×

الكتاب: القرآن.. كلمة الله

الوصف: رواية حول البراهين الدالة على كون القرآن الكريم وحيا إلهيا

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1442 هـ

عدد الصفحات: 565

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-3-85930-0

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

يتناول هذا الكتاب ما ورد في القرآن الكريم حول البراهين الدالة على كونه وحيا وتنزيلا إلهيا خالصا، وقد استعملنا فيه أنواع التأويل المختلفة، سواء التأويل الأثري أو التدبري أو الواقعي أو العملي.

وقد رأينا أن البراهين القرآنية على كون القرآن الكريم وحيا إليها، يمكن حصرها في في أربعة براهين كبرى:

أولها: ما ورد في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى بكونه وحيا إلهيا خالصا، وهو يستند إلى برهانين آخرين، مدعمين بكل أدلة العقل والنقل: برهان العناية، وبرهان الهداية.

ثانيها ـ ما ورد في القرآن الكريم من الإخبار عن شهادات الأنبياء عليهم السلام وبشاراتهم بالرسالة الخاتمة، وبالوحي المرتبط بها، وأن أهل الكتاب يعلمون ذلك، وهو ما يدعمه التأويل الواقعي؛ ولذلك رجعنا إلى ما ورد في الكتاب المقدس مما يدل على ذلك.

ثالثها: ما ورد في القرآن الكريم مما يرتبط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل البحث الواقعي والتدبري فيه إلى استحالة كون القرآن الكريم من تأليفه.

رابعا ـ ما ورد في القرآن الكريم مما يرتبط بشهادة الخبراء، وقد جمعنا فيه أكثر ما ورد في الكتب المتخصصة من الشهادات والوثائق والأدلة المختلفة، والتي تتحدث عما تطلق عليه [وجوه إعجاز القرآن الكريم]، أو مظاهره.

القرآن.. كلمة الله (7)

مقدمة السلسلة

تحاول هذه السلسلة [التنزيل والتأويل] التعريف بالحقائق والقيم القرآنية من خلال أسلوب خاص يعتمد ما تميل إليه أكثر النفوس من التبسيط والتيسير والتشويق والمتعة.. وما تميل إليه أكثر العقول من الحوار الذي يضم أطرافا كثيرة متباينة لا همّ لها إلا الوصول إلى الحقيقة، وعبر منافذها الصحيحة.. وما تميل إليه أكثر الأرواح المتسامية عن ثقل الأرض من التحليق في المعاني الكريمة النبيلة الراقية.

وهي مع مراعاتها لكل هذه الأمزجة والأذواق، تراعي الاشتمال على أكبر قدر من المعارف التي لا يمكن فهم القرآن الكريم ولا تدبره إلا من خلال توفرها.

وقد دفعني إلى كتابتها بهذا الأسلوب ـ مع أني كنت أنوي كتابتها على الطريقة العادية التي أُلفت بها أكثر التفاسير والدراسات القرآنية ـ هو أني رأيت أنها مع أهميتها تكاد تكون محصورة في فئات محدودة من القراء والباحثين، وأن أكثر الجماهير لا تكاد تقترب منها بسبب المنهج الذي تعتمده، وهو منهج طبيعي لا يُعبر في العادة عن أي علم إلا من خلاله.

ولكني مع ذلك آثرت التوجه لهؤلاء الذين ربما يكونون قد حُرموا من الفوائد الموجودة في تلك الكتب، وذلك من خلال إعادة صياغة معانيها لهم لتتناسب مع طبائعهم وأمزجتهم.

وقدوتي في ذلك كله القرآن الكريم نفسه الذي جعله الله تبيانا لكل شيء، وبطريقة ميسرة سهلة بسيطة يفهمها الخاصة والعامة، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]

وأخبر عن اعتبار صياغته لكل أنواع التأثير الحسن، فقال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ

القرآن.. كلمة الله (8)

كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23]

ولذلك كان فيه من الأمثال والقصص والمواعظ والحوارات الكثيرة ما يجعل النفس تتجول بين رحابه المقدسة، كما تتجول بين الرياض والحقول، وقد قال الله تعالى يصف قصص القرآن: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]

وقال يصف أمثاله: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: 54]، ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 27]

لكن القرآن الكريم مع مراعاته لأمزجة الخلق وقدراتهم، لم يسر مع ضعفائهم على حساب عقلائهم.. ولا مع عوامهم على حساب خواصهم.. وإنما كان خطابه للجميع، وفي نفس الوقت.. كل ينال منه بحسب وعائه، كما قال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17]

وعلى هذا المنهج القرآني نحاول في هذه الدراسات التطرق للمواضيع التي تبحث عادة فيما يسمى [التفسير الموضوعي]، أو [الدراسات القرآنية]، وما يرتبط بها من [علوم القرآن] لتحقيق ثلاثة أغراض:

الأول: طرحها بتلك الطرق المبسطة الميسرة التي تحاول أن تخاطب العقل والعاطفة مثلما فعلنا في سلسلة [حقائق ورقائق]، وغيرها من السلاسل.

القرآن.. كلمة الله (9)

الثاني: محاولة تمييز التأويلات الصحيحة عن المنحرفة، والرد على الشبهات المثارة حول المعاني القرآنية، والتي كان التأويل المنحرف سببا للكثير منها، ولذلك سمينا السلسلة [التنزيل والتأويل]

ذلك أن الهدف الأكبر منها هو البحث عن التأويل المتناسب مع جلال التنزيل، أو التأويل الذي يحاول أن يرتقي بالعقول لحقائق التنزيل، أو التأويل الذي يعمق فهم التنزيل، ويكسب صاحبه القدرة على التدبر والفهم العميق.

ولهذا، اعتمدنا في السلسلة أربعة أنواع من التأويلات:

أولها: التأويل الأثري، وهو الوارد في المصادر الحديثية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، باعتباره البيان الأعظم للقرآن الكريم، وقد قال الله تعالى يذكر وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجاه القرآن: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44] ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64].. وقد حاولنا أن نطهر هذا النوع من التأويل من كل ما نسب إليه زورا وبهتانا، مما يسيء للقرآن الكريم، أو يسيء للنبوة وبيانها.

ثانيها: التأويل التدبري، وأقصد به ما ورد في كتب التفسير وغيرها من الفهوم المرتبطة بالآيات القرآنية.. سواء بذكر ما يُقبل منه، وتأييده ونصرته والاستدلال له.. أو ما يتعارض فيه التدبر مع التنزيل، وحينذاك نرفضه، ونبين سبب رفضه.

وننبه إلى أننا في توثيق تلك الفهوم، لا نطبق في الغالب ما جرت به العادة من وضع النصوص بين قوسين، ثم التوثيق في نهاية النص، لأن ذلك قد يشغل القارئ عن المعاني المطروحة، ولهذا نضع التوثيق في بداية الحوار، ونشير إلى أن تلك الفهوم واردة في الكتاب، وهو يغنينا عن تتبع التفاصيل في كل محل مرتبط بالموضوع.

القرآن.. كلمة الله (10)

وننبه كذلك إلى أننا نتصرف في النصوص المقتبسة كثيرا، إما بتبسيطها، أو اختصارها، أو ربطها بالأحداث الواردة في الرواية، وهو ما يمنعنا من وضعها بين قوسين.

ثالثها: التأويل الواقعي، وأقصد به ما أثبته الواقع من الفهوم المرتبطة بالآيات القرآنية.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 53]، وقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 39]، وقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]

رابعها: التأويل العملي، وأقصد به التطبيقات المرتبطة بالقيم والحقائق القرآنية، وكيفية تنفيذها في الواقع، أو آثارها في النفس.

ولتحقيق كل تلك المعاني صغنا السلسلة على شكل روايات حوارية بين أطراف وجهات متعددة، ذلك أن هذا الأسلوب ييسر توضيح كل قضية ومناقشتها بهدوء ويسر.

بالإضافة إلى ذلك حاولنا أن نراعي جانب التشويق والمتعة؛ فلم نعتمد الحوار المجرد، وإنما صغناها في شكل أحداث أكثرها يعبر بطريقة رمزية عما نريد إيصاله للقارئ من المعاني.

وليعذرنا القارئ عندما نذكر أحيانا بعض التفاصيل العلمية، والتي قد يراها مشوهة لأحداث الرواية، أو تضعها بصورة غير واقعية، لأن الهدف ليس هو الأحداث ولا الرواية، وإنما تلك المعاني التي نحاول أن نتسلل من خلالها لعقل القارئ، ليكتسب مع المتعة والتشويق العلم والمعرفة.

وننبه في الأخير إلى أمرين:

القرآن.. كلمة الله (11)

الأول: أننا حاولنا عند طرح كل قضية من القضايا ذكر ما يرتبط بها من القرآن الكريم، وفي المواضع المختلفة، ذلك أنه الهدف الأكبر الذي يهتم به أصحاب التفسير الموضوعي والدراسات القرآنية.

الثاني: أننا لم نعتن كثيرا بالتفسير التحليلي للآيات الكريمة التي نذكرها إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، ذلك أن عبارات القرآن الكريم واضحة في عمومها لا تحتاج إلى شرح أو تفسير.. بالإضافة إلى وجود الكثير من التفاسير التي تيسر لمن صعب عليه المعنى العودة إليها والفهم منها.. بالإضافة إلى أن المعنى القرآني أعظم من أن تحيط به التفاسير، ولذلك نورد الآية الواحدة في المواضع المختلفة بحسب المعنى المرتبط بها في ذلك الموضع.

القرآن.. كلمة الله (12)

مقدمة الكتاب

يتناول هذا الكتاب ما ورد في القرآن الكريم حول البراهين الدالة على كونه وحيا وتنزيلا إلهيا خالصا، وقد استعملنا فيها أنواع التأويل المختلفة، سواء التأويل الأثري أو التدبري أو الواقعي أو العملي.

وقد رأينا أن البراهين القرآنية على كون القرآن الكريم وحيا إليها، يمكن حصرها في في أربعة براهين كبرى:

أولها: ما ورد في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى بكونه وحيا إلهيا خالصا، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 166]، وغيرها من الآيات الكثيرة، وقد رأينا أن هذا البرهان يستند إلى برهانين آخرين، مدعمين بكل أدلة العقل والنقل: أحدهما برهان العناية: وهو عناية الله تعالى بخلقه، ورحمته بهم، وتحقيقه لكل مطالبهم وحاجاتهم.. وثانيهما: برهان الهداية: وهو نابع من البرهان السابق، ومكمل له، ذلك أنه لا يمكن أن تتحقق العناية من دون الهداية.

ولم نفصل كثيرا في هذين البرهانين باعتبار أننا سنتناول الحديث عنهما بتفصيل في الأجزاء المخصصة لذلك.

ثانيها ـ ما ورد في القرآن الكريم من الإخبار عن شهادات الأنبياء عليهم السلام وبشاراتهم بالرسالة الخاتمة، وبالوحي المرتبط بها، وأن أهل الكتاب يعلمون ذلك، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا

القرآن.. كلمة الله (13)

النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]، وهو ما يدعمه التأويل الواقعي؛ ولذلك رجعنا إلى ما ورد في الكتاب المقدس مما يدل على ذلك.

ثالثها: ما ورد في القرآن الكريم مما يرتبط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل البحث الواقعي والتدبري فيه إلى استحالة كون القرآن الكريم من تأليفه.. وقد اعتمدنا في ذلك عشرة أنواع من الأدلة، يكمل بعضها بعضا:

1. البيئة المخالفة: ونقصد به الواقع الذي تنزل فيه القرآن الكريم، سواء في البيئة العربية القريبة، أو غيرها من البيئات، والتي كانت جميعا تتعطش لتنزل الوحي الإلهي، لإنقاذها وتخليصها.

2. الأخلاق العالية: ونقصد به أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العالية، والتي تجعل من المستحيل عليه أن يدعي أي دعوى كاذبة على الخلق؛ فكيف يدعيها على الخالق.

3. الوحي الإلهي: ونقصد به ما يرتبط بظاهرة الوحي نفسها، وكيفية حصولها، واستحالة أن تكون نابعة من أمراض نفسية أو عصبية، أو أن لها علاقة بالجن أو الإنس.

4. اليقين الجازم: ونقصد به يقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته وعلمه بها، وعدم شكه فيها، وأنه ضحى في سبيل ذلك بكل شيء، ولو كان مدعيا لما استطاع ذلك.

5. التأديب والعتاب: ونقصد به ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمة التي تعاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو تؤدبه أو تتحدث عن بعض خصوصياته، وهو ما لا يمكن للمدعي أن يفعله.

6. التجرد والإخلاص: ونقصد به تجرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طلب أي عوض على دعوته، وإخلاصه في أداء التكاليف المرتبطة بها، وهو ما يتنافى مع الافتراء والدعوى.

7. المواجهة القاسية: ونقصد به تلك المواجهات الشديدة الحسية والمعنوية، والتي

القرآن.. كلمة الله (14)

لا يمكن للمدعي أن يتحملها.

8. الشدة والثقل: ونقصد به تحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكل الآلام في سبيل دعوته، ومواجهته لكل أصناف الحاقدين والمعتدين.

9. الحفظ التام: ونقصد به تلك المعجزات المرتبطة بحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو حفظ القرآن الكريم وفي البيئة التي أجمعت على حربه وتشويهه.

10. التحدي الشامل: ونقصد به ما ورد في القرآن الكريم من تحدي المخالفين له، وعدم استطاعتهم المواجهة على الرغم من توفر كل أسبابها، وفي كل الأجيال.

رابعا ـ ما ورد في القرآن الكريم مما يرتبط بشهادة الخبراء، وهي التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: 59]، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7]، وقوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 43]

وقد جمعنا فيه أكثر ما ورد في الكتب المتخصصة من الشهادات والوثائق والأدلة المختلفة، والتي تتحدث عما تطلق عليه [وجوه إعجاز القرآن الكريم]، أو مظاهره، وقد رأينا تقسيمها إلى سبعة وجوه.

1 ـ القرآن.. والأديان السابقة: وقد ذكرنا فيه تصديق القرآن الكريم وهيمنته على ما ورد في كتب الأديان السابقة، وتصحيحه لها، بالإضافة إلى ما ورد من شهادات رجال تلك الأديان على ذلك.

2 ـ القرآن.. والبيان الشافي: وذكرنا فيه بعض الشهادات والأدلة على ما يطلق عليه [الإعجاز البياني للقرآن الكريم]

3 ـ القرآن.. وأكوان الله: وذكرنا فيه بعض الشهادات والأدلة على ما يطلق عليه

القرآن.. كلمة الله (15)

[الإعجاز العلمي للقرآن الكريم]

4 ـ القرآن.. وعلم الغيب: وذكرنا فيه بعض الشهادات والأدلة على ما يطلق عليه [الإعجاز الغيبي للقرآن الكريم]

5 ـ القرآن.. والنفس الإنسانية: وذكرنا فيه بعض الشهادات والأدلة على ما يطلق عليه [الإعجاز النفسي أو الأخلاقي للقرآن الكريم]

6 ـ القرآن.. والمجتمع الإنساني: وذكرنا فيه بعض الشهادات والأدلة على ما يطلق عليه [الإعجاز الاجتماعي للقرآن الكريم]، أو الإعجاز المرتبط بالتأثير في المجتمعات وإصلاحها، والثمار الناتجة عن ذلك.

7 ـ القرآن.. والدين الكامل: وذكرنا فيه ما يدل على شمول القرآن الكريم لكل الحاجات، ولكل الأزمنة والأمكنة.

هذه هي تفاصيل موجزة عما ورد في الكتاب من البراهين، وقد حاولنا فيه أن نمزج بين أنواع التأويل المختلفة، ولذلك لم نقتصر على البرهنة والإثباتات، مثلما يفعل المتكلمون، وإنما أدخلنا ما أطلقنا عليه [التأويل العملي]، أو كيفية الاستفادة من تلك المعاني في واقع الحياة، باعتباره من الأغراض الكبرى لهذه السلسلة.

وننبه في ختام هذه المقدمة إلى أننا سنفصل ـ بإذن الله وعونه الكثير ـ مما ذكرناه في هذا الكتاب بإيجاز في كتب خاصة، لأنه لا يمكن أن نعرض هنا كل التفاصيل.

القرآن.. كلمة الله (16)

البداية

لست أدري هل كنت يقظا أم نائما حين سمعته يقول لي بشدة ممزوجة لينا: قم لتتعلم القرآن.

قلت: ألي تقول هذا الكلام.. فأنا لا أعرف القرآن فقط.. بل أتقنه بقراءاته السبع والعشر.. وأؤديه كما يؤديه أكبر القراء.. وعن ظهر قلب.. لا أسقط منه حرفا واحدا.. وبغننه ومدوده ومخارجه.. وبإتقان عظيم.. ولي في كل ذلك إجازات كثيرة، ومن كبار القراء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إلى جبريل عليه السلام.. إلى الله تعالى (1).

لم يلتفت لكلامي، بل راح يردد: قم لتتعلم القرآن.

قلت: ألم تسمع ما ذكرت لك.. أم أنك تقصد التفسير.. فأنا قرأت أكثر ما أُنتج من التفاسير.. ما كان منه بالمأثور.. وما كان بالرأي.. وما كان بالإشارة.. وما جمع بين ذلك جميعا؟

لم يلتفت لكلامي، بل راح يردد من جديد، وبصوت أكثر حدة وشدة: قم لتتعلم القرآن.

رفعت رأسي لأنظر إليه؛ فرأيت فيه صورة كل المعلمين المباركين الذين رزقني الله صحبتهم والجلوس إليهم، والاستفادة منهم.. كان يشبه في سلامه وهدوئه وطمأنينته معلمي معلم السلام.. وكان يشبه في قوته ويقينه وصفائه معلمي معلم الإيمان.. وكان يشبه في سيماه وملامحه وأنواره معلمي معلم البركة..

لم أجد إلا وأنا أقول له: من أنت؟.. فملامحك لا تختلف كثيرا عن معلمي معلم

__________

(1) هكذا جرت العادة في الإجازات المرتبطة بالقرآن الكريم.

القرآن.. كلمة الله (17)

السلام.. ومعلمي معلم الإيمان.. ومعلمي معلم البركة.. ومعلمي معلم..؟

قاطعني، وقال: أنا معلم القرآن.

قلت: ما أكثر المعلمين للقرآن في قريتنا، وأنا تتلمذت على أكثرهم.. وقد بلغت من العمر بحيث لا أحتاج للمزيد من المعلمين؟

قال: فهل منهم من أخبرك أنه نقطة تحت الباء؟

ابتسمت، وقلت: لو ذكرت ذلك لمعلمي قريتي لامتلأوا مني سخرية.

قال: من لم يبلغ أن يكون كذلك، أو لم يسمع به، أو لم يحن إليه.. فلن يفهم القرآن، ولن يتعلمه، ولن يبلغ أسراره.. فهي محجوبة إلا على من امتلأ بالطهارة والصفاء والعبودية.

قلت: لكن القرآن ـ كما علمت ـ مدرسة للطهارة والصفاء والعبودية، وقد يدخل إلى مدرسته من تدنسوا بكل ألوان القذارة؛ فلا يلبثون حتى يتخرجوا، وهم أطهر الناس وأرقهم وأصفاهم.

قال: لأنهم دخلوا مدرسته متواضعين.. لا مستكبرين.. وعبيدا لا سادة.. وطالبي فهم وعلم.. لا من الذين زهوا بعلومهم وفرحوا بها.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر: 83]، فلهذا يحتاج من يريد أن يتتلمذ عليه أن يوفر لنفسه القابلية لذلك.

قلت: هل تقصد قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 77 ـ 79]؟

قال: أجل.. فالمستنقع الآسن لن تزيده الأمطار إلا عفونة.

قلت: صحيح ما تقول، وقد ذكره القرآن الكريم.. فالله تعالى يذكر المواقف المختلفة

القرآن.. كلمة الله (18)

للذين كانوا يسمعون القرآن غضا طريا من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمنهم من يلين له، ويتأدب بين يديه، كما قال تعالى عن المؤمنين الصالحين: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ [المائدة: 83 ـ 84]

وأخبر أنهم كانوا يسجدون بكل كيانهم عند تلاوتهم له، فقال: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107 ـ 109]

ومنهم أولئك الجفاة الغلاظ الذين يحرمون أنفسهم بكبرهم واستعلائهم.. وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 198].. وقال عنهم: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 14]

ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يستعملون كل الوسائل ليصرفوا الخلق عنه، إما باللغو بين يديه، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26].. أو بادعاء كونه سحرا أو شعرا.. أو مجرد أساطير وخرافات لا حقيقة لها، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25]، وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 31]، وقال: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]

قال: ولذلك أنت محتاج لتعلم القرآن حتى لا تقع فيما وقع فيه أولئك الذين رموه

القرآن.. كلمة الله (19)

بما رموه به؟

قلت: كيف تقول لي ذلك.. وأنا مسلم غُذيت بالقرآن مذ كنت صبيا صغيرا.. ولا يزال لساني رطبا به.. ولا تزال ذاكرتي واعية مستوعبة له.

قال: ليس الشأن في لسانك ولا في ذاكرتك.. الشأن في عقلك وقلبك وروحك وحياتك.. فالقرآن هو روح الروح.. وحياة الحياة.

قلت: صدقت.. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]

وأشار إليه حين سماه روحا، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]

وأشار إليه حين أخبر أن الذي تنزل به روح، فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: 192 ـ 194]

قال: فهل تعلم معنى الحياة التي أرادها الله تعالى لعباده، والتي لا تتحقق إلا بتلك الروح؟

قلت: لاشك أنها حياة شاملة.. فالآية الكريمة تدعو إلى الحياة بكل جوانبها.. لا تلك الحياة التي وصف الله تعالى بها النبات، فقال: ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [النحل: 65]، وقال: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم: 50]، وقال ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: 9]

القرآن.. كلمة الله (20)

أو تلك التي وصف الله بها الحيوان، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39]) (2).

وإنما تلك الحياة الكريمة التي وصفها بقوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122]

بل ذكر أنها الحياة الحقيقية التي هي غاية الأماني، فقال ـ مخبرا عن الذي فرط في التحضير لها ـ: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 23 ـ 24]

قال: فهل تعلم كيف تحيا بالقرآن.. أو كيف تسري روح القرآن في روحك لتمدها بالحياة؟

لم أدر ما أقول، فقال: لذلك أنت ككل الخلق محتاج لأن تتعلم القرآن حتى تسمعه روحك، لا أذنك، ويردده قلبك لا لسانك..

قلت: فأين أجد هذه المدرسة التي أتعلم منها هذه العلوم؟

قال: اصحبني كما صحبت سائر معلميك.. وتأدب بين يدي الحقائق.. واترك نفسك وهواك.. فلن ينال الحقائق من كان عبدا لنفسه وهواه.

قلت: ها أنذا بين يديك، وطوع أمرك.. فسر بي حيث شئت.. ولقني من الحقائق ما أردت.

قال: ألم يعلمك معلموك بأن الحقائق لا تُلقن.. وأن المعارف أسمى من أن تفرض على العقول؟

قلت: بلى.. هم حدثوني عن ذلك كثيرا.. وأخبروني أنهم مجرد أدلاء وهداة.. وأن

القرآن.. كلمة الله (21)

علي السعي والاجتهاد والتأمل إلى أن أتشرب الحقائق وأراها رأي العين.

قال: وذاك ما أدعوك إليه.. فالله تعالى أعز وأكرم من أن يفرض على عباده ما لم يقتنعوا به، أو يميلوا إليه.. والحقائق أكرم من أن تنال المستكبرين عليها الراغبين عنها.

قلت: أجل.. فقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 21 ـ 22]

قال: فهلم لتتعلم القرآن.

قلت: هل سنبدأ بالسور مرتبة حسب النزول.. أم حسب ترتيب المصاحف.. أم ترى أن الأسلم والأعلم والأكمل أن ننتقي الآيات حسب مواضيعها؟

قال: الأسلم والأعلم والأكمل أن نبدأ بالتعرف على مصدر القرآن.. فلا يمكن أن تفهم القرآن وأنت تجهل مصدره.. أو تغض طرفك عنه.

قلت: ذاك من البديهيات التي تسلم لها العقول.. فالقرآن كلام الله الذي أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: فكيف وصلت إلى هذه المعرفة؟

قلت: لا أذكر ميقاتا لذلك.. فأنا مذ كنت صبيا صغيرا.. وأنا أتعلم القرآن.. وأقر أنه من عند الله.. ولم يعترني أي شك في ذلك.

قال: فقد أخذت يقينك بالقرآن وراثة عن أبيك وجدك.

قلت: وهم أخذوه عن آبائهم وأجدادهم.. ولكن الأيام لم تزدني إلا تعلقا به إلى الدرجة التي أصبح فيها عندي من الحقائق التي لا تحتاج إلى براهين تدل عليها.

قال: ألم تتعلم من معلم الإيمان كيف تخرج عن دين آبائك وأجدادك لتدخل في دين الله؟

القرآن.. كلمة الله (22)

قلت: بلى.. لقد حدثني عن ذلك في أول لقاء لي به.. حذرني من الدين الوراثي، ودعاني إلى الدين الذي أصل إليه بالبحث والتحقيق، لا بالتسليم والتقليد.

قال: وأنا في أول لقاء لي بك أدعوك إلى ذلك.. فأول دروسك أن تتعلم أن القرآن كلام الله.. هل تعرف معنى ذلك؟

قلت: هل تقصد تلك المسألة التي خاض فيها المتكلمون، ودب فيها الصراع بين الأمة في البحث عن حقيقة القرآن.. وهل ألفاظه من الله.. أم مجرد معانيه؟

قال: ذاك جدل فارغ أوحى به الشيطان ليصرف العقول عن ربها وكلماته بترك البحث عن معانيها، والتدبر في أسرارها للبحث عن الكيفيات التي لا طاقة لها بها.

قلت: صدقت في ذلك.. وقد أخبرني كل من تتلمذت عليهم من المعلمين عن ذلك.. فالحقائق تُعقل ولا تُتصور.. وتنزه عن أثواب الجسمية، ولا تكدر بقوالبها الحسية.

قال: فهات قلمك ودواتك وقراطيسك.. لتسجل كل ما تراه في رحلتك إلى إثبات كون القرآن الكريم كلمة الله إلى عباده.

القرآن.. كلمة الله (23)

أولا ـ القرآن.. وشهادة الله

لم أدر بعد ذلك الحديث مع معلمي الجديد [معلم القرآن] إلا وأنا في صحراء موحشة قاحلة، لا زرع فيها ولا ماء ولا ظلال.. ولم أجد نفسي إلا وأنا أصيح بملء فمي: أين أنت يا معلمي؟.. لقد زججت بي في فم تنين الموت القاتل.. فهلم لتخرجني قبل أن يحرقني لهيبه.

بعد لحظات عسيرة يئست فيها من الحياة، رأيت من بعيد شبحا يقترب مني؛ فرحت أحث خطاي إليه، وقد تعجبت إذ رأيت فيه ملامح وجوه الأوروبيين؛ فشعره أشقر، وعيناه زرقاوان، وبشرته بيضاء شديدة البياض.. وحتى حديثه عندما تحدث إلي باللغة العربية، كان يلكن فيها كما يلكن الأعاجم.

قال لي، وهو يبتسم: مرحبا بك.. أظن أنك الشخص الذي كنت أبحث عنه.. أين قلمك وقراطيسك ودواتك؟

قلت: هي معي لا تفارقني.. ولكن من أنت؟.. وما شأنك بها؟.. ومن حدد لك موعدا معي في هذه الصحراء الجافة القاسية؟

قال: معلمنا جميعا.. معلم القرآن.. هل نسيته بهذه السرعة؟.. ألم يدعك إلى أن ترحل للتعرف على مصدر القرآن؟

قلت: بلى.. ولكني لم أكن أظن أن هذه الرحلة ستكون لهذه الصحراء القاحلة، وهذا الحر الشديد.. وهذا التنين الذي يكاد يلتهمني.

قال: ألم تسمع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام عندما طلب اليقين والطمأنينة؟

القرآن.. كلمة الله (24)

قلت: بلى.. لقد قال الله تعالى يخبر عن قصته في ذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]

قال: ألا ترى أنه كلف بالسير إلى جبال متفرقة.. وكل ذلك يقتضي منه جهدا وتعبا ومشقة؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها ما ذكره الله تعالى عن رحلة موسى عليه السلام إلى الخضر، لينال من حقائق العلوم ما لم يكن يعلم.. لقد وصف الله تعالى ذلك، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: 60]

قال: أجل.. فالحقائق أعظم من أن تنالها، وأنت على أرائك الاسترخاء.. علامة صدقك جهادك ومجاهدتك.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]؟

قلت: بلى.. فقد قرن الله تعالى الهداية بالمجاهدة.. ولكن.. ألم يكن هناك مكان أجدى من هذا المكان.. حتى يتاح لعقولنا أن تفكر وتتأمل ولا يحول هذا الموت الزؤام بينها وبين ذلك؟

قال: العقل الذي تهمه الحقائق لا تهمه المحال التي يكون فيها صاحبه.. فترفّع عن أغلال جسدك لتعيش في ثياب روحك.

شعرت بالحياء من قوله هذا، ولم أجد ما أقول، فقال لي: ألست تريد أن تتيقن بالمصدر الإلهي للقرآن؟

قلت: بلى.. لقد أخبرني معلمي أن هذا أول الدروس.. وأني لن أنجح في سائر

القرآن.. كلمة الله (25)

الدروس ما لم أتقنه وأستوعبه وأعيشه.

قال: صدق معلمنا.. فلا يعرف القرآن من لم يوقن أنه كلام الله.. ولن يوقن أنه كذلك ما لم يتخلص من كل ريب وشك.. فالشك والريب هما الحجاب الأعظم الذي يحول بين العقل والقلب وإدراك الحقائق، أو الاستفادة منها.

قلت: أجل.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال في وصف القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، فقد قرن بين الهداية وعدم الشك.. فلا يمكن لمن يشك في أستاذه أن يستفيد منه.. ولا يمكن لمن يشك في كلمات ربه أن تتمثل في عقله وقلبه.

قال: ولذلك كان الدرس الأول هو البحث عن اليقين الجازم، وإزالة كل ألوان الشكوك.. حتى يتخلص العقل والقلب من دنسها.. فلا يحول بين الإنسان والقرآن إلا وساوسها وآفاتها.

قلت: ولكني بحمد الله مؤمن.. وقد ورثت عن آبائي وأجدادي ذلك الإيمان.. ومثل ذلك كل قومي.. وهم لا يحتاجون لأي جهد، لأن قلوبهم وعقولهم ليس فيها محل للريب والشك.

قال: ولم هم متخلفون عن كل معاني القرآن إذن؟

قلت: السبب لا يعود لشكهم في كلمات ربهم المقدسة.. وإنما للكسل والجهل والغفلة، وأخواتها.

قال: أرأيت لو أن هؤلاء الذين تنعتهم بالكسل والجهل والغفلة وُعدوا ببعض قصور الدنيا وأموالها ومناصبها جراء أعمال بسيطة يقومون بها.. هل تراهم يظلون على كسلهم؟

القرآن.. كلمة الله (26)

قلت: كلا.. بل سيصبحون جبالا من الهمة والعزيمة والإرادة.. وسيصلون الليل بالنهار.. حتى ينالوا بعض ما ذكرت.. بل عشر عشيره.

قال: فهم ليسوا كسالى إذن؟

قلت: هم كسالى في شؤون الآخرة.. أو ما يرتبط بالدين.

قال: ألا تعرف سبب ذلك؟

قلت: لكل منهم عذره الذي يعتذر به.

قال: السبب في ذلك هو الريب والشك.. فلو أن قلوبهم وعقولهم أُشربت الحقائق بيقين وجزم لرأيت كل الحقائق والقيم القرآنية متمثلة في حياتهم.. لا يتخلف منها صغير ولا كبير.

قلت: ولكنهم يعظمون القرآن ويجلونه.. ويبكون عند سماعه.. ويهتزون عند تلاوته.

قال: هم يسمعونه بآذانهم لا بقلوبهم وعقولهم.. ولذلك ينتشون لكلماته المقدسة الجميلة.. لكنهم لا يأذنون لها في الدخول إلى حياتهم.. حتى لا تنغص عليهم ما ألفوه من متع الحياة الدنيا.. لقد قال لي معلمي يوما عندما ذكرت له هذا: ليس الشأن أن يهتز جسدك لقراءة القرآن.. بل الشأن أن تهتز حياتك.

قلت: لكن القرآن ذكر اهتزاز البدن، وتفاعله مع القرآن، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 83]

القرآن.. كلمة الله (27)

قال: وذكر معه التلاوة الحقة، وهي لا تستحق أن تكون كذلك من دون أن يصحبها العمل، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121].. ألا ترى الآية الكريمة كيف تحصر الإيمان فيمن يتلونه حق تلاوته؟

قلت: بلى.. ولكن ألا ترى أن هذا الحكم قد يقع بين أيدي التكفيريين، فيكفروا به الخلق؟

قال: أنا لا أتحدث عن كفر ولا إيمان.. ولكن أتحدث عن اليقين.. فالمريض الذي لا يستعمل دواءه سيظل مريضا حتى لو راح يردد اسم الدواء بكل اللغات، ويخشع عند ذكره بكل أنواع الخشوع.

قلت: فأنت تستدل بوجود المرض على عدم جدوى الدواء.

قال: معاذ الله أن أستدل على ذلك.. الدواء مجد.. وهو من الله تعالى.. وقد قال عنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].. لكن الشأن في الذين يقصرون في استعماله، أو يخطئون فيه.

قلت: أتقصد أولئك الذين أشار إليهم قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]؟

قال: بلى.. فأول الظلم الشك والريب.. لأنه يظلم الحقائق، ويحول بينها وبين الوصول إلى أهدافها.. إنه مثل الدواء الذي يُكتفى بالنظر إليه دون شربه.. فهو لا يجدي صاحبه شيئا.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ

القرآن.. كلمة الله (28)

عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]، فقد قرن الله تعالى بين الإيمان والهداية والشفاء.. كما قرن بين عدم الإيمان والعمى.

قال: ولذلك كان البحث عن الإيمان هو أول الدروس للاستفادة من القرآن.

لم أدر إلا وأنا أقول له بعد هذا: اعذرني.. لقد نسيت أن أسألك عنك، تبدو عليك ملامح أوروبية.. فهل أنت من تلك البلاد؟

قال: أجل.. لقد ولدت فيها، ونشأت بين أهلها.. ولا يزال سكني فيها.

قلت: فما الذي جعلك تترك تلك الجنان الوارفة إلى هذه الصحارى القاحلة؟

قال: الإيمان والعشق..

قلت: وما علاقة الإيمان والعشق بالصحراء.. أعرف العشاق يحبون الطبيعة الحية الجميلة، لا الصحارى القاحلة الميتة؟

قال: عندما تعرف قصتي.. ستعرف سبب عشقي لهذه البوادي.

قلت: فهل ستحدثني عنها؟

قال: أجل.. لقد طلب مني معلمي.. معلم القرآن.. أن أفعل ذلك.

قلت: فكلي آذان صاغية.

ما قلت ذلك.. حتى رأيت نخلة من بعيد.. وكأنها تنادينا للجلوس تحت ظلالها.. فقلت له: هلم إلى تلك النخلة التي جاد الله بها علينا.. فما أحلى الأحاديث في ظلال النخيل.

