عبارة الآغا بزرك الطهراني توحي بأنه مقتنع بهذا التصرف من الراوي؛ فقد قال: (ولخلو تفسيره (القمي) هذا عن روايات سائر الأئمة، فقد عمد تلميذه الآتي ذكره (يقصد أبا الفضل)، والراوي لهذا التفسير عنه إلى إدخال بعض روايات الإمام الباقر التي أملاها على أبي الجارود في أثناء هذا التفسير، وبعض روايات أخر عن سائر مشايخه مما يتعلق بتفسير الآية ويناسب ذكرها في ذيل تفسير الآية، ولم يكن موجودا في تفسير علي بن إبراهيم؛ فأدرجها في أثناء روايات هذا التفسير؛ تتميما له تكثيرا لنفعه، وذلك التصرف، وقع منه من أوائل سورة آل عمران إلى آخر القرآن)(3)

قال آخر: وقد ذكر السيد جعفر مرتضى ذلك ــ وهو في معرض الرد على الأحاديث التي صرحت أو يفهم منها تحريف بعض الآيات القرآنية ــ بقوله: (وأما بالنسبة لأحاديث تفسير القمي، فهو وإن حاول بعض الأعلام أن يستدل لوثاقة جميع رواته، إلا أن كثيرين

__________

(1) الوسائل 22.

(2) محمد سند، بحوث في مباني علم الرجال: 212 ـ 216.

(3) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 4: 302.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/231)

من العلماء لم يقبلوا ذلك منه، وناقشوا أدلته وردوها .. لا سيما .. وأن هذا التفسير قد خلط ما روي عن القمي بما روي عن أبي الجارود الضعيف الرواية، بالإضافة إلى علل أخرى موجودة فيه)(1)

قال آخر: وقد رد الشيخ الإيرواني أيضا استفادة التوثيق العام من المقدمة بقوله: (إن النسخة الأصلية للكتاب المذكور ليست بأيدينا، والمطبوع المتداول لا نجزم بكونه بكامله تفسير القمي وغيره ـ وبعد أن ذكر القرائن قال ـ: ومعه فيحصل علم إجمالي بكونه خليطا من تفسير القمي وغيره، وحيث لا يمكن التمييز؛ فيسقط جميعه عن الاعتبار)(2) .. وقال في موضع آخر: (إن القمي وإن كان له كتاب باسم التفسير ولا يمكن التشكيك في ذلك؛ باعتبار أن النجاشي والطوسي قد نصا على وجود التفسير المذكور وذكروا إليه طريقا صحيحا .. ولكنا نشكك في كون التفسير المتداول اليوم هو نفس تفسير القمي، ونحتمل عدم كونه للقمي رأسا، ولا أقل بعضه للقمي والبعض الآخر قد دس فيه) ثم ذكر ما يؤكد ذلك من القرائن (3)

قال آخر: من الشواهد والقرائن الدالة على كون التفسير الموجود خليطا من تفسيرين أحدهما للقمي ما ورد في التفسير من التعابير التي لا تتناسب وكون المفسر واحدا، بل تدل على الخروج من تفسير إلى آخر، فكثيرا ما يرد هذا التعبير: (رجع إلى تفسير علي بن إبراهيم) أو (رجع إلى رواية علي بن إبراهيم) أو (رجع الحديث إلى علي بن إبراهيم) أو (في رواية علي بن إبراهيم)(4) .. فلو كان التفسير لعلي بن إبراهيم، فهل خرج عنه حتى يعود إليه .. بل كما

__________

(1) جعفر مرتضى، حقائق هامّة حول القرآن الكريم: 33.

(2) الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 34 ــ 35.

(3) دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 174 ــ 175.

(4) يمكن مراجعة هذه التعابير في تفسير القمي 1: 271، 272، 292، 294، 299، 313، 389.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/232)

هو الظاهر هناك خروج عن تفسير القمي ودخول في تفسير آخر، كتفسير أبي الجارود، ومما يدل على ذلك أن هذه التعابير لم ترد بعد كلام ليس له علاقة بتفسير الآيات؛ ليقال: إنه ربما خرج علي بن إبراهيم بنحو الاستطراد إلى موضوع آخر لا يتعلق بالتفسير ثم عاد إلى التفسير، بل كانت ترد بعد تفسير آية، وفي (رواية أبي الجارود) ونحو ذلك.

قال آخر (1): ومن تلك القرائن كثرة النقل عن أحمد بن محمد، وهو المعروف ـ بحسب الظاهر ـ بابن عقدة الراوي عن الكليني، مع أن الكليني في الكافي يروي عن علي بن إبراهيم كثيرا، فكيف يمكن أن يروي علي بن إبراهيم عن تلميذه.

قال آخر (2): ومن تلك القرائن وجود الواسطة بين علي بن إبراهيم وبين أبيه، فقد ذكر في أحد الطرق شخصان إلى إبراهيم بن هاشم؛ فلو كان لعلي بن إبراهيم فلا حاجة إلى الواسطة.

قال آخر (3): بالإضافة إلى تضعيف علمائنا لبعض الرواة الواقعين في إسناد التفسير، وهو يدل على أن القمي لا يقصد توثيق جميع من ورد في تفسيره .. فبعد دراسة طويلة ومفصلة لكل الأسانيد الواقعة في تفسير القمي، وما قيل في ترجمة الرجال الواقعين في إسناده تبين أنه يوجد راويا تقريبا ـ بعد حذف المشترك ـ منهم راويا من مجهولي الحال، ولم يرد لأكثرهم ذكر في المجاميع الرجالية، والباقون ذكروا ولكن بلا توثيق أو تضعيف، ومنهم من الثقات بحسب الظاهر، وهناك 20 راويا ممن ضعفوا من قبل النجاشي أو الشيخ وغيرهما .. فتكون النسبة التقريبية هي 42 بالمائة من الثقات تقريبا، و 8 بالمائة من المضعفين، و 50 بالمائة من المجهولين .. وهذه النسب هي من مجموع الرواة بمن فيهم المجهولي الحال،

__________

(1) أصول علم الرجال: 164.

(2) أصول علم الرجال: 164.

(3) تفسير القمّي، دراسة علمية على ضوء علم الرجال.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/233)

وبما أنه في الواقع يوجد بين المجهولين الثقات والضعاف بنسب متفاوته تبعا للنسبة الاحتمالية التي نحصل عليها من مجموع الموثقين والمضعفين، فلا بد من معرفة هذه النسبة، لنطبقها على عدد المجهولين لنرى ما هو العدد المحتمل للثقات، وما هو العدد المحتمل للضعاف .. وعندما قمنا بذلك وجدنا أن مجموع عدد الموثقين والمضعفين هو (104 + 20) أي 124، منهم ثقات و 20 ضعاف، وعليه تكون النسبة الإحتمالية تقريبا 84 بالمائة من الثقات و 16 بالمائة من الضعاف .. ثم لا يخفى أن هذه النسبة قد دخلت فيها كل العوامل الكيفية، سواء من جانب الثقات كأمثال زرارة ومحمد بن مسلم، أو من جانب المضعفين كالمفضل بن صالح أبي جميلة، وذلك لتشخص كل الرواة الذين أخذت النسبة منهم.

قال آخر (1): وهذه النسبة و 16 بالمائة من الضعاف نسبة لا يهملها الذهن البشري ويطرحها، بل يأخذ بها، وإن كانت قليلة نسبة إلى عدد الثقات، إذ تبعا لهذه النسبة، من المحتمل أن يكون هناك (19) راوياً من الضّعاف، مردّدين بين (119) من المجاهيل، ومع هذا العلم الإجمالي بوجود هذا العدد المعتدّ به عقلائياً، كيف نطمئن إلى وثاقة كلّ الرواة الواقعين في الأسانيد المذكورة.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك كله ما ورد فيه من الروايات التي تخالف القرآن الكريم والسنة الصحيحة وما ذكره أئمة الهدى .. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد فيه من الروايات الدالة على عدم عصمة الملائكة، كما في قصة هاروت وماروت المعروفة .. ومثلها ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56 - 57]، فقد أورد فيه عن بعض الأئمة قوله: (إن الله تبارك وتعالى غضب على ملك من الملائكة، فقطع جناحه وألقاه في جزيرة من جزائر البحر)، وساق القصة في كيفية لقائه

__________

(1) تفسير القمّي، دراسة علمية على ضوء علم الرجال.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/234)

بإدريس عليه السلام وكيف رضي الله عنه بدعائه له فرد جناحه، ثم طلب إدريس من الملك أن يرفعه إلى السماء لينظر إلى ملك الموت، فرفعه حيث التقى به في السماء الرابعة فحرك ملك الموت رأسه تعجبا إذ كان مأمورا بقبض روحه في هذا المكان)(1) .. وهذا معارض لقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]، وقوله {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50]، وغيرها من الآيات والأحاديث .. بالإضافة إلى إجماع علمائنا على ذلك، فقد ذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار (2) بابا مفصلا عن عصمة الملائكة، وقال أيضا في موضع آخر: (اعلم أنه أجمعت الفرقة المحقة وأكثر المخالفين على عصمة الملائكة صلوات الله عليهم أجمعين من صغائر الذنوب وكبائرها)(3)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك ما ورد فيه من الروايات الدالة على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، والمخالف لما عليه أئمتنا من عصمتهم؛ ومن الأمثلة على ذلك ما ورد فيه من ذكر قصة داوود وكيف افتتن بامرأة أوريا حين نظر إليها وهي تغتسل، وكيف قدم أوريا بين يدي التابوت ليقتله، فقتله وتزوج بامرأته وولدت له سليمان (4).

وهي رواية تتنافى مع ما ذكره أئمتنا عن عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقد ورد في (عيون أخبار الرضا) عن أبي الصلت: أن الإمام الرضا عند سؤاله عن هذه القصة، ضرب على جبهته وقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته

__________

(1) تفسير القمي 2: 51.

(2) بحار الأنوار 59: 265.

(3) بحار الأنوار 11: 124.

(4) تفسير القمي 2: 229.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/235)

حين خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل!)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روي في التفسير منسوبا للإمام الصادق من قصة ملك سليمان عليهم السلام وخاتمه (1) .. وهي قصة تسيء إلى قداسة نبينا سليمان عليه السلام، ولا تكلف القارئ الكريم كثير عناء في إثبات كونها موضوعة، وقد اعتبرها السيد الطباطبائي وأمثالها في ميزانه (مما لعبت بها أيدي الوضع)(2)

قال آخر: وهكذا نجد موارد في التفسير تتعارض وما اكتشفه العلم من حقائق علمية عن أسرار الطبيعة والكون، كحقيقة البرق والرعد، وكيفية حصول الكسوف والخسوف، وحجم الكواكب بالنسبة إلى الأرض وغير ذلك .. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في التفسير من رواية طويلة، عن علي بن الحسين أنه قال: (إن من الأوقات التي قدرها الله للناس مما يحتاجون إليه البحر الذي خلقه الله بين السماء والأرض، وإن الله قدر فيه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب، ثم قدر ذلك كله على الفلك، ثم وكل بالفلك ملكا معه سبعون ألف ملك، يديرون الفلك، فإذا دارت الشمس والقمر والنجوم والكواكب معه نزلت في منازلها التي قدرها الله فيها ليومها وليلتها، وإذا كثرت ذنوب العباد وأراد الله أن يستعتبهم بآية من آياته، أمر الملك الموكل بالفلك أن يزيل الفلك الذي عليه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب، فيأمر الملك أولئك السبعين ألف ملك أن يزيلوا الفلك عن مجاريه، قال: فيزيلون فتصير الشمس في البحر الذي يجري فيه الفلك، فيطمس حرها ويغير لونها، فإذا أراد الله أن يعظم الآية طمست الشمس في البحر على ما يحب الله أن يخوف خلقه بالآية، فذلك عند شدة انكساف الشمس، وكذلك يفعل بالقمر،

__________

(1) تفسير القمي: 236 ـ 237.

(2) الطباطبائي، الميزان 17: 207.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/236)

فإذا أراد الله أن يخرجهما ويردهما إلى مجراهما، أمر الملك الموكل بالفلك أن يرد الشمس إلى مجراها، فيرد الملك الفلك إلى مجراه؛ فتخرج من الماء وهي كدرة، والقمر مثل ذلك)(1)

فالظاهر من الرواية أن سبب الكسوف والخسوف هو طمس الشمس أو القمر في البحر الموجود بين السماء والأرض، وهذا الكلام ليس صحيحا، ولا معنى لتأويله .. بل علينا أن نطبق عليها وعلى أمثالها ما أوصانا به أئمتنا من عرض ما يرد عنهم على القرآن والعقل القطعي، وإلا لم يكن لما أوصوا به من الروايات الصحيحة مصداقا في الخارج؛ إذ يمكننا ـ حتى في البديهيات إذا ورد ما يعارضها ـ أن نؤوله .. وعليه نرجح عدم صدور مثل هذه الرواية.

قال آخر: ومثل ذلك ما رواه الراوي بعد ذلك عن الإمام علي في حديث جاء فيه: (الأرض مسيرة خمسمائة عام، الخراب منها مسيرة أربعمائة عام، والعمران منها مسيرة مائة عام، والشمس ستون فرسخا في ستين فرسخا، والقمر أربعون فرسخا في أربعين فرسخا، بطونهما يضيئان لأهل السماء، وظهورهما يضيئان لأهل الأرض، والكواكب كأعظم جبل على الأرض)(2) .. فهي مخالفة لكل ما يذكره العلم القطعي.

قال آخر: ولذلك، فنحن بين أن نذكر بأن أمثال هذه الروايات إما قد دست في التفسير وهذا بعيد؛ إذ ليس هناك مبررات موضوعية للدس ما دامت هي مسألة علمية لا علاقة لها بعقيدة أو خصوصيات مذهب وغير ذلك .. وإما أن نقول بكذب بعض رواتها، وهذا يدل على عدم إمكانية إطلاق التوثيقات العامة لكل الرواة الموجودين في الكتاب.

