الكتاب:القرآن والبيان الشافي ج1
الوصف: رواية حول لغة القرآن الكريم وخصائص نظمه وأسلوبه وكلماته
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1442 هـ
عدد الصفحات: 512
ISBN: 978-620-4-72143-9
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب أن يستوعب ويُلخص ـ من غير إخلال ـ كل ما ورد في التراث الإسلامي من البحوث المرتبطة بالبيان القرآني، مع تبسيطها وتيسيرها وإبعاد الحشو عنها والجمع بين المدارس المختلفة في ذلك، ليكون مقدمة أساسية لفهم القرآن الكريم، وتدبر معانيه، ولذلك جعلناه الجزء الثاني من هذه السلسلة، بعد الجزء الذي ذكرنا فيه البراهين الدالة على ربانية القرآن، وكونه كلاما إلهيا.
والسبب الذي جعلنا نعطي لهذا الجانب الريادة، قبل سائر البحوث والمعاني المرتبطة بالقرآن الكريم، يرجع إلى أمور منها أن المعارف المرتبطة بالبيان القرآني تعتبر مفاتيح أساسية للتعامل معه، وفهمه واستنباط الحقائق والقيم والمعارف المختلفة منه.
ومنها أن هذه المعارف لها دور كبير في تحقيق تذوق الأسلوب القرآني وجماله، وهو ما يجعل ما يطلق عليه [الإعجاز البياني] عاما لكل العصور، بل شاملا لكل الناس.
ومنها أن أكثر الإشكالات التي وقعت في التاريخ والتراث والواقع سببها سوء الفهم للغة القرآن الكريم وتعابيره؛ فكل الانحرافات التي طالت العقيدة في الله سببها عدم مراعاة ما ورد في اللغة العربية التي جاء بها القرآن الكريم من المجاز والاستعارة والكناية والمشاكلة ونحوها.. وهكذا في كل الجوانب الأخرى.
ومنها أن أكثر الإشكالات والشبهات التي يثيرها من يطلقون على أنفسهم لقب [الحداثيين] أو [التنويريين] أو [القرآنيين] مرتبطة بالتعامل الخاطئ مع اللغة القرآنية، حيث يحملونها أحيانا كثيرة ما لا تحتمل، ولذلك كان التعرف على البيان القرآني ضروريا لمواجهة هذه التحريفات.
القرآن.. والبيان الشافي (1/6)
يحاول هذا الكتاب أن يستوعب ويُلخص ـ من غير إخلال ـ كل ما ورد في التراث الإسلامي من البحوث المرتبطة بالبيان القرآني، مع تبسيطها وتيسيرها وإبعاد الحشو عنها والجمع بين المدارس المختلفة في ذلك، ليكون مقدمة أساسية لفهم القرآن الكريم، وتدبر معانيه، ولذلك جعلناه الجزء الثاني من هذه السلسلة، بعد الجزء الذي ذكرنا فيه البراهين الدالة على ربانية القرآن، وكونه كلاما إلهيا.
والسبب الذي جعلنا نعطي لهذا الجانب الريادة، قبل سائر البحوث والمعاني المرتبطة بالقرآن الكريم، يرجع إلى أمور متعددة، منها:
أولا ـ أن المعارف المرتبطة بالبيان القرآني تعتبر مفاتيح أساسية للتعامل معه، وفهمه واستنباط الحقائق والقيم والمعارف المختلفة منه، وهو ما ييسر تحقيق الأمر الوارد في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
ثانيا ـ أن هذه المعارف لها دور كبير في تحقيق تذوق الأسلوب القرآني وجماله، وهو ما يجعل ما يطلق عليه [الإعجاز البياني] عاما لكل العصور، بل شاملا لكل الناس، حتى الأعاجم منهم، ولذلك لا غرابة أن يكون أكثر من كتب في هذا النوع من الإعجاز من غير العرب .. فالتذوق قد يكتسب بالتبحر في اللغة، واكتشاف أسرار جمالها.
ثالثا ـ أن أكثر الإشكالات التي وقعت في التاريخ والتراث والواقع سببها سوء الفهم للغة القرآن الكريم وتعابيره؛ فكل الانحرافات التي طالت العقيدة في الله سببها عدم مراعاة ما ورد في اللغة العربية التي جاء بها القرآن الكريم من المجاز والاستعارة والكناية والمشاكلة
القرآن.. والبيان الشافي (1/7)
ونحوها .. وهكذا في كل الجوانب الأخرى.
رابعا ـ أن أكثر الإشكالات والشبهات التي يثيرها من يطلقون على أنفسهم لقب [الحداثيين] أو [التنويريين] أو [القرآنيين] مرتبطة بالتعامل الخاطئ مع اللغة القرآنية، حيث يحملونها أحيانا كثيرة ما لا تحتمل، ولذلك كان التعرف على البيان القرآني ضروريا لمواجهة هذه التحريفات.
وبناء على هذا قدمنا هذا الكتاب على غيره من المواضيع التي تهتم بها عادة الدراسات القرآنية، وقد حاولنا أن نراعي فيه ما شرطناه على أنفسنا في هذه السلسلة، فلذلك حاولنا أن نلتزم فيه بما يلي:
1. الاستيعاب: أي استيعاب كل ما كتب في هذه الجوانب من المعاني، من حيث الجملة، لا من حيث التفاصيل .. فعندما نتحدث عن مجاز القرآن الكريم مثلا نشرحه ونذكر الأمثلة الكثيرة عنه، من غير أن نستوعب كل ما ورد فيه من آيات المجاز، لأن ذلك مستحيل أن يجمع في كتاب واحد.
2. التنوع: ونقصد به إيراد المعاني، ولو من الجهات المختلفة المتعارضة .. فعندما تحدثنا ـ مثلا ـ عن أنواع التحسينات الإبداعية، اعتمدنا على المصادر المختلفة في ذلك، سواء القديمة أو الحديثة منها، والتي قد يبدو في بعض الأحيان التعارض بينها .. إلا أنا لم نشر إلى ذلك التعارض، بل لم نشر إلى تلك المدارس أصلا، فاهتمامنا فقط بالفهوم المرتبطة بالقرآن الكريم، لا بأصحاب تلك الفهوم، مع التوثيق طبعا لها.
3. التبسيط: وهو من أهم أهدافنا في هذه السلسلة، لأن الغرض منها أن توصل المعارف القرآنية لعامة الناس وخاصتهم .. ومن المتخصصين وغيرهم .. ولذلك ابتعدنا قدر الإمكان عن الكثير من التفاصيل العلمية التي لا حاجة لها، وخاصة تلك التي تربط البيان
القرآن.. والبيان الشافي (1/8)
القرآني بالأدب العربي نثره وشعره؛ فلذلك اكتفينا بالأمثلة القرآنية، وأكثرنا منها، بحيث يتيسر الفهم بها، وبكل يسر وبساطة، حتى للذين لم يدرسوا المبادئ الأساسية للغة العربية.
4. التدريب: أي تدريب القارئ على استنباط المعاني واللطائف القرآنية، ولذلك جمعنا في الكتاب مئات اللطائف القرآنية، لما لها من التأثير الذوقي، بالإضافة إلى دورها في الدعوة للتدبر لاستنباط المزيد منها.
5. التوثيق: ذلك أن هذا الجزء يدخل ضمن ما أطلقنا عليه [التأويل التدبري]، وهو التأويل المرتبط بالفهوم والاستنباطات الاجتهادية، ولذلك وثقنا كل فهم ـ لكن في الهوامش، لا في الأصل ـ حتى لا يبتعد القارئ عن القرآن الكريم، وينشغل بأصحاب الفهوم، ولذلك لم نتبن تلك الرؤية التي تعتمد دراسة البيان القرآني عند الزمخشري أو الرماني أو الباقلاني .. أو غيرهم من القدامى والمحدثين .. وهو ما جعلنا في عودتنا لتلك المراجع نهتم بلبابها، وهو المعاني الواردة والأمثلة الدالة عليها بعيدا عن أصحابها، مع التوثيق طبعا لمن قالوا في الهامش.
وننبه إلى أننا ـ بعد البحث الطويل في المصادر والمراجع ـ وجدنا بعض المصادر والمراجع الأساسية، ذات اللغة الجميلة البسيطة، ولذلك ركزنا عليها، وكان أكثر اقتباساتنا منها، مع التصرف طبعا في نصوصها، بحيث تتناسب مع ما راعيناه من التبسيط والبعد عن الحشو ونحوهما.
وقد آثرنا أن نتشدد في التوثيق في كل محل ليسهل على الباحثين الرجوع للمصادر والمراجع بكل سهولة ويسر، ولذلك لم نعتمد الإحالة على [المرجع السابق]، بل كررنا ذكر اسم المرجع، حتى لا يضطر القارئ أو الباحث إلى تقليب الصفحات للبحث عن ذلك المرجع.
القرآن.. والبيان الشافي (1/9)
وننبه إلى أننا لم نضع النصوص المقتبسة بين قوسين، كما جرت العادة بذلك، بل وضعناه بجانب قول القائل، وذلك حتى لا ينشغل القارئ بالنصوص عن المعنى، وخاصة مع وضوحها، بالإضافة إلى أننا مزجناها بحديثنا، وبأحداث الرواية .. ولذلك كان التوثيق دالا على مصدر المعلومة، لا نصها.
6. التحبيب: وهو هدفنا الأكبر في هذه السلسلة، وهو تحبيب القرآن الكريم لقارئيه، ولذلك اجتهدنا قدر الإمكان في ربط هذه المعاني بكل ما يدل على سموها وكمالها وجمالها، بالإضافة إلى الأحداث والشخصيات التي تحاول أن تصور ذلك كله، مما أطلقنا عليه [التأويل العملي] .. وهو ما سيراه القارئ في الكتاب من أحداث وأبطال، حيث جعلناهم من جهات مختلفة، بالإضافة إلى أنهم من أصحاب حرف وهوايات متعددة، والجميع يجمعهم القرآن الكريم.
بناء على هذا كله قسمنا الكتاب إلى أربعة فصول:
تناولنا في الفصل الأول، سر اختيار الله تعالى للغة العربية ليصيغ بها كلماته المقدسة المنزهة عن الأصوات والحروف، وقد بينا ميزات هذه اللغة الفريدة، كما بينا دور القرآن الكريم في تطويرها لتتناسب مع كلماته المقدسة.
وتناولنا في الفصل الثاني، ما يرتبط بدقة القرآن الكريم وضبطه، سواء من ناحية كلماته وألفاظه، أو من ناحية جمله وتراكيبه، أو من ناحية الترتيب والاستيعاب الوارد في كلماته أو آياته أو سوره.
وتناولنا في الفصل الثالث، ما يرتبط بما اعتمد القرآن الكريم من أساليب للتوضيح والتقريب والتصوير، وقد تناولنا فيه كل ما يذكر عادة في أبواب البيان، مع إضافة ما يذكر في الدراسات الحديثة، وخصوصا ما يتعلق منها بالتصوير الفني.
القرآن.. والبيان الشافي (1/10)
وتناولنا في الفصل الرابع، ما يرتبط بالحسن والجمال والإبداع القرآني، وهو أطول الفصول، وأكثرها أمثلة، والغرض منه ليس تذوق الجمال القرآني فقط، وإنما تيسير فهمه؛ فالمحسنات البديعية القرآنية، ليست مجرد طلاء جميل، وإنما تختزن الكثير من المعاني التي لا يمكن تدبر القرآن الكريم من دون تحليلها وفهمها .. وقد جمعنا فيه أيضا بين الدراسات القديمة والحديثة، لأنه لا تناقض بينها، كما يتوهم البعض، بل لكل محله وأهله.
القرآن.. والبيان الشافي (1/11)
بعد أن طلب مني معلمي معلم القرآن الاستعداد للسفر للرحلة الخاصة بتعلم العلوم المرتبطة بالبيان القرآني، رحت أجمع كل ما كُتب حول الموضوع من دراسات وتفاسير، قديمها وحديثها، وأحاول كل جهدي فهمها واستيعابها.
لكني مع احترامي لكل ما كُتب فيها، وإعجابي بالمؤلفين الذين بذلوا كل جهودهم في ذلك، وجدت أن أكثرها مما يصعب على أمثالي من العوام أو أنصاف المثقفين فهمه، أو إدراك عمقه، أو التأثر له، أو الانبهار بسببه لما في القرآن الكريم من معجزات البيان، التي شهد له بها الجميع.
بل وجدت في بعض المحال جدلا وصراعا يصرف عن القرآن، أكثر مما يقرب منه، أو يحببه، أو يدعو إلى التأمل فيه، أو الاستفادة منه.
ووجدت بعد ذلك كله الكثير من المصطلحات الغريبة، التي يحتاج القارئ إلى دراسة تفاصيلها الكثيرة، والتي لا يمكن أن تُنال بالجهود العصامية الفردية، وإنما تحتاج إلى المدارس والمعلمين والأساتذة.
وهذا ما جعلني أشعر بالرعب من الرحلة التي تنتظرني .. والتي قد لا يستطيع عقلي البسيط المحدود أن يستوعبها بدقة .. وهو ما أثار في مخاوف كثيرة من الفشل في مهمتي، والذي قد يتسبب في حرماني من أي رحلة أخرى.
بينما أنا في تلك الآلام النفسية الشديدة إذا بي أجد نفسي وسط كومة من النور .. لست أدري محلها من هذا الكون، أو هذه الأرض .. لأني لم أر مثلها في حياتي، لا في الواقع، ولا في الصور الفلكية التي كنت أهتم بالنظر فيها.
القرآن.. والبيان الشافي (1/12)
وفجأة، رأيت أشكالا لحروف كثيرة، تأتي من محال مختلفة، تجتمع ثم لا تلبث أن تتفرق، لتشكل تجمعات أخرى .. وكان النور يزداد أو ينقص بحسب تلك التجمعات.
بينما أنا في دهشتي، رأيت شخصا لا يختلف عن سائر المعلمين الذين تشرفت بصحبتهم؛ فسررت كثيرا، وقلت ـ من حيث لا أشعر ـ: مرحبا بمعلمي الجديد .. أظن أنك معلم البيان .. وقد أرسلك لي معلم القرآن، كما وعدني بذلك سابقا.
قال: مرحبا بك .. أجل .. فلا يتعلم القرآن من لا يتعلم البيان.
قلت: صحيح ما تقول .. ولهذا قرن الله تعالى بين القرآن وعلم البيان، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]
قال: بل إن الله تعالى قرن خلق الإنسان بعلم البيان، لأنه لا يمكن للإنسان أن يكون إنسانا بلا بيان .. فبالبيان يفهم الحقائق، وبه يعبر عنها.
قلت: أجل .. ولهذا يعرّفون الإنسان بكونه حيوانا ناطقا .. فلولا النطق ما حصل التواصل، ولا التعلم، ولا التعليم .. ولا التزكية، ولا الترقية .. ولكان الإنسان أشبه بحيوانات الغاب التي لم تتعد أطوار بهيميتها.
قال: أجل .. فالبيان ركن من أركان الإنسان .. وهو سر من أسرار خلافته وتكريمه.
قلت: أجل .. لقد أشار الله تعالى إلى ذلك عندما حكى لنا قصة آدم عليه السلام، فقد أخبر عما وهبه له من المواهب التي أهلته للتعبير عن أسماء الأشياء، فقال: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]
قال: وهو سر من أسرار كل الأكوان .. فليس البيان خاصا بالإنسان.
قلت: لم أفهم .. هل تريد أن تمحو كل ما كنا نذكره؟
القرآن.. والبيان الشافي (1/13)
قال: لكل كون بيانه الخاص .. ألم تسمع قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]؟
قلت: بلى .. وقد سمعت معه حوار الله مع الكون في بدء خلقه، فقد قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]
وسمعت حوار الهدهد مع سليمان، وقوله له بلسان فصيح ـ كما قال الله تعالى ـ: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 22 - 26]
وسمعت حوار النملة مع أخواتها، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]
قال: الله تعالى أرحم وأكرم من أن يخلق خلقا، ثم لا يرزقه البيان .. فالبيان مرتبط بالأكوان، كما هو مرتبط بالإنسان .. ونعمة الله التي تجلت للإنسان، هي نفسها التي تجلت للأكوان.
قلت: فلم كان للإنسان ذلك التكريم الخاص إذن؟
قال: لقد أشار إليه قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
القرآن.. والبيان الشافي (1/14)
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 - 33]
قلت: هل تقصد الأسماء كلها؟
قال: أقصد القابلية للأسماء كلها .. فشرف كل شيء وكراماته بحسب الاستعدادات والقابليات المتاحة له .. أليست قيم الأشياء عندكم في حياتكم الدنيا مرتبطة بذلك؟
قلت: بلى .. فنحن نقدر الأشياء بحسب خصائصها وقدراتها وقابلياتها .. فكلما كانت الخصائص والقدرات أكبر، كلما كان شرفها وقيمتها أعظم.
قال: فقد وعيت إذن قيمة البيان.
قلت: بلى .. ويشرفني كثيرا أن أتتلمذ على يديك .. فهلم أخبرني عن مخطط رحلتنا، فقد كان معلمي ـ معلم السلام ـ يذكر لي ذلك في بداية كل حديث لي معه .. فهو يبدأ بالجملة، ثم ننتقل بعدها للتفصيل.
قال: أنا لن أحدثك عن كل البيان .. فذلك ليس من شأنك .. وإنما سأحدثك بما أذن لي فيه معلم القرآن.
قلت: أجل .. أنت ستحدثني ـ كما ذكر لي معلمي ـ عن [القرآن .. والبيان الشافي]
قال: فهل تعرف الأركان التي يتأسس عليها البيان الشافي؟
قلت: أعرف أنها أربعة .. ولكني لا أعرف ماهيتها ولا حقائقها.
قال: فكيف عرفت أنها أربع؟
قلت: من خلال مصاحبتي الطويلة مع معلمي معلم السلام عرفت أن الأركان لا تكون ـ في العادة أو الأغلب ـ إلا أربع.
قال: فرحلتك إذن ستكون لأربع محال كبرى، لم تتحقق لكتاب في الدنيا كما تحققت للقرآن الكريم؛ فلذلك كان وحده المتصف بالبيان الشافي.
القرآن.. والبيان الشافي (1/15)
قلت: فما أولها؟
قال: اللغة المناسبة .. فاللغة وعاء البيان .. وبقدر سعتها ودقتها ووضوحها وجمالها، بقدر ما يكون البيان واسعا ودقيقا وواضحا وجميلا.
قلت: وعيت هذا .. فأنت تقصد اللغة العربية التي شرفها الله بأن تكون لسانا معبرا عن كلمات الله المقدسة، كما ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]، وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]
قال: ولذلك كانت معرفتها شرطا لكل من يريد أن يتذوق البيان القرآني .. فلا يمكن لترجمات القرآن أن تفي بذلك.
قلت: أجل .. فما الثاني؟
قال: الدقة والضبط .. فلا يمكن أن يؤدي البيان دوره في ذهنك وحياتك ما لم يكن دقيقا مضبوطا محكما حتى لا يُساء فهمه.
قلت: وعيت هذا .. وقد أشار إليه قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] .. فما الثالث؟
قال: الوضوح والجلاء والظهور والكشف التام.
قلت: وعيت هذا .. فالغموض والخفاء واللبس مضادة للبيان، ومتناقضة معه .. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فإذا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19] .. فما الرابع؟
قال: الجمال والحسن والجاذبية.
قلت: لا شك أن هذه من المكملات؛ فقد يحصل البيان من دونها.
القرآن.. والبيان الشافي (1/16)
قال: أجل .. هي من المكملات في كل الدنيا إلا القرآن الكريم، فهي ركن فيه، وفي كل حروفه وكلماته ..
قلت: أجل .. ولذلك بهر العقول والقلوب بجماله وكماله ..
قال: وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] .. فغرض التيسير الادكار والوعي والتدبر.
قلت: وعيت هذا .. فهل ستكون رحلتي لكل هذه المعاني؟
قال: ستكون رحلتك للبيان والقرآن .. لا للبيان المجرد.
قلت: أجل .. فما أعظم أن يجتمع لي في رحلتي كلا المعنيين .. فأنا عاشق للقرآن، وعاشق للبيان.
التفت إلى ما حولي من الأنوار التي تجتمع وتفترق .. فقلت: لكن أين أنا .. فلم أر في حياتي مثل هذه العوالم العجيبة؟
قال: أنت في عالم البيان ..
قلت: أليس هو من عالم الأكوان؟
قال: بلى .. فكل شيء صادر من {كُنْ فَيَكُونُ} [غافر: 68] .. والله الذي خلق عالم الجماد والنبات والحيوان والإنسان .. هو الذي خلق عالم البيان.
قلت: ولكني أرى صورته مختلفة تماما عن كل ما رأيته في حياتي من عوالم؟
قال: أنت كنت تسمع البيان، ولم تكن تراه .. وفرق كبير بين أن ترى وأن تسمع .. فلكل حاسة عالمها الخاص بها.
قلت: هل تقصد أن الله تعالى جلى لبصري ما كان جليا لسمعي؟
قال: بل جلى لبصيرتك ما كان جليا لسمعك .. فالبصر لا يطيق أن يرى ما هو خارج
القرآن.. والبيان الشافي (1/17)
عالمه.
قلت: والبصيرة؟
قال: بالبصيرة يمكنك أن تسمع وأن ترى الحقائق .. بل يمكنك أن تتذوقها .. ولكن في عالمها المثالي الجميل الخاص بها.
قلت: أجل .. وقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]
قال: البصائر هي سلم الحقائق .. ومن لا بصيرة له يشم الحقائق من بعيد، ولا يراها .. أو قد يراها، ولكنها بصورة مختلفة تماما عن حقيقتها.
قلت: وعيت هذا .. ولكن ما سر اجتماع تلك الأنوار وتفرقها .. ثم تغير كل ما حولي بسبب ذلك الاجتماع والتفرق؟
قال: تلك الأنوار هي الحروف .. وباجتماعها تتشكل الكلمات .. وبالكلمات تتنزل الأنوار أو الظلمات.
قلت: لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 24 - 26]
قال: فلذلك كانت الكلمة الطيبة أشرف أعمالك .. والكلمة الخبيثة أرذلها.
قلت: وعيت هذا .. ولا أحسبني أجادلك فيه .. لكن أخبرني عن سر كلام الله لعباده .. ذلك الذي أشار إليه قوله تعالى عند ذكره لوحيه لأنبيائه عليهم السلام: {وَمَا كَانَ
القرآن.. والبيان الشافي (1/18)
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] .. فهل كلام الله متشكل من الحروف والأصوات مثل كلامنا؟
قال: الله أعظم من أن يفتقر للحروف والأصوات ليتكلم .. فهو الغني المطلق.
قلت: ولكنا لا نعرف الكلام إلا حروفا وأصواتا.
قال: الحروف والأصوات من الكلام .. وليست كل الكلام .. ألست تتحدث في نفسك وفي أحلامك من غير أن تتحرك شفتاك أو تسمع أذناك؟
قلت: بلى .. فهل تقصد أن كلام الله من هذا النوع؟
قال: كما أن الله لا يمكن وصفه؛ فكذلك كلماته .. ألم يخبرك معلم الإيمان أن حظنا من معرفة الله العجز عن معرفته؟
قلت: بلى .. وقد أخبرني عن الجمال واللذة التي يحويها ذلك العجز .. فهو الذي يملأ النفس بالطمأنينة والسعادة، ذلك أنها لا تستقر عند المحدود المقيد، بل هي تطلب العظمة المطلقة المنزهة عن كل نقص، والتي لا تجدها إلا عند الله.
القرآن.. والبيان الشافي (1/19)
أولا ـ القرآن .. واللغة المناسبة
ما قلت هذا، حتى وجدت نفسي في مدرسة عتيقة .. وبين طلاب كثيرين يحملون المحابر والقراطيس والأقلام القديمة، ويتجمع كل فريق منهم أمام أستاذ من الأساتذة.
وقد ازداد عجبي بعد أن سمعت بعضهم يتحدث إلى زميله بالفارسية، وآخر بالأوردية، وآخر بالكردية .. مع أن الجميع كانوا يكتبون بالحروف العربية، ويتقنون الحديث بها.
اقتربت من أحدهم، وقلت: عجبا لك، ولهمتك الدنية .. كيف تترك لسانك العربي المبين لتتحدث بألسنة أخرى؟
قال: لقد شاء الله للساني أن ينشأ في بيئة لا تعرف اللغة العربية .. وقد رضيت بذلك، وحمدت الله عليه .. فالله أعلم بمصالحي مني .. وقد قال في كتابه العزيز: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]
لكني مع ذلك، وبعد أن بلغت رشدي، وعلمت أن وحي الله المقدس الأخير للبشرية قد تنزل باللغة العربية، رحت أبذل كل جهدي في تعلمها ..
قلت: ولم عانيت كل هذا؟ .. كان يكفيك أن تقرأ القرآن بلغة أهل بلدك؛ فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. ولا يكلفها إلا ما آتاها.
قال: وأنا قد فعلت ذلك .. فقد آتاني الله القدرة على التعلم .. ووفر لنفسي القابلية لذلك .. وأضاف إليها العشق والهيام والمحبة.
قلت: محبة القرآن الكريم .. أم محبة اللغة العربية؟
قال: كلاهما .. فيستحيل على القلب الذي أحب كلام ربه، ألا يحب اللغة التي تنزل
القرآن.. والبيان الشافي (1/20)
بها .. فالمحب يحب كل ما يرتبط بمحبوبه .. وكاذب في دعوى المحبة من لم يكن كذلك.
قلت: إن ما تقوله يكلف الخلق شططا .. فالله لم يأمر أحدا بتعلم اللغة العربية.
قال: الأمر لا يحتاج إلى أمر .. والمحب لا يحتاج إلى أن يعرف ما يحب محبوبه .. أذكر أني في صباي الباكر، وبمجرد أن قرأت ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عن نزوله باللغة العربية، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]
بمجرد أن قرأت هذه الآيات الكريمة، تحرك الشوق في قلبي إليها .. فرحت إلى أهلي أطلب منهم أن يدلوني على من يعلمني هذه اللغة التي تقدست بذكر الله لها؛ فطلبوا مني أن أتمهل إلى أن يخضر عودي، وتصبح لدي القدرة على السفر .. ومنذ حلت في تلك القدرة، حزمت أمتعة سفري .. والحمد لله ها قد رزقني الله ما طلبته .. فصرت أتذوق اللغة العربية، وأشعر بلذة كلمات ربي المقدس .. بل أشعر بإعجازها.
قلت: صدقت .. فكلامك باللغة العربية يوحي بأنك من أهلها .. ولهذا توهمت أنك من العرب الذين زهدوا في لغتهم.
قال: عجبا لما تقول .. وهل هناك من يزهد في لغة كتابه المقدس؟
قلت: ألست تسمع بالذين يرطنون بالفرنسية والإنجليزية، يخلطون بها لغتهم العربية، لا لشيء إلا ليفخروا بذلك على أقرانهم؟
قال: ما تقصد بالفرنسية والإنجليزية؟ .. لم أسمع بهما؟
قلت: عجبا لك .. ألم تشاهد على القنوات الفضائية العرب وهم يلهثون وراء
القرآن.. والبيان الشافي (1/21)
اللغات الأعجمية، لا ليستفيدوا من علومها، وإنما ليتباهوا، ويتفاخروا بها؟
قال: أظنك تتحدث عن زمانك .. وقد سمعنا في النبوءات ما يشير إليه.
قلت: في أي زمان أنت؟ .. ألست في القرن الخامس عشر من الهجرة؟
قال: لا .. أنا لا أزال متأخرا جدا عن زمانكم .. أنا في القرون الأولى من الهجرة.
قلت: ومن أراهم .. هل هم جميعا من أهل زمانك؟
قال: أنا لا أهتم بسؤال غيري عن شؤونه الخاصة .. علاقتي بكل من حولي ترتبط بالقرآن، ولغة القرآن .. هكذا علمنا معلم القرآن.
قلت: ومن هؤلاء الأساتذة الذين يتجمع حولهم من أراهم من التلاميذ؟
قال: هم أساتذتي .. وقد تشرفت بالتلمذة عليهم جميعا.
قلت: هلا ذكرت لي أسماءهم .. فلعلي أعرف بعضهم.
قال: أولهم ذاك الذي تراني أجلس في حلقته .. إنه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر .. ونحن نناديه بـ[سيبويه] .. وأصله من قرية البيضاء بشيراز .. وهي قريبة من البلاد التي وفدت منها.
قلت: أعرفه جيدا .. وهل هناك من لا يعرف سيبويه .. إنه إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو وفصله، وهو صاحب كتاب [الكتاب] الذي يعتبر بحق أول كتاب أُلف في النحو العربي .. ولذلك يعتبره الكثيرون مؤسسه أو مطوره.
قال: ولذلك ترى تلاميذه من كل أنحاء العالم، ومن كل العصور .. فقد بارك الله فيه وفي كتبه، بسبب ما قدمه للغة القرآن الكريم.
قلت: أجل .. فكل من خدم القرآن خدمته الدنيا بما فيها .. فأخبرني عن ذلك الأستاذ الذي يجلس في الناحية الأخرى.
القرآن.. والبيان الشافي (1/22)
قال: هو أبو الفتح، عثمان بن جِنّي الموصلي .. لقد ذكر لنا أن أباه (جني) كان عبداً روميّاً مملوكاً لبعض الموصليين.
قلت: أعرفه جيدا .. إنه صاحب كتاب الخصائص، وسر صناعة الإعراب، وغيرها .. وهو من كبار الذين قدموا للغة العربية كل ما أمكنهم من خدمات .. ولا يزال أهل عصرنا يتتلمذون على كتبه مثل سائر العصور.
أشار إلى أستاذ آخر، وقال: وذاك الذي تراه جالسا هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان، ونحن نناديه [أبا علي الفارسي]
قلت: أعرفه جيدا .. إنه من كبار علماء العربيَّة في القرن الرابع الهجري، وأنْحى مَن جاء بعد سيبويه، وقد ترك تراثا حافلا في العلوم اللغوية، منها كتابه [التذكرة] في علوم العربية، في عشرين مجلداً، ومنها [تعاليق سيبويه]، ومنها [الحجة] في عِلل القراءات، ومنها [جواهر النحو]، ومنها [العوامل] في النحو .. وغيرها.
أشار إلى أستاذ آخر، وقال: وذاك أحمد بن فارس بن زكريا .. ونحن نناديه أبا الحسين الرَّازيُّ القزويني.
قلت: أعرفه إنه صاحب كتب كثيرة في اللغة العربية، منها: المجمل، ومتخير الألفاظ، وفقه اللغة، وغريب إعراب القرآن، ومقدمة في النحو، ومقاييس اللغة .. وغيرها كثير.