293031

تحت ظلال تلك النخلة.. أخذ صاحبي يحدثني عن نفسه، قال لي: لقد كانت هذه النخلة هي أول ما اهتديت به إلى ربي.

قلت: عجبا.. كيف ذلك.. وأنى لكم بالنخيل وأنتم بين السهول والتلال.. والبحار

القرآن.. كلمة الله (32)

والأنهار؟

قال: لقد شاء الله أن أقوم برحلة في تلك الأيام إلى هذه الصحراء التي تراها.. وفي هذه المحال حصل لي ما حصل لك من العطش والألم.. إلى أن أنقذني الله بهذه النخلة.. عندما جلست في ظلالها.. وأكلت بعض تمرها.. وارتدت إلي روحي.. حينها فقط رأيت الحياة بصورتها الحقيقية.. لا الصورة المزيفة التي كنت أعيشها، والممتلئة بالغفلة والجهل والجحود.. لقد اكتشفت في ظلال هذه النخلة عناية الله بعباده.. ولذلك صرت أزورها كما أزور الأولياء والصالحين.. لأنها كانت رسالة الهداية الأولى التي قرأتها بصدق وإيمان ولهفة.

قلت: عجبا لك.. ألم تكتشف عناية الله في بلادكم الجميلة، ورحت تكتشفها في هذه الصحراء القاحلة؟

قال: الغني لا يعرف قيمة الدرهم والدينار إلا إذا افتقر.. وهكذا كان حالي.. لقد أنستني الغفلة التأمل في فضل الله ونعمه، إلى أن حصل لي ما حصل.. حينها أدركت أن الذي خلق هذه النخلة في الصحراء، رحيم ولطيف بعباده.. وعندما شعرت هذا الشعور، رحت أستغيث به وأطلب عونه، ولأول مرة في حياتي.. وبمجرد أن صرخت طالبا النجدة من ربي.. جاءني الغوث والمدد..

قلت: لقد ذكرتني بما ورد في القرآن الكريم عن المستغيثين بالله، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]

قال: أجل.. ولا فارق بيني وبينهم إلا أن الله ثبتني على الهداية، وأذاقني حلاوتها، وجعلني داعية لها..

القرآن.. كلمة الله (33)

قلت: ولكن كيف اهتديت إلى الإسلام والقرآن؟.. لم لم تلجأ للمسيحية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها من الأديان؟

قال: لقد لجأت إليها جميعا.. وقرأت كل كتبها المقدسة وبعمق وتدبر.. لكني لم أجد فيها ما يروي ظمئي للحقيقة الصافية الخالصة مثل القرآن.. ولذلك صرت عاشقا له، أرتله صباح مساء.. ولأجل قراءته بلغته الأصلية انتسبت لكل المعاهد والمدارس التي تدرسها.. إلى أن من الله علي بها؛ فصرت أتذوق ألفاظ القرآن وتراكيبه مثلما أتذوق معانيه وأعماقه.

قلت: ولكن.. كيف عرفت أن القرآن ليس مجرد كتاب صيغ بلغة جميلة معبرة كما تصاغ سائر الكتب.. وأن جماله لا يعني قداسته أو ربانيته؟

قال: لقد بحثت في ذلك بحوثا عميقة.. لكنه لم يؤذن لي أن أذكر لك إلا واحدا منها، لأنه كان أولها بالنسبة لي.. وهو الذي فتح لي بعد ذلك آفاقا جديدة للبحث والاجتهاد.. لقد كان أول ما شد انتباهي أثناء قراآتي الأولى للقرآن تلك الآيات الكريمة التي يشهد الله فيها لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الكلمات كلمات الله، والكتاب كتابه.

قلت: لقد وردت تلك الشهادة في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 166].. وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28].. وقوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 43].. وقوله: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 96].. وقوله: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [العنكبوت: 52].. وقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ

القرآن.. كلمة الله (34)

شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الأحقاف: 8].. وقوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 19]

قال: لقد كانت هذه الآيات هي أول ما شد انتباهي.. لقد قلت لنفسي: هل يمكن لله الرحمن الرحيم الذي يعتني بعباده كل تلك العناية، أن يدع كاذبا مزورا يتلاعب بهم، ويستعمل شهادته لذلك؟.. ألسنا نحن البشر عندما يُنسب إلينا أي شيء نسارع فننكر ما نسب إلينا؟.. فكيف لم يرد ما يكذب تلك الشهادة، بل ورد كل ما يدعمها ويقويها.

لقد كان هذا الدليل الذي ربما لا يقتنع به الكثير هو الدليل الأعظم الذي انطلقت منه لتحصيل اليقين في كون القرآن كلام الله.

لقد رحت أبحث حينها في كل المصادر المقدسة، لأجد مثل هذه العبارات، أو هذه المعاني؛ فلم أجد إلا السراب.. بل وجدت الكثير من المعاني التي يستحيل أن تُنسب إلى الله.. ولعلك رأيت بعض ذلك في رحلتك إلى الكلمات المقدسة (1).. واستمعت لتلك النصوص المزيفة المنسوبة لله في الكتاب المقدس.

قلت: أجل.. وقد تعجبت كثيرا أن تظل تلك النصوص موجودة في كتاب مقدس مع ما تحمله من فحش وبذاءة وانحراف.. أو ما تحمله من لغو وجهل وخرافة.

قال: وأنا أيضا عندما قرأت تلك النصوص في الفترة التي لجأت فيها إلى الله نفرت نفسي نفورا شديدا.. بل كدت أعود للإلحاد من جديد.. لولا أني تذكرت هذه النخلة.. لقد جئت إليها، وصحت من جديد أمامها طالبا من ربي أن ينقذ روحي كما أنقذ جسدي، وأن

__________

(1) ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب [الكلمات المقدسة]، والذي عقدناه للمقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس.

القرآن.. كلمة الله (35)

يدلني على الحقيقية، حتى لا أقع بين أيدي الدجالين..

حينها ألهمني الله بالكثير من الحقائق والبراهين التي جعلتني أواصل البحث بدون كلل ولا ملل.. لقد قال لي بعضها: هل يمكن أن يظل البشر غارقين في الغواية من دون أن تتدخل العناية الإلهية لهدايتهم؟.. وهل يمكن للإله الذي وفر لعباده كل ما يحتاجونه، وبأجمل صورة أن يغفل عن هدايتهم، أو ترك كتاب صحيح ليعرفهم به؟

وبعد تأمل عميق.. وجدت أن ذلك مستحيل؛ فعناية الله بعباده تفوق الوصف، ولعلك رأيت في رحلتك مع معلم الإيمان بعض مظاهر ذلك.

قلت: أجل.. لقد رأيت الكثير من ذلك في رحلتي إلى روضات الهاربين من جحيم الإلحاد (1).

قال: لقد كان ذلك هو دليلي الأكبر إلى القرآن.. فيستحيل أن تتم العناية من دون الهداية.. ويستحيل أن يكون الله رحيما رحمانا لطيفا بعباده، وهو يكتفي بأن يهدي لهم ما يأكلون ويشربون، ثم لا يهدي لهم ما يدلهم على حقائق الوجود، وما يرتبط بهم وبمصيرهم.

لقد قلت في نفسي: الله الذي أجابني عندما طلبت منه إغاثتي هل يتخلف عن إجابة كل تلك التساؤلات التي تمتلئ بها العقول، وهي تبحث عن ربها، وعن حقيقتها، ومصيرها وغاية وجودها.

قلت: لا أزال أسأل عن كيفية اهتدائك للقرآن؟

قال: لقد كان القرآن هو دليلي إلى القرآن.. كما كان الله هو دليلي على الله.

قلت: عجبا لك.. أنت تذكرني بما يطلق عليه الفلاسفة والمتكلمون [برهان

__________

(1) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بذلك في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد].

القرآن.. كلمة الله (36)

الصديقين] لأنه لا يحتاج إلى أي وسائط.. ولذلك اعتبر أشرف البراهين (1).

قال: يمكنك اعتبار الدليل الذي وصلت إليه من هذا النوع.. فكلام الله هو الدليل على كونه كلام الله.. ولذلك لم أحتج إلى أي دليل خارجي.

قلت: ولكن الكثير يعتبر ذلك دورا.. فكيف يكون الشيء دليلا على نفسه؟

قال: وما الحرج في ذلك؟.. ألا ترى أن الكثير من الأدوية التي يتداوى بها الخلق لا يعرفون آليات عملها في الجسد، ولا كيفية قدرتها على قهر الداء؟

قلت: بلى.. وقد قرأت عن ذلك كثيرا.

قال: فكيف اعتبروه دواء من غير دليل؟

قلت: من خلال التجربة.. لقد كان أهم دليل للدواء على كونه دواء قهره للمرض، وتحقيقه للشفاء.

قال: وهكذا كان الأمر مع القرآن.. لقد رحت أرتل تلك الآيات التي يخاطب الله تعالى فيها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويطمئنه ويخبره أنه ربه الذي أوحى إليه.. فعلمت أن ذلك يستحيل أن يكون مجرد دعوى..

يستحيل أن يوجد كاتب في الدنيا مهما كان مبدعا أو مغرورا أن يقول ـ وهو يتحدث عن نفسه ـ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ [البقرة: 119]

أو يقول: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الرعد: 30].. أو يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].. أو يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفرقان: 56].. أو يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45].. أو يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

__________

(1) شرحناه بتقريراته المختلفة في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد].

القرآن.. كلمة الله (37)

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28].. أو يقول: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24].. أو يقول: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48].. وغيرها من الآيات الكريمة التي يتحدث الله فيها مباشرة إلى رسوله يطمئنه بأنه هو الذي أرسله.. وهو الذي أوحى إليه.

بل وجدت أن الله تعالى يدعو رسوله لصرف أي شك قد يرد على قلبه نحو وحي ربه له، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94]

قلت: أجل.. وهو لا يعني حصول الشك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل هو يشبه ما ورد في القرآن الكريم من قول المسيح عليه السلام مجيبا ربه تعالى عن سؤاله إياه ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: 116]، فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقله ولكنه يفرضه ليستدل على ذلك بأنه لو قاله لعلمه الله منه.

قال: أجل.. ذلك واضح.. هو كقول أحدنا لابنه: إن كنت ابني حقا؛ فاعمل بما أقول لك.. لكني حينما قرأت تلك الآية الكريمة.. وما بعدها وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [يونس: 95].. أو تلك الآيات التي يهدد الله فيها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إن أضاف إلى القرآن ما ليس منه، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 ـ 47]

القرآن.. كلمة الله (38)

عندما قرأت كل تلك الآيات الكريمة علمت أنه يستحيل أن يقول الشخص لنفسه عن نفسه هذا.. لقد رحت أبحث في تاريخ المدعين للنبوة والمزورين للحقائق؛ فوجدتهم يشيدون بأنفسهم، ويستعلون، ولم أجد أبدا مثل تلك الآيات الكريمة التي قرأت لك أمثلة عنها.

قلت: فهلا حدثتني عنهم.

قال: أنا لا أحدثك إلا بما أذن لي أن أحدثك فيه.. وقد أخبرتك عن سبب هدايتي إلى القرآن ودليلي عليه.. فسر كما سار الخليل لتنال من اليقين ما ناله.

القرآن.. كلمة الله (39)

ثانيا ـ القرآن.. وشهادة الأنبياء

أردت أن أسأله عنه وعن بلده وعن تلك الصحراء وموقعها من الأرض.. لكني فجأة وجدته اختفى تماما.. واختفت معه تلك النخلة.. بل اختفت كل تلك الصحراء.. ولم أر نفسي إلا وأنا أمام كنيسة عتيقة تحيط بها أشجار التين والزيتون في منظر خلاب مختلف تماما عما كنت فيه.

احترت في سبب وجودي أمامها.. ولست أدري كيف دب إلي الشك والريب وسوء الظن، وقلت لنفسي من حيث لا أشعر: ما الذي حصل؟.. هل أنا في صحبة معلم القرآن.. أم في صحبة معلم الكتاب المقدس؟.. لقد كان الأصل أن يأخذ بيدي إلى المسجد لا إلى الكنيسة.. ما الذي جاء بي إليها؟

1. القرآن وشهادات الأنبياء

فجأة ربّت على كتفي رجل، وقال: لاشك أنك أنت الذي أرسله إلينا معلم القرآن.

قلت: أجل.. ولكن من أنت؟.. وهل يمكن أن يكون لمعلم القرآن وجود بين الكنائس؟.. وما علاقة الكنيسة بالقرآن؟

قال: كيف لا تكون هناك علاقة؟.. أليس الرب واحدا؟.. أليس الذي أرسل إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وموسى وداود وسليمان وإشعيا وإرميا وميخا ودانيال وحبقوق وحجي وزكريا وملاخي ويوحنا وصفتيا وحزقيال والمسيح عليهم السلام (1) هو الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؟

قلت: بلى.. ولكن لكل نبي وحيه الخاص به.. ونحن لم نطالب إلا بالوحي الذي

__________

(1) تناولنا البشارات الواردة عن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بتفصيل في كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

القرآن.. كلمة الله (40)

تنزل على خاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: بلى.. ولكن رحمة الله تعالى بعباده أبت إلا أن يبشر كل نبي بمن بعده، حتى تظل سلسلة الهداية قائمة لا تتقطع.. وحتى لا يقع المهتدون في شباك المضللين.. لقد بدأ ذلك من لدن آدم عليه السلام.. ألم تسمع وعد ربك له بأن يجعل في ذريته من يحافظ على مشعل الهداية؟

قلت: بلى.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 37 ـ 39]، وقال في سورة أخرى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123 ـ 124]

قال: ألديك شك في معقولية هذا؟

قلت: لا.. أراه معقولا جدا.. فنحن في حياتنا نتعامل بهذه الطريقة دائما عندما نخاف من تسلل المغرضين والانتهازيين والماكرين.

قال: لقد أشار الله تعالى إلى هذه الغاية في قوله على لسان زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم: 4 ـ 5].. فزكريا عليه السلام لم يكن حريصا على الولد بقدر حرصه على استمرار مشعل الهداية بين قومه.

قلت: ولذلك ذكر الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام بأن يجعل في ذريته من يحافظ على الهداية، كما قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

القرآن.. كلمة الله (41)

إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]

قال: أجل.. وقد ذكر الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام بأن يجعل ذريته من المسلمين الثابتين، فقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 127 ـ 129]

قلت: وقال يذكر حرص أبناء إبراهيم عليه السلام على استمرار الهداية في ذريتهم: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 130 ـ 132]، وقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133]

قال: ولهذا؛ فإن من رحمة الله تعالى بعباده تلك البشارات التي بشر الأنبياء عليهم السلام بها بعضهم ببعض.

قلت: ومنها بشارتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قال: أجل.. تلك بشارة خاصة، وقد كانت لها أهميتها الكبرى، لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الرسل، ورسالته عامة للبشر جميعا، ولذلك كان الأنبياء يحضرون أقوامهم لدعوته، وتوفير البيئة المناسبة لنجاحها.

قلت: لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ

القرآن.. كلمة الله (42)

أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 81 ـ 82]

قال: بلى.. فالآية الكريمة تنص على أن الأنبياء عليهم السلام قد أبرموا مع الله ميثاقاً بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشيء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم (1).

قلت: ونفس هذا الميثاق أخذ على أتباعهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]

قال: أجل.. فقد أُخذ الميثاق على الجميع بحفظ الرسالة وامتدادها، وحفظ وصايا الأنبياء وبشاراتهم وتحذيراتهم، حتى يظل علم الهداية مرفوعا.

قلت: لكن أتباع الأنبياء عليهم السلام أخلوا بذلك كما قال تعالى تعقيبا على الآية السابقة: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]

قال: أجل.. وكان أعظم نبذ هو تحريف تلك البشارات التي ترشد إلى مواضع الهداية، أو تلك الإنذارات التي تحذر من مواضع الضلالة.

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 89]، فهذه الآية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

__________

(1) تفسير الأمثل، مكارم الشيرازي (2/ 573)

القرآن.. كلمة الله (43)

وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الآية السابقة ـ

ثم ذكر شهادته في ذلك، فقال: كنا قد علوناهم (1) دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: (إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم)، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به.. فذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [النساء: 155]

وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا: (يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته)، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: (ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:89] (2)

قال: لقد عقب الله على الآية الكريمة ببيان سبب فعلهم لذلك، وهو الحسد والبغي، فقال: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [البقرة: 90]

قلت: أجل.. لقد كانوا يريدون أن يكون النبي من عرقهم وقومهم.. لا من قوم آخرين.. وقد أخبر الله تعالى عن موقفهم ذلك، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا

__________

(1) انتصرنا عليهم.

(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 547) وتفسير الطبري (2/ 233)

القرآن.. كلمة الله (44)

نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 91]

قال: أجل.. هم كانوا يكذبون في ذلك.. فهم الذين قتلوا أنبياءهم الذين كانوا من قومهم، لأن هدفهم أن يكون النبي على مزاجهم وأهوائهم.. وكل نبي خالف ذلك حاربوه.

قال: ألهذا لا نجد البشارات الصريحة الواضحة القطعية في الكتب المقدسة؟

قال: بلى.. فقد أعمل القائمون على الكتب أيديهم في تحريفها وتبديلها حتى تتناسب مع أمزجتهم.. ألم تسمع في ذلك قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13]

قلت: بلى.. والآية الكريمة واضحة في تحديد المحال التي اهتموا بتحريفها أو الغفلة عنها.. وهي تلك البشارات التي تدعوهم إلى التخلي عن أنفسهم وأهوائهم واتباع النبي الذي يبشرون به.

قال: أجل.. ولذلك كان اهتمامهم الأكبر بالطقوس والشعائر، أكثر من اهتمامهم بتلك الوصايا التي لا يتم حفظ الدين ولا تصحيحه إلا بها.

قلت: ولكن الله تعالى يذكر أنه ـ مع كل التحريفات ـ لا تزال البشارات موجودة في كتب الأنبياء عليهم السلام.

قال: بلى.. فعناية الله تعالى بعباده تأبى أن تنقطع سلسلة الهداية؛ فلذلك ـ مع محاولاتهم الشديدة لطمس معالم الهداية ـ تبقى آثارها، وما يدل عليها.

قلت: لقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً

القرآن.. كلمة الله (45)

أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 196 ـ 197]، وقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، وقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20]

قال: أجل.. هناك آيات كثيرة تخبر عن ذلك وتؤكده.. وأعظم توكيد هو إيمان الكثير من علماء أهل الكتاب نتيجة ما رأوه في كتبهم من البشارات.

قلت: أجل.. لقد أخبر الله تعالى عن هؤلاء الصادقين، فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]

قال: أجل.. وسيرزقك الله رؤيتهم والحديث إليهم.. وأنا لم أكلف بذلك، ولم يؤذن لي فيه (1).

2. شهادات الأنبياء والقرآن

فجأة فارقني من غير أن يخبرني عنه وعن شأنه، مثلما فعل صاحبي الأول.. وبمجرد فراقه لي، مر بي شيخ كبير، لا يكاد يستطيع السير، وهو يقول: أدخلني يا بني إلى الكنيسة.. فقد سمعت أن هناك مواعظ مهمة ستلقى اليوم.

لم أجد إلا أن آخذ بيده، وأدخل به الكنيسة، وهناك وجدت نفرا كثيرا جالسين، وكان على المنصة شيخ كبير، يضع الصليب على عنقه، ويرتدي ما يرتديه رجال الدين

__________

(1) سنتحدث عن هؤلاء في الفصل المخصص لشهادة الخبراء.

القرآن.. كلمة الله (46)

المسيحي.

تأمل طويلا في الجالسين، ثم قال يخاطبهم: ما تقولون في فترة تواجدي بينكم.. هل تروني آذيت أحدكم، أو أسأت إليه.. أو استعملت منصبي الديني في قضاء حاجاتي الشخصية؟

قام أحد الحاضرين، وقال: معاذ الله.. لقد كنت دائما قدوة لنا في سلوكك وأخلاقك.. وقد كنت ـ بمواساتك لآلامنا وقيامك لخدمتنا ـ تعطينا أجمل صورة عن المسيح.. لقد تعمق حبنا له، بسبب تلك الصورة الجميلة التي صورته بها، لا بأحاديثك فقط، بل بسلوكك وأخلاقك أيضا.

ثم قام آخرون، وقالوا قريبا من هذا الكلام.. فسكت الشيخ قليلا، ثم قال: أشكركم كثيرا على هذه الكلمات الطيبة النابعة من إخلاصكم وصدقكم وطيبتكم.. لكني مع ذلك أشعر أني لست أهلا لها، وأنكم تثنون على شخص آخر غيري.

قالوا جميعا: أنت أهل لذلك.. ونحن لم نذكر فيك إلا ما هو فيك.. بل ربما قصرنا في ذلك.

أ ـ بشارة المسيح

قال الشيخ: اسمحوا لي في آخر جلسة لي بينكم.. وأنا على أعتاب سفري من هذه الدنيا التي لم يبق لي منها إلا القليل، أن أبث إليكم ما ظللت طول عمري أكتمه عنكم حرصا عليكم، وعلى نفسي.

لا شك أنكم كنتم تسمعون بما ورد في قرآن المسلمين عن المسيح.. ولاشك أن هذه الآية من القرآن، وهي: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ

القرآن.. كلمة الله (47)

بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6].. قد مرت بكم، وأنكم صممتم آذانكم عنها.. أو أنكم سمعتم لما كنا نذكره من التكذيب لها والسخرية بها.

لكني في هذه اللحظات التي لم يبق لي فيها من الدنيا أي غرض، أريد أن أبث لكم من وصايا المسيح وبشاراته ما لعله يكون تفسيرا لها.. واصبروا علي.. فأنا لا أريد أن أزعزع عقائدكم، لكني أريد أن أحرركم من الأكاذيب التي كنت أكذب بها عليكم.. ولا عليكم بعدها أن تختاروا ما يتناسب معكم.

لقد مر بكم كثيرا، وأنتم تقرؤون إنجيل يوحنا، قول المسيح موصياً تلاميذه: (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم.. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً.. الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم... قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون، لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء) [يوحنا 14/ 15 ـ 30]

ولا شك أنه مرت بكم أيضا موعظة المسيح في تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم قوله بعدها: (متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي في الابتداء.. قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا، سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله.. قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه

القرآن.. كلمة الله (48)

إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم.. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين.. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم) [يوحنا 15/ 26 ـ 16/ 14]

سكت قليلا، ثم قال: هذه النصوص المقدسة واضحة في كون المسيح يتحدث عمن يأتي بعده.. وعن أهمية اتباعه والاستماع له.. فهو يكرر ذلك كثيرا، وباهتمام شديد.

قام أحد الحاضرين، وقال: أجل.. هو واضح جدا.. وقد فسرتم لنا ذلك بأنه روح القدس الذي نزل على التلاميذ يوم الخمسين ليعزيهم في فقدهم للمسيح، كما ورد في سفر الأعمال: (صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا) [أعمال 2/ 1 ـ 4]

قال آخر: لقد ذكرتم لنا أن الأنبا أثناسيوس قال في تفسيره لإنجيل يوحنا: (البارقليط هو روح الله القدوس نفسه المعزي، البارقليط: المعزي (الروح القدس الذي يرسله الأب باسمي) [يوحنا 14/ 26]، وهو الذي نزل عليهم يوم الخمسين [أعمال 2/ 1 ـ 4] فامتلأوا به وخرجوا للتبشير، وهو مع الكنيسة وفي المؤمنين، وهو هبة ملازمة للإيمان والعماد) (1)

__________

(1) تفسير إنجيل يوحنا، الأنبا أثناسيوس، ص (118)

القرآن.. كلمة الله (49)

قال الشيخ: أجل.. لقد كنت أقول لكم ذلك، لكني لم أكن صادقا معكم، ولا مع نفسي.. فما قاله الأنبا أثناسيوس، وما قاله غيره من آبائنا وأساتذتنا ليس سوى هروب من الحقيقة والواقع.. ذلك أن التحريف الذي طال تلك البشارة، ثم التأويلات التي تعرضت لها جعلتها بعيدة جدا عن الواقع الذي لا نريد أن نصرح به.

لاشك أنكم تعلمون أن كلمة [المعزي] الواردة في البشارة، ليست هي ما نطق به المسيح.. لأنها كلمة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة سنوات (1820 م، 1831 م، 1844 م) تضع الكلمة اليونانية (البارقليط) كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية.

وعندما نبحث عن معنى هذه الكلمة [بارقليط] في اليونانية، نجد أن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين، الأول أنه (باراكلي توس) فيكون معناه: المعزي والمعين والوكيل.. وهو ما اخترناه في تراجمنا الحديثة.. أو يكون (بيروكلوتوس)، ويكون حينها قريباً من معنى: محمد وأحمد.

لقد قال الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا: (إن لفظ بارقليط إذا حرف نطقه قليلاً يصير (بيركليت)، ومعناه: الحمد أو الشكر، وهو قريب من لفظ أحمد) (1)

وعند التأمل في كلا المعنيين للكلمة نجد أن معناها الثاني أقرب لوصية المسيح من المعنى الثاني.. أولا لأن اللفظة اليونانية (بيركلوتس) اسم لا صفة، فقد كان من عادة اليونانيين زيادة السين في آخر الأسماء، وهو ما لا يصنعونه في الصفات.. وثانيا لأن تفسيرنا للبارقليط بأنه (شخص يدعى للمساعدة أو شفيع أو محام أو وسيط) غير صحيح، لأن كلمة بارقليط اليونانية لا تفيد أياً من هذه المعاني، فالمعزي في اليونانية يدعى (باراكالون أو

__________

(1) تفسير إنجيل يوحنا، الأنبا أثناسيوس، ص (117)

القرآن.. كلمة الله (50)

باريجوريتس)، والمحامي تعريب للفظة (سانجرس)، وأما الوسيط أو الشفيع فتستعمل له لفظة (ميديتيا).. وبذلك فإن اختيارنا للمعنى الأول، وعدولنا عن المعنى الثاني، ليس سوى نوع من التحريف.. عن معنى الحمد إلى أي من هذه المعاني إنما هو نوع من التحريف.

هذا ليس موقفي فقط.. بل هو موقف أكثر الباحثين المتحررين.. لقد قال القس الدكتور سمبسون: (الاسم المعزي ليس ترجمة دقيقة جداً) (1).. وقال مؤلفو معجم اللاهوت الكتابي: (ومعنى [المعزي] المشتق على الأرجح من أصل لغوي خاطئ غير وارد في العهد الجديد) (2)

قام بعض الحاضرين، وقال: هل يعني حديثك هذا أن المسيح بشر بأحمد.. وأن هناك تحريفا في الترجمات التي بين أيدينا؟

قال الشيخ: التحريف المرتبط بالترجمات كثير جدا.. وهو مشهور.. ذلك أن المترجم يحاول دائما أن يختار ما يتناسب مع مزاجه ورأيه.. فاسم [بارباس] مثلا في الترجمة البروتستانتية هو في نسخة الكاثوليك [بارابا]، وكذا [المسيا، ماشيح] و[شيلون، شيلوه]

بالإضافة إلى ذلك، فإن كلمة [البارقليط] مترجمة عن السريانية ـ لغة المسيح الأصلية ـ فلا يبعد أن يقع مثل هذا التحوير حين الترجمة..

لقد اعترف الكثير من علمائنا بهذا.. لكنهم بدل أن يسلموا للحقيقة، راحوا يحتالون عليها.. فأدوين جونس يعترف في كتابه [نشأة الديانة المسيحية] بأن معنى [البارقليط] محمد، لكنه بدل التسليم للوصية، راح يذكر أن المسيحيين أدخلوا هذا الاسم في إنجيل يوحنا جهلاً منهم بعد ظهور الإسلام، وتأثرهم بالثقافة الدينية للمسلمين.

__________

(1) الروح القدس أو قوة في الأعالي (2/ 206)

(2) معجم اللاهوت الكتابي (مادة بارقليط)

القرآن.. كلمة الله (51)

أما المستشرق لويس سبرنجر (ت 1893 م)، فقد راح يحتال حيلة أخرى في كتابه عن سيرة محمد، حيث ذكر أن اسمه الحقيقي هو [قثم]، وأنه تسمى باسم محمد بعد هجرته، وأنه التقطه من خلال قراءته لنبوءات الأناجيل عن البارقليط.

وهكذا ذكر غير من المستشرقين كالمستشرق اليهودي هرتويغ درنبرغ (ت 1908 م)، والمستشرق الألماني ثيودور نولدكه (ت 1930 م) صاحب كتاب (تاريخ القرآن)، والمستشرق الإيطالي الأمير ليون كايتاني في كتابه [حوليات الإسلام] (1)

سكت قليلا، ثم قال: لأتحقق من تلك الوصية جيدا.. عرضتها على باقي الوصايا الواردة في الأناجيل.. وقد وجدت أنها لا تنطبق إلا على محمد.. لا شك أنكم قرأتم في الإنجيل حديث الكرامين.

قام بعض الحضور، وقال: أجل.. وكيف لا نقرؤه.. لقد قال المسيح يوما لحوارييه، وهو يشبه لهم الملكوت: (اسمعوا مثلاً آخر، كان إنسان رب بيت، غرس كرماً، وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة وبنى برجاً، وسلمه إلى كرامين وسافر.. ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، ثم أرسل إليهم أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين، ففعلوا بهم كذلك.. فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني، وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم، وقتلوه.. فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له: أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً، ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطون الأثمار في أوقاتها.. قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب

__________

(1) انظر تاريخ العرب في الإسلام، جواد علي، ص (97، 98)

القرآن.. كلمة الله (52)

كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه.. ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم) [متى 21/ 33 ـ 45] (1)

قال الشيخ: لقد وجدت أن هذه البشارة تفسر البشارة السابقة وتؤكدها.. إن هذا المثل العجيب من المسيح (مثل الكرامين) يحكي تنكر اليهود لنعم الله واصطفائه لهم بقتلهم أنبياءه وهجر شريعته.. ثم يحكي المثل انتقال النبوءة إلى أمة أخرى تقوم بأمر الله تعالى وتقوى على أعدائها وتسحقهم.. وقد ذكر المسيح هذا ليقنعهم بأن النبوة لن تبقى في بني إسرائيل بعد ما فعلوا ما فعلوا، ولهذا ترك الجواب لهم، وكأنه يحاول أن يملأهم بهذه القناعة.

قام رجل من الحضور، وقال: لكن ليس في البشارة ما يشير إلى انتقال النبوة إلى العرب؟

قال الشيخ: لكن يمكن معرفة ذلك بسهولة.. فأول صفات هذه الأمة على حسب وصف الكتاب المقدس أنها أمة مرذولة محتقرة.. لقد ورد في النبوءة: (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية)، لكن الله ـ الذي تستوي عنده الأجناس ـ اختارها رغم عجب اليهود من تحول الملكوت إلى هذه الأمة المرذولة، لكنه قدر الله العظيم (من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا)

وقد ورد في القرآن ما يشير إلى هذا، فهو يذكر ما فعله قوم محمد عند رفضهم له،

__________

(1) وقد ورد في السنة المطهرة مثل قريب من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً، فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبنة، فيتم بنيانك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فكنت أنا اللبنة) رواه مسلم (2286)

القرآن.. كلمة الله (53)

لأنهم كانوا يريدون أن يكون اختيار الله موافقا لمزاجهم، وكأن الله عبد لهم، لا هم عبيد له، لقد ورد فيه: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 30 ـ 31]

وقد رد عليهم بقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32]

وذكر في موضع آخر حصر حق اختيار الأنبياء لله.. ففيه: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]

ولذلك؛ فإن كل التحريفات التي أصابت الكتب المقدسة كان سببها المزاج والهوى؛ لأنهم لا يريدون التسليم لله، وإنما يريدون أن يتنازل الله لهم ليتحقق ما يريدون، لا ما يريد الله.

سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنكم تعلمون أن العرب كانوا أمة محتقرة عند اليهود؟

قام بعضهم، وقال: أجل.. لقد ورد في الكتاب المقدس ما يشير إلى احتقار أم العرب، فهو يذكر أنهم أبناء الجارية هاجر، والتي يزدريها الكتاب المقدس، فقد قالت سارة: (اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن الجارية لا يرث مع ابني إسحاق) [التكوين 21/ 10]

قال الشيخ: ليس ذلك في العهد القديم فقط.. بل حتى في العهد الجديد.. نجد بولس يقول مفتخراً على العرب محتقراً لهم: (ماذا يقول الكتاب؟ اطرد الجارية وابنها، لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة، إذاً أيها الإخوة: لسنا أولاد جارية، بل أولاد الحرة) [غلاطية 4/ 30 ـ 31]

سكت قليلا، ثم قال: عندما نفهم مصاديق تلك البشارات جيدا.. سيتيسر علينا

القرآن.. كلمة الله (54)

فهم كل ما ورد في الإنجيل من النبوءات.. لا شك أنكم قرأتم مثل العرس في الإنجيل الذي حدث به متى؟

قام بعضهم، وقال: أجل.. فقد ورد فيه: (يشبه ملكوت السموات إنساناً ملكاً صنع عرساً لابنه، وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين قائلاً: قولوا للمدعوين: هو ذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمناتي قد ذبحت، وكل شيء معد، تعالوا إلى العرس.. ولكنهم تهاونوا ومضوا، واحد إلى حقله، وآخر إلى تجارته، والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم.. فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده، وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم، ثم قال لعبيده: أما العرس فمستعد، وأما المدعوون فلم يكونوا مستحقين، فاذهبوا إلى مفارق الطرق، وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس.. فخرج أولئك العبيد إلى الطرق، وجمعوا كل الذين وجدوهم أشراراً وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس، فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: اربطوا رجليه ويديه وخذوه، واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، لأن كثيرين يدعون، وقليلين ينتخبون) [متى 22/ 1 ـ 14]

قال الشيخ: هذا المثل الذي ضربه المسيح تأكيد للمثل السابق، حتى يهيء نفوس بني إسرائيل لتقبل النبي الموعود من الأمة التي يحتقرونها.

قام رجل من الحضور، وقال: لقد ورد في الكتاب المقدس مثل آخر قريب من هذا، ذكر فيه المسيح أنواع الناس في قبول الملكوت والإذعان له، ودعاهم لقبوله والإذعان له، فقال: (هوذا الزارع قد خرج ليزرع، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق، فجاءت

القرآن.. كلمة الله (55)

الطيور وأكلته.. وسقط آخر على الأماكن المحجرة، حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبت حالاً، إذ لم يكن له عمق أرض، ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذ لم يكن له أصل جف.. وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه.. وسقط آخر على الأرض الجيدة، فأعطى ثمراً، بعض مائة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين، من له أذنان للسمع فليسمع.. فاسمعوا أنتم مثل الزارع، كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، فيأتي الشرير ويخطف ما قد زرع في قلبه، هذا هو المزروع على الطريق.. والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح، ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين، فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر.. والمزروع بين الشوك هو الذي يسمع الكلمة، وهم هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة، فيصير بلا ثمر.. وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين) [متى 13/ 1 ـ 23]

قال الشيخ: بوركت.. إن هذا المثل الوارد في الإنجيل يتطابق تماما مع المثل الذي ضربه محمد لمواقف الناس من دعوته، وأحوالهم معها، حيث قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا، وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) (1)

قام بعض الحضور، وقال: ما دمت موقنا بهذا.. فلم لم تخبرنا بذلك سابقا؟

__________

(1) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282)

القرآن.. كلمة الله (56)

قال: لقد كنت ألتمس لنفسي آلاف الأعذار كل يوم، وأبسطها وأيسرها الخشية عليكم من أن تقتنعوا بالإسلام لتتحولوا بعدها إلى متطرفين وإرهابيين.. مع أن المسلمين ليسوا كلهم متطرفين ولا إرهابيين.. بل مع أن الإسلام نفسه ليس دين تطرف وإرهاب.. وقد رأيتم أن قومنا عاشوا بين المسلمين لمئات السنين، ولم يروا منهم سوى الأخوة وحسن الجوار.