تفسير العياشي

__________

(1) تفسير القمي 2: 14 ـ 15.

(2) تفسير القمي 2: 17.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/237)

قال المدعي: لا بأس .. يمكننا أن نقبل ما ذكرتموه من الأدلة والتصريحات على عدم اعتبار ذلك التفسير اعتبارا مطلقا .. لكن ما تقولون في تفسير محمد بن مسعود العياشي (توفي 320 هـ)، والذي يعد من الثقات عندكم .. وقد تلقاه علماؤكم بالقبول من غير أن يُذكر بقدح أو يغمض فيه بطرف .. مع العلم أنكم تذكرون أن مؤلفه محمد بن مسعود بن العياش التميمي الكوفي السمرقندي، من أعيان علمائكم، وأنه من أساطين الحديث والتفسير بالرواية .. وبذلك؛ فأنتم تتحملون كل ما ورد في الروايات المغالية والمحرفة للمعاني القرآنية.

قال أحد المتهمين (1): مع كل ما ذكرناه لك سابقا سيدنا من أننا لا نعتبر أي كتاب مهما جل قدره اعتبارا مطلقا؛ بل نأخذ منه ونرد، إلا أن هذا التفسير مع احترامنا لصاحبه، وثقتنا فيه، لأنه جمع فيه المأثور من أئمة أهل البيت في تفسير القرآن، وقد أجاد وأفاد، وذكر الروايات بأسانيدها في دقّة واعتبار، غير أنّ هذا التفسير لم يصل إلينا إلّا مبتورا .. فقد بتره ناسخه؛ حيث أسقط الأسانيد، واقتصر على متون الأحاديث، معتذرا بأنّه لم يجد في دياره من يكون عنده سماع أو إجازة من المؤلف؛ فلذلك حذف الأسانيد واكتفى بالباقي .. ومن ثم قال المجلسي بشأنه: (إنّ اعتذاره هذا أشنع من فعلته بحذف الأسانيد)

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فهو يسترسل في ذكر الآيات، في ضمن أحاديث مأثورة، عن أهل البيت تفسيرا وتأويلا للآيات الكريمة، ولا يتعرّض لنقدها جرحا أو تعديلا، تاركا ذلك إلى عهدة الإسناد الّتي حذفت مع الأسف .. بالإضافة إلى تعرضه لبعض القراءات الشاذّة المنسوبة إلى أئمة أهل البيت، مما جاءت في سائر الكتب بأسانيد ضعاف،

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 323.

(2) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 324.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/238)

أو مرسلة لا حجيّة فيها، والقرآن لا يثبت بغير التواتر باتّفاق الأمّة.

قال آخر (1): وهكذا نراه لا يراعي ضوابط الجري والتطبيق التي لا تتعارض مع بلاغة القرآن الكريم أو معانيه، ومن الأمثلة على ذلك قوله في تفسير (السبع المثاني) بسورة الحمد، بأن ظاهرها: الحمد، و باطنها: ولد الولد، والسابع منها الإمام المهدي .. ومن ثم فإنه عند ما يرد في التأويل، نراه غير مراع لضوابط التأويل الصحيح، من كونه مفهوما عاما منتزعا من الآية بعد إلغاء الخصوصيات ليكون متناسبا مع ظاهر اللفظ، وإن كانت دلالته عليه غير بيّنة.

تفسير الحويزي

قال المدعي: لا بأس .. يمكننا أن نقبل ما ذكرتموه من الأدلة على عدم اعتبار ذلك التفسير اعتبارا مطلقا .. لكن ما تقولون في تفسير عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، (توفي 1112 هـ)، والمسمى [تفسير الثقلين]؛ فهو قد حوى الكثير من الخرافات والدجل والغلو.

قال أحد المتهمين (2): إن صاحب هذا التفسير، سيدي من الإخباريين الذين يهتمون بجمع الروايات دون تمحيصها .. ولذلك جمع في كتابه ما عثر عليه من روايات معزوّة إلى أئمة أهل البيت مما يرتبط نحو ارتباط بالقرآن الكريم، تفسيرا أو تأويلا، أو استشهادا أو تأييدا، وفي الأغلب لا علاقة للأحاديث التي يوردها بالآيات الكريمة في صلب مفهومها أو دلالتها، وإنما تعرّض لها بالعرض لغرض الاستشهاد، ونحو ذلك.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ضعف أسانيد الأحاديث التي يوردها أو إرسالها إلّا

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 325.

(2) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 328.

(3) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 328.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/239)

القليل المنقول من المجامع الحديثية المعتبرة ..

قال آخر (1): بالإضافة إلى عدم تعرضه لنقد الروايات و لا علاج معارضاتها، وقد قال في مقدمة تفسيره يذكر ذلك، ويبرئ ذمته من تحمله: (و أما ما نقلت مما ظاهره يخالف لإجماع الطائفة فلم أقصد به بيان اعتقاد ولا عمل، وإنما أوردته ليعلم الناظر المطّلع كيف نقل وعمّن نقل، ليطلب له من التوجيه ما يخرجه من ذلك، مع أني لم أخل موضعا من تلك المواضع عن نقل ما يضاده، ويكون عليه المعوّل في الكشف والإبداء)(2) .. وبذلك توهم أنه تخلّص عن مأزق تبعات ما أورده في كتابه من مناقضات ومخالفات صريحة، مع أسس قواعد الدين، موكلا النظر والتحقيق في ذلك إلى عاتق القارئ.

قال آخر (3): لذلك نرى أنه قصّر في ذلك؛ إذ كان من وظيفته الإعلام والبيان لمواضع الإبهام والإجمال، كما فعله المجلسي في بحار أنواره؛ إذ ربّ رواية أوهنت من شأن الدين فلا ينبغي السكوت عليها والمرور عليها مرور الكرام، مما فيه إغراء الجاهلين أحيانا، أو ضعضعة عقيدة؛ فلم يكن ينبغي نقل الرواية وتركها على عواهنها، الأمر الّذي أوجب مشاكل في عقائد المسلمين.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] حيث ذكر تلك الرواية المشوّهة، والتي نسبها للإمام الصادق، والتي تعتبر {البعوضة} أمير المؤمنين، و {ما فوقها} رسول اللّه (4) .. والتي سبق ورددنا عليها.

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 328.

(2) نور الثقلين: 1/ 2.

(3) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 328.

(4) نور الثقلين: 1/ 37 ـ 38.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/240)

قال آخر (1): ومثل ذلك يذكر أخبارا مشتملة على الغلوّ والوهن بشأن الأئمّة، ومثلها من الاسترسال في نقل الإسرائيليات والموضوعات كما في قصّة هاروت وماروت، وأن الزهرة كانت امرأة فمسخت (2) .. ونحو ذلك من الأساطير الإسرائيلية والأكاذيب الفاضحة التي ملأ بها كتابه، وشحنه شحنا بلا هوادة.

تفسير البحراني

قال المدعي: لا بأس .. يمكننا أن نقبل ما ذكرتموه من الأدلة على عدم اعتبار ذلك التفسير اعتبارا مطلقا .. لكن ما تقولون في تفسير السيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الحسينى البحراني الكتكاني (توفّي 1107 هـ) والمسمى [البرهان في تفسير القرآن]؛ فهو قد حوى الكثير من الخرافات والدجل والغلو.

قال أحد المتهمين (3): إن صاحب هذا التفسير ـ سيدي ـ كان من المحدثين الذين يهتمون بجمع الأخبار، من غير أن يتكلّموا فيها بجرح أو تعديل، أو تأويل ما يخالف العقل أو النقل الصريح، كما هو دأب أكثر الأخباريين المتطرّفين.

قال آخر (4): بالإضافة إلى أنه في تفسيره هذا يعتمد كتبا لا اعتبار لها أمثال التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ـ الّذي هو من صنع أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبي الحسن على بن محمد بن سيار، الأسترآباديين ولم يعلم وجه انتسابه إلى الإمام الحسن العسكري ـ ومثله التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم بن هاشم القمي وهو من صنع أبي الفضل العباس بن محمد العلوي، ونسب إلى القمي من غير وجه وجيه .. ومثلهما كتاب

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 329.

(2) نور الثقلين: 1/ 91.

(3) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 331.

(4) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 331.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/241)

(الاحتجاج) المنسوب إلى الطبرسي، ولم يعرف لحدّ الآن، وكتاب (سليم بن قيس الهلالي)، المدسوس فيه، وغيرها من الكتب التي لا اعتبار لها، فضلا عن ضعف الإسناد أو الإرسال في أكثر الأحاديث التي ينقلها من هذه الكتب.

قال آخر (1): بالإضافة إلى أنه يسند القول في التفسير إلى أئمة الهدى، وبكل تأكيد وثقة، ومن غير رعاية للاحتياط .. فضلا عن ضعف الأسانيد وإرسالها.

قال آخر (2): وهذا لا يعني طرح الكتاب جميعا؛ فالحكمة ضالة المؤمن أين وجدها، فهو أحق بها .. بل إن فيه من الأحاديث الجميلة الصادرة عن أئمة الهدى والتي لا يمكن رفضها .. وهو بذلك مثل جميع تراثنا، وفي جميع المجالات، بحاجة إلى تمحيص ونقد وتحقيق، ليمتاز سليمه عن السقيم، والصحيح المقبول عن الضعيف الموهون.

3. الغلاة وتحريف التنزيل

قال المدعي: لا بأس .. قد أوافقكم في كل ما ذكرتم .. ولكن ما تقولون فيما ينسب لكم من القول بتحريف القرآن الكريم؛ فقد اشتهر هذا عنكم، بحيث صار لا يحتاج إلى دليل أو بينة تدل عليه .. فبمجرد أن تذكروا لدى أي عامي، أو حتى صبي إلا ويذكر ذلك عنكم.

قال أحد المتهمين: ما تقول سيدي في الأحاديث المشتهرة التي تجري على كثير من ألسنة عامة الناس .. شيوخهم وصبيانهم .. هل تقر بصحتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب شهرتها؟

قال المدعي: طبعا لا .. فحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن نتساهل فيه بهذه

__________

(1) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 331.

(2) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/ 332.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/242)

الطريقة؛ ولهذا قام العلماء بالتحقيق في تلك الأحاديث، وألفوا فيها الكتب، وميزوا الصحيح من الضعيف من الموضوع، ومن تلك الكتب [المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة] للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، وهو كتاب جامع لكثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، مما ليس في غيره، وتبلغ عدة أحاديثه (1356) حديثًا .. وقد اختصره تلميذه أبو الضياء عبد الرحمن بن الديبع الشيباني، وسمى مختصره [تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث] .. ومثل ذلك ألف الحافظ جلال الدين السيوطي كتاب [الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة]، وقد لخصه من كتاب [التذكرة في الأحاديث المشتهرة] لبدر الدين الزركشي وزاد عليه .. ومثله الشيخ عز الدين محمد بن أحمد الخليلي صاحب كتاب [تسهيل السبل إلى كشف الالتباس عما دار من الأحاديث بين الناس] .. ومثلهم الحافظ إسماعيل بن محمد العجلوني، صاحب كتاب [كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس]، وهو كتاب كثير الفوائد، جمع فيه مؤلفه أحاديث كتاب السخاوي مع تلخيص كلامه، وزاد أحاديث كثيرة جدًا حتى زاد عدد أحاديثه على (3250) حديثًا .. ومثلهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن درويش الحوت البيروتي، صاحب كتاب [أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب] .. وغيرها.

قال المتهم: فلم ألفوا كل هذه الكتب؟

قال المدعي: طبعا للنصيحة والتحذير من الخطأ في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال أحدهم، وهو بدر الدين الزركشي معبرا عن ذلك في مقدمة كتابه الذي ألفه لهذا الغرض: (إن من النصيحة الواجبة في الدين التنبيه على ما يشتهر بين الناس مما ألفه الطبع، وليس له أصل في الشرع .. وقد صنف الإمام تاج الدين الغزاري كتابا في فقه العوام وإنكار

القرآن.. وتحريف الغالين (2/243)

أمور قد اشتهرت بينهم لا أصل لها، أجاد فيها الإنتقاد، وصان الشريعة أن يدخل فيها ما خل بالإعتقاد، شكر الله صنعه، وأثاب جمعه .. وقد رأيت ما هو أهم من ذلك، وهو تبيين الأحاديث المشتهرة على ألسنة العوام، وكثير من الفقهاء الذين لا معرفة لهم بالحديث، وهي: إما أن يكون لها أصل يتعذر الوقوف عليه، لغرابة موضعه، ولذكره في غير مظنه، وربما نفاه بعض أهل الحديث لعدم إطاعته عليه، والنافي له كمن نفى أصلا من الدين، وضل عن طريقه المبين، وإما لا أصل لها البتة، فالناقل لها يدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يقل عني ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار)(1)

قال المتهم: فهل ترى جواز التساهل في أعراض المسلمين، بل اتهامهم بالكفر والبدعة والضلالة، مستساغا ما دام قد اشتهر عن الألسنة؟

قال المدعي: لا يمكنني طبعا أن أقول ذلك .. ولذلك سألتك عن موقفكم.

شهادات وتصريحات

قال المتهم: قبل أن أجيبك عن موقفنا .. أعود بك إلى تلك الأحاديث المشتهرة بين الناس، والتي ذكرت لي أنه ألفت فيها المؤلفات التي تحذر المسلمين من الأحاديث المكذوبة المنتشرة بينهم .. ما هي أدلتهم على ذلك؟

قال المدعي: طبعا .. هم يستدلون لذلك بأقوال العلماء في بيان ضعفها أو كذبها .. ومن الأمثلة على ذلك الحديث المشتهر المنسوب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما أفلح صاحب عيال قط)، فقد استدل الزركشي على كذبه بقوله: (قال ابن عدي: هو من كلام ابن عيينة وهو منكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .. فقد اعتبر شهادة ابن عيينة كافية في الدلالة على كذب الحديث.