أشار إلى أستاذ آخر، وقال: وذاك أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري .. ونحن نطلق عليه لقب [جار الله الزمخشري]، لأنه سافر إلى مكة، وسكن بها زماناً.
قلت: أعرفه جيدا .. إنه إمام من أئمة التفسير والنحو واللغة وعلم البيان .. وهو صاحب [الكشاف] في بلاغة القرآن الكريم وتراكيبه اللغوية .. وصاحب معجم [أساس
القرآن.. والبيان الشافي (1/23)
البلاغة] الذي يُعد بحق أعظم قواميس اللغة العربية، لاحتوائه على التعابير البليغة عند العرب، والمجازات اللغوية والمزايا الأدبية، بالإضافة لتفريقه بين الحقيقة والمجاز في الألفاظ المستعملة إفراداً وتركيباً.
أشار إلى أستاذ آخر، وقال: وذاك أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني .. لقد قدم من جرجان لهذه المدرسة منذ فترة طويلة.
قلت: أعرفه جيدا .. إنه ـ بحق ـ مؤسس علم البلاغة؛ فكتاباه [أسرار البلاغة] و [دلائل الإعجاز] من الكتب الرائدة فيها.
أشار إلى أستاذ آخر، وقال: وذاك مجد الدين الشيرازي الفيروزآبادي .. قدم من فيروز آباد، وهي مدينة جنوب شيراز ..
قلت: أعرفه جيدا، إنه صاحب [القاموس المحيط]، بالإضافة لكتب أخرى كثيرة، خدم بها اللغة العربية أعظم خدمة.
بعد أن عرفني على الكثير من الأساتذة الذين يدرّسون في تلك المدرسة العتيقة، مما لا يسع هذا المقام لذكرهم، سألته: أرى أن معظم أساتذة هذه المدرسة، إن لم نقل كلهم من الأعاجم .. فما السر في تركهم الكتابة في علوم لغاتهم، والكتابة في علوم لغة العرب؟
قال: اللغة العربية أعظم وأكرم من أن تكون لغة العرب .. إنها لغة القرآن الكريم .. والقرآن لا يحصره المكان، ولا يحده الزمان .. ولذلك ترانا جميعا ـ تلاميذ أو أساتذة ـ وإن كنا قد نشأنا في بلاد أعجمية، وتكلمنا بألسنتها ـ إلا أنا نفخر بعربيتنا التي اكتسبناها، أكثر من فخرنا باللغات التي ورثناها.
قلت: بورك فيك .. ليت قومي يسمعون .. لقد ذكرني كلامك هذا بما ورد في الحديث أن قيس بن مطاطية جاء إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي،
القرآن.. والبيان الشافي (1/24)
فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل، فما بال هذا؛ فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ تلبيبه ثم أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره بمقالته فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائما يجر رداءه حتى دخل المسجد، ثم نودي أن الصلاة جامعة، وقال: (يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي)(1)
قال: بورك فيك .. ولذلك أخبر أولئك الذين يفخرون علينا بعرقهم العربي بأن العربية لمن يهتم بها، ويقدسها، ويتعلمها، لا لمن انتسب لها زورا وبهتانا.
قلت: لا حاجة لهم إلى إخباري .. فقد أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل حذرهم، فقال في أكبر تجمع عرفه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وفي خطبة تسمى خطبة الوداع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .. ثم قال بعدها: ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فليبلغ الشاهد الغائب)(2)
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مصير الأعراق التي يتفانى البشر في اعتبارها، فقال: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟)(3)
قال: وهذا ما رغبنا معشر الأعاجم، وفي كل عصور التاريخ في القرآن الكريم، وفي تعلم لغته .. فقد وجدنا القرآن الكريم كتابا يتعالى على القوميات والأعراق والأوطان .. فهو يخاطب البشر، باعتبارهم بني آدم، لا باعتبارهم أبناء أي عرق من الأعراق، ولذلك
__________
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 407)
(2) أحمد في المسند (24204) وأبو نعيم في الحلية (3/ 100)، وتحف العقول: 34، بحار الأنوار 76: 350، ح 13 ..
(3) الحاكم (2/ 463)
القرآن.. والبيان الشافي (1/25)
كان تعلمنا للغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، لا باعتبارها لغة العرب .. فالعرب جنس من الأجناس، وهم إخوتنا في الإنسانية، لا يفضلون علينا، ولا نفضل عليهم.
ما بلغ حديثنا هذا الموضع، حتى رأيتني قد خرجت من ذلك المحل الذي كنت فيه، لأجد نفسي بدله أمام عمارة عصرية، كُتب على بابها [الهيئة العامة لتطوير العلوم]، وقد احترت كثيرا في سبب تواجدي أمامها، لأني لم أر لها في ذلك الحين أي علاقة بالبيان، ولا بالقرآن.
لكن رجلا ربت على كتفي، وهو يقول: وكيف لا تكون لها علاقة بالقرآن والبيان، وهي لها علاقة باللغة العربية؟ .. أليست اللغة العربية هي الوعاء الذي اتسع للقرآن، ولا يمكن فهم القرآن، ولا تذوقه من دونها؟
قلت: بلى .. ولكني لم أر لها أيضا أي علاقة باللغة العربية .. فما علاقة تطوير العلوم باللغة العربية؟
قال: هلم معي .. فأنا عبد المعز .. وعضو في هذه الهيئة .. وقد سماني معلمي بذلك، لأن وظيفتي وتكليفي الشرعي قاصر على الدعوة إلى إعزاز ما أعزه الله .. واللغة العربية مما أعزه الله؛ فإعزازها إعزاز لشعائر الله، وتعظيم لها، وإذلالها إذلال لشعائر الله، وتحقير لها.
قلت: إلى أين تريد أن تسير بي؟
قال: لدي اليوم مداخلة أرد فيها على أولئك الذين يتوهمون أن اللغة العربية عاجزة عن مسايرة التطور العلمي والحياتي الحديث ..
قلت: أهناك من يجادل في ذلك؟
القرآن.. والبيان الشافي (1/26)
قال: بل ما أكثر من يجادل في ذلك .. وستراهم وتسمعهم.
قلت: أخشى ألا أصبر عليهم .. فأنا لا أطيق أن أرى من يمتهن العربية أو يحتقرها، أو يعتبرها أدنى من غيرها من اللغات .. بل لا أطيق حتى الذي يساويها بغيرها .. فأين غيرها منها؟
قال: لا تخف .. فلدي رفاق سيعينوني في هذا .. وهم سيحضرون الجلسة، وقد خططنا لمجلسنا هذا خطة دقيقة ومدروسة، وستؤتي ثمارها بتوفيق الله وفضله.
قلت: فهلا ذكرتها لي، لعلي أستفيد منها، أو يستفيد منها غيري إذا سجلتها.
قال: لقد علمنا أن المعارضين لتعليم العلوم باللغة العربية تابعون نفسيا للمستعمرين الذين استعمروا بلادنا، وفرضوا لغتهم علينا؛ فلذلك يرون أنفسهم ولغتهم أحط شأنا من أن تُعلم بها العلوم .. ولهذا كانوا ينكرون علينا عندما كنا نذكر لهم ما قال علماء المسلمين في فضل اللغة العربية وخصائصها، بل ويسخرون منا .. وقد استبدلنا ذلك اليوم بذكر ما قاله غير المسلمين، وخاصة من البلاد الأوروبية .. لأنهم يسلّمون لهم، ويخضعون لشهاداتهم.
قلت: فهل تأذن لي أن أشارككم خطتكم؛ فأنا أحفظ الكثير مما قيل في فضل اللغة العربية وكمالها وتميزها عن سائر اللغات؟
ابتسم، وقال: إن استطعت أن تتحدث؛ فلك ذلك .. لكني لا أظن أنك تستطيع؛ فمهمتك في هذا المجلس ـ كما علمت ـ أن تكتب، لا أن تتكلم.
قلت: لكن كيف يأذنون لي في الدخول، وأنا لست عضوا في هذه الهيئة؟
قال: لا تخف .. هم لن يروك .. ولن يسمعوك .. ولذلك لن يمنعوك.
بعد أن قال هذا، دخلنا قاعة اجتماعات كبيرة، وقد اجتمع فيها الكثير من
القرآن.. والبيان الشافي (1/27)
الشخصيات، وكان منهم من أعرفهم وأعرف مواقفهم السلبية من اللغة العربية.
وما هي إلا برهة قصيرة، حتى قام عبد المعز، وقال: لا تخافوا .. فلن أعيد على أسماعكم ما ذكرته لكم سابقا من أن نهضتنا وتطورنا العلمي لن يكون إلا بعودتنا إلى لغتنا الأصيلة .. تلك اللغة التي تشرفت بالقرآن الكريم، وتشرفت بعده بأن تكون وعاء لحضارة امتدت لقرون طويلة .. لكني أريد أن أسألكم: هل تعجز تلك اللغة القوية الواسعة على مسايرة هذا العصر؟
قام بعض الحضور، وقال: بربك كيف تريد من لغة لا تعرف إلا البكاء على الأطلال، ووصف البعير أن تساير علوم هذا العصر الكثيرة؟
قال آخر: كيف تريد من لغة انحصرت أغراض شعرها ـ كما يشهد بذلك كبار النقاد والأدباء ـ في المديح والافتخار والرِّثاء والنَّسيب والاقتضاء والاستنجاز والهجاء والوعيد والإنذار والعتاب والاعتذار .. أن تعبر عن الفيزياء والرياضيات والفلك وكل العلوم الإنسانية والاجتماعية الكثيرة؟
قال عبد المعز: مهلا سادتي .. فمعرفتكم باللغة العربية ـ على حسب ما تذكرون ـ لا تتعدى الطور الجاهلي .. وهو أخس أطوارها وأدناها وأقلها شأنا .. فهي فيه مثل الرضيع الذي لم يكبر، أو الشجرة التي لم تثمر .. وكان يمكن أن تموت في أي لحظة.
لكن شأنها اختلف تماما بعد تنزل القرآن الكريم .. فبفضل القوة الكبيرة التي أكسبها إياها، صارت لغة كل العلوم والآداب .. ولذلك كان لها الشرف في أن تنتسب له، لأنها لولاه لم تكن شيئا مذكورا .. بل إنها لولاه لماتت مثل موت سائر اللغات، خاصة مع كثرة اللهجات التي كانت منتشرة بين القبائل العربية.
قال بعض الحضور: يبدو أنك تريد أن تخرج اللغة العربية بكلامك هذا من قيود
القرآن.. والبيان الشافي (1/28)
القومية العربية.
قال عبد المعز: أجل .. فاللغة العربية أعظم من أن تنحصر في جنس دون جنس، أو عرق دون عرق .. اللغة العربية هي اللغة الرسمية لكل المسلمين المقدسين للقرآن الكريم .. وبذلك هي أعظم من أن تنحصر في عرق أو جنس أو منطقة .. نعم لقد تنزل القرآن الكريم في الوقت الذي بلغت فيه اللغة العربية درجة رفيعة من الفصاحة والبيان في الشعر والنثر، بيد أنَّها كانت في حدود قبليَّة ضيقة .. لكنها بعد اجتباء الله لها لتكون لسان القرآن الكريم، تجاوزت حدود القبيلة والقوم، وارتبطت بالإسلام، فكانت لغة عقيدته وشريعته وخطابه إلى جميع البشر.
لقد انتشرت بانتشار الإسلام في بلاد الشام والعراق وما وراء النهر .. وفي بلاد فارس والهند والسند، وأنحاء واسعة من القارة الآسيوية حتى وصلت إلى أرخبيل الملايو .. وانتشرت في مصر وشمال إفريقية وغربها ووسطها وجهات السودان، وعلى السواحل وفي الجنوب.
بل إنها أثرت حتى في اللغات الأوروبية وغيرها، وقد شهد على ذلك الكثير من المستشرقين وغيرهم، بل وضعوا إحصائيات علميَّة تدل على ذلك .. ومن الأمثلة عنها قول بعضهم: (درستُ أثر العربية في اللغات الشرقية، وأحصيتُ نسبتها، وهي: في الفارسية (60.67 بالمائة)، وفي التركية (65.30 بالمائة)، وفي الأردية (41.95 بالمائة)، وفي التاجيكية (46.39 بالمائة)، وفي الأفغانية (56.99 بالمائة)(1) .. وذكر آخر أنه أحصى (ستًا وعشرين لغة أسيويَّة تستخدم الأبجديَّة العربية بعضها ما يزال مستمسكًا بها حتى اليوم، وبعضها الآخر استبدلت بها الحروف اللَّاتينية أو المحليَّة)(2) .. وعلى هذا المنوال
__________
(1) محمد مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربيَّة: ص 265.
(2) عالمية اللغة العربيَّة: ص 260.
القرآن.. والبيان الشافي (1/29)
لاحظ الباحثون في اللغات المقارنة تأثير اللغة العربية العميق في سائر اللغات المنتشرة في العالم الاسلامي، ولاحظوا كذلك دخول كثير من مفرداتها في اللغات الأوروبية أيضًا.
قام بعض الحضور، وقال: عرفنا هذا .. ولا نحسب أننا نجادلك فيه .. لكن هل ترى هذا كافيا لإقناعنا بما تدعونا إليه؟
قال آخر: لا نريد أن تحدثنا عن ارتباط اللغة العربية بشعائر الإسلام وعباداته .. فنحن نعلم أن الحياة اليومية للمسلمين تدعوهم إلى استعمال اللغة العربية أو استماعها، وفي كل الشؤون المرتبطة بعباداتهم .. لكن هناك فرق شاسع بين الشعائر التعبدية والعلوم.
قال عبد المعز: لن أحدثكم عن ذلك، ولو أنه السبب الوجيه لانتشارها .. ولكن هناك سبب أكبر، وهو أن اللغة العربية ـ بفضل القرآن الكريم ـ لم تعد لغة محلية محدودة الآفاق والتعبير .. بل صارت لغة عالمية قوية تتسع لكل المعاني .. وقد أهلها لذلك الخصائص التي توفرت فيها، والتي يعز نظيرها في سائر اللغات.
قال بعض الحضور: لم نفهم ما تريد .. هل تقصد أن الله تعالى اختار اللغة العربية لكونها تتصف بصفات ذاتية أهلتها لذلك .. أم أنها كانت كسائر اللغات، ولكنها تحورت بفضل القرآن الكريم وتطورت لتصبح لها تلك الخصائص الفريدة؟
قال عبد المعز: اللغة العربية عند تنزل القرآن الكريم كانت مثل طفل صغير يعبر عن الحقائق المحدودة التي يعرفها .. لكنها ـ بفضل القرآن الكريم ـ نمت وتطورت، ليتحول ذلك الصبي الصغير إلى عالم وفيلسوف وفقيه وأديب وشاعر .. وهو ما جعله يعبر عن المعاني بصورة أوسع وأعمق .. ولذلك كان للقرآن الكريم المنة عليها، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] .. فبالقرآن ذُكر العرب، وذكرت لغتهم، ولولاه ما كانوا شيئا مذكورا، لا هم، ولا لغتهم.
القرآن.. والبيان الشافي (1/30)
قال بعض الحضور: لكن الله تعالى أخبر أنه أرسل كل رسول بلسان قومه، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4] .. فكيف لم يحصل للغات الأنبياء ما حصل للغة العربية؟ .. ولماذا لا نرى المسيحيين يطالبون بتعليم الأرامية أو السريانية أو العبرية مع أنها اللغة التي كتبت بها كتبهم المقدسة؟
قال عبد المعز: سر ذلك بسيط .. فالأنبياء عليهم السلام كانوا مكلفين بدعوة أقوامهم خاصة .. ولذلك لم تتعد لغاتهم أقوامهم .. أما القرآن الكريم .. فهو رسالة الله إلى العالمين، ولذلك تحولت لغته إلى لغة العالم أجمع، ولهذا شارك كل الأجناس والأعراق في البحث عن علومها وأسرارها .. ولذلك استحقت، وفي كل الأجيال أن تصبح اللغة الأولى في العالم .. لا تدانيها أي لغة من اللغات الأخرى.
قال بعض الحضور: لكأنك أستاذنا تعيش في عصر دون عصرنا .. ألا تعرف أن اللغة الإنجليزية الآن هي اللغة الأقوى والأوسع انتشارا؟
قال عبد المعز: سعة الانتشار لا تعبر عن قوة اللغة .. وإنما يعبر عنها ما تحويه من الكمالات، وما تتجنبه من الثغرات .. ولو أنه أتيح للغة العربية الرجال الأفذاذ الذين ينشرونها، لتنعمت البشرية في عصرنا جميعا بها، كما تنعمت بها في العصور السابقة.
قال بعض الحضور: فحدثنا عن المزايا التي تميز اللغة العربية عن غيرها، حتى نفقه ما تريد قوله.
قال عبد المعز (1): لا بأس .. يمكنكم اختصارها في ميزتين: الغنى والقوة.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية الواردة في هذا المحل من كتاب: دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه (2/ 890، فما بعدها)، بالتصرف الذي شرحناه في مقدمة السلسلة.
القرآن.. والبيان الشافي (1/31)
قالوا: فحدثنا عن أولها .. حدثنا عن غناها.
قال: من أول دلائل غنى اللغة العربية كونها تامة الحروف، كاملة الألفاظ، لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه، ولم يزد فيها شيءٌ فيعيبها زيادته .. وإن كان هناك فروع أخرى من الحروف لم توجد فيها، فهي راجعة إلى الحروف الأصلية، وسائر اللغات فيها حروف مُوَلَّدة، وينقصُ عنها حروف أصلية (1).
بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه إذا قيس اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة، فليس في اللغات أوفى منه بشروط اللغة في ألفاظها وقواعدها .. ذلك أنها أوفى اللغات جميعًا بمقياس بسيط واضح لا خلاف عليه، وهو مقياس جهاز النطق في الإنسان، فإنَّ اللغة العربية تستخدم هذا الجهاز الإنساني على أتمه وأحسنه، ولا تهمل وظيفة واحدة من وظائفه، كما يحدث ذلك في أكثر الأبجديات اللغوية (2).
لقد شهد لها بهذا الكثير من المستشرقين، فقد قال (رينان) عنها: (من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كلّ أطوار حياتها طفولةٌ ولا شيخوخةٌ، ولا نكاد نعلم من شأنها إلاّ فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرّج وبقيت حافظةً لكيانها من كلّ شائبة)(3)
ولهذا، وبسبب هذا الغنى الذي لا تنافسه فيها لغة من اللغات ذكر بعضهم أنها لغة توقيفية (4)، استنادا لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] .. وطبعا هو موقف
__________
(1) صبح الأعشى، القلقشندي، 1/ 149.
(2) أشتات مجتمعات في اللغة والأدب: ص 11.
(3) خصائص العربية وطرائق تدريسها، نايف معروف: ص 40.
(4) دراسات في العربية وتاريخها، محمد الخضر حسين، ص 10.
القرآن.. والبيان الشافي (1/32)
لا نملك عليه أي دليل، إلا أنه ليس بمستبعد عندنا؛ فلا حرج أن تكون هناك لغة توقيفية، ثم تكون سائر اللغات ناتجة عن آثار الزمن وتغيراته.
قالوا: وعينا هذا .. فحدثنا عن الثانية .. حدثنا عن قوتها.
قال: لقد قال بعضهم يذكر ذلك: (لقد أكسبت التجربة الحضارية للغة العربية على مدى قرون ثروة هائلة من البنى، واحتبست تعابيرها في أرحامها قدرات خفيَّة على العطاء وعلى الإيحاء وعلى تنويع التعبير .. كما أكسبها انتشارها الواسع في بقاع فسيحة من الأرض وتفاعلها مع جماعات لغويَّة كثيرة ألوانًا من الغنى، تأثرًا وتأثيرًا، فهي ليست اللغة الأوليَّة البدائية التي تحاول أن تصبو إلى مقاربة الحضارة أو ملاحقتها أو الاندماج فيها، وإنَّما هي اللغة ذات التجربة السابقة، وما كان لظاهرة ما اجتماعية أو إنسانية أن تقوى على التخلي عن تجاربها السابقة، فهذه التجارب جزءٌ منها)(1)
ولذلك نرى اللغة العربية تخالط لغات كثيرة، ومع ذلك لم تفسد في ألفاظها ولا في اشتقاقاتها، ولا في تراكيبها وأساليبها، أو في بيانها الدقيق المشرق، ولم يتعد تأثيرها فيها عددًا محدودًا من الألفاظ التي تعربت استجابة لمتطلبات تطور أنماط الحياة وتنظيمها، وازدهار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والعسكرية والعمرانية في ربوع بلاد المسلمين (2).
وقد كان لهذا دور كبير في تحولها إلى لغة عالمية من غير حاجة لأي استعمار أو قوى تفرضها .. وذلك على خلاف كل اللغات العالمية الأخرى، والتي اشتهرت في العصور الأخيرة، والتي انتشرت بذينك السببين.
لقد شهد لها بهذا المستشرقون الذين أفنوا أعمارهم في دراستها، فقد قال بوستل عنها:
__________
(1) قضايا اللغة العربيَّة المعاصرة، شكري فيصل، ص 32.
(2) عالمية اللغة العربيَّة، محمد مصطفى الحاج، ص 258.
القرآن.. والبيان الشافي (1/33)
(إن اللغة العربية تفيد بوصفها لغة عالميَّة في التعامل مع المغاربة والمصريين والسوريين والفرس والأتراك والتتار والهنود، وتحتوي على أدب ثري، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس، وأن ينقضهم بمعتقدات التي يعتقدونها، وعن طريق معرفة لغة واحدة (العربية) يستطيع المرء أن يتعامل مع العالم كله)(1)
وقال كارل بروكلمان: (بلغت العربيَّة بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أيُّ لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا مؤمنون بأن العربية وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلاتهم)(2)
وقال برنارد لويس: (وجد الطلبة الإنكليز في الهند لدى دراستهم لغات مسلمي الهند ومدنيتهم، أن أبحاثهم وتنقيباتهم تحتم عليهم دراسة العربية التي هي أساس الثقافة الإسلاميَّة في أيِّ لغة من اللغات)(3)
وهذا ما جعل المستشرقين، ومنذ أجيال طويلة يهتمون بها اهتماما شديدا؛ فقد اهتموا بها، وبكل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، فبحثوا في فقهها، وأصواتها، ولهجاتها، ونحوها، وصرفها، وأصولها، ومعاجمها، وأطوارها، وغزارتها، ومادتها، وفلسفتها، وعلاقاتها باللغات الأخرى، وخاصة اللغات الساميَّة، ومميزاتها وعناصرها، وتاريخها، ونقوشها، وكل ما أنتجته هذه اللغة (4).
وهكذا توفر للغة العربية في العصور الأخيرة من يخدمها من الأعاجم، مثلما توفر لها من يخدمها في العصور الأولى من الإسلام .. وذلك كله ببركة القرآن الكريم، الذي كان
__________
(1) عن الاستشراق والخلفية الفكرية، ص 30.
(2) عن عالمية اللغة العربية: ص 274.
(3) المستشرقون ونظرتهم في نشأة الدراسات اللغويَّة، إسماعيل أحمد عمايرة، ص 20.
(4) فلسفة الاستشراق، أحمد سمايلوفتش، ص 184.
القرآن.. والبيان الشافي (1/34)
سبب حفظها وانتشارها وغناها.
بعد أن انتهى عبد المعز من حديثه، قام بعض الحضور، ويبدو أنه من رفاق عبد المعز المشاركين في خطته، وقال: صدقت أستاذنا الفاضل .. واسمح لي بمناسبة ذكرك لبعض شهادات المستشرقين أن أضيف إليها شهادة اللغوي الألماني يوهان فك، صاحب كتاب [العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب]، والذي درس اللغة العربية دراسة علمية، وعرفها عن قرب، فقد قال: (إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية)(1)
قال آخر: بورك فيك .. وأحب أن أضيف إلى ما ذكرته كلمة للمستشرق المجري جرمانوس الذي أسلم، وتسمى باسم عبد الكريم، وقد كان يتقن اليونانيّة، واللاتينيّة، والإنكليزيّة، والفرنسيّة، والإيطاليّة، والمجريّة، والفارسيّة والأورديّة، والعربيّة والتركيّة، فقد قال عنها: (إنّ في الإسلام سنداً هامّاً للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة، كاللاتينية حيث انزوت تماماً بين جدران المعابد .. ولقد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي
__________
(1) عن الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي ص 302.
القرآن.. والبيان الشافي (1/35)
اعتنقته حديثاً، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب فاقتبست آلافاً من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوةً ونماءً .. والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تُبارى، فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهم كلمةً واحدةً من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية قبل الإسلام)(1)
قال آخر: ومثله قال المستشرق الألماني نولدكه عن العربية وفضلها وقيمتها: (إن اللغة العربية لم تَصِرْ حقّاً عالميةً إلا بسبب القرآن والإسلام، وقد وضع أمامنا علماءُ اللغة العرب باجتهادهم أبنيةَ اللغة الكلاسيكية، وكذلك مفرداتها في حالة كمالٍ تامٍّ، وأنه لا بدّ أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطةٌ جداً، ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمةٍ خاصّةٍ، والعربية الكلاسيكية ليست غنيّةً فقط بالمفردات ولكنها غنيةٌ أيضاً بالصيغ النحوية، وتهتمّ العربية بربط الجمل ببعضها .. وهكذا أصبحت اللغة البدويّة لغةً للدين والمنتديات وشؤون الحياة الرفيعة، وفي شوارع المدينة، ثم أصبحت لغةَ المعاملات والعلوم، وإن كلَّ مؤمنٍ غالباً جداً ما يتلو يومياً في الصلاة بعض أجزاء من القرآن، ومعظم المسلمين يفهمون بالطبع بعض ما يتلون أو يسمعون، وهكذا كان لا بُدّ أن يكون لهذا الكتاب من التأثير على لغة المنطقة المتّسعة ما لم يكن لأيّ كتابٍ سواه في العالم، وكذلك يقابل لغة الدين ولغة العلماء والرجل العادي بكثرة، ويؤدّي إلى تغيير كثيرٍ من الكلمات والتعابير في اللغة الشعبية إلى الصحّة)(2)
قال آخر: ومثلهم المستشرق جوستاف جرونيباوم الذي قال: (ما من لغة تستطيع
__________
(1) عن الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي ص 301.
(2) عن اللغة العربية، نذير حمدان ص 133.
القرآن.. والبيان الشافي (1/36)
أن تطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السعة فالأمر فيها واضح، ومن يتّبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية)(1)
وقال: (ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات .. وتزيّن الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمّة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبيّ أقصر في جميع الحالات، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران ـ وهو عارف باللغتين العربية والسريانية ـ أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسناً، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً)(2)
قال آخر: ومثلهم المستشرقة الألمانية زيكريد هونكه التي قالت: (كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟ .. فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار يتكلمون اللغة العربية بشغفٍ، حتى إن اللغة القبطية مثلاً
__________
(1) عن الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي ص 306.
(2) عن الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي ص 306.
القرآن.. والبيان الشافي (1/37)
ماتت تماماً، بل إن اللغة الآرامية لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلّ مكانها لغة محمد)(1)
قال آخر: صدقت .. وهذا ما دعا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى أن يقول عنها: (استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر سواءً كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها .. واللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفرّدت بتفرّدها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي، إنّ التعبير العلمي الذي كان مستعملاً في القرون الوسطى لم يتناوله القدم ولكنه وقف أمام تقدّم القوى المادية فلم يتطوّر .. أما الألفاظ المعبّرة عن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية فإنها لم تحتفظ بقيمتها فحسب بل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي وتنشّطه .. ثمّ ذلك الإيجاز الذي تتسم به اللغة العربية والذي لا شبيه له في سائر لغات العالم والذي يُعدّ معجزةً لغويةً كما قال البيروني)(2)
قال آخر: ومثلهم المستشرق الألماني فرنباغ الذي قال عنها: (ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلاّ بصعوبة)(3)
قال آخر: ومثلهم روفائيل بي ـ الكاتب السرياني العراقي ـ فقد قال عن اللغة العربية: (إنني أشهد من خبرتي الذاتية أنه ليس ثمة من بين اللغات التي أعرفها لغة تكاد تقترب من
__________
(1) مجلة اللسان العربي 24/ 86 عن كتاب: شمس العرب تسطع على الغرب.
(2) عن الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي ص 301.
(3) عن الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي ص 303.
القرآن.. والبيان الشافي (1/38)
العربية، سواء في طاقتها البيانية، أو قدرتها على أن تخترق مستويات الفهم والإدراك، وأن تنفذ بشكل مباشر إلى المشاعر والأحاسيس تاركة أعمق الأثر فيها)
بعد أن انتهى رفاق عبد المعز من ذكر هذه الشهادات وغيرها، قام بعض الحضور، وقال: مع احترامنا لما ذكرتم جميعا .. إلا أنه ربما يكون كلامكم صالحا في العصور السابقة إبان ازدهار الحضارة الإسلامية .. أما الآن؛ فالواقع مختلف تماما، ذلك أن اللغة العربية أصبحت قاصرة، وهزيلة، ولا يمكن أن تفي بالحاجات التي يتطلبها هذا العصر.
قال عبد المعز: لعل أحسن جواب لك على هذا الإشكال ما عبر عنه بعض الشعراء بقوله في رده على مثيري ذلك الإشكال، وعلى لسان اللغة العربية:
وسعت كتاب الله لفظًا وغايةً ... وما ضقتُ عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيقُ عن وصف آلةٍ ... وتنسيق أسْمَاء لمخترعات
أنا البحرُ في أحشائه الدر كامنٌ ... فهل سألوا الغُوَّاصَ عن صدفاتي؟
وهو جواب كاف شاف .. ذلك أن اللغة التي استطاعت أن تعبر عن كل العلوم التي لولاها لم تنشأ الحضارة الحديثة، لا تعجز عن الاستمرار في دورها .. ذلك أنها لغة حيَّة عمليَّة لها طاقة هائلة على استيعاب المعاني الغزيرة، وفي الكلمات القليلة.
أمَّا ما حصل لها من تخلف؛ فهو ليس نابعا منها، وإنما من تخلف المسلمين عن ركب الأمم الأخرى في ميادين الصناعة والعلوم، وهو أمر يمكن استدراكه وتلافيه.
قام بعض الحضور، ويبدو أنه من رفاق عبد المعز، وقال: ائذنوا لي أن أجيبكم عن هذا من واقع حياتي وتجربتي؛ فأنا قبل أن ألتحق بكم، كنت أعمل أستاذا في كلية الطب في
القرآن.. والبيان الشافي (1/39)
دمشق، والتي مضى على تأسيسها ما يزيد على سبعين عامًا، وأنا وجميع الأساتذة ندرّس الطب باللغة العربيَّة، وقد أغنينا ـ بحمد الله ـ خزانة الكتب العربيَّة بما لا يقل عن ثمانين مجلدًا في فروع الطب المختلفة (1).