إنهم يطبقون في ذلك ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة للبر والمودة حتى مع المخالفين.. ففي القرآن: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]

قام بعض الحضور، وقال: لكن تلك القوانين الجائرة التي عاش بها أجدادنا في ظل الحكومات المستبدة كانت أسوأ تمثيل للإسلام.

قال الشيخ: كما أن اليهود لا يمثلون موسى.. والمسيحيين لا يمثلون المسيح.. فالمسلمون لا يمثلوا محمدا.. كل شخص لا يمثل إلا نفسه.. ولو أنكم قرأتم ما ورد في مصادر المسلمين، لرأيتم محمدا نفسه يحذر من ذلك الملك الاستبدادي الجائر الظالم الذي لا يرحم المسلمين ولا غيرهم.

قال ذلك، ثم كتم دمعة تكاد تنهمر من عينيه، وهو يقول: اعذروني لأني لم أكن أتجرأ على قول هذا بينكم.. وأنتم الآن أحرار في أن تتخذوا مني أي موقف.. فلم يعد في عمري ما يسمح لي بمراعاة أي أحد.

ب ـ بشارة إبراهيم

ما انتهى الشيخ من حديثه هذا، حتى قام أحد رجال الدين الحاضرين، وكنت أتوهم أنه سيكذبه، أو يرد عليه.. لكني فوجئت أنه يقول لهم: اعذروني أنا أيضا.. أنا الذي كنت

القرآن.. كلمة الله (57)

أسخر دوما مما ورد في القرآن عن إبراهيم ووعود الله له بأن يجعل في ذريته من يحفظ الدين إلى قيام الساعة.

لقد كنت أقول لكل من يسألني عنها: حتى لو قبلناها.. فإن معناها ليس مرتبطا بذرية إسماعيل، بل هو مرتبط بذرية إسحاق.. أقول ذلك جازما، وكأن الله سيد عشيرة، لا رب العالمين.

لقد كنت ـ من حيث لا أشعر ـ ككثير من المسيحيين غيري أحمل نفس العنصرية والعصبية الإسرائيلية التي تجعل النبوة حكرا على عرق دون عرق، أو شعب دون شعب.

لكني رأيت ـ من خلال قراءتي الصادقة للقرآن ـ أن الله أعظم من أن يخص شعبا بالهداية دون غيره.. لقد قرأت فيه أن رسل الله أكثر من أن يُحصروا في هذه الأراضي المباركة التي نعيش فيها.

لقد سمعته وهو يقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [غافر: 78]، وسمعته يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24]

إن هذه الآيات وأمثالها هي التي أخرجتني من غفلتي.. فأنا كنت أتوهم أن هداية الله لعباده قاصرة على بني إسرائيل، وعلى هذه الأرض، مع أن عنايته بهم شاملة للجميع.. فكيف تكون عنايته شاملة، ثم تكون هدايته قاصرة؟.. وهل الهداية سوى فرع من فروع العناية؟.. وهل يمكن اعتبار الله رحيما ولطيفا بعباده، وهو يحصر الهداية في أعراق خاصة، وأقوام خاصين؟

لقد قرأت في القرآن هذه الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ

القرآن.. كلمة الله (58)

فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [إبراهيم: 4]، وعرفت من خلالها أن الله الكريم جعل لكل لسان وعرق من يهديهم سواء السبيل.. وعندما عدت لكتابنا المقدس، وجدته يذكر هذا.. فكل أنبياء بني إسرائيل يذكرون أنهم أرسلوا فقط لبني إسرائيل.. حتى المسيح يروي عنه متى قوله: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) [متى 15/ 24]

لقد كان هذا العلم الذي استفدته من القرآن هو الذي جعلني أفهم جيدا تلك النبوءات التي نطق بها الأنبياء.. وأولهم إبراهيم.. فقد وردت فيه هذه البشارات المرتبطة بوضع البركة في أبنائه: (نادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء، وقال: بذاتي أقسمت، يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً، كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه) [التكوين 22/ 1 ـ 17].

وورد فيه أن الله استجاب لإبراهيم وبشره بالبركة في ابنه إسماعيل، وفي ابن آخر يهبه الله له، وهو إسحاق، ففيه: (وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً، وملوك شعوب منها يكونون.. وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده.. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة) [التكوين 17/ 16 ـ 20]

وهذا نفسه ما ورد ذكره في القرآن، ولكن بصيغة أكثر جمالا وعدالة، ففيه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]

فهذه الآية تربط عهد الله وبركاته لذرية إبراهيم باستمرارهم على نهج أبيهم، وعدم

القرآن.. كلمة الله (59)

تبديلهم وتغييرهم.. وإلا فإن العهد سيرفع عنهم..

وهكذا يربط القرآن بين البركة والعهد والصلاح.. ففيه هذه الآيات عن إبراهيم وذريته: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 109 ـ 113]

ألا ترون الفرق الكبير بين موقف قومنا واليهود من إسحق مقارنة بموقف القرآن منه.. فنحن في سبيل رفع إسحق، نزلنا بإسماعيل، واعتبرناه ابن جارية، ولم نره ولا ولده أهلا لأن يظهر فيهم أي مخلص.. بينما القرآن يمجد إسحق كما يمجد إسماعيل، ويعتبر فضل الله مرتبط بهما، وبذريتهما.. بشرط الصلاح لا الإفساد.. فكل من أفسد حُرم من ذلك الفضل.

سكت قليلا، ثم قال: ألم تقرؤوا ما ورد في الكتاب المقدس من انحراف بني إسرائيل عن العهد الذي أوصاهم الله به؟

قام بعضهم، وقال: أجل.. لقد قرأت فيه قول موسى عنهم: (إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم، لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم) [التثنية 32/ 28].. وقال: (جيل أعوج ملتو، ألرب تكافئون بهذا يا شعباً غبياً غير حكيم؟) [التثنية 32/ 5 ـ 6]

قال آخر: وقرأت قول إيليا: (قد غِرت غيرة للرب إله الجنود، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها) [الملوك [1] 19/ 10]

قال آخر: وقرأت قول حزقيال: (وقال لي: يا ابن آدم، أنا مرسلك إلى بني إسرائيل، إلى أمة متمردة قد تمردت عليّ، هم وآباؤهم عصوا عليّ إلى ذات هذا اليوم. والبنون القساة

القرآن.. كلمة الله (60)

الوجوه، والصلاب القلوب، أنا مرسلك إليهم، فتقول لهم: هكذا قال السيد الرب، وهم إن سمعوا وإن امتنعوا. لأنهم بيت متمرد. فإنهم يعلمون أن نبياً كان بينهم، أما أنت يا ابن آدم فلا تخف منهم، ومن كلامهم لا تخف.. وأنت ساكن بين العقارب، من كلامهم لا تخف، ومن وجوههم لا ترتعب، لأنهم بيت متمرد، وتتكلم معهم بكلامي، إن سمعوا، وإن امتنعوا، لأنهم متمردون) [حزقيال 2/ 3 ـ 8]

قال آخر: وقرأت قول إشعيا: (اسمعي أيتها السماوات وأصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلم، ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ، الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم، ويل للأمّة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين، تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء، على أي موضع تضربون بعد. تزدادون زيغاناً، كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس، ليس فيه صحة، بل جرح وإحباط، وضربة طرية لم تعصر، ولم تعصب، ولم تلين بالزيت) [إشعيا 1/ 1 ـ 6]

قال آخر: وقرأت قول ملاخي: (والآن إليكم هذه الوصية أيها الكهنة، إن كنتم لا تسمعون ولا تجعلون في القلب لتعطوا مجداً لاسمي، قال رب الجنود: فإني أرسل عليكم اللعن، وألعن بركاتكم، بل قد لعنتها، لأنكم لستم جاعلين في القلب، ها أنا ذا أنتهر لكم الزرع وأمدّ الفرث على وجوهكم) [ملاخي 2/ 1 ـ 3]

قال آخر: وقرأت قول المسيح، وهو ينادي أورشليم: (يا قاتلة الأنبياء) [متى 13/ 37]، ويقول لهم: (ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون.. ويل لكم أيها القادة العميان.. أيها الجهال والعميان.. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم، لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم..

القرآن.. كلمة الله (61)

يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين) [متى 23/ 13 ـ 37]

بعد أن تحدث هؤلاء وغيرهم.. قال الرجل: بورك فيكم.. هذا نفسه ما ورد في القرآن؛ فهو يتحدث عن تبديل بني إسرائيل وتغييرهم، وسنة الله تأبى أن يستمر الفضل فيمن لم يعرف قدره.. لقد ورد في القرآن: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: 39]، وفيه: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]

ومع هذه الآيات ورد في القرآن ما يشير إلى الخصوصيات التي أعطيت لبني إسرائيل لكنهم لم يراعوها.. ففيه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47].. وفيه: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 211]

والقرآن يذكر أن اللعنة والحرمان الذي حصل لهم كان بسبب مواقفهم من عهد الله، ونقضهم له.. ففيه: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 78 ـ 81]

وغيرها من الآيات التي عرفت من خلالها أن بركة إبراهيم التي وعده الله بها.. لم تستمر في نسل إسحاق ويعقوب.. وإنما انتقلت إلى نسل إسماعيل.

لقد وجدت في الكتاب المقدس ما قد يدل على ذلك.. لأنه يذكر أن البركة مرتبطة

القرآن.. كلمة الله (62)

بالوفاء بالعهد.. لقد وجدت فيه هذه البشارة المرتبطة بإبراهيم: (تتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أن إبراهيم سمع لقولي، وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي وشرائعي) [التكوين 26/ 4].. وفيه: (سر أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي..) [التكوين 17/ 1 ـ 2].. وفيه: (إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض، لأني عرفته، لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب، ليعملوا براً وعدلاً، لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به) [التكوين 18/ 18 ـ 19].. وفيه قول الله لإبراهيم: (ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولي) [التكوين 22/ 18]

وهكذا وجدت أن البركة المرتبطة بأبناء لاوي كانت مشروطة بالوفاء بالعهود.. ففي الكتاب المقدس: (إني أرسلت إليكم هذه الوصية، لكون عهدي مع لاوي قال رب الجنود، كان عهدي معه للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى، فاتقاني، ومن اسمي ارتاع هو، شريعة الحق كانت في فيه، وإثم لم يوجد في شفتيه، سلك معي في السلام والاستقامة، وأرجع كثيرين عن الإثم) [ملاخي 2/ 4 ـ 7]

بل إن موسى نص على ذلك في وصيته.. ففي الكتاب المقدس: (انظر.. أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة، البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم، واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم، لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها) [التثنية 11/ 26 ـ 28].. وفيه: (فاحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها، ومن أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظون وتعملونها، يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان اللذين أقسم لآبائك، ويحبك ويباركك ويكثرك، ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك) [التثنية 7/ 11 ـ 13]

وفي ملاخي: (والآن إليكم هذه الوصية أيها الكهنة، إن كنتم لا تسمعون ولا تجعلون

القرآن.. كلمة الله (63)

في القلب لتعطوا مجداً لاسمي، قال رب الجنود: فإني أرسل عليكم اللعن، وألعن بركاتكم، بل قد لعنتها لأنكم لستم جاعلين في القلب، ها أنا ذا أنتهر لكم الزرع، وأمدّ الفرث على وجوهكم) [ملاخي 2/ 1 ـ 3]

قام بعض الحضور، وقال: لكن الكتاب المقدس خص البركة والعهد ببني إسحق، ففيه: (لكن عهدي أقيمه مع إسحاق، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت، في السنة الآتية) [التكوين 17/ 21]

قال الرجل: ذلك صحيح.. والقرآن يقرّ به.. ففيه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ [الجاثية: 16 ـ 17]

لكنه في نفس الوقت يذكر أنهم لم يحافظوا على العهد.. لقد ورد فيه عقب تلك الآيات: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الجاثية: 16 ـ 17]

سكت قليلا، ثم قال: لتفهموا كلامي جيدا سأضرب لكم مثالا بسيطا من واقع حياتكم.. تصوروا أن لبعضكم مزرعة أو معملا أو حتى محل البقالة.. وله ولدان.. وبما أنه لا يمكن أن يدير تلك الشؤون شخصان، فقد أوكل لأحدهما مهمة الإدارة، وأخبره أنها باقية له أبدا ما دام يؤدي دوره كما يجب.. لكنه بعد فترة يكتشف أن ابنه لم يدر ما كُلف به جيدا.. بل أساء وأفسد.. ألا ترون من العدل والحكمة أن يوكل ابنه الثاني بذلك.. أم أن الحرمان مرتبط به أبدا، ولغير شيء؟

سكت الجميع، فقال: للأسف قومنا اتبعوا بني إسرائيل في دعاواهم؛ فحصروا النبوة والخلاص في بني إسحق، وألغو غيرهم إلغاء تاما.. وهو خلاف ما يدل عليه العقل.. بل خلاف ما يدل عليه الكتاب المقدس نفسه.

القرآن.. كلمة الله (64)

اسمعوا لهذه البشارة في الكتاب المقدس عن هاجر وابنها إسماعيل، ففيه أنها (مضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار.. ونادى ملاك الله هاجر.. قومي احملي الغلام، وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء.. وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر) [التكوين 21/ 17 ـ 21]

قام بعض الحاضرين، وقال: ربما نصدقك في كل هذا.. لكن ألا ترى الكتاب المقدس ينص على أن البركة في إسحق أبدية.. ففيه: (فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً، وتدعو اسمه إسحاق.. وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً، لنسله من بعده.. ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية) [التكوين 17/ 19 ـ 21]

قال الرجل: لقد بحثت في الكتاب المقدس عن كلمة (الأبد)؛ فوجدت أنها لا تعني الأبد الذي نعرفه، بل تعني طول الفترة.. ففي سفر الملوك: (فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد) [الملوك [2] 5/ 27]، فالأبدية هنا غير مقصودة، وإلا لزم أن نرى ذريته اليوم أمة كبيرة تتوالد مصابة بالبرص.. وفي سفر الأيام (وقال لي: إن سليمان ابنك، هو يبني بيتي ودياري، لأني اخترته لي ابناً، وأنا أكون له أباً، وأثبت مملكته إلى الأبد) [الأيام [1] 28/ 6]، مع أن مملكتهم زالت منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة على يد بختنصر البابلي.

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط ما ورد في بشارات إبراهيم.. لقد ورد في الكتاب المقدس ذكر للمحل الذي كان فيه إسماعيل.. وهو ما عبر عنه بقوله: (مضت وتاهت في برية بئر سبع.. وكان الله مع الغلام فكبر.. وسكن في برية فاران) [التكوين 21/ 17 ـ 21]

إن هذا النص يذكر أن إسماعيل سكن ببرية فاران.. وطبعا لن أتحدث لكم عن مكان

القرآن.. كلمة الله (65)

فاران، وموقعها.. فأنا لست جغرافيّا.. ولا تهمني الجغرافيا.. ولكني اهتم فقط للبشارات.. لقد قرأت في الكتاب المقدس أن هناك نبوءة ستظهر فيها.. ففي سفر التثنية: (هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة، فأحب الشعب، جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك) [التثنية 33/ 1 ـ 3]

سكت قليلا، ثم قال: هذه شهادتي أدليها بين أيديكم.. وأنا أعتذر لكم ـ كما اعتذر لكم صاحبي ـ عن كل الأكاذيب التي ضللتكم بها.. والتي كنت ألتمس لها ألف عذر وعذر.. لكن حديث صاحبي وجرأته جعلتني أذكر هذا بين أيديكم، وأنتم أحرار في أن تقبلوا مني أو ترفضوا.. فالدنيا أضيق من أن نلتفت فيها لمن يقبل أو يرفض.

ج ـ بشارة يعقوب

ما انتهى الرجل من حديثه، حتى قام آخر، وقال: اسمحوا لي أنا أيضا أن أدلي بشهادتي، كما أدلى أخواي بها.. لقد كنت مثلهما لا أؤمن إلا بالكتاب المقدس، وأعتقد أن الله لم يكلم عباده إلا من خلاله.. لكني عندما قرأت القرآن تغيرت كل نظرتي للدين والكتب المقدسة.. بل لله نفسه.

وأصدقكم القول أني عندما قرأته لم يكن قصدي سوى ما سمعت من بلاغته وجمال أسلوبه.. لقد دفعني إلى قراءته نفس الدوافع التي دفعتني لقراءة كتب الجاحظ وابن المقفع وأبي العلاء.. وغيرهم من الأدباء..

لقد كنت أتصور أن محمدا في أحسن أحواله أديب من الأدباء الكبار.. لكني بعد أن قرأت القرآن وجدت الأمر مختلفا تماما.. فالقرآن ليس أسلوبا جميلا فقط.. بل هو قاموس

القرآن.. كلمة الله (66)

وموسوعة للحياة جميعا.. بكل معانيها الجميلة.

لن أطيل عليكم.. ولعلكم ستستغربون من الآيات التي شدت انتباهي.. إنها الآيات التي تمجد النبي يعقوب، وتثني عليه.. مع أنه لو كان محمد يحمل عنصريتنا وعنصرية اليهود، لوقف موقفا سلبيا من يعقوب مثلما وقفنا موقفا سلبيا من إسماعيل.. لكنه لم يفعل.. مع أنه كان في إمكانه ـ لو كان كاذبا ـ أن يجد في التوراة ما يدعم موقفه.

اسمعوا لهذه الآيات التي يتحدث بها القرآن عن يعقوب وغيره من الأنبياء باعتبارهم أصحاب هدف واحد، لا في حلبة معاصرة، كل شخص منهم يريد أن يقتنص البركة والعهد، ويحتفظ به لنفسه..

اسمعوا لهذه الآية التي يدعو فيها القرآن إلى عدم التفريق بين الأنبياء: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 84]

واسمعوا لهذه الآية التي تدعو إلى تقبل نبوة محمد مثلما تقبل نبوة سائر الأنبياء: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163]

واسمعوا هذا الثناء العطر على يعقوب: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45].. ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: 27]

واسمعوا لهذا التصحيح لحقيقة دين يعقوب وسائر الأنبياء، وأنه التسليم والاستسلام لله، لا تلك الطائفية المقيتة التي اختارها قومنا: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ

القرآن.. كلمة الله (67)

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 140]

لقد رفعت عني كل هذه الآيات تلك الغشاوة التي وضعتها على عيني جراء تأثري بالعنصرية اليهودية، والتي لا تفرق بين الأنبياء فقط، بل تفرق بين البشر أيضا.. بل تعتبر الله عنصريا وعرقيا حين يهتم بشعب دون شعب، وعرق دون عرق.

لكن الذي جعلني أراجع نفسي أكثر، وأعود للكتاب المقدس، لأبحث فيه بشكل أعمق هو هذه الآية: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133]

لقد ذكرتني هذه الآية بنبوءة ليعقوب.. لا يقرؤها صادق وباحث إلا وعلم المقصود منها.. إنها تلك التي ورد النص عليها في الكتاب المقدس.. تلك التي يوصي فيها يعقوب بنيه قبل وفاته، والتي قال لهم فيها: (اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام، اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب، وأصغوا إلى إسرائيل أبيكم.. لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب) [التكوين 49/ 10]

وفي نسخة أخرى من الكتاب المقدس: (لا يزول الصولجان من يهوذا، ولا عصا القيادة من بين قدميه؛ إلا أن يأتي صاحبها وتطيعه الشعوب).. في نسخة أخرى: (لا يتوقف الملوك والحكام من عائلة يهوذا، ولا يتوقف معلمو الشريعة من نسله حتى يجيء الملك المسيا أصغر أبنائه) (1)

فهذه النبوءة تتحدث عن شخص تدعوه [شيلون].. ولا يمكن القول بأن شيلون

__________

(1) برهان يتطلب قراراً، جوش مكدويل، ص (175)

القرآن.. كلمة الله (68)

هو موسى، لأن ملوك يهوذا كانوا بعده بقرون، ولا يمكن القول بأنه سليمان، لأن الملك دام بعده في ذريته ولم ترفع به الشريعة، كما لم ترفع بالمسيح الذي ما جاء لنقض الناموس ولم تخضع له شعوب، بل ولا شعب اليهودية الذين بعث إليهم.. بالإضافة إلى أن المسيح لم يملك على بني إسرائيل يوماً واحداً، بل هرب منهم لما أرادوا تمليكه عليهم، ففي الكتاب المقدس: (لما علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده) [يوحنا 6/ 15].. وكان يقول: (مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود) [يوحنا 18/ 36]

بالإضافة إلى كل ذلك لا يمكن أن يكون هذا المتنبأ به من بني إسرائيل، لأن النبوءة تنص على أن مبعثه يقطع صولجان وشريعة إسرائيل..

لقد جعلني كل هذا أبحث عن المعنى الدقيق لكلمة (شيلون).. ووجدت أثناء بحثي خبيرا جيدا في اللغات القديمة.. كان هو الآخر قسا.. لعلكم تعرفونه إنه [دِيفِيد بِنْجَامِينْ]، ذاك الذي أسلم واختار أن يكون اسمه [عبد الأحد داود].. لقد ذكر لي أن كلمة [شيلون] لها معان متعددة (1).. وأن أقربها أن تكون محرفة من كلمة (شيلواح) ومعناها: (رسول الله).. ونفس هذا الرأي مال إليه القديس جيروم، فترجم العبارة (ذلك الذي أرسل) (2)

طبعا.. أنا لم أقتنع في البدء بكلمات ديفيد ولا بكلام القديس جيروم.. لكني عندما رحت أتأمل النبوءة، وأطبقها على ما ورد في الكتاب المقدس.. وجدت أنها لا تنطبق إلا على محمد..

__________

(1) ذكرنا معانيها المتعددة بتفصيل في كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد.

(2) انظر: محمد في الكتاب المقدس، عبد الأحد داود، ص (77، 85، 182)، وقاموس الكتاب المقدس، ص (536)

القرآن.. كلمة الله (69)

فصفات المرسل أو الشيلون المتحدث عنه هي نفسها الصفات التي وردت في النبوءات الأخرى.. فهو نفسه الذي بُشرت به هاجر وإبراهيم (يده على كل واحد) [التكوين 16/ 12].. وهو نفسه الذي قال عنه حزقيال: (يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه) [حزقيال 21/ 27].. وهو نفسه الذي قال عنه المسيح مبشراً بالذي ينسخ الشرائع بشريعته: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) [متى 5/ 17 ـ 18].. وهذا (الذي له الكل)، هو (الذي له الحكم)

بل إني وجدت أن هذا الشيلون هو نفسه الذي يسميه بولس بالكامل، ومجيئه فقط يبطل الشريعة وينسخها، فقد قال: (وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل، لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض) [كورنثوس [1] 13/ 8 ـ 10]

د ـ بشارة موسى

ما انتهى الرجل من حديثه، حتى قام آخر، وقال: اسمحوا لي أنا أيضا أن أدلي بشهادتي، كما أدلى إخواني بها.. ولئن كان إخواني حدثوكم عن شهاداتهم حول المسيح وإبراهيم ويعقوب.. فإني سأحدثكم عن شهادتي حول موسى.. لأنه كان البوابة التي رفعت بها الغشاوة عن عيني لأرى من الحقائق ما كان يغطيه الجهل والكبر.

وبداية فتح هذه البوابة كانت يوم كُلفت من الجامعة التي أعمل فيها بالقيام ببحث أكاديمي مفصل عن النبي موسى في المصادر التاريخية.. وقد اضطررت حينها إلى الرجوع للقرآن.. لا باعتباره وحيا إلهيا، وإنما باعتباره من المصادر التي ذكرت موسى وأرّخت له..

وفي البداية كنت أظن أن القرآن ـ كما قيل لنا ـ أخذ نفس المعلومات الموجودة في

القرآن.. كلمة الله (70)

الكتاب المقدس، وصور بها النبي موسى.. لكني وجدت الأمر مختلفا تماما.. ووجدت موسى القرآني أعظم وأشرف بكثير من موسى التوراتي..

طبعا لن أحدثكم عن هذا الآن.. لأنه سيحتاج وقتا طويلا (1).. وهو ربما لن يفيدكم كثيرا بقدر ما تفيدكم البشارة التي اكتشفتها، كما اكتشفها الكثير قبلي.. والتي رأيت أنه لا يمكن أن تنطبق إلا على محمد.

لقد قرأت في الكتاب المقدس أن النبي موسى عندما نزل عن جبل الطور بعد ما كلمه ربه، قال مخاطباً بني إسرائيل: (قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى، فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي.. وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه) [التثنية 18/ 17 ـ 22]

لقد لاحظت ـ كما تلاحظون أيضا ـ أن هذه النبوءة تتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى، وتذكر صفات هذا النبي.. ومن خلال دراستي العلمية الموضوعية لها اكتشفت نفس ما اكتشفه زملائي.

قام بعض الحضور، وقال: لكنكم ذكرتم لنا أن هذا المبشر به هو المسيح.. وقد نقلتم لنا قول بطرس عند حديثه عن المسيح: (فإن موسى قال للآباء: إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به، ويكون أن كل نفس لا تسمع

__________

(1) شرحنا هذا بتفصيل في كتاب: القرآن وأنبياء الله.. من هذه السلسلة.

القرآن.. كلمة الله (71)

لذلك النبي تباد من الشعب، وجميع الأنبياء أيضاً من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام) [أعمال 3/ 22 ـ 26]

قال الرجل: مع احترامنا لبطرس إلا أننا لو حللنا النبوءة جيدا وعلى مشرحة البحث الموضوعي البعيد عن كل ذاتية، سنجد أنها لا تنطبق أبدا على المسيح مع تعظيمنا للمسيح وتقديرنا له.. فعدم انطباقها عليه لا يغض من شأنه وقدره.

تأملوا جيدا في هذه العبارة الواردة في النبوءة (أقيم لهم نبياً).. مع أننا لا نقول بنبوة المسيح، بل نحن ندعي دعاوى أخرى كما تعرفون.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن البشارة تدل على أن المتنبأ به ليس من بني إسرائيل، بل هو من بين إخوتهم، أي أبناء عمومتهم (من وسط إخوتهم)، وعمومة بني إسرائيل هم بنو عيسو بن إسحاق، وبنو إسماعيل بن إبراهيم.

قام بعض الحضور، وقال: كيف ذلك.. الإخوة يختلفون عن بني العمومة؟

قال الرجل: ذلك في كلامنا العادي.. لكن عندما نعود للتوراة نجدها تطلق لفظ (الأخ) على ابن العم.. ففيها مثلا قول موسى لبني إسرائيل: (أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو) [التثنية 2/ 4]، وعيسو هو ابن إسحاق.. أي أنهم أبناء عمومة لبني إسرائيل.

ومثله وصف أدوم، وهو من ذرية عيسو، ففي التوراة: (وأرسل موسى رسلاً من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل: قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا) [العدد 20/ 14]، وفيها: (لا تكره أدومياً لأنه أخوك) [التثنية 23/ 7].. فسماه أخاً، وأراد أنه من أبناء عمومة إسرائيل.

ونفس الأمر نجده في سفر الأيام، ففيه اعتبر الملك صدقيا أخاً للملك يهوياكين، ففيه: (أرسل الملك نبوخذ ناصّر فأتى به (أي الملك يهوياكين) إلى بابل مع آنية بيت الرب

القرآن.. كلمة الله (72)

الثمينة، وملك صدقيا أخاه على يهوذا وأورشليم) [الأيام [2] 36/ 10]، مع أنه في الحقيقة عمه، كما ورد ذلك في سفر الملوك، ففيه: (ملّك ملك بابل متّنيا عمه عوضاً عنه، وغيّر اسمه إلى صدقيا) [الملوك [2] 24/ 17 ـ 18]، فاستخدم لفظ الأخ، ومراده العم.

قام بعض الحضور، وقال: لا بأس.. ولكن ما المانع في أن يكون المتنبأ به من بني عيسو بكر إسحاق، وليس من نسل إسماعيل.

قال الرجل: يمنع من ذلك سببان، أولهما أنه لم يدع أحد من بني عيسو أنه النبي المنتظر.. وثانيا لأن البركة خص بها إسماعيل وإسحق.. كما عرفتم من أحاديث زملائي.

سكت قليلا، ثم قال: لقد وجدت النبوءة تذكر أمرا مهما جدا.. لعله وحده من ييسر التعرف على المقصود منها.. فمن خصائص هذا النبي ـ كما تذكر النبوءة ـ أنه مثل لموسى الذي لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله، كما في سفر التثنية: (ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه) [التثنية: 34/ 10]، وفي النسخة السامرية من التوراة: (ولا يقوم أيضاً نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله) [التثنية 34/ 10]

وعندما نبحث فيمن تتحقق فيه المثلية لموسى نجدها لا تنطبق على أحد كما تنطبق على محمد؛ فهو الوحيد الذي ادعى النبوة، وتوفرت فيه الصفات التي وردت في النبوءة.. فميلادهما الطبيعي واحد، ومثل ذلك زواجهما، وكونهما صاحبا شريعة، وكل منهما بعث بالسيف على عدوه، وكلاهما قاد أمته، وملك عليها..

بالإضافة إلى ذلك ورد في النبوءة أن هذا النبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، والوحي الذي يأتيه وحي شفاهي، يغاير ما جاء الأنبياء قبله من صحف مكتوبة، ففي النبوءة: (وأجعل كلامي في فمه)، بينما كان المسيح ـ كما تعرفون ـ قارئاً كما في (لوقا 4/ 16 ـ 18)

بالإضافة إلى ذلك ورد في النبوءة أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، ففيها: (يكلمهم

القرآن.. كلمة الله (73)

بكل ما أوصيه به) وهو وصف منطبق تماما على محمد، ففي القرآن نجد هذه الآية التي تخبر عن إكمال دينه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].. وهي بذلك تنطبق على ما ذكره صاحبنا عن نبوءة المسيح التي يقول فيها: (وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم) [يوحنا 14/ 26]

وهذا النص في الوصية وحده كاف لإخراج المسيح من النبوءة.. ذلك أن المسيح ـ كما ورد في الكتاب المقدس ـ لم يتح له أن يبلغ كل ما جاء به.. ولذلك بشر بالقادم الذي يفعل ذلك.. لقد روى يوحنا عن المسيح قوله: (إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به) [يوحنا 16/ 12 ـ 13]

بالإضافة إلى كل هذا فقد ورد في صفات هذا النبي أنه لا يقتل، أي أنه سيبقى حيا حتى يتم كل ما جاء به.. وقد وجدت نظير هذا في القرآن، ففيه هذه الآية التي يوعد فيها محمد بأن يحفظ من الناس حتى يتمكن من البلاغ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67]

ووجدت هذه الآية التي تدعوه إلى الصدع بما أُمر به، وأنه سيكفى أمر المستهزئين: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 94 ـ 96]

بالإضافة إلى كل ذلك وجدت في الكتاب المقدس أن بني إسرائيل كانوا يسألون كل نبي عن كونه ذاك الموعود أم لا.. ففي الكتاب المقدس أنهم سألوا يوحنا: (النبي أنت؟

القرآن.. كلمة الله (74)

فأجابهم: لا) [يوحنا 1/ 21].. وفي الإنجيل أن تلاميذ المسيح (قالوا: إن هذا بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم.. وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده) [يوحنا 6/ 14 ـ 15]، وهذا النص يدل على أن تلاميذ المسيح أرادوا تنصيبه ملكاً ليحققوا النبوءة، لكن المسيح رفض ذلك، لأنه ليس النبي الموعود.

بالإضافة إلى تلك النبوءة وجدت نبوءة أخرى ذكرها بعض زملائي.. وهي أن النبي موسى قبل وفاته قال لبني إسرائيل: (هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة، فأحب الشعب، جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك) [التثنية 33/ 1 ـ 3]

وقد رأيت نفس النبوءة يصرح بها النبي حبقوق، حيث ذكر فيها ما يشير إلى انتقال النبوة بعيداً عن بني إسرائيل، ففي الكتاب المقدس أنه قال: (يا رب قد سمعت خبرك، فجزعت، يا رب عملك في وسط السنين أحْيِه، في وسط السنين عرّف، في الغضب اذكر الرحمة، الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم..) [حبقوق 3/ 3 ـ 6]

فهذه النصوص واضحة في كون الوحي الإلهي تنزل في ثلاثة أماكن تخرج منها البركة، أولها: جبل سيناء حيث كلم الله موسى.. وثانيها: ساعير، وهو جبل يقع في أرض يهوذا.. وثالثها: هو جبل فاران.. والتوراة تذكر أن إسماعيل قد نشأ في برية فاران.. ومن المعلوم تاريخياً أنه نشأ في الحجاز.. تقول التوراة عن إسماعيل: (كان الله مع الغلام فكبر،

القرآن.. كلمة الله (75)

وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر) [التكوين 21/ 20 ـ 21].. وفيها: (هؤلاء هم بنو إسماعيل.. وسكنوا من حويلة إلى شور) [التكوين 25/ 16 ـ 18]، وحويلة كما جاء في قاموس الكتاب المقدس منطقة في شمال أرض اليمن، بينما شور في جنوب فلسطين (1).

قام بعض الحضور، وقال: لكن الذي نعلمه هو أن فاران تقع جنوب سيناء..

قال الرجل: ذلك صحيح.. وهو لا يمنع من وجود فاران أخرى؛ فقد ورد مثلاً إطلاق اسم سعير على المنطقة التي تقع في أرض أدوم والتي هي حالياً في الأردن.. ومع ذلك نجد أن نفس الاسم ينطبق على جبل في وسط فلسطين غربي القدس في أرض سبط يهوذا كما في (يشوع 15/ 10)

بالإضافة إلى هذا؛ فإن الواقع خير ما يدل على النبوءة.. نحن نعلم جميعا أن هناك نبوءة ظهرت في فاران الحجاز.. وهي نبوة محمد.. لكن أين هي تلك النبوة التي ظهرت في فاران سيناء؟.. وأين هو القدوس الذي تلألأ من ذلك الجبل الذي لا يرتبط بأي حدث تاريخي مهم؟

هـ ـ بشارة داود

ما انتهى الرجل من حديثه، حتى قام آخر، وقال: اسمحوا لي أن أدلي بشهادتي مثلما فعل إخواني وزملائي.. ولئن كانوا قد حدثوكم عن شهاداتهم حول المسيح وإبراهيم ويعقوب وموسى.. فإني سأحدثكم عن شهادتي حول داود.. لأنه كان البوابة التي عرفت بها حقائق كثيرة كنت أجهلها، أو كنت أحاول تجاهلها.