__________

(1) اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة (ص 25)

(2) اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة (ص 124)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/244)

قال المتهم: بما أننا أمرنا بالعدالة .. فهل تقبل منا شهادات كبار علمائنا في تبرئتنا من القول بتحريف القرآن الكريم .. أم أن ذلك قاصر فقط على الأحاديث المشتهرة؟

قال المدعي: بل أقبل شهادات علمائكم .. لكن بشرط أن يكون لهم سمعة واحترام ومتبوعية عندكم .. حتى لا تأتيني بالشواذ الذين لا يعرفهم ولا يتبعهم أحد.

قال المتهم: لا بأس .. فكبار علمائنا من الذين نرجع إلى كتبهم وتصانيفهم كلهم صرحوا بذلك .. وقد عبر عن ذلك بعض كبار متأخرينا، فقال ـ في مقدمة ذكره لتصريحاتهم في ذلك ـ: (وإليك الآن تصريحات من ألمع وجوه الطائفة، ممّن دارت عليهم رحى الاعتبار، وكانوا قدوة التحقيق وأسوة النقد والاختيار، فكانت أقوالهم بالذات حجّة وآراؤهم بالخصوص سند القبول .. وقد أجمعوا بلا استثناء على رفض احتمال التحريف في كتاب اللّه المجيد، حتّى جعله مثل الصدوق ـ وهو المضطلع بآثار الآئمة ـ من أصول معتقدات الشيعة الإمامية .. وصرّح المولى أبو القاسم الجيلاني (ت 1231) صاحب قوانين الأصول بأنّ جمهور المجتهدين على عدم التحريف .. وهكذا الإمام كاشف الغطاء (ت 1373) قال: عليه إجماع الشيعة الإماميّة)(1)

قال آخر: فمن أعلامنا العدول الصادقين الذين شهدوا بذلك شيخ المحدّثين، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين الصدوق (ت 381)، فقد قال ـ في رسالته التي وضعها لبيان معتقدات الشيعة الإمامية حسب ما وصل إليه من النظر والتمحيص ـ: (اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وعدد سوره على المعروف (114) سورة، وعندنا تعدّ (و الضحى) و (ألم نشرح) سورة واحد، وكذا (لإيلاف) و (ألم تر كيف) .. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 55.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/245)

فهو كاذب)(1)

قال آخر: ومنهم عميد الطائفة، محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت 413)، فقد قال في أجوبة المسائل السروية: (فإن قال قائل: كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفّتين هو كلام اللّه تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان وأنتم تروون عن الأئمّة أنّهم قرأوا: (كنتم خير أئمّة أخرجت للناس) .. (وكذلك جعلناكم أئمة وسطا) .. وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟ قيل له: قد مضى الجواب عن هذا، وهو: أنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحّتها، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر، على ما أمرنا به حسب ما بيّناه)(2)

قال آخر: ومنهم الشريف المرتضى، علي بن الحسين علم الهدى (ت 436)، فقد قال ـ في رسالته الجوابية الاولى عن المسائل الطرابلسيات ـ: (إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا ومنقوصا، مع العناية الصادقة والضبط الشديد!)(3)

و قال: (إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية

__________

(1) اعتقادات الإمامية 93 ـ 94.

(2) الرسالة مطبوعة ضمن رسائل نشرتها مكتبة المفيد بقم. راجع، ص 226؛ والبحار: 89/ 75.

(3) مجمع البيان: 1/ 15.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/246)

بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز وعلم أنّه ملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء)(1)

وقال: (من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته)(2)

قال آخر: ومنهم شيخ الطائفة، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460)، فقد قال في مقدّمة تفسيره (التبيان): (وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن، لأنّ الزيادة منه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها)(3)

قال آخر: ومنهم أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548)، فقد قال في مقدّمة تفسيره: (والكلام في زيادة القرآن ونقصانه، ممّا لا يليق بالتفسير، أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانه وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أنّ في

__________

(1) مجمع البيان: 1/ 15.

(2) مجمع البيان: 1/ 15.

(3) التبيان: 1/ 3.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/247)

القرآن تغييرا ونقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء)(1)

قال آخر: ومنهم جمال الدين، أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطهّر الحلّي (ت 726)، فقد قال في أجوبة المسائل المهناوية، عند ما سأله السيد المهنا: (ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز هل يصحّ عند أصحابنا أنّه نقص منه شيء أو زيد فيه أو غيّر ترتيبه أم لم يصحّ عندهم شيء من ذلك؟)، فقال العلّامة في الجواب: (الحقّ أنّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنّه لم يزد ولم ينقص، ونعوذ باللّه تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنّه يوجب التطرّق إلى معجزة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة بالتواتر)(2)

قال آخر: ومنهم المولى المحقّق الأردبيلي (ت 993)، فقد قال بوجوب (العلم بما يقرأ قرآنا أنّه قرآن، فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم، وعدم جواز الاكتفاء بالسماع حتّى من عدل واحد،، وإذ ثبت تواتره فهو مأمون من الاختلال .. مع أنّه مضبوط في الكتب، حتّى أنّه معدود حرفا حرفا وحركة حركة، وكذا الكتابة وغيرها، ممّا يفيد الظنّ الغالب، بل العلم بعدم الزيادة على ذلك والنقص)(3)

قال آخر: ومنهم شيخ الفقهاء، الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء (ت 1228)، فقد قال في (كشف الغطاء): (لا زيادة فيه من سورة ولا آية من بسملة وغيرها لا كلمة ولا حرفا، وجميع ما بين الدفّتين ممّا يتلى كلام اللّه تعالى، بالضرورة من المذهب بل الدين وإجماع المسلمين وأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين وإن خالف بعض من لا يعتدّ به .. وكذا لا ريب في أنّه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع

__________

(1) مجمع البيان: 1/ 15.

(2) المسائل المهناوية/121.

(3) مجمع الفائدة: 2/ 218.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/248)

العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهية من العمل بظاهرها، ولا سيّما ما فيه من نقص ثلث القرآن أو كثير منه، فإنّه لو كان ذلك لتواتر نقله لتوفّر الدواعي عليه، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله، ثمّ كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه، وخصوصا ما ورد أنّه صرّح فيه بأسماء كثير من المنافقين في بعض السور ومنهم فلان وفلان، وكيف يمكن ذلك وكان من حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الستر على المنافقين ومعاملتهم بمعاملة أهل الدين)(1)

قال آخر: ومنهم حفيده الفقيه المحقّق، الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (ت 1373)، فقد قال في رسالته التي وضعها في أصول معتقدات الشيعة: (وإنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه صلى الله عليه وآله وسلم للإعجاز والتحدّي ولتعلّم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وأنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم (أي إجماع الشيعة الإمامية)، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نصّ الكتاب العظيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .. والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا، فإمّا أن تؤوّل بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار)(2)

قال آخر: ومنهم بهاء الملّة والدين، محمد بن الحسين الحارثي العاملي (ت 1031)، فقد قال: (والصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ من التحريف، زيادة كانت أو النقصان بنصّ آية الحفظ من الذكر الحكيم، وما اشتهر من الإسقاط في مواضع من الكتاب فهو غير معتبر

__________

(1) عن كتابه (الحقّ المبين) /11. ونقله القاضي الطباطبائي في هامش الأنوار النعمانية: 2/ 359.

(2) أصل الشيعة وأصولها، 133.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/249)

عند العلماء)(1)

قال آخر: ومنهم المحدّث الكبير محمد بن المرتضى المشتهر بالفيض الكاشاني (ت 1090)، فقد قال في المقدّمة السادسة التي وضعها قبل التفسير ـ بعد نقل روايات توهّم وقوع التحريف في كتاب اللّه ـ: (على هذا لم يبق لنا اعتماد بالنصّ الموجود، وقد قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]، وأيضا يتنافى مع روايات العرض على القرآن، فما دلّ على وقوع التحريف مخالف لكتاب اللّه وتكذيب له، فيجب ردّه والحكم بفساده أو تأويله)(2)

و قال في كتابه الذي وضعه في بيان أصول الدين ـ عند الكلام عن إعجاز القرآن، واستعراض جملة من روايات تسند التحريف إلى كتاب اللّه ـ: (ويرد على هذا كلّه إشكال، وهو: أنّه على ذلك التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن، إذ على هذا يحتمل كلّ آية منه أن تكون محرّفة ومغيّرة وتكون على خلاف ما أنزله اللّه، فلم يبق في القرآن لنا حجّة أصلا، فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتّباعه والوصيّة به، و أيضا، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]، فكيف تطرّق إليه التحريف والنقصان والتغيير!؟ وأيضا، قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .. وأيضا قد استفاض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمّة عرض الخبر المرويّ عنهم على كتاب اللّه، ليعلم صحّته بموافقته له وفساده بمخالفته، فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرّفا مغيّرا فما فائدة العرض، مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب اللّه مكذّب له، فيجب ردّه والحكم بفساده أو تأويله)(3)

__________

(1) آلاء الرحمان: 1/ 26.

(2) الصافي في تفسير القرآن: 1/ 33 ـ 34، والوافي: 2/ 273 ـ 274.

(3) كتاب علم اليقين في اصول الدين للفيض الكاشاني: 1/ 565.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/250)

وقال: (ويخطر بالبال في دفع الإشكال أنّ مرادهم بالتحريف والتغيير والحذف إنّما هو من حيث المعنى دون اللفظ، أي حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله، أي حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر، فمعنى قولهم: كذا أنزلت أنّ المراد به ذلك، لا ما يفهمه الناس من ظاهره، وليس المراد أنّها نزلت كذلك في اللفظ، فحذف ذلك إخفاء للحقّ وإطفاء لنور اللّه، و ممّا يدلّ على ذلك ما رواه في الكافي بإسناده عن أبي جعفر أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير: (وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية)(1)

قال آخر: ومنهم محمد بن الحسن بن علي المشتهر بالحرّ العاملي، صاحب (وسائل الشيعة)(ت 1104)، فقد قال في رسالة كتبها بالفارسية، دحضا لسفاسف بعض معاصريه ما تعريبه ـ: (إنّ من تتبّع أحاديث أهل البيت وتصفّح التاريخ والآثار علم علما يقينيّا أنّ القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر، قد حفظه الألوف من الصحابة ونقلته الألوف، وكان منذ عهده صلى الله عليه وآله وسلم مجموعا مؤلّفا)(2)

قال آخر: ومنهم المحقّق التبريزي (ت 1307)، فقد قال في تعليقته على رسائل أستاذه المحقّق الأنصاري: (القول بالتحريف هو مذهب الأخباريين والحشوية، خلافا لأصحاب الأصول الذين رفضوا احتمال التحريف في القرآن رفضا قاطعا، وهو الحقّ، للوجوه التالية: أوّلا: إجماع الطائفة، على ما حكاه الشيخ الطوسي والطبرسي والمرتضى علم الهدى والصدوق وغيرهم من أقطاب الإمامية .. ثانيا: صراحة القرآن بعدم إمكان التغيير فيه، كآية التدبّر (النساء: 82) وآية الحفظ (الحجر: 9) وآية عدم إتيانه الباطل (فصّلت:

__________

(1) كتاب علم اليقين في اصول الدين: 1/ 565.

(2) نقلا عن: صيانة القرآن من التحريف، ص 64.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/251)

42)، وكذا الروايات الكثيرة الدالّة على وجوب الرجوع إلى القرآن .. ثالثا: دليل العقل، حيث القرآن عماد الدين وأساس الشرع المبين، لكونه معجزا ومصدّقا لمقام النبوّة إلى قيام القيامة، ويؤيّد ذلك عناية الأمّة بحفظه وحراسته على ما كان عليه في العهد الأوّل في رسم الخطّ ونحوه، فلا بدّ من تأويل ما ورد بخلاف ذلك أو طرحه)(1)

قال آخر: ومنهم السيّد محسن الأعرجي (ت 1227)، فقد قال في شرح الوافية: (اتّفق الكلّ، لا تمانع بينهم، على عدم الزيادة، ونطقت به الأخبار، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من أئمّة التفسير والحديث، كشيخ الطائفة في التبيان، وشيخنا أبي علي في مجمع البيان، وإنّما وقع الخلاف في النقيصة، والمعروف ـ بين أصحابنا حتّى حكى عليه الإجماع ـ عدم النقيصة أيضا)(2)

قال آخر: ومنهم قاضي القضاة المحقّق الكركي، فقد قال السيّد الأعرجي عنه: (ثمّ إنّي رأيت للفاضل المحقّق قاضي القضاة علي بن عبد العالي (ت 940) رسالة في نفي النقيصة، صدّرها بكلام الصدوق، ثمّ اعترض بورود ما يدلّ على النقيصة، وأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل القاطع من الكتاب أو السنّة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه، ثمّ حكى الإجماع على هذه الضابطة واستفاضة النقل عنهم وروى قطعة من أخبار العرض، ثمّ قال: ولا يجوز أن يكون المراد بالكتاب المعروض عليه غير هذا المتواتر الذي بأيدينا وأيدي الناس، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق، فقد وجب عرض الأخبار على هذا الكتاب، وأخبار النقيصة إذا عرضت عليه كانت مخالفة له، لدلالتها على أنّه ليس هو، وأيّ تكذيب يكون أشدّ من هذا!)(3)

__________

(1) أوثق الوسائل بشرح الرسائل/91.

(2) نقلا عن: صيانة القرآن من التحريف، ص 66.