بالإضافة إلى أن كثيرًا من زملائي الأساتذة الذين جربوا التدريس بالعربيَّة، لا في دمشق وحدها، وإنَّما في الكثير من الدول العربية، لم يجدوا عائقًا يذكر من اللغة ذاتها، وإذا كانوا قد اصطدموا بصعوبات فهي خارج الإطار اللغوي (2).
قال آخر: صدقت .. بل استطاع عدد من الأساتذة المخلصين الذين أعرفهم أن يثبتوا قدرة اللغة العربيَّة على استيعاب العلوم، فوضعوا عددًا من الكتب العلميَّة تناولت شتى الموضوعات، وقدمت أمثلة لقدرة اللغة العربيَّة على التعبير عن دقائق العلوم المختلفة (3).
قال آخر: صدقت .. وقد شهد لها بهذا، وأثبته كل الباحثين من المنصفين من المختصين باللغات المختلفة، ومنهم المستشرق البريطاني ألفريد غيوم الذي قال عنها: (ويسهل على المرء أن يدركَ مدى استيعابِ اللغةِ العربيةِ واتساعها للتعبير عن جميع المصطلحات العلمية للعالم القديم بكل يسرٍ وسهولة، بوجود التعدد في تغيير دلالة استعمال الفعل والاسم)
ثم ضرب مثالا على ذلك، فقال: (إن الجذر الثلاثي باشتقاقاته البالغة الألفَ عَدّاً، وكلٌ منها متّسق اتساقاً صوتياً مع شبيهه، مشكّلاً من أيّ جذر آخر، يصدر إيقاعاً طبيعياً لا سبيل إلى أن تخطئه الأذن، فنحن ـ الإنكليز ـ عندما ننطق بفكرة مجرّدة لا نفكر بالمعنى الأصلي
__________
(1) اللغة العربيَّة في التعليم العالي والبحث العلمي، مازن المبارك، ص 43.
(2) دعوة إلى تعريب العلوم في الجامعات، أحمد مطلوب، ص 25.
(3) دراسات في الترجمة والمصطلح والتعريب، شحادة الخوري، ص 185.
القرآن.. والبيان الشافي (1/40)
للكلمة التي استخدمناها، فكلمة (Association) مثلاً تبدو منقطعة الصلة بـ (Socins) وهي الأصل، ولا بلفظة (Ad)، ومن اجتماعهما تتألف لفظة (Association) كما هو واضح وتختفي الدالّة مدغمة لسهولة النطق، ولكن أصل الكلمة بالعربية لا يمكن أن يَسْتَسِرّ ويَسْتَدِقّ على المرء عند تجريد الكلمة المزيدة حتى يضيع تماماً، فوجود الأصل يظلّ بَيّناً محسوساً على الدوام، وما يعدّ في الإنجليزية محسّناتٍ بديعيةً لا طائل تحتها، هو بلاغةٌ غريزيةٌ عند العربي)(1)
قال آخر (2): ما ذكره صحيح .. فاللغة العربية قائمة على جذور متناسقة لا تجدها في اللغات الأخرى قاطبة .. فالفعلُ الماضي ذهب، ومضارعه يذهبُ، وأمره اذهب، من جذرٍ واحد، أمَّا مثيله في الإنجليزية فماضيه went ومضارعه وأمره go .. وهما كلمتان مختلفتان كليًّا .. ومثل ذلك الفعل cut بمعنى قطع، يقطع، اقطع، تجده رسمًا واحدًا في الأزمنةِ الثلاثة كلِّها، وتضطر إلى وضعِها في جملٍ كي تعرفَ الزَّمنَ لكلٍّ منها، بينما زمن الفعل في العربية معروف.
قال آخر: وهكذا نجد أنَّ للأفعال المتقاربة الجذور في العربية معانيَ متشابهةً لا ترى أمثالها في اللغات الأخرى .. فالفعل (قطع) إذا بدل الحرف الأخير فقط قيل: قط، قطم، قطف، قطش، تجد فيها اشتراكًا في قضمِ الشيء إلى قطع .. وفي الفعل (سما) المفتوح العين ثلاثة حروف كذلك، بدِّل الحرفَ الأخير وقلْ مثلاً: سمج، سمر، سمح، سمك، سمق، سمط، تجد اشتراكها في العلوِّ، وهكذا.
قام آخر، وقال: وعينا هذا .. لكن هناك مشكلة كبيرة تعترضنا في حال موافقتنا على
__________
(1) مجلة المورد، المجلد 5 العدد 2 ص 43 عن مقدمة مدّ القاموس إدوارد لين، ترجمة عبد الوهاب الأمير.
(2) من مقال بعنوان: أهمية اللغة العربية ومميزاتها، صادق بن محمد الهادي.
القرآن.. والبيان الشافي (1/41)
ما تطرحون .. وهي صعوبة اللغة العربية مقارنة بسائر اللغات .. لعلكم أنتم أنفسكم شهدتم بذلك حين ذكرتم قوتها وسعتها وغناها .. وهذا يدل على صعوبتها.
قال عبد المعز: صعوبة التعلم وتدريب اللسان حتى يلين لقواعد اللغة العربية وتصاريفها صعوبة محدودة، وهي موجودة في كل من يريد تعلم أي لغة من اللغات .. وهي أمرٌ نسبي يختلف من شخص لآخر، وتحكمه ظروف عدّة، منها ما يعود إلى المتعلم ذاته، ومنها ما يعود لغيره من معلمين أو مناهج تعليمية .. وهي على كل حال لا علاقة لها باللغة، وإنما بالقائمين عليها، والمهتمين بها.
قام آخر، وقال (1): الذين يثيرون هذا لا يفكرون بأي منطق علمي .. ذلك أنهم يعبرون في أحسن أحوالهم عن تجاربهم الشخصية المحكومة بالذاتية، وليس عن الحقيقة العلمية .. فاللغة العربية مثل سائر اللغات لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من اللغات، ولها من الخصائص التي تشترك فيها مع اللغات الأخرى .. وليس معنى وجود خصائص لها تنفرد بها أنها مصدر صعوبتها .. فقد تسمع أنَّ هناك العديد من الصعوبات في أصوات اللغة العربية ونظامه؛ فقد يحدث خلط بين أصوات (ت، د) أو (ذ، ز) .. وغيرها من الأصوات، إلا أنه يمكن الرد على ذلك بأن معظم هذه الأصوات موجودة في العديد من اللغات الأخرى سواء اللغات السامية أو اللغات الهند أوروبية.
ألا يوجد في الإنجليزية الخلط بين T + D؟ وبالرغم من ذلك لم نسمع عن مشكلة بهذا الحجم .. وقد توجد أصوات غير موجودة في معظم اللغات الأخرى، مثل: ط، خ، ض، ق، غ .. وغيرها، وعندما نسمع إلى اللغة الألمانية نلاحظ توافر صوتي: خ + ش، ونستمع إلى صوت الراء ملتحما مع الغين في الفرنسية، وسبقت الإشارة إلى أن الجهاز
__________
(1) من كتاب (تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها: النظرية والتطبيق، د. علي أحمد مدكور.
القرآن.. والبيان الشافي (1/42)
النطقي عند الإنسان مصمم بحيث ينطق أصوات العربية بشكل سليم، وهذا الجهاز واحد عند كافة أجناس البشر، كما أشار تشومسكي في نظريته عن اللغة، فأين المشكلة في هذه الأصوات؟
قال آخر: إن الصعوبة الحقيقية تكمن في (الغربة) أو عدم ألفة أصوات اللغة العربية .. ومع ذلك فقد خلق الله سبحانه وتعالى الجهاز النطقي لدى الإنسان قادرا على إصدار كل الأصوات .. أما عن تلك الصعوبات التي يجدها، ويُصادفها كل إنسان في إصدار بعض الأصوات غير الموجودة في لغة الأم، إنما مصدرها عدم التعود والتدريب على إصدارها ..
قال آخر: إنَّ عدم الاستخدام الصحيح، في أغلب الأحيان للأصوات العربية وألفاظها يجعلها لغة غريبة لا تألفها الأذن؛ فعلى سبيل المثال: قد نسمع في كثير من الأماكن لفظة (Sorry) للتعبير عن الاعتذار، أو عن شيء غير مقصود .. فإذا تم استخدام لفظة (معذِرة) مكانها وألفتها الأذن .. تختفي هذه الغربة اللغوية .. وهكذا يمكن أن تذوب هذه الغربة على مستوى التراكيب والجملة والفقرة، وبالتالي على مستوى اللغة ككل.
قال آخر: ائذنوا لي أن أذكر لكم تجربتي في تعلم اللغة العربية، مع أني ولدت في بيئة تتحدث الإنجليزية .. ومع ذلك ـ وبسبب حرصي الشديد على تعلم اللغة العربية لأجل قراءة القرآن الكريم بلغته الأصلية ـ رأيت أنها أسهل اللغات، فهي لغة محكمة قوية مضبوطة نطقا وكتابة ..
من الأمثلة على ذلك (1) أنه لا يوجد في اللغة العربية التفاوت بين النطق وطريقة الكتابة، مثلما هو الحال في سائر اللغات .. فاللغة الإنجليزيَّة مثلا فيها ما يزيد على (200)
__________
(1) انظر هذه الأمثلة وغيرها في: اللغة العربيَّة، نذير حمدان، ص 42، وبحوث ومقالات في اللغة، رمضان عبد التواب، ص 167، وغيرها.
القرآن.. والبيان الشافي (1/43)
أصل لغوي شاذ، في حين أنَّ التفاوت بين النطق والكتابة في اللغة العربيَّة محدود في كلمات تعد على أصابع اليد الواحدة مثل (هذا، لكن، داود، عمرو، اللام الشمسية) .. ولا يعد هذا التفاوت عيبًا، ولا سيما أنَّه مسموع عن العرب يحفظ ولا يقاس عليه.
بالإضافة إلى أن هذا في الحقيقة من مزايا اللغة العربية، لا من عيوبها؛ فمثنى الكلمة العربيَّة يختزل في كلمة واحدة مثل [رجل] مثناها [رجلان]، في حين يكتب في اللغات الأخرى كلمتين.
قال آخر: لقد ذكرني حديثك هذا بأستاذ لنا كان يدرسنا في جامعة أستنبول، كان يقول لنا: (إن اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقةٍ جديدةٍ لتسهيل السهل وتوضيح الواضح .. إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أمليه عليهم من المحاضرات بالحروف العربية وبالسرعة التي اعتادوا عليها، لأن الكتابة العربية مختزلةٌ من نفسها .. أما اليوم فإن الطلبة يكتبون ما أمليه عليهم بالحروف اللاتينية، ولذلك لا يفتأون يسألون أن أعيد عليهم العبارات مراراً، وهو معذورون في ذلك لأن الكتابة الإفرنجية معقّدةٌ والكتابة العربية واضحةٌ كلّ الوضوح، فإذا ما فتحتَ أيّ خطابٍ فلن تجدَ صعوبةً في قراءةِ أردأ خطٍّ به، وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح)(1)
قال آخر: نفس ما ذكرته قاله المستشرق الفرنسي مارسي عند ذكره لتجربته في ذلك، فقد قال: (من السهل جداً تعلم أصول اللغة العربية؛ فقواعدها التي تظهر معقدة لأول نظرة هي قياسية ومضبوطة بشكل عجيب لا يكاد يصدق؛ فذو الذهن المتوسط يستطيع تحصيلها بأشهر قليلة وبجهد معتدل)(2)
__________
(1) فنّ الترجمة وعلوم العربية، إبراهيم بدوي الجيلاني ص 91.
(2) نايف معروف: خصائص العربيَّة: ص 40، 41.
القرآن.. والبيان الشافي (1/44)
وقالت المستشرقة الألمانية آنا ماري شميل ـ التي وضعت مقدمة للترجمة الألمانية للقرآن الكريم ـ: (اللغة العربية لغة موسيقية للغاية، ولا أستطيع أن أقول إلا أنها لغة أهل الجنة)
قام بعض المعارضين لتعليم اللغة العربية، وقال: لا بأس .. قد نسلم لكم بكل ما ذكرتم .. ولكن ألا ترون أننا الآن بحاجة إلى لغة حديثة، بدل اللغة العربية القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب؟
قال عبد المعز: إن ما ذكرته يتنافى مع ما يستدعيه النظر العلمي .. فاللغة التي استطاعت أن تحافظ على قوتها تلك المدة الطويلة هي اللغة الجديرة بأن نحافظ عليها، لأنها أثبتت قدرتها وغناها وكفايتها .. ألسنا في الواقع نمارس ذلك حين نعتبر نجاعة الدواء لفترة طويلة دليلا على جدواه؟
قال آخر (1): هناك أمر يجب أن نقطع به على وجه اليقين والجزم وهي أنه ما من لغة في العالم احتفظت بخصائصها اللغوية طوال خمسة عشر قرنا سوى العربية، ولم يكن ذلك ممكناً لولا نزول القرآن الكريم بها .. انظرو إلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر في مؤلفات ديكنز والصحف الصادرة آنذاك، وانظروا إلى لغة الصحف والروايات الإنجليزية اليوم، ولن أقول لكم: ارجعوا إلى لغة شكسبير في القرن السابع عشر فهي لغة أشبه بالميتة مثل اللاتينية فلا يستطيع أحد أن يفهمها ـ حتى من أهل بريطانيا ـ دون قاموس أو تفسير باللغة المعاصرة .. وهذا الاختلاف الكبير في الإنجليزية على مستوى الحروف والتراكيب يرجع لعدم وجود كتاب سماوي مثل القرآن الكريم يربط خيوط اللغة ويشدها له حتى لا تنفتل.
__________
(1) من مقال بعنوان: هل اللغة العربية هي أفضل لغات العالم؟، أبو الحجاج محمد بشير.
القرآن.. والبيان الشافي (1/45)
بعد أن استمعنا لكل تلك الأحاديث، قام عبد المعز، وقال: أريد من السادة الحضور، أعضاء الهيئة المحترمة أن يسيروا معي إلى جامعة خاصة، استطاعت أن تحقق نجاحات كثيرة في الواقع بسبب حرصها على اللغة العربية، وحرصها معه على القرآن الكريم.
قال بعض الحضور: لا شك أنها مهتمة بالأدب العربي .. أو الشعر الجاهلي .. أو شعر أبي نواس والمتنبي .. أو مقامات الحريري والهمذاني ..
ضحك الحضور، فقال عبد المعز: لا .. هي مختصة في الطب .. وقد استطاع أساتذتها وطلبتها وأطباؤها أن يثبتوا كفاءتهم في هذا المجال، بل أن يدعموا العلم بالكثير من البحوث المهمة التي لم يقم بعُشرها من ينتمون لجامعات تدرّس نفس تخصصها باللغات الأجنبية.
ركبنا مع عبد المعز حافلة أقلتنا إلى الجامعة الخاصة التي ذكرها، وقد رأينا عند دخولنا إليها الكتابات العربية وهي تزين أبوابها وجدرانها .. وكان منها وعلى رأسها قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]
وعندما سأل بعض الحضور المعارضين لتعليم العلوم باللغة العربية عبد المعز عن سر الآية ووضعها في جامعة متخصصة في الطب، قال: أنتم تعرفون آثار العقيدة في النفوس، وبعث الهمم .. وقد كانت هذه الآية الكريمة هي المحرك لهؤلاء الأساتذة لتعريب العلوم التي يدرسونها، ثم تطويرها، ثم اكتشاف أفضل المناهج لتدريس الطلبة بها.
لقد جمعوا بينها ويبن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، فعلموا أن اللغة التي
القرآن.. والبيان الشافي (1/46)
استطاعت أن تعبر عن حقائق الوجود الكبرى، لا تعجز عن التعبير عن أجزاء بسيطة من الكون.
بمجرد دخولنا إلى الجامعة طلب منا البواب أن نسير إلى قاعة خاصة تضم جمعا من الأساتذة والمسؤولين.
وهناك، وبعد جلوسنا قام بعض الأساتذة، وقال (1): للأسف .. لقد سمعنا في الآونة الأخيرة دعوات لتيارات خفية تحاول أن تقطع الطريق على دعاة تعليم الطب باللغة العربية في جامعتنا خشية أن تجد لها قبولاً في سائر الجامعات .. لأنهم يرون أنه إذا نجحنا في مهمتنا، فسنكون نموذجا يحتذي به غيرنا ..
لقد رأيت بعضهم يذكر قصور اللغة العربية عن اللحاق بمتطلبات العلم الحديث المتسارعة .. ورأيت آخر يندب حظ ذلك الطبيب الذي قطعته اللغة العربية عن مجالات البحث والاستفادة من التقانات الحديثة .. ورأيت آخر يذهب إلى أن تدريس الطب باللغة العربية يجب أن يسبقه ترجمة جميع المراجع الأجنبية إليها .. وإيجاد مؤسسات تقوم بترجمة جميع الدوريات العلمية العالمية إلى اللغة العربية لتأمين الاستفادة منها في متابعة تطور العلم.
وهم يرون جميعا أنهم بهذا يمكن صرف النظر عن مشروع تعريب تدريس الطب نظراً لعظم المهمة، بل تعذر القيام بها.
سكت قليلا، ثم قال: مهلاً أيها السادة ولننظر في الأمر قبل كل شيء من النواحي الوجدانية الشعورية التي باتت اليوم مهمشة بل مرذولة نضحَّي بها على مذبح التقدم والرقي .. كيف لا نشعر بالغضاضة والمرارة حين نرى لغتنا العريقة ـ وهي بدون شك أقدم لغة مازالت محكية في العالم ـ أصبحت لا تعتبر صالحة إلا لاحتياجات الحياة اليومية
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: لمَ التخُّوف من تعليم الطب باللغة العربية؟، د. روان المحاسني، جريدة المحجة، العدد 256.
القرآن.. والبيان الشافي (1/47)
والشؤون المعيشية والأخبار العامة، بالإضافة إلى ذلك الأدب الذي لا يهتم به إلا الخاصة، بعد أن غزت الفضائيات أدمغة الجيل الجديد وقولبت مشاعره؟
ثم كيف نقبل أن نرى العربي يرطن بإحدى اللغات الأجنبية فور التفاته إلى أي موضوع علمي أو تقني أو حتى حين يتطرق إلى أي موضوع فكري يرتبط بالحضارة المعاصرة؟
قام بعض المعارضين غاضبا، وقال: أرجو أن تطرح جانباً كل تلك النواحي العاطفية، وانظر إلى الأمر بنظرة مجردة عقلانية تزن الأمور بموازين ثابتة تتماشى مع متطلبات زماننا.
قال الأستاذ: لا بأس .. سأحدثك باللغة التي تشاء .. أجبني .. بل أجيبوني جميعا .. ما هي الغاية من تعليم الطب؟ .. أليست هي إيصال أفضل الخدمات في الميدان الصحي إلى أفراد المجتمع؟ .. فهل يجوز للطبيب الذي يحتم عليه عمله الاتصال بجميع طبقات الشعب أن يشعر بالاغتراب حين يتفاعل مع مرضاه باللغة العربية المشتركة بينه وبينهم فيعجز عن الحوار لأن دراسته كانت بلغة أجنبية؟ .. وهل يجوز أن يغلب التعالي على مسلك الأطباء في بلادنا فتراهم يحجمون عن الخوض في الموضوعات الطبية مع من لا يفهم اللغة التي يستعملونها؟
إن الطبيب ـ سادتي وأساتذتي ـ مسؤول عن نشر الثقافة الصحية وتعميق فهمها للجميع .. فهل يمكن أن يتحقق ذلك لطبيب يجهل لغته؟
قام بعض المعارضين، وقال: نراك تقصر الغاية من تعليم الطب على تخريج أطباء يقومون بتأمين خدمات الرعاية الصحية الأولية فحسب، على غرار الأطباء الحفاة الذين اشتهرت بهم الصين الشيوعية ..
القرآن.. والبيان الشافي (1/48)
قاطعه الأستاذ، وقال: لا .. على العكس .. نحن في هذه الجامعة نصرّ على ارتباط الخريجين بالمسيرة العلمية العالمية، وعلى ضرورة دخولهم مجالات الأبحاث، سواء أكانت وطنية أو عالمية من خلال ممارستهم .. هذا إلى جانب الذين يتابعون دراساتهم على المستوى الأعلى في بلادهم أو خارجها، بحيث يؤهلون أنفسهم للعمل كأخصائيين في التخصصات المختلفة وهم قادرون على متابعة التطورات العلمية العالمية دون الحاجة إلى وسطاء.
قام عبد المعز، وقال: مع احترامنا لكل ما ذكرت .. إلا أنا نريد منك أن تجيبنا على سؤال واحد، وهو: هل اللغة العربية ـ من خلال تجربتكم ـ صالحة لتعليم الطب؟
قال الأستاذ: سأجيبكم عن ذلك من خلال تجربتين .. قديمة وحديثة .. وأظن أن كليهما كاف لإقناعكم بما أقول.
قالوا: فحدثنا عن التجربة القديمة.
قال: لاشك أنكم سمعتم بتلك المؤلفات الطبية والعلمية الخالدة التي تداولها العالم كله شرقاً وغرباً طيلة قرون عديدة .. والتي لم تُكتب إلا باللغة العربية .. إن تلك المؤلفات هي نتاج علماء من أعراق مختلفة، كانوا ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية، وقد وجدوا في اللغة العربية الوعاء اللامتناهي الذي يستطيعون أن يقتطفوا منه ما يناسب احتياجاتهم في التعبير عن جسم الإنسان وما يطرأ عليه من حالات في الصحة والمرض .. إنها مؤلفات أنارت ظلام القرون الوسطى في أوروبا لأنها استوعبت في زمانها كل المعارف الطبية، ولذا بقيت تدرّس في الجامعات حتى مطلع القرن السادس عشر للميلاد.
أفلا يعني هذا أن هذه المؤلفات قد تعرضت بالضرورة لوظائف الأعضاء عند الإنسان، ووصفت الأجزاء التشريحية، وذكرت ما يطرأ على الجسم من خلل، وكل ذلك بلغة عربية قابل فيها كل مصطلح عربي مصطلحاً إغريقياً أو سريانياً بحسب المصادر التي
القرآن.. والبيان الشافي (1/49)
اعتمدوها؟
إن تلك الكتب التي دأب مؤلفوها على تصنيفها باللغة العربية تحتوي دون أي شك على مفردات طبية تكفي للتعبير عن الأمور الأساسية المتعلقة بجسم الإنسان، فلا نحتاج اليوم إلى وضع التسميات للمريء أو البلعوم أو الأمعاء أو الأعضاء الأخرى، ولا إلى وصف ما يعتري الجسم من حالات كالحمى والإسهال وغير ذلك.
قام بعض المعارضين، وقال: إن ما تذكره ينطبق على العصور الغابرة، وهو لا يتعدى البدائيات .. فأين طب اليوم من طب ابن سينا والرازي والزهراوي؟ .. وكيف لنا أن نتصور اللغة العربية قادرة على استيعاب العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى آلاف المصطلحات؟
قال الأستاذ: أنت بسؤالك هذا تسلّم لي بنجاح التجربة القديمة، وتدعوني إلى ذكر التجربة الحديثة .. لا بأس .. سأذكر لك تجربتنا في ذلك .. والتي بدأت منذ فترة طويلة، ومع إمكانيات قليلة إلا أننا حاولنا مع كل الغيورين من الأطباء والأساتذة العاشقين للغة القرآن الكريم أن نوفر كل ما نحتاجه من المصطلحات الطبية العربية اللازمة لمتابعة تطور العلوم ونقل المعلومات الحديثة إلى الطلاب، مستعينين في ذلك بما أقرته مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد وغيرها .. وبذلك أوصلنا لغة طبية مصقولة بالاستعمال اليومي قادرة على التجاوب مع متطلبات العلم الحديث.
قام بعض المعارضين، وقال: لا بأس قد نسلم لك بهذا .. لكنه يظل محصورا في البيئة المحدودة التي تعمل فيها هذه الجامعة .. وهي بيئة لا يمكن تعميمها .. فأنا لا أتصور أبدا أن هناك من يدرس الطب باللغة العربية .. عقلي لا يستسيغ ذلك.
قال الأستاذ: لقد ذكرت لكم أن المشكلة مشكلة نفسية، غرسها فينا أعداؤنا من المستكبرين الذين لم يكتفوا بإقناعنا بتخلفنا، وإنما أقنعونا أيضا بأن لغتنا أدنى من لغتهم ..
القرآن.. والبيان الشافي (1/50)
مع أن أجدادهم لم يدرسوا العلوم إلا بلغتنا.
قام أستاذ آخر، وقال (1): ائذن لي أن أجيبك من واقع تجارب قمت بها أنا وبعض رفاقي .. لقد قمنا بإجراء تجربة (2) على مجموعتين من الطلاب، تقرأ المجموعة الأولى نصاً طبياً باللغة العربية، بينما تقرأ المجموعة الأخرى نصاً مماثلاً باللغة الإنكليزية .. وقد تبين وجود بون شاسع بين المجموعتين من حيث الوقت اللازم لإنجاز تلك القراءة .. فقد كان متوسط ما أمكن لهم قراءته باللغة العربية 110 كلمات في الدقيقة بينما كان متوسط ما أمكن قراءته باللغة الإنكليزية 77 كلمة في الدقيقة، وبذلك تكون سرعة القراءة باللغة العربية تزيد 43 بالمائة عنها بالإنكليزية.
ثم أجريت تجربة تكميلية تستقصي مدى استيعاب الطلاب لما قرؤوه بعد أربع ساعات من قراءة المقال، وذلك عن طريق أسئلة متعددة الخيارات بنفس اللغة التي تمت قراءة المقال بها .. وهنا كذلك وجدت زيادة تقدر بـ 15 بالمائة لمصلحة القراءة بالعربية.
وقد استنتجنا من هذا أنه إذا كانت سرعة القراءة تشير إلى الجانب الكمي لعملية التحصيل؛ فإن القدرة على الاستيعاب تعكس الجانب الكيفي لها .. وبذلك يتبين أن التحسن في التحصيل العلمي باللغة العربية يفضل التحصيل العلمي باللغة الإنكليزية بما يزيد على 50 بالمائة.
قام أستاذ آخر، وقال: أحب أن أضيف إلى ما ذكره زميلي، أنني وبعض رفاقي بحثنا في اللغة المستعملة في كتب الطب بأي لغة من اللغات؛ فوجدنا أنها لغة سردية عادية، تكتفي بالوصف والتوضيح والتسلسل في الأفكار .. وقد قمنا بعدة إحصاءات لتحديد نسبة ما في
__________
(1) انظر: تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية، نادي المنطقة الشرقية، د. زهير السباعي، ص 83 ـ 84 ـ 85.
(2) هذه التجربة أجريت في جامعة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية بإشراف الأستاذ الدكتور زهير السباعي.
القرآن.. والبيان الشافي (1/51)
تلك الكتب من مصطلحات علمية طبية خاصة .. وقد بينت تلك الإحصاءات أن عدد المصطلحات في النصوص العلمية يتراوح بين 3.3 إلى 10 بالمئة حسب نوع التخصص .. أي أن المتن هو من النثر العادي، ولو بلغة أرفع من لغة التخاطب اليومي، وهو مرصع بالمصطلحات العلمية ضمن السياق الموضح للفكرة .. وذلك ما يسهل على الطالب العربي أن يستوعب تلك المادة العلمية مكتوبة ومشروحة بلغته.
قال آخر: بالإضافة إلى ما ذكره زميلاي؛ فقد وجدنا أن أكثر البحوث الطبية متعلقة بحالات مرضية مألوفة كنقص الشهية للطعام، أو اختلاف وزن المريض زيادة أو نقصاناً، أو تتناول تسرع دقات القلب وما يشعر به المريض من الخفقان، أو أنها تتوخى تفسير ارتباط الأعراض التي يشكو منها المريض، وجميع هذه الموضوعات لا تتطلب إلا القليل من المصطلحات الطبية الدقيقة.
قال آخر: وقد يسر علينا الأمر أن السياسة التعليمية المتفق عليها في البلاد العربية قد جعلت التدريس في المدارس الثانوية باللغة العربية، وهذا ما يشمل العلوم والرياضيات والأحياء وغيرها .. وبذلك؛ فإن الطلبة لم يشعروا بما يشعر به غيرهم ممن يجدون التعليم الجامعي مختلفا تماما عن كل ما درسوه في المراحل السابقة.
قال آخر: لقد كنت أدرس في كلية طبية تدرس باللغة الإنجليزية، وقد لاحظت أن التدريس بها بمثابة اغتراب حقيقي للطالب حين يقوم باستجواب مريضه عن شكواه وأعراض مرضه باللغة العربية، ويكتب مشاهدته باللغة الإنكليزية، ثم يلتفت إلى أستاذه لينقل إليه أقوال المريض مترجمة إلى اللغة الإنكليزية، وكأن الأستاذ أجنبي لا علاقة له باللغة العربية .. وعندئذ تتجلى الصعوبة التي يعاني منها الطالب في شرح أعراض بسيطة لأستاذه، كفتور الهمة، أو ضيق الصدر، أو إحساس بالنفخة في البطن، أو النمَل في الأطراف، أو زيغ
القرآن.. والبيان الشافي (1/52)
البصر .. وغيرها من الأمور التي لا تخرج عن كونها من الكلام العادي إذ أن المريض الإنكليزي لا يصف أعراضه بلغة طبية، بل بلغة حياته اليومية .. لكن كل هذه الإشكالات زالت بحمد الله بعد التحاقي بهذه الجامعة الخاصة.
قال آخر: وقد لاحظت كذلك خلال تدريسي سابقا في كلية طبية تدرس باللغة الإنجليزية أن الطالب يتعثر في فهم الكثير من الكلمات الإنكليزية لعدم تمكنه من ردها إلى أصلها ومعرفة اشتقاقها .. ذلك أن الطالب لم يدرس الإنكليزية دراسة لغوية صحيحة، بل درسها كوسيلة لتحصيل المعلومات المطلوبة، ولهذا فهو يحتاج لمن يشرح له أن كلمة Oval أو Ovoid تعني الشكل البيضوي لأنه لا يعرف أنها مشتقة من Ova اللاتينية .. وكيف لنا أن ننتظر من الطالب أن يميز بين Ambiguous و Uncertain و Equivocal و Controversial و Contradictory حين ينظر في نتائج أي بحث أو استقصاء طبي إذا لم نشرح له أنها تمثل الفروق بين ما هو [ملتبس] وما هو [مثير للجدل] وما هو [متناقض] وما هو [غير مؤكد] أو [مشتبه] فهو يحفظ تلك الكلمات دون أن يفهم تركيبها.