لا أخفي عليكم أني قبل أن يتاح لي أن أقرأ القرآن كنت أحمل صورة مشوهة جدا

__________

(1) انظر: قاموس الكتاب المقدس، ص (329)

القرآن.. كلمة الله (76)

عن النبي داود.. والذي كنت أعتبره ملكا يمثل المجد الإسرائيلي.. لا نبيا يمثل التقوى والصلاح وكل القيم النبيلة.

لا شك أنكم تعرفون ما ورد في الكتاب المقدس من قصة داود مع أوريا.. ولا شك أنكم قرأتم ما ورد فيه من كلام الرب له، حيث يذكر الكتاب المقدس أن الله قال له: (لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه.. قد قتلت أوريا الحثّي بالسيف وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون.. والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتني، وأخذت امرأة اوريا الحثّي لتكون لك امرأة، هكذا قال الرب هاأنذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس) [صموئيل الثاني 12/ 9]

لكن القرآن يذكر صورة مختلفة تماما.. اسمعوا لهذه الآية الواردة في حق داود: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].. هذا أول موضع في المصحف ذكر فيه داوود.. وقد ذكر معه هذا الوصف الطيب الملك والحكمة والعلم.. وفوق ذلك الثبات.. فلم يثبت مع طالوت إلا القليل.

واسمعوا هذه الآية: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً﴾ [الاسراء:55].. انظروا كيف ذكر الله داود عند ذكر ما فضل الله به أنبياءه.

واسمعوا هذه الآية: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ

القرآن.. كلمة الله (77)

شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء:78 ـ 80].. انظروا الفضل العظيم الذي وهبه الله لداود وابنه سليمان.

واسمعوا هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل:15].. انظروا الشكر الذي امتلأ به قلب داود وابنه.

واسمعوا هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ:11].. انظرو عناية الله بعبده وتعلميه له.

واسمعوا هذه الآية: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: 17 ـ 20].. وانظروا لكل هذه الأوصاف النبيلة التي وصف بها هذا النبي الكريم.

قام بعض الحضور، وقال: إن القرآن يصرح بما في كتبنا.. ألم ترجع إلى كتب المفسرين؟

قال: لا.. كتب المفسرين ليست قرآنا.. كما أن شروح الكتاب المقدس ليست كتبا مقدسة.. ثم إن الأساطير التي سربها قومنا إلى كتب المسلمين هي التي ملأتها بذلك اللغو.. أما القرآن فهو لا يذكر إلا الكمال والجمال والطهارة.

سكت قليلا، ثم قال: لم يكن كل ذلك ما جذبني إلى القرآن.. بل الذي جذبني ما ورد في الكتاب المقدس نفسه.. وكأن داود الكتاب المقدس قد دعاني إلى العودة إلى القرآن للتعرف عليه وصرف تلك الصورة السيئة عنه.. تلك الصورة التي وضعها الكتبة الكذبة.

لقد قرأت بعض النبوءات الواردة عنه، ورحت أبحث في حقيقتها بعد أن ألقيت عني كل أثواب الذاتية والعاطفة المجرد، وارتديت كل أثواب الموضوعية والعلمية

القرآن.. كلمة الله (78)

والعقلانية.

لقد كانت أول نبوءة أصادفها قوله في وصف ذلك الموعود، مخاطباً إياه باسم الملك: (فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر: أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد.. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم.. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نُبُلُك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون.. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك.. أحببت البر وأبغضت الإثم.. من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك.. عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض، أذكر اسمك في كل دور فدور.. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد) [المزمور 45/ 1 ـ 17]

أنتم تعلمون أن الجميع يقرّ بأن هذه نبوءة، وليست مجرد كلام عادي.. ولذلك نراهم يحاولون تطبيق هذه النبوءة على من يرغبون..

لقد رأيت في هذه النبوءة مجموعة أوصاف لا يمكن أن تنطبق إلا على محمد.. منها أن النبوة وكلامها يخرج من شفتيه (انسكبت النعمة على شفتيك)، وقد كان محمد أمياً، ووحيه غير مكتوب، فيما كانت لإبراهيم وموسى صحفاً، كما كان عيسى قارئاً، كما في (لوقا 4/ 16).. وتؤكد هذه النبوءات نبوءات أخرى وردت عن أنبياء آخرين.. ففي سفر التثنية (أجعل كلامي في فمه) [التثنية 18/ 18]، وفي إشعيا (أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، فيقال له: اقرأ، فيقول: لا أعرف الكتابة) [إشعيا 29/ 12].. وفي غير الترجمة العربية المتداولة (لا أعرف القراءة)، وهي تماثل تماما ما روي عن محمد أنه قال في غار حراء: (ما أنا بقارئ)

ومن تلك الأوصاف كونه مباركا إلى الأبد، وصاحب رسالة خالدة (باركك الله إلى

القرآن.. كلمة الله (79)

الأبد.. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور).. وهذا ينطبق تماما على رسالة محمد التي لم تزدها الأيام إلا قوة وانتشارا.

ومن تلك الأوصاف كونه صاحب سيف يقهر به أعداءه لإقامة الحق والعدل (تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار.. بجلالك اقتحم. من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف. نُبُلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون).. وهو لا ينطبق على مدع للنبوة غير محمد.. فالمسيح لم يحمل سيفاً ولا أسقط أعداءه، ولا صوب نبله في قلوب أعدائه، كما لم يكن ملكاً في قومه ولا حاكما عليهم.

ومن تلك الأوصاف كونه محبا للخير، مبغضا للاثم، وهي أوصاف تنطبق على جميع الأنبياء إلا أنها أكثر انطباقا عليه، كما تقول النبوءة: (مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك)

ومن تلك الأوصاف أنه يكتب له الذكر الحميد سائر الدهر (أذكر اسمك دور فدور، من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد)

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط ما بشر به داود.. ففي المزامير نجد هذه النبوءة المتعلقة بالموعود المنتظر: (قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبك، فتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة.. أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.. الرب عن يمينك، يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها..) [المزمور 110/ 1 ـ 6]

قام بعض الحضور، وقال: لقد كنا نسمع منكم أن هذه النبوءة خاصة بالمسيح القادم الذي هو من ذرية داود من اليهود.

القرآن.. كلمة الله (80)

قال الرجل: لقد نص الكتاب المقدس على بطلان هذا.. وعلى لسان المسيح نفسه.. ففي إنجيل متى: (كان الفريسيون مجتمعين، سألهم يسوع: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود.. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيب بكلمة) [متى 22/ 41 ـ 46].. وفي مرقس (فداود نفسه يدعوه رباً.. فمن أين هو ابنه) [مرقس 12/ 37]

بالإضافة إلى أن لقب المسيح ليس خاصا بالمسيح.. بل هو متعلق بمن يملك ويسحق أعداءه، ولهذا تنكر المسيح لمن سماه بذلك في مواطن عديدة، منها أنه قال لبيلاطس: (مملكتي ليست في هذا العالم) [يوحنا 18/ 36]، أي أنها مملكة روحية.. وبهذا لا ينطبق هذا الوصف على المسيح.. بل هو لا ينطبق إلا على محمد الذي حكم وسحق أعداءه.

القرآن.. كلمة الله (81)

ثالثا ـ القرآن.. وشهادة الرسول

ما انتهى الرجل من حديثه حتى وجدتني خرجت من تلك الكنيسة العتيقة الممتلئة بالصدق والإيمان من غير أن أعرف شيئا عن بقية أحاديثهم (1)، ولا عن مصير المتحدثين، ولا عن أي شأن من شؤونهم.

وفجأة، ومثلما سبق، وجدت نفسي أمام جبل شامخ، قاعدته متسعة، لكنها ما تلبث حتى تضيق رويدا رويدا إلى أن تصبح حادة دقيقة صعبة المنال.. احترت في هذا الجبل العجيب، واحترت أكثر في سر تواجدي أمامه، وأنا أبحث عن مصدر القرآن.

فجأة ظهر أمامي رجل يحمل ملامح هندي، يقول لي: ها قد وصلت أخيرا إلى جبل النور.. هل تريد أن نصعد الآن، أم أنتظرك حتى ترتاح قليلا؟.. الصعود صعب نوعا ما إلا إذا كنت من متسلقي الجبال.

قلت: أنا لم أتسلق في حياتي أي جبل.. ولم أنو ذلك.. فما الذي جاء بي إلى هنا؟

قال: عجبا لك.. أأنت تبحث عن القرآن، ثم لا تعرف هذا الجبل؟

قلت: وما علاقة الجبل بالقرآن.. القرآن كلمة الله.. والله لا يحويه مكان، ولا زمان.. فكيف صار الجبل علامة على القرآن؟

قال: ألم يقسم ربك بالجبل؟

قلت: بلى.. لقد أقسم بطور سينين، وأقسم معه بالتين والزيتون والبلد الأمين، فقال: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: 1 ـ 3]

__________

(1) اقتصرنا في هذا الكتاب على الأنبياء الواردين في القرآن، وباختصار شديد، ومن أراد الاطلاع على بشارات غيرهم، أوتفاصيل أكثر يمكنه مطالعة: أنبياء يبشرون بمحمد، من سلسلة: حقائق ورقائق..

القرآن.. كلمة الله (82)

قال: فلم أقسم بتلك المواضع؟

قلت: لشرفها.. فهي المحال التي تنزلت فيها كلمات الله المقدسة لعباده.

قال: ولهذا تعجبت من عدم معرفتك بجبل النور.. وبالغار المبارك الذي تشرف بتنزل أول آيات الوحي الإلهي على محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: معذرة.. لقد غاب عن عقلي ذلك.. ويل للنسيان والغفلة.. إنهما يحضران متى أحببت غيابهما، ويغيبان متى أحببت حضورهما.

ثم نظرت إلى الرجل، وقلت: لكن ما الذي جاء بي إلى هنا.. أنا لم أطلب منك إحضاري.. ولم أعرفك إلا هذه اللحظات.

قال: لا يهم من أكون.. المهم ما نشترك فيه.

قلت: وهل نشترك في شيء غير كوننا بشرا ومسلمين؟

قال: نشترك في تلمذتنا على معلم القرآن.

قلت: فهو الذي أرسلك إلي إذن.. مرحبا بك.. أخبرني ما البرهان الذي تريد تقديمه لي؟

قال: عندما سمعت اسم القرآن أول مرة لم أكن مسلما.. ولا أعيش في بيئة إسلامية.. وإنما كنت بوذيا لا أؤمن إلا ببوذا باعتباره المعلم المخلص الهادي إلى كل الحقائق.. ولم يكن لي اهتمام بأي كتاب مقدس، ولا بأي تعاليم إلهية سوى بـ[دارما]، تعاليم بوذا، تلك التي كنا نسميها [التعاليم بالحقيقة].. ولم يكن لي بعدهما اهتمام إلا بالمجتمع البوذي الذي تمثلت فيه تلك التعاليم.

قلت: فكيف اهتديت إلى الإسلام؟.. ثم كيف تتلمذت بعده على القرآن؟

قال: كما اهتديت إلى البوذية ببوذا، فقد اهتديت إلى الإسلام والقرآن بمحمد.. فقد

القرآن.. كلمة الله (83)

كان محمد هو دليلي إلى كونه رسول الله.

قلت: إن ما تقوله دور.. فكيف يكون الشيء دليلا على نفسه؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]؟

قلت: بلى.. ففي هذه الآية الكريمة يشهد الله لنفسه بالوحدانية وبغيرها من صفات الكمال.

قال: وكفى بالله شهيدا.

قلت: أنت تقصد إذن برهان الصديقين؟

قال: ما دمت قد قبلت شهادة الله وشهادة أنبيائه لرسوله.. فليس لك إلا أن تقبل شهادة رسول الله لنفسه.. فهي لا تقل عن تلك الشهادات.

قلت: أنا أقبل ذلك جميعا.. لكن الشأن ليس في، وإنما في القراطيس التي أحملها؛ فقد أُمرت أن أملأها بالبراهين التي تقنع جميع العقول.. لا عقلي.. ولا عقل من هو مثلي ممن ولدوا في بيئات إسلامية، لا ترى نفسها بحاجة إلى أي برهان.

قال: عجبا لك.. سرعان ما تنسى كلمات معلميك.. ألم يتفقوا على دعوتك إلى خلع إيمانك الوراثي.. فالإيمان لا يورث؟

قلت: صدقت.. فهلم أخبرني عن البراهين التي جعلتك تعتبر شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه.

قال: عشرة براهين.. يمكنك اعتبارها متفرقة أو جميعا.

قلت: لم أفهم..

قال: من رحمة الله تعالى بعباده أن هيأ لهم كل أصناف الأدلة التي تهديهم إلى الحق

القرآن.. كلمة الله (84)

ونوّعها، حتى تشملهم جميعا.. فمنهم من يهتدي بكلمة واحدة.. ومنهم من يحتاج إلى عشرات الكلمات حتى تكسر أشعة الهداية كل الحجب التي تحول بين عقله والاستسلام للحقائق.

قلت: لقد ذكرتني بموسى عليه السلام الذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 101]، وقال: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [النمل: 12]

قال: ومع ذلك لم يؤمن فرعون، ولا المستكبرون من قومه مع مشاهدتهم لكل تلك الآيات.

قلت: أجل.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 13 ـ 14]

قال: بينما اكتفى السحرة بآية واحدة.

قلت: أجل.. لقد ذكر الله تعالى أنه بمجرد أن ألقى موسى عليه السلام عصاه، ورأوا آيتها، لم يكتفوا بالنطق بالإيمان، وإنما خروا ساجدين، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الشعراء: 41 ـ 48]

قال: فلذلك جعل الله تعالى العلامات الكثيرة الدالة على المنبع المقدس لكلماته..

القرآن.. كلمة الله (85)

ومنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو نفسه دليل على وظيفته، وعلى الرسالة العظيمة التي يحملها.

قلت: سلمت لك بهذا.. فما أول تلك الأدلة؟

قال: أولها البيئة المخالفة.. فليس من المستغرب أن يظهر الفيلسوف في أثينا.. ولا المهندس في روما.. ولكن الغريب أن يظهرا في بلد يخلو من كل ذلك.

قلت: أجل.. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد في بيئة جاهلية بعيدة تماما عن كل ما جاء به من هدي، بل متناقضة تماما معه.

قال: ولهذا قال الله تعالى له: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7]، أي أنك يا رسول الله كنت في بيئة لا تهديك إلا للضلال، لكن الله تولى هدايتك، لما في قلبك من الطهارة، وروحك من الصفاء.

قلت: ما أجمل هذا التفسير.

قال: وما أصحه وأدقه.. فالشخص الذي يكون في متاهة يصعب الخروج منها يُعتبر تائها عن المخرج، وضالا عن الطريق.

قلت: وعيت هذا.. فما الدليل الثاني؟

قال: الأخلاق العالية.. فالكاذب الذي أدمن الكذب، والخائن الذي أدمن الخيانة، يستحيل أن يوثق فيهما.

قلت: والصادق الذي لم يجرب عليه كذب قط.. يستحيل أن يترك الكذب على الخلق، ثم يكذب على ربه، ومن غير حاجة تدعوه لذلك.

قال: والأمين الذي اتفق الكل على أمانته يستحيل أن يترك خيانة الخلق في شؤونهم المادية، ثم يخونهم في أعز شؤونهم وأكرمها.

قلت: لقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل عندما أثنى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالأخلاق الحسنة،

القرآن.. كلمة الله (86)

فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]

قال: بل القرآن الكريم كله ثناء عليه في هذا الجانب.. فرسول الله كان قرآنا ناطقا.. وكل أخلاقه مستمدة من بحر القرآن الذي لا ساحل له.

قلت: صدقت.. فما الدليل الثالث؟

قال: الوحي العجيب.

قلت: ما تعني؟

قال: ألا ترى الشاعر يبدأ بالبيت والبيتين والقصيدة والقصيدتين إلى أن يكتمل نبوغه؟

قلت: بلى.. فالشاعر يبدأ شويعرا لا شاعرا.. والكاتب يبدأ كويتبا لا كاتبا.. وهكذا الرياضي والطبيب والمهندس والفيلسوف.. كلهم يبدؤون من الصفر، ثم يصعدون مراقي الكمال درجة درجة، وأمام أنظار الخلق جميعا.

قال: بلى.. إلا النبي.. فإنه يبدأ كاملا، وينتهي كاملا.. لأن كل ما لديه ليس منه وإنما من ربه.. وربك ليس عنده إلا الكمال.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]

قال: لقد كان هذا من أكبر أدلة تحولي عن بوذا إلى محمد.. لقد رأيت من عجائب الوحي ما جعلني أوقن تماما أنه يستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعيه أو يتكلفه.. فهو خارج كل نطاق العقول.

قلت: كيف؟

القرآن.. كلمة الله (87)

قال: لقد كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كان مدعيا وطالب مال أو جاه، أن يجد ذلك في نسبة الوحي الذي جاء به إلى نفسه، لا إلى ربه.. فقد كان بين قوم يسجدون للكلمات، ويعبدون الشعراء، ويخضعون لمحاسن النظم.. بل يتوجون أصحابها بكل تيجان الرئاسة.. لكنه لم يفعل، بل نسب الكلمات إلى ربه.. وتحمل في ذلك كل ألوان الهوان والذلة والألم والحصار.. وكل ذلك دليل على الصدق.

قلت: صدقت.. فما الدليل الرابع؟

قال: اليقين الجازم

قلت: ما تعني؟

قال: قد نرى بعض الناس يذكرون شيئا أو يفعلونه بحسن نية.. لكن يأتي من يدعي لهم الدعاوى، وينسب أفعالهم إلى جهات لم يقصدوها.

قلت: أتقصد المسيحيين الذين لم يعتبروا ما حصل من المسيح من المعجزات دليلا على كرامته على ربه، وإنما اعتبروها دليلا على كونه إلها، أو أقنوما إلهيا.. ولهذا تبرأ المسيح عليه السلام من جميع دعاواهم، فقال مخاطبا ربه: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 116 ـ 117]

قال: أجل.. وكذلك فعلنا نحن مع بوذا حين لم نستوعب أسرار كلماته؛ فحملناها على غير محاملها.

قلت: فما وجه الاستدلال في هذا؟

قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أخبر، وبكل الوسائل والأساليب أن ما جاء

القرآن.. كلمة الله (88)

به ليس منه، وإنما هو من الله.. وتلك الشهادة وحدها كافية ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]

قلت: ومن لم يكن كذلك؟

قال: من لم يكن كذلك يطفف في الميزان، ويكيل بالمكاييل المزدوجة، لأنه يقبل من الطبيب دعوى كونه طبيبا، ومن المهندس دعوى كونه مهندسا.. ثم لا يقبل من النبي كونه نبيا؟

قلت: فرق كبير بين الأمرين.. ولو كان الأمر كما ذكرت لأصبح نصف أهل الأرض أنبياء، ونصفهم الباقي أتباع أنبياء؟

قال: وأين المعجزات الباهرات.. والآيات المثبتات.. والدلائل الواضحات.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع دعوى دون دليل، بل قدم كل الأدلة على دعواه؟

قلت: وعيت هذا؛ فما الدليل الخامس؟

قال: التأديب والعتاب.

ابتسمت، وقلت: التأديب والعتاب!؟.. لم أسمع في حياتي دليلا بهذا العنوان.

قال: لقد كان هذا من أعظم الأدلة التي اهتديت بها إلى كون محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله.. لقد قرأت القرآن؛ فوجدت الله تعالى يعاتب نبيه ويؤدبه في محال مختلفة.. وهو ما يتناقض تماما مع كل الدوافع التي تدفع المدعين لدعاواهم.. فالمدعي يريد أن يرفع نفسه بين قومه لا أن يهينها.. وأن يكون سيدا وأستاذا لا تلميذا.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1].. مع أنه في بيئتنا وإلى الآن من أعظم السباب أن يتهم الرجل بكونه ساعيا لمرضاة زوجته.. فكيف بتلك البيئة التي كانت المرأة فيها ممتهنة

القرآن.. كلمة الله (89)

محتقرة لا قيمة لها.

قال: لقد كان أول ما شد انتباهي في القرآن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37].. لقد قلت في نفسي: لقد كان في إمكان محمد لو كان مدعيا ألا يذكر هذا عن نفسه.. خاصة مع تلك الشؤون الكثيرة التي كان يهتم بها.. ومع أولئك الأعداء الكثيرين الذي كانوا حريصين على تتبع أي ثغرة، والتماس أي هفوة.. وهكذا شد انتباهي كل الآيات التي تتحدث عن الشؤون الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يعلم الله فيها نبيه ويربيه.

قلت: عجبا لك ولإيمانك.. إن ما تذكره من براهين الإيمان كان حجابا لبعضهم.

قال: لأنهم لم يُعملوا عقولهم مع الحقائق، ولو أعملوها، لكان حجابهم هو عين دليلهم.. لكن الكبر والغفلة وترك تفعيل العقول هو الحجاب الأعظم.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 31]

قال: أجل.. وذلك يشبه الأرض الواحدة التي تسقى بماء واحد.. لكن بعضها ينجب الأزهار الجميلة الطيبة، وبعضها ينبت الأشواك الحادة القاتلة.

قلت: وعيت هذا؛ فما الدليل السادس؟

قال: التجرد والإخلاص..

القرآن.. كلمة الله (90)

قلت: كيف تعتبر هذا دليلا؟

قال: بل هو أعظم دليل.. فالمدعي لا يدعي إلا لينال، لا ليعطي.. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينل في حياته شيئا من شؤون الدنيا.. بل كان كعامة الناس.. بل كأشدهم حاجة وفقرا.. ولم يطلب ممن يدعوهم أي أجر.

قلت: صدقت.. وقد ذكر الله تعالى ذلك في محاجة المخالفين، فقال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ [الطور: 40]، وقال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [المؤمنون: 72]

قلت: لقد جعلني هذا أبحث عن كل التفاصيل المرتبطة بحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشخصية.. ومنها اكتشفت أنه يستحيل على المدعي أن يعيش تلك الحياة، ويصبر ذلك الصبر، ولغير أي غاية من الغايات التي يحتاجها المدعون الأدعياء.

قلت: وعيت هذا؛ فما الدليل السابع؟

قال: المواجهة القاسية.

قلت: ما تعني؟

قال: المدعي الكاذب لا يحب المعاناة.. بل يفر منها، لأن قصده تحقيق مقاصده، لا مناقضتها.. فلذلك كانت المواجهة دليلا من أدلة الصدق.

قلت: لم أفهم.

قال: أرأيت لو كان لك صديقان.. أحدهما حاباك وجاملك لترضى عنه.. والآخر صارحك وعاتبك وذكر لك الحقيقة كما هي، أيهما المخلص لك والصادق معك؟

قلت: لا شك أنه الثاني.

قال: ولكنك قد تغضب عليه.

القرآن.. كلمة الله (91)

قلت: وهذا علامة صدقه.. فكونه لم يجامل ولم يهادن يعني أنه لم يرد مصلحته، بل مصلحتي.

قال: لقد قلت في نفسي إبان اتباعي لبوذا: عجبا للذين يتهمون محمدا بكونه مدعيا.. فهل يمكن للمدعي ألا تستقر به حياة؟.. فهو منذ ادعى تلك الدعاوى، وهم يسبونه ويهجونه ويحاصرونه ويجوعونه ويقاتلونه.. فهل يمكن للكاذب أن يصبر كل ذلك الصبر، وعلى كل أولئك الأعداء؟

قلت: وعيت هذا؛ فما الدليل الثامن؟

قال: الشدة والثقل.

قلت: ما تعني؟

قال: لقد كان من أوائل ما قرأت من القرآن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 1 ـ 7].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 1 ـ 6].. وقوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94].. وقوله: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 131 ـ 132].. وغيرها من الآيات الكريمة التي لا يجد طعم الراحة من التزمها.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الملتزمين بها.

قلت: فكيف استدللت بهذا؟

قال: لقد قلت في نفسي: لو كان محمد مدعيا.. لآثر الراحة والسكينة على التعب

القرآن.. كلمة الله (92)

والمشقة.. وحتى المفكرون والفلاسفة الذين تعرضوا لكل أنواع المواجهات إلا أنهم مع أنفسهم كانوا يخلدون للراحة إن جاء الليل، ولا يفعلون مثل محمد الذي يقضي نهاره بين الخلق يدعوهم، ويتعرض لأذاهم، وفي الليل بدل أن يأوي إلى فراشه ليزيل ما علق به من تعب، يترك الراحة، ويفترش قدميه أكثر الليل قائما وراكعا وساجدا.

قلت: وعيت هذا؛ فما الدليل التاسع؟

قال: الحفظ التام.

قلت: ما تعني؟

قال: لقد كان من الآيات التي ملأتني بالهداية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67].. لقد قلت في نفسي: مع كثرة أعداء محمد.. ومع كونهم سمعوا بهذه الآية إلا أنه لم يتجرأ أحد أن يكذبها أو يخرقها.. بل استمر محمد يدعو ويرتل آيات الله إلى آخر اللحظات.. بل أخبر أن دينه اكتمل، ونعمة الله على عباده تامة.

قلت: فهذا ما تقصده بالحفظ التام؟

قال: هذا مظهر من مظاهره.. أما المظهر الأكبر، فهو أني بحثت في الكتب المقدسة للأديان جميعا، بما فيها البوذية.. فوجدتها جميعا تعرضت للتحريف والتغيير والتبديل، وملئت بالدجل والأساطير، ما عدا القرآن الذي لا يزال يُقرأ غضا طريا كما أنزل، وبنفس اللغة التي نزل بها.. وبنفس المعاني.. وبنفس القوة.

قلت: فما وجه الدليل في هذا؟

قال: لقد وجدت أن الكتب المقدسة لدى اليهود والمسيحيين تتعرض للتحريف كل حين مع كونها بين أهلها، ولم تتعرض لأي مواجهات خارجية.. ولكن القرآن بقي محفوظا

القرآن.. كلمة الله (93)

مع كثرة أعدائه منذ نزل إلى يومنا هذا.

قلت: وعيت هذا؛ فما الدليل العاشر؟

قال: التحدي الشامل.

قلت: ما تعني؟

قال: لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة البشر إلى الله، بل كان يتحداهم، ويخاطبهم من موضع قوة لا من موضع ضعف، حتى وهو في أشد الحالات التي مر بها قسوة.. ولا يمكن أن يكون لذلك أحد ما لم يكن مستندا لركن ركين، وقوة عظمى لا يمكن قهرها.

قلت: أجل.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه بكثرة الشعراء والأدباء بين العرب إلا أنه كان يتحداهم أن يأتوا بسورة من كتابه.. بل يأمرهم بالاجتماع لفعل ذلك.. بل كان يتحدى الجميع.. العرب وغير العرب.. بل الإنس والجن..

قال: وقد كان ذلك مسلكا من مسالك هدايتي.. فقد رأيت أن التحدي لا يزال مستمرا.. والذين تحداهم لا يزالون عاجزين.. فمع مرور كل تلك القرون الطوال، ومع كثرة أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه لم يظهر إلى الآن قرآن واحد يضاهي قرآنه.. بل لم تظهر سورة واحدة تضاهي أقصر سوره.

قلت: صدقت.. فهل ستحكي لي تفاصيل ما أجملته؟

قال: تمنيت لو أني تمكنت من ذلك.. لكن قلبي الآن مشتاق لذلك الغار المقدس الذي تنزلت فيه أول كلمات القرآن.

قال ذلك.. ثم راح يتركني ويسرع مهرولا يصعد الجبل وبشوق عظيم.

1. البيئة المخالفة

بعد أن انصرف عني صاحبي الهندي.. وجدت نفسي في حي مزدحم بالسكان إلا

القرآن.. كلمة الله (94)

أنه كان مع ذلك في غاية الهدوء والنظافة والجمال، وقد لاحظت في وجوه كل المارة الذين رأيتهم علامات السعادة والطمأنينة.

لست أدري كيف لاح لي حينها أن أدخل محلا لبيع الأزهار؛ فقد أعجبتني الأنواع الكثيرة التي يعرضها..

عند دخولي إلى المحل شد انتباهي شيخان كبيران يتحدثان، قال أحدهما: أنت لا تعرف كيف كان هذا الحي قبل أربعين سنة.. أنا ولدت فيه، وأعرف التغيير الكبير الذي حصل له.. لقد كنا في جاهلية جهلاء منكرة.. لا تختلف عن تلك الجاهلية التي وصفها الله تعالى في كتابه، وفي أربعة مواضع منه.

قال الثاني: أتقصد من الأول قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]

قال الأول: أجل.. فالآية الكريمة تصور بدقة تلك التصورات العقدية المنحرفة التي كانت منتشرة في أهل هذا الحي، وهي التي كانت سببا في كل انحرافاته.. فبعض أهل هذا الحي كان ملحدا لا يؤمن بالله ولا يعرفه.. وبعضهم كان خرافيا جاهلا يتعلق بكل وثنية ودجل.. وهكذا انتشرت الكثير من الفلسفات المادية التي لم تغذ المجتمع إلا بكل ألوان الفساد والجهل.

قال الثاني: ولكن الآية الكريمة لا تتحدث عن ذلك.. إنها ترسم بدقة صورة لمشهد من مشاهد الليلة التي تلت معركة (أحد)، حيث كانت ليلة ممتلئة بالقلق والاضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش إلى المدينة مرة أخرى لاجتياح البقية الباقية من المسلمين.. بيد أنه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في (أحد)، فتابوا إلى الله، واطمأنوا إلى وعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم

القرآن.. كلمة الله (95)

حول المستقبل، ولذلك غطوا في نوم عميق مريح، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان، والجبناء يعانون من كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل، فلم يذوقوا لذة النوم، وكانوا ـ من حيث لا يشعرون ولا يقصدون ـ يحرسون المؤمنين الحقيقين الذين كانوا يستريحون في تلك النومة الطارئة اللذيذة (1).

قال الأول: وما السبب في عدم نومهم؟

قال الثاني: المنافقون والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا حتى النعاس في تلك الليلة خوفا على نفوسهم، وعلى أرواحهم، وجريا وراء الوساوس الشيطانية، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين ووهن الإيمان.

قال الأول: فالآية الكريمة إذن تذكر الآثار الناجمة عن الإيمان والنفاق.

قال الثاني: أجل.. أما المؤمن، فإنه يحظى بالراحة والطمأنينة.. وأما غير المؤمن من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان، فإنهم محرومون من ذلك كله.

قال الأول: والآية الكريمة تسمي كل تلك الوساوس المناقضة للإيمان ظن الجاهلية.

قال الثاني: أجل.. لأنهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل أن تبزغ عليهم شمس الإسلام، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده، ويظنون أن وعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير محققة ولا صادقة، وكان يقول بعضهم للآخر: (هل لنا من الأمر من شيء) أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية؟ لأنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالا.

قال الأول: أجل.. ما ذكرته عن الآية الكريمة هو الواقع الذي نزلت فيه.. وهو

__________

(1) الأمثل، مكارم الشيرازي (2/ 736)

القرآن.. كلمة الله (96)

ينطبق تماما على كل واقع شبيه له، أو قريب منه.. فالجاهلية في القرآن الكريم ليس المقصود منها فترة زمنية معينة، وإنما حقائق ومعان وقيم كل من توفرت فيه كان من أهل الجاهلية، وأولها الانحرافات الخطيرة المتعلقة بالرؤية الكونية.. ذلك أنها الأساس لكل الرؤى.. ولهذا اعتبر الله تعالى ظنون الجاهلية سببا في ذلك الذي حصل للمنافقين ومرضى النفوس.

أ ـ البيئة القريبة

قال الثاني: صدقت.. ولهذا يعتبر القرآن الكريم الضلال عن العقيدة الصحيحة هو السبب في كل الانحرافات التي كان عليها أهل الجاهلية.. قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].. أي: لقد أنعم الله على المؤمنين من العرب؛ إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آيات القرآن، ويطهرهم من الشرك والأخلاق الفاسدة، ويعلمهم القرآن والسنة، وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غيٍّ وجهل ظاهر (1).

وقال في آية أخرى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].. أي: أن الله سبحانه هو الذي أرسل في العرب الذين لا يقرؤون، ولا كتاب عندهم ولا أثر رسالة لديهم، رسولا منهم إلى الناس جميعًا، يقرأ عليهم القرآن، ويطهرهم من العقائد الفاسدة والأخلاق السيئة، ويعلِّمهم القرآن والسنة، وإنهم كانوا من قبل بعثته لفي انحراف واضح عن الحق (2)

__________

(1) التفسير الميسر (1/ 71)

(2) المرجع السابق، (1/ 553)

القرآن.. كلمة الله (97)

قال الأول: أجل.. فوصف أهل الجاهلية بكونهم في ضلال مبين بيانٌ واضحٌ لتحكُّم الضلالة والضياع في المجتمع العربي الجاهلي.. ضياع في العقائد حيث كانوا مشركين يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم من الحجر والخشب.. وضياعٌ في الجوانب الاجتماعية إلى الحد الذي كانوا يئدون بناتهم أحياءً وهم يفتخرون بذلك.. وضياع في السلوك والأخلاق كانوا يطوفون رجالاً ونساءً حول الكعبة عُراة، ويعتبرون ذلك من ضمن عبادتهم.. وضلال في العلاقات حيث كان الاعتداء والحروب وإراقة الدماء بالباطل، شيئا عاديا، حتى وصل الأمر بهم إلى أن يَرِثَ الأبناء أحقاد وأضغان الآباء (1).

قال الثاني: لقد صور جعفر بن أبي طالب بعض نواحي الضلال المبين الذي كان يعيشه عرب الجاهلية في خطبتِه التي ألقاها أمام النجاشي ملكِ الحبشة؛ فقال: (أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهليةٍ نعبدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكلُ القوي منَّا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعثَ الله فينا رسولاً منَّا، نعرِفُ نسبَه وصِدقَه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحدَه ونعبده، ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحن وآباؤنا من دونِه من الأوثان، وأمرَنا بصدقِ الحديث وأداء الأمانة، وصلةِ الرَّحِم، وحسنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفواحشِ، وقولِ الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذفِ المحصنات، وأمرنا بالصلاةِ والزكاة والصيام، فصدَّقناه وآمنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به من عند الله) (2)

قال الأول: وكل ذلك بسبب تلك الانحرافات العقدية التي كانت جاثمة على حياة أهل الجاهلية.. والتي صورتها الكثير من الآيات القرآنية، وحذرت منها بشدة.

__________

(1) نفحات القرآن، ج 8، ص: 31.

(2) سيرة ابن هشام (1/ 359، 360)

القرآن.. كلمة الله (98)

قال الثاني: أجل.. فكل القرآن الكريم تحذير من الضلال العقدي الذي انجر عنه كل أنواع الضلال.. ولذلك نقم كل أصحاب الأديان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يترك أحدا منهم إلا وأخبر عن ضلاله وانحرافه.

قال الأول: أجل.. فقد أخبر الله تعالى عن ضلال المشركين، وانحرافهم، والصراع الكبير بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب ذلك، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 165].. وقال: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 76].. وقال: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 56 ـ 58].. وقال: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 71].. وقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18].. وقال: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 72 ـ 74]

القرآن.. كلمة الله (99)

قال الثاني: ولم يكتف بذلك، بل أخبر عن ضلال اليهود والنصارى مع أنه كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لو كان مدعيا ـ أن يجعل منهم سندا له في مواجهة المشركين، لكنه لم يفعل رعاية للحق وصفاء العقيدة.