(3) نقلا عن: صيانة القرآن من التحريف، ص 67.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/252)

ثمّ ذكر أنّ التأويل الذي يتخلّص من معارضة الحكم ويتحقّق الردّ إليه هو أن ننزل أنّ المراد بقولهم: (إنّ القوم غيّروه وبدّلوه ونقصوا منه)(التغيير في تفسيره وتأويله بأن فسّروه بخلاف ما هو عليه في نفس الأمر .. وأنّ المراد من الكتاب الذي نزل به جبريل وهو عند أهل البيت أو عند القائم من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّ التفسير والتأويل الحقّ هو الّذي عندهم، ثمّ وجّه سؤالا: لماذا لم يطرح الأصحاب تلك الأخبار المخالفة للكتاب؟ وأجاب بأنّها ممّا صحّ طريقها عندهم ومن ثمّ أودعوها في كتبهم مع عدم العمل بظواهرها، وإمكان تأويلها)(1)

قال آخر: ومنهم السيد شرف الدين العاملي (ت 1381)، فقد قال ردّا على من حاول إلصاق تهمة القول بالتحريف إلى جماعة الشيعة: (وكلّ من نسب إليهم تحريف القرآن فإنّه مفتر عليهم ظالم لهم، لأنّ قداسة القرآن الحكيم من ضروريات دينهم الإسلامي ومذهبهم الإمامي، ومن شكّ فيها من المسلمين فهو مرتدّ بإجماع الإمامية، وظواهر القرآن ـ فضلا عن نصوصه ـ من أبلغ حجج اللّه تعالى، وأقوى أدلّة أهل الحقّ بحكم البداهة الأوّلية من مذهب الإمامية، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الأحاديث المخالفة للقرآن عرض الجدار، ولا يأبهون بها وإن كانت صحيحة، وتلك كتبهم في الحديث والفقه والأصول صريحة بما نقول، والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنّما هو ما بين الدفّتين وهو ما في أيدي النّاس، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة ولا لحرف بحرف، وكلّ حرف من حروفه متواتر في كلّ جيل تواترا قطعيّا إلى عهد الوحي والنبوّة)(2)

__________

(1) نقلا عن: صيانة القرآن من التحريف، ص 67.

(2) الفصول المهمّة 165.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/253)

و قال في أجوبته لمسائل جار اللّه: (نعوذ باللّه من هذا القول، ونبرأ إلى اللّه تعالى من هذا الجهل وكلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإنّ القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواترا قطعيّا عن أئمّة الهدى من أهل البيت، لا يرتاب في ذلك إلّا معتوه، وأئمّة أهل البيت كلّهم أجمعون رفعوه إلى جدّهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن اللّه تعالى، وهذا أيضا ممّا لا ريب فيه)(1)

قال آخر: ومنهم السيّد محسن الأمين العاملي (ت 1371)، فقد قال ـ ردّا على متهمي الشيعة بالقول بتحريف القرآن الكريم كابن حزم والرافعي وأمثالهم ـ: (لا يقول أحد من الإمامية، لا قديما ولا حديثا أنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير، فضلا عن كلّهم، بل كلّهم متّفقون على عدم الزيادة، ومن يعتدّ بقوله من محقّقيهم متّفقون على أنّه لم ينقص منه .. ومن نسب إليهم خلاف ذلك فهو كاذب مفتر مجترئ على اللّه ورسوله)(2)

قال آخر: ومنهم العلّامة الأميني، فقد قال ـ ردّا على متهمي الشيعة بالقول بتحريف القرآن الكريم ـ: (لكن القارئ إذا فحص ونقّب لا يجد في طليعة الإمامية إلّا نفاة هذه الفرية .. هؤلاء أعلام الإمامية وحملة علومهم الكالئين لنواميسهم وعقائدهم قديما وحديثا يوقفونك على مين الرجل فيما يقول، وهذه فرق الشيعة وفي مقدّمهم الإمامية مجمعة على أنّ ما بين الدفّتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، وهو المحكوم بإحكامه ليس إلّا، وإن دارت بين شدقي أحد من الشيعة كلمة التحريف فهو يريد التأويل بالباطل بتحريف الكلم عن مواضعه، لا الزيادة والنقيصة، ولا تبديل حرف بحرف، كما يقول التحريف بهذا المعنى هو وقومه ويرمون به الشيعة)(3)

__________

(1) أجوبة مسائل جار اللّه/28.

(2) أعيان الشيعة: 1/ 41.

(3) الغدير: 3/ 101.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/254)

قال آخر: ومنهم العلامة الطباطبائي (ت 1402)؛ فله بحث واف بإثبات صيانة القرآن عن التحريف في جميع أشكاله وصوره، ذكره في سبعة فصول، في استدلال قويّ وبرهان حكيم، لا يستغني الباحث عن مراجعته، ومن أقواله في ذلك: (إنّ للقرآن في آيه وسوره أوصافا خاصة ونعوتا قد تحدّى بها من أوّل يومه، ونجدها كما هي محفوظة حتّى اليوم، كالإعجاز، وعدم الاختلاف، والهداية، والنورية، والذكرية، والهيمنة، وما شاكل ذلك، فلو كان وقع فيه تحريف لزالت منه بعض تلك السمات .. ويدلّ على عدم التحريف روايات العرض على كتاب اللّه، والرجوع إليه عند مشتبكات الأمور، وحديث الثقلين، ونحو ذلك .. والوجوه التي تمسّك بها القائل بالتحريف كلّها مخدوشة غير وافية بإثبات مقصوده)

وقد تعرّض لمسألة الجمع الأوّل على عهد أبي بكر، تمّ جمعه وتوحيده على عهد عثمان، وقال: (ما ورد بشأن الجمع الأوّل والثاني يفيد القطع بأنّهم إنّما جمعوا ما كمل في حياته صلى الله عليه وآله وسلم من آيات وسور، جمعوها بين الدفّتين من غير أن يمسّوها بيد في المتن زيادة أو نقصانا، وهو الباقي إلى اليوم بسلام)(1)

قال آخر: ومنهم الاستاذ الإمام الخميني، فقد قال في ذلك: (إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه، قراءة وكتابة، يقف على بطلان تلك المزاعم، وما ورد فيه من أخبار ـ حسبما تمسّكوا ـ إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به، أو مجعول تلوح عليه أمارات الجعل، أو غريب يقضي بالعجب، أمّا الصحيح منها فيرمي إلى مسألة التأويل والتفسير، وأنّ التحريف إنّما حصل في ذلك لا في لفظه وعباراته، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن والمراحل التي قضاها طيلة قرون، ويتلخّص في أنّ

__________

(1) الميزان: 12/ 106 ـ 137.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/255)

الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفّتين، لا زيادة فيه ولا نقصان، وأنّ الاختلاف في القراءات أمر حادث، ناشئ عن اختلاف في الاجتهادات، من غير أن يمسّ جانب الوحي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين)(1)

قال آخر: ومنهم العلامة الخوئي، فقد كتب بحثا تفصيليا بإثبات صيانة القرآن من احتمال كلّ زيادة أو نقصان (2).

الحشوية والإخباريون

قال المدعي: لا بأس .. قد أوافقكم في كل ما ذكرتم .. لكن عند تأمله نجد أن هناك من الشيعة من يقول بالتحريف .. أليس هذا دليلا كافيا على صدق من اتهمهم به؟

قال أحد المتهمين: العدالة تقتضي أن تنسب الأقوال لأصحابها، لا لغيرهم .. وما ذكرته من اتهام طائفة كبير من المسلمين بسبب بعض أفرادها مناف للعدالة.

قال المدعي: أنت وأصحابك لا تزالون موضع تهمة .. فلذلك نرجو ألا تتجاوزوا أقداركم بتحديد معنى العدالة.

قال المتهم: لا بأس .. فإن طبقنا ما ذكرته على مدرستكم؛ فاتهمناها جميعا بالقول بتحريف القرآن الكريم نتيجة ما قاله بعض أتباعها .. هل تقبل ذلك؟

قال المدعي: يستحيل ذلك .. إلا إذا ذكرت لي كلام الحداثيين والتغريبيين الجاهلين بالقرآن الكريم والمعادين له.

قال المتهم: لا .. بل كلام الصحابة والتابعين .. والذين تعتبرونهم مصادر للدين.

قال المدعي: ذلك مستحيل .. إلا إذا كذب الرواة عنهم.

__________

(1) تهذيب الاصول، تقريرا بقلم العلّامة سبحاني: 2/ 165.

(2) البيان في تفسير القرآن /215 ـ 254.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/256)

قال المتهم: بل الروايات في ذلك مستفيضة عنهم، وفي المصادر الصحيحة التي تعتمدونها.

قال المدعي: فهات بينتك، وإلا أضفنا لكم جريمة جديدة غير الجرائم التي تتهمون بها.

قال المتهم: مع أننا لا نؤمن بهذه الروايات التي سنوردها لكم، بل نردها بشدة، وقد قام علماؤنا بذلك .. لكن الضرورة اقتضت منا ذكرها، لا لنبرئ أنفسنا، وإنما لنضع تهمة التحريف عندنا وعندكم في فئة محدودة توجد عندنا، وتوجد عندكم.

قال آخر: من تلك الأحاديث ما يروى عن عمر أنّه قال: (القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكلّ حرف زوجة من الحور العين)(1) .. فهذا الحديث يشير إلى أنه قد ذهب من القرآن أكثر من ثلثيه، فحروف القرآن ـ كما يروى عن ابن عباس وكما هو متوافق مع الواقع ـ ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة وواحد وسبعون حرفا (2).

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن عبد اللّه بن عمر، أنه قال: (لا يقولنّ أحدكم: قد أخذت القرآن كلّه، ما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر!)(3)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن ابن شهاب، قال: (بلغنا أنّه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وعوه، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب)(4)

__________

(1) الإتقان: 1/ 198، قال الذهبي: تفرّد محمد بن عبيد بهذا الخبر الباطل.

(2) الإتقان: 1/ 198.

(3) الإتقان: 3/ 72. عن كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام، 190.

(4) منتخب كنز العمال: 2/ 50.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/257)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن عائشة أنها عهدت إلى أبي يونس مولاها أن يكتب لها مصحفا ـ أي يستنسخ على أحد المصاحف المعروفة حينذاك ـ وقالت له: إذا بلغت الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فآذنّي، قال أبو يونس: فلمّا بلغتها آذنتها، فأملت عليّ (حافظوا على الصّلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر)، قالت: سمعتها من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم)(1)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب، فقد قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إذا بلغت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فآذنّي، فلمّا بلغتها آذنتها، فأملت عليّ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) قالت: أشهد أنّي سمعتها من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم)(2)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن حميدة بنت أبي يونس، قالت: قرأ عليّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة: (إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً، وعلى الّذين يصلون الصفوف الأوّل)، قالت حميدة: (قبل أن يغيّر عثمان المصاحف)(3)، أي كانت هذه الزيادة موجودة إلى ذاك الحين.

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن عمرة بنت عبد الرحمان عن عائشة، قالت: (كانت فيما أنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرّمن) ثمّ نسخن ب (خمس معلومات) فتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن)(4)

__________

(1) الدرّ المنثور: 1/ 302.

(2) الدرّ المنثور: 1/ 302.

(3) فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلّام، 193، والإتقان: 3/ 73.

(4) تنوير الحوالك: 2/ 118.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/258)

و قال الزيعلي ـ تعليقا على هذه الرواية ـ: (لا حجّة في هذا الحديث، لأنّ عائشة أحالتها على أنّه قرآن، وقالت: ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلمّا مات رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن البيت فأكلها .. وقد ثبت أنّه ليس من القرآن لعدم التواتر، ولا تحلّ القراءة به ولا إثباته في المصحف، ولأنّه لو كان قرآنا لكان متلوّا اليوم، إذ لا نسخ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن مسلمة بن مخلّد الأنصاري ـ وكان لم يتجاوز العاشرة عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال يوما: أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنّود سعد بن مالك، فقال مسلمة: (إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم، ألا أبشروا أنتم المفلحون، والّذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الّذين غضب اللّه عليهم، أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعلمون)(2)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن أبي الأسود، قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم، فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم .. وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي قد حفظت منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب)، وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: (يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة)(3)

__________

(1) بهامش مسلم: 4/ 167.

(2) الإتقان: 3/ 74.

(3) صحيح مسلم: 3/ 100.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/259)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن زرّ بن حبيش عن أبيّ بن كعب، قال: كم تقرأون (أو كأيّن تعدّون) سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية، قال: قط! لقد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة (أي ما يقرب من مائتين وثمانين آية، أربعة أضعاف الموجود!) وفيها آية الرجم .. قال زرّ: قلت وما آية الرجم؟ قال: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم)(1)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن عروة عن خالته عائشة، قالت: (كانت سورة الأحزاب تقرأ زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف، لم نقدر منها إلّا على ما هو الآن)(2)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن ابن سيرين، قال: كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوّذتين واللّهمّ إنّا نستعينك واللّهمّ إيّاك نعبد .. وتركهنّ ابن مسعود، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين)(3)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن مالك بن أنس أنّ سورة براءة كانت تعدل سورة البقرة، وقد أسقط من أوّلها، فاسقطت البسملة فيما اسقط، قال جلال الدين السيوطي: (قال مالك: إنّ أوّلها لمّا سقط سقط معه البسملة، فقد ثبت أنّها كانت تعدل البقرة لطولها)(4)

قال آخر: ومثل ذلك ما يروى عن حذيفة بن اليمان، أنّه قال: (ما تقرأون ربعها، يعني ربع براءة، وأنّكم تسمّونها سورة التوبة وهي سورة العذاب)(5) .. و في رواية: (التي

__________

(1) الإتقان: 3/ 72.

(2) الإتقان: 3/ 72.

(3) الإتقان: 1/ 184.

(4) الإتقان: 1/ 184.

(5) المستدرك على الصحيحين: 2/ 330 ـ 331.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/260)

تسمّون سورة التوبة هي سورة العذاب، واللّه ما تركت أحدا إلّا نالت منه، ولا تقرأون إلّا ربعها)(1)

قال المدعي: لا بأس .. يكفي ما ذكرتم .. وعلماؤنا قد وقفوا بشدة ضد هؤلاء الحشوية الذين يروون مثل هذه الأحاديث .. ولعلكم تعلمون أن الكثير من المحدثين كان همهم الجمع لا التحقيق .. لذلك لا عبرة برواياتهم.