قال آخر: أجل .. وقد وجدت مثلكم أن الطالب العربي الذي لم يدرس اللغة الإنكليزية بشكل جدي قبل دخوله كلية الطب يصبح انخراطه في تحصيل علمي لا يملك الأداة التي تفتح أبوابه يهدر الكثير من وقته .. وتبين لي أن التدريس باللغة العربية يمثل اقتصاداً كبيراً في وقت الطالب الذي يبذل في دراسة صفحة واحدة باللغة الإنكليزية أضعاف ما تتطلبه مثيلتها بلغته الأصلية، وهو جهد يصرف معظمه على إسقاط الصعوبات اللغوية.
قال آخر: بالإضافة إلى ما ذكرتم وجدت أثناء تدريسي في كلية طبية تدرس باللغة الأجنبية أن الحاجز اللغوي يحول دون قيام حوار مفتوح بين الطالب والأستاذ بحيث يبقى
القرآن.. والبيان الشافي (1/53)
الطالب مستمعاً مستقبلاً للمعلومات لا يجرؤ على مناقشة الحالات المعروضة وهذا ما يفسد العملية التعليمية.
قال آخر: أرجو ألا يفهم زوارنا الأكارم أعضاء الهيئة المحترمين أننا نطلب بمقاطعة اللغات الأجنبية مقاطعة تامة .. نحن لا نقصد هذا، ولم نطبقه في جامعتنا .. فالانفتاح على المعارف يقتضي التعرف على لغاتها .. ولذلك نضع في المقررات التي ألفناها أو ترجمناها المصطلح الأجنبي إلى جانب المصطلح العربي، بحيث يرتبط ذلك المصطلح بما يفهمه الطالب من النص العربي.
وحرصاً على فتح المجال أمام الطلاب للإطلاع على المراجع الأجنبية ومتابعة التطورات الحديثة فقد أشرفنا على برنامج لتعليم اللغات الأجنبية للتمكن من الاطلاع مباشرة على المراجع الأجنبية، والمساهمة في الكتابة بها أو الترجمة .. وقد قام بهذا مدرسون من كلية الآداب .. وهو برنامج يمتد سنوات معدودة يصل الطالب في نهاية الدراسة، وقد استوعب الطب بلغته الأصلية، وأضاف إليه اللغات التي تؤهله للاستزادة من المراجع الأجنبية بعد أن تغلب على الصعوبات اللغوية بفضل هذا التدريس الموجه إلى معرفة اللغة والتأكد من المصطلحات.
قال آخر: لقد استطعنا بهذا الإجراء أن نجعل طلبتنا غير معزولين عن الحركة العلمية في العالم، ذلك أنهم يطالعون الدوريات الطبية، بل يساهمون بمنشوراتهم فيها .. بل شارك الكثير من الخريجين من جامعتنا في مؤتمرات علمية عالمية.
قال آخر: وهذا ما تقوم به الكثير من الدول المتطورة .. فهم يدرسون الطب بلغتهم الأصلية، ثم يتابعون مسيرة العلم باللغة الإنكليزية، باعتبارها اللغة الغالبة في عصرنا .. ولذا فإننا حين ندعو إلى تعليم الطب باللغة العربية ليس ذلك من منطلق تعصبي، بل
القرآن.. والبيان الشافي (1/54)
لتسهيل وصول المعلومات إلى الطالب بشكل مفهوم، ولضمان مشاركته في عملية التعلم ولإزاحة كابوس ينوء تحته أبناؤنا ويضيع عليهم فرصاً ثمينة في سياق دراستهم.
بعد انتهاء دعاة تدريس العلوم باللغة العربية من حديثهم، قام بعض المعارضين من الهيئة المسؤولة عن تطوير العلوم، وقال: بورك فيكم جميعا .. لا أدري كيف أصف لكم شعوري، وأنا أسمع منكم تلك الأدلة والشهادات والتجارب الدالة على قدرة اللغة العربية على اقتحام كل المجالات .. وحُق لها ذلك؛ فاللغة التي استطاعت أن تعبر عن حقائق الوجود، وقيم الحضارة، لن تعجز عن مواكبة كل تطور .. وأنا الآن أتشرف بأن أتحول إلى أحد الدعاة إلى ما تدعون إليه، وقد تخليت عن كل دعواتي السابقة، وأستغفر الله منها .. فقد كنت أحارب لغة القرآن الكريم من حيث لا أشعر.
قام آخر من المعارضين: اسمحوا لي أن أذكر لكم سرا، وأرجو أن يظل بيننا .. نعم أنا كنت أدعو إلى تعليم العلوم باللغات الأجنبية .. ولم أكن مقتنعا بذلك أبدا .. ولكن الطمع وحب الجاه هو الذي ألجأني إلى ذلك .. لقد ذهبت مرة إلى مؤتمر من المؤتمرات خارج بلدي .. وهناك تم اصطيادي بشبكات المال والجاه، لأتحول إلى داعية للأجانب في بلدي .. وأنا الآن قد تبت من ذلك .. وسأعلن توبتي على الملأ .. وسأصبح داعية إلى ما تدعون إليه.
قام ثالث، وقال: وأنا على مذهبكم .. وقد جربت ذلك مع أولادي .. فأنا وإن كنت في الخارج أمام الملأ أدعو إلى تعليم العلوم باللغة الأجنبية إلا أني كنت إذا ما خلوت مع أولادي أشرح لهم تفاصيلها باللغة العربية، لأني قد رأيت صعوبة فهمهم لتلك العلوم بغير لغتهم الأصلية.
قام آخرون من المعارضين، وقالوا مثل هذه الأقوال، أو ما هو قريب منها .. وانفض الجمع بعد ذلك، وهم فرحون بما توصلوا إليه من نتائج ..
القرآن.. والبيان الشافي (1/55)
أشار إلي عبد المعز، وهو يقول: لا تنس أن تكتب كل ما رأيت وسمعت .. وأخبر قومك أنهم لن يعزوا حتى تصبح اللغة العربية عزيزة بينهم .. ولن يتقدموا حتى يقدموها على كل لغات العالم .. ولن يتطوروا حتى ينظروا إليها باعتبارها لغة التطور والتقدم، وفي كل المجالات .. ولن يتم لهم ذلك جميعا إلا بالتقرب منها وحبها .. لا لذاتها، وإنما لكونها الوسيلة التي عُبر بها عن كلمات الله المقدسة .. فلولاه لم تكن شيئا مذكورا.
القرآن.. والبيان الشافي (1/56)
ثانيا ـ القرآن .. والدقة والضبط
ما إن قال لي عبد المعز هذا، حتى وجدتني أمام مدرسة عتيقة، قد التف طلبتها حول شيخ يبدو عليه الوقار والهيبة على الرغم من ملابسه البسيطة، بل الرثة التي كان يرتديها .. لكن طلبته مع ذلك كانوا يبجلونه غاية التبجيل، بل يكتبون كل كلمة يقولها، أو إشارة يشير بها.
بينما كنت أنظر إليهم من بعيد متعجبا، إذا بشخص يقول لي: عجبا لك، ولهمتك الدنية، تأتيك الفرصة سانحة لتجلس بين يدي نابغة زمانه في العلم والذوق، والدقة والضبط، والتحقيق والإتقان، والإجادة والإحسان، والإحكام والبراعة، والبروع والحذاقة، والحذق والمهارة، ثم تعرض عنه، وكأنك لم تره.
قلت: معاذ الله أن أعرض عنه .. ولكني متعجب منه، ومن التلاميذ المحيطين به.
قال مبتسما: ومن ثيابه الرثة البالية.
قلت: أجل .. أليس بوسع هؤلاء التلاميذ المحبين أن يجمعوا له من المال ما يشتري به ثيابا جديدة سليمة؟
قال: هذا رجل زاهد في كل متاع الدنيا .. ولو أذن لنا أو لأغنياء بلدتنا لاشتروا له الحلي والحلل، وأسكنوه بدل كوخه الحقير القصور الفخمة، ولكنه يرغب عن ذلك .. ولا يقبل من عطايا الأمراء والوزراء، فكيف يقبل عطايا تلاميذه وطلبته؟
قلت: لكن ألم يمنعه علمه عن تقشفه وتضييقه على نفسه؟ .. ألم يسمع بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]؟
القرآن.. والبيان الشافي (1/57)
قال: بلى .. هو سمعها، وسمع معها قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]
قلت: ولكن الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وليس لأمته.
قال: لقد ذكر لنا أنه سمع معها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]
قلت: فكيف لم تطلبوا منه أن يجمع بين الآيات الكريمة؟
قال: لقد جمع بينها من غير أن نطلب منه .. فذكر لنا أن الرخصة في التمتع بالزينة، والكمال في الزهد فيها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: ولكن لا أرى تلاميذه يقتدون به في هذا.
قال: هو ينهاهم عن ذلك.
قلت: لم .. أينهى عما يفعل؟ .. ألم يسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]؟
قال: معاذ الله أن يكون كذلك .. عندما طلبنا منه أن نتأسى به في ذلك غضب غضبا شديدا، وقال: الله أمركم بالتأسي بنبيه .. لا بي .. ثم قال لنا: عندما تتذوقون من القرآن الكريم ما أتذوقه، وتلبسون من حليه ما ألبسه .. حينها يمكنكم أن تفعلوا بأنفسكم ما تشاؤون .. ثم ذكر لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم جوابا لمن سأله عن الوصال: (إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني)(1) .. ثم ذكر لنا أن الحلاوة التي يجدها في القرآن الكريم تجعله يزهد في كل ما سواه.
قلت: إن حديثك عنه رغبني فيه كثيرا .. فليتني أجد في علمه ما وجدته في زهده.
__________
(1) البخاري، (3/ 37)، ومسلم (2/ 774)
القرآن.. والبيان الشافي (1/58)
قال: ستجد في علمه ما ينسيك زهده .. فلولا علمه ما كان زهده.
ما إن جلست في حلقته، حتى سمعت بعض التلاميذ يقول ـ مخاطبا الشيخ ـ: مولانا .. هلا حدثتنا عن أسرار البيان القرآني المرتبط بدقة كلماته وضبطها، وكونها في المحال الخاصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]
قال الشيخ (1): بورك فيك، وفي سؤالك الوجيه، وفي استدلالك بالآية الكريمة؛ فلا يمكن أن يكون القرآن الكريم محكما ومفصلا ما لم يشمل ذلك الإحكام والتفصيل كل أجزائه .. وأولها كلماته .. ذلك أن الكلمات هي اللبنات التي يتشكل منها كل كلام.
ولذلك نرى اهتمام القرآن الكريم بدقة الكلمات، ودلالتها على المراد منها، وقد نبه إلى ذلك عند دعوته لانتقاء الكلمات واختيارها قبل التفوه بها .. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104]، فقد نهت الآية الكريمة المسلمين أن يقولوا: {راعنا} لأن هذه الكلمة كانت لليهود كلمة مثلها يستعملونها في السب، وأصلها كلمة عبرانية معناها (أحمق)، فلما سمع اليهود المسلمين يقولون هذه الكلمة افترصوها، ومن هنا ورد النهي عنها وجيء لهم بلفظ يعدله في المعنى لا شُبهة فيه لأحد، وهو {أنظرنا} لعدم التشبه باليهود فيما يقولون، ولكى يسد عليهم منافذ الطعن والسباب .. فالخطأ ـ هنا ـ مُلاحَظ فيه تنزيه مخاطبات المسلمين عما يردده أعداؤهم من اليهود مما له معنى مشين.
__________
(1) انظر: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية (1/ 252)
القرآن.. والبيان الشافي (1/59)
ومثل ذلك قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]، فالخطأ في قول الأعراب: {آمَنا} لأن اللغة والشرع يفرقان بين معنى اللفظين، فالإيمان الذي اشتقوا منه الفعل {آمَنا} مطلوب في تحقيقه أمران: نطق باللسان، وتصديق بالقلب ليواطئ القول الاعتقاد، وهم لم يكونوا كذلك لأن نصيبهم من الشريعة حين ادعوا ذلك لا يجاوز القول باللسان والمتابعة الظاهرين بدليل: {وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ في قُلوبِكُمْ}، وحالهم هذه ينطبق عليها معنى الإسلام ـ الذي اشتق القرآن منه في توجيههم {أسلمنا} ـ إذ هو حقيقة الامتثال الظاهري للشريعة من قول أو عمل، لذلك وجههم الله تعالى إلى أن يقولوا قولاً مطابقاً لحالهم وهو {أسلمنا}
قال التلميذ: فهلا حدثتنا عن أسرار كلمات القرآن، ودلالاتها على إعجازه.
قال الشيخ (1): أين أنا ـ يا بني ـ وإدراك أسرار كلمات القرآن، فهي مثل القرآن الكريم تماما لا حدود لها، ولا طاقة لأحد بالإحاطة بها، ذلك أنه من المتعذر أن ينهض لبيان ذلك شخص واحد، ولا حتى جماعة في زمن ما، مهما كانت سعة علمهم واطلاعهم، وتعدد اختصاصاتهم .. ذلك أن القرآن الكريم أكبر من أن يحيط به أي زمان؛ فهو مفتوح للنظر والتدبر، ولكل الأجيال .. ولهذا يجد كل جيل فيه ما لم يكن يخطر على من قبله على بال.
ومن الأمثلة على ذلك، ومن واقع تجربتي مع الكلمة القرآنية، أني سمعت وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصح استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما تبين لغيرهم من المهتمين بالجوانب
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل السامرائي (5)
القرآن.. والبيان الشافي (1/60)
الفنية والجمالية.
ومثل ذلك قرأت وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما ذكره علماء البلاغة .. فألفاظه مختارة في منتهى الدقة العلمية، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره القرآن الكريم من مراحل تطور الجنين في الرحم، وهي التي انتهى إليها العلم مما لم يكن معروفاً قبل هذا العصر مما دعا علماء أجانب إلى أن يعلنوا إسلامهم .. وليس ذلك فقط، بل إن في اختيار التعبير بـ (العلقة) و (المضغة) مثلاً أعجب اختيار علمي (1).
فاختيار التعبير بـ (العلقة) مثلا، اختيار له دلالته، لأن الجنين في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة، وهي الطفيلية المعروفة .. ومثل ذلك التعبير بـ (المضغة)؛ فهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ .. وقد أثبت العلم الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية، بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيار علمي دقيق .. فهو لم يقل [قطعة لحم صغيرة]، ولو قال ذلك لكان صواباً، ولكن قال: (مضغة) لما ذكرتُ، وربما لغيره أيضاً مما قد يكشف عنه مستقبلا.
ومثل ذلك قرأت ما توصل إليه علم التاريخ، وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام، وأدق الأخبار، ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان .. فالذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمة كلمة، ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن البتة.
ومثل ذلك قرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة
__________
(1) ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب: القرآن كلمة الله.
القرآن.. والبيان الشافي (1/61)
موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدق ترجمة لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيما إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملك غير المصري الأصل كانوا يسمونه (الملك)، والمصري الأصل يسمونه (فرعون)، وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك)، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون)، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة.
وهكذا قرأت الكثير من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم، كما في أسرار البحار، والضغط الجوي، وتوسع الكون، وبداية الخلق، ما دعا كثيراً من الشخصيات العلمية إلى الشهادة للقرآن بذلك، بل فيهم من أعلن إسلامهم بعد أن رأى آيات الله واضحة متجلية أمامه.
بل إني وجدت أثناء بحثي في هذه المسائل أن هناك أموراً لم يكن من الممكن معرفتها من غير صعود في الفضاء واختراق الغلاف الجوي للأرض، ومع ذلك أشار إليها القرآن الكريم إشارات في غاية العجب .. ذلك أن الإنسان إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم، ولم تُر الشمس إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل .. فالنهار الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدود الغلاف الجوي فإن تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فإذا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] .. فالآية الكريمة تصور النهار بصورة الجلد الذي يُسلخ، وأما الليل؛ فهو الأصل، وهو الكل؛ فشبّه الليل بالذبيحة، والنهار جلدها، فإن سُلخ الجلد ظهر الليل فجعل النهار غلافاً، والليل هو الأصل.
ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ
القرآن.. والبيان الشافي (1/62)
يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15] .. أي لو مكنّاهم من الصعود إلى السماء لانتهوا إلى ظلام وقالوا {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}، وهو ما دل عليه الواقع العلمي الحديث، بعد ارتياد الفضاء.
وبناء على هذا كان البحث في الكلمة القرآنية، كالبحث في القرآن الكريم جميعا، متشعب الاتجاهات، ولذلك ذكرت لكم أن الأمر أكبر من أن ينهض له واحد أو جماعة في زمن ما .. فلكل زمان فتوحه الخاصة به، كما يشير على ذلك قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]
قال التلميذ: هل تقصد من هذا أن اختيار كلمات القرآن الكريم روعيت فيه كل النواحي، لا الجمالية فقط، والتي يهتم بها عادة علماء البلاغة .. أو معناها الظاهري والتي يهتم بها المفسرون أو علماء المفردات القرآنية؟
قال الشيخ: أجل .. فبالتدبر في الكلمات القرآنية تجدون إعجازاً لغوياً جمالياً، وفي الوقت نفسه إعجازاً علمياً، أوإعجازاً تاريخياً، أو إعجازاً نفسياً، أو إعجازاً تربوياً، أو إعجازاً تشريعياً، أو غير ذلك من أنواع الإعجاز التي لم تفتح أبوابها بعد.
ولهذا، يأتي اللغوي ليبيّن مظاهر إعجازه اللغوي، وأنه لا يمكن استبدال كلمة بأخرى، ولا تقديم ما أُخّر ولا تأخير ما قُدّم، أو توكيد ما نُزع منه التوكيد أو عدم توكيد ما أُكّد .. ويأتي العالم في الطب ليقول من وجهة نظر تخصصه ما هو ألطف وأدق مما يقوله اللغوي .. ويأتي عالم الشريعة ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التشريع والقانون .. ويأتي المؤرخ ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التاريخ .. ويأتي صاحب كل علم ليقول مثل ذلك من وجهة نظر علمه.
القرآن.. والبيان الشافي (1/63)
قال التلميذ: ما دام الأمر كذلك .. فلم يعبر علماء البلاغة عما اكتشفوه بأنه هو عين الإعجاز القرآني؟
قال الشيخ: إعجاز القرآن الكريم لا يمكن الإحاطة به .. ولهذا؛ فإننا على ضوء تخصصنا في علوم البلاغة والبيان قد نشير إلى مواطن الفن والجمال في هذا التعبير الفني الرفيع، ونضع أيدينا على شيء من سُمو هذا التعبير، ونبيّن إن هذا التعبير لا يقدر على مجاراته بشر، بل ولا البشر كلهم أجمعون، ومع ذلك لا نقول إن هذه هي مواطن الإعجاز، ولا بعض مواطن الإعجاز، وإنما هي ملامح ودلائل تأخذ باليد، وإضاءات توضع في الطريق، تدل السالك على أن هذا القرآن كلام فني مقصود وُضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً محكماً فريدا، لا يشابهه كلام، ولا يرقى إليه حديث، كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33 - 34] .. أما شأن الإعجاز فهيهات، فهو أعظم من كل ما نقول، وأبلغ من كل ما نصف وأعجب من كل ما نقف عليه من دواعي العجب.
قام تلميذ آخر، وقال: وعينا ـ مولانا ـ ما ذكرته لنا، ونحن نعلم صعوبة ما طلبناه، ولكنا مع ذلك لا نكلفك إلا ما آتاك الله من طاقة ووسع .. وفي حدود تخصصك العلمي الذي نتتلمذ عليك فيه .. ولهذا نرجو أن تذكر لنا بعض الأمثلة عن عجائب الدقة والضبط في الكلمات القرآنية.
قال الشيخ: ذلك لكم .. اسألوا عما تشاؤون، وسأجيبكم في حدود طاقتي وعلمي.
قال التلميذ (1): لقد حاولت مع أربعة من زملائي أن نفهم الأسرار المودعة في الكلمات القرآنية؛ فوجدنا أن ذلك يقتضي منا علوما نتدرب عليها .. وأولها التعرف على سر
__________
(1) استفدنا الكثير من المادة العلمية هنا من كتاب: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، (ص 261)
القرآن.. والبيان الشافي (1/64)
مادة الكلمة، أي معناها الذي يستفاد من مادتها .. وثانيها التعرف على سر هيئة الكلمة، أي معناها المستفاد من هيئتها .. وثالثها التعرف على سر حروف المعاني وأدوات الربط التي تربط بين الكلمات .. ورابعها التعرف على سر تعريفها بأي نوع من أنواع التعريف، أو سر تنكيرها .. فهل لك أن تجيبنا أستاذنا على ما أشكل علينا أثناء بحثنا في هذا.
قال الشيخ: لكم ذلك .. فسلوا ما شئتم.
قال التلميذ: اسمح لي أستاذنا أن أبدأ أنا بالسؤال عن مجموعة آيات كريمة، أريد أن تذكر لي فيها ملاءمة كلماتها لسياقها الذي وردت فيه.
قال الشيخ: لك ذلك .. فسل ما بدا لك.
قال التلميذ: ما السر في محل اسم الله تعالى {الرَّحْمَنَ} في قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] .. ذلك أن اسم {الرَّحْمَنَ} لا يتلاءم في الظاهر مع الخشية، وانما يكون التلاؤم ظاهرا لو قال: من خشي الجبار أو القهار .. فكيف قرن بالخشية اسمه تعالى {الرَّحْمَنَ} الدال على سعة الرحمة؟
قال الشيخ (1): ذلك للثناء البليغ على الخاشي، وهو خشيته مع علمه أنه واسع الرحمة، كما أثنى عليه في موضع آخر بأنه خاش مع علمه أن المخشي منه غائب، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]؛ فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات.
قال التلميذ: أبهذا يفسر أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] .. وهل هي من جنس ما يروى عن الإمام علي أنه صاح بغلام له كرات فلم يلبه،
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 310309.
القرآن.. والبيان الشافي (1/65)
فنظر فإذا هو بالباب فقال له: مالك لم تجبنى؟ فقال: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه .. أو من جنس قولهم: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه؟
قال الشيخ: لا .. فالآية الكريمة تعني أن الإنسان العاقل العارف بالله هو الذي لا يغتر بتكرم الله عليه، فيتصور أنه سيعفيه من التكاليف التي كلف بها، مثلما حصل لصاحب الجنتين عندما قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في التعبير عن الفساد بعدم الصلاح في قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، فلم لم يقل: إنه عمل فاسد؟
قال الشيخ (1): لما نفى الله تعالى الولد عن أن يكون من أهل نوح عليه السلام نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقي معها لفظ المنفى، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهله وأقاربه .. وهو يعني بهذا أنه لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوته، كقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] .. ولهذا الرمز الخفي يصف الله تعالى يوم القيامة بأنه عسير، ثم يصفه بأنه غير يسير على الكافرين، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10]
قال التلميذ: فلماذا قال: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] ولم يقل (عامل غير صالح)؟
قال الشيخ (2): بما أن المراد أنه كان مبطنا للكفر ومظهرا للإيمان، والمنافق أشد من
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 312.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 14/ 147.
القرآن.. والبيان الشافي (1/66)
الكافر، فهو إذا قد بلغ من الفساد إلى حد صار عملا غير صالح، لا عاملا غير صالح، على حد قول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وبتعبير آخر: إن صلة الابن بنوح عليه السلام لما كانت صلة جسمانية لا صلة روحية، فلا يعد مثل هذا ولدا أو أهلا حقيقة.
قال التلميذ: فلم قال الله تعالى له: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]، أي لا ينبغي لنوح عليه السلام أن يسأل ما ليس له به علم، مع أن شأن المؤمن أن يسأل ما ليس له به علم؛ فالسؤال عما لا يعلم لغاية تحصيل العلم، ليس عيبا، فلماذا خاطبه سبحانه بهذا، مع أن الله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]
قال الشيخ (1):: السؤال عما لا يعلم شأن المؤمن بشرط أن لا يكون ممزوجا بالاعتراض، فلما كان سؤاله عنه ممزوجا به، خاطبه سبحانه بوجه يتضمن العتاب الخفيف، وقال: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]
قال التلميذ: ألا ترى شيخنا أن لازم قوله تعالى لنوح عليه السلام: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] أن النبي نوحا عليه السلام كان منهم أو واقعا في عتبتهم، وهو لا يناسب شأن الأنبياء المعصومين عليهم السلام؟
قال الشيخ (2): الجهل تارة يطلق في مقابل العلم، وأخرى في مقابل الحكمة، فبما أن سؤال نوح عليه السلام كان خارجا عن حدود الحكمة، خاطبه سبحانه أن لا يكون من تلك الزمرة الذين لا توصف أفعالهم بالحكمة؛ وذلك لأنه بعد ما كان عالما بأن الله عالم حكيم، فلازم ذلك ترك السؤال لأن غرقه كان عدلا وحكمة، فيكون سؤاله خارجا عن
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 14/ 148.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 14/ 148.
القرآن.. والبيان الشافي (1/67)
حدود الحكمة .. بالإضافة إلى هذا، فإنه يمكن تقدير العبارة بـ (أعظك كراهة أن تكون من الجاهلين)، وليس في ذلك وصف له بالجهل، بل فيه ملاطفة وإكرام.
قال التلميذ (1): فما تقول شيخنا فيما ذكره بعضهم من اعتبار سؤال نوح عليه السلام ما سأله لابنه خطأ في الاجتهاد، وأن مثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن، بما يصعدون به في معارج العرفان.
قال الشيخ (2):لا شك أن علم الأنبياء عليهم السلام يزيد يوما بعد يوم، وهذا هو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يطلب من الله سبحانه زيادة العلم، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وهو أمر لا حرج فيه، وليس ثمة ما يمنع من أن يكون الواقع مستورا عن نوح عليه السلام لتظاهر ابنه بالإيمان .. أما اعتبار الأنبياء عليهم السلام مخطئين في الاجتهاد في بعض الأوقات، فهذا أمر غير جائز، لأن تسرب الخطأ في الاجتهاد يورث الشك عند الناس في سائر ما يرويه ويحكيه من الوحي، وليس الناس حكماء فيفرقوا بين تلاوة الوحي وممارسة شيء خارج عن مجال الوحي، حتى لا يضر التخلف في الثاني بالعصمة في الأول.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما فائدة قوله تعالى: {غَيْرُ يَسِيرٍ} مع أن {عَسِيرٌ} مغن عنه، وذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10]؟
قال الشيخ (3): لما قال تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ} فقصر العسر عليهم، قال: {غَيْرُ يَسِيرٍ} ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد
__________
(1) تفسير المنار:12/ 86.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 14/ 149.
(3) الكشاف ج 4 ص 517.
القرآن.. والبيان الشافي (1/68)
الكافرين وزيادة غيظهم، وبشارة المؤمنين وتسليتهم .. ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجع يسيرا، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في وصف الله تعالى القرآن الكريم بقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2] .. حيث جمع بين نفي العوج واثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الآخر؟
قال الشيخ (1): فائدته التوكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، لكنه مع ذلك لا يخلو من العوج عند السبر والتصفح.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في كلمة {عِوَجاً} في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107] .. مع أنهم قالوا: إن العِوج بالكسر في المعاني، والعَوج بالفتح في الأعيان، والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟
قال الشيخ (2): اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون .. ذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها عوج قط، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسى .. ولهذا نفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالمقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لمّا لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل {عِوَجاً}
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 548.
(2) الكشاف ج 3 ص 69.
القرآن.. والبيان الشافي (1/69)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في تعبير القرآن الكريم بكلمة {سِيقَ} في جانب الكافرين وسوقهم إلى جهنم زمرا، وفي جانب المؤمنين وسوقهم إلى الجنة زمرا في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]، وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73]؟
قال الشيخ (1): المراد بسوق أهل النار طردهم اليها بالهوان والعنف، كما يُفعل بالمجرمين إذا سيقوا إلى حبس أو قتل .. والمراد بسوق أهل الجنة، سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وحثها إسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين، فشتان ما بين السوقين.
قال التلميذ: السَّوق يستعمل فيما إذا لم تكن للمسوق فيه رغبة لسوء المسوق إليه، وعلى ذلك فما وجه استعمال اللفظ نفسه في سَوق المتّقين إلى الجنّة زمراً؟
قال الشيخ (2): الظاهر أنّ الوجه هو المشاكلة التي هي من المحسّنات البديعية، ومنها قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] بالإضافة إلى ذلك فإن الله تعالى ذكر أن كيفية سوق المؤمنين إلى الجنّة تختلف عن كيفية سَوق المجرمين إلى الجحيم، بأمرين .. أولاهما أنّ أبواب جهنم كانت مغلقة إلى زمان مجيء الكافرين، فإذا وصلوها فُتحت في وجوههم؛ بخلاف أبواب الجنّة فإنّها كانت مفتوحة قبل مجيء المتّقين تكريماً وتجليلاً لهم، حيث قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، والظاهر أنّ (إِذَا) ظرفية مجردة عن معنى الشرطية، أي يساقون إلى الجنة إلى زمان مجيئهم إليها، والحال أنّ الأبواب مفتوحة .. وثانيهما أنّ خزنة جهنم يستقبلون الكافرين بالتقريع واللوم، وأمّا خزنة الجنّة، فيستقبلون المتّقين بالترحيب والتكريم، كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 114.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 24/ 168.
القرآن.. والبيان الشافي (1/70)
عَلَيْكُمْ} [الزمر: 73]، أي أنتم في سلام مطلق لا يلقاكم إلاّ ما ترضون {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] فقوله: {طِبْتُمْ} [الزمر: 73] إنشاء لا إخبار، وهو إنشاء تكريم ودعاء .. فأين التقريع الذي يُستقبل به الكافرون، من هذا الترحيب الذي يُستقبل به أهل الجنّة!؟
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في تعبير القرآن الكريم بكلمة {غَوى} في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] .. ولم لم يقل: (وزل آدم وأخطأ) وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات؟
قال الشيخ (1):في ذلك لطف بالمكلفين، ومزجرة بليغة، وموعظة كافة .. كأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبى المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الذنوب، زلته بهذه الغلظة، وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن يجسروا على التورط في الكبائر.