قال الأول: أجل.. فتنديد القرآن الكريم بعقائد اليهود والنصارى المخالفة للحق، لا تختلف عن تنديده بعقائد المشركين.. فقد قال الله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 30 ـ 31].. وقال: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120].. وقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [المائدة: 18]

قال الثاني: لقد تأملت في هذا إبان ضلالي؛ فكان بحمد الله سبب هدايتي.. لقد كان أول ما شد انتباهي من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 19 ـ 23].. ورحت أبحث عن الواقع الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فامتلأت بالعجب.. فهو واقع مخالف تماما لكل الطروحات التي جاء بها.. مخالف جملة وتفصيلا.

القرآن.. كلمة الله (100)

قال الأول: تلك الآيات تتحدث عن ثلاثة أصنام كبيرة كانت تحظى بشهرة خاصة عند المشركين، وكانوا لا يتجرؤون على ذكرها بسوء، خوفا من العواقب التي يؤدي إليها ذلك، حيث كانوا يعتقدون أنها بنات الرب.. وأنها وسيلة للتقرب إليه..

أما أولها، فكان (مَناة)، وكان ما بين المدينة ومكة المكرمة بالقرب من ساحل البحر الأحمر، ولهذا الصنم احترامٌ خاص عند كل العرب آنذاك، حيث كانوا يقدمون إليه القرابين، وأكثر القبائل احتراماً وتقديساً له قبيلتا (الأوس) و(الخزرج).. واللتان آمنتا بعد ذلك، وتحولتا إلى أنصار للنبوة.

وأما الثاني، فيُعرف باسم (اللّات)، وكان بالطائف، وكانت (ثقيف) من أكثر القبائل احتراماً له.

وأما الثالث، فيُعرف باسم (العُزى) وقد وضع في الطريق المؤدي إلى العراق قريباً من منطقة (ذات العِرق) ولقريش علاقة خاصة بهذا الصنم.

بالإضافة إلى هذا كانت هناك أصنام أخرى للقبائل والعشائر، بل وللعوائل أيضاً.. فهم مثلا إذا أرادوا السفر يستأذنون من الصنم.. وكانت لهم في أسفارهم أصنام يصحبونها معهم.

قال الثاني: بالإضافة إلى كل ذلك كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بناتُ الله، وأن تلك الأصنام تمثل تلك الملائكة، لذلك واجههم القرآن الكريم أثناء محاجته لهم، بالمعايير التي يؤمنون بها، فقال: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ

القرآن.. كلمة الله (101)

بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: 15 ـ 20]

قال الأول: بل كانوا يخلطون كل حياتهم بالشرك، قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100].. وقال: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الأنعام: 136]

قال الثاني: لقد واجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه الضلالات، وبقوة وشدة، ولم يخضع لتهديداتهم، ولا لترغيباتهم.. بل كان يخبرهم بالمفاصلة التامة بين دينه ودينهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 1 ـ 6].. وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 104 ـ 107].. وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يونس: 108 ـ 109]

قال الأول: وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل أنواع الآلام بسبب ذلك.. ولو كان مدعيا لخضع لأول ترغيب أوترهيب.

قال الثاني: بل نجد في القرآن الكريم تحذيرات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أي خضوع لهم..

القرآن.. كلمة الله (102)

قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 64 ـ 66]

قال الأول: لقد كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لو كان مدعيا ـ أن يتنازل لخواص المشركين وفلاسفتهم الذين يحاولون المزج بين التوحيد والشرك، والذين وصفهم الله تعالى في قوله: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: 3] فهذه الآية الكريمة تحكي قول المشركين الذين قالوا: إنّ ذاتَ الله أسمى من أن يصلَ إليها العقل والفكر الإنساني، وهو منزه عن أن نعبده بصورة مباشرة، وعلى هذا الأساس فالذين وكّل إليهم أمر خلقهِ وتدبيرهِ هم الواسطةُ إليه، وهؤلاء هم الملائكة والجن وكل الموجودات المقدسة فهؤلاء أربابٌ نعبدهم وهم الذين يقربوننا إلى الله.. وعلى هذا فإنّ أيدينا لا تصل إلى هذه المقدسات فنصنع لها تمثالاً ثم نَعبدُها! وهذه التماثيل هي أصنامهم.. وفي تصورهم أن هناك وحدة واتحاداً بين هذه الأصنام والوجودات المقدسة فهم يخاطبونها بالآلهة والأرباب (1).

قال الثاني: ولم تكن تلك العقائد الجاهلية مجرد أوهام وظنون في مخيلاتهم.. وإنما كان لها تأثيرها الكبير في حياتهم المليئة بالشعائر والطقوس.. وقد ذكر الله تعالى بعض ذلك، فقال: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنفال: 35].. فقد كانوا يُسمّون صفيرهم الأحمق وتصفيقهم الأبله صلاةً، وقد شبه الله تعالى ذلك الصوت بالمكاء، وهو صوت الطيور، لأنّه خالٍ من أي مفهوم كصوت الطيور الذي

__________

(1) نفحات القرآن، ج، ص: 33.

القرآن.. كلمة الله (103)

لا محتوى فيه، أو أن كل ماكان يفعلونه ما هو إلّا مجرّد غناء لا علاقة له بالعبودية.

قال الأول: وكان لها تأثيرها في حياتهم ومعاشهم وتعاملهم مع كل الأشياء، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 136 ـ 140]

قال الثاني: ولذلك كانت حياتهم مملوءة بالضيق والضنك والجهل والمعاناة.. فقد كانوا يخافون أن ترتد عليهم اللعنات من أي تصرف يقومون به.. ولذلك لم يكونوا ينظرون إلى مدى عقلانية سلوكهم، بقدر نظرهم إلى القوانين التي وضعها الكهنة وتجار الدين..

قال الأول: أجل.. فالكهنة ورجال الدين كانوا هم المتبوعين وأئمة الضلال الذين أخبر القرآن الكريم عن كونهم السبب وراء كل ضلالة.. ومع ذلك لم يعف الأتباع من مسؤولية اتباعهم لهم، قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 166 ـ 167]

قال الثاني: وهكذا كانت عبادة أسلافهم وأجدادهم مسيطرة عليهم، يخافون من

القرآن.. كلمة الله (104)

اللعنات التي قد تصيبهم إن هم تمردوا عليها.. كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]

قال الأول: لقد أخبر القرآن الكريم عن سيطرة عبادة الأسلاف والأجداد على جميع أجيال الضلالة، فقال: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22 ـ 23].. وقد رد عليهم بقوله: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: 24]

وأخبر عن إبراهيم عليه السلام أن خلافه مع قومه كان بسبب تبعيتهم لأسلافهم لا لعقولهم، فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 69 ـ 77]

وأخبر عن قوم موسى عليه السلام وتبعيتهم لآبائهم بدل إعمال عقولهم، فقال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 74 ـ 78]

قال الثاني: وكل ذلك مما رسخ الضلالة والانحراف.. حيث ارتبط الدين عندهم بالجذور والقوميات والأعراق.. فصار كل داعية للتصحيح والإصلاح ليس حربا لتلك

القرآن.. كلمة الله (105)

العقائد الضالة فقط، وإنما حرب على القوميات نفسها.. بل حرب للآباء والأجداد كما يصورون.

قال الأول: لقد كان هذا كله من دواعي هدايتي.. فمن الصعب أن ينفرد المرء بمواجهة كل تلك الانحرافات، وفي مجتمعات بدائية بدوية، ومن دون أن يكون له أي سند من دولة قوية، أو ذوي جاه أو سلطان.

قال الثاني: أرانا قد اكتفينا بمظهر من مظاهر الجاهلية.. ونسينا سائر مظاهرها التي أشار إليها القرآن الكريم.

قال الأول: أجل.. فقد أخبر الله تعالى عن الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في ذلك الحين، والتي وصفها بكونها جاهلية، فقال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].. ووصف النظام الاجتماعي بالجاهلية، فقال مخاطبا النساء: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 33].. ووصف العلاقات الاجتماعية والدولية المبنية على العصبية، فقال: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: 26]

قال الثاني: أجل.. فقد كان للانحراف العقدي آثاره على كل شيء.. فالمرأة ـ مثلا ـ كانت عرضة لكل غبن وحيف، تؤكل حقوقها وتُبْتز أموالها، وتُحرم إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة.

لقد ذكر القرآن كل ذلك مصححا له، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء:19]

القرآن.. كلمة الله (106)

قال ابن عباس في تفسيرها: (كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك) (1)

وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد، وقد قال الله تعالى يذكر ذلك: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: 8 ـ 9].. وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31]

وقد ذكر المؤرخون أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد، ويتركه عشرة، فجاء الإسلام، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد، فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن، ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصفات، ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب فكان يشتريهم من بعض سراة العرب وأشرافهم (2).

قال الأول: وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وكان شعارهم في ذلك قولهم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين.. ولذلك صحح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الشعار بقوله: (تأخذ فوق يده) (3)

قال الثاني: وفوق ذلك كان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم، حتى صارت الحرب مسلاة لهم، قال قائلهم:

__________

(1) البخاري (4579)، وأبو داود (2089)

(2) نقلا عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 60)

(3) البخاري، (2444) ومسلم (2584)

القرآن.. كلمة الله (107)

وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

وقد هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر، فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة، وما ذاك إلا لأن كليباً، وهو رئيس معدّ رمى ضلع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها، وقتل جساس بن مرة كليباً، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب، وكان كما قال المهلهل أخو كليب: (قد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن) (1)

قال الأول: ومثل ذلك حرب داحس والغبراء، فما كان لها من سبب سوى أن داحساً فرس قيس بن زهير كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة، فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل، وتلا ذلك قتل، ثم أخذ بالثأر ونصر القبائل لأبنائها، وأسر ونزح للقبائل، وقتل في ذلك ألوف من الناس.

ب ـ البيئة البعيدة

بينما كنت أستمع إلى حديث الشيخين، وهما يصفان واقع البيئة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إذا بصاحب المحل يقول مناديا في زوار محله: هناك زوار قد قدموا من بلاد مختلفة، وهم سيجتمعون الآن مع أهل الحي في حديقة الإيمان.. فمن شاء منكم أن يحضر فليسرع إليها.. وأنا أستأذنكم في غلق المحل لأجل الحضور.

خرج الجميع، بما فيهم ذانك الشيخان.. وتبعتهم أنا، وقد شعرت أن لساني قد أصابه خرس شديد؛ فهو لا يطيق النطق بكلمة واحدة.. لكن بحمد الله لم يكن يخطر على بالي سؤال إلا وجدت جوابه جاهزا من غير أن أتكلف أي صياغة له.

__________

(1) نقلا عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 62)

القرآن.. كلمة الله (108)

في حديقة الإيمان التي كانت تشبه جنان الدنيا الجميلة اجتمع نفر كثير أمام منصة وجدت فيها مجموعة رجال ذوي سنحات مختلفة..

بمجرد أن وصلنا قام أحدهم، وقال: عجبا لأولئك الجاهلين الذين يكذبون عليكم وعلى الخلق عندما يذكرون لكم أن القرآن نتاج بيئته.. فبأي نتاج البيئة تأثر؟.. هل بتلك الضلالات والانحرافات التي كانت تجثم على كل المجتمعات؟.. أم تراه تأثر بالحضارة الهندية والرومية والفارسية والصينية.. والتي كانت تبعد عنه آلاف الأميال، ولم يكن يعرفها.. ولا يكاد يسمع بها؟

قام آخر، وقال: حتى لو سمع بها.. فما كانت تلك الحضارات إلا مظهرا من مظاهر الجاهلية.. وتجل من تجلياتها العظمى.. ولذلك كان الخلاص الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاملا لها جميعا، وليس خاصا ببلاد العرب فقط.

قام آخر، وقال: بحكم البلاد التي جئت منها، وهي روما، عاصمة الرومان التي استطاعت احتلال أكثر بلاد العالم، ولعقود الطويلة.. فقد درست حضارتهم والقيم التي كانوا يؤمنون بها.. وقد وجدت مدى الفرق بين ما كانت عليه الحضارة الرومانية، وما دعا إليه القرآن الكريم.. فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متأثرا بها وبقوتها.. لأيدها وانتصر لها ودعا للقيم التي كانت تتبناها.. لكنه لم يفعل، بل إن كل أحاديثه عن المستكبرين والمستبدين والجاهليين تنطبق عليها تماما.. ولذلك كان الرومان من المبادرين لحربه.

قام بعض الحضور، وقال: كيف تقول ذلك.. ونحن نرى آثار الدولة الرومانية وعمرانها في كل مكان مما يشير إلى قوتها؟

قال الرومي: وأنا مع كوني من روما، وأهلي يعتزون بانتسابهم لها.. إلا أني لا أشعر بأي فخر بتلك الدولة.. ولا بحضارتها.. وهل يمكن أن يفخر أحد بالمجرمين والقتلة؟

القرآن.. كلمة الله (109)

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال الرومي (1): لقد بلغ الاستبداد غايته في الدولة الرومانية، فعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات، وتضاعفت الضرائب، حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات، ويبغضونها بغضا شديداً، بل ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية، وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات.. لقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة.

لقد ذابت أسس الفضيلة في المجتمع الروماني، وانهارت دعائم الأخلاق.. وكان العدل يباع مثل السلع، وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة كل التشجيع.

وكان المجتمع مليئا بالتناقض والاضطرابات.. فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني.

وكانوا في الجانب الآخر حريصين أشد الحرص على كل أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى.. لقد كانوا يعشقون العنف والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة.

__________

(1) رجعنا في وصف الحضارات والديانات المعاصرة لبعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، فهو المرجع الذي رجع له الكثير في هذا الباب، وقد رجع هو بدوره إلى مراجع مختلفة عربية وإنجليزية.

القرآن.. كلمة الله (110)

بالإضافة إلى كل هذا، فقد كان الرومان متجبرين غاية التجبر، عنصريين غاية العنصرية، لقد كان المبدأ الأساسي الذي يجتمعون عليه، ويجمعون عليه هو تقديس الوطن الرومي، والشعب الرومي، ولم تكن الأمم والبلاد التي كانت تسيطر عليها الدولة الرومانية (1) إلا خادمة لمصلحتها، وعروقاً يجري منها الدم إلى مركزها.. فلهذا كانت الدولة الرومانية تستهين بكل حق ومبدأ، وتدوس كل شرف وكرامة، وتستحل كل ظلم وشنيعة، لا يمنعها من ذلك الحيف والظلم اشتراك في دين وعقيدة، ولا إخلاص ووفاء للملكة.

قام آخر، وقال: أما أنا.. فقد جئت من بلاد فارس.. تلك البلاد التي خلصها الله تعالى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالإسلام من مستنقعات الجاهلية التي كانت تعيش فيها..

قام رجل من الحضور، وقال: كيف تقول هذا عن بلادك، وهي بلاد الفنون الراقية، والآداب الرفيعة، والفلسفات العميقة؟

قال الفارسي: لقد كان الأكاسرة الذين هم ملوك فارس يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الشعب يعتقد بأن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فلذلك كانوا يقدمون لهم القرابين، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد، وفوق البشر، ولا يجري اسمهم على لسانهم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم، وأن ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم إنما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق، وليس للناس قِبلهم إلا السمع والطاعة.

ثم زادوا الطين بلة حين خصصوا بيتاً معيناً، وهو البيت الكياني، فكانوا يعتقدون أن

__________

(1) كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، وكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره، ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية.

القرآن.. كلمة الله (111)

لأفراده وحدهم الحق أن يلبسوا التاج ويجبوا الخراج، وهذا الحق ينتقل فيهم كابراً عن كابر وأباً عن جد لا ينازعهم ذلك إلا ظالم، ولا ينافسهم إلا دعي، فكانوا يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك لا يبغون به بدلاً، ولا يريدون عنه محيصاً، فإذا لم يجدوا من هذه الأسرة كبيراً ملكوا عليهم طفلاً، وإذا لم يجدوا رجلاً ملكوا عليهم امرأة، فقد ملكوا بعد شيرويه ولده أزدشير وهو ابن سبع سنين، وملك فرُّخ زاد خسروا ابن كسرى أبرويز وهو طفل، وملكوا بوران بنت كسرى، وملكت كذلك ابنة كسرى ثانية يقال لها أزرمي دخت (1).

وقد جرهم هذا إلى عنصرية اجتماعية خطيرة.. وقد قال البروفسور أرتهرسين يصف ذلك: (كان المجتمع الإيراني مؤسساً على اعتبار النسب والحِرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً، وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع) (2)

وكانوا مع كل هذا، مثل الرومان يغالون في تمجيد قوميتهم، ويرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم، وأن الله قد خصها بمواهب ومنح لم يشرك فيها أحداً، وكانوا ينظرون إلى الأمم حولهم نظرة ازدراء وامتهان، ويلقبونها بألقاب فيها الاحتقار والسخرية..

__________

(1) انظر: تاريخ الطبري وتاريخ إيران لمكاريوس..

(2) إيران في عهد الساسانيين، 421.

القرآن.. كلمة الله (112)

هذا عن النظام الاجتماعي أما النظام المالي، فقد كان لا يختلف جوره عن كل أنظمة الدنيا في ذلك الوقت، يقول (أرتهر كرستن سين): (كان الجباة لا يتحرزون من الخيانة واغتصاب الأموال في تقدير الضرائب وجباية الأموال، ولما كانت الضرائب تختلف كل سنة وتزيد وتنقص لم يكن دخل الدولة وخرجها مقدرين مضبوطين، وقد كانت الحرب تنشب في بعض الأحيان وليست عند الدولة أموال تنفقها على الحرب، فكان يلجئها ذلك إلى ضرائب جديدة، وكانت المقاطعات الغربية الغنية ـ وخاصة بابل ـ هدف هذه الضرائب دائماً) (1)

ما انتهى الفارسي من حديثه حتى قام آخر، وقال: أما أنا فقد جئتكم من الهند..

قام بعض الحضور، وقال: تلك البلاد التي كانت معدن الحكمة، وينبوع العدل والسياسة، وأهل الأحلام الراجحة، والآراء الفاضلة.. هكذا وصفها صاعد الأندلسي في طبقات الأمم.

قال الهندي: لكنها كانت في العهد الذي جاء فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حافة الهاوية، كانت كتلك الشجرة الذابلة التي رزقها الله إكسير الحياة.. لقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوار الهند ديانة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، أي في العهد الذي تزامن مع مجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد اشتركت الهند مع جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي، الذي شمل الأرض جميعا في ذلك الزمن.. وأخذت نصيباً غير منقوص من هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة.

لقد كان النظام الاجتماعي السائد هو نظام الطبقات الجائر المبالغ في جوره.. بل لم

__________

(1) المرجع السابق، 161.

القرآن.. كلمة الله (113)

يعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة، وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً، وخضعت له آلافاً من السنين.

وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي بتأثير الحرف والصنائع وثوراتها، وبحكم المحافظة عل خصائص السلالة الآرية المحتلة ونجابتها.

وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي، وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفق عليه البلاد وأصبح قانوناً رسمياً ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها وهو المعروف الآن بـ (منوشاستر)

يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات ممتازة وهي البراهمة، وهي طبقة الكهنة ورجال الدين.. وشتري رجال الحرب.. وويش رجال الزراعة والتجارة.. وشودر رجال الخدمة.

يقول (منو) مؤلف هذا القانون: (إن القادر المطلق قد خلق لمصلحة العالم البراهمة من فمه، وشتري من سواعده، وويش من أفخاذه، والشودر من أرجله، ووزع لهم فرائض وواجبات لصلاح العالم، فعلى البراهمة تعليم ويد، أو تقديم النذور للآلهة، وتعاطي الصدقات، وعلى الشتري حاسة الناس والتصدق وتقديم النذور ودراسة (ويد) والعزوف عن الشهوات، وعلى ويش رعي السائمة والقيام بخدمتها وتلاوة ويد والتجارة والزراعة، وليس لشودر إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث) (1)

وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة، فقد ذكر أن البراهمة هم صفوة الله، وهم ملوك الخلق، وإن ما في العالم هو ملك لهم، فإنهم أفضل

__________

(1) منوشاستر: الباب الأول، نقلا عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 51)

القرآن.. كلمة الله (114)

الخلائق وسادة الأرض، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر من غير جريرة ما شاءوا، لأن العبد لا يملك شيئاً وكل ماله لسيده.

ونص هذا القانون على أن البرهمي الذي يحفظ رك ويد (الكتاب المقدس) هو رجل مغفور له، ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطرار والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية أو يأخذ منهم إتاوة، ولا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً، وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه، أما غيره فيقتل.

أما الشتري، فإن كانوا فوق الطبقتين (ويش وشودر)، ولكنهم دون البراهمة بكثير.. يقول (منو): (إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده) (1)

أما شودر (المنبوذون)، فكانوا في المجتمع الهندي ـ بنص هذا القانون المدني الديني ـ أحط من البهائم وأذل من الكلاب، فيصرح القانون بأن من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك، وليس لهم أن يقتنوا مالاً أو يدخروا كنزاً فإن ذلك يؤذي البراهمة، وإذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً، فعلى الملك أن يكويه وينفيه من البلاد، وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه، وإذا ادعى أنه يعلمه سقي زيتاً فائراً، وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء.

أما المرأة.. فقد نزلت في هذا المجتمع منزلة الإماء، وكان الرجل قد يخسر امرأته في

__________

(1) منوشاستر الباب الحادي عشر، نقلا عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 52)

القرآن.. كلمة الله (115)

القمار، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج، فإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج، وتكون هدف الإهانات والتجريح، وأمة بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على إثر وفاة زوجها تفادياً من عذاب الحياة وشقاء الدنيا.

ما انتهى الهندي من حديثه، حتى قام آخر، وقال: أما أنا فقد جئتكم من الصين..

قام بعض الحضور، وقال: بلد كونفوشيوس.. أبو الحكمة ومعلمها.

قال الصيني: لكنها كانت في الوقت الذي تنزل فيه القرآن ميدانا للرعية الذليلة والحاكم المستبد كسائر أمم الدنيا.. لقد كانت الرعية تسمي ملكها الإمبراطور ابن السماء، وتعتقد أن السماء ذكر، والأرض أنثى.. وكان الإمبراطور ختا الأول هو بكر هذين الزوجين، وكان يعتبر كالأب الوحيد للأمة، له أن يفعل ما يشاء، وكانوا يقولون له: (أنت أبو الأمة وأمها).. ولما مات الإمبراطور (لي يان) أو (تاي تسونغ) لبست الصين ثوب الحداد، وحزنت عليه حزناً شديداً، فمنها من أثخن وجهه بالإبر، ومن قطع شعره، ومن ضرب أذنيه بجانب النعش.

قام آخر، وقال: أما أنا فقد جئتكم من مصر.. تلك البلاد التي تعرف بكونها (بلد النيل السعيد، والخير الكثير، والحضارة العظيمة).. لكنها في ذلك الحين الذي نزل فيه القرآن كانت تعيش أسوأ أيامها.. لقد كانت في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالمسيحية، وبالدولة الرومية معاً، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح، وفي فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة الألهية، وقد ظهرت في القرن السابع في شر مظاهرها، وأنهكت قوى الأمة العقلية، وأضعفت قواها العملية.. وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً تجرعت في سبيلهما من المرائر في عشر سنين ما ذاقته أوربا في عهد التفتيش الديني في عقود من السنين، فألهاها ذلك عن كل وطر من

القرآن.. كلمة الله (116)

أوطار الحياة، وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية رغم كونها مستعمرة رومية، ولا هي تتمتع بالحرية الدينية والعقلية، رغم كونها مسيحية (1).

لقد قال الدكتور غوستاف لوبون في كتابه المعروف (حضارة العرب) يصف ذلك: (لقد أكرهت مصر على انتحال المسيحية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن، وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين) (2)

وفوق هذا، فقد اتخذها الروم شاة حلوباً يستنزفون مواردها، ويمتصون دماءها، يقول ألفرد: (إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد.. مما لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل) (3)

وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها، وكدر عليها صفو حياتها، وألهاها عن كل مكرمة.

قام آخر، وقال: وهكذا كان الحال في كل قارة أوروبا.. تلك التي قدمت لكم من

__________

(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 35)

(2) حضارة العرب، تعريب عادل زعيتر: 336.

(3) فتح العرب لمصر:47.

القرآن.. كلمة الله (117)

قطر من أقطارها.. فقد كانت ـ في ذلك الحين ـ تتسكع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية، والحروب الدامية، لم ينبثق فيها فجر الحضارة والعلم بعد، ولم تظهر على مسرحها الأندلس لتؤدي رسالتها في العلم والمدنية، ولم تصهرها الحوادث، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية بعيدة عنها، لا تعرف عن العالم ولا يعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلاً، ولم تكن ـ مما يجري في الشرق والغرب مما يغير وجه التاريخ ـ في عير ولا نفير، وكانت بين مسيحية وليدة، ووثنية شائبة، ولم تكن بذات رسالة في الدين، ولا بذات راية في السياسة (1).

لقد قال بعض المؤرخين يصف وضعها في زمن تنزل القرآن الكريم: (لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً، قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا وفرنسا، فريسة الدمار والفوضى والخراب) (2)

قام آخر، وقال: وهكذا كان الحال في آسيا الوسطى.. بلد المغول والترك واليابانيين.. فقد كانت هذه الشعوب ـ في ذلك الوقت ـ بين بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروة علمية، ولا نظاماً سياسياً راقياً.

ج ـ اتفاقات وموافقات

بعد استماعي لهذه الأحاديث وتسجيلها، وجدت نفسي بعيدا عن تلك الحديقة

__________

(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 37)

(2) نقلا عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 37)

القرآن.. كلمة الله (118)

الجميلة، وعن المجلس المقام فيها، والعامر بالإيمان والمؤمنين.. ووجدتني بدل ذلك جالسا في رحاب مدرج كبير يشبه مدرجات الجامعات، وقد وقف على المنصة شخص تبدو عليه ملامح بعض الأساتذة الكبار الذين كنت أعرفهم.

وكان أول ما طرق سمعي في ذلك المجلس الجديد قول بعض الجالسين على كراسي المدرج: سمعنا كل ما ذكرت حول البيئة التي كان يعيش فيها محمد.. ولكنا مع ذلك نصر على ما ذهب إليه أكثر أساتذة جامعتنا.. جامعة السربون العتيقة.. بكون القرآن تأثر ببيئته.. ألا ترى القرآن مثلا يستعمل الكثير من المفردات التي كانت سائدة في تلك البيئة.. بل يقر الكثير من سلوكاتها؟

قام آخر، وقال: ومن الأدلة على تأثر القرآن ببيئته استعماله لنفس التعابير التي تتناسب مع تلك البيئة التي تنزل فيها، فهو يصف نعيم الآخرة والجنات التي تحتها الأنهار.. والحور والقصور بالطريقة التي تتناسب مع عيشة العرب الشديدة القاسية حينذاك (1).

قال آخر: انظروا إلى هذه الآية: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 ـ 20].. إنه يصف المشاهد التي يراها البدوي في الصحراء.. ابتداء من الناقة وانتهاء بالأرض التي تسير عليها.

بعد أن سكت الجميع، قال الأستاذ: هل تأذنون لي بعد أن ذكرتم ما لديكم أن أجيبكم؟

قام بعضهم، وقال: وهل لك ما تجيبنا به.. إن أساتذتنا ذكروا لنا أن هذا مما يتوقف المسلمون في الإجابة عليه.

__________

(1) رددنا على هذا بتفصيل أكبر في: الكلمات المقدسة (ص 151)

القرآن.. كلمة الله (119)

قال الأستاذ: لا بأس.. يمكنكم الاستماع لي.. وبعدها تستطيعون أن تحددوا موقفكم بدقة بعيدا عن الإملاءات التي أملاها عليكم أساتذتكم.

سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنكم قرأتم القرآن جميعا.. فأصل تخصصاتكم العلمية مرتبط به.. حتى لو كنتم تنقدونه؛ فأنتم مضطرون لقراءته؛ فلا يصح أن نحكم على شيء من غير أن نتعرف عليه بدقة.

قالوا: أجل.. لك الحق في ذلك.

قال: ألم تمروا عند قراءتكم للقرآن على نقده الشديد للعقائد والسلوكات والقيم التي كان يتبناها أهل عصره من الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم؟

قالوا: بلى.. والقرآن مليء بذلك.. ولذلك اجتمعوا جميعا على حربه.

قال: فهذا كاف لإجابتكم.

قالوا: نحن لا نسألك عن مخالفاته لبيئته.. بل موافقاته لها.

قال: لقد ورد في القرآن هذه الآية التي تبين غرض تنزله، وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28].. وهي تدل على أن مقصده تصحيح كل الأوضاع الخاطئة التي كانت عليها الأديان، ليصبح الحق هو المهيمن.. لا تلك الأهواء التي سيطرت على العقول، وحُرفت بسببها الأديان.

وهذا الهدف لا يستدعي أبدا مخالفة كل شيء.. بل يستدعي أحيانا كثيرة البدء بما هو موجود، ثم الانطلاق بعده للتغيير الشامل.

سأضرب لكم مثالا مما اعترض به بعضكم على القرآن.. وهو قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى

القرآن.. كلمة الله (120)

الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 ـ 20]

أجل.. البيئة العربية واضحة في هذه الآيات.. فلم يذكر القرآن الزرافة ولا الغزلان.. بل ذكر الإبل.. ولم يذكر البحار، بل ذكر الجبال.. والذي يعترض على هذا لم يقرأ مقدمة الآية.. إنها تدعوهم إلى النظر.. ونظر العبرة ينصرف إلى أقرب مذكور، أم أنكم تريدون أن ينقلهم إلى حديقة الحيوانات ليتأملوا صنعة الله.. وكأن صنعة الله حكر على مكان دون مكان.

بالإضافة إلى ذلك.. إذا تأملنا لفظ (الإبل)، وننظر إلى غاية ذكرها في القرآن، وقارنا بينها وبين غاية ذكرها في الشعر الجاهلي نجد اختلافا كبيرا.. ففي الشعر الجاهلي نجد الوصف الطويل لها.. باعتباره تقليدا ورثه الشعراء في أشعارهم.. بينما القرآن يأمر بالنظر إلى الإبل للتعرف على الله وعلى قدرات الله وعلى أفضال الله.. والقرآن بذلك ينقلهم من عالم إلى عالم.. نعم هو استعمل عالمهم.. ولا بد أن يستعمل ما عرفوه لينتقل بهم إلى ما لم يعرفوه.

ونفس الشيء ينطبق على القصص التي ذكرها القرآن.. فهو في هذا المجال بين أمرين لا ثالث لهما.. بين أن يأتي بقصص يعرفها الناس، ويعرفون تواريخها، والمحال التي حصلت فيها، ليجعل من ذلك ميدان عبرة يربي على أساسه الناس.. أو أن يأتي بقصص جديدة، سيتيه الناس في البحث عن حقيقتها، وتاريخها، ومحالها، وينشغلون بكل ذلك عن المعاني التي جاء القرآن لتقريرها (1).

قام بعض القوم، وقال: ولكن لم اختار القرآن القصص الواردة في الكتاب المقدس.. لم لم يختر غيرها؟

__________

(1) وقد ورد القرآن بمثل هذا النوع من القصص كقصة أهل الكهف وعاد وثمود وغيرها.

القرآن.. كلمة الله (121)

قال الأستاذ: ولو اختار غيرها من قصص الهنود أو الفرس لقلتم: إن القرآن مقتبس من الهنود أو الفرس.. هو لن ينجو لا محالة من اتهاماتكم.. ولكنه مع ذلك اختار القصص التي في الكتاب المقدس.. لأنه يعترف به كتابا مقدسا من جهة.. ويعترف بما حصل فيه من تحريف، ويذكر أن من أهدافه تقويم تلك التحريفات من جهة أخرى.

وبعد ذلك، فإن تلك القصص حدثت على الأرض التي نزل فيها، أو قريبا منها، ولهذا ترى القرآن يأمر بالاعتبار بتلك القرى التي لا تزال آثار هلاكها.. اسمع ما قال القرآن في لوط وقومه: ﴿وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: 133 ـ 138].. وهو يقول عن غيرهم: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [النمل: 69]، ويقول: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ [الروم: 42]

إن القرآن كتاب هداية.. ولذلك لا تهمه القصص بقدر ما تهمه العبر التي يستفاد منها، ولذلك هو يخاطب الناس بالقصص التي يعرفونها ليربيهم بها.

قام بعض الجالسين، وقال: لقد ذكرني حديثك هذا بمقولة للشيخ رشيد رضا يقول فيها: (من نظر فى قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف من سفر التكوين، وسيرة موسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء فى سائر أسفار العهد القديم، ثم قرأ هذه القصص فى القرآن يرى الفرق العظيم فى الاهتداء بسيرة هؤلاء الأنبياء العظام.. ففي أسفار العهد القديم يرى وصف الله تعالى بما لا يليق به من الجهل والندم على خلق البشر والانتقام منهم، ووصف الأنبياء أيضا بما لا يليق بهم من المعاصى مما هو قدوة سوأى، من حيث يجد فى قصص القرآن من حكمة الله تعالى ورحمته وعدله وفضله وسننه فى خلقه،

القرآن.. كلمة الله (122)

ومن وصف أنبيائه ورسله بالكمال، وأحاسن الأعمال، ما هو قدوة صالحة وأسوة حسنة تزيد قارئها إيمانا وهدى، فأخبار الأنبياء فى كتب العهدين تشبه بستانا فيه كثير من الشجر والعشب والشوك، والثمار والأزهار والحشرات، وأخبارهم فى القرآن تشبه العطر المستخرج من تلك الأزهار، والعسل المشتار من جنى الثمار، ويرى فيه رياضا أخرى جمعت جمال الكون كلّه) (1)

قام آخر، وقال: لا بأس.. ربما نسلم لك بهذا.. ولكن ألا ترى أن القرآن قد يخرج أحيانا عن قصص الكتاب المقدس ليؤلف قصصا جديدة.. فكيف نثق في كونها قصصا صادقة؟

ابتسم الأستاذ، وقال: أرأيت.. أنتم تضعون للقرآن فخين إن نجا من أحدهما وقع في الآخر.. إن وافقت قصصه قصص الكتاب المقدس قلتم: سارق، وإن جاء بقصص أخرى لا تعرفونها قلتم: كاذب.

سكت قليلا، ثم قال: نعم في القرآن قصص جديدة لتواريخ لا نعرفها.. والقرآن نبه إلى عدم أهمية البحث فيها..

فلنأخذ قصة أهل الكهف مثلا.. القرآن يقص علينا قصتهم، فيقول: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 9 ـ 13] إلى آخر الآيات التي تقص قصتهم.

بهذا اكتفى القرآن من القصة.. إنهم فتية مؤمنون ضحوا في سبيل إيمانهم بالحياة الهنية

__________

(1) الوحي المحمدي (ص 44)

القرآن.. كلمة الله (123)

التي ينعم بها سائر الناس، وأووا في سبيل إيمانهم إلى كهف جعله الله محل رحمة لهم.. وقد جعلهم الله لذلك آية.. بهذا اكتفى القرآن ليملأ القلب بروعة الإيمان، وبعظمة ارتباط الفتوة بالإيمان، وبعظمة إكرام الله لمن آوى إليه.