قال المتهم: ومثل ذلك علماؤنا .. وكما يوجد لديكم حشوية، يجمعون ما لا يعون؛ فكذلك يوجد عندنا .. وكما رفض علماؤكم حشويتكم رفض علماؤنا كذلك .. ولذلك كان عليكم أن لا تتهمونا بما قاله حشويتنا ما دمنا لا نتهمكم بما قال حشويتكم.

قال آخر: لقد قال العلامة كاشف الغطاء في الرد على حشويتنا، والذين نطلق عليهم لقب [الأخباريين]: (وصدرت منهم أحكام غريبة وأقوال منكرة عجيبة، منها: قولهم بنقص القرآن، مستندين إلى روايات تقضي البديهة بتأويلها وطرحها، وفي بعضها: نقص ثلث القرآن أو ربعه ونقص أربعين اسما في سورة (تبّت) منها أسماء جماعة من المنافقين، وفي ذلك منافاة لبديهة العقل، لأنّه لو كان ذلك ممّا أبرزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرأه على المسلمين وكتبوه لافتضح المنافقون، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأمورا إلّا بالستر عليهم، ولقامت الحرب على ساق، وكان في ابتداء الإسلام من الفتن ما كان في الختام، ثمّ لو كان حقّا لتواتر نقله وعرفه جميع الخلق، لأنّهم كانوا يضبطون آياته وحروفه وكلماته تمام الضبط، فكيف يغفلون عن مثل ذلك، ولعرف بين الكفّار، وعدّوه من أعظم مصائب الإسلام والمسلمين، ولكان القارئ لسورة من السور الناقصة مبعّضا في الحقيقة، ولكان القرآن غير محفوظ، وقد أخبر اللّه بحفظه، ولعرف بين الشيعة، وعدّوه من أعظم الأدلّة على خروج الأوّلين من الدين، لأنّ

__________

(1) الدرّ المنثور: 3/ 208.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/261)

النقص ـ على تقدير ثبوته ـ إنّما هو منهم .. ويا للعجب من قوم يزعمون سلامة الأحاديث وبقائها محفوظة وهي دائرة على الألسن ومنقولة في الكتب، في مدّة ألف ومائتي سنة، وأنّها لو حدث فيها نقص لظهر واستبان وشاع!! لكنّهم يحكمون بنقص القرآن، وخفي ذلك في جميع الأزمان)(1)

قال آخر: ومثل ذلك قال الحجّة البلاغي (ت 1352)، فقد قال ـ بعد نقل كلمات الأعلام كالصدوق والمرتضى والطوسي وكاشف الغطاء والبهائي وأضرابهم ـ: (وقد جهد المحدّث المعاصر في كتابه (فصل الخطاب) في جمع الروايات التي استدلّ بها على النقيصة، وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل، مع أنّ المتتبّع المحقّق يجزم بأنّ هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد .. وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسّر احتمال صدقها، ومنها ما هو مختلف بما يؤول إلى التنافي والتعارض، مع أنّ القسم الوافر منها ترجع أسانيدها إلى بضعة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلّا منهم إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية، وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا أستحلّ أن أروي من تفسيره حديثا واحدا، وأنّه معروف بالوقف وأشدّ عداوة للرضا عليه السّلام، وإمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ .. ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا .. ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الخطير لوجب من دلالة الروايات المتعدّدة، أن ننزلها على أنّ مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يعلم يقينا شمول عمومها له لأنّه أظهر الأفراد وأحقّها بحكم العام، أو ما كان مرادا بخصوصه عند التنزيل، أو هو مورد النزول، أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم .. وعلى أحد هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد أنّه تنزيل وأنّه نزل به جبريل كما يحمل التحريف الوارد في الروايات على تحريف المعنى، كما يشهد بذلك مكاتبة سعد إلى

__________

(1) عن كتابه (الحقّ المبين)، ص 11. ونقله القاضي الطباطبائي في هامش الأنوار النعمانية: 2/ 359.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/262)

أبي جعفر عليه السّلام (و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده)، وكما يحمل ما ورد بشأن مصحف أمير المؤمنين وابن مسعود أنّه من التفسير والتأويل، لقوله: (و لقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل)(1)

قال آخر: ومثل ذلك قال العلامة محمد هادي معرفت، فقد أرخ لكيفية تسللهم لمذهبنا، فقال: (كان علماؤنا الأعلام منذ عهد الحضور إلى طول عصر الغيبة على طريقتين في الاتّجاه الأصولي وفي استنباط مباني شريعة الإسلام: أهل نظر وتحقيق، وهم: المجتهدون .. وأهل نقل وتحديث، وهم: المحدّثون)(2)

ثم بين وجوه الاختلاف بين الأصوليين والمحدثين، فقال: (يختلف المحدّثون عن المجتهدين بالاعتماد على النقل أكثر من العقل، ولا سيّما في مسائل الأصول، حيث لا حجّية لأخبار الآحاد هناك عند المجتهدين)(3)

ثم ذكر الفرق بين المحدثين المتقدمين والمتأخرين، وكيف تسلل الإخباريون الذين لا يختلفون عن الحشوية إليهم، فقال: (وقد كان لأهل الحديث أساليب معروفة بالإتقان والإحكام في الأخذ والتلقّي والتحديث، في أسانيد الروايات وفي متونها عرضا ومقابلة مع الاصول المعتمدة، وعلى هذا الأسلوب الروائي المتقن دوّنت الأصول الأربعة الجامعة لأحاديث أهل البيت، مأخوذة من مشايخ أجلّاء وعن كتب ذوات اعتبار .. وقد سادت طريقة الإتقان في النقل والتحديث حقبا من الزمان، وانتهت بدور خاتمة المحدّثين الشيخ الحرّ العاملي (1033 ـ 1104) صاحب الموسوعة الحديثية الكبرى (وسائل الشيعة) وفيها ما يسدّ حاجة الفقيه في استنباط مختلف أحكام الشريعة، (جزاه اللّه خيرا) وفرغ من تأليفه

__________

(1) من مقدمة تفسيره (آلاء الرحمان): 1/ 25 ـ 27.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 97.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 97.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/263)

عام 1082، و سار على منهاجه المحدّث الفقيه المولى محسن الفيض (1007 ـ 1091) في تأليفه كتاب (الوافي) الجامع لأحاديث الكتب الأربعة مع الشرح والبيان، وقد فرغ من تأليفه عام 1068)(1)

ثم ذكر كيف بدأ التساهل في رواية الأحاديث، فقال: (أمّا بعد هذا الدور، فيأتي دور الانحطاط والاسترسال في نقل الحديث وفي رواية الأخبار، وأصبح أهل الحديث مجرّد نقلة آثار وحفظة أخبار، من غير اكتراث لا بالأسانيد ولا بصحّة المتون، فقد زالت الثقة بأحاديث ينقلها هؤلاء (الأخباريون) المسترسلون، بعد انتهاء دور (المحدّثين) المتقنين .. إنّهم اهتمّوا بتضخّم الحجم أكثر من الدقّة في المحتوى، ومن ثمّ لم يأبهوا ممّن يأخذون وعلى أيّ مصدر يعتمدون، إنّما المهمّ حشد الحقائب وملء الدفاتر بنقول وحكايات هي أشبه بقصص القصّاصين وأساطير بني إسرائيل)(2)

ثم ذكر مدى التشابه بينهم وبين حشوية المدرسة السنية، فقال: (ومن ثمّ واكبوا إخوانهم الحشوية الذين سبقوهم في هذا المضمار، وساروا على منهجهم في الابتذال والاسترسال؛ فإن كانت محنة أهل السنّة قد جاءتهم من قبل أهل الحشو في الحديث، فكذلك جاءتنا البليّة من قبل هؤلاء المسترسلين في نقل الحديث)(3)

قال آخر: ثم ذكر كيف تسرب من هؤلاء الإخباريين القول بتحريف القرآن الكريم مثلما تسرب إلى المدرسة السنية من حشويتهم، فقال: (وقد عرفت أنّ علماءنا المحقّقين أطبقوا على رفض احتمال التحريف في كتاب اللّه .. وكذلك محدّثونا القدامى من لدن شيخهم ورئيسهم الصدوق، حتى عصر العلمين خاتمتي المحدّثين الحرّ العاملي والفيض

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 98.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 98.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 98.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/264)

الكاشاني، نعم، جاءت فكرة التحريف ـ قصدا إلى رفض حجّية الكتاب ـ من قبل هذه الفئة المتطرّفة التي نبعت على حاشية البلاد في جوّ مظلم بغياهب الجهل والعامّية، مضافا إليه بعض السذاجة وسرعة الاسترسال، وكان من طابع هذه الفئة السذاجة في التفكير، الناجمة عن حياتها البدائية، بعيدة عن معالم الحضارة العلمية التي كان عليها علماؤنا في مراكز العلم المعروفة، وهذا ممّا جعل من كتبهم لا تشبه شيئا من كتب أقطاب الشيعة الإمامية المليئة بالتحقيق والتدقيق في أصول الشريعة وفروعها)(1)

قال آخر: ثم ذكر نماذج عن أعلامهم، فقال: (هذا السيّد نعمة اللّه الجزائري ـ غفر اللّه له ـ (1050 ـ 1112) علم هذه الفئة الشاخص والمبدع لفكرة التحريف على أساس جمع الشوارد من الأخبار، نراه يعتمد الغرائب والشواذّ في كتبه ويشحنها بأقاصيص أسطوريّة، لا سابقة لها في كتب علمائنا الأعلام)(2)

ثم قارن بين منهجه ومنهج المتقدمين من المحدثين، فقال: (بينما الصدوق عليه الرحمة يقول في مقدّمة كتابه (من لا يحضره الفقيه): (ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع)، نرى المحدّث الجزائري يقول: (نحن نروي جميع أحاديث الكتب الأربعة عن المحمّدين الثلاثة، بواسطة رجل مجهول الحال، مجهول الحسب والنسب، مع بعد الطريق بقرون، يحكي من أوثق مشايخه (السيّد البحراني) أنّه نقل عن شيخه (الحرفوشي) إنّه لاقى رجلا في مسجد مهجور من مساجد دمشق، ادّعى أنّه (المعمّر أبو الدنيا) كان

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 99.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 100.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/265)

يقول: إنّه صحب عليا والأئمّة وسمع حديثهم واحدا واحدا، وسمع مشايخ الحديث وأرباب الكتب وسمع حديثهم، فاستجازه الحرفوشي في الإسناد إليه فأجازه! فكان شيخه يقول: إنّا نروي عن أصحاب الكتب منذ ذلك الوقت بهذا الإسناد القصير .. وهكذا ابتهج السيّد الجزائري بهذه المفاجئة السانحة فجعل يقول: وها نحن أيضا نروي الكتب الأربعة للمحمّدين الثلاثة بنفس هذا الإسناد)(1)(2)

قال آخر: ثم ذكر نماذج عن بعض كتب الإخباريين، والتي لا تختلف عن كتب إخوانهم من الحشوية، وكيف تسلل القول بالتحريف منها إليهم، فقال: (كتاب السيّد نعمة اللّه الجزائري الذي أسماه (الأنوار النعمانية) ـ من أشهر تآليفه، وعدّه القوم من جلائل كتبهم ـ مليء بأخبار وقصص خرافية غريبة، ممّا لا نظير لها في كتب أصحابنا الإماميّة، وهذا الكتاب هو المنبع الأصل للقول بالتحريف (3)، والذي اعتمده النوري صاحب (فصل الخطاب)، وكان قدوته في هذا الاختيار (4)(5)

قال آخر: ثم ذكر الإخباري النوري (ت 1320 هـ)، وتأثره بنعمة الله الجزائري في كتابه (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)، وكيف تعامل معه كل علماء الشيعة وعوامهم، بسبب رأيه الشاذ المنحرف، فقال: (قد أسلفنا تواجد الشيخ النوري نفسه في وحشة العزلة منذ أن سلك هذا الطريق الشائك، إذ وجد من أقطاب الطائفة متّفقة على خلاف رأيه، وكم حاول العثور على رفقة من مشاهير العلماء ولكن من غير جدوى، وقد أحسّ الرجل من أوّل يومه بشنعات ومسبّات سوف تنهال عليه من كلّ صوب ومكان،

__________

(1) الأنوار النعمانية: 2/ 7.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 100.

(3) الأنوار النعمانية: 2/ 357.

(4) فصل الخطاب،250.

(5) صيانة القرآن من التحريف، ص 101.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/266)

وبالفعل قد حصل ووقع في الورطة التي كان يخافها)(1)

ثم ذكر بعض الحوادث الدالة على ذلك، فقال: (يحدّثنا السيّد هبة الدين الشهرستاني ـ وهو شابّ من طلبة الحوزة العلميّة بسامراء على عهد الإمام الشيرازي الكبير ـ عن ضجّة ونعرات ثارت حول الكتاب ومؤلّفه وناشره يومذاك، يقول في رسالة بعثها تقريظا على رسالة البرهان التي كتبها الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة 1373 هـ، يقول فيها: (كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف، تلك العقيدة الصحيحة التي آنست بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامراء، مسقط رأسي، حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير، فكنت أراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النورى، بشأن تأليفه كتاب (فصل الخطاب) فلا ندخل مجلسا في الحوزة العلمية إلّا ونسمع الضجّة والعجّة ضدّ الكتاب ومؤلّفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد)(2) .. وهكذا هبّ أرباب القلم يسارعون في الردّ عليه ونقض كتابه بأقسى كلمات وأعنف تعابير لاذعة، لم يدعوا لبثّ آرائه ونشر عقائده مجالا ولا قيد شعرة)(3)

قال آخر (4): ثم ذكر نماذج عن بعض العلماء المعاصرين الذين ردوا عليه، ومنهم الفقيه المحقّق الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (ت 1313) في رسالة قيّمة أسماها (كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب) ألفها سنة 1302 هـ، وهي تقرب من أربعة آلاف بيت في 300 صفحة، وفيها من الاستدلالات المتينة والبراهين القاطعة، ما ألجأ الشيخ النوري إلى التراجع عن رأيه، وتأثّر كثيرا بهذا الكتاب، فقام بتأليف رسالة اخرى

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 102.