قال التلميذ: ما تقول فيمن يتخذ الكلمتين ذريعة لعدم عصمة آدم، بذريعة أن لفظة (عصى) عبارة عن المعصية المصطلحة، و (الغواية) ترادف الضلالة؟
قال الشيخ (2): أخطأ من فعل ذلك .. ذلك أنه عند الرجوع إلى أصول المعاني نرى غير ذلك، فلا لفظة (عصى) ترادف العصيان المصطلح، ولا الغواية ترادف الضلالة .. أما العصيان فهو بمعنى خلاف الطاعة، وقد قال ابن منظور في ذلك: (العصيان خلاف الطاعة، والعاصي الفصيل، إذا لم يتبع أمه)(3)، فمن خالف أمر مولاه، أو نصح الناصح، يقال عنه: عصى، وعلى ذلك فليس كلمة (عصى) إلا موضوعة لمطلق المخالفة، سواء أكانت معصية كما إذا خالف أمر مولاه، أم لم تكن كما إذا خالف نصح الناصح .. ولا يمكن أن
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 74.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 177.
(3) لسان العرب:14/ 67.
القرآن.. والبيان الشافي (1/71)
يستدل بإطلاق اللفظ على أن المورد من قبيل مخالفة الأمر الإلهي مع احتمال كونه أمرا إرشاديا أو نصيحة، لما في المخالفة من التعب والوصب .. وأما الغي فهو ـ كما في لسان العرب ـ يستعمل في الخيبة والفساد والضلال (1)، ومن الواضح أن هذه المعاني أعم من المعصية الاصطلاحية، ومن مخالفة نصح الناصح.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في وصف القرآن الكريم نوحا ولوطا عليهما السلام بوصف [العبد] الذي يشمل الناس جميعا برهم وفاجرهم، في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]؟
قال الشيخ (2): ذكر النبيين عليهما السلام بأنهما عبدان كسائر العباد من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده، دلالة على أن أي عبد لا يُكرم عند الله تعالى إلا بالصلاح وحده لا غير، وما سواه مما يرجح به الناس ليس بسبب للرجحان.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] .. فلم قال: {فَإِنْ طِبْنَ} ولم يقل: فإن وهبن وسمحن؟
قال الشيخ (3): في الآية الكريمة دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: {فَإِنْ طِبْنَ} إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة .. وهكذا قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} ولم يقل: فإن طبن لكم عنها، بعثا لهن على تقليل الموهوب.
__________
(1) لسان العرب:14/ 140.
(2) الكشاف ج 4 ص 458.
(3) الكشاف ج 1 ص 363.
القرآن.. والبيان الشافي (1/72)
قال التمليذ: وعيت هذا .. فلم ورد التفريق بين الخلق والجعل في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؟
قال الشيخ: ذلك لأن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التصيير، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] زَوْجَهَا}، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار، وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11]
قال التمليذ: وعيت هذا .. فما السر في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4]؟ .. ولم عبر بكلمة {الْقَوْلَ}؟
قال الشيخ: القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم سرهم، كما أن قوله (يعلم السر) آكد من أن يقول: يعلم سرهم، ثم بين ذلك بأنه {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لذاته فكيف تخفى عليه خافية؟ .. بالإضافة إلى ذلك، فإنه (1): لما تناجى المشركون وأخفوا ما تناجوا به، وهو قول بعضهم لبعض: (إن هذا الداعي بشر وما جاء به السحر)، ظانين أن ذلك مما يخفى على الله تعالى، جاءت هذه الآية تبدد تلك الفكرة وأنه سبحانه عالم بكل ظاهرة وخافية كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأنبياء: 4]، وقد أتى بلفظ (القول) مكان النجوى ليشمل كل ما يصدر منهم من قول ظاهر وسر خاف، من غير فرق بين كونه في
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 18/ 25 ..
القرآن.. والبيان الشافي (1/73)
السماء أو في الأرض {وَهُوَ السَّمِيعُ} [الأنبياء: 4] الذي يسمع كل قول {الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4] الذي يطلع على كل شيء، فكلامكم وأقوالكم، وأعمالكم وتقلبكم معلوم له.
قال التلميذ: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]؟
قال الشيخ (1): أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه، من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى فكأنه أراد أن يقول: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، ثم قصد وصف ذاته بأنه: {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]، وهو كقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ: 48]، وقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]
قال التلميذ: فهلا زدت الشرح توضيحا وتفصيلا.
قال الشيخ (2): لما وصف الكافرون القرآن المنزل بأنه كلام مفترى ولا صلة له بالله سبحانه، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب على افترائهم بأنه سبحانه هو الذي أنزله عليه كما قال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]، وفيها إشارة إلى أن الله واسع العلم، ليس من شيء في السماوات والأرض إلا هو عالم به، ولذلك يعلم أنهم يقولون بما لا يؤمنون ويجرون على ألسنتهم بما ليس في قلوبهم، حيث يعلمون أن القرآن منزل من الله سبحانه وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل من جانبه، ولكن التعصب والعناد والغرض الرخيص يحول بينهم وبين الاعتراف بما يعلمون.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في كلمة {مُذَبْذَبِينَ} في قوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 81.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 19/ 382.
القرآن.. والبيان الشافي (1/74)
بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143] .. وما علاقتها بالذبذبات الحسية؟
قال الشيخ (1): الآية الكريمة تعني أن الشيطان والهوى ذبذبهم بين الإيمان والكفر فهم مترددون بينهما متحيرون .. وحقيقة المذبذب الذي يُذب عن كلا الجانبين، أي يدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرار ليس في الذب، وبذلك يصير: كلما مال إلى جنب ذب عنه.
قال التلميذ: فهلا زدت الشرح توضيحا وتفصيلا.
قال الشيخ (2): في الآية الكريمة بيان كاشف للحياة التي يحياها المنافقون، وأنها حياة قلقة مضطربة، لا تقوم على مبدأ، ولا تستقيم على طريق .. والذبذبة الاضطراب، والتردد، بين موقفين أو أكثر .. وكأنها مشتقة من الذب، وهو الدفع والطرد، ومنه سمى الذباب، لأنه يطرد، ثم يعود، ثم يطرد، ثم يعود، وهكذا.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فكيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة في قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] .. وهل كلمة {تَمْسَسْكُمْ} مستعارة لمعنى الإصابة، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50]، وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]، وقوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21]
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 449.
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 943)
القرآن.. والبيان الشافي (1/75)
قال الشيخ: يمكنك أن تقول ذلك إن لم تفرق بين سياق الآيات التي قرأتها (1) .. لكنك إن فعلت ذلك؛ فسترى أن في قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] تحذيرا للمسلمين من الاطمئنان إلى الكافرين، ثم تصور ما تنطوي عليه صدورهم من الكراهية والبغضاء، وتعتب على المسلمين غفلتهم وحبهم لهؤلاء الذين لا يحبونهم، ثم رسمت صورتهم وهم في خلوتهم يعضون الأنامل من الغيظ .. فكان المقتضى والحال أن يكون مس الحسنة، وهو أقل قدر من الخير ينال المسلمين، مسيئا لهم أبلغ إساءة، وأن تكون إصابة السيئة وتمكنها من المؤمنين أمرا سارا لهم، فالمس لا يساوي الإصابة .. ولو رجعنا إلى الأصل اللغوي لوجدنا المس أقل من الإصابة فالمس هو اللمس، ومن مجازاة مس العذاب ومس الخير .. ولهذا كثر استعمال المس في القرآن للإصابة الخفيفة كقوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46]، وقوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، وقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، وقوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21]، وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83]، وقوله: {لَا يَسْأَمُ الإنسان مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49] .. وغيرها من الآيات التي يهدينا فيها التأمل إلى أن المس فيها أقل من الإصابة (2)، كما عبر عن ذلك بعضهم بقوله: (يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الاصابة وكأنه أقل درجاتها، فكان الكلام والله أعلم: ان تصبكم الحسنة أدنى اصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها وان تمكنت الاصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن
__________
(1) وهو ما ذهب إليه الزمخشري، الكشاف ج 4 ص 417.
(2) انظر: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، (ص 271)
القرآن.. والبيان الشافي (1/76)
حسدهم)(1)
قال التلميذ: وعيت هذا .. لكننا مع ذلك نجد بعض الآيات يُستعمل فيها المس مع العذاب الأليم كقوله تعالى حكاية عن مخاطبة الجاحدين لرسلهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]، وقوله في آية الافك: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: 49]، وقوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48]
قال الشيخ: إن سياق الآيات التي قرأتها، ومقام التهديد والوعيد فيها يُكسب المس معنى أقوى وأبلغ، وذلك بخلاف قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، فإن سياقها يساعد على الذي ذكرته لك.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في كلمات: {يَوْمِ الدِّينِ} و {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و {يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الواردة في قوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 34 - 38]، وهل هي ذات معنى واحد، ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة المبالغة (2).
قال الشيخ (3): يمكنك أن تقول ذلك بالنظر المبدئي .. لكنك إن أمعنت النظر؛ فستجد فروقا بين الكلمات الثلاث المضافة إلى اليوم، فإن {يَوْمِ الدِّينِ} يشير إلى ما يلاقيه إبليس من الجزاء على معصيته وتمرده .. و {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} تشير إلى طلب أقصى مدة؛ فإبليس
__________
(1) حاشية ابن المنير هامش الكشاف ج 1 ص 313.
(2) هذا قول الزمخشري في الكشاف ج 1 ص 450.
(3) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، (ص 273)
القرآن.. والبيان الشافي (1/77)
يطلب الإنظار إلى يوم البعث لا إلى يوم تقوم الساعة .. و {يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} فيه نبرة تهديد لا تخطئها الأذن، أي إلى يوم الوقت الذي تعرف ما فيه من العذاب والأخذ الشديد .. فإذا كانت الكلمات الثلاث تشترك في المدلول العام؛ فإن لكل كلمة خصوصية في الدلالة لاءمت موقعها.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في إضافة كلمة (المنفوش) في سورة القارعة في قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] مع أنها لم تضف في سورة المعارج: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9]
قال الشيخ (1): لما ذكر القارعة في أول السورة، والقارعة من (القرع)، وهو الضرب بالعصا، ناسب ذلك ذكر النفش؛ لأن من طرائق نفش الصوف أن يقرع بالمقرعة، كما ناسب ذلك من ناحية أخرى وهي أن الجبال تهشم بالمقراع ـ وهو من القرع ـ وهو فأس عظيم تحطم به الحجارة، فناسب ذلك ذكر النفش أيضا، فلفظ القارعة أنسب شيء لهذا التعبير، كما ناسب ذكر القارعة ذكر الفراش المبثوث في قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] أيضا؛ لأنك إذاقرعت طار الفراش وانتشر، ولم يحسن ذكر (الفراش) وحده كما لم يحسن ذكر (العهن) وحده.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ما تقدم من ذكر اليوم الآخر في سورة القارعة، أهول وأشد مما ذكر في سورة المعارج، فقد قال في سورة المعارج: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 4 ـ 7]، وليس متفقا على تفسير أن المراد بهذا اليوم، هو اليوم الآخر، وإذا كان المقصود به اليوم الآخر فإنه لم يذكر إلا طول ذلك اليوم، وأنه تعرج الملائكة والروح فيه، في حين قال في
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 196).
القرآن.. والبيان الشافي (1/78)
سورة القارعة: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1 ـ 3] فكرر ذكرها وعظمها وهولها، فناسب هذا التعظيم والتهويل أن يذكر أن الجبال تكون فيه كالعهن المنفوش، وكونها كالعهن المنفوش أعظم وأهول من أن تكون كالعهن من غير نفش كما هو ظاهر.
بالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر في سورة المعارج أن العذاب (واقع)، وأنه ليس له دافع: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 ـ 2]، ووقوع الثقل على الصوف، من غير دفع له لا ينفشه بخلاف ما في القارعة، فإنه ذكر القرع وكرره، والقرع ينفشه وخاصة إذا تكرر، فناسب ذلك ذكر النفش فيها أيضا.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه في ذكر القارعة حسن ذكر الزيادة والتفصيل فيها، بخلاف الإجمال في سورة المعارج، فإنه لم يزد على أن يقول: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]
بالإضافة إلى ذلك، فإن الفواصل في السورتين تقتضي أن يكون كل تعبير في مكانه، ففي سورة القارعة، قال تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 4 ـ 5]، فناسبت كلمة (المنفوش) كلمة (المبثوث) .. وفي سورة المعارج، قال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 8 ـ 9]، فناسب (العهن)(المهل)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما الفرق بين النَعمة والنِعمة في قوله تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 27]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]
القرآن.. والبيان الشافي (1/79)
قال الشيخ (1): النِعمة تفضل الله تعالى على عباده، وهي متعددة، فالعافية والقوة والإيمان كلها نِعم {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، أما النَعمة فهي الرفاهية والتنعم ولين العيش والرخاء من النعيم والنعيم أحد النِعم .. وقد ذكر الله تعالى السمع والبصر والدين باعتبارها نعمة {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] هذه كلها نِعم .. والنَعمة الرخاء والرفاهية ولم ترد في القرآن إلا في الذمّ، كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]، وقال: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 27]، ولهذا لم ترد كلمة النَعمة في الخير أما النِعمة فكلها خير.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما الفرق بين بين فك رقبة وتحرير رقبة، والوارد كليهما في القرآن الكريم؟
قال الشيخ (2): تحرير رقبة تقال في الرّق والاسترقاق، ولذلك لم يأت إلا في الفِداء، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، أما (فك رقبة)، فيعني تخليصها من إعسار، أو قَوَد، أو أسر وغيره، يعني فك عسرها، وهي باقية إلى يوم الدين بخلاف الأولى، كما قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فلماذا استخدام الله تعالى كلمة (مسغبة) بدل سغب أو جوع أو مخمصة في قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]؟
قال الشيخ (3): المسغبة تعني الجوع العام والجماعي، وليس للفرد، والسغب هو الجوع الفردي .. بالإضافة إلى ذلك قإن المسغبة هي الجوع العام مع التعب والإرهاق، ولهذا خصص باستعمال (مسغبة)، أما الجوع فلا يرافقه بالضرورة التعب والإرهاق، أما المخمصة
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (12/ 369)
(2) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (12/ 369)
(3) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 105)
القرآن.. والبيان الشافي (1/80)
فهي الجوع الذي يرافقه ضمور البطن .. وفي ذلك دلالة على شدة الضيق والكرب، ففرق كبير بين الإنفاق في وقت الطعام فيه متوفر، ويوم ذي مسغبة، وهو ليس كأي يوم من الأيام.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما الفرق بين التزكية الواردة في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، والواردة في قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]
قال الشيخ (1): هذا يطلق عليه [المشترك اللفظي]، لأن له أكثر من معنى، وبذلك فإن زكّى نفسه لها معنيان .. أولها: طهّرها ومنه الزكاة، كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]،والزكاة هي النماء في الحقيقة والتطهير شيء آخر، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] أي طهّر نفسه .. أما قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، فهنا زكّى نفسه بمعنى نسبها إلى التزكية .. وهذا لا يجوز، فمعنى لا تزكوا أنفسكم: لا تقولوا أنا أحسن من هذا، لأنه تعالى أعلم بمن اتقى .. وهذا يشبه فعل قوّم بمعنى عدّل، وقوّم بمعنى أعطى للشيء قيمة، حيث نقول: كم تقوّم هذه الساعة مثلاً؟ أو هذه السلعة؟ .. فقوّم السلعة أي بيّن مقدار قيمتها.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما الفرق بين {أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] و {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47]؟
قال الشيخ (2): القرآن الكريم يستعمل (أوتوا الكتاب) في مقام الذم، ويستعمل (آتيناهم الكتاب) في مقام المدح، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]، وهذا ذم، ومثل ذلك قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 121)
(2) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 188)
القرآن.. والبيان الشافي (1/81)
قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44] .. بينما يستعمل (آتيناهم الكتاب) في المدح، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]، فهذا مدح، ومثل ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]، وقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36]، وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52]، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47]، وهذا يعني أن الله تعالى يسند التفضل والخير لنفسه في {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47] .. أما أوتوا ففيها ذم، ولذلك نسبه للمجهول، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5]، وقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14]، بينما قال عند المدح: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فلماذا اقترن لفظ (أبداً) في خلود الكافرين في النار في مواضع، ولم يقترن في مواضع أخرى؟
قال الشيخ (1): كلمة (أبداً) ترد أحياناً مع أهل النار، وأحياناً مع أهل الجنة، وأحياناً يذكر الخلود من دون (أبداً) .. والقاعدة أنه إذا كان المقام مقام تفصيل وبسط للموضوع يذكر الله تعالى (أبداً)، وإذا كان المقام مقام تهديد شديد أو وعد كثير، كما جاء ذلك في الوعد الكثير للمؤمنين في سورة البينة وتفصيل جزائهم، قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 190)
القرآن.. والبيان الشافي (1/82)
عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، وكذلك في سورة الجنّ، في الآيات فيها تهديد ووعيد شديد للكافرين، كما قال تعالى: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]، وكذلك في سورة الأحزاب في مقام التفصيل والتوعّد الشديد، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64 ـ 65]، وإذا لم يكن كذلك أي كان مقام إيجاز لا يذكر (أبداً) مثل قوله تعالى في سورة البيّنة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما الفرق بين هُمَزة وهمّاز الواردتين في سورة الهمزة، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وقوله في سورة القلم: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]؟
قال الشيخ (1): الفروق بين الكلمتين في الصيغ، فصيغة همّاز هي صيغة مبالغة على وزن فعّال، وهي تدل على الحرفة والصنعة، مثل نجّار وحدّاد وخيّاط .. وعندما نصف شخصاً ما بـ (كذّاب) فكأنما نشير إلى أن صَنعَتُه الكذب .. أما صيغة هُمَزة فهي مبالغة بالتاء، وما بولغ بالتاء يدل على النهاية في الوصف، أو الغاية في الوصف، فليس كل (نازل) يسمى (نازلة)، ولا كل (قارع) يسمى (قارعة) حتى يكون مستطيرا عاما قاهرا كالجائحة، ومثلها القيامة والصاخة والطامة .. فهذا التأنيث للمبالغة بل الغاية في المبالغة، وهذا ما تدل عليه كلمة (هُمَزة) .. إذن نحن أمام صيغتين للمبالغة إحداهما تدل على المزاولة، والأخرى على النهاية في الوصف.
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 213)
القرآن.. والبيان الشافي (1/83)
قال التلميذ: فما السر في اختيار مواضعها؟
قال الشيخ (1): استعمال هُمزة في آية سورة الهمزة لأنه ذكر النتيجة، وتعرّض للعاقبة، نتيجة وغاية وعاقبة الكفار الويل، حيث قال تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 4]، والحُطمة هي بنفس صيغة همزة، وهي صيغة مبالغة، لذلك ناسب أن يذكر بلوغه النهاية في الاتصاف بهذه الصفة بالتاء التي تدل على النهاية في الحطم، وهي تفيد أن الجزاء من جنس العمل، فكما أنه يبالغ في الهمز فسيكون مصيره مماثلا في الشدة .. أما في سورة القلم، فاستخدام صيغة همّاز لأن الكلام في التعامل مع الناس، وكل سورة القلم تتكلم عن التعامل مع الناس، ففيها قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فهي تتناول السلوكيات ولا تذكر العاقبة إلا قليلا، كما في قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]، لكنه لم يذكر شيئا آخر من عاقبة مرتكب هذا الفعل، إنما ذكر صفاتهم فقط مثل {حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 ـ 11] وهذه الصفات لا تستوجب الطاعة .. وجاء في السورة: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] ينبغي أن لا يُطاع، ولو كان ذا مال وبنين فهو يمتنع بماله وبنيه والمال والبنون هما سبب الخضوع والإيضاح والإنقياد ولو كان صاحبهما ماكر لذا جاءت الآية: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 10 ـ 14]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما الفرق بين (يذبّحون) في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، و (ويذبّحون) في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (13/ 214)
القرآن.. والبيان الشافي (1/84)
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]
قال الشيخ (1): في سورة البقرة جعل الله تعالى سوء العذاب هو تذبيح الأبناء بدل {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49]، وسوء العذاب هو: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49]، وهذه بدل من يسومونكم، وهذه الجملة بدل لما قبلها فسّرتها ووضحتها، والبدل يكون في الأسماء والأفعال وفي الجُمَل، إذن {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49] تبيين لسوء العذاب فنسميها جملة بَدَل .. وفي سورة إبراهيم قال تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [إبراهيم: 6]، فهنا ذكر أمرين سوء العذاب بالتذبيح، وبغير التذبيح، فموسى عليه السلام يذكر لبني إسرائيل أن الله تعالى أنجاهم من آل فرعون من أمرين: يسومونهم سوء العذاب، وهذا أمر، والتذبيح أمر آخر .. وكان التعذيب لهم بالتذبيح وغير التذبيح، كاتخاذهم عبيداً وعمالاً وخدماً، فيعذبونهم بأمرين، وليس فقط بالتذبيح، وإنما بالإهانات الأخرى فذكر لهم أمرين .. ولهذا، فإن يسومونكم سوء العذاب أمر، ويذبحونكم أبناءكم أمر آخر، إذن بالتذبيح وفي غير التذبيح.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما دلالة استخدام اسم الإشارة (ذلك) في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] بدل اسم الإشارة هذا؟
قال الشيخ (2): نفس الاسم أحياناً يستعمل في التعظيم، وأحياناً يستعمل في الذم، والذي يبين الفرق بينهما هو السياق .. فكلمة (هذا) تستعمل في المدح والثناء، كما في قوله: (هذا الذي للمتقين إمام)، ويستعمل في الذم، كما قال تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]، وكذلك تستعمل في المدح (أولئك آبائي فجئني بمثلهم)، كما قال تعالى:
__________
(1) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (1/ 318)
(2) لمسات بيانية لسور القرآن الكريم: (1/ 169)
القرآن.. والبيان الشافي (1/85)
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، وأحياناً يكون في الذم تقول: هذا البعيد لا تريد أن تذكره، فهنا الذي يميز بين ذلك الاستعمال والسياق .. ولذلك، ففي قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] إشارة إلى علوه وبعد رتبته وبعده عن الريب وأنه بعيد المنال لا يستطيع أن يؤتى بمثله، (ذلك) دلالة على البعيد والله تعالى قال في نفس السورة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 23 ـ 24] هذا الأمر بعيد عن المنال أن يؤتى بمثله .. إذن ذلك الكتاب إشارة إلى بعده وعلو مرتبته .. والقرآن يستعمل (هذا) لكن في مواطن، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فعندما قال يهدي للتي هي أقوم، يجب أن يكون قريباً حتى نهتدي به، لكن لما قال ذلك الكتاب يعني أنه عالي بعيد لا يستطاع أن يؤتى بمثله.
بعد أن انتهى التلميذ الأول من ذكر ما أشكل عليه من الأسرار المرتبطة بمادة الكلمة ومعناها، قام تلميذ آخر، وقال: أما أنا فائذن لي أستاذنا الفاضل أن أسألك عن بعض ما أشكل علي مما يرتبط بهيئة الكلمة ومعناها.
قال الشيخ: لك ذلك .. فسل ما بدا لك.
قال التلميذ: ما السر في مجيء كلمة {النَّهَر} مفردة في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] .. مع أن الجناتِ قبله جَمْعٌ، بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم، فإنه إذا جمع الجنة، جمع النهر أيضاً، كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] .. وهل ذلك ـ كما يذكر بعضهم
القرآن.. والبيان الشافي (1/86)
ـ يرجع إلى النواحي الجمالية والبديعية المرتبطة بالنظم .. فقد جاءت الآية الكريمة ضمن هذا النظم: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 52 - 55]؟
قال الشيخ (1): لذلك علل كثيرة، منها أن النهَر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع .. وقد يؤتى بالواحد للدلالة على الجمع والكثرة، ومنه ما ورد في الأثر: (أهلكَ الناسَ الدينارُ والدرهم)، والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد.
ومنها: أن من معاني {النَّهَر} السَّعة .. والسَّعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة، وكل ما يقتضي تمام السعادة السعة فيه .. ولذلك فسر بعهضم {النَّهَر} بالسَعة في الأرزاق والمنازل.
ومنها: أن من معاني {النَّهَر} الضياء .. أي: في ضياء وسعة، لأن الجنة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ.
وهذه المعاني كلها صحيحة مُرادةٌ مطلوبة، فإنَّ المتقين في جنات وأنهار كثيرة جارية، وفي سعة من العيش والرزق والسكن وعموم ما يقتضي السعة، وفي ضياء ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة.
قال التلميذ: فما سر مجيء كلمة {شَجَرَةٍ} مفردة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]
قال الشيخ (2): أريد بذلك تفصيل الشجر، وتقصيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا بريت أقلاما.
__________
(1) لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، (ص 170)
(2) الكشاف ج 3 ص 396.
القرآن.. والبيان الشافي (1/87)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما السر في مجيء كلمة {وَلِيُّكُمُ} مفردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] مع أنها ذكرت جماعة .. فهلا قيل: إنما أولياؤكم؟
قال الشيخ: أصل الكلام: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}؛ فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنين على سبيل التبعية، لا على سبيل الأصالة .. ولو قيل: [إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا]، لم يكن في الكلام أصل وتبع (1).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإفراد في كلمة {صَلَاتِهِمْ} في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، وجمع كلمة {صَلَوَاتِهِمْ} في قوله بعدها: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] مع أنها وردت في سياق واحد، وآيات متحدة في الغرض؟
قال الشيخ (2): جاءت مفردة في الآية الأولى لتدل على الخشوع في جنس الصلاة، أي أيّ صلاة كانت، وجمعت آخرا لتدل على المحافظة على أعدادها، وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة، والعيدين، والجنازة، والاستسقاء .. وغيرها.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإفراد والجمع في قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] .. فلم جمع الشافعين، ووحد الصديق؟
قال الشيخ (3): لكثرة الشفعاء في العادة، وقلة الصديق .. ألا ترى أن الرجل إذا
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 505.
(2) الكشاف ج 3 ص 140.
(3) الكشاف ج 3 ص 254.
القرآن.. والبيان الشافي (1/88)
امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته، رحمة له وحسبة، وان لم يسبق له بأكثرهم معرفة، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك، فأعز من بيض الأنوق، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقيل: اسم لا معنى له.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الجمع في كلمة {الْمُجِيبُونَ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75]؟
قال الشيخ (1): صيغة الجمع تشعر بمعاني التعظيم والاجلال، حينما يوضع ما للجماعة للواحد. وقد أشار النحاة إلى هذا المعنى في الضمائر وقالوا: (إن ضمير جمع المتكلمين المتصل أو المنفصل قد يأتي للمتكلم المعظم نفسه) .. وبذلك؛ فإن الجمع دليل العظمة، والمعنى: (إنا أجبناه أحسن إجابة وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الجمع في كلمة {أَذِلَّةٌ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]، وهي جمع قلة، فلم لم يجمعها جمع كثرة {الأذلاء}؟
قال الشيخ (2): جاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال، وقلة السلاح والمال المركوب.
قال التلميذ: فهلا وضحت سر ورود كلمة أذلة في الآية الكريمة؟
قال الشيخ (3): في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] صورة قوية نابضة بالحياة، تجمع فى كلماتها القليلة تلك، كل مشاهد المعركة، وتستحضر كل
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 37.
(2) الكشاف ج 4 ص 316.
(3) التفسير القرآني للقرآن (2/ 573)
القرآن.. والبيان الشافي (1/89)
أشخاصها، ومشخصاتها، من بدئها إلى خاتمتها، فأول ما يذكر المسلمون عن هذا اليوم، وأهم ما يجدونه فى خواطرهم منه، أنهم انتصروا نصرا حاسما، من حيث كان لا يرجى لمثلهم نصر فى هذه الموقعة، لقلة عددهم، وضآلة عدتهم، مع كثرة عدوهم، وقوة عدده! وهنا أمر لا يدع لأحد شكا حتى عند من لا يؤمنون بالله، هو أن يدا قوية غير منظورة لأحد، هى التي أدارت تلك المعركة، وقلبت أوضاعها، وبدلت موازينها! .. ولذلك، فإن الذلة التي وصف الله تعالى بها المسلمين هنا ليست ذلة نفسية، ولا ضعفا قلبيا، وإنما هي ذلة حاجة وعوز، وقلة فى المال والرجال، بحيث يخف ميزان أصحابها فى أعين الناس، حين ينظرون إلى ظاهرهم هذا .. فوصف المؤمنين بالذلة هنا، إنما هو وصف للحال الظاهر منهم للناس .. أما فى حقيقة أنفسهم، فهم من إيمانهم بالله، وثقتهم فيه، وتوكلهم عليهم واستعلائهم على حاجات الجسد، ومتاع الحياة ـ هم فى عزة عزيزة، تستخف بكل قوى المادة وعتوها.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الجمع في {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، ولم لم يقل بدلها [عيون]؟
قال الشيخ (1): لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالاضافة إلى عيون غيرهم، كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]
قال التلميذ: فلم خُصت العيون بالذكر؟
قال الشيخ (2): لأنها المرآة التي تتجلى على صفحتها مشاعر الإنسان، وترتسم على نظرتها خلجاته وخطراته .. من فرح أو حزن، ومن حب أو بغض، ومن رضا أو سخط .. ولهذا فإنه قد كان للناس نظر بالعيون إلى العيون، وحديث من العيون إلى العيون .. وقد
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 233.
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 620)
القرآن.. والبيان الشافي (1/90)
كان للعيون لغة أبلغ من لغة الكلام، وكان لهذه اللغة علماؤها، وأصحاب القدم الراسخة فيها، عطاء وأخذا، وإرسالا واستقبالا، وفي الشعر العربي ما يكشف عن هذه الحقيقة من أمر العيون، وما تنفث من سحر البيان والدلال معا، ومن الأمثلة على ذلك قول الشاعر قديما:
والعين تعلم من عينى محدثها ... إن كان من أهلها أو من أعاديها
وقال آخر:
إذا كاتمونا الهوى نمت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف
وقال آخر:
ومراقبين تكاتما بهواهما ... جعلا القلوب لما تجن قبورا
يتلاحظان تلاحظا فكأنما ... يتناسخان من العيون سطورا
وهكذا تحدث العيون عما تطوى النفوس من خير أو شر، كما روي عن المسيح عليه السلام أنه قال: (سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيرا، وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلما)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار صيغة المضارع في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] .. وهل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟
قال الشيخ (1): نعم .. وما اختير {يُسَبِّحْنَ} على مسبحات إلا لذلك وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء، وحالا بعد حال، وكأن السامع حاضر يسمعها تسبح.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار صيغة المضارع في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 6160.