قام آخر، وقال: الأمر لا يرتبط بالقصص فقط.. إننا نجد الكثير من العقائد الموجودة في الكتاب المقدس موجودة في القرآن.. فكيف تذكر أن القرآن وحي إلهي، وليس ابنا لتلك المصادر؟

قال الأستاذ: بما أن صاحبك ذكر كلاما للشيخ رشيد رضا حول الموضوع، فسأذكر لك بعض ما قاله في هذا، ويمكنك أن تقارن بين القرآن الكريم والكتاب المقدس لتكتشف هذا، لقد قال: (لا يرتاب العقل المستقل الفكر غير المقلد لدين من الأديان أنّ عقائد الإسلام من توحيد الله وتنزيهه عن كل نقص، ووصفه بصفات الكمال، والاستدلال عليها بالدلائل العقلية والعلمية الكونية، ومن بيان هداية رسله، ومن عباداته وآدابه المزكية للنفس المرقية للعقل، ومن شريعة العدل، وحكمه الشورى المرقى للاجتماع البشرى.. كل ذلك أرقى مما فى التوراة والأناجيل وسائر كتب العهد القديم والجديد، بل هو الإصلاح الذي بلغ به دين الله أعلى الكمال، ويشهد بهذا علماء الإفرنج) (1)

2. الأخلاق العالية

بعد أن استمعت لتلك الأحاديث التي جرت في بعض مدرجات جامعة السربون، والتي اجتمع فيها المرتابون والمشككون، ومن يواجههم من العلماء والصالحين.. وجدت نفسي في مجلس آخر مختلف تماما.. كله علم وصلاح وتقوى وأدب.

كان مجسا نظيفا هادئا ممتلئا بعبق السلام والطمأنينة.. وكان الجميع يصلون بصوت

__________

(1) المرجع السابق، (ص 44)

القرآن.. كلمة الله (124)

واحد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخشوع عظيم، وكأنه بين أيديهم، أو كأنهم بين يديه..

بعد انتهائهم قام شيخ له هيبة ووقار، وجلس في صدر المجلس، وقال: اسمحوا لي أن أحدثكم اليوم عن أمر لم أكن حدثتكم به من قبل، لأنه يتعلق بشخصي الضعيف الفقير.. ولم أر سابقا مناسبة تحتاج لذلك.. لكني أراها اليوم.

قال ذلك، ثم أشار إلي يحييني، وهو يبتسم، ثم توجه للحضور، وقال: أنتم تعلمون أني قدمت لهذه البلاد منذ ما يقارب أربعين سنة.. وقد كنت بينكم كأحدكم يستفيد بعضنا من بعض، ويتعلم بعضنا من بعض، وربما كان الذي استفدته منكم أكثر بكثير من الذي استفدتموه مني.

قام بعض الحضور، وقال: كيف تقول هذا سيدنا.. وأنت الذي أنقذتنا من كل جهالة وضلالة..

قال آخر: بل كنا قبلك موتى فأحييتنا، وضالين فهديتنا..

قال آخر: لقد كانت هذه المدينة التي نسكنها مدينة أشباح ولصوص.. فتحولت بفضل هدايتكم إلى مدينة علم وورع وأخلاق.

قال الشيخ: بورك فيكم، وفي كلماتكم الطيبة.. ولولا نفوسكم الطاهرة، وقلوبكم السليمة، ما استقبلتم مواعظي التي كنت أوجهها لكم.

قال بعض الحضور: بل لولا أخلاقك العالية التي جبرتنا على أن نستمع لك ما استمعنا.. نحن نذكر جيدا كيف كنا نجهل عليك، فتحلم علينا.. وكيف كنا نسيء إليك؛ فترد علينا بالتي هي أحسن.. إلى أن جعلتنا أسارى كرمك ولطفك وتواضعك وصدقك.. وهو ما سمح بعد ذلك لكلماتك المنورة بنور الإيمان أن تكسر كل الجدران القاسية في عقولنا وقلوبنا.

القرآن.. كلمة الله (125)

قال الشيخ: ولأجل هذا أردت أن أحدثكم.. فقد كنت مثلكم قبل أن تتنوروا بنور الإيمان.. إلى أن منّ الله علي بمعرفة الصادق الأمين.. وحينها تحولت حياتي إلى ما رأيتموه وأشدتم به.

لقد كنت قبل أن أعرفه جاهلا ضالا منحرفا عن كل القيم الفاضلة.. ولم تستطع كل كتب الدنيا أن تؤثر في.. لكني عندما عرفته، وأحببته.. حلت مع حبه كل المكارم والفضائل.. فحبه مدرسة للأخلاق والفضائل.

قال رجل من القوم: من تقصد مولانا بقولك؟

قال: ذاك الذي كنا نصلي عليه.. ذاك الذي وصفه الله تعالى فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].. ذاك الذي قال له ربه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].. ذاك الذي أجمع كل من رآه على أخلاقه العالية، وصفاته النبيلة.

لقد كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي دليلي إليه.. وكانت هي دليلي إلى الإسلام.. بل كانت هي دليلي قبل ذلك كله إلى الإيمان بالله..

لقد نشأت في بيئة لا تعرف الله.. وليس لها من دين سوى الإلحاد.. وكنت أرى فيها كل ما يفرزه الإلحاد من أنانية وحرص وجشع وصراع..

وفي شبابي بدا لي أن أدرس حياة العظماء والعباقرة الذين كانت لهم آثارهم الواضحة في التاريخ.. وكان أكثر من شدني منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد رأيت أن آثاره أكبر من آثار كل من عرفتهم.

وعندما درست سر ذلك التأثير، وجدته في الرسالة التي جاء بها، والقرآن الذي هو

القرآن.. كلمة الله (126)

كلمات الله وعهده إلى عباده..

وطبعا.. رحت أبحث في مصدر القرآن.. وفي طريقي تعرفت على الكثير من المرتابين والمشككين.. لكن واحدا من الذين التقيتهم بدد كل شكوكي، وبكلمات قليلة بسيطة.

لقد قال لي، وهو يحاورني: هل يمكن لشخص عُرف، ولأربعين سنة بين قومه بالصادق الأمين أن يتحول، وفي لحظة واحدة إلى الكاذب الخائن.. ولغير مصلحة من المصالح.

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد عُرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين قومه، ومنذ صباه الباكر بالطهارة والصدق والنبل وكل المكارم.. وظل على ذلك السلوك في شبابه وكهولته.. حتى أنه عندما تنزل عليه الوحي قام بينهم، وسألهم عنه وعن مدى صدقه معهم.. فأجابوه جميعا بأنهم لم يعهدوا منه كذبا قط.. حينها أبلغهم بأن وحي الله قد تنزل عليه.. وهنا بدأ تكذيبهم له (1).

قلت: ألا يمكن أن يكون قد تغير.. نحن نرى ذلك في الواقع.. الشخص يكون صادقا أمينا.. ثم لا يلبث حتى يتحول إلى كاذب خائن؟

قال: ولم يتحول؟

قلت: لتحقيق مصالح معينة لا يمكن تحقيقها إلا بالكذب والخيانة.

__________

(1) أشير إلى ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد على الصّفا فجعل ينادي: (يا بني فهر، يا بني عديّ) لبطون قريش حتّى اجتمعوا، فجعل الرّجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟) قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلّا صدقا.. قال: (فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 1،5]) [البخاري (4770)

القرآن.. كلمة الله (127)

قال: فإن استطاع هذا الشخص بالصدق أن ينال مصالحه.. هل يلجأ إلى الكذب؟

قلت: لا.. الكذب ضرورة.. والكل يحب أن ينال مصالحه بالصدق والأمانة.. لا بالكذب والخيانة.

قال: فقد كان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحقق ما يشاء من المصالح الدنيوية إن ذكر لهم أن كل تلك الكلمات التي تنزلت عليه كلماته، وليست كلمات الله.. لأنه كان بين قوم يعبدون الفصاحة والبلاغة.. وحينها لم يكن محتاجا لكل التكاليف الشاقة، والآلام الشديدة التي حصلت له.

قلت: فلم لم يفعل ذلك؟

قال: لأنه صادق.. الوحي كان يتنزل عليه من الله.. ولم تكن الكلمات كلماته.. بل كانت كلمات الله.. ولو ادعى أنها كلماته لكان كاذبا وخائنا.

قلت: إن إثبات ذلك صعب.

قال: بل يسير جدا.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ذكر لهم أن تلك الكلمات كلمات الله.. راحوا يستعملون كل وسائل الترغيب ليثنوه عنها.. فلم ينثن.. بل كان يخبرهم أنه لا طمع له في مال ولا جاه ولا ملك.. بل كل دوره أن يؤدي رسالة الله التي كلف بها.. لقد ورد في القرآن الكريم هذه الآيات: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20].. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 82].. ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48].. ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [التغابن: 12]

القرآن.. كلمة الله (128)

وكان يخبرهم أنه لا يرغب في أي أجر من الأجور التي يدعونه لها في حال تركه لدعوته.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90].. ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [المؤمنون: 72]

بل كان فوق ذلك زاهد، لا يطمع في أي مكسب من تلك المكاسب التي يحلم بها الكذبة والخونة.. بل كان وحي الله الذي يتنزل عليه ـ والذي يزعم أعداؤه أنه اختلقه من عنده ـ يدعوه إلى كل ذلك.. لقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131]

وحينما اشتكى أهله تلك الحال الشديدة التي كانوا يعيشون عليها من الفاقة، وطلبوا منه تحسين وضعية معيشتهم أنزل الله عليه قوله: ﴿﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 28 ـ 29]

أخبرني.. هل يمكن للكاذب أن يذكر هذا، ليحقق مصالحه.. وأي مصالح هذه التي يحققها بالزهد وضيق العيش؟

قلت: إننا نجد بعض الناس يصبرون فترة على ضنك العيش، لينعموا بعدها.. ولسنين طويلة.

قال: ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ظل على تلك الحال طول حياته.. لقد ظل على محبته للفقراء والمساكين.. وكان يعيش بينهم ومعهم، يأكل مثلما يأكلون ويلبس مثلما يلبسون.. في الوقت الذي كان المستكبرون يدعونه فيه إلى حياة الرفاه التي تبدأ من طرد أولئك المساكين.. لقد قال الله تعالى له: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ

القرآن.. كلمة الله (129)

مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]، وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]

لقد حدث بعض أصحابه، فقال: (كانت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصال ليست في الجبّارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شيء) (1)

وحدث عنه صاحبه وتلميذه الأكبر الإمام علي، فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده) (2)

ومع ما أتاح الله في المدينة من التمكين والسلطة إلا أنه كان حليما متسامحا مع الجميع.. قالت زوجته عائشة تحدث عنه: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا بيده، ولا ضرب مولى له، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله تعالى) (3)

وكان أكثر الناس رحمة ورقة ولطفا.. ولذلك كان يحزن كثيرا على أولئك الذين

__________

(1) رواه ابن سعد، سبل الهدى (7/ 31)

(2) بحار الأنوار (16/ 231)

(3) مسلم 4/ 1814 (79/ 2328)

القرآن.. كلمة الله (130)

يعرضون عن الإيمان.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، ونهاه عنه، فقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ (1) أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]، وقال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6].. بل إنه من حرصه الشديد على إيمان الكفرة الذين كانوا يحاربونه، ود لو يجيبهم لكل آية يطلبونها، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: 35] (2)

قلت حينها بكل برودة: طبعا.. كل داعية يحب كثرة الأتباع.. ولاشك أن محمدا منهم.

قال: لو كان قصده المجرد هو كثرة الأتباع، لكان ذلك ممكنا له من غير ادعاء النبوة، ولا تنزل القرآن.. كان يكفية أن يتكلم بسورة واحدة، أو بآية واحدة، مما كان المشركون يطلبونه، ليتحول إلى رئيس لا لأهل بلدته فقط، بل للعرب جميعا.. ولكنه كان يرفض كل المساومات.. ولا يبتغي بالحق بديلا.

لقد قال لسادة قومه عندما أرسلوا إليه يطلبون الكف عن دعوته، مقابل إعطائه كل ما يرغب فيه: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر

__________

(1) قال الزمخشري [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 298)]: (البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا)

(2) قال الزمخشري في تفسيرها [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 19)]: (والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يودّ أن يجابوا إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون)

القرآن.. كلمة الله (131)

حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) (1)

وعندما رأى بعض سادة المشركين فيه مخايل النجابة والعبقرية، وعلم أنه سيكون له شأن عظيم، وأن دعوته ستنتصر؛ راح يبتهل الفرصة، ويقول لصاحبه، وهو يحاوره: (والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب)، ثم راح يساومه في تلك الأوقات الصعبة، قائلا: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟)، حينها قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل هدوء، في الوقت الذي كان محتاجا فيه لمن ينصره، ويعينه على قومه المناوئين له: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)، فقال له المشرك: (أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك) (2)

وهكذا كان يسلم كل أموره لله في عبودية وتواضع شديد.. وإنك لتجد ذلك واضحا في القرآن الكريم.. قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]

وقد روي في الحديث عن أم العلاء قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين؛ فاشتكى فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال: وما يدريك؟ قلت: لا أدري والله، قال: أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري وأنا رسول الله مايفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فوالله لا

__________

(1) الروض الأنف (3/ 45)

(2) سيرة ابن هشام (1/ 424)

القرآن.. كلمة الله (132)

أزكي احدا بعده (1).

وهكذا ظل صاحبي يحدثني عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويبعد عني كل الوساوس والشكوك التي تحول بيني وبينه، ويرشدني في كل ذلك إلى العودة إلى القرآن الكريم.. إلى أن شعرت في يوم من الأيام بمحبة عظيمة لذلك النبي الكريم الذي عاش زاهدا عابدا متواضعا.. ومع ذلك ترك رسالة لم تزل الأيام تلهج بها وتنادي.

وعند ذاك شعرت بشوق للتواصل مع هذا النبي الكريم.. وعندما سألت صاحبي عن كيفية تحقيق ذلك ابتسم، وقال: هلم معي إلى المجالس التي ينور فيها قلبك، وتسعد فيها بصحبته في الدنيا.. وتكون زادك لصحبته في الآخرة.

ثم أخذ بيدي لمجلس مثل هذا المجلس.. وهناك تعلمت كيف أتواصل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أعيش بقربه، متعلما من أخلاقه، ومقتبسا من روحانيته..

وبعد أن امتلأت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي بتلك الروحانية الجميلة، جاءني صاحبي، وقال: ألا تريد أن تقتدي بذلك الذي أحببته؟

قلت: بلى.. فالمحبوب الذي لا يقتدي بمحبوبه كاذب.

قال: إن في أرض الله أرضا قد غزاها القحط، وهي تحتاج إلى أن تتنزل عليها أمطار القداسة، لتهتدي سواء السبيل.. فهل يمكنك أن تصير سحابة ترويها؟

قلت: أنا عبد ضعيف فقير.. وأنا أحوج إلى إصلاح نفسي مني إلى إصلاح غيري.

قال: فسر هناك وأصلح نفسك وهذبها.. وسترى كيف تنتشر الهداية بكل صمت وهدوء..

عندها حزمت أمتعتي وجئت إلى مدينتكم.. لأتأدب على أيديكم، وتتأدبون على

__________

(1) البخاري: 2/ 91 وفي 3/ 238 و9/ 44.

القرآن.. كلمة الله (133)

يدي..

قال ذلك، ثم نظر إلي مبتسما، وهو يقول: لا تنس حرفا واحدا مما حصل.. فمعلم القرآن ائتمنك على ذلك.. ولا يصح لمن جعل الصادق الأمين قدوته أن يفرط في الأمانة.

3. الوحي الإلهي

فجأة، ومن غير مقدمات، وجدتني أفارق ذلك المجلس المنور بنور الإيمان، لأجد نفسي في ساحة حديقة صغيرة مملوءة بألعاب الأطفال.. وقد شعرت حينها بالكثير من الراحة والسعادة، وأنا أنظر إليهم، وأتذكر بنظري صباي وطفولتي.

وبينما أنا كذلك، رأيت صبيا صغيرا يسقط من شجرة أراد الصعود إليها؛ فأسرعت إليه، وأسرع معي الكثير من الصبية.. وبعد أن اطمأننا عليه وعلى سلامته، قال له بعض الصبية: ألم نوحِ إليك سابقا ألا تجرب الصعود ثانية إلى هذه الشجرة؛ فأنت أصغر من أن تصعد إليها؟

تعجبت من ذكره لهذه الكلمة في هذا المحل، فقلت له مصححا: لا تقل هذا يا بني.. قل: أخبرتك.. أو أعلمتك.. أو نصحتك.. أو أنذرتك.. أو أشرت إليك.. أو أي لفظة من الألفاظ التي تعبر عن مقصودك.. أما كلمة [الوحي]؛ فهي مقدسة لا يصح إطلاقها إلا على وحي الله لأنبيائه بكلماته المقدسة.

نظر إلي الصبي، ومثله سائر الصبية متعجبين، وقال: فما تقول في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: 68].. هل تراها تعني أن الله تعالى أوحى إلى النحل كتبا مقدسة، أم أن معناها إلهام الله لها لتفعل ما يتناسب مع طبيعتها، ومصالح الخلق؟.. أو أنها تشير إلى أن النحل تسير وفق فطرتها، وتستوحي من باطن غريزتها، مذللة لما أودع فيها من غريزة العمل المنتظم، ومن ثم

القرآن.. كلمة الله (134)

فهي لا تحيد عن تلك السبيل؟

قال آخر: وما تقول في قوله تعالى عن الأرض يوم الزلزلة الكبرى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: 4 ـ 5].. والتي اتفق المفسرون على أن معناها أمر الله تعالى لها بذلك.. أي بأن تنشق عنهم، وتزلزل.

قال آخر: وما تقول في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7].. أليس المراد منه إلهامها بذلك؟

قال آخر: وما تقول في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].. فهل ترى أن وحي الشيطان مقدس، أم أنه ليس سوى تلك الوسوسة التي عبر عنها قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]، وقد ذكر المفسرون أن ذلك الوحي هو عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس.. وأنه سمي وحياً؛ لأنه إنما يكون خفية، وليس علانية.

قال آخر: وما تقول في قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12].. أليس معناها: قدر.. وهو ما فهمه بعض الشعراء، فقال:

أوحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت (1)

لم أدر ما أقول لهم؛ فقد تعجبت من سرعة بديهتهم، ومن معارفهم التي لا تتناسب مع أعمارهم، لكني أحببت أن أجادلهم، فقلت: لكن أكثر ما ورد في القرآن الكريم من لفظ

__________

(1) لسان العرب: ج 15 ص 380.

القرآن.. كلمة الله (135)

الوحي لا يقصد به إلا الوحي الإلهي المقدس.

قال أحد الصبية: أجل.. كلامك صحيح.. ولكنه لا يعني انفراد لفظ الوحي بالمقدس والقداسة.. وحتى لو لم يرد في القرآن إلا لفظة واحدة لا تعني القداسة؛ فإن ذلك يدل على جواز استخدامها في غيرها.

قال آخر: استخدام القرآن الكريم لهذه اللفظة في المقدس وغيره دليل على أن هذا الوحي يجده كل الناس، ويعرفونه.. وأنه لا فرق بين الوحي الإلهي وغيره إلا في المصدر الذي نبع منه.. فإن كان من الله، فهو وحي إلهي، وإن كان من الشيطان، فهو وحي شيطاني.. وهكذا.

قال آخر: ألم تسمع إلى الله تعالى، وهو يحكي عن زكريا عليه السلام، وما أشار به إلى قومه، قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11]

قال آخر: حتى ذلك التلباثي الذي يذكره المهتمون بعلم النفس والروحانيات.. ويطلقون عليه (التخاطر من بعيد) هو نوع من الوحي..

قال آخر: أجل.. وقد بحثت في ذلك كثيرا.. إنه خطور باطني آني لا يُعرف مصدره.. فبعضهم يذكر أنها فكرة تنتقل من ذهن إنسان الى آخر، والمسافة بينهما شاسعة.. وبعضهم يذكر أنه إلقاء روحي من قبل أرواح عالية أو سافلة (1).. وبعضهم يذكر أنها فكرة رحمانية توحيها الملائكة، وتنفثها في روع إنسان يريد الله هدايته، أو وسوسة شيطانية تلقيها أبالسة الجن لغرض غوايته.

قال آخر: أجل.. وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على هذا، وهو قوله تعالى:

__________

(1) مفصل الإنسان روح لا جسد: ج 1 ص 542.

القرآن.. كلمة الله (136)

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7 ـ 10]

قال آخر: وقد ورد في الحديث ما يشير إلى كيفية ذلك؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة؛ فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق؛ فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان) (1)

قال آخر: وبذلك فإن كل الناس يوحي إليهم في كل لحظة.. ذلك أنهم بين أن يكونوا من المتقين؛ فتستقبل قلوبهم وحي الملائكة، أو يكونوا من المنحرفين؛ فتستقبل وحي الشياطين.

قال آخر: ولهذا أمرنا الله تعالى بالاستعاذة من الوسوسة التي ليست سوى وحي شيطاني.. كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس: 1 ـ 6]

أردت أن أستفزهم، فقلت: أرى أنكم لا تعرفون من الوحي إلا ما خلا من القداسة، وبرئ منها.

قال أحدهم: كيف تقول هذا؟.. أليس وحي الملائكة ووعظهم للخلق مقدسا؟.. أليس وحي الله للنحل وهدايتها مقدسا؟.. فكل ما هو من الله مقدس.. وكل ما هو من الشياطين مدنس.

قلت: فأين تضعون وحي الله لأنبيائه.. ذلك الذي قال الله تعالى فيه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ

__________

(1) الترمذي (2988)، والنسائي في الكبرى (9550)

القرآن.. كلمة الله (137)

وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163].. وقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3].. وقال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123]

قال أحدهم: هو لا يختلف عن سائر أنواع الوحي.. الفرق فقط في المستقبل.

قلت: ما هذا الذي تقوله.. إنه خطير وعظيم.. بل لعله الكفر بعينه.

قال: لا تستعجل يا عم.. فالتكفير من شأن المتطرفين الجهلة.. لا من شأن الحكماء وتلامذة القرآن الكريم.. ألم يعلمك معلموك هذا؟

قلت: ولكن ما ذكرته استفزني وأثارني.. فأنت تؤيد من حيث لا تشعر قول الذين يزعمون أن النبوة مكتسبة.

قال: معاذ الله أن أقول ذلك.. فالنبوة اصطفاء إلهي خاص، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]، وقال مخاطبا موسى عليه السلام: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144]، وقال عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]

قلت: فكيف تجمع بين ما قلت وهذا؟

قال: ذلك يسير جدا؛ فالنبوة اصطفاء إلهي لمن تتوفر فيهم القابلية والمؤهلات لذلك.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]؛ فقد طلب هؤلاء المتعنتون المتجبرون أن

القرآن.. كلمة الله (138)

يتحقق لهم ما يتحقق للرسل عليهم السلام من تنزل الوحي إليهم، فأخبرهم الله تعالى أنه لا تتوفر لديهم قابلية ذلك.

قلت: أجل.. وقد ذكرتني بقوله تعالى عن قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واقتراحهم على الله بأن يجعل النبوة في بعض عظمائهم، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]

قال: وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32] وهي تعني أن النبوة اصطفاء إلهي، لمن توفرت فيه الشروط التي تؤهله لذلك.

قلت: ألا ترى أن قولك هذا ينفي اصطفاء غير الأنبياء.. وهو ما يتناقض مع قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: 32]

قال: معاذ الله أن أكذب حرفا من القرآن الكريم.. هذه الآية تشير إلى ما يطلق عليه معلمنا [معلم القرآن] الإلهام التأويلي.. أو التنزل التأويلي.

قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟

قال: للوحي الإلهي تنزلان.. أولهما يطلق عليه [التنزيل]، والثاني يطلق عليه [التأويل].. والأول واضح.. وهو كلمات الله المنزلة على رسله بحروفها.. والثاني هو تلك الفهوم المرتبطة بالوحي.. والتي منها ما يصح، فيعتبر تأويلا صحيحا تابعا للتنزيل ومؤكدا له.. ومنها ما ينحرف، وحينها يسمى وسوسة ووحيا شيطانيا.

قلت: هل تقصد قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ

القرآن.. كلمة الله (139)

أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]

قال: أجل.. فالآية الكريمة تدل على كلا المعنيين.. التأويل والتنزيل.. ويشير إلى المنحرف من التأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [الحج: 52 ـ 53]

قلت: فالتنزيل خاص بالرسل عليهم السلام..

قال: أجل.. لا لكمالهم وقابليتهم فقط.. بل لحاجة الخلق إلى ذلك التنزيل.. فالوحي الإلهي نابع من عناية الله تعالى بعباده.. لأنه السبيل الذي يتواصل به الله تعالى معهم، ليعرفهم بحقيقتهم ووظيفتهم.

قلت: فكيف نفرق بين الوحي المرتبط بالتنزيل وغيره؟

قال: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51].. ثم قال بعدها: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]

قلت: لم أفهم.. ما يعني هذا؟

قال: الإلهام العادي يجده الإنسان في نفسه من غير معرفة مصدره بدقة بخلاف الوحي الإلهي الذي يعرف الموحى إليه بأنه موحى إليه من الله.. وقد يظهر ذلك الوحي

القرآن.. كلمة الله (140)

بصور متعددة أشارت إليها تلك الآية الكريمة.. والتي ذكرت ثلاثة وسائل لاتصال الله بأنبيائه.. أولها الوحى، وهو إلقاء المعنى فى القلب، والذي يُعبر عنه بالنفث فى الرّوع.. والثاني: الكلام من وراء حجاب: وهو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه كما سمع موسى عليه السلام النداء من وراء الشجرة.. والثالث: ما يلقيه ملك الوحى المرسل من الله إلى رسول الله فيراه متمثلا بصورة رجل، أو غير متمثل، ويسمعه منه أو يعيه بقلبه.

قلت: ألا ترى أن الوحي بهذه الصور التي ذكرتها قد يختلط مع غيره... ألا يمكن أن يدعي الكهان والسحرة والمنجمون.. وكل أولئك الذين يزعمون التواصل مع الغيب أنهم يوحى إليهم؟.. فكيف تتحقق العناية الإلهية أمام كل هذا؟

قال: الوحي المرتبط بالنبوة لا يتحقق إلا للأنبياء.. وهم يحملون ختما من الله تعالى يدل على كونهم كذلك.. ولذلك لا يقبل منهم إلا بعد إثبات ذلك الختم.

قلت: لم أفهم.

قال: ألم تسمع قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49]

قلت: بلى.. فالمسيح عليه السلام يستدل لنبوته بتلك الآيات البينات.

قال: فذلك هو الختم الإلهي الدال على صدق النبي.. ولهذا أقر الله تعالى من طلبوا الآيات وأجابهم إلى طلبهم.. كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا لنبيهم: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشعراء: 154]، وقد أخبر الله عن جوابه لهم، فقال: ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ

القرآن.. كلمة الله (141)

يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: 155 ـ 156]

وهكذا أخبر عن كل الرسل عليهم السلام أنهم جاءوا بالآيات الدالة على كونهم أنبياء، وأن ما يوحى إليهم وحي إلهي، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [غافر: 78]

قلت: لقد ذكرتني بما ورد في القرآن الكريم من إجابة الله تعالى بطلب بني إسرائيل الآيات الدالة على تمليك طالوت، قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]

قال: أجل.. ولو لم يكن ذلك طلبا مشروعا لما أجابه.

قلت: ولكني أرى أن الله تعالى ينكر على المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلب الآيات.. كما قال تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام:109].. وقال: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ (الإسراء:59).. وقال: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام:37)

قال: هذه الآيات الكريمة لا تنفي مشروعية طلب الآيات والأدلة.. وإنما تنفي ذلك التعنت والكبرياء في طلبها.. ألم تسمع قوله تعالى الذي يشير إلى بعض اقتراحاتهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ

القرآن.. كلمة الله (142)

يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90 ـ 93]

قلت: صدقت.. فسنة الله مع النبيين واحدة.. ولهذا كان القرآن كله آيات تدل على كونه وحيا إلهيا.. بالإضافة للمعجزات الكثيرة التي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لم تزد المستكبرين إلا استكبارا.

قال: أجل.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر: 1 ـ 3]

لست أدري كيف خطر لي حينها أن أسأله عنه وعن أولئك الصبية الصغار الذين تعجبت من معرفتهم بالقرآن الكريم، لكني وجدت لساني يثقل عن النطق ككل مرة أهم بذلك..

بعد أن سمعت كل تلك الأحاديث عن الوحي الإلهي وأقسامه.. استأذنني الصبية للانصراف، وقال لي أحدهم، وهو يسير مبتعدا عني: لا تنس يا عم أن تسجل كل ما دار بيننا، وإلا فإنك لن تحظى بلقيا معلم القرآن أبدا ما حييت.

أ ـ الوحي والأمراض

بعد أن تركتهم أو تركوني، وجدت نفسي أمام باب مصحة كُتب عليها بالخط العريض [مصحة الأمراض العصبية]، فتعجبت من وجودي أمامها.. وعن علاقتها بالوحي، وبكلمات الله..

وبينما أنا في حيرتي، إذا بشخص يأخذ بيدي، ويقول: هيا معي بسرعة.. لاشك أنك تريد أن ترى الفرق بين الأمراض العصبية والوحي الإلهي.

قلت مستغربا: أنا لست مستشرقا ولا مستغربا ولا ملحدا حتى يخطر على بالي هذا

القرآن.. كلمة الله (143)

الخاطر السيء.. فوحي الله أقدس من أن يختلط بأوهام الأمراض النفسية.

ابتسم، وقال: ما دمت كذلك.. فما حاجتك إلى الأقلام والدواة والقراطيس.. ارمها وسر إلى بيتك.. فلا يحمل هذه الأدوات إلا من يريد أن يؤدي وظائفه في التبليغ والشهادة.

قلت: وما علاقة ذلك بالتبليغ والشهادة؟

قال: التبليغ الحقيقي هو الذي يُجاب به عن كل شبهة، ويُرد به على كل هوى، وباستعمال جميع المناهج.. وهو وحده من يسمح لك بأن تقول: اللهم اشهد بأني بلغت.

قلت: وما علاقتي أنا بذلك؟

قال: ألست تريد أن تكون تلميذا للقرآن؟

قلت: بلى.. ومن لا يريد أن يكون كذلك؟

قال: فقد قال الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 148 ـ 149].. فهل تعرف كيفية تنفيذها.. أم أنك تكتفي بتلاوتها؟

قلت: فهلا دللتني على ذلك؟

قال: هذه الآية الكريمة تدعونا إلى استعمال كل ما يعرفه الخلق من المناهج لإقامة الحجة البالغة عليهم.. فلا يكفي أن نذكر لهم الحق، ثم لا نقنعهم به، أو لا نسعى في إقناعهم.

قلت: هذه مهمة الرسل عليهم السلام.

قال: وهي مهمة كل من يحب أن يكون تلميذا لهم، أو مقتديا بهم.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ

القرآن.. كلمة الله (144)

الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]

قلت: بلى.. وهي واضحة في دلالتها.. ومحكمة في معناها.

قال: فهلم معي إذن.. فقد سمعت أن بعض المشككين يحاول أن يستدل بالمرض النفسي على عدم وجود الوحي الإلهي، وقد استنفر كل ما لديه من وسائل الإعلام، ليبث ذلك مباشرة وبين كل الأنام.

لم أجد إلا أن أدخل معه المستشفى، وهناك رأيت كاميرات وميكرفونات ومصابيح إضاءة.. كلها مسلطة على رجل يلبس لباس الأطباء، وبين يديه مريض، وهو يقول: من أراد أن يكتشف حقيقة الوحي الذي يدعيه المسلمون لنبيهم.. أو المسيحيون واليهود لأنبيائهم؛ فهذا الذي رأيتموه صورة واضحة ودقيقة له.. وبذلك يمكنكم أن تكتشفوا أن الوحي ليس سوى مرض نفسي.. وقد تكون له بعض الأسباب العصبية.

تعجبت إذ رأيت الذي دخل بي، يرفع يده بكل أدب، ويقول: هل تسمحون في هذه الحصة التي تعرضونها الآن بالحوار العلمي، أم أنكم تريدون فقط تلقين ما ترونه للمشاهدين من غير أن تسمحوا للرأي الذي يخالفكم بأن يظهر أو يناقش.

قال الطبيب: بكل سرور.. يمكنك أن تناقش كما تشاء.. فنحن لسنا كالمتدينين المنغلقين.. بل نحن لا نصدق إلا العلم والحقيقة.

قال الرجل: كيف عرفت أن الأنبياء الذين يوحى إليهم لا يختلفون عن هذا المريض الذي بين يديك.. هل تراهم زاروك في عيادتك؟

ضحك بصوت عال، وقال: ما تقول يا رجل.. بيني وبينهم مئات أو آلاف السنين؛ فكيف يمكنني معالجتهم.. ألا ترى أنك بهذا تثبت أنك جاهل بعلم التاريخ؟

قال الرجل: فكيف استطعت تشخيص أمراضهم.. مع أنك لم تستطع تشخيص

القرآن.. كلمة الله (145)

المريض الذي بين يديك إلا بعد أن أحضرته أمامك.. بل أمام الناس أجمعين (1).

قال الطبيب: ذلك ليس صعبا لمن هو في مثل اختصاصي، فمن السهل أن تدرس سلوك أي كان لتحكم عليه بعد ذلك بالصحة أو المرض.. بالإضافة إلى أني اعتمدت على أدق الدراسات، وأكثرها موضوعية.. لاشك أنك تعرف ذلك العلامة الباحث المدقق جولد تسيهر.. لقد كانت أبحاثه القيمة أهم مراجعي، لقد قال في كتابه (العقيدة والشريعة فى الإسلام) عن محمد: (وفى خلال النصف الأول من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتصال بأوساط استقى منها أفكاراً أخذ يجتريها فى قرارة نفسه، وهو منطو فى تأملاته أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأملات المجردة، والتى يلمح فيها أثر حالته المرضية، نراه ينساق ضد العقلية الدينية والأخلاقية لقومه الأقربين والأبعدين) (2)

وقد وجدت بعد البحث والتنقيب في كتب التاريخ والطب أن الوحي الذي يدعيه محمد ليس سوى علامة على قائمة طويلة من الأمراض منها ما سبقت إلى معرفته، ومنها ما كان لي براءة اكتشافه..

أما ما سبقت إليه، فقد سبقني شبرنجر وجوستاف فايل وغيرهم إلى أنه كان مصاباً بحالات من الصرع، يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على أثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقاً، ويثقل جسمه، وتعتريه التشنجات، وتخرج منه الرغوة، فإذا أفاق ذكر أنه أوحى إليه، وتلا على أتباعه ما

__________

(1) أعدنا هنا ـ باختصار ـ ذكر بعض ما ذكرناه في كتاب النبي المعصوم من الرد على هذه الشبه التي يثيرها المستشرقون وغيرهم حول الوحي الإلهي..

(2) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 112.

القرآن.. كلمة الله (146)

يزعم أنه وحي من الله (1).

وسبقني بعضهم إلى اعتبار حالته حالة هستيريا، وتهيج عصبي، يظهر عليه أثرها فى مزاجه العصبي القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه (2).