(2) البرهان للبروجردي/143 ـ 144.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 102.

(4) صيانة القرآن من التحريف، ص 103.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/267)

فارسية بصدد الإجابة وتوجيه ما قصده من التحريف، بأنّه ما أراد من الكتاب المحرّف هذا القرآن الموجود بين الدفّتين، فإنّه باق على حالته الأولى منذ أن توحّدت المصاحف على عهد عثمان، لم يتغيّر ولم يلحقه زيادة ولا نقصان منذ ذلك الزمان إلى الآن، بل المراد الكتاب الإلهي المنزل، فقد سقط منه عند الجمع الأوّل ما ذهب ببعضه، وذلك في غير الأحكام، وأمّا الزيادة فالإجماع قائم من جميع فرق المسلمين كافّة على أنّه لم يزد في القرآن ولو بمقدار أقصر من آية، ولا كلمة واحدة في جميع القرآن، وكان يقول ـ دفاعا عن نفسه، بعد أن وصلته رسالة الردّ ـ: (لا أرضى عن الذي يطالع فصل الخطاب أن يترك النظر في الرسالة الجوابية على كشف الارتياب، وكان يوصي كلّ من كانت عنده نسخة من فصل الخطاب أن يضمّ إليه تلك الرسالة، فإنّها بمنزلة المتمّم لذلك الكتاب والكاشف عن مقصود مؤلّفه)

قال آخر (1): ومثل ذلك شهد صاحب الذريعة، فقد قال: سمعت شيخي النوري يقول: إنّي حاولت في هذا الكتاب إثبات أنّ هذا الموجود بين الدفّتين كذلك باق على ما كان عليه في أوّل جمعه كذلك في عصر عثمان، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في سائر الكتب (2)، فكان حريّا بأن يسمّى (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب)؛ فتسميته بهذا الاسم الذى يحمله الناس على خلاف مرادي، خطأ في التسمية، لكنّي لم أرد ما يحملونه عليه، بل مرادي إسقاط بعض الوحي المنزل الإلهي، وإن شئت فسمّه (القول الفاصل في إسقاط بعض الوحي النازل)(3)

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 104.

(2) وقد رد عليه في دعواه هذه الشيخ محمد مهدي معرفت، فقال: (قد سمعت الشيخ النوري تراجعه عن رأيه في التحريف، زاعما أنّه حاول في كتابه (فصل الخطاب) إثبات عدم تحريف الكتاب المودع بأيدي المسلمين منذ الجمع الأوّل فإلى الآن. يا للّه والتساهل بشأن الكتاب العزيز، وليته اعترف بخطئه صريحا واستغفر ربّه وأناب، وترك هذا الالتواء المفضوح. إنّه حشّد كتابه بأباطيل القول بالتحريف وقاس القرآن بالعهدين فى التلاعب به ـ والعياذ باللّه ـ ثمّ يقول: إنّي أردت في هذا الكتاب إثبات عدم تحريف القرآن، وأنّه لم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في كتب العهدين. إن هذا إلّا تناقض صريح، والتواء في التعبير، وخداع مكشوف) صيانة القرآن من التحريف، ص 106.

(3) الذريعة: 10/ 220 ـ 221: وج 16/ 231 ـ 232؛ وج 18/ 9.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/268)

قال آخر (1): ومن العلماء الذين كتبوا في الردّ عليه معاصره العلّامة السيد محمد حسين الشهرستاني (ت 1315) في رسالة أسماها (حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف)، وقد أحسن الكلام في الدلالة على صيانة القرآن عن التحريف وردّ شبهات المخالف ببيان واف شاف (2).

قال آخر (3): وهكذا كتب في الردّ عليه كلّ من كتب في علوم القرآن أو في التفسير، كالحجّة البلاغي (ت 1352) في مقدّمة تفسيره (آلاء الرحمن)، فقد قال تشنيعا عليه: (إنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ وإنّه ليعدّ هذا المنقول من (دبستان المذاهب) ضالّته المنشودة، مع اعترافه بأنّه لم يجد لهذا المنقول أثرا في كتب الشيعة)(4) .. ثمّ ذكر طرفا من روايات تذرّع بها أهل القول بالتحريف، وحكم عليها بالضعف والشذوذ، وأنّ لها محامل غير ظاهرها المريب.

قال آخر: وقد رد عليه الكثيرون، وبرسائل وكتب كثيرة، منها (كشف الارتياب في عدم تحريف كتاب رب الأرباب) للطهراني (ت 1313 هـ) .. و (حفظ الكتاب الشريف على شبهة القول بالتحريف) للسيد هبة الدين الشهرستاني (ت 1315 هـ) .. و (الحجة على فصل الخطاب في إبطال القول بتحريف الكتاب) لعبد الرحمن الهيدجي (1372 هـ) .. و (البرهان على عدم تحريف القرآن) للميرزا البروجردي (1374 هـ ـ 1954 م) .. و (آلاء الرحمن في الرد على تحريف القرآن) للميرزا عبد الرحيم المدرس الخياباني (1318 هـ) .. و (بحر الفوائد في شرح الفرائد)، للميرزا الأشتياني (ت 1319 هـ) .. وغيرها كثير.

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 104.

(2) البرهان للبروجردي/138 ـ 142.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 104.

(4) آلاء الرحمان: 1/ 25.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/269)

تدليس وتزوير

قال المدعي: لا بأس .. قد أوافقكم في كل ما ذكرتم .. لكنا مع ذلك لا نستطيع أن نغض الطرف على تلك المصادر والأسانيد الكثيرة التي ذكرها النوري في كتابه الذي صار أشهر من نار على علم .. فكيف تجيبون على ذلك؟

قال أحد المتهمين: أنتم تعلمون سيدي بأن الدس والتدليس والتزوير قد أصاب جميع التراث الإسلامي، وفي جميع المدارس الإسلامية .. ودورنا هو التحذير منه، ورده، لا اتهام أي طائفة من المسلمين بسببه .. وإن شئت أن أذكر لك ما دس من الكتب في مدرستكم، لأبين لكم التشابه بيننا وبينكم فعلت.

قال المدعي: لا .. يكفي أن تذكر لي ما دُس في مدرستكم .. فأنا أعلم بما دس في مدرستي.

قال المتهم: لقد ذكر الحجّة البلاغي ما اعتمده الإخباريون في القول بتحريف القرآن الكريم، فقال: (قد جهد المحدّث النوري في جمع روايات التحريف ـ حسب زعمه ـ في حجم كبير، بتكثير أعداد المسانيد بضمّ المراسيل المأخوذة في الأصل من تلك المسانيد، كمراسيل العياشي وفرات وغيرهما، مع أنّ القسط الوافر من أسانيدها ترجع إلى بضعة أنفار متّهمين في تراجم الرجال، فمنهم الكذّاب الخبيث أو المجفوّ المنبوذ لا يستحلّ الرواية عنه أو شديد العداء لسلالة آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمثال ذلك من تعابير تنبئ عن سوء السريرة أو سوء القصد .. ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا)(1)

قال آخر (2): ومن الأمثلة على تلك المصادر التي نقل عنها تلك الروايات، رسالة

__________

(1) آلاء الرحمان، ص 26.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 192.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/270)

مجهولة الانتساب، اعتمدها أصحاب القول بالتحريف، نسبت إلى كلّ من سعد بن عبد اللّه الأشعري (ت 301) ومحمد بن إبراهيم النعماني (ت 360) والسيّد المرتضى (ت 436) لكن مع اختلاف في العنوان؛ فقد نسبت إلى الأشعري باسم [رسالة الناسخ والمنسوخ]، وإلى النعماني باسم [ما ورد في صنوف آيات القرآن]، وإلى المرتضى باسم: [رسالة المحكم والمتشابه] .. فرسالة هذا شأنها ـ لا يعرف واضعها ولا ناسخها، ولا صحّ سندها، ولا حظيت بتوثيق أحد من رجالات العلم والحديث، ولا نصّ على اعتبارها وإسنادها أحد من أئمّة النقد والتمحيص ـ لا تصلح مستندا لاختيار ولا مصدرا يرجع إليه، نعم تصلح مرجعا لمثل النوري الغريق الذي يتشبّث بكلّ حشيش، وقد شحن حقيبته الجوفاء (رسالة فصل الخطاب) بمثل هذه الحشائش الهزيلة التي سرعان ما تجتثّ من فوق الأرض ما لها من قرار، و هكذا سائر الكتب التي استند إليها القوم في مسألة التحريف، لم يكن شأنها بأفضل من شأن هذه الرسالة المجهولة.

قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها كتاب السقيفة المنسوب لسليم بن قيس الهلالي (ت 90)، فقد تم استغلال لكونه من خواصّ أصحاب الإمام علي .. وقد شكّك فيها جلّ أهل التحقيق، فقد قال الشيخ المفيد: (هذا الكتاب غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتديّن أن يتجنّب العمل بكلّ ما فيه ولا يعوّل على جملته والتقليد لروايته، وذلك أنّه لمّا طلبه الحجّاج ليهدر دمه هرب وآوى إلى أبان بن أبي عياش (فيروز) فلمّا حضرته الوفاة سلّم الكتاب إلى أبان مكافأة لجزيل فضله .. فلم يرو عن سليم كتابه هذا سوى أبان وعن طريقه، و أبان هذا كان تابعيا صحب الإمامين الباقر والصادق، وقد ضعّفه الشيخ في رجاله)، وقال ابن الغضائري: (ضعيف لا يلتفت إليه،

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 194.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/271)

وقد اتّهم الأصحاب أبانا بأنّه دسّ في كتاب سليم، ومن ثمّ هذا التخليط، حتى أنّهم نسبوا الكتاب إليه رأسا .. وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس الهلالي إليه)

قال آخر (1): وللشيخ إلى كتاب سليم طريقان، أحدهما: عن طريق حمّاد بن عيسى وعثمان بن عيسى عن أبان عن سليم، والآخر: عن حماد عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبان عن سليم، على ما ذكره الطهراني في الذريعة، وقد قال العلامة الخوئي في بيان ضعف هذا الإسناد: (وكيفما كان فطريق الشيخ إلى كتاب سليم بكلا سنديه ضعيف .. والصحيح أنّه لا طريق لنا إلى كتاب سليم بن قيس الهلالي المروي بطريق حماد بن عيسى، وذلك فإنّ في الطريق (محمد بن علي الصيرفي أبا سمينة) وهو ضعيف كذّاب)(2)

قال آخر (3): قد اشتهر هذا الكتاب باختلاف النسخ، ولعلّ طول الزمان وتداول أيدي الكتّاب جعله عرضة للدسّ فيه مع مختلف الآراء والأنظار، شأن كلّ كتاب لم يوفّق المصنّف لنشره بنفسه بل على أيدي الآخرين بعد وفاته، وقد قال المحقّق الطهراني عنه: (رأيت منه نسخا متفاوتة من ثلاث جهات: أولاها: التفاوت في السند في مفتتح النسخ، ثانيتها: التفاوت في كيفيّة الترتيب ونظم أحاديثه، ثالثتها: التفاوت في كمية الأحاديث، وجهة رابعة ذكرها بعض المحقّقين في مقدّمة الكتاب، قال: وهناك أحاديث كثيرة أوردها العلّامة المجلسي في أجزاء البحار المتعدّدة وكذا غيره من الأعلام في كتبهم (كالكليني، والصدوق، والحلّي في مختصر بصائر الدرجات، وابن عبد الوهّاب في عيون المعجزات، والصفّار في البصائر وغيرهم) مرويّة عن سليم، لا توجد فيما بأيدينا من نسخ الكتاب، وكثيرة منها مرفوعة إليه من غير طريق أبان، الأمر الذي يؤكّد مسألة تصرّف أبان في كتاب

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 194.

(2) تصحيح الاعتقاد، ص 149 ـ 150.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 195.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/272)

سليم، وأخيرا، فإنّ الكتاب وضع على أسلوب التقطيع، فيتكرّر في أثنائه: (وعن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت .. )، وعليه فاحتمال كون الكتاب من صنع أبان وأنّه هو الذي وضعه على هذا الأسلوب فزاد فيه ونقص ورتّب حسب تصرّفه الخاص، احتمال قويّ، فاستناد الكتاب في وضعه الحاضر إلى أبان أولى من استناده إلى سليم، وإن كان هو الأصل، فما يوجد فيه من مناكير أو خلاف معروف لم يثبت كونه من سليم، فقد صحّ ما قاله قدوة أهل التحقيق الشيخ المفيد بشأن الكتاب: هذا الكتاب غير موثوق به .. ولا يجوز العمل على أكثره .. فيه تخليط وتدليس .. فينغبي للمتديّن أن يجتنب العمل بكلّ ما فيه .. و لا يعوّل على جملته والتقليد لروايته)(1)

قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها كتاب القراءات لأحمد بن محمد السّياري (ت 268)، وقد قال محدثونا عنه: ضعيف الحديث، فاسد المذهب، مجفوّ الرواية، كثير المراسيل .. وقال ابن الغضائري: ضعيف متهالك، غال محرّف، وحكى محمد بن علي بن محبوب في كتاب النوادر المصنّفة: إنّه قال بالتناسخ (3)، وكتابه هذا يعرف بكتاب (التنزيل والتحريف) على ما عبّر به الشيخ حسن بن سليمان الحلّي في مختصر البصائر، وهذا العنوان أقرب إلى محتوى الكتاب من عنوان القراءات، وكانت عند المحدّث النوري منه نسخة، ونقل عنها في مستدرك الوسائل (4).

قال آخر (5): ومن الأمثلة عنها تفسير أبي الجارود زياد بن المنذر السرحوب (ت 150)، قال الكشي: وكان مكفوفا أعمى القلب، وقد ورد لعنه عن لسان الإمام الصادق،

__________

(1) الذريعة: 2/ 152 ـ 159؛ ومقدمة كتاب سليم/19 ـ 39.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 196.