القرآن.. والبيان الشافي (1/91)
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19] .. فلم قيل: {وَيَقْبِضْنَ} ولم يقل قابضات؟
قال الشيخ (1): لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة .. فالطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها .. وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح .. ذلك أن الفعل يفيد التجدد والحدوث، والاسم يفيد الثبوت والاستمرار.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار صيغة المضارع في كلمة {تُثِيرُ} في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9] دون ما قبله وما بعده، والتي جاءت بصيغة الماضي؟
قال الشيخ (2): ليحكي الحال التي تقع عليها إثارة الرياح السحاب، ولتُستحضر تلك الصورة البديعية الدالة على القدرة الربانية.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار صيغة المضارع في كلمة {تَقْتُلُونَ} في قوله تعالى مخاطبا بنى اسرائيل ومنكرا عليهم جسارتهم على أنبيائهم عليهم السلام: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] .. فهلا قيل (وفريقا قتلتم)؟
قال الشيخ (3): لأن الأمر فظيع؛ فأريد استحضاره في النفوس، وتصويره في القلوب .. لأن صيغة المضارع تساعد على ذلك بخلاف صيغة الماضي .. وقد نجد في القرآن
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 465.
(2) الكشاف ج 3 ص 274.
(3) الكشاف ج 1 ص 121.
القرآن.. والبيان الشافي (1/92)
الكريم ما هو خلاف ذلك .. أي قد يقع المضارع موقع الماضي، لأن الغرض منه حينها ليس استحضار الصورة، وانما الإشارة إلى أن هذا الحدث مستمر، كما في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]
قال التلميذ: كنت أود أن أسألك عن هذا .. فلم قيل {يُطِيعُكُمْ} دون أطاعكم؟
قال الشيخ (1): للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبون، وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولا عليه بدليل قوله: {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ}، كقولك: فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، تريد أنه مما اعتاده ووجد منه.
ومثل هذا المعنى للفعل المضارع الواقع موقع الماضي، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج: 25]، ذلك أنه يقال: فلان يحسن إلى الفقراء، وينعش المضطهدين، لا يراد حال ولا استقبال، وإنما يراد استمرار وجود الحال منه والنعشة في جميع أزمنته وأوقاته.
قال التلميذ (2): هل يعني ذلك أن في قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} دلالة على أن الصدود منهم مستمر دائم؟
قال الشيخ (3): أجل .. فصيغة المضارع تدل على ذلك .. فكلمة {يَصُدُّونَ}، تدل على استمرار الصد، وأنه غير متجدد، فلذا لا تتخلله فترات انقطاع للحدث بل هو مستمر دائم .. كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ولذلك حسن عطفه على الماضي.
قال التلميذ: أهذا هو السر في اختيار صيغة المضارع في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] .. فلم يقل (أوحى) ليدل على أن
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 287.
(2) الكشاف ج 3 ص 119.
(3) حاشية الشهاب الخفاجى ج 6 ص 291.
القرآن.. والبيان الشافي (1/93)
الوحي من عادته؟
قال الشيخ (1): أجل .. ومثلها الكثير من المواضع، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63] حيث قال {فَتُصْبِحُ}، ولم يقل: (فأصبحت)، ليشير إلى أن خضرتها تبقى وتتجدد زمانا بعد زمان.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختلاف نوع الفعل في الآية الواحدة والمقام الواحد، كما في قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ الله وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54] .. فلم لم يقل: إني أشهد الله وأشهدكم؟
قال الشيخ (2): لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وشد معاقده، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل بهم عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار صيغة (فعّل) على صيغة (أفعل) في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]
قال الشيخ (3): لأن المراد النزول على سبيل التدرج والتنجيم، وهو من مجازه، لمكان التحدى، وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله مخالفا لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجوما، سورة بعد سورة، وآيات عقب آيات، على حسب النوازل والحوادث، وعلى سنن ما ترى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقا حينا فحينا
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 163، ج 3 ص 132.
(2) الكشاف ج 2 ص 315.
(3) الكشاف ج 1 ص 73.
القرآن.. والبيان الشافي (1/94)
وشيئا فشيئا حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة، ولا يرمي الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، فلو أنزله الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .. وكأنه قيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدرج فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجما فردا من نجومه.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار صيغة (فعل) و (افتعل) في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] .. ولم خص الخبر بالكسب، والشر بالاكتساب؟
قال الشيخ (1): في الاكتساب اعتمال؛ فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة اليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد؛ فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار بناء الماضي للمجهول في قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120]؟
قال الشيخ (2): لما رأى السحرة آية موسى عليه السلام واستيقنوها بعد ما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بادروا بالانقياد والسجود لله سبحانه .. والآية الكريمة تصور هذه المفاجأة العظيمة، وهذه السرعة الفائقة في الانقياد والاستسلام في هذا الموقف الذي تمثل فيه الصراع بين حق موسى وباطل فرعون واجتمع الناس فيهم لعلهم يتبعون السحرة إن كانوا هم الغالبين، بهذه الصيغة {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} أي أنهم خروا سجدا، كأنما ألقاهم
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 254.
(2) الكشاف ج 2 ص 111.
القرآن.. والبيان الشافي (1/95)
ملق لشدة خرورهم، أو أنهم لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا ..
ويشبه ذلك ما ورد في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] .. فمجيء إخباره على الفعل المبني للمجهول للدلالة على الجلالة والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله .. فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره (1).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر ورود فعل {وَوَدُّوا} بصيغة الماضي في قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]
قال الشيخ (2): مع أن الفعل الماضي يجري في باب الشرط مجرى المضارع إلا أن وروده به فيه سر خاص، فكأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم .. أي أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا .. وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها .. لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر ورود الفعل ماضيا في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] على اعتبار أن الفتح فتح مكة؟
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 311.
(2) الكشاف ج 4 ص 409.
القرآن.. والبيان الشافي (1/96)
قال الشيخ (1): وروده على لفظ الماضي على عادة القرآن الكريم في إخباره عن المستقبل، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى .. ومثلها قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ الله فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختلاف اسمي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصيغة مع كون جذرهما اللغوي واحدا؟
قال الشيخ (2): في {الرَّحْمَنِ} من المبالغة ما ليس في {الرَّحِيمِ}، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا .. بناء على أن الزيادة في البناء تؤدي لزيادة المعنى .. وقد قال بعض اللغويين في الغضبان الممتلئ غضبا: (ومما طن على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقى، فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت: بلى فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى)
فمع أن كلمة الشقنداف التي رواها عن الأعرابي ليست من كلامهم، لكنها مع ذلك دلت على جذر هذا الأصل اللغوي في فطرة الأعراب.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار كلمة {مُرْضِعَةٍ} بدل (مرضع) في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]؟
قال الشيخ: المرضعة التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبى .. والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها .. ولهذا قيل {مُرْضِعَةٍ} ليدل على
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 263262.
(2) الكشاف ج 1 ص 5.
القرآن.. والبيان الشافي (1/97)
أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة (1).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار كلمة {مُطَهَّرَةٌ} بدل كلمة (طاهرة) في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [النساء: 57]؟
قال الشيخ (2): في كلمة {مُطَهَّرَةٌ} فخامة لصفتهن ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهرا طهرهن، وليس ذلك إلا لله عز وجل.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بـ {الْمَوْلُودِ لَهُ} دون الوالد في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]؟
قال الشيخ (3): ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم .. فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير باسم المفعول بدل الفعل في قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]، ولم لم يقل: ذلك يوم يُجمع له الناس؟
قال الشيخ (4): لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه لا بد من أن يكون ميعادا مضروبا لجمع الناس له، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضا لإثبات الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، ولهذا يقال في التهديد: (إنك لمنهوب مالك، محروب قومك) .. ولما في ذلك من تمكن الوصف، وثباته، وهو لا يوجد في الفعل.
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 112.
(2) الكشاف ج 1 ص 82.
(3) الكشاف ج 1 ص 212.
(4) الكشاف ج 1 ص 334.
القرآن.. والبيان الشافي (1/98)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بـ[أفعل التفضيل] في قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]؟
قال الشيخ (1): هو إيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذين يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ، وحسنهم بالأحسن.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار التأنيث على التذكير في قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] .. فلم قيل (كاشفات) و (ممسكات) على التأنيث، مع أنه ورد قبلها قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36]؟
قال الشيخ: ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأن الأنوثة تدل على اللين والرخاوة، كما أن الذكورة تدل على الشدة والصلابة كأنه قال: الإناث اللاتي تعبدونهن وهن اللات والعزى ومناة، واللاتي ذكرن في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 21] أضعف مما تدعون لهن وأعجز .. وفيه تهكم أيضا .. ويشير إلى مثل هذا المعنى في التأنيث قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 78]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر قوله {هَذَا رَبِّي} مع أن الإشارة للشمس؟
قال الشيخ (2): جُعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، ومثل قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 199.
(2) الكشاف ج 2 ص 32.
القرآن.. والبيان الشافي (1/99)
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .. وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله (علام) ولم يقولوا (علامة)، وان كان (العلامة) أبلغ، احترازا من علامة التأنيث.
بعد أن انتهى التلميذ الثاني من ذكر ما أشكل عليه من الأسرار المرتبطة بهيئة الكلمة ومعناها، قام تلميذ آخر، وقال: أما أنا فائذن لي أستاذنا الفاضل أن أسألك عن بعض ما أشكل علي مما يرتبط بحروف المعاني وأدوات الربط.
قال الشيخ: لك ذلك .. فسل ما بدا لك.
قال التلميذ: ما سر التعبير بـ (ثم) في القرآن الكريم؟
قال الشيخ (1): لهذا الحرف في القرآن الكريم أصلان يرجع معنى (ثم) غالبا إليهما:
أما الأول، فهو الاستبعاد .. وذلك إذا كان ما قبل (ثم) من الأحداث والأفعال مهيئا لعدم حصول ما بعدها، وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]، فإن الإعراض عن آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل كما تقول لصحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز (2).
ومثله قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] فقد وردت (ثم) هنا للدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة، لأن حق من
__________
(1) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، (ص 289)
(2) الكشاف ج 2 ص 407.
القرآن.. والبيان الشافي (1/100)
عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر (1).
ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]
وأما الثانى؛ ببيان البعد بين الأمرين، وهذا غير الاستبعاد، إذ المراد أن الأمرين من جنس واحد، ولكن ما بعد (ثم) أعلى مرتبة في هذا الجنس وأبلغ مما قبلها؛ فليس بين الأمرين منافاة كما في الاستبعاد، وإنما بينهما تفاوت وهما من جنس واحد.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] فمعنى (ثم): بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار، وجعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة (2).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بـ (الفاء) في القرآن الكريم؟
قال الشيخ: أحسن مواقعها ما تدل فيه على المفاجأة .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19]، فهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة، وخاصة إذا انضم اليها الالتفات وحذف القول.
ومثل ذلك قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]
ومثله قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56]؛ فهي جواب شرط يدل عليه
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 488.
(2) الكشاف ج 2 ص 5.
القرآن.. والبيان الشافي (1/101)
الكلام، أي: إن كنتم منكرين البعث؛ فهذا يوم البعث .. أي فقد تبين بطلان قولكم (1).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بـ (قد) في القرآن الكريم؟
قال الشيخ (2): (قد) تدل على التوقع، واذا دخلت على المضارع كانت بمعنى (ربما) فوافقتها في الخروج إلى معنى التكثير، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 64] .. فقد أدخل (قد) ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن (قد) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى التكثير.
ومثله قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]؛ فقد في {قَدْ نَعْلَمُ} بمعنى (ربما) التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بـ (ربما) في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]؟
قال الشيخ: هي تفيد التقليل .. وهو وارد على مذهب العرب في قولهم: (لعلك ستندم على فعلك)، وربما ندم الإنسان على ما فعل، ولا يشكون في تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك ألا تفعل هذا الفعل، لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون، كما يتحرزون من المتيقن، ومن القليل منه كما من الكثير، ولذلك كان المعنى في الآية: (لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 384.
(2) الكشاف ج 2 ص 13.
القرآن.. والبيان الشافي (1/102)
فبالحرى أن يسارعوا اليه؛ فكيف وهم يودونه في كل ساعة)(1)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر استعمال اختلاف حروف الجر في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]؟
قال الشيخ (2): لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار (على) في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]؛ فلم قيل: {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، ولم يقل (لكم شهيدا)، وشهادته لهم لا عليهم؟
قال الشيخ (3): لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء، كما في قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، وقوله على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47]، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر اختيار (على) في قوله تعالى: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 21 - 22]؟
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 443، 444.
(2) الكشاف ج 3 ص 459.
(3) الكشاف ج 1 ص 149.
القرآن.. والبيان الشافي (1/103)
قال الشيخ (1): لما كان الغدو اليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه لا له، كما تقول: عدا عليه العدو.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بـ (على) بدل (اللام) في قوله تعالى: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40]
قال الشيخ (2): عُبّر بـ (على) مع سبق الضار، كما عُبّر بـ (اللام) مع سبق النافع، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات: 171 - 172]، وقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بلام الجر في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 2]، وما الفرق بينها وبين قولنا: أكان عند الناس عجبا؟
قال الشيخ (3): معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم وليس في (عند الناس) هذا المعنى.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر تعدي الفعل باللام في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112]، وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، بينما ورد التعدي بـ (إلى) في قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22]
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 473.
(2) الكشاف ج 3 ص 154.
(3) الكشاف ج 2 ص 257.
القرآن.. والبيان الشافي (1/104)
قال الشيخ (1): معناه مع اللام أنه جعل وجهه، وهو ذاته، سالما لله، أي خالصا له .. ومعناه مع (إلى) أنه أسلم اليه نفسه، كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع اليه.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر تعدي فعل المغفرة بـ (من) في خطاب الكافرين، كما في قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10]، وقوله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]، وقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 4] .. بينما لم يرد ذلك التعدي في خطاب المؤمنين، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وقوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71]
قال الشيخ (2): لئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .. وليشمل كل خطايا المؤمنين.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فلم عُدي فعل الايمان بـ (الباء) إلى الله تعالى، وإلى المؤمنين ب (اللام) في قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]
قال الشيخ: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدى بـ (الباء)، وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلّم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده؛ فعدى بـ (اللام)، ويدل على ذلك قوله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]، وقوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 394.
(2) الكشاف ج 2 ص 423.
القرآن.. والبيان الشافي (1/105)
الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وقوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه: 71]
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التعبير بأداتي الشرط (إن) و (إذا) في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] .. فكيف قيل {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} ب {فَإِذَا} .. و {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بـ {وَإِنْ} .. ولم نكّرت السيئة؟
قال الشيخ (1): لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه، أما السيئة فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا شيء منها، ومنه قول بعضهم: (قد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء)
بعد أن انتهى التلميذ الثالث من ذكر ما أشكل عليه من الأسرار المرتبطة بالحروف والأدوات، قام تلميذ آخر، وقال: أما أنا فائذن لي أستاذنا الفاضل أن أسألك عن بعض ما أشكل علي مما يرتبط بأسرار التعريف والتنكير.
قال الشيخ: لك ذلك .. فسل ما بدا لك.
قال التلميذ: ما سر التعريف ب (ال) في كلمة {النَّاسُ} في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]؟
قال الشيخ (2): لذلك وجوه .. منها أن اللام في (الناس) للعهد، أي كما آمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه .. أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم، ومن أبناء جنسهم، أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم .. أو للجنس، أي كما آمن الكاملون
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 114113.
(2) الكشاف ج 3 ص 49.
القرآن.. والبيان الشافي (1/106)
في الإنسانية .. أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر إضافة الآيات للقرآن في قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1]؟
قال الشيخ (1): إضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأن المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة اليه .. ومثله الإضافة الواردة في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، فإنها إنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما وتفخيما لشأنها، وأنها جاءت من عنده لكونها آية من آياته (2).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإضافة في كلمة {شُرَكَائِيَ} في قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27]؟
قال الشيخ (3): هي حكاية لإضافتهم ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم .. ومثله قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]؛ فإضافة الشركاء إليه تعالى على زعمهم توبيخا لهم.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإضافة في كلمة {بِوَلَدِهَا} في قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]
قال الشيخ (4): لما نُهيت المرأة عن المضارة أضيف اليها الولد استعطافا لها عليه، وأنه ليس بأجنبي منها، فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد، كما قال تعالى بعدها: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 373.
(2) الكشاف ج 2 ص 59.
(3) الكشاف ج 2 ص 469.
(4) الكشاف ج 1 ص 213.
القرآن.. والبيان الشافي (1/107)
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإضافة في كلمة {ابْنَ أُمَّ} في قوله تعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف: 150]؟
قال الشيخ (1): أضافه إلى الأم إشارة إلى أنهما من بطن واحدة، وذلك أدعى إلى العطف والرحمة، وأعظم للحق الواجب .. أو لأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها .. أو لأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإضافة في كلمة {زِلْزَالَهَا} في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]؟
قال الشيخ (2): معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده زلزال .. وهو مثل قولك: أكرم التقي إكرامه، وأهان الفاسق إهانته، تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة .. أو تفيد زلزالها كله وجميع ما هو ممكن.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التنكير في كلمة {هُدىً} في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}؟
قال الشيخ (3): نكرت كلمة {هُدىً} لتفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه، ولا يقدر قدره، كأنه قيل: على أي هدى، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا .. وذلك مثل قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9] .. أي أرضا منكورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر كلمة {بَعْضِ} في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 127.
(2) الكشاف ج 3 ص 624 وما بعدها.
(3) الكشاف ج 2 ص 348.
القرآن.. والبيان الشافي (1/108)
أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]؟
قال الشيخ: يعني بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} موضع ذلك، وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها، وواحد منها .. أو هذا الإبهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر الإبهام في كلمة {بَعْضَهُمْ} في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]؟
قال الشيخ (1): في هذا الإبهام من تفخيم فضل من رفع درجته، وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العَلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس، ولهذا يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم .. يريد الذي اشتهر بنحوه من الأفعال فيكون أفخم من التصريح وأنوه بصاحبه، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؛ فذكر زهيرا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسى، لم يفخم أمره.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر تنكير كلمة {غِشَاوَةٌ} في قوله تعالى: {خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]؟
قال الشيخ (2): معنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر تنكير كلمة {لَأَجْرًا} في قوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113]؟
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 226.
(2) الكشاف ج 1 ص 41.
القرآن.. والبيان الشافي (1/109)
قال الشيخ (1): التنكير للتعظيم كقول العرب: إن له لإبلا، وإن له لغنما .. يقصدون الكثرة.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التوحيد والتنكير في {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} في قوله تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]؟
قال الشيخ (2): للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة .. ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم .. وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالي بهم بالة، وإن ملؤوا ما بين الخافقين .. ومثله ما ورد في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]؛ تنكير العقدة، وتنكير النفس لغرض التقليل (3).
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التنكير في كلمة {نَفْسٌ} في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]، مع أن كل نفس تعلم ما أحضرت، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]؟
قال الشيخ (4): هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه، ومنه قوله عز وجل: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]، أي (كم يودون) .. وهو مثل قول بعض قواد العساكر إذا سئل: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندى .. أو: لا تعدم عندي فارسا، مع أن عنده الكثير، وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه، ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 110.
(2) الكشاف ج 4 ص 481.
(3) الكشاف ج 3 ص 48، ج 4 ص 406.
(4) الكشاف ج 4 ص 567.
القرآن.. والبيان الشافي (1/110)
يتزيد؛ فجاء بلفظ التقليل؛ ففهم منه معني الكثرة على الصحة واليقين.
قال التلميذ: فهل هذا يشبه ما ورد في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56]؟
قال الشيخ (1): أجل .. يجوز أن يكون المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو أن يراد بها نفس متميزة بلجاج في الكفر، أو أن يراد التكثير، مثلما يقال: رُب بلد قطعت، ورب بطل قارعت .. وهو لا يقصد إلا التكثير.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التنكير في كلمة {رَجُلٍ} في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] مع أن المقصود بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان مشهورا في قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم؟
قال الشيخ (2): نكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على مجهول في أمر مجهول، وكانوا يقصدون بذلك السخرية منه؛ فأخرجوه مخرج التحلى ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهى، متجاهلين به وبأمره.
قال التلميذ: وعيت هذا .. فما سر التنكير في كلمة {مَاءً} في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]؟
قال الشيخ (3):فيه إيذان باقتداره تعالى، وأنه لا يتغابى عليه شيء إذا أراده، وهو مثل ما ورد في الوعيد في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 105.
(2) الكشاف ج 1 ص 450.
(3) الكشاف ج 3 ص 141.
القرآن.. والبيان الشافي (1/111)
ما انتهى الشيخ من حديثه مع تلاميذه، حتى سمعنا الأذان يرفع بالصلاة؛ فسكت الشيخ إلى أن انتهى الأذان، ثم ختم مجلسه، وانفض تلاميذه، وبقيت جالسا، أنتظر أي يد تربت على كتفي، لتأخذني إلى محل آخر من محال البيان.
وقد شاء الله أن تكون تلك اليد هي يد الشيخ الزاهد نفسه، فقد خاطبني بقوله: ألا تقوم للصلاة؟
قلت: بلى .. ولكني كنت أنتظر من أسير معه إليها؛ فأنا غريب في هذه البلاد، ولا طاقة لي بالسير وحدي فيها.
قال الشيخ: وهل مع الله غربة؟ .. وهل مع إخوانك المؤمنين غربة؟ .. وهل يمكن للشخص أن يكون غريبا في بلاد القرآن الكريم؟
قلت: لقد كنت أستمع إليك، وأنا منبهر بما آتاك الله من ذوق رفيع، وحجة بالغة .. فمن أي قبيلة عربية أنت؟ .. وكيف اكتسبت هذا؟
قال: بل قل: كيف فتح الله عليك به .. فالعلوم فتوح لا مكاسب .. أما عن قبيلتي .. فأنا رجل من أهل فارس .. ولم يكن لي علم باللغة العربية .. بل لم أكن مسلما أصلا .. لكن الله شاء أن يقول لي بعض المسلمين أثناء دعوته لي: أنى لك أن تفهم إعجاز القرآن، وأنت رجل أعجمي .. وليس لك من سبيل لإدراك ذلك سوى حسن الثقة في شهادة من تحداهم القرآن الكريم .. ثم ذكر لي بعض ما يدل على ذلك من أخبار.
لكني ـ ولشدة تعلقي بالإسلام، ورغبتي في إيمان المشاهدة العيان ـ رحت مع خمسة من زملائي، ندرس اللغة العربية، بكل تفاصيلها، ومن مصادرها الأصلية .. بل إننا تركنا
القرآن.. والبيان الشافي (1/112)
الجاه والمال الذي كنا فيه، ورحنا نسكن البوادي، ونصاحب الأعراب، بل نرعى لهم إبلهم وغنمهم مقابل أن نتعلم منهم لغتهم .. إلى أن من الله علينا بفهمها وتذوقها .. وقد تذوقنا من خلالها القرآن الكريم، بل عشقناه، وآمنا به إيمان عيان ومشاهدة، لا إيمان تقليد واتباع.
قلت: إن ما سمعته منك من معان يقصر الأعراب والعرب الأقحاح دون التعرف عليها؟
قال: ألم تسمع بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نضر الله امرؤا سمع منا شيئا، فبلغه كما سمع؛ فرب مبلغ أوعى من سامع)(1)؟
قلت: بلى .. ولكن ما تقصد منه؟
قال: لقد شاء الله للعرب أن يتشرفوا بأن يكونوا متذوقين لبلاغة القرآن بالأصالة .. وشرفنا بأن نتذوقها بالتعلم والاكتساب والتدرب .. ونحن نرجو أن يرزقنا الله من فضله لا بقدر جهدنا وصدقنا وإخلاصنا، وإنما بقدر فضله وكرمه.
قال ذلك، ثم طلب مني أن أسير معه للمسجد .. وبعد أن صليت الفريضة، جلست مستندا إلى سارية من السواري، في انتظاره، أو في انتظار من يأخذ بيدي، وما هي إلا لحظات، حتى قام الشيخ، وقال: لقد شاء الله أن يجتمع اليوم في مسجدنا للصلاة خمسة من كبار أعلام البيان .. ونحن لن نأذن لهم بالانصراف منه حتى نستفيد من كل واحد منهم علما من العلوم التي تقربنا إلى القرآن الكريم.
وقبل أن يتقدموا للحديث، أريد أن أذكر لكم أنهم جميعا ممن آتاه الله البصيرة في دينه، والمجاهدة في سبيله .. وكلهم ضحى بكل ما يملك في سبيل أن يتعلم لغة القرآن الكريم، ليتذوق حقائقه ومعانيه .. وكلهم مصاديق لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان الإيمان عند الثريا
__________
(1) رواه الترمذي (2657)، وابن ماجة (232)
القرآن.. والبيان الشافي (1/113)
لناله رجال من هؤلاء)(1) .. يشير إلى أهل فارس، أو من كان قريبا منهم من غير العرب.
قام بعض المصلين، وقال: إن أذنت لنا شيخنا؛ فإنا نريد أن نسألهم عن معاني وأسرار ترتبط بالجملة القرآنية .. فقد علمنا أن لهم من الفقه فيها ما ليس لغيرهم.
قال الشيخ: لك ولكل من حضر المجلس أن يسأل ما يشاء .. فهم بحمد الله لن يضيقوا بأسئلتكم .. وكيف يضيقون بها، وهم الذين قدموا إليكم لأجل إجابتكم عنها؟
قام العالم الأول، وقال: بما أني أكبر القوم؛ فاسمحوا لي أن أكون أول من يتصدى لجوابكم .. فسلوا ما بدا لكم.
قال بعض الحضور: لقد علمنا أن من أسرار البيان القرآني معرفة أسباب التقديم والتأخير التي تُرتب على أساسها الكلمات في الجملة .. فهل لك أن تحدثنا عنها؟
قال الشيخ: بورك فيك، وفي سؤالك .. وهو وجيه جدا .. فبالتقديم والتأخير تنكشف الكثير من الحقائق والأسرار، وخاصة في الكلام المقدس الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] .. فالله لا يقدم إلا ما حقه التقديم، ولا يؤخر إلا ما حقه التأخير .. بالإضافة إلى أن البيان يبحث في أسرار وقوع الكلمات في مواقعها، ما جاء منها على الأصل وما جاء على خلافه.
وقد رأيت من خلال بحثي في هذا، أن التقديم نوعان: التقديم بين جزئي الجملة .. والتقديم في المتعلقات .. فعن أيهما تريدون مني أن أتحدث.
قام بعض الحضور، وقال: حدثنا أولا عن التقديم بين جزئي الجملة.
__________
(1) رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، تفسير ابن كثير، (8/ 116)
القرآن.. والبيان الشافي (1/114)
قال الشيخ (1): يشمل التقديم بين جزئي الجملة تقديم الخبر على المبتدأ سواء أكان مفردا أو جارا ومجرورا أو ظرفا، كما يشمل تقديم المبتدأ على الخبر سواء أكان هذا الخبر فعلا أو اسما.
قال السائل: ألا ترى شيخنا أن ذكرك لتقديم المبتدأ على الخبر غريبا، لأن المبتدأ حينما يتقدم على خبره يكون قد وافق الأصل، وما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (إنما يقال مقدم ومؤخر للمزال لا للقار)
قال الشيخ: لقد كنت أقول بهذا .. لكني رأيت أن هذا يمكن أن ينطبق على سائر الكلام ما عدا القرآن الكريم؛ ولهذا كنت أسأل في كل محل تقدم فيه المبتدأ على الخبر عن علة ذلك .. ولم جاء هذا الأسلوب على الأصل، وكان يمكن فيه المخالفة؟ .. فالسكوت عن السؤال عن علة ما جاء على الأصل أمر لا يطمئن اليه الدارس المتشوق إلى معرفة أسرار لغة القرآن الكريم.
قال السائل: وعينا هذا، ونحن معك فيه .. فحدثنا عن أسرار تقديم الخبر عندما يكون جارا ومجرورا.
قال الشيخ (2): هو حينها يدل في الغالب على الاختصاص، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] .. فتقديم الظرف في قوله {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} يدل على الاختصاص، يعني لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28]
ومثل ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25 - 26] ..
__________
(1) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، (ص 325)
(2) الكشاف ج 4 ص 595.
القرآن.. والبيان الشافي (1/115)
فسر تقديم الظرف هنا للتشديد في الوعيد، وللإخبار أن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير، ومعنى الوجوب: الوجوب في الحكمة، وإلا فإن الله أعظم من أن يوجب عليه أحد شيئا، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، وقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [هود: 123]، وغيرها كثير.
قال السائل: فما سر التقديم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] .. وكيف تنفي الاستدلال بها على الرؤية الحسية، والتي يذكرها المجسمة؟
قال الشيخ: {نَاظِرَةٌ} تدل على معنى الانتظار والترقب، لأنه لو كان بمعنى الرؤية للزم عليه أن هذه الوجوه لا تنظر إلا إلى ربها كما هو مقتضى التقديم، والواقع أن هذه الوجوه تنظر يوم القيامة إلى أشياء كثيرة، لأن أصحابها آمنون، وهم نظارة ذلك اليوم (1).
قال السائل: فما سر التقديم في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، ولم لم يقدم الظرف على الريبة كما قدم على الغول في قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47]؟
قال الشيخ: لأن القصد نفي الريب عنه واثبات أنه حق وصدق، لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعون، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أن كتابا آخر فيه ريب، لا فيه، كما قصد ذلك في قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47]؛ فتفضيل خمر الجنة على الدنيا، بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي من باب
__________
(1) ينظر الكشاف ج 4.
القرآن.. والبيان الشافي (1/116)
(ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة)(1)
قال السائل: فما سر التقديم في قوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]؟
قال الشيخ (2): لأنه كان أهم عنده .. وفيه ضرب من التعجب والإنكار، لرغبته عن آلهته، وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد.
قال السائل: فما سر التقديم والتأخير في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقوله بعدها: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] .. فكيف قُدمت الزانية على الزاني أولا، ثم قدمه عليها ثانيا؟
قال الشيخ (3): سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة في العادة والغالب (4) هي المادة التي منها نشأت الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل، ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمح ولم يتمكن؛ فلما كانت أصلا وأولا في ذلك، بدئ بذكرها .. وأما الثانية فمسوقة لذكر الزواج، والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب.
قام رجل آخر، وقال: حدثتنا عن أسرار التقديم بين جزئي الجملة .. فحدثنا عن أسرار التقديم بين المتعلقات بها.
قال الشيخ: التقديم في المتعلقات ينقسم قسمين: تقديم المتعلقات على العامل ..
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 27.
(2) الكشاف ج 3 ص 15.
(3) الكشاف ج 3 ص 168167.