وسبقني آخرون إلى أن به نوعا من الهوس.. لقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (ونرى محمداً الثاقب النظر من الناحية العلمية من ذوى الهوس، كما هو شأن أكثر مؤسسي الديانات) (3)

قال الرجل: إن ما ذكرته من اختلاف المحللين في وصف المرض يدل على أننا نحتاج إلى البحث الجاد عن حقيقة ذلك..

قال الطبيب: أجل.. المهم أن نعترف بأنه مرض.

قال الرجل: ليس بالضرورة.. فأنتم ـ معاشر الأطباء ـ تختلفون أحيانا في تشخيص بعض الأمراض، وبعضكم قد يحكم بالصحة لمن اعتبره طبيب آخر مريضا.

قال الطبيب: أجل.. كلامك صحيح.. أنا شخصيا هناك من اتهمني بكوني مريضا نفسيا.. لكني استطعت أن أثبت له أني لست كذلك..

ثم مد يده إلى حقيبته، وأخرج بعض الأوراق ووضعها في واجهة بعض الكاميرات، ثم قال: وهذه شهادات كثيرة تثبت ذلك.. طبعا هذا أفضل رد على أولئك المسلمين الذين

__________

(1) الإسلام والمستشرقين لنخبة من العلماء ص 2.2.

(2) مقدمة القرآن لمونتجمرى وات ص 17، 18، ومقدمة القرآن لبل ص 29، 3.

(3) الوحى القرآنى فى المنظور الاستشراقى ونقده للدكتور محمود ماضى ص 123.

القرآن.. كلمة الله (147)

اتهموني بأني مريض نفسي.

قال الرجل: جميل جدا ما ذكرت.. وأنا لا أتهمك بكونك مريضا نفسيا.. ولكني أريد أن أتأكد أيضا من اتهامك لمحمد بكونه مريضا نفسيا.

قال الطبيب: لا.. هو مريض نفسي بلا شك.

قال الرجل: ولكن أطباء النفس في أكثر بلاد العالم، وعلى مدار التاريخ لم يتهموه بذلك.. بل الكثير منهم يتبعه ويؤمن بما جاء به.. بل منهم من يعتبر هديه أحسن هدي لعلاج أكثر الأمراض النفسية والوقاية منها.

قال الطبيب: جاهل من يفعل ذلك.

قال الرجل: ألا ترى أنك تتعنت وتتعسف.. فبينما تنفي عن نفسك تهمة المرض نراك تلصقها بغيرك.. وترفض أي تحقيق أو بحث للتأكد.

قال الطبيب: لا بأس.. فهلم بما عندك من الباطل لتنفي ما لدي من الحق.

قال الرجل: سأستعرض من خلال حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يبين وجه الحق فيما ذكرته.. فنعرف إن كان حقيقة مريضا أم لا.. ولنبدأ بالأمراض العصبية.. فقد ذكرت بأن هناك من اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصابا بالصرع.

قال الرجل: ذلك صحيح.. ولقوله الدلائل الكثيرة في حياة محمد.

قال الرجل: قبل أن أجيبك بما يقتضيه المنطق أجيبك بما ذكره بعض قومك، اسمع لما يقول المستشرق الطبيب ماكس مايرهوف الذي قال ردا على من نسب هذا المرض لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: (أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شئ يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع

القرآن.. كلمة الله (148)

والإدارة يناقض هذا القول) (1)

ومثله قال (بودلي) في كتابه (الرسول حياة محمد) مفندا هذا الزعم: (لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتع بها محمد حتى قبل وفاته بأسبوع واحد (2)، وإن كان ممن تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته، فهو محمد)

بعد هذا أجبني.. هل كان قوم محمد حريصين على تتبع كل ثغرة يمكنهم من خلالها نشر الفضائح التي تشوه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الطبيب: أجل.. ذلك صحيح.. وأنا لا أعتبرها فضائح، بل أعتبرها حقائق.

قال الرجل: فهل سجل التاريخ أنهم رموه بهذا الداء الذي كان معروفا عندهم، كما كان معروفا عند جميع شعوب العالم؟

قال الطبيب: لكنهم رموه بالجنون؟

قال الرجل: الرمي بالجنون مختلف عن الرمي بالصرع.. وأنت وهم وجميع العالم تعلمون أن تصرفات محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبعد التصرفات عن تصرفات المجانين.. لعلك سمعت بالوليد بن المغيرة.. ذاك الذي كان من كبار المعارضين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمحاربين له.. لقد ذكر المؤرخون أنه اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه،

__________

(1) الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب، أحمد بوطامى ص 162.

(2) كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصح الناس بدنا وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة تدل على البطولة الجسمانية. وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة قال: صارعني فإن أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله، فصارعه الرسول فغلبه، فقيل إنه أسلم عقب ذلك (التاريخ الكبير رقم 1146) والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة.

القرآن.. كلمة الله (149)

فمن قائل يقول: مجنونٌ، وآخر يقول: كاهنٌ، وآخر يقول: شاعرٌ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجلٌ منهم فقال: شاعرٌ، فقال الوليد بن المغيرة: سمعت كلام عبيد بن الأبرص وأمية بن أبي الصلت، وعرفت الشعر كله وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا: كاهنٌ، فقال الوليد: ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه، والكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمدٌ قط، فقام آخر فقال: مجنونٌ، فقال الوليد: لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يخنق فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، فقالوا: ساحرٌ، قال الوليد: لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس أصبأت؟ فقال الوليد: فكرت في أمر محمد وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحرٌ جاء بقول هو سحرٌ، يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته (1).

وحينذاك نزلت هذه الآيات الكريمة التي تبين السر وراء ذلك البهتان: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 11 ـ 25]

التفت إلى الطبيب، وقال: أنت ترى قومه قد احتاروا فيما ينسبوه إليه مما يصرف الناس عنه، فلو علموا أنه كان يصرع، ويصيبه المصروع من تخبط يسكتون عن هذا.. خاصة وأنهم كانوا يعتبرون الصرع من الأمراض الشيطانية المنفرة؟

__________

(1) تفسير الطبري (29/ 98)

القرآن.. كلمة الله (150)

قال الطبيب: لعل قومه لم تكن لديهم معرفة مفصلة بالصرع، فلذلك توقفوا عن رميه به.

قال الرجل: ومن في العالم من لا يعرف هذا المرض، وكل أعراضه وعلاماته واضحة للجميع..

قال الطبيب: أنت تريد مني أن نتحدث حديثا علميا.. ثم أراك تتهرب، وتكتفي بالحديث العام.

قال الرجل: فهات اذكر لي أعراض الصرع بأنواعه المختلفة، لنرى مدى انطباقها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الطبيب: من أنواع الصرع ما يُطلق عليه [الصرع الأصغر]، ومن أعراضه: السرحان.. وفقدان الذاكرة.. وفقدان الكلام، أو الكلام غير المفهوم.. وتوقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.. وفقدان النشاط العادي.. ومنها [الصرع الأكبر]، ومن أعراضه تصلب في الجسم.. واحتقان في الوجه.. وهزات متكررة في الجسم كله.. ولعاب كثيف في الفم.. وعض للسان.. ومنها [الصرع البؤري]، ويكون المريض فيه في كامل وعيه، وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة، ومن أعراضه تشنجات حركية.. وتشنجات حسية.. وتخيلات مرئية أو سمعية أو شميه (هلاوس).. وإحساس داخلي بالخوف.

قال الرجل: فلنبدأ بـ[الصرع الأصغر]، فقد ذكرت من أعراضه السرحان.. وفقدان الذاكرة.. وفقدان الكلام، أو الكلام غير المفهوم.. وتوقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.. وفقدان النشاط العادي.. فهل يمكن لرجل يتسم بكل هذا الضعف أن يؤسس أمة لا يزال لها وجود إلى اليوم؟.. وهل يمكن لمن كان عاجزا عن الكلام، أو كان كلامه غير مفهوم أن يترك من التعاليم الممتلئة بالحكمة ما لم تزده الأيام إلا إثباتا؟..

القرآن.. كلمة الله (151)

وهل يمكن لمن كان شارد الذهن أن تحمل حياته.. بل دقائق حياته وثوانيها.. من الأحمال ما تنوء به الجبال؟

إن الذي ذكرت لا ينجح في حياته البسيطة العادية، فكيف بمن حمل كل الأثقال، وتحمل كل المتاعب والمشاق، ولم تكن له في حياته لحظة من السكون والراحة.

لقد قال ربه يأمره بالتفرغ إليه في حال الراحة: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7 ـ 8]

وقال يخبره عن ليله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ [المزمل: 20]

وقال يخبر عن عظم الأمانة التي تحملها: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]

فهل يمكن لمن حمل كل هذه الأثقال، فحملها خير حمل أن يكون بذلك الضعف والقصور؟

أما [الصرع الأكبر].. وهو ما يقصده عادة من ذكرت من المستشرقين..

قال الطبيب: أجل.. وأدل دليل على ذلك ما تسمونه بالوحي.. فما الوحي في نظرنا ـ معشر الأطباء ـ سوى نوبة من نوبات الصرع الأكبر.

قال الرجل: إن هذا يستدعي النظر في هيئة الوحي الذي كان يعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومقارنة ذلك بما وصفت من أعراض الصرع الأكبر.

قال الطبيب: ذلك صحيح.

قال الرجل: لقد ورد في النصوص ذكر أربعة أنواع من الوحي، وسنرى مدى علاقة هذه الأنواع بما ذكرت من أعراض..

أما أولها.. فالرؤيا الصادقة، فقد روي أنها كانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث: (أول

القرآن.. كلمة الله (152)

ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) (1)

بل قد ورد التصريح بذلك، ففي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رؤيا الأنبياء وحى) (2)

بل قد نص القرآن على هذا عند ذكره لرؤيا إبراهيم - عليه السلام - فى المنام من ذبح ولده إسماعيل - عليه السلام -، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102]

ومن الرؤى التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقص علينا القرآن الكريم قصتها ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال: 43]، ففي غزوة بدر واجه المسلمون المشركين فى أول واقعة حربية حاسمة، وكان المشركون ضعف عدد المسلمين، وقد وقعت رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاهد فيها المشركين قلة قليلة، فأخبر أصحابه يومئذ بذلك، فكان ذلك تثبيتاً لهم.

ومن الرؤى التي قصها القرآن الكريم ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27]، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صحابته فى العام السادس للهجرة بأنه رأى المسلمين داخلين المسجد الحرام فى أمن تام مؤدين المناسك.

__________

(1) البخاري (1/ 3)

(2) الحاكم في مستدركه ج 4/ص 438 ح 8197.

القرآن.. كلمة الله (153)

ولما سار المسلمون، ووصلوا إلى الحديبية لم يشك جماعة منهم أن الرؤيا النبوية تتحقق عامهم ذلك، وحين وقع ما وقع من صلح الحديبية تساءل عمر: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به (1).

وقد حصل تحقيق هذه الرؤية فى العام السابع، ففي ذي القعدة أدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون عمرة القضاء، ودخلوا مكة معتمرين.

التفت إلى الطبيب، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي أي عرض من أعراض الصرع؟

سكت الطبيب، فقال الرجل: لا.. ولا يمكنك إلا أن تقول ذلك، وإلا لكان كل الخلق مصابين بالصرع..

قال رجل من الحاضرين: فحدثنا عن النوع الثاني.

قال الرجل: النوع الثاني من الوحي هو الإلهام والقذف فى القلب من غير رؤية ملك، وذلك بأن يلقى الله أو الملك الموكل بالوحي في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يريد، مع تيقنه صلى الله عليه وآله وسلم أن ما ألقى إليه وحي من قبل الله تعالى.. وقد أشار إلى هذه الكيفية قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً﴾ [الشورى:51].. ومن الوحي المتنزل بهذه الصورة ما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، ولا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى فى روعي أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا فى الطلب، فإن استبطأ

__________

(1) البخاري (3/ 11)

القرآن.. كلمة الله (154)

أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية) (1)

التفت إلى الطبيب، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي أي عرض من أعراض الصرع؟.. لا.. ولا يمكنك إلا أن تقول ذلك، فكل إنسان يجد في ذهنه ـ أحيانا كثيرة ـ من الخواطر والأفكار ما لم يكن يخطر له على بال.

قال الطبيب: ولكني لا أسلم أن ذلك وحي من الله.

قال الرجل: لا يهمني أن تسلم أو لا تسلم.. فتلك مسألة أخرى.. وهي تستدعي بحثا آخر.. فنحن الآن نناقش علاقة أنواع الوحي بالصرع الذي تذكره.

قال رجل من الحاضرين: فحدثنا عن النوع الثالث.

قال الرجل: النوع الثالث هو تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى:51]، وهو نفس الوحي الذي حصل لموسى صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ [النساء:164].. وقد حصل هذا النوع من الوحي لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء والمعراج، كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [لنجم:10]

قال رجل من الحاضرين: فحدثنا عن النوع الرابع.

قال الرجل: النوع الرابع من أنواع الوحي، وهو نزول الملك وتكلمه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي هذه الحالة إما أن يتمثل له الملك فى صورة رجل، فيكلمه كما يكلم البشر بعضهم بعضا، كما حصل للأنبياء قبله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أن الملائكة قدموا عليه، فقدم لهم عجلاً حنيذاً، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين أفصحوا له عن حقيقة أمرهم، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا

__________

(1) الحاكم في مستدركه ج 2/ص 5 ح 2136.

القرآن.. كلمة الله (155)

قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: 24 ـ 28]

وأخبر تعالى أن الملائكة عليهم السلام أتوا لوطا عليه السلام فى صورة شباب حسان، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: 77]

وأخبر تعالى أن الله أرسل إلى مريم البتول عليها السلام جبريل عليه السلام فى صورة بشر سوي يبشرها باصطفائها واصطفاء وليدها، قال تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]

وعلى هذا الأسلوب من أساليب الوحي كان جبريل عليه السلام يتنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم متخذا صورة رجل، بحيث يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده ويكلمه بما أراد فيعي عنه ما يقول، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم، لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال: (وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول) (1)

وقد يظهر الملك المتشكل فى صورة رجل للعيان، فيراه الناس ويسمعون كلامه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد فى الحديث أن جبريل عليه السلام جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة، وفي نهايته قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) (2)

ومن الأحوال النادرة لهذا النوع من الوحي أن يأتي جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فى صورته التي خلقه الله عليها، وقد ورد في النصوص المقدسة ذكر مرتين فقط لهذه الحالة.. والتي رأى فيها النبى صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه السلام على صورته الملائكية التي خلقه الله عليها، له

__________

(1) مالك (الموطأ) (143) والحميدي (256) وأحمد (6/ 58 و202)

(2) أبو داود [4697].

القرآن.. كلمة الله (156)

ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق. مرتين:

أما المرة الأولى، فكانت فى الأرض، كما روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: دثرونى، وصبوا على ماء بارد، وأنزل الله علي: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 1 ـ 7].. وقد أشار إلى هذه الصورة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ [التكوير: 23].. أما المرة الثانية، فقد حصلت في السماء عند سدرة المنتهى ليلة المعراج، وقد نص عليها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 13 ـ 18]

أما الحالة الثالثة المرتبطة بهذا النوع من الوحي، فهي ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال: (أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال) (1)

ووصف الحاضرون حاله عند نزول الوحي، فقالوا: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً) (2)

التفت الرجل إلى الطبيب، وقال: أظن أن هذا هو ما كنت تبحث عنه.

قال الطبيب: أجل.. فهذه الحالة لا أتصور إلا أنها صورة من صور الصرع، أو عرض من أعراضه.

__________

(1) البخاري (1/ 2)

(2) مالك (الموطأ) (143) والحميدي (256)

القرآن.. كلمة الله (157)

قال الرجل: قبل أن أناقشك في هذا اسمح لي أن أقرأ لك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 163 ـ 164].. فالله تعالى يخبر أن هذه الصور من الوحي حصلت للأنبياء عليهم السلام، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليس بدعا من الرسل.

وقد ورد في الكتاب المقدس ما يؤكد ذلك، فقد جاء في الإنجيل أن المسيح عليه السلام (انطلق وذهب كعادته إلى جبل الزيتون، وتبعه التلاميذ أيضا.. ولما وصل إلى المكان، قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة وابتعد عنهم مسافة تقارب رمية حجر، وركع يصلي قائلا: يا أبي، إن شئت أبعد عني هذه الكأس.. ولكن، لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك.. وظهر له ملاك من السماء ليقويه.. وإذ كان في صراع، أخذ يصلي بأشد إلحاح؛ حتى إن عرقه صار كقطرات دم نازلة على الأرض) [لوقا 22: 43]

أنت ترى في هذا النص المسيح عليه السلام ظهر له الملاك، وأن عرقه صار ينزل كقطرات الدم.. ألا ترى أن هذا وصف مقارب للوحي الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الطبيب: أنا لا أؤمن بالجميع.. لا بمحمد ولا بالمسيح.. ولا بكل من يدعون النبوة.. ولا أؤمن بأن هناك تواصل بين السماء والأرض أصلا.

قال الرجل: أجبني إذن.. أليست الحمى عرضا من أعراض التهاب اللوزتين؟

قال الطبيب: بلى.. ما تقوله صحيح.

قال الرجل: أرأيت لو أن طبيبا كسولا راح يقيس حرارة كل من يأتي إليه من المرضى، فإذا وجد حرارة أي مريض مرتفعة اعتبره مريضا بالتهاب اللوزتين.. ووصف له

القرآن.. كلمة الله (158)

دواء ذلك؟

قال الطبيب: هذا طبيب جاهل.. فالحمى عرض لأمراض كثيرة.. ولا يمكن أن يعرف أحد نوع المرض إلا بعد التشخيص الدقيق.

قال الرجل: فأخبر جميع الأطباء الذين نسبوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نسبوا من الأمراض عن جهلهم.. فقد استدلوا بالعرض وحده من غير أن يقوموا بأي تشخيص.

قال الطبيب: أنى لهم أن يقوموا بالتشخيص.. ومحمد ليس بينهم.

قال الرجل: فكيف حكموا عليه إذن.. أم أنكم تعالجون في بلادكم المرضى غيابيا؟

سكت الطبيب، فقال الرجل: لا بأس.. فلنعتبر كل ما تذكره صحيحا، ولنحاول أن ننظر فيما يصدر من المصروعين.. وندرسه دراسة متأنية، ونقارنه بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. هل ترى هذا المنهج صحيحا؟

قال الطبيب: نعم.. هذا منهج صحيح.. ونحن نمارسه في كل بحوثنا ودراساتنا.

قال الرجل: ألست تعلم أن المريض في حالة الصرع تمر بذهنه ذكريات أو أحلام مرئية أو الاثنان معا.

قال الطبيب: أجل، ونحن نسميها بالهلاوس.

قال الرجل: ألم يثبت الطب أن الذكريات التي تمر بالمريض لابد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما.

قال الطبيب: أجل.. فالنوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيا إجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ، فشعر المريض بنفس الهلاوس التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو الهلاوس فهذا مريض

القرآن.. كلمة الله (159)

يسمع أغنية أو قطعة من شعر، أو حديثا من أي نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولابد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته. أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لابد أن يكون قد مر عليه.

قال الرجل: بتطبيق ما ذكرته مما توصل إليه الطب الحديث في حقائق الصرع على ما يعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته.. فهل رأيت مصروعا في الدنيا نطق ـ في حال صرع ـ بما نطق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكلام الذي لا زالت الدنيا محتارة في أسرار إعجازه؟

سكت الطبيب، فقال الرجل: أنت تعلم أن كل مصروع ينسى ما حدث له أثناء النوبة..

قال الطبيب: وقد يذكره.

قال الرجل: إذا ذكره، فإنه يتألم لذكره.. ويتمنى لو شفي من حالته.. بل يبذل أمواله من أجل ذلك.. أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أحب الأشياء إليه رؤية ملاك الوحي، وقد روي أنه قال لجبريل عليه السلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]

قال رجل من الحاضرين: فحدثنا عن النوع الثالث.. ذلك الذي سميتموه [الصرع البؤري]

قال الرجل: الرد على هذا مثل الرد على ما سبق.. فهذه حالة مرضية، أما ما كان يعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان من أعلى مظاهر الصحة والكمال.. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أكمل البشر عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً، وقد تحدى الله المشركين الذين عرفوه وعايشوه وخبروا حاله أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، فلم يفعلوا، ولو وجدوا ما

القرآن.. كلمة الله (160)

سكتوا قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46]

فهذه الآية الكريمة تقول لجميع أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جميع فترات التاريخ: (ها هو ذا تاريخ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديثه، وسننه، وآدابه، وأخلاقه، وشريعته، تحت أنظاركم فانظروا وتفكروا من غير هوى ولا عصبية فى جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه ـ ولن تستطيعوا ـ ما يقيم عوج دعاواكم، وإفك أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معصوم بعصمة الله عز وجل، الذي أرسله ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد)

ب ـ الوحي والأوهام

بعد أن انتهى الرجل الحكيم من أحاديثه في الرد على الشبهات المرتبطة بعلاقة الوحي بالأمراض العصبية، وجدت نفسي في شارع آخر، ووجدت الناس يهرولون للدخول إلى باب من الأبواب، وقد أخذ بيدي أحدهم، وهو يقول: لا شك أنك تريد أن تصير عبقريا.. أو فيلسوفا.. أو مخترعا.. أو حتى نبيا.. تعال إلى هذا المركز؛ فهو يحول من الحمار حصانا.. ومن الضبع أسدا.. ومن النملة فيلا.. وهو قادر على أن يخرجك من كل أوهام ضعفك، لتحقق جميع أحلامك حتى تلك التي لم تحلم بها.

سرت معه إلى هذا المحل العجيب، وأنا متعجب من علاقته بالوحي الإلهي.. بمجرد أن دخلت رأيت رجلا على المنصبة، كان نشيطا جدا، ويتحرك بسرعة.. وكان يقول للحاضرين: سأحدثكم اليوم عن فتاة استطاعت أن تحقق كل أحلامها.. لا الشخصية فقط، وإنما الأحلام المتعلقة بوطنها.. لقد استطاعت تحريره بكل سهولة ويسر مع كونها لم تكن سوى راعية غنم..

لعلكم تعرفونها إنها تلك الفتاة الفرنسية التي تُدعى (جان دارك).. والتي كانت

القرآن.. كلمة الله (161)

تعيش بفرنسا فى القرن الخامس عشر الميلادي إبان احتلالها من الإنكليز..

لقد كانت تلك الفتاة من أجمل النساء سيرة وأسلمهن نية، اعتقدت ـ وهى فى بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية ـ أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ودفع العدو عنه.. وقد جعلها ذلك الاعتقاد تسمع صوت الوحى؛ فأخلصت فى الدعوة للقتال، وتوصّلت بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير، وغلبت به العدو فعلا، ثم ماتت عقب انتصارها ميتة الأبطال من الرجال بعد أن خذلها قومها، ووقعت فى يد عدوها، فألقوها فى النّار حيّة، فذهبت تاركة فى صحائف التاريخ اسما يعبق نشره وتضوع رياه، وهى الآن موضع إجلال الجميع وإعظامهم.. حتى الكنيسة اعتبرتها من القديسات (1).

سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنكم جميعا تعتقدون أن هذه الفتاة لم تكن نبية مرسلة.. ولكن أعمالها لم تكن أقل من أعمال الأنبياء والمرسلين.. وكل ذلك بسبب بسيط، وهو أنها حلمت بأن تنصر قومها، فانتصرت لهم.. وحلمت بأن تكون نبية يوحى لها؛ فتحقق لها ذلك.. وصارت تسمع نفس الوحي الذي كان يسمعه الأنبياء.. وهو يدل على أنهم مروا بنفس حالتها.. وأنهم تألموا لما كان عليه أقوامهم من الجهل.. فتحققت أحلامهم.. وكل ذلك يدل على أنه ليس أمام أحلامنا أي مستحيل.

قام رجل من الحاضرين، وقال: مع احترامي لكم أيها المدرب.. إلا أن استدلالك بما فعلته (جان دارك) على ما فعله الأنبياء بعيد جدا.. فهذه الفتاة لم تدعو إلى أي دين أو مذهب تدعي أن فيه سعادة البشر فى الحياة وبعد الموت كما هو شأن جميع المرسلين.. كما أنها لم تأت بآية كونية ولا علمية لا يعهد مثلها من كسب البشر تتحدى بها الناس ليؤمنوا بها..

__________

(1) النصوص التي تتحدث عن جان دارك.. والشبهة المرتبطة بها والرد عليها منقولة بتصرف من كتاب الوحي المحمدي، ص 60، وما بعدها.

القرآن.. كلمة الله (162)

وإنما كانت فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين، وحركته مزعجات السياسة فتحرك، فنفر، فصادف مساعدة من الحكومة، واستعدادا من الأمة للخروج من الذلّ الذي كانت فيه، وكان التحمس الذي حركته سببا للحملة الصادقة على العدو وخذلانه.. وما أسهل حماسة أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات وبما هو أضعف منها، فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته المشهورة عند الأهرام (1).

قام آخر، وقال: لقد قال البستاني يذكر سيرتها في دائرة المعارف العربية: (كانت متعودة الشغل خارج البيت كرعى المواشى وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت، وكان الناس فى جوار دومرى (أى بلدها) متمسكين بالخرافات ويميلون إلى حزب أورليان فى الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا، وكانت (جان دارك) تشترك فى الهياج السياسى والحماسة الدينية، وكانت كثيرة التخيل والورع، تحب أن تتأمل فى قصص العذراء وعلى الأكثر فى نبوة كانت شائعة فى ذلك الوقت، وهى أن إحدى العذارى ستخلص فرنسا من أعدائها، ولما كان عمرها 13 سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعية وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها ورؤى كانت تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خيل لها أنها قد دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها، ثم وقع البرغنيور تعديا على القرية التي ولدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خيل لها) (2).. ثم ذكر بعد ذاك توسله إلى الحكام وتعيينها قائدة لجيش ملكها، وهجومها بعشرة آلاف جندي ضباطهم ملكيون على عسكر الإنكليز الذين كانوا يحاصرون أورليان، وأنها دفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار فى مدة أسبوع، وذلك سنة 1429، ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت أخيلتها الحماسية، ولذلك هوجمت فى السنة التالية

__________

(1) الوحي المحمدي، ص 61.

(2) نقلا عن: الوحي المحمدي، ص 62.

القرآن.. كلمة الله (163)

1430 فانكسرت وجرحت وأسرت (1).

قال آخر: من ملخص القصة، يعلم أن ما كان منها إنما هو حالة نفسية سببها التألم من تلك الحالة السياسية التي كان يتألم منها من نشأت بينهم مع معونة التحمس الدينى والاعتقادات بالخرافات الدينية التي كانت ذائعة فى زمنها، وهذا شيء عادى معروف السبب، وهو من قبيل الذين يقومون باسم المهدى المنتظر كمحمد أحمد السودانى، والباب الإيرانى والبهاء والقاديانى..

قام آخر، وقال: أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، والمعروفة السبب، والتى لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعى، إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق؟.. أين هى من دعوة الأنبياء التي هي حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشرى، طلبها هذا النوع بلسان استعداده فوهبها له المدبر الحكيم ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، فسار الإنسان بذلك إلى كماله، فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية النامية، بل أرقى وأعلى؟ وأين دليلها من أدلة النبوّة؟ وأين أثرها من أثر النبوة؟

قال آخر: إن الأمم التي ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحى إنما ارتقت بطبيعة ذلك التعليم وتأثيره.. وإن فرنسا لم ترتق بإرشاد (جان دارك) وتعليمها، وإنما مثلها مثل قائد انتصر فى واقعة فاصلة بشجاعته، وبأسباب أخرى ليست من صنعه، واستولت أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها، وحكمه حكمائها، وصنع صناعها، ولم يكن القائد يعرف من ذلك شيئا ولم يرشد إليه، فلا يقال إن ذلك القائد هو الذي أصلح تلك البلاد، وعمّرها ومدّنها، وإن عدّ سببا بعيدا فهو شبيه بالسبب الطبيعى، كهبوب ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة.

__________

(1) الوحي المحمدي، ص 62.

القرآن.. كلمة الله (164)

قال آخر: أين حال تلك الفتاة التي كانت كصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، من حال شمس النبوّة المحمدية التي أشرقت فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها متألق السناء؛ أمى يتيم قضى سن الصبا وشرخ الشباب هادئا ساكنا لا يعرف عنه علم ولا تخيل، ولا وهم دينى ولا شعر ولا خطابة، ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كلّه صيحة: إنكم على ضلال مبين، فاتبعون أهدكم الصّراط المستقيم، فأصلح وهو الأمى أديان البشر، وعقائدها وآدابها وشرائعها، وقلب نظام الأرض فدخلت بتعليمه فى طور جديد؟

قال المدرب: لا بأس.. لقد استمعت لما طرحتموه.. ولن أجيبكم أنا.. لأنكم قد لا تثقون كثيرا فيما أقول.. وإنما سأجيبكم بلسان أكبر متخصص في الدراسات الشرقية.. والذي يعتبر كلامه حجة بحد ذاته..

إنه المستشرق الكبير بروكلمان.. إنه الخبير العارف بالتاريخ.. لقد ذكر علاقة وحي محمد بما كان يحلم به، فقال: (بينما كان بعض معاصرى النبى، كأمية بن أبى الصلت، شاعر الطائف، وهى بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل فى تأملاته حول خلاصه الروحى، ليالى بطولها فى غار حراء قرب مكة، لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج فى نفسه هذا السؤال: إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت فى نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطرى حال بينه وبين إعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبد شكوكه إلا بعد أن خضع لإحدى الخبرات الخارقة فى غار حراء، ذلك بأن طائفاً تجلى له هنالك يوماً، هو الملك جبريل، على ما تمثله محمد فيما بعد، فأوحى إليه أن الله قد اختاره لهداية الأمة، وآمنت زوجه فى الحال برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من آخر شكوكه بعد

القرآن.. كلمة الله (165)

أن تكررت الحالات التي ناداه فيها الصوت الإلهى وتكاثرت، ولم تكد هذه الحالات تنقضى حتى أعلن ما ظن أنه قد سمعه كوحى من عند الله) (1)

قال بعض الحضور: إن ما ذكره هذا المؤرخ لا يختلف كثيرا عما رمى به القرشيون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد اعتبروا النبى صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً ذا خيال واسع وإحساس عميق، ولذلك لقبوه بالشاعر.. ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه، حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه؛ وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخليته ووجد آناته، ولذلك وصفوه بالجنون أو أضغاث الأحلام.

قال المدرب: إن ما تقوله لا يزيد ما قاله بروكلمان وإخوانه من المستشرقين إلا تأكيدا.

قال الرجل: إن هذا الاعتراض يمكن أن يوجه لأي نبي من الأنبياء عليهم السلام.. فموسى عليه السلام ـ بهذا الاعتبار ـ كان رجلا يحلم بإنقاذ قومه.. فلذلك تخيل ذلك الوحي.. ثم انطلق منه ليدعي النبوة، ويصبح نبيا لبني إسرائيل.. والمسيح عليه السلام كان يسمع في الأحياء اليهودية اسم المسيح يردد صباح مساء.. فحلم بأن يصير مسيحا، فصار مسيحا..

قال المدرب: أنا أؤمن بأن الجميع كانوا يحلمون.. ثم تحقق لهم ما حلموا به.

قال الرجل: هل رأيت في حياتك.. أو في حياة البشر جميعا.. رجلا أميا في بيئة أمية حلم بأن يصير عالما يبز كل العلماء بعلمه، فتحقق له حلمه من غير أي سبب اكتسبه، ولا حيلة احتالها؟

سكت المدرب، فقال الرجل: فقد اشتمل الوحى الإلهى الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ سواء كان قرآناً أو سنة ـ على أسرار فى الكون والأنفس والآفاق، ما كانت تخطر على بال

__________

(1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 36.

القرآن.. كلمة الله (166)

بشر قط ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم والمعارف فى العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وهى لم تخطر له على بال؟

ثم.. هل كان الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعقائده وتشريعاته مركوزاً فى نفسه صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة لم يبح به حتى بلغ تلك السن.. مع العلم أن كل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم وما بلغه من وحى الله من المعارف يعتبر مناقضاً لكل ما كان سائداً فى العالم حينئذ، من عقائد، كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث، والصلب، وإنكار البعث، واليوم الآخر.

ثم.. هل يمكن للأحلام النفسية أن تصنع التاريخ.. وهل يمكن لأحد أن يقول: إن التاريخ يمكن وضعه بإعمال الفكر، ودقة الفراسة؟.. أم أنك ترى أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرناً قرناً، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان أو أنه ورث كتب الأولين، فعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين فى علم دقائقها؟

قال آخر: لقد رد القرآن الكريم على هذه الشبهة، فبين أن الوحي ليس نابعاً من نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو أمانة حملها جبريل عليه السلام من عند الله إليه، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 192 ـ 195]، وقال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 19 ـ 28]

قال آخر: إن هذه الآيات الكريمة تخاطب العقول بكل الدلائل، فهي تذكر أن ما رآه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملاك حقيقي أرسله الله إليه ليبلغ وحيه.. حلل تلك النصوص بما شئت من صنوف التحليل، فلن تجد فيها إلا الصدق والحقيقة.

قال المدرب: وما أدرانا.. ونحن لم نر ولم نسمع.

القرآن.. كلمة الله (167)

قال الرجل: إنك بهذا المنطق تقضي على كل المعارف والعلوم.. أليس مبدأ التعامل في كل شيء هو الثقة؟.. أليس الذي ذهب إلى القمر، ووطئت قدماه على القمر ثلة محدودة من الناس.. ولكنا نصدقهم في كل ما ذكروه ابتداء من صعودهم وانتهاء بمشاهداتهم؟

قال المدرب: ولكن الصور التي قدموا بها أكبر دليل على صدقهم.

قال الرجل: أنت ترى أن مصانع الفنون تبدع من الصور ما يحيل الخيال حقيقة.. فهل تصدق كل ما ذكرته تلك المصانع؟

قال المدرب: ولكن تلك المصانع لم تدع أن ما صنعته حقائق.. بل هي تحذر من اعتبارها حقائق.

قال الرجل: فلم اعتبرت ما ذكره رواد الفضاء حقائق، وما ذكره صانعو الأفلام خيالا؟

قال المدرب: لقد صدقت كليهما فيما ذكره عن نفسه.

قال الرجل: فقد رجع الأمر إذن إلى أنك وثقت في الطرفين؟

قال المدرب: ذلك صحيح.

قال الرجل: فاستعمل نفس الأسلوب مع نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

قال المدرب: ولكنه لم يأت بأي صور.

قال الرجل: لقد أتانا بحقائق أعظم بكثير من الصور.. وهي حقائق لا يمكن لأي ذكي في الدنيا أن يجتنيها بذكائه، ولا لأي محتال أن يقتنصها بحيلته.

قال المدرب: لقد نسيت أن أذكر لكم الدليل الذي ينهار أمامه كل ما ذكرتم من أدلة.. لقد ورد في المصادر التاريخية الدقيقة أن محمدا حاول الانتحار مرات عديدة، فهذا دليل على انهياره النفسي بعد أن عجز عن تحقيق أحلامه.. لقد حدث الزهرى بلاغاً عن

القرآن.. كلمة الله (168)

فترة الوحي، فقال: وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما بلغنا ـ حزناً غدا منه مراراً، كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكى يلقى منه نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك (1).