(3) معجم رجال الحديث: 2/ 282 ـ 284.

(4) الذريعة: 17/ 52.

(5) صيانة القرآن من التحريف، ص 197.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/273)

قال: لعنه اللّه فإنّه أعمى القلب أعمى البصر، وقال فيه محمّد بن سنان: أبو الجارود، لم يمت حتى شرب المسكر وتولّى الكافرين (1) .. أما تفسيره هذا فالذي يرويه عنه هو أبو سهل كثير بن عياش القطان، وإليه ينتهي طريق الشيخ والنجاشي إلى تفسيره، قال الشيخ: وكان ضعيفا.

قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها تفسير علي بن إبراهيم القمي (ت 329)، والذي سبق لنا الحديث عنه، وذكرنا أنه منسوب إليه من غير أن يكون من صنعه، وإنّما هو تلفيق من إملاءاته على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد العلوي، وقسط وافر من تفسير أبي الجارود، ضمّه إليها أبو الفضل وأكمله بروايات من عنده، كما وضع له مقدّمة وأورد فيها مختصرا من روايات منسوبة إلى الإمام علي في صنوف آي القرآن، وقد فصّلها وشرحها صاحب التفسير المنسوب إلى النعماني .. فقد أخذ أبو الفضل العلوي عن شيخه القمي ما رواه بإسناده إلى الإمام الصادق من تفسير القرآن، وضمّ إليه من تفسير أبي الجارود ما رواه عن الإمام الباقر وأكمله بما رواه هو عن سائر مشايخه تتميما للفائدة، فجاء هذا التفسير مزيجا من روايات القمي وروايات أبي الجارود وروايات غيرهما ممّا رواه أبو الفضل نفسه.

قال آخر (3): وهذا التفسير بهذا الشكل، هو صنيع أبي الفضل العلوي، وإنّما نسبه إلى شيخه القمي لأنّه الأصل والأكثر حظّا من روايات هذا التفسير، وقد قال المحقّق الطهراني: وهذا التصرّف وقع منه من أوائل سورة آل عمران حتى نهاية القرآن (4)، ويبتدئ التفسير بقوله: (حدّثني أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر

__________

(1) فهرست ابن النديم/267.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 197.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 197.

(4) الذريعة: 4/ 302 ـ 303.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/274)

قال حدّثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم .. )، فمن ذا يكون القائل في قوله: (حدّثني .. )؟ .. ومن هو أبو الفضل العباس العلوي، الذي يحدّث عن شيخه القمي؟ .. فهنا مجهولان، الأوّل: الذي يحدّث عن أبي الفضل العلوي، لا يعرف شخصه، لا اسمه ولا وصفه .. والثاني: نفس أبي الفضل، وهذا غير معروف عند أصحاب الحديث، ولا ذكره أحد من أصحاب التراجم، لا بمدح ولا بقدح، نعم إنّما يعرف بأنّه من أعقاب حمزة بن الإمام الكاظم، لا شيء سواه، فالذي يعرف عنه أنّه من العلويين، وربّما كان من تلامذة عليّ بن إبراهيم القمي هذا لا غير، فكما أنّ الأوّل مجهول شخصا ونسبا، فهذا يعدّ من المهملين في علم الرجال، وعليه فالإسناد إلى هذا التفسير مقطوع أو مجهول اصطلاحا، ومثل هذا تأليف ساقط عن درجة الاعتبار عند أرباب الحديث.

قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها كتاب الاستغاثة لعليّ بن أحمد الكوفي (ت 352)، فقد قال النجاشي عنه: (كان يقول إنّه من آل أبي طالب، وغلا في آخر عمره وفسد مذهبه، وصنّف كتبا كثيرة أكثرها على الفساد، منها هذا الكتاب)، وقال: (كان إماميا مستقيما، وصنّف كتبا سديدة منها كتاب الأوصياء وكتاب الفقه على ترتيب كتاب المزني، ثم خلط وأظهر مذهب الخمسة (2)، وصنّف كتبا في الغلوّ والتخليط وله مقالة تنسب إليه)، وقال ابن الغضائري: (كذّاب غال صاحب بدعة ومقالة، رأيت له كتبا كثيرة، لا يلتفت إليه)،

قال آخر (3): ومن الأمثلة عنها كتاب الاحتجاج للطبرسي، وهو كتاب مجهول، وقد ذكر السيّد محمّد بحر العلوم في مقدّمة الكتاب ستّة من المعاريف يحتمل انتساب الكتاب إليهم، أولهم أبو منصور، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (ت 620) والمعروف انتساب

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 198.

(2) معنى التخميس عند الغلاة أنّ سلمان الفارسي والمقداد وعمّارا وأبا ذر وعمرو بن أميّة الضمري هم الموكّلون بمصالح العالم، صيانة القرآن من التحريف، ص 198.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 199.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/275)

الكتاب إليه، نسبه إليه السيّد ابن طاووس في كتاب (كشف المحجّة) .. ومنهم أبو عليّ، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (ت 548) صاحب تفسير (مجمع البيان)، نسبه إليه صاحب كتاب (الغوالي) والمحدّث الاسترابادي، وابن أبي جمهور الاحسائي في كتاب (المجلّى) .. ومنهم أبو نصر، الحسن بن الفضل بن الحسن صاحب كتاب (مكارم الأخلاق) نجل الطبرسي أمين الإسلام صاحب التفسير .. ومنهم أبو الفضل، عليّ بن الحسن بن الفضل، حفيد صاحب التفسير، له كتاب (نثر اللئالي) وكتاب (مشكاة الأنوار) كتبه تتميما لكتاب والده (مكارم الأخلاق) .. ومنهم أبو عليّ، محمد بن الفضل الطبرسي، من تلامذة الشيخ الطوسي .. ومنهم أبو علي، الحسن بن عليّ بن محمّد الطبرسي، المعاصر للخواجا نصير الدين الطوسي.

قال آخر (1): والكتاب لا يعدو كونه مراسيل لا إسناد لها، وأكثرها تلفيقات من روايات نقلية واحتجاجات عقلية كانت العبرة بذاتها لا بالأسانيد، ومن ثمّ فإنّ العلماء يرفضون الأخذ بها كروايات متعبّد بها، وإنّما هو كلام عقلاني وإلّا فلا اعتبار بكونه منقولا، الأمر الذي يحطّ من شأن الكتاب باعتبار كونه سندا لحوادث تاريخية سالفة.

قال آخر (2): ولعلّه لأجل ذلك أخفى المؤلّف اسمه في صدر الكتاب، وقد علّل تأليفه له بترغيب أبناء الطائفة في سلوك طريق الحجاج والمجادلة بالتي هي أحسن، فأتى فيه بأنواع الجدل في مختلف شؤون الدين، ناسبا لها إلى عظماء الأمّة كلّا أو بعضا ترويجا لهذه الطريقة الحسنة، وقد قال: (ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده، إمّا لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب)، ولذلك فهو

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 200.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 200.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/276)

أشبه بكتاب كلامي من كونه مصدرا حديثيا أو تاريخيا، والعمدة هي الاستدلال بطريقة العقل لا مجرّد النقل.

قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها تفاسير جليلة صنّفها علماء أجلّاء، غير أنّ النسخ الأصل ضاعت، وبقيت منها مختصرات محذوفة الإسناد، وربّما تم اختزال أو تحوير في الأحاديث وفي ترتيبها، بما زالت الثقة بأصالة أكثرها .. ومنها تفسير أبي النضر محمّد بن مسعود، ابن عياش السلمي السمرقندي (ت 320) المعروف بتفسير العياشي، فقد حذف منه بعض الناسخين أسانيد الروايات لغرض الاختصار، وقد قال العلّامة المجلسي عنه: (ذكر الحاذف لذلك عذرا هو أشنع من جريمته)، وقال: (نظرت في التفسير بإسناده ورغبت إلى هذا وطلبت من عنده سماع من المصنّف أو غيره فلم أجد في ديارنا من كان عنده سماع أو إجازة من المصنّف، ولذلك حذفت منه الإسناد وكتبت الباقي على وجهه ليكون أسهل على الكاتب والناظر فيه، فإن وجدت بعد ذلك من عنده سماع أو إجازة من المصنّف اتّبعت الأسانيد وكتبتها على ما ذكره المصنّف، ومع ذلك فإنّه لم يبق من هذا التفسير الموتور سوى نصفه إلى آخر سورة الكهف)(2)

قال آخر (3): ومن الأمثلة عنها تفسير فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي (توفي حدود 300) المقصور على الروايات المأثورة عن الأئمّة، وقد أكثر الرواية عن الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي نزيل قم والمتوفّى بها، الذي كان من أصحاب الأئمّة: الرضا والجواد والهادي، وكذلك يروي كثيرا عن جعفر بن محمّد الفزاري وعبيد بن كثير العامري وعن سائر مشايخه البالغين إلى نيف ومائة شيخ، كلّهم من رواة أحاديثنا، غير أنّه ليس

__________

(1) صيانة القرآن من التحريف، ص 202.

(2) الذريعة: 4/ 295.

(3) صيانة القرآن من التحريف، ص 202.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/277)

لأكثرهم ذكر ولا ترجمة في أصولنا الرجالية، كما أنّ فرات أيضا لم يذكر بمدح ولا قدح، قال المحقّق الطهراني: (ولكن من الأسف أنّه عمد بعض إلى إسقاط أكثر تلك الأسانيد واكتفى مثلا بقوله: فرات عن حسين بن سعيد معنعنا عن فلان، وهكذا في غالب الأسانيد، فأشار بقوله: (معنعنا) إلى أنّ الرواية كانت مسندة معنعنة وإنّما تركها للاختصار)(1)

قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها تفسير محمّد بن العباس الماهيار المعروف بابن الحجام (توفي حدود 330)، وهو ثقة، قال النجاشي عنه: قال جماعة من أصحابنا: (إنّه كتاب لم يصنّف في معناه مثله، وقيل أنّه ألف ورقة)(3)، وطريق الشيخ إليه صحيح، ولكن هذا التفسير لم يوجد ولم يره أحد من أرباب التحقيق المتأخّرين، وظاهر عبارة النجاشي أنّه لم يشاهده، وإنّما نقل عن غيره في مقدار حجمه .. وقد قال الطهراني عنه: وينقل عنه السيّد شرف الدين في كتابه (تأويل الآيات الظاهرة) وهو تلميذ المحقّق الكركي المتوفى سنة 940 فيظهر بقاء الكتاب إلى هذا الزمان، واللّه العالم بما بعده.

4 ـ الموقف المعتدل

بعد أن انتهى المتهمون من الدفاع عن أنفسهم، التفت المدعي للقاضي، وقال: ليس لدي ما أضيفه .. وأصدقك القول أني ـ مع كوني كنت أكثر الناس حرصا على إقامة أشد العقوبات على هؤلاء الفتية ـ إلا أني بعد سماعي لحججهم أتنازل عن ذلك، وأستغفر الله من موقفي المتشدد الذي لم يكن وليد البحث والعلم، وإنما كان وليد التعصب والطائفية المقيتة.

__________

(1) الذريعة/298.

(2) صيانة القرآن من التحريف، ص 203.

(3) معجم رجال الحديث: 16/ 198.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/278)

قال القاضي: شكرا جزيلا سيادة المدعي على ما ذكرته .. وأنا أشاطرك القول فيه؛ فقد خرجت من بيتي هذا اليوم، وأنا أحمل معي حكم الإعدام لهؤلاء الفتية، لأني كنت لا أعرفهم إلا من خلال تلك الكتب والمنشورات التحريضية التي تسيء إليهم .. والحمد لله لقد أتاح الله لنا أن نستمع إليهم، ونعرف حقيقة الأمر من أفواههم.

قال أحد المتهمين: نشكركم سيادة القاضي على هذا الموقف الطيب، ويعلم الله أننا ـ مع الأذى الذي كنا نتحمله في السجن ـ لم نكن نقوم سوى بما أمرنا به أئمتنا من الدعوة إلى توحد صف الأمة، وعودتها إلى رشدها.

قال المدعي: صدقت في ذلك .. لقد أخبرني السجناء عنكم، وعن دينكم وورعكم وأدعيتكم الجميلة التي كنتم تترنمون بها كل حين .. لكني كنت أحذرهم من الاستماع لكم، لما كنت أحمله عنكم من الأحكام الجائرة الخاطئة.

قال القاضي: ونحن نعتذر لكم بشدة، ونعدكم أن نعوض كل ما أصابكم من أذى بسببنا.

قال أحد المتهمين: لا نحتاج أي تعويض، يكفينا فقط أن نهتم جميعا بإعادة القرآن الكريم إلى وضعه الحقيقي الطبيعي .. فنحتكم إليه في كل شيء، وحينها ستندثر الطوائف، ولن يبقى إلا الإسلام الواحد.

قال القاضي: أجل .. أنا أعلم أنه لا يمكن تعويضكم .. لكني أعدكم بأن أسعى لدى كل المسؤولين لتشكيل لجنة تهتم بتنقيح التراث التفسيري، لتطهر القرآن الكريم من كل ما يسيء إليه .. فنحن نعلم أن في تراثنا من الخرافات والأباطيل ما لا يقل عما في تراثكم .. وستكونون أنتم أول أعضاء هذه اللجنة؛ فقد أثبتم فهمكم للقرآن الكريم ووعيكم لمقاصده.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/279)

التفت القاضي إلى الحاضرين، وقال: من كان لديه اعتراض منكم على ما ورد في الجلسة؛ فيمكنه الحديث.

قام أحد الحاضرين، وقال: شكرا جزيلا لكم على هذه الجلسة التي لم نكن نحلم بأن نجلس فيها .. وشكرا لمعلم القصد والاعتدال الذي استطاع بنوره وإيمانه أن يزيح عن هؤلاء الفتية التهم التي اتهموا بها زورا وبهتانا .. وأنا ـ باعتباري ـ من الذين كانوا يحرضون عليهم، أعتذر بشدة لهم، وأطلب منهم أن يبرئوا ذمتي، وأن يقبلوني أخا لهم.