(4) والآية طبعا تتحدث عن الزنا برغبة، وليس عن الغصب، لأن المرأة لا تعاقب فيه، بل يعاقب الرجل عقوبة الغصب والحرابة.
القرآن.. والبيان الشافي (1/117)
وتقديم بعض المتعلقات على بعض.
قال السائل: فحدثنا عن أسرار تقديم المعمول على العامل.
قال الشيخ (1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]؛ فقوله {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} خرج عن سنن الخطاب مقدم فيه (النجم)، ومقحم فيه (هم) .. كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون .. وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس بكل النجوم يهتدون .. ولا كل الناس يطيق الاهتداء بها، بل هو خاص بمن يعرف مواضعها.
قال السائل: أهو نفسه سر التقديم في قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] .. لقد كنت أقول لنفسي: أي فائدة في تقديم الظروف حتى أوقع فصلا؟
قال الشيخ (2): أجل .. والفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
قال السائل: أهو نفسه سر التقديم في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8]؟
قال الشيخ: أجل .. وهو نفسه في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 31 - 32]
قال السائل: فما وجه التقديم في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 466.
(2) الكشاف ج 3 ص 173.
القرآن.. والبيان الشافي (1/118)
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] .. وقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] .. وهل لها نفس ما سبق من الأمثلة؟
قال الشيخ: الأكل الوارد في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] محصور في الحب لأنه هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، واذا قل جاء القحط، ووقع الضر، وجاء الهلاك، ونزل البلاء (1).
والأكل الوارد في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] محصور في الأنعام، لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمد عليه الناس في معايشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه (2).
قال السائل: فما وجه التقديم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .. فلم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا؟
قال الشيخ (3): لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
قال السائل: فلم أُخرت الصلة في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وقدمت في قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]؟
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 11.
(2) الكشاف ج 2 ص 462.
(3) الكشاف ج 1 ص 149.
القرآن.. والبيان الشافي (1/119)
قال الشيخ: في قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] قُصد الاختصاص فقيل {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، وان كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هرم وعاقر .. وأما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] لا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى (1).
قال السائل: فبم يتعلق قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8]
قال الشيخ: بمحذوف تقديره: (ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما، وهو إثبات الاسلام وإظهاره وابطال الكفر ومحقه، ويجب أن يقدر المحذوف متأخرا حتى يفيد معنى الاختصاص، فينطبق عليه المعنى (2) ..
ومثله (3) قوله تعالى: {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] في سورة الفاتحة، وفي كل سورة، لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به، هو المتعلق به، لأنهم كانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه، وتأخير الفعل كما فعل في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص، والدليل عليه قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]
قال السائل: لكن ذلك قد يعارض بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فقد قدّم فيها الفعل.
قال الشيخ: ذلك يحسن لأن تقديم الفعل أوقع، لأنها أوّل سورة نزلت؛ فكان الأمر
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 375، وقد علق ابن المنير على هذا بقوله: (كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر لا بالحبر) حاشية ابن المنير فى نفس الكتاب.
(2) الكشاف ج 2 ص 150.
(3) الكشاف ج 1 ص 3.
القرآن.. والبيان الشافي (1/120)
بالقراءة أهم.
قال السائل: فما معنى تعلق اسم الله بالقراءة في {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]؟
قال الشيخ (1): فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتابة في قولك: كتبت بالقلم، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتدا به في الشرع، واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر) إلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم الله كما يفعل الكاتب بالقلم .. والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات، كما في قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20]، ومعناها حينئذ: متبرّكا بسم الله أقرأ .. وهو مثل قول الداعي للمعرس: بالرفاء والبنين، معناه أعرست ملتبسا بالرفاء والبنين، وهذا الوجه أعرب وأحسن.
قال السائل: فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركا باسم الله أقرأ؟
قال الشيخ (2): هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره، وكثير من القرآن على هذا المنهاج، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه.
قال السائل: لم قدمت الوصية على الدين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]؟
قال الشيخ: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض كان إخراجها مما يشق على الورثة، ويتعاظمهم، ولا تطيب أنفسهم بها، كان أداؤها مظنة
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 3.
(2) الكشاف ج 1 ص 4.
القرآن.. والبيان الشافي (1/121)
للتفريط، بخلاف الدّين، فان نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها، والمسارعة إلى اخراجها مع الدين، ولذلك جئ بكلمة (أو) للتسوية بينهما في الوجوب (1).
قال السائل: فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]
قال الشيخ (2): لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر.
قال السائل: فما سر الترتيب الوارد في قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]
قال الشيخ (3): بدأ بالأخ، ثم بالأبوين، لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين، لأنهم أقرب منه وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته، وبنيه.
قال السائل: فما سر الترتيب الوارد في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]
قال الشيخ (4): خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم حتى يقتل، وقدمهم في الذكر على الأنفس، لينبه على لطف مكانهم، وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها.
قال السائل: فما سر الترتيب الوارد في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 373.
(2) الكشاف ج 3 ص 181.
(3) الكشاف ج 4 ص 563.
(4) الكشاف ج 1 ص 283.
القرآن.. والبيان الشافي (1/122)
وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] .. ولم قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نوح فمن بعده؟
قال الشيخ: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم، فلما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل هؤلاء المفضلين قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدّم من قدّمه زمانه.
قال السائل: فقد قدم نوحا عليه السلام في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]؟
قال الشيخ (1): مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة الآية السابقة، ذلك أن الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الاسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير.
قال السائل: فلم قدمت الأرض على السماء في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] مع أن حق السماء أن تقدم على الأرض كما في الكثير من الآيات؟
قال الشيخ (2): لما ذكر الله تعالى شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} لاءم ذلك أن قدم الأرض على السماء.
قال السائل: فلم قدم الموت على الحياة في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]؟
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 415.
(2) الكشاف: ج 2 ص 278.
القرآن.. والبيان الشافي (1/123)
قال الشيخ (1):لأن أقوى الدوافع إلى العمل تذكر الموت .. فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم.
قال السائل: فلم قدمت الإراحة على التسريح في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]؟
قال الشيخ (2): لأن الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم آوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
قال السائل: فما السر في تقديم {هَذَا} في قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل: 68]، ولم أخر عنها في قوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 83]؟
قال الشيخ (3): التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر، وأن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أن اتخاذ البعث هو المقصود بالكلام، وفي الأخرى المقصود هو المبعوث.
قال السائل: فما السر في تقديم اليهود في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]؟
قال الشيخ (4): وصف الله تعالى شدة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق، ولين عريكة النصارى، وسهولة ارعوائهم، وميلهم إلى الاسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين
__________
(1) الكشاف: ج 4 ص 461.
(2) الكشاف: ج 1 ص 462.
(3) الكشاف: ج 3 ص 299.
(4) الكشاف: ج 1 ص 520.
القرآن.. والبيان الشافي (1/124)
أشركوا، وكذلك فعل في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]، فإنه لما كان اليهود أدخل في وصف العداوة قدمهم القرآن وكذلك في الحرص على الحياة.
قال السائل: فلم قدمت الجبال على الطير في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]؟
قال الشيخ (1): لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب، وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان إلا أنه غير ناطق.
قال السائل: فما سر تقديم الدعاء بالاستغفار على تثبيت الأقدام في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147]؟
قال الشيخ (2): قدم الدعاء بالاستغفار على تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع، وأقرب إلى الاستجابة.
قال السائل: فلم قدم الوعد على الرسل في قوله تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] .. لم لم يقل: مخلف رسله وعده .. لم قدم المفعول الثانى على الأول؟
قال الشيخ (3): قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، ثم قال {رُسُلَهُ} ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 101.
(2) الكشاف ج 1 ص 227.
(3) الكشاف ج 2 ص 440.
القرآن.. والبيان الشافي (1/125)
شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟
قال السائل: فما سر تقديم العبادة على الاستعانة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؟
قال الشيخ (1): لأن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبد عابدا إلا وهو على العبادة مُعان.
بعد أن انتهى العالم الأول من حديثه، قام العالم الثاني، وقال: نشكر أخانا على هذه الإجابات الوافية الشافية .. وأنا الآن في خدمتكم بعده .. فسلوا ما بدا لكم.
قال بعض الحضور: لقد حدثنا صاحبك عن أسرار التقديم والتأخير .. ونحن نريد منك أن تحدثنا عن أسرار الأمر والنهي.
قال الشيخ (2): بورك فيك، وفي طلبك .. وهو وجيه جدا .. فبالتعرف على الأمر والنهي تتجلى الكثير من الحقائق المرتبطة بالتشريعات القرآنية .. ولهذا كان موضع عناية الأصوليين والفقهاء، لاهتمامهم ببيان ما يُراد بها في أمور الدين من ناحية الوجوب والندب والإباحة .. وأنا طبعا لن أحدثكم عنها، ولن أجيبكم على أسئلتكم في هذا المجال؛ فأنا لست مفتيا ولا فقيها .. ورحم الله أمرؤا عرف قدره، ولم يتجاوزه .. ولهذا اسألوني ما شئتم عن الأمر والنهي في البيان القرآني.
قال السائل: ونحن لم نرد أن نسألك عن ذلك .. وهو الأهم عندنا .. فأخبرنا عن
__________
(1) تفسير الطبرى ج 1 ص 70.
(2) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية (ص 368)
القرآن.. والبيان الشافي (1/126)
معنى الأمر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]
قال الشيخ (1): هو طلب الفعل ممن هو دونك، وبعثه عليه، وبه سمى الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعى الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بأمر يأمره به فقيل له (أمر) تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له (شأن) والشأن الطلب والقصد، يقال: شأنت شأنه، أي قصدت قصده.
قال السائل: فهل هو ثابت على هذا المعنى أم أن معاني الأوامر تتغير بتغير السياق؟
قال الشيخ: بل هي تتغير بتغير السياق .. فقد يراد من الأمر التهكم، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] .. ففي أمرهم أن يستظهروا بأصنامهم التي لا تنطق في معارضة القرآن بفصاحته غاية التهكم (2).
ومنها الاستهزاء، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] .. قال ذلك استهزاء بهم أي: إن كنتم رجالا دافعين لأسباب الموت فادرؤوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.
ومنها طلب الثبات على الفعل والزيادة منه كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]؛ فالمراد بعبادة المؤمنين ازديادهم منهم وإقبالهم وثباتهم عليها، وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد منه، وهو الإقرار كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرها وما لا بد للفعل
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 91.
(2) الكشاف ج 1 ص 76.
القرآن.. والبيان الشافي (1/127)
منه فهو مندرج تحت الأمر به (1).
ومنها الاباحة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] .. فإباحة الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل: واذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا (2).
ومنها الدلالة على الحيرة والاضطراب في حال الشدة، كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [الأعراف: 50] .. فهم إنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم كما يفعل المضطر الممتحن (3).
ومنها الاستعجال كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] .. فقد قالوا ذلك استعجالا منهم للعذاب (4).
ومنها الدعاء كما في قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]؛ فهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به (5).
قال السائل: فما سر الدعاء الوارد في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 338.
(2) الكشاف ج 1 ص 68.
(3) الكشاف ج 2 ص 585.
(4) الكشاف ج 2 ص 97.
(5) الكشاف ج 1 ص 313.
القرآن.. والبيان الشافي (1/128)
[يونس: 88]؟
قال الشيخ: هذا من الدعاء بما علم أنه واقع لا محالة، وقد لجأ إليه موسى عليه السلام بعد أن أفرغ عظيم جهده في الدعوة، لكنه لم يجد من قومه إلا إصرارا وعنادا .. وهو يشبه دعاء نوح عليه السلام، وقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27]
وهو في دعائه هذا يشبه من يقول: لعن الله إبليس، وأخزى الله الكافر، مع علمه أنه لا يكون غير ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم صلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا، ويخلي بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه (1).
وعلى هذا المنوال ما ورد من الدعاء من باب اللجأ والضراعة إلى الله، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] فهو دعاء بما هو متيقن الوقوع؛ فوعد الله محقق الوقوع لا محالة.
قال السائل: فما سر الأمر الوارد في قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55]، وقوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 66]؛ فكيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر، وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟
قال الشيخ: معاذ الله أن يأمر الله بذلك .. وإنما ذاك الأمر مجاز عن الخذلان والتخلية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر، وعندك علم أن ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت عليه، وقلت: أنت وشأنك، وافعل ما شئت .. فأنت لا تريد بهذا حقيقة الأمر، وكيف
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 286.
القرآن.. والبيان الشافي (1/129)
والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهية متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت، وتبعث عليه، ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح، وفساد رأيك (1).
قال السائل: فما دلالة الأمر بالإيفاء عقب النهي عن البخس الوارد في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84 - 85] .. أليس النهي عن النقصان أمر بالايفاء فما فائدة قوله {أَوْفُوا}؟
قال الشيخ: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأن في التصريح بالقبيح نعيا على المنهى، وتعييرا له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول معرفا بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه (2).
قال السائل: فما دلالة الإشارة إلى التسوية بين فعل المأمور به وتركه في قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53]؛ فكيف أمرهم بالانفاق ثم قال: {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}؟
قال الشيخ: هو أمر في الخبر، وهو دال على نهاية السخط على المأمور ورد أعماله اليه، وهو كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها .. ومثله قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]، أي لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 365.
(2) الكشاف ج 1 ص 326.
القرآن.. والبيان الشافي (1/130)
وهو يشير كذلك إلى إهانة المأمور، واحتقاره، وازدرائه، وأنه لا يلتفت إلى فعله، كما في قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]، ففيها أمر بالاعراض عنهم، واحتقارهم، والازدراء بشأنهم، وألا يكترث بهم، وبإيمانهم، وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل، وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب، وعملوا بالوحي وبالشرائع قد آمنوا به وصدقوه (1).
قال السائل: فما دلالة الأمر في قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]؟
قال الشيخ: هو من مجيء الخبر في صورة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، ومعناه (فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا)، إلا أنه أُخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره (2) .. وقد يعكس هذا فيقع الأمر في صورة الخبر، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 76] فـ {يُقَاتِلُونَ} فيه معنى الأمر، كقوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11] .. وهذا الأسلوب يدل على أنه سورع إلى الامتثال والانتهاء، حتى صار يُخبر عنه (3).
قال السائل: هل تقصد من هذا أن الأمر يصاغ بصيغة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، فيجعل كأنه يوجد فهو يخبر عنه (4).
قال الشيخ: أجل .. وقد يعبر القرآن الكريم عن حدث وقع بصيغة الأمر ليشير إلى
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 545.
(2) الكشاف ج 3 ص 233.
(3) الكشاف ج 2 ص 246.
(4) الكشاف ج 2 ص 372.
القرآن.. والبيان الشافي (1/131)
كيفية وقوع هذا الحدث، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، فمعنى قوله {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُوا}: فأماتهم، وانما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أُمروا بشيء؛ فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
قال السائل: ما سر تعقيب الأمر بالتقوى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، ذلك أن العادة جرت بأن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو اليها، ويبعث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا اليها؟
قال الشيخ: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة؛ فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه، ويخشى عقابه .. ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم أن يتقوه في كفرانها، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها .. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة، هي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوفا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة (1).
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 355.
القرآن.. والبيان الشافي (1/132)
قام سائل آخر، وقال: أجبتنا عما أشكل علينا من أسرار الأمر ودلالاته .. فأجبنا عما أشكل علينا من أسرار النهي ودلالاته.
قال الشيخ: سلوا ما بدا لكم.
قال السائل: ما سر النهي الوارد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
قال الشيخ (1): النهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الاسلام إذا ماتوا، وهو كقولك: لا تصل إلا وأنت خاشع، فأنت لا تنهاه عن الصلاة، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته، ولإظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة، فكأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة، وهو يشبه في ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)؛ فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد: لا تصل إلا في المسجد .. وهو يشير كذلك إلى أن موتهم لا على حال الثبات على الاسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت ألا يحل فيهم، ومثله ما يقال في الأمر: مت وأنت شهيد، وليس مرادك الأمر بالموت، ولكن بالكون على صفة الشهداء، إذا مات، وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته وإظهارا لفضلها على غيرها، وأنها حقيقة بأن يبحث عنها.
قال السائل: فما سر النهي الوارد في قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} [آل عمران: 196]، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان غير مغرور بحالهم؟
قال الشيخ: هو لتأكيد الاستمرار على الحال التي عليها المخاطب، وذلك إذا كان المخاطب غير متصف بالمنهى عنه، وهو كقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105]، وقوله: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 143.
القرآن.. والبيان الشافي (1/133)
[الفرقان: 52]، وقوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] ..
ومثله كل الآيات الكريمة التي نهي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفعال لا يجوز عليه التلبس بها، ومن أمثلتها قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94 - 95]، أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك، والتكذيب بآيات الله.
ومن أمثلته قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 86 - 88] .. وكل ذلك لزيادة التثبيت والعصمة.
وكل ذلك نظير قوله تعالى في الأمر: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، مع أن الداعي قد يكون على صراط مستقيم .. فهو يقصد طلب الثبات عليه.
قال السائل: فما سر النهي الوارد في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] .. فقد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده، ومع أموالهم؛ فلم ورد النهى عن أكله معها؟
قال الشيخ (1): لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم، وسمّع بهم ليكون أزجر لهم.
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 385.
القرآن.. والبيان الشافي (1/134)
بعد أن انتهى العالم الثاني من حديثه، قام العالم الثالث، وقال: نشكر أخانا على هذه الإجابات الوافية الشافية .. وأنا الآن في خدمتكم بعده .. فسلوا ما بدا لكم.
قال بعض الحضور: لقد حدثنا صاحبك عن أسرار الأمر والنهي .. ونحن نريد منك أن تحدثنا عن أسرار النفي والإثبات .. فقد سمعنا أن النفي قد يأتي في صورة الإثبات.
قال الشيخ (1): أجل .. وهو حينئذ يدل على أبلغ الجحود والانكار، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولًا} [الفرقان: 41] .. فإخراجه في معرض التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء، ولو يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولا؟
قال السائل: فلم حذف حرف الإنكار الدال على النفي في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]
قال الشيخ: ليكون النفي أبلغ وآكد، وهو كلام في صورة الإثبات، ومعناه النفي والانكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصور بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في مسلكه، وهو يشبه في ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14] فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار؟ أي كمثل جزاء من هو خالد في النار.
قال السائل: فلم حذف حرف الانكار، وما فائدة الحذف؟
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 385، حاشية ابن المنير فى نفس الصفحة.
القرآن.. والبيان الشافي (1/135)
قال الشيخ (1): حذف حرف الانكار لزيادة تصوير مكابرة من يسوي بين التمسك بالبينة والتابع لهواه .. أو أنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار، وبين النار التي يسقي أهلها الحميم.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]؛ فالنفي هنا متوجه إلى معنى ثابت.
قال الشيخ (2): ليفيد بهذا أن وجوده مخالف لما ينبغي أن يكون، وأن الأصل في مثله أن يكون منفيا وذلك من باب التخييل، حيث خُيل أن من الممتنع المحال أن نجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه، والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتغلب في مجانبة أعداء الله، ومباعدتهم، والاحتراس عن مخالطتهم ومعاشرتهم.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] .. فاجتناب ذلك واجب في كل حال؟
قال الشيخ (3): ليس المراد تخصيص النفي بهذه الحالة، وانما المراد نفيه في كل الأحوال، وخصت هذه الحال لأن الفعل معها أقبح؛ فالنفس في طواعيتها لمجانبته أسرع .. وهو كلبس الحرير في الصلاة.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 255.
(2) الكشاف ج 4 ص 396.
(3) الكشاف ج 1 ص 184.
القرآن.. والبيان الشافي (1/136)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119]
قال الشيخ (1): الشبع والري والكسوة والكن هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف، ولا إلى كسب كاسب، كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هى: الجوع، والعرى، والظمأ، والضحوة، ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]؛ فكيف قيد النفي في {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
قال الشيخ (2): المراد هنا هو نفي المقيد والقيد في كل الأحوال، فالنفي في الآية الكريمة للسؤال والإلحاف جميعا.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]
قال الشيخ: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معا .. أو أن يتناول الطاعة دون الشفاعة، كما تقول: ما عندي كتاب يُباع، فهو محتمل نفي البيع وحده، وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه، ويحتمل نفيهما جميعا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعا.
قال السائل: فعلى أي الاحتمالين يجب حمله؟
قال الشيخ: على نفي الأمرين جميعا من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين فلا يحبونهم، واذا لم
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 7372.
(2) الكشاف ج 1 ص 243.
القرآن.. والبيان الشافي (1/137)
ينصروهم ولم يشفعوا لهم.
قال السائل: ما دام قد حصل الغرض بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟
قال الشيخ (1): في ذكرها فائدة جليلة، وهي أنها ضُمت اليه ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف .. ومثاله أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو، فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معي سلاح أحارب به؛ فقد جعلت عدم الفرس، وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة، ولا فرس لي ولا سلاح معي، فكذلك قوله تعالى: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]؛ فمعناه: كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 61]، ومثلها قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 67] .. فلم لم يقل ضلال، أو سفه؟
قال الشيخ (2): قد يراد تعميم النفي وشموله، لكن يتجه النفي إلى أخص حالات المنفي التي يلزم من نفيها نفي ما عداها، ولذلك قال {ضَلَالَةٌ} ولم يقل (ضلال)، لأن الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال .. ومثله ما لو قيل لك: ألك تمر؟ قلت: ما لي تمرة.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 123122.
(2) الكشاف ج 3 ص 89.
القرآن.. والبيان الشافي (1/138)
وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] فلم نفي عنهم الاستحسار الذي هو مبالغة في الحسور؟ .. أليس الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور؟
قال الشيخ (1): المراد نفي أدنى مراتب الحسور لا أبلغها، ونفي الأبلغ لا يستلزم نفي الأقل، ولكنه عمد إلى هذا ليشير إلى أن ما هم فيه من مواصلة العبادة حقيق بأن يصيبهم بغاية الضعف والكلال .. وبذلك فإن النفي قد يتجه إلى أبلغ حالات المنفي، والمراد نفيه في حالاته كلها؛ فنفي الأبلغ لا يقتضي نفي ما هو دونه، ولكن المتكلم يعمد إلى هذه الطريقة ليلفت إلى أن البلوغ إلى أبلغ الحالات في هذا الفعل المنفي حقيق بمن هو في مثل حاله.
قال السائل: فما سر النفي الوارد في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص: 44]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] مع أن هذا من المعلوم نفيه؟
قال الشيخ (2): هذا تهكم بمن كذبه، لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحدا، ولا سمع فيه ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به، وقص هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه، وأنه من جهة الوحى، فإذا أنكروه تهكم بهم، وقيل لهم: علمتم بالمكابرة أنه لم يكن شاهدا لما مضى من القرون الخالية.
قال السائل: فما سر قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 85.
(2) الكشاف ج 2 ص 395.
القرآن.. والبيان الشافي (1/139)
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]؛ فلم قال: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}، وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟
قال الشيخ (1): لأنه احتجاج في مقاولة خصوم موسى عليه السلام ومنكريه، وهو في حاجة إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة؛ فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له، وقبولهم منه، فقال: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}، وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه، ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا أن يتعصب له .. وهكذا نراه قدم الكاذب على الصادق من هذا الباب .. ومثله قوله: {إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
قال السائل: أمثل هذا ما ورد في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]
قال الشيخ (2): أجل .. فهذا من الكلام المنصف الذي يشهد كل من سمعه من موال أو مناف بالإنصاف، ويقول لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك .. وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أفضى بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة،
__________
(1) الكشاف (4/ 163)
(2) الكشاف (3/ 581)
القرآن.. والبيان الشافي (1/140)
مع قلة شغب الخصم، وفل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منا.
بعد أن انتهى العالم الثالث من حديثه، قام العالم الرابع، وقال: نشكر أخانا على هذه الإجابات الوافية الشافية .. وأنا الآن في خدمتكم بعده .. فسلوا ما بدا لكم.
قال بعض الحضور: لقد حدثنا صاحبك عن أسرار النفي والإثبات .. ونحن نريد منك أن تحدثنا عن أسرار الاستفهام والتعجب.
قال الشيخ: سلوا ما بدا لكم.
قال السائل: ما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43]
قال الشيخ (1): في قوله: {أَفَأَنْتَ} دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء كما لا يقدر على رد الأصم والأعمى المسلوبي العقل حديدي السمع والبصر راجحي العقل إلا الله وحده.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]
قال الشيخ (2): المكرَه دون فعله دليل على أن الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام:
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 274.
(2) الكشاف ج 4 ص 65.
القرآن.. والبيان الشافي (1/141)
14] .. فلم دخلت همزة الاستفهام على المفعول لا على الفعل؟
قال الشيخ (1): لأن الانكار في اتخاذ غير الله وليا، لا في اتخاذ الولى؛ فكان أولى بالتقديم، ومثله قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ الله لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ الله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66]؟ .. ولم قدم الظرف؟
قال الشيخ (2): ذلك لأن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم؛ فهو كقولك للمسيء إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت اليه؟
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]؟
قال الشيخ (3): الاستفهام هنا يفيد تفخيم شأن المستفهم عنه، كأنه قال: عن أي شيء يتساءلون، ونحوه (ما) في قولك: زيد ما زيد؟ .. كأنه شيء خفي عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره، كما تقول: ما الغول؟ وما العنقاء؟ .. تريد أي شيء هو من الأشياء، هذا أصله ثم جرد للعبارة عن التفخيم، حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84]
قال الشيخ (4): للتبكيت، لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب؛ فلا يقدرون أن يكذبوا،
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 7.
(2) الكشاف ج 3 ص 4.
(3) الكشاف ج 4 ص 542.
(4) الكشاف ج 3 ص 303.
القرآن.. والبيان الشافي (1/142)
ويقولوا قد صدقنا بها، وليس إلا التصديق بها أو التكذيب .. ومثاله أن تقول لراعيك وقد عرفته: رويعي سوء .. أتاكل نعمي أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل (ما) تبدأ به، وتجعله أصل كلامك، وأساسه هو الذي صح عندك من أكله وفساده، وترمي بقولك (أم ماذا تعمل بها؟) مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل، لتبهته وتعلمه بأنه لا يجيء منه إلا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح لما شهر من خلاف ذلك .. أو أراد: أما كان لهم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله، أم ماذا كنتم تعملون غير ذلك؟ .. يعني أنه لم يكن لهم عمل غيره كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية، مع أنهم في الأصل خلقوا للإيمان والطاعة.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] والمركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي؟
قال الشيخ (1): لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها؛ فالاستفهام إذا أدخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72]؟
قال الشيخ (2): هو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله، وانما أنكرت عليها الملائكة تعجبها، فقالوا: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73]، لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]؟
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 4948.
(2) الكشاف ج 2 ص 312.
القرآن.. والبيان الشافي (1/143)
قال الشيخ (1): الهمزة للانكار .. أي: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد، وهم البنون لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ أدونهم ـ بحسب اعتقادكم ـ وهذا خلاف الحكمة، وما عليه معقولكم وعاداتكم.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73]؟
قال الشيخ (2): تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثله وتسلية له.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130]؟
قال الشيخ (3): يقال لهم يوم القيامة ذلك على جهة التوبيخ.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؟
قال الشيخ (4): ذلك من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلا عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع؛ فهل أنتم من هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 521.
(2) الكشاف ج 1 ص 282.
(3) الكشاف ج 2 ص 52.
(4) الكشاف ج 1 ص 526.
القرآن.. والبيان الشافي (1/144)
مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 211]، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101]؟
قال الشيخ (1): هذا السؤال سؤال تقريع كما تسأل الكفرة يوم القيامة.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]؟
قال الشيخ (2): هذا تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43]؟
قال الشيخ (3): هذا تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به، وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246]؟
قال الشيخ: هذا استفهام تقرير، أي هل قاربتم ألا تقاتلوا، يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: هل عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال؛ فأدخل (هل) مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبت أن المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه، وهو كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 196.
(2) الكشاف ج 1 ص 498.
(3) الكشاف ج 1 ص 494.
القرآن.. والبيان الشافي (1/145)
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]، ومعناه التقرير.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10]؟
قال الشيخ (1): الهمزة و (أم) مجردتان لمعنى الاستواء، وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا، وقد قال أستاذنا سيبويه معبرا عن ذلك: (جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) .. يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام، ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على صورة النداء، ولا نداء .. ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا بعينه فكلاهما معلوم بعلم غير معين.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]، وما هو على شاكلته؟
قال الشيخ (2): ظاهره الاستفهام، ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخض على أحد، والتشويق إلى استماعه.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء: 39]؟
قال الشيخ (3): ظاهره الاستفهام، ومعناه الدلالة على استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لابنه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 37.
(2) الكشاف ج 4 ص 79.
(3) الكشاف ج 3 ص 245.
القرآن.. والبيان الشافي (1/146)
يحركه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل اليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]؟
قال الشيخ (1): ظاهره الاستفهام، ومعناه الدلالة على التقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]؟
قال الشيخ (2): ظاهره الاستفهام، ومعناه الدلالة على الانكار والتعجيب، وهو كقولك: أتكفرون بالله، ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الايمان .. ونظيره قولك: أتطير بغير جناح؟
قال السائل: قولك (أتطير بغير جناح) إنكار للطيران لأنه مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء.
قال الشيخ: وهذا أيضا قد أخرج في صورة المستحيل لما قوي من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]؟
قال الشيخ (3): ظاهره الاستفهام، ومعناه الدلالة على الاستقصار، والتعيير،
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 99.
(2) الكشاف ج 1 ص 91.
(3) الكشاف ج 1 ص 266.
القرآن.. والبيان الشافي (1/147)
والتوبيخ .. أي أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الاسلام ويقتضي حصوله لا محالة؛ فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته: هل فهمتها لا أمّ لك؟ .. وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .. فقد استفهم بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الانصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانا للحق.
قال السائل: فما سر السؤال الوارد في قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]؟
قال الشيخ (1): ظاهره السؤال، ومعناه الدلالة على التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم، وشهد عليهم أنبياؤهم.
قال السائل: فما سر السؤال الوارد في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40]؟
قال الشيخ (2): ظاهره السؤال، ومعناه الدلالة على توبيخ من كذب بها، وهو نوع قريب من التعريض .. فهذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهو مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى عليهم السلام منزهين برآء مما وجه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد وتعييرهم أبلغ وخجلهم
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 69.
(2) الكشاف ج 3 ص 464.
القرآن.. والبيان الشافي (1/148)
أعظم.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]؟
قال الشيخ (1): ظاهره السؤال، ومعناه الدلالة على توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤودة توبيخا للوائد .. قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9]
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]؟
قال الشيخ (2): ظاهره السؤال، ومعناه لفت المسئول إلى المسئول عنه، ليتبينه أشد التبيين، تمهيدا لإحداث أمر عظيم فيه .. فالله تعالى سأل موسى عليه السلام ليريه عظم ما يخترعه في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة .. وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة .. ومثاله أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك: ما هى؟ فتقول: زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسرودا، فيقول لك: هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد.
قال السائل: فما سر الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]، ولم طلب أولا ـ وهو وامرأته على صفة العتي والعقر ـ فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟
قال الشيخ (3): ليجاب بما أجيب به؛ فيزداد المؤمنون إيقانا، ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا عليه السلام أولا وأخيرا كان على منهاج واحد في أن الله غني عن الأسباب.
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 537.
(2) الكشاف ج 3 ص 44.
(3) الكشاف ج 3 ص 4.
القرآن.. والبيان الشافي (1/149)
قال السائل: فما سر الجواب الوارد في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 69 - 71]؛ فقد سألهم عن المعبود فحسب؛ فكان القياس أن يقولوا (أصناما) كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، وقوله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30]؟
قال الشيخ (1): هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم عليه السلام، وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار، ولهذا تراهم عطفوا على قوله {نَعْبُدُ} قولهم: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ولم يقتصروا على زيادة {نَعْبُدُ} وحدها.
قال السائل: فما سر جواب إبليس حينما سأله الله تعالى قائلا: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]؟
قال الشيخ (2): هو مثل جواب قوم إبراهيم عليه السلام، لأنه ذكر قصته مبتهجا بها، وهي تنطوي على علة امتناعه.
قال السائل: فما سر جواب موسى عليه السلام الوارد في قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 83 - 84]؛ فالسؤال كان عن سبب العجلة، وكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك، أو الشوق إلى كلامك، وتنجيز موعدك، وقوله {هُمْ أُولَاءِ عَلى أَثَرِي} غير منطبق عليه؟
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 250.
(2) الكشاف ج 2 ص 70.
القرآن.. والبيان الشافي (1/150)
قال الشيخ (1): قد تضمن جواب موسى عليه السلام أمران: أحدهما إنكار العجلة في نفسها .. والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه؛ فكان أهم الأمرين إلى موسى عليه السلام بسط العذر، وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه؛ فاعتل بأنه لم يوجد منه إلا تقدم يسير، مثله لا يعتد به، ولا يحتفل به، ثم عقبه بجواب السؤال فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى}
قال السائل: فما سر الجواب الوارد في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29 - 30]؛ فكيف انطبق هذا جواب عن سؤالهم؟
قال الشيخ (2): ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتا، لا استرشادا؛ فجاء الجواب عن طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم؛ فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما.
قال السائل: فما سر الجواب الوارد في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75]؛ فكيف صح قولهم {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} جوابا عنه؟
قال الشيخ (3): سألهم عن العلم بإرساله؛ فجعلوا إرساله أمرا معلوما مكشوفا مسلما لا يدخله ريب، كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به مما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبرهم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة: إنا بالذي آمنتم به كافرون، فوضعوا (آمنتم به) موضع (أرسل به)، ردا لما
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 63، 64.
(2) الكشاف ج 3 ص 460.
(3) الكشاف (2/ 123)
القرآن.. والبيان الشافي (1/151)
جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما.
قال السائل: فما سر التعجب الوارد في قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]؟
قال الشيخ (1): هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه، فقد قصد في {كَبُرَ} التعجب من لفظه .. ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند إلى {أَنْ تَقُولُوا} ونصب {مَقْتاً} على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه.
بعد أن انتهى العالم الرابع من حديثه، قام العالم الخامس، وقال: نشكر أخانا على هذه الإجابات الوافية الشافية .. وأنا الآن في خدمتكم بعده .. فسلوا ما بدا لكم.
قال بعض الحضور: لقد حدثنا صاحبك عن أسرار الاستفهام والتعجب .. ونحن نريد منك أن تحدثنا عن أسرار التوكيد والقسم.
قال الشيخ: سلوا ما بدا لكم.
قال السائل: فهل لك أن تبدأ لنا حديثك عن المؤكدات وعناصرها؟
قال الشيخ (2): المؤكدات كثيرة لا يمكن الإحاطة بها؛ فإن كثيرا من طرق بناء الكلام تعطيه تقوية ووكادة، فالذكر قد يفيد توكيدا، والحذف قد يفيد توكيدا، والوصل والفصل،
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 318317.
(2) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية (ص 417)
القرآن.. والبيان الشافي (1/152)
والتكرار، والاعتراض، والالتفات، وصور التشبيه، والاستعارة، وأنواع المجاز، والكناية، كل هذه وغيرها تفيد أنواعا من التوكيد والمبالغة في تثبيت المعنى أو نفيه .. وطبعا لن يفي مجلسنا هذا بالحديث عن هذه جميعا، ولذلك يمكنكم أن تسألوني عما أشكل عليكم فهمه مما يرتبط بها.
قال السائل: ما سر التوكيد في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23] بتكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لـ (إن) تأكيدا على تأكيد؟
قال الشيخ (1): لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفس القارئ أنه إذا كان الله تعالى هو المنزل لم يكن تنزيله إلا حكمة وصوابا، ولهذا حسن الأمر بالصبر بعدها، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]
قال الشيخ (2): غرض التوكيد تحقيق المعنى عند المتكلم، ليوطن نفس المخاطب لتلقيه وقبوله.
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 14 - 16] فلم قيل {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أولا و {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} آخرا؟
قال الشيخ (3): لأن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار.
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 539.
(2) الكشاف ج 3 ص 41.
(3) الكشاف ج 4 ص 6.
القرآن.. والبيان الشافي (1/153)
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 11 - 12]، ولم كرر الضمير في {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}؟
قال الشيخ (1): لتوكيد الدلالة، وتحقيق المعرفة، وإماطة الشبهة لغرابة الخبر، وحاجته إلى التقرير والتحقيق.
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]؛ فلم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بـ (إن)؟
قال الشيخ (2): هذا التوكيد مظهر لتعلق النفس بالخبر واهتمامها به، وأنه جدير عندها بالتقوية والتقرير، وأن المخاطب متقبل له، غير منكر، ولا مدافع، كما أن إرسال الكلام غفلا من التوكيد لأن النفس غير متعلقة به، ولا صادقة الرغبة فيه، وأن المخاطب ينكره إنكارا لا ينفع معه أبلغ صور التوكيد .. ولهذا لم يكن ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين، وأوكدهما.
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]؛ فلم قال: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً}؟
قال الشيخ (3): لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله (هو) وقوله (مولود)، والسبب في مجيئه على هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين، وعليتهم قبض آبائهم على الكفر، فأريد حسم أطماعهم، وأطماع الناس فيهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة،
__________
(1) الكشاف ج 3 ص 42.
(2) الكشاف ج 1 ص 50.
(3) الكشاف ج 3 ص 398.
القرآن.. والبيان الشافي (1/154)
وأن يغنوا عنهم من الله شيئا، فلذلك جيء به على الطريق الآكد.
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا} [النساء: 122]؛ فقد ورد في الآية الكريمة التوكيد بـ {وَعْدَ الله حَقًّا}، وفيها مصدران، الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، و {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا}، وهو توكيد ثالث بليغ .. فما فائدة كل هذه التوكيدات؟
قال الشيخ (1): فائدته تقرير وعد الله وتثبيته حتى تزداد النفوس اطمئنانا إليه ووثوقا فيه، فلا تلتفت إلى أماني الشيطان ووعده لأوليائه .. وفيها معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة، وأمانيه الباطلة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه، ترغيبا للعباد في إيتاء ما يستحقون به تنجيز وعد الله على ما يتجرعون عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان.
قال السائل: فما سر التوكيد في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2]، ولم لم يقل: وظنوا أن حصونهم تمنعهم، أو مانعتهم؟
قال الشيخ (2): في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسما لـ (أن)، واسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم، أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معهم بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم.
قال السائل: فما سر ورود القسم في القرآن الكريم، وهل الله بحاجة إلى أن يقسم؟
__________
(1) الكشاف ج 1 ص 440.
(2) الكشاف ج 4 ص 398.
القرآن.. والبيان الشافي (1/155)
قال الشيخ (1): لجأ القرآن الكريم إلى القسم متبعا النهج العربي في توكيد الأخبار به، لتستقر في النّفس، ويتزعزع فيها ما يخالفها، وإذا كان القسم لا ينجح أحيانا في حمل المخاطب على التصديق، فإنه كثيرا ما يوهن في النفس الفكرة المخالفة، ويدفع إلى الشك فيها، ويبعث المرء على التفكير القوي فيما ورد القسم من أجله.
قال السائل: فما الفرق بين القسم في القرآن الكريم وغيره مما كان عليه أهل الجاهلية؟
قال الشيخ (2): تمتاز الأقسام في القرآن الكريم عن تلك الرائجة في العصر الجاهلي بأنها انصبت على ذوات مقدسة أو ظواهر كونية ذات أسرار عميقة، في حين امتاز القسم في العصر الجاهلي بالحلف بالمغاني والمدام ـ أي الخمر ـ وجمال النساء، إلى غير ذلك من الأمور المادية السافلة.
قال السائل: فما هي الغاية المتوخاة من القسم؟
قال الشيخ (3): الغاية هي أحد أمور ثلاثة: أولها تحقيق الخبر ودعوة المخاطب إلى الإيمان والإذعان به كما هو الغالب .. ثانيها إلفات النظر إلى عظمة المقسم به وما يكمن فيه من أسرار ورموز .. وثالثها بيان قداسة المقسم به وكرامته كقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]
قال السائل: فما تقول فيمن يعتبر القسم لاغيا، ولا قيمة له، لأن حلفه سبحانه إن كان لأجل المؤمن فهو يصدقه بلا حلف، وإن كان لأجل الكافر فهو لا يصدقه حتى مع الحلف؟
قال الشيخ (4): إن حلفه سبحانه لأجل المؤمن، غير أن إيمان المؤمن بصدق إخباره
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 132.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 10.
(3) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 13.
(4) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 13.
القرآن.. والبيان الشافي (1/156)
سبحانه لا ينافي تأكيده بالحلف، مضافا إلى أن حلفه سبحانه بشيء إشارة إلى كرامته وقداسته أو إلى عظمته وما يكمن فيه من أسرار ورموز.
قال السائل: فما أركان القسم في القرآن الكريم؟
قال الشيخ (1): هي نفسها في غيره .. فالقسم يتكون من أمور ثلاثة .. لفظ القسم، كقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] أو ما يعادله من الحلف أو أدوات القسم، أعني: الباء والتاء والواو واللام .. وما يُحلف به أو المقسم به؛ فإن لكل قوم أمورا مقدسة يحلفون بها، وأما القرآن الكريم فقد حلف بأمور تجاوزت الأربعين مقسما به، وهذه هي سورة الشمس حلف فيها تعالى بأمور ثمانية غير الحلف بذاته المقدسة، فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 1 - 7] .. وما يُحلف عليه، أي المقسم عليه، والمراد هو جواب القسم الذي يُراد منه التأكيد عليه وتثبيته وتحقيقه، وهذا ما يقال: القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده.
قال السائل: فهلا طبقت لي ما ذكرت على قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38]
قال الشيخ: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا} [النحل: 38] هو الركن الأول وقوله: {بِاللَّهِ} [النحل: 38] هو ما يحلف به، وقوله: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] هو المقسم عليه.
قال السائل: وعيت هذا .. فهلا حدثتنا عن المناسبة بين القسم وجوابه؟
قال الشيخ (2): الحديث عنها يطول .. فكل قسم له علاقة بجوابه .. ومن الأمثلة على
__________
(1) 1. الإتقان في علوم القرآن:4/ 46 ـ 51 ..
(2) الإتقان ج 2 ص 135.
القرآن.. والبيان الشافي (1/157)
ذلك قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1 - 3] .. تأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذي يوافى بعد ظلام الليل المقسم عليه، وهو نوره الوحى الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل، على ضوء الوحي ونوره، بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
قال السائل: فحدثنا عن جواب القسم، ولم يحذف في كثير من الأحيان؟
قال الشيخ (1): معظم جواب القسم يرد للدلالة على صدق ما جاء به هذا الدين، الذي نزل القرآن الكريم لتثبيت أسسه وقواعده، كما في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 1 - 4] .. وقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 1 - 6] .. وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75 - 80] .. وقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1 - 4] .. وأحيانا يؤكد أحوال الإنسان فيقول: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 1 - 8] .. إلى غير ذلك من آيات تتحدث عن طبائع الإنسان، وأخلاقه، وصلته بهذا الدين.
قال السائل: فلم يُحذف في بعض الأحيان؟
قال الشيخ (2): أكثر ما يحذف الجواب إذا كان في نفس القسم به دلالة على المقسم عليه، فإن المقصود يحصل بذكره، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز، ومن الأمثلة على
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 133.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 134.
القرآن.. والبيان الشافي (1/158)
ذلك قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، فإن في المقسم به من تعظيم القرآن الكريم ووصفه بأنه ذو الذكر ما يدل على المقسم، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى .. ولهذا كان تقدير الجواب، إن القرآن الكريم لحق .. وهذا يطرد في كل ما شابه ذلك، كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، وقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]، فإنه يتضمن إثبات المعاد.
وقد يحذف عندما يفهم من السورة التي ورد فيها هذا القسم (1)، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 1 - 8]، قوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 1 - 3]، وقوله: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 1 - 7]
وأنتم ترون في هذا الحذف بعث النفس على التفكير، لتهتدي إلى الجواب، وتظل النفس تتبع هذه الآيات، يتلو بعضها بعضا، تستوحي منها هذا الجواب، الذي لا بدّ أن يكون شيئا عظيما يقسم عليه الله .. كأن تتبع آيات سورة فترى حديثها عن البعث، وهو ما يؤذن بأن هذا القسم وارد لتأكيده، وأنه سيكون لا محالة.
قال السائل: فما تقول في الأقسام المنفية فى القرآن ودلالاتها، فقد رأينا أن أكثر المفسرين يعتبرون (لا) فى قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] زائدة، وأن التقدير: (أقسم بمواقع النجوم)، ولم يذكروا لهذه الزيادة وجها مقبولا، حتى لكأنها زيادة
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 99.
القرآن.. والبيان الشافي (1/159)
مقحمة لضرورة كضرورة الشعر .. ويذكرون أن أصل النظم جملة من مبتدأ وخبر، وأن لام الابتداء دخلت على المبتدأ.
قال الشيخ (1): هذا تكلف بعيد، وركوب ضرورات كثيرة لا يلجأ إليها إلا عند العجز وضيق مجال الكلام .. وهذا ما ينتزه عنه كلام الله، ثم إن الموجود هنا (لا) لا، لام الابتداء، التي تحولت بهذه الصناعة المتكلفة إلى (لأنا) ثم حذفت أنا، وبقيت منها الهمزة التي لصقت بلام الابتداء، فأعطتها هذه الصورة الزائفة .. وكلام الله تعالى منزه عن النقص، متعال عن الوقوع تحت حكم الضرورة، وإن كل حرف منه ليرجح الوجود كله كمالا، وجلالا.
قال السائل: فما هى (لا) هنا؟ وما مفهومها؟.
قال الشيخ (2): هي ـ والله أعلم ـ (لا) النافية .. وهى تجئ غالبا فى معرض القسم تنزيها للمقسم به، وإجلالا لقدره، أن يقسم به على أمور واضحة بينة، لا تحتاج إلى سند يسندها من قسم أو نحوه؛ فالقسم ـ عادة ـ إنما يرد لإثبات أمر من الأمور التي يستبعد المخاطب وقوعها أو لتقرير حقيقة من الحقائق، وتوكيدها، وإزالة الشبهة عنها عند المقسم له، حتى يقبلها ويطمئن إليها .. وإنه ـ والأمر كذلك ـ من الاستخفاف بقدر المقسم به، بل والامتهان له، أن يستدعي عند كل أمر وإن صغر، وأن يبرر به كل شأن وإن حقر أو ظهر، فذلك من شأنه أن يرخص هذا المقسم به، وأن يذهب بجلاله، وينزل من قدره، فلا يكون له وقعه على النفوس، إذا هو استدعى للقسم به فى حال تحتاج الى تبرير وتوكيد! وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] فتعريض اسم الله سبحانه وتعالى للقسم به، حتى فى مقام البر بهذا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 732)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 733)
القرآن.. والبيان الشافي (1/160)
القسم، ورعاية حقه، وحتى فى مقام الصلح بين الناس ـ هو مما ينبغى للمؤمن أن يتحاشاه، وألا يجئ إليه إلا فى قصد، عند ما تدعو الضرورة إليه.
قال السائل: فما تقول في القسم الوارد في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 ـ 76]
قال الشيخ (1): هو تعريض وتلويح بالقسم بمواقع النجوم، دون القسم بها، لأنها ذات شأن عظيم، فلا يقسم بها إلا لتقرير الحقائق المشكوك فيها، والمرتاب فى أمرها .. أما جليات الأمور وبدهياتها فلا يقسم لها، لأن القسم لها، هو تشكيك فيها، ووضعها موضع ما يكون من شأنه أن يثير المماراة، والخلاف .. وقد كثر فى القرآن الكريم هذا الضرب من التلويح بالقسم عن طريق النفي، وذلك حين يكون المقسم هو الله سبحانه وتعالى، والمقسم به، ذات من ذوات المخلوقات العظيمة المكرمة عند الله، وحين يكون المقسم عليه أمرا جليا، بينا لا يحتاج إلى بيان.
قال السائل: فهلا ضربت لي أمثلة على ذلك.
قال الشيخ (2): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 16 ـ 19]، فالتلويح بالقسم هنا إشارة إلى أن ما يقسم عليه لا يحتاج إلى قسم لمن عنده أدنى نظر، أو مسكة عقل، فهو فى الواقع قسم مؤكد بهذا النفي الذي وقع عليه .. والشفق: هو الصفرة المشوبة بحمرة، تعلو وجه النهار عند الغروب .. وهو إيذان بدخول الليل، ولهذا جاء الليل معطوفا على الشفق .. وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17] إشارة إلى ما يحمل الليل من نجوم وكواكب، كما أنه يحمل كل هذه الكائنات التي كانت تتحرك بالنهار، فيضمها إلى جناحه
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 733)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1506)
القرآن.. والبيان الشافي (1/161)
ويحملها على صدره، كما تحمل الأم وليدها .. والوسق: الحمل، الذي يوضع على ظهر الدابة .. وقوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18] أي إذا اكتمل، وصار بدرا .. وفى الجمع بين الشفق، والليل، والقمر، مراعاة للمناسبة الزمنية الجامعة بينها .. فالشفق أول الليل من الأفق الغربي، والقمر أوله من الأفق الشرقي .. فالمقسم به الواقع عليه النفي، هو هذا الظرف من الزمن، وهو ليلة انتصاف الشهر القمري، حيث تغرب الشمس، ويطلع القمر .. أو حيث يولى سلطان الشمس، ويقوم سلطان القمر، فالظرف الزمنى هنا، هو الليل الذي يقوم عليه سلطان القمر .. والليل، بمثل الإنسان فى جسده الترابي، المظلم المعتم .. والقمر، يمثل الضمير، أو الفطرة المركوزة فى هذا الإنسان، والتي يهتدى بها إلى الحق والخير، حين تظلم شمس العقل، وتختفى فى ظلمات الحيرة، وبين سحب الشكوك والريب .. ولهذا وقع القسم على تلك الحال التي يركب فيها الإنسان غواشى الضلال، وتلقاه على طريقه المزالق والمعاثر: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] فلا يكون له مفزع حينئذ إلا فطرته، التي يهتدى بها إلى طريق النجاة، كما يفعل الحيوان فى تصريف أموره، على ما توجهه إليه غريزته .. فإذا افتقد الإنسان فطرته فى هذا الموطن، كان من الهالكين.
قال السائل: وعيت هذا، فهلا فسرت لي على ضوء هذا المراد من القسم الوارد في قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 1 ـ 4]
قال الشيخ (1): فائدة هذا القسم المنفي أنه يقرر حقيقة، لا يُرى لها وجه، لو جاء الأمر ابتداء من غير هذا القسم المنفى .. فالقسم المنفي هنا يكشف عن حال المواجهين بالقسم، وأنهم يكذبون بالبديهيات، ويعاندون فى المسلمات، وأنه لو كان فى التوكيد بالقسم مقنع
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1313)
القرآن.. والبيان الشافي (1/162)
لهم، لوقع القسم، ولكن يستوى عندهم الأمران، التوكيد وغير التوكيد .. إنهم على أي الحالين لا يؤمنون بما يلقى إليهم من أخبار على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بما يوحى إليه من ربه .. وقد قرنت النفس اللوامة بيوم القيامة، لأن ثمرة هذا التلويم، إنما تظهر آثاره يوم القيامة .. فالنفس اللوامة إنما يحملها على التلوم، الخوف من الآخرة، ومن لقاء الله، والوقوف بين يديه .. ولولا الإيمان بيوم القيامة لما راجع المرء نفسه فيما أحدث من آثام، ولما قامت فى كيانه تلك النفس اللوامة، التي تقف منه موقف المحاسب قبل يوم الحساب.
قال السائل: وعيت هذا، فهلا فسرت لي على ضوء هذا المراد من القسم الوارد في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 15 ـ 20]
قال الشيخ (1): أي لا أقسم لكم بالخنس، الجوار الكنس، ولا بالليل إذا عسعس، ولا بالصبح إذا تنفس، بأن أخبار يوم القيامة وأحداثها، واقعة لا شك فيها، وأن هذه الأخبار التي تحدثكم عن هذا اليوم، هى قول رسول كريم، هو رسول الوحى، جبريل عليه السلام، بلغ به كلمات ربه إليه .. لا أقسم لكم بهذه العوالم على وقوع هذا الخبر، فإنه بين ظاهر.
قال السائل: فهلا أعطيتني قاعدة تضبط ذلك.
قال الشيخ (2): هذه الأقسام جميعا واقعة على أمور عظيمة، محققة الوقوع على الصورة المعروضة فيها، وعلى الصفة الموصوفة بها، بحيث لا يصح أن تقع موقع الإنكار، من ذى مسكة من عقل أو فهم .. فإذا كان هناك من يشك أو يرتاب، فإنه لا معتبر لشكه أو ارتيابه، ولا جدوى من وراء القسم له بأى مقسم به، إذ كان لا يجدى معه ـ فى هذا الصبح
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1473)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 734)
القرآن.. والبيان الشافي (1/163)
المشرق بين يديه ـ أن تضاء له المصابيح، وتقام له الحجج والبراهين. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، فالأقسام هنا ـ كما ترى ـ واقعة على أحوال الإنسان، وتنقله من حال إلى حال، ومن وجود إلى وجود، أو على قدرة الله سبحانه وتعالى، على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد، أو على قول الله سبحانه، وما تحمل كلماته من أخبار صادقة، محققة الوقوع .. وهذه كلها أمور لا تحتاج إلى قسم، وفى القسم لها تشكيك فيها، وفتح لباب الجدل والمماراة فى شأنها.
قال السائل: فما سر هذا التلويح بتلك الأقسام، فيما يبدو من نفى القسم؟
قال الشيخ (1): ذلك لوضع الأمر المقسم عليه فى ضمانة حقيقة من الحقائق الكبرى، حيث يعتدل ميزانه مع ميزانها فى مقام الإعظام والإجلال، بمعنى أنه لو احتاج هذا الأمر إلى قسم لما أقسم له إلا بهذه الحقائق العظيمة الجليلة، المناسبة لعظمته وجلاله .. فإن العظائم كفؤها العظماء، كما يقولون.
قال السائل: وعيت هذا، فحدثنا عن الأسرار والمعاني المرتبطة بالقسم وجوابه.
قال الشيخ (2): حلف الله تعالى في الكتاب العزيز بأمور، وهي بين قسم مفرد، وقسم متعدد .. أما الأقسام المفردة، فهي ما حلف الله تعالى عليه بأمر واحد ولم يضم إليه حلفا آخر، سواء تكرر في سورة أخرى أو لا، وذلك مثل القسم بلفظ الجلالة، كقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النحل: 63]، ومثلها القسم بالرب، كقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]، ومثلها القسم بحياة النبيصلى الله عليه وآله وسلم، كقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، ومثلها القسم بوصف
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 735)
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 14.
القرآن.. والبيان الشافي (1/164)
النبيصلى الله عليه وآله وسلم وأنه شاهد، كقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 1 ـ 4]، فالمراد من الشاهد هو النبي الخاتمصلى الله عليه وآله وسلم بشهادة أنه تعالى وصفه بهذا الوصف ثلاث مرات، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل: 15]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8]، ومثلها القسم بالقرآن الكريم، وقد كان ذلك في ثلاث آيات، هي قوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 ـ 2]، وقوله: {ص والقرآن ذي الذكر الحكيم}، وقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، ومثلها القسم بالكتاب المبين، وقد كان ذلك مرتين، في قوله تعالى: {حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين الحكيم}، وقوله: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1 ـ 3]، ومثلها القسم بالعصر، وذلك مرة واحدة في قوله: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 ـ 2]، ومثلها القسم بالنجم، وذلك مرة واحدة في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، ومثلها القسم بمواقع النجوم، كما في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، ومثلها القسم بالسماء ذات الحبك، كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات: 7 ـ 8]
قال السائل: فما سر القسم بـ {رب}، وإضافته إلى السماء والأرض، كما في قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]
قال الشيخ (1): لما في هذه الإضافة من الإشارة إلى خضوع السماء والأرض لأمره، وفي ذلك تعظيم لشأنه، وإيحاء بأن من كان هذا أمره لا يزج باسمه إلا فيما هو حق لا مرية فيه.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 132.
القرآن.. والبيان الشافي (1/165)
قال السائل: فما سر إضافة {رب} إلى المشارق والمغارب، كما في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]
قال الشيخ (1): لما توحي به هذه الإضافة من القدرة البالغة التي تسخر هذا الجرم الهائل وهو الشمس، فيشرق ويغرب في دقة وإحكام.
قال السائل: فما سر إضافة {رب} إلى الرسول، كما في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]
قال الشيخ (2): ليوحي بذلك بأن أرباب المشركين ليست جديرة بأن يقسم بها، أو تكون محل الإجلال والتقدير.
قال السائل: فما سر الحلف بحياة المخاطب، حيث أقسم الله تعالى بحياة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عند ما قال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]
قال الشيخ (3):في ذلك تشريف لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتعظيم لأمره في أعين السامعين.
قال السائل: فما سر القسم بمصنوعات الله تعالى، كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 1 - 7]
قال الشيخ (4): ذلك تنبيه إلى ما فيها من روعة، تدفع إلى التفكير في خالقها .. أو لا ترى هذا القسم مثيرا في النفس أقوى إحساسات الإعجاب بمدبر هذا الكون، ومنظم شئونه هذا التنظيم المحكم الدقيق، أو ليست هذه الشمس التي تبلغ أوج مجدها وجمالها عند الضحى، وهذا القمر يتلوها إذا غابت، وكأنه يقوم مقامها في حراسة الكون وإبهاجه، وهذا
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 132.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 132.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 132.
(4) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 132.
القرآن.. والبيان الشافي (1/166)
النهار يبرز هذا الكوكب الوهاج، ثم لا يلبث الليل أن يمحو سناه، وهذه السماء وقد أحكم خلقها، واتسقت في عين رائيها كالبناء المحكم الدقيق، وهذه الأرض وقد انبسطت في سعة، وهذه النفس الإنسانية العجيبة الخلقة التي يتسرب إليها الهدى والضلال في دقة وخفاء، أليس في ذلك كله ما يبعث النفس إلى التفكير العميق في خالقها، وأن هذا الخالق لا يذكر هو وما خلق محاطا بهذا الإجلال، إلا في مقام الحق والصدق؟
قال السائل: فما سر القسم في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76]، وقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]
قال الشيخ (1): توجيه النظر إلى ما في حفظ النجوم في مواقعها فلا تسقط ولا تضطرب، من قدرة قديرة على هذه الصيانة والضبط، وما يبعثه هوي النجوم من رهبة في النفس، وكلا الأمرين مثار إعجاب بخالقه، يبعث في النفس الاطمئنان إلى خبر يكون هو موضع القسم فيه.
قال السائل: فما سر القسم بالرياح التي تحمل السحب مليئة بالمياه، فتجري بها في رفق ويسر، ثم تدعها توزع مياهها هنا وهناك، كما في قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 1 - 4]
قال الشيخ (2): توجيه النظر إلى ما في الريح والسحب مما يدل على قدرة الخالق الباهرة .. وهكذا في كل ما أقسم به الله مظهر من مظاهر قدرته وعظمته.
قال السائل: فما سر القسم الوارد في قوله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1 - 3]
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 133.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 133.
القرآن.. والبيان الشافي (1/167)
قال الشيخ (1): أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن، وجعل قوله {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} جوابا للقسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد.
قال السائل: فما سر القسم الوارد في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]، وهل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟
قال الشيخ (2): نعم، ذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب إذا قيل {عَالِمُ الْغَيْبِ}، فحين أقسم باسمه على إثبات أنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى الغيب، وأنه لا يفوته علم شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئا واضحا.
قال السائل: وعيت هذا، فحدثنا عن القسم بأمور متعددة مجتمعة.
قال الشيخ: لقد ورد هذا القسم في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، حيث ورد في أول سورة الصافات، وأول سورة الطور، وأول سورة القلم، وأول سورة الحاقة، وأول سورة المدثر، وأول سورة القيامة، وأول سورة المرسلات، وأول سورة النازعات، وأول سورة التكوير، وأول سورة الانشقاق، وأول سورة البروج، وأول سورة الطارق، وأول سورة الفجر، وأول سورة البلد، وأول سورة الشمس، وأول سورة الليل، وأول سورة التين، وأول سورة العاديات.
قال السائل: فحدثنا عن القسم الوارد في سورة الصافات.
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 185.
(2) الكشاف ج 3 ص 448.
القرآن.. والبيان الشافي (1/168)
قال الشيخ (1): أقسم الله تعالى في هذه السورة بأمور ثلاثة، كما قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 1 ـ 4]، فالمقسم به عبارة عن أمور ثلاثة، وجواب القسم قوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4]
قال السائل: فما المقصود من الأمور الثلاثة؟