قال أحد المتهمين: أنت أخ لنا، ولو لم تطلب ذلك .. فالله تعالى أخبر عن أخوة المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] .. ولذلك لا حاجة لك للاعتذار؛ فنحن نعلم ما قام به شياطين الإنس والجن للتفريق بيننا.

قال أحد الحضور: لقد ذكرتم أثناء ردكم للتهم الموجهة إليكم تفاسير جميلة للقرآن الكريم، ونحن نود أن تعرفونا بها، وتدلونا عليها؛ فنحن نرجع في تفسيرنا للقرآن الكريم لما كتبه سلفنا، وهم لا يتناولون القضايا بمثل ما ذكرتموه من الدقة والجمال والاستيعاب.

قال القاضي: أجل .. سنعمل على ذلك .. ونخرج تفاسير موحدة تعبر عن القرآن الكريم بعيدا عن كل تلك الرؤى الطائفية التي مزقت الأمة.

بعد أن قال القاضي هذا .. أذن المؤذن .. فرفع القاضي الجلسة .. ثم قام أولئك الفتية مع الحاضرين يصافح بعضهم بعضا بكل حرارة .. وكان من بينهم أولئك الذين سرت خلفهم للحضور لقاعة المحكمة.

القرآن.. وتحريف الغالين (2/280)

سادسا ـ القرآن .. وتعطيل التنزيل

في صباح اليوم التالي، سمعت صوتا عاليا يردد: هل تريدون أن تسمعوا أكبر مراجعة في التاريخ .. أحفاد قتادة بن دعامة السدوسى، صاحب أقدم كتاب في [الناسخ والمنسوخ] ينتقدون جدهم، وفي كل الروايات والتفاصيل التي أوردها؟ .. من أراد منكم الاستماع أو المناقشة؛ فعليه بالذهاب إلى ساحة التفعيل والتعطيل الموجودة في شارع التنزيل والتأويل.

وما هي إلا لحظات حتى اجتمع الكثير من الناس، وراحوا يسيرون إلى الشارع والساحة التي ذكرها .. وقد كان من الكلمات التي سمعتها، وأنا في طريقي سائرا معهم: عجبا لأحفاد قتادة .. لقد صدعوا رؤوسنا فخرا بجدهم .. بل كتبوا الكتب في الثناء عليه، وفي ريادته لعلم الناسخ والمنسوخ .. ثم ها هم أخيرا يتراجعون عن كل ذلك .. ما الذي حصل لهم؟

قال آخر: لا أظن إلا أن السبب في ذلك هو المعلم الجديد .. لقد رأيته البارحة معهم في تلك الساحة، وأظن أنه أقنعهم بالعدول عن فخرهم بآبائهم وأجدادهم، وتبنيهم لأقوالهم.

قال آخر: لست أدري ما أقول لكم .. لكني كنت أشعر أنه سيأتي اليوم الذي سيقرر فيه حفدة قتادة هذا القرار الخطير .. لقد درست عند بعضهم، وكنت أشعر بحرجهم كلما ذكر لنا عن نسخ آية من القرآن الكريم .. كانوا يذكرون ذلك .. ثم يرددون بعدها: والله أعلم .. مرات كثيرة .. ثم يستغفرون بعدها، وكأنهم قاموا بذنب أو جريمة.

ما إن وصلنا إلى ساحة التفعيل والتعطيل، حتى وجدنا منصة جلس عليها بعض

القرآن.. وتحريف الغالين (2/281)

الشيوخ والكهول، ممن كان يطلق عليهم أحفاد قتادة، وكان بجانبهم معلم القصد والاعتدال.

قال المعلم: هؤلاء الشيوخ الأفاضل الذين ترونهم أمامكم مثال على الإيمان والتقوى والصلاح .. فهم على الرغم من شهرتهم بما يُطلق عليه علم الناسخ والمنسوخ، بل مرجعيتهم في ذلك .. إلا أنهم، وبعد اكتشافهم للحق، راحوا يميلون إليه، ويدورون معه حيث دار .. وقد طلبوا مني أن يجتمعوا بكم لتسألوهم عن كل الآيات التي ذكروا لكم أنها منسوخة، ليذكروا لكم ما استجد لهم من رأي حولها.

قال أحد الأحفاد: ونحن نعتذر لكم بسبب استعجالنا في تلك التقريرات التي كنا نبثها لكم .. لقد كان ديننا الذي ورثناه طاغيا علينا، وخاصة بسبب ما أتاحه لنا من جاه ومناصب .. ولذلك نرجو منكم أن تذكروا لنا ما ذكرناه لكم لنصححه؛ فعلامة التوبة الصحيحة البيان، كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]

قال المعلم: بما أنكم رضيتم بي حكما؛ فإني أريد ـ أولا ـ من كل من يؤمن بالنسخ، وخاصة من التلاميذ الذين درسوا على حفدة قتادة، أن يطرحوا ما يعرفونه، أو درسوه عليهم، حتى يتسنى لهم بعد ذلك بيان ما ثبتوا عليه، أو رجعوا فيه.

قام أحد الحضور، وقال: نشكر أساتذتنا الأفاضل من آل قتادة على هذه الفرصة التي وفروها لنا، لنناقشهم فيما كنا نود أن نناقشهم فيه أثناء تدريسهم لنا، لكن تشددهم في ذلك الحين، لم يسمح لنا بطرح ما لدينا من إشكالات تتعلق بالنسخ وعلاقته بالتعطيل.

قال آخر: بما أنكم ذكرتم لنا أنكم ستجيبونا عن كل إشكالاتنا من خلال مراجعاتكم لمواقفكم؛ فسنذكر لكم ما ذكرتموه لنا من أنواع النسخ، وأمثلتها، وأدلتها ..

القرآن.. وتحريف الغالين (2/282)

وقد ذكرتم لنا أنها يمكن أن تجتمع في قسمين: نسخ التلاوة .. ونسخ الأحكام.

1 ـ نسخ التلاوة

قال آخر: فلنبدأ بـ[نسخ التلاوة]، والذي كنتم تعتبرونه نوعا صحيحا من أنواع النسخ،

شواهد وإشكالات

قال آخر: وقد ضربتم لنا عنه المثل بما روي عن عمر أنه خطب الناس على المنبر، فقال: (إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم فى كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم فى كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف)(1)

قال آخر: وقد ذكرتم لنا في شرح هذا الحديث ما قاله أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي: (هذا نص من عمر على أن هذا كان قرآنا يتلى، وفي آخره ما يدل على أنه نسخ كونها من القرآن، وبقي حكمها معمولا به، وهو الرجم، وقال ذلك عمر بمحضر الصحابة، وفي معدن الوحي، وشاعت هذه الخطبة في المسلمين، وتناقلها الركبان، ولم يسمع في الصحابة ولا فيمن بعدهم من أنكر شيئا مما قاله عمر، ولا راجعه في حياته ولا بعد موته، فكان ذلك إجماعا منهم على صحة هذا النوع من النسخ، وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ولا يلتفت لخلاف من تأخر زمانه)(2)

__________

(1) رواه البخاري (6830) ومسلم (1691)

(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 85)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/283)

قال آخر: وذكرتم لنا كذلك ما ورد في الحديث عن عمر أنه قال في تكملة الحديث السابق: (ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: (أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم)(1) .. وقد كنتم تذكرون لنا تأكيد العلماء لها، ومنهم الحافظ ابن حجر الذي قال: (قوله: (ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله) أي: مما نسخت تلاوته)(2)

قال آخر: ومثل ذلك ما كنتم تروونه لنا بسندكم إلى قتادة عن أنس، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه على قومهم، فأمدهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم بسبعين من الأنصار .. قال أنس: كنا نسميهم القراء، يحطبون بالنهار، ويصلون بالليل، فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم، فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبنى لحيان .. قال قتادة: وحدثنا أنس أنهم قرؤوا بهم قرآنا: (ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا)، ثم رفع ذلك بعد (3).

قال آخر: ومثل ذلك ما كنتم تذكرونه لنا من نسخ تلاوة سورة طويلة، وأن من آياتها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا)، وتستدلون على ذلك بما روي عن أبي الأسود قال: (بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاث مائة رجل قد قرؤوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها

__________

(1) رواه البخاري (6830) ومسلم (1691)

(2) فتح الباري (12/ 148)

(3) رواه البخاري (3064)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/284)

بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة)(1) .. ثم تؤكدون ذلك بما ذكره الحافظ ابن حجر في معرض الحديث عن إحدى الروايات التي تذكر هذا: (وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم، وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما، وإن كان حكمه مستمرا، ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن من حديث أبي موسى قال: قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها: (ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا) الحديث، ومن حديث جابر: (كنا نقرأ لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله)(2)

قال آخر: وهكذا ذكرتم لنا عن أبي العباس القرطبي قوله: (كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها)، وهذا ضرب من النسخ، فإن النسخ على مانقله علماؤنا على ثلاثة أضرب: أحدها: نسخ الحكم وبقاء التلاوة، والثاني: عكسه، وهو نسخ التلاوة وبقاء الحكم، والثالث: نسخ الحكم والتلاوة، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى، فإنهما رفع حكمهما وتلاوتهما .. وهذا النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، على قراءة من قرأها بضم النون، وكسر السين، وكذلك قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] .. وهاتان السورتان مما شاء الله تعالى أن ينسيه بعد أن أنزله، وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد، قادر على ما يشاء؛ إذ كل ذلك ممكن .. ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه

__________

(1) رواه مسلم (1050)

(2) فتح الباري (11/ 258)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/285)

أن القرآن قد ضاع منه شيء، فإن ذلك باطل؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفتي المصحف، من غير زيادة ولا نقصان)(1)

قال آخر: ومثله نقلتم لنا عن السيوطي قوله: (هذا من المنسوخ تلاوة الذي أشير إليه بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، فكان الله ينسيه الناس بعد أن حفظوه، ويمحوه من قلوبهم، وذلك في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، إذ لا نسخ بعده)(2)

قال آخر: ومثله نقلتم لنا عن الحافظ ابن حجر قوله: (ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها أو لم يبق، مثل حديث عمر: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وحديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة، قال: فأنزل الله فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا، وحديث أبي بن كعب: (كانت الأحزاب قدر البقرة)، وحديث حذيفة: (ما يقرؤون ربعها) يعني براءة، وكلها أحاديث صحيحة .. وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر أنه كان يكره أن يقول: الرجل قرأت القرآن كله، ويقول: إن منه قرآنا قد رفع .. وليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب؛ لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(3)

قال آخر (4): ونرجو ألا تكرروا علينا الردود على المخالفين التي كنتم تذكرونها لنا، ثم تردون عليها .. ومن أمثلتها الرد على من يقول بأن الآية دليل على الحكم فلونسخت

__________

(1) المفهم (3/ 93 ـ 94)

(2) الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (3/ 129)

(3) فتح الباري (9/ 65)

(4) مناهل العرفان (2/ 217)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/286)

دونه، لأشعر نسخها بارتفاع الحكم، وفي ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له في اعتقاد فاسد .. فقد أجبتم على هذه الشبهة بأن تلك اللوازم الباطلة تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة وعلى إبقاء الحكم، أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط.

قال آخر (1): ومثل ذلك جوابكم لمن يقول بأن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم لأنه من التصرفات التي لا تعقل لها فائدة .. فقد أجبتم على ذلك بأن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا، بل فيه فائدة أي فائدة وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه، وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أوالنقص، لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف وشد ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل .. وبذلك؛ فإن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ تعالى هذه الآيات في تلاوتها فقط رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال تيسيرا لحفظه وضمانا لصونه.

قال آخر (2): ومثل ذلك أجبتم بأنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم، ثم إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم

__________

(1) مناهل العرفان (2/ 217)

(2) مناهل العرفان (2/ 218)

القرآن.. وتحريف الغالين (2/287)

الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أولفائدة نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها أوأطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .. ولا بدع في هذا فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم على حين أنه في الواقع مفيد وهم يأتمرون بأمره وإن كانوا لا يدركون فائدته والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته .. كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم.

ردود وإجابات

بعد أن انتهى تلامذة حفدة قتادة من طرح كل ما درسوه حول نسخ التلاوة، قام كبير الحفدة، وقال: بورك فيكم .. وفي حفظكم .. والآن اسمحوا لنا أن نجيبكم بما استقر عليه رأينا بعد مراجعات وأبحاث كثيرة .. فقد رأينا أنه لا يوجد هذا النوع من النسخ في القرآن الكريم.

قامت ضجة كبيرة بين الحضور، أوقفها المعلم بقوله: يحق لكم أن تعترضوا، ولكن لا يحق لكم أن تعترضوا قبل أن تسمعوا .. فالله تعالى سمع لإبليس قبل أن يلعنه .. فاحذروا أن تحكموا قبل أن تتيقنوا وتستمعوا الحجج والبراهين، حتى لا تطففوا في الموازين.

قام بعض حفدة قتادة، وقال: لا نلومكم على إنكاركم علينا، لأنا عند تدريسنا لكم لهذه المعاني، اكتفينا بما اقتنعنا به من آراء، ولم نذكر لكم الآراء التي تتناقض مع ما ذهبنا إليه، ولا أدلتها، بل كنا نكتفي بشجبها واحتقارها والتنفير منها .. والآن ـ ومراعاة للعدالة والشهادة لله ـ اسمحوا لنا أن نذكر لكم تلك الآراء التي كتمناها واحتقرناها، ثم لكم بعد

القرآن.. وتحريف الغالين (2/288)

ذلك أن تقتنعوا بها، أو ترفضوها؛ فليس من العلم أن نرد شيئا لم نسمع كل تفاصيله وأدلته.