قام بعض الحضور، وقال: ليس كل ما يروى في التاريخ يصح قبوله.

قال المدرب: وليس كل ما يروى في التاريخ يمكن رفضه.

قال الرجل: فلنحتكم إلى أهل التاريخ أنفسهم لنرى مدى صدق هذه الرواية.. إن راوي هذه الرواية يقول: (حزن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فيما بلغنا)، والقائل (فيما بلغنا) هو الزهرى.. ولم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنما كان يتلقى حديثه ممن صحبوه أو من التابعين، وقد قال فيه علماء الحديث: مرسل الزهرى شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى! وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه.. وهذه الزيادة من هذه القبيل، حيث أنها منقطعة قد رواها الزهرى بلاغاً، وهو من صغار التابعين، وجل روايته عن كبار التابعين، وأقلها عن صغار الصحابة، فكيف بالكبار منهم، لاسيما من شهدوا بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال المدرب: فلنسلم بما ذكرت من حديث الزهري، فهو تابعي قد لا يكون الحديث بلغه بصورة صحيحة.. فما تقول فيما روى عن ابن عباس من قوله: (مكث النبى صلى الله عليه وآله وسلم أياماً بعد مجئ الوحى لا يرى جبريل، فحزن حزناً شديداً حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء أخرى، يريد أن يلقى نفسه)

قال الرجل: هذا الحديث لا يختلف عن الحديث السابق في ضعفه.

__________

(1) رواه عبد الرزاق.

القرآن.. كلمة الله (169)

قال المدرب: أتشكك في كون ابن عباس صحابيا؟

قال الرجل: أنا لا أشكك في صحبة ابن عباس، ولكني أشكك فيمن روى عن ابن عباس.. فالحديث الذي ذكرته من رواية الواقدى (1)، وهو معروف بالضعف، لا يقبل الجهابذة من المحدثين روايته إلا إذا اعتضدت بروايات الثقات.

قال المدرب: فلنسلم بما ذكرت من ضعف الرواية عن ابن عباس، ولكن ما تقول في القرآن.. وما تقول في هذه الآية التي تخبر عن محاولة محمد الانتحار بسبب تكذيب قومه له.. لقد جاء فيها: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]، وفي آية أخرى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6]؟

قال الرجل: هاتان الآيتان لا تشيران أبداً إلى معنى الانتحار، بل هما تعبير أدبي عن شدة حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان؛ وهما تبينان كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.

وهذا خاطر طبيعي للنبي الإنسان البشر الذي يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم اعترافه بأنه بشر في قوله ـ رداً على ما طلبه منه بعض المشركين ـ: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي

__________

(1) هو: محمد بن عمر بن واقد الواقدى، قاضى العراق، رغم دقته فى المغازى وإمامته فيها إلا أنهم ضعفوه فى الحديث، قال الذهبى: الواقدى وإن كان لا نزاع فى ضعفه، فهو صادق اللسان، كبير القدر، وقال: ابن حجر: متروك مع سعة علمه، من أشهر مؤلفاته: المغازى، والردة، مات سنة 207 هـ له ترجمة فى: لسان الميزان 9/ 531.

القرآن.. كلمة الله (170)

هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90 ـ 94]

ج ـ الوحي والشياطين

بعد أن استمعت للأحاديث التي ترد على شبهة علاقة الوحي بالأوهام والأحلام والأمراض النفسية.. وجدت نفسي في مكان غريب يشبه المحال التي تُصور فيها أفلام الرعب والشياطين والسحرة.

وهناك رأيت رجلا يلبس ثيابا غريبة، وهو يقول للملتفين حوله: اسمحوا لي.. أنا الخبير بكل علوم السحر بألوانه وأنواعه المختلفة.. وصاحب العلاقات الكثيرة مع جميع شياطين الإنس والجن.. أن أخبركم أن الوحي الذي جاء به محمد ليس سوى وحي شيطاني، كسائر أنواع الوحي.. لقد أخبرني شيطاني بهذا.

بل قد أخبر القرآن نفسه عن ذلك.. ومن شك فيه فليقرأ ما ورد في تفسير هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19].. فقد ذكر المفسرون بإجماع أن الشيطان ألقى في قلب محمد ـ نتيجة تمنيه ألا ينزل عليه ما يغضب قومه من قريش، لأنه كان يطمع بإسلام بعض وجهائهم ـ بعض الكلمات، فاعتقد أنها من الوحى، فطلب من كتبة الوحى تسجيلها وكتابتها فى نص القرآن، وكانت تلك الكلمات هي: (أفرأيتم اللات والعزى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) (1)

وقد روى هؤلاء المفسرون أن القرشيين من المشركين سروا بذلك، وسجدوا مع محمد فى الصلاة، ولكن بعد فترة نزل جبريل، وعاتب الرسول، وصحح الآية، ناسخاً ما ألقى الشيطان.

__________

(1) رددنا على هذه الشبهة في محال مختلفة منها (النبي المعصوم)، و(الكلمات المقدسة)

القرآن.. كلمة الله (171)

ومما يدلك على صدق هذه الرواية ما ورد في القرآن من نهي محمد عن الوقوع في الشرك الذي تسلط الشيطان به عليه.. ففي القرآن: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص: 87].. وفيه: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 106]

وهذا ليس خاصا بهذه الحادثة.. فقد ذكر القرآن أن الشيطان يمكن أن يتسلط على الأنبياء.. ففيه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52]

قام بعض الحضور، وقال: هذه قصة مكذوبة على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا يصح لباحث عن الحقيقة أن يعتمد على الأكاذيب في التعرف عليها.

قال الساحر: وما يثبت لنا كذبها؟

قال الرجل: أمور كثيرة تثبت كذبها.. وأولها القرآن الكريم نفسه.. فهو أكبر دليل على بطلانها (1).

قال الساحر: ليس من المنهج العلمي أن تبرهن على بطلانها من القرآن.

قال الرجل: بل هو عين المنهج العلمي.. فالمنهج العلمي القديم والحديث يعتمد على تحليل الوثائق المختلفة ليتبين من خلالها المواقف المختلفة.

قال الساحر: ولكن الشخص قد يقول اليوم قولا، ثم يتراجع عنه غدا.

قال الرجل: ولذلك سأكتفي بقراءة السورة التي نزل فيها ما توهمته من آيات.. تلك السورة هي سورة النجم.. وهي تبدأ ببيان عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الهوى ومن الغواية،

__________

(1) اعتمدنا في ردودنا على هذه الشبهة على كتاب: السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة، (1/ 364)، فما بعدها..

القرآن.. كلمة الله (172)

وأنه لذلك يستحيل أن يصل الشيطان إليه لينطق على لسانه بما يخالف الحقيقة التي كلف بتبليغها.

اسمع معي الآيات التي وردت قبل ما ذكرت من قصة الغرانيق، قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 1 ـ 18]

إن كل حرف من هذه الآيات يشير إلى عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه يستحيل عليه أن يكذب في رؤاه أو في سمعه أو في قوله، فكيف ينتظم هذا مع نطقه في نفس السورة عن الهوى.. بل وترديده ما يلقيه إليه الشيطان، على أنه آيات قرآنية إلهية.

ثم إنه ورد في نفس السورة قوله تعالى ـ بعد الموضع الذي زعموا أنه ذكرت فيه تلك الفرية العظيمة ـ: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 21 ـ 23]

فلو كانت القصة صحيحة لما كان هناك أي تناسب بينها، وبين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظم بذلك مفككاً، والكلام متناقضاً.. وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون، وهم أهل اللسان والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولاسيما أعداؤه الذين يلتمسون له العثرات والزلات.

فلو أن ما روى كان واقعاً لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين،

القرآن.. كلمة الله (173)

ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكئاً يستندون إليه فى الطعن على النبى صلى الله عليه وآله وسلم، والتشكيك فى عصمته، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن.

بل إن القرآن الكريم ينص على الوعيد الشديد المتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما فكر في إضافة حرف واحد لم يتنزل عليه، قال تعالى في سورة الحاقة، وهي سورة نزلت بعد سورة النجم: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 ـ 47]

قال الساحر: ولكن آية من القرآن تشير إلى أن محمدا قد تعرض لفتنة.. وأنه كاد يقع فيها في حبائل المشركين.

قال الرجل: تقصد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 73 ـ 75]

قال الساحر: أجل.. ألا ترى أن فيها إشارة واضحة لتلك الحادثة؟

قال الرجل: لا.. بل أرى فيها دليلا من أدلة تفنيد تلك الحادثة.. فالله تعالى في هذه الآيات يخبر عن تأييد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها (1).

ثم إن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، وذلك يدل على أن الفتنة لم تقع، وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكن يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون

__________

(1) تفسير ابن كثير: 5/ 100.

القرآن.. كلمة الله (174)

فضلاً عن الركون.. فالأسلوب القرآنى جاء على أبلغ ما يكون فى تنزيه ساحته صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فكيف ينسجم هذا مع مدح آلهتهم؟

قال الساحر: إن كل ما ذكرته من استنادك للقرآن مجرد استنتاجات.. والعبرة في التاريخ بالأحداث، لا بالاستنتاجات.

قال الرجل: صدقت.. وسنحتكم للتاريخ.. لا للاستنتاجات.

قال الساحر: فالتاريخ يؤيد ما ذكرت.

قال الرجل: أرأيت لو أن مؤرخا جاء بتاريخ مخالف لجميع المؤرخين.. فذكر ـ مثلا ـ أن دولتنا هذه، والتي لا يجهل أحد منا تاريخها.. وفي سنة من السنوات.. قامت بحرب حقيقية مع جيرانها.. فهل يمكن لأحد أن يقبل هذه الحادثة بحجة أن راويها مؤرخ؟

قال الساحر: لا.. لا يمكن ذلك.. ومثل هذا لا يقبل مؤرخا.. ولن يسمع كلامه أحد من الناس.

قال الرجل: فلماذا تسمعون كلام كل من يتفوه بكلمة ترضيكم إذا تعلق الأمر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل وتعتبرونه مؤرخا، ولو خالف جميع المؤرخين.. بل خالف العقل والنقل.

قال الساحر: ولكن كلامه مؤيد بإسناد.

قال الرجل: من السهل على أي أفاك أن يضع ألف إسناد من أجل نشر أي إفك يريد نشره.. فهل ترى من الحكمة أن نتيح له الفرصة؟

قال الساحر: لا..

قال الرجل: وهذا ما مارسه المؤرخون المسلمون الذين وضعوا منهجا علميا يميز الصادق من الكاذب ليحموا دينهم مما تعرضت له سائر الأديان من ألوان التحريف.

قال الساحر: فما قال هؤلاء في هذه الحادثة؟

القرآن.. كلمة الله (175)

قال الرجل: لقد اتفقوا على تكذيبها.. لا بالأسلوب الذي كذبناها به، وإنما بأسلوب المؤرخين المعتمد على نقد الأسانيد وتمحيصها.

سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض نقدهم للحادثة لتعلم علم اليقين أنه يستحيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يصل إليه الشيطان.. وتعلم قبل ذلك أن الله الرحيم بعباده يستحيل أن يترك الشيطان يعبث بمن جعله شمسا لهداية عباده.

من أكبر ما يبين لك عظم المغالطة التي وقع فيها من وضع هذه القصة هو أن تاريخ السيرة العطرة يؤكد أن المعراج وقع بعد السنة العاشرة من البعثة باتفاق، أما قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، إبان الهجرة الأولى للحبشة، وفى رمضان منها؛ وهذا مما يؤكد بطلان تلك المرويات.

قال الساحر: وما علاقة المعراج بسورة النجم التي نزلت فيها تلك الآيات؟

قال الرجل: لأن سورة النجم تحمل الحديث عن المعراج، وتصف ما حصل ليلة المعراج من أحداث..

قال الساحر: لا يكفي كل هذا لتفنيد الحادثة.

قال الرجل: مع أنك تخالف المنهج العلمي بقولك هذا إلا أني سأذكر لك ما قال المحدثون في نقدهم لهذه الحادثة.

لقد ذهب جماهير العلماء من المحدثين، ومن المحققين إلى إنكار القصة، والجزم بوضعها واختلاقها:

قال القاضي عياض: (إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.. ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين

القرآن.. كلمة الله (176)

التابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها، ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث ابن عباس، وضعفه الأئمة أيضاً) (1)

وقال القاضى بكر بن العلاء المالكى: (لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته: فقائل يقول إنه فى الصلاة، وآخر يقول: قالها فى نادى قومه، حيث أنزلت عليه السورة؛ وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قال: والله ما هكذا نزلت؛ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة) (2)

وقال ابن حزم: (وأما الحديث الذي فيه (وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى) فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد) (3)

وقال الإمام الرازى: (أهل التحقيق قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، ونقل عن الحافظ ابن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتاباً، كما حكى عن الإمام البيهقى قوله: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم) (4)

__________

(1) الشفا: 2/ 125، 126.

(2) انظر: الشفا: 1/ 125.

(3) الفصل فى الملل والنحل 2/ 3.8، 3.9، 311.

(4) التفسير الكبير 12/ 51.

القرآن.. كلمة الله (177)

وقال الشوكانى: (ولم يصح شئ من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه) (1)

ومن المعاصرين قال الشيخ محمد الصادق عرجون بعد أن فند الروايات التي ذكرها السيوطى فى تفسيره: (ليس فى روايات فرية الغرانيق، رواية قط متصلة الإسناد على وجه الصحة، ولم يذكر فى جميع الروايات صحابى قط على وجه موثق، وما ذكر فيه باسم ابن عباس، فكلها ضعيفة واهية خلا رواية سعيد بن جبير على الشك فى إسنادها إلى الحبر ابن عباس، والشك يوهيها) (2)

سكت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا كله كيف يغفل المحدثون الكبار عن رواية هذه القصة مع أهميتها.. إن مثلها يحتاج ـ على الأقل ـ إلى إسناد التواتر، خاصة وأنه ارتبط بها حادث تاريخي هام هو عودة المسلمين من الحبشة.

قال الساحر: ولكن الحديث رواه البخاري.. أم أنك لم تقرأ البخاري؟

قال الرجل: إن راوية البخاري للحادثة تبين وجه الحق فيها.. ففيه عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قرأ النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس.. وفى رواية للبخارى عن ابن مسعود قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم)، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف) (3)

فأنت ترى أن البخاري اقتصر على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه فرية الغرانيق.

__________

(1) فتح القدير 3/ 461.

(2) محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 2/ 69.

(3) البخاري (6/ 177)

القرآن.. كلمة الله (178)

قال الساحر: فكيف سجد المشركون مع أنهم يرفضون السجود لله؟.. لقد ذكر القرآن مدى نفورهم من السجود، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ [الفرقان: 60]

قال الرجل: أحيانا تغفل نفس الإنسان عن نفسها، أو يغفل الشيطان عن النفوس فلا تملك إلا أن تسجد.. ألم تسمع قصة السحرة مع موسى عليه السلام الذين لم يملكوا إلا أن يسجدوا؟

قال الساحر: أولئك لاحظوا العصا.. والمعجزات التي تحملها؟

قال الرجل: وهؤلاء لاحظوا القرآن.. والقرآن كلام الله.. وهو لمن تأمله وعاشه يحمل من المعجزات أضعاف ما تحمله العصا.

قال الساحر: ولكن السحرة ثبتوا على سجودهم إلى أن ماتوا في سبيله؟

قال الرجل: وهؤلاء عادوا إلى عنادهم الذي اعتادوه..

قال الساحر: فقد وقع الفرق بينهما إذن؟

قال الرجل: لا.. ليس هذا فرقا.. فقد يقر المجرم بإجرامه، ثم يتراجع عنه.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 22 ـ 23]

قال الساحر: دعنا من هذا.. فلن أصل معك فيه إلى أي نتيجة.. وهلم بنا إلى الأسانيد التي زعمت أنها أسانيد واهية.. فإن كنت استدللت بمن استدللت به على ضعفها،

القرآن.. كلمة الله (179)

فإن معي من يقويها (1).. لقد قال ابن حجر، وهو العالم المتبحر المحقق في الصناعة الحديثية: (لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثانى: عن أبى العالية)

وقال: (وقد تجرأ أبو بكر بن العربى كعادته فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه)

وقال: (وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: (ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يزيد فى القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته) (2)

قال الرجل: فقد رجع كلام الحافظ ابن حجر إلى ما ذكرنا، وهو أن القصة في أصلها صحيحة.. ومن أكبر دلائل صحتها أن البخاري رواها..

قاطعه الساحر قائلا: فلم تناقشني كل تلك المناقشات في صحتها؟

__________

(1) للأسف فإن القصة مع الدلائل الكثيرة على وضعها ومنافاتها للنبوة ظهر من العلماء من يؤيدها أو يسكت على الأقل عن ذكر وضعها، ومن هؤلاء: ابن تيمية (فى كتابه الفتاوى 10/ 170 – 172) حيث عمم الكلام فى إثبات القصة دون تحقيق منه.. ومنهم السيوطى فى الدر المنثور 6/ 65، ومناهل الصفا ص 221، والقسطلانى فى المواهب اللدنية، والزرقانى فى شرحه على المواهب 2/ 19 – 26، وذلك فى نهاية كلامهما، بعد أن كانا فى فاتحته مع ما قاله القاضى عياض من رد القصة وإبطالها.

(2) فتح البارى، كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/ 293.

القرآن.. كلمة الله (180)

قال الرجل: أنا لا أناقشك في صحة الحادثة.. ولكني أناقشك فيما التصق بها من الإفك والبهتان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك أن الكاذب لا يكذب من فراغ، وإنما يعتمد على أصل صحيح ليبني عليه كذبه..

بالإضافة إلى هذا.. فإن كلام ابن حجر لا يقبل على علاته.. فقاعدة (الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلت على أن موضوع الروايات له أصل) ليست على عمومها، ففى باب العقائد لا يقبل إلا النص الصحيح المقطوع بصحته، وفى غير أبواب العقائد من الأحكام الفرعية، فإن هذه القاعدة مقيدة، كما قال المحدثون، بالضعف الذي يزيله ما يجبره، وذلك إذا كان الضعف ناشئاً عن ضعف حفظ الراوى، أما الضعف الذي لا يزول لقوته، وتقاعد الجابر عن جبره ومقاومته فلا وزن له، ولو جاء من سبعين طريقاً متباينة المخارج، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوى متهماً بالكذب ـ كما فى بعض روايات أقصوصة الغرانيق التي جاءت من طريق الكلبى، وهو كذوب ولا تجوز الرواية عنه ـ ومثل ذلك كون الحديث شاذاً.

أما ذكره للاحتجاج بالمراسيل، فلا يسلم له.. لأن الخلاف فى الاحتجاج بالمرسل إنما هو فى أحكام الفروع، ولا يمكن أن يكون جارياً فى أصول العقائد، لأنها لا تثبت إلا بدليل صحيح، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين كما قال مسلم: (إن المرسل من الروايات فى أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) (1)

وقال ابن الصلاح: (ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر، وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه هو

__________

(1) مقدمة صحيح مسلم، 1/ 163.

القرآن.. كلمة الله (181)

المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، ونقاد الأثر) (1)

قاطع الساحر الرجل قائلا: دعنا من كل هذا.. واذكر لي ما تقول في الآية التي تقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52]

قال الرجل: أولا.. هذه الآية الكريمة من سورة الحج.. وسورة الحج مدنية باتفاق العلماء.. ولا يمكنك أن تجادلني في ذلك، فقد ورد فيها الأمر بالأذان فى الناس بالحج، والأمر بالقتال، والأمر بالجهاد، وذكر فيها الصد عن المسجد الحرام، وكل ذلك إنما كان بعد الهجرة، وبعضه أتى بعدها بعدة سنوات، وهذا يعنى أن هذه الآية قد نزلت بعد الغرانيق بسنوات عديدة، لأن قصة الغرانيق ـ كما يذكر من أرخها ـ قد حصلت فى السنة الخامسة من البعثة، فكيف أخر الله تسلية وتهدئة خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه السنين الطويلة.

ثم إن هذه الآية بعد ذلك ليس فيها دلالة على شئ من فرية الغرانيق.. فالتمنى هو تشهى حصول أمر محبوب ومرغوب فيه، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتشهى ويتمنى ما يتناسب مع وظيفته كرسول، وهى ظهور الحق والهدى، وطمس الباطل والضلال، فيلقى الشيطان بغوايته للناس ما يشوش هذه الأمنية، ويكون فتنة للذين فى قلوبهم مرض، كما ألقى فيما بين أمة موسى من الغواية ما ألقى، فينسخ الله بنور الهدى غواية الشيطان، ويظهر الحق للعقول السليمة.

قال الساحر: ولكن العلماء ذكروا أن المراد بالتمنى هو القراءة والتلاوة.

قال الرجل: ذلك معنى غريب، يخالف ظاهر اللفظ، والأصل في الألفاظ دلالتها على ظواهرها.. ومع ذلك، فإن معنى الآية لو فسرنا التمني بالقراءة لا ينسجم مع الفرية

__________

(1) علوم الحديث ص 49.

القرآن.. كلمة الله (182)

التي ذكرتها..

فالآية ـ حينذاك ـ إعلام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن من أرسل قبله من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه، حرفوا عليه، وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود فى الكذب على أنبيائهم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 41]

لقد ذكر بعض المفسرين للآية تفسيرا حسنا قال فيه: (ذكر الله تعالى مسلاة لنبيه، باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء، وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم، متمنين لذلك، مثابرين عليه، وأنه ما منهم أحد إلا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه، وبث ذلك إليهم، وإلقائه فى نفوسهم، كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه، وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث، يلقون لقومه، وللوافدين عليه شبهات يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [الحج: 51]، وسعيهم بإلقاء الشبه فى قلوب من استمالوه، ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه هو المغوى والمحرك شياطين الإنس للإغواء لما قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82] ومعنى: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: 52] يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس كما قال: ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ [النصر: 2] ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ [الحج: 52] معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾

القرآن.. كلمة الله (183)

[الحج: 53] أي ليجعل من تلك الشبه وزخارف القول فتنة لمريض القلب ولقاسية، وليعلم من أوتى العلم أن ما تمنى الرسول والنبي من هداية قومه، وإيمانهم هو الحق.. وهذه الآية ليس فيها إسناد شئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا) (1)

د ـ الوحي والمعلمين

بعد أن استمعت للأحاديث التي ترد على شبهة علاقة الوحي بالشياطين، وجدت نفسي جالسا في مقهى، ومع بعض الجالسين فيها، ويبدو أني لم أكن أظهر لهم فيها، لأنهم لم يسألوني عني، وعن سر جلوسي معهم.. بل كانوا مشغولين تماما بأحاديثهم..

وكان أول ما طرق سمعي فيها صوت لم يكن غريبا علي يقول: سأذكر لكم أيها الأصدقاء الذين عدلوا عن مذهبي بعد أن كانوا أساتذتي فيه.. أدلتي التي وعدتكم بها على كون ما جاء به محمد مجرد نتاج ثقافي نابع من البيئة التي نشأ فيها، ولا علاقة له بالسماء، ولا بالوحي، ولا بالله.. وهي أدلة تاريخية لا يمكن لأحد أن يجادل فيها.

قال أحد الجالسين: نحن في الاستماع.. لكن نرجو ألا تكون أدلتك نفس الأدلة التي كنا نوحي بها إليك.. فقد تبرأنا لله منها، وتبنا، وعلمنا أنا كنا نناطح الجبال بكبريائنا وغرورنا.

قال الحداثي: لا تخافوا.. فأدلتي هذه مدعمة تاريخيا وعلميا.. بل كل شيء يدل عليها.. وهي جديدة عليكم.. ولعلكم لو فطنتم لها ما ارتددتم على أعقابكم، وتحولتم إلى هذا الذي صرتم إليه.

قالوا: فهاتها.. فنحن في الاستماع.

__________

(1) البحر المحيط 6/ 381.

القرآن.. كلمة الله (184)

قال: لقد ثبت لي بالأدلة التاريخية الوافية أن محمدا تلقى علومه التي بثها في قرآنه من الأحبار والرهبان المسيحيين وغيرهم، والذين كانوا يتواجدون بكثرة في الجزيرة العربية.. وفي التاريخ ما يدل على ذلك.. ففيه ما يدل على خروج محمد مع عمه أبي طالب إلى الشام، وهناك التقى بذلك الراهب الكبير المعروف.. لقد كان من كبار من ذكر هذا أستاذنا المستشرق الكبير [نورمان دانيال] الذي ذكر أن محمداً تعلم من راهب نصراني اسمه بحيرا أو جرجيس أو سرجيوس.. فهل من الحضور من يجادل في هذه الحقيقة التاريخية.. وهو ذلك اللقاء التاريخي بين محمد وهذا الراهب؟

قال أحد الجالسين: إن قولك هذا يدخل ضمن ذلك المثل العربي المعروف (تمخض الجبل فولد فأرا).. ذلك أن هذه الشبهة قديمة جدا.. وتافهة جدا.. لأنها لا تمثل إلا غرور المتكبرين والمتعالين على الحقيقة.

أنا لن أجادلك في اللقاء (1).. ولكني أريد أن أذكر لك أن التاريخ الذي تستند إليه لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أنه سافر إلى الشام في تجارة مرتين، مرة في طفولته ومرة في شبابه، ولم يسافر غير هاتين المرتين، ولم يجاوز سوق بصرى فيهما، ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين، ولم يكن أمره سرا هناك، بل كان معه شاهد في المرة الأولى، وهو عمه أبو طالب، وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتجارتها أيامئذ.. وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن، ثم حذره عليه من اليهود، وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته، كذلك روي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف ورواية

__________

(1) انظر هذه الردود في مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 421)، وهو اقتبسها من غيره، مثل: الوحي المحمدي، ص 65، وما بعدها وغيره.

القرآن.. كلمة الله (185)

الترمذي ليس فيها اسم بحيرا، وليس في شيء من الروايات أنه سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق، فأنى يؤفكون.

قال آخر: بالإضافة على ذلك.. فإن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل عليه السلام ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين، وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه.

قال آخر: بالإضافة على ذلك.. فإنه لو كان بحيرا الراهب هو مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم، ولم يكله إلى غيره.

قال آخر: بالإضافة على ذلك.. فإنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان تعليمه وثقافته، ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العالم كله لمجرد أنه لقي مصادفة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين، على حين أن التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة، وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى، وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية، وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها.

قال آخر: بالإضافة على ذلك.. فإن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته، خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف، وحسبك أدلة على ذلك أن تجري أي مقارنة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره..

القرآن.. كلمة الله (186)

وحسبك أن تنظر كيف تعامل القرآن الكريم مع علوم أهل الكتاب في زمانه، وكيف تصدى لتصحيحها، وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها، وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها.

قال آخر: بالإضافة على ذلك.. فإن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا، لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة.

قال الحداثي: لا بأس.. فقد يكون كل ما ذكرتموه صحيحا.. فبحيرا لا يمكن أن يكون هو معلم محمد.. لكن كان هناك من هو من أهل مكة، وقد كان محمد يزوره، ويتحدث إليه، ولا يبعد أن يكون قد تلقى عنه.. إنه غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعا يبيع عند الصفا.

قال أحد الجالسين: لكن القرآن أخبر أن هذا الرجل كان أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير منها، بقدر ما يَرُد جواب الخطاب فيما لا بد منه؛ فكيف يمكن أن يتلقى تعاليم دين كامل من مثل هذا؟..

قال آخر: لقد قال الله تعالى في الرد عليهم في افترائهم ذلك: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].. فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن، في فَصَاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة، التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟!

قال آخر: بل إن الرد القرآني لا يقتصر على هذا، فقد جاءت الآيات بعدها تقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 104 ـ 105]، فهل يمكن لمن ينقل مثل هذا

القرآن.. كلمة الله (187)

الكلام أن يكون كاذبا على الله؟

قال آخر: لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ بشهادة قومه ـ أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بالأمين محمد.

قال الحداثي: لا بأس.. لقد ذكرتم أن هذا الرجل لم يكن له من البلاغة ما يكفي لأن يتعلم منه محمد.. وأنا أصدقكم في ذلك.. فلم يكن للعيي أن يعلم البليغ.. ولكن أليس من الممكن أن يكون محمد قد تعلم القرآن من أصحابه.. خاصة وأن فيهم الشعراء والأدباء؟

لقد وجدت الدليل على هذا.. وهو ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآيات: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12 ـ 14]

لقد ذكروا أن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ إلى قوله: ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾، فقال معاذ: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: بها ختمت ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾

قال أحد الجالسين: لقد قمت ببحث تفصيلي في هذه الرواية فوجدت أنها مكذوبة.. ذلك أنه من الثابت تاريخيا، وبإجماع، أن زيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك معاذ بن جبل إنما أسلم بالمدينة، لأنه كان من سكانها، بينما هذه السورة نزلت بمكة.. ثم بعد هذا من الثابت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا نزل عليه الوحى يأخذ العرق يتصبب من جسده، ويكون فى غيبة عمن حوله، فإذا انقضى الوحى أخذ فى ذكر وتلاوة ما نزل عليه من القرآن،

القرآن.. كلمة الله (188)

وهذا ما تقرره كل كتب السيرة، وهذا يدل على أن محمدا لا يبدأ فى الإملاء على كاتب وحيه إلا بعد اكتمال نزول الوحى.

قال الحداثي: فما تقولون فيما ذكره النضر بن الحارث (1) وغيره من قوم محمد، من أن ما جاء به محمد ليس بجديد، وإنما أخذ بعضاً من اليهودية، وبعضاً من المسيحية، وبعضاً من قصص الفرس، فكون من هذا الخليط كله القرآن.

قال بعض الجالسين: أنت تردد بهذا الشبهة القديمة التي أثارها من المستشرقين أمثال نورمان دانيال وغيره.. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الشبهة.. وهو دليل على أنها شبهة ساقطة، لأن الإنسان في العادة يفر من الأقوال التي يرى فيها خطرا عليه.. اسمع لما ورد في القرآن من تعلق المشركين بهذه الشبهة: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25].. ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 31]

قال آخر: إن الذين يوردون هذه الشبهة يغيبون عن المعاني العميقة التي يحويها القرآن بالجدل في الوسائل التي يستعملها.. ولو أنهم تأملوا غايات القرآن لعرفوا سر اختيار هذا النوع من القصص، والذي سماه القرآن أحسن القصص: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]

فأحسن القصص هو ما توفرت فيه الواقعية بالإضافة إلى صلاحيته كنموذج

__________

(1) وقد نص على ذلك سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ، وابن جُرَيج وغيرهم؛ وكان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رُسْتم واسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان إذا قام صلى الله عليه وآله وسلم من مجلس، جلس فيه النضر فيحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله أيهما أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟

القرآن.. كلمة الله (189)

سلوكي رفيع يمكن أن يحتذى.. ولهذا لما ذكر القرآن أسماء الأنبياء الذين وردت مشاهد من حياتهم فيه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]

أرأيت لو أن القرآن ذكر لهم اسما غريبا لم يعرفوه.. ثم ذكر لهم من المشاهد الرفيعة ما دعاهم إلى سلوك مثله.. أكانوا يقبلون؟

سيقولون حينها: (افتراه).. لقد ذكر القرآن هذا: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 38].. ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: 13].. ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: 35].. ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الأحقاف: 8].. وغيرها من الآيات، وهي تدل على أن هناك فريقا لا بأس به من أعداء محمد كانوا يتصورونه مفتريا لتلك القصص وغيرها، مختلقا لها.

قال آخر: لقد كان هناك فريقان متناقضان.. لكن بغضهما لمحمد جعلهما يتفقان.. وهذان الفريقان لم يخلو منهما التاريخ.. وإلى يومنا هذا لا زالت الأيام تلد هذين الصنفين من الناس: القائلين بابتداع محمد لدينه، والقائلين بنقله عن غيره.

قال الحداثي: لم يبق إلا أنه من تأليفه الخاص.. ولا تتعجبوا من ذلك.. فقد نرى الرجل العبقري يخرج عنه من عجائب العلوم ما يظل غيره محتارا فيه.

قال أحد الجالسين: وهذه الشبهة أيضا قديمة، وقد ذكرها المشركون في معرض حربهم لمحمد، وقد ذكرها القرآن، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي

القرآن.. كلمة الله (190)

وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: 35]، وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [السجدة: 3].. وتلقفها عنهم الكثير من المستشرقين من أمثال بيرسي هورنستاين، ويوليوس فلهاوزن، ود. بروس ود. لوبون.. وغيره.. وهي خدعة من الخدع.. لأنهم وضعوا في أنفسهم هدفا.. ورأوا أنهم لابد أن يحتالوا بكل حيلة للوصول إليه، ولا يهمهم في ذلك استعمال الصدق أو استعمال الكذب، ولا يهمهم في نتائج بحثهم أن يصلوا إلى الحق أم إلى الباطل.

قال آخر: مع أن كل ما في القرآن، وما في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يرد على هذه الشبهة إلا أني أدعوك إلى المقارنة بين أسلوب القرآن وأسلوب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وارجع في ذلك إلى كتب الأحاديث التي جمعت أقوال محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنها بالقرآن.. وكن صادقا في مقارنتك.. فستجد الفرق شاسعا بين الأسلوبين.. فحديث محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهيم والتعليم والخطابة في صورها ومعناها المألوف لدى العرب كافة، بخلاف أسلوب القرآن الذي لا يُعرف له شبيه في أساليب العرب.

قال آخر: إنك تشعر عند قراءة الحديث النبوي أنك أمام شخصية بشرية تعتريها الخشية والمهابة والضعف أمام الله، بخلاف القرآن الذي يتراءى للقارئ من خلال آياته أن مصدرها ذاتا جبارة عادلة حكيمة خالقة بارئة مصورة رحيمة لا تضعف حتى في مواضع الرحمة.

قال آخر: لو كان القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكان أسلوبه وأسلوب الأحاديث سواء..

قال آخر: نحن جميعا لنا علاقة باللغة والتعبير.. ونعلم أنه من المتعذر على الشخص الواحد أن يكون له في بيانه أسلوبان يختلف أحدهما عن الآخر اختلافاً جذرياً.

قال آخر: لنترك هذا.. ونذهب إلى الغاية من نسبة ما ألفه إلى الله.. لقد كان أهل

القرآن.. كلمة الله (191)

البلاغة يتمتعون عند العرب بمكانة رفيعة، ولو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نسب القرآن إلى نفسه لنال من الدنيا أكثر مما نالها بنسبة القرآن إلى الله.. بل إنه لو فعل ذلك لُرفَع إلى مرتبة أسمى من مرتبة البشر، فأي مصلحة أو غاية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في أن يؤلف القرآن ـ وهو عمل جبار معجز ـ ثم يكتفي بنسبته لغيره؟

قال الحداثي: لم يبق إلا أنه كشف كشف له، أو إلهام حصل له مثلما هو الحال عند صوفية المسلمين وغيرهم.. وكلهم متفقون على أنه لا يمكن اعتبار ذلك مقدسا.. بل هي تجربة خاصة بالذين تحصل لهم.

قال أحد الجالسين (1): فرق كبير بين الكشف والإلهام والوحي الإلهي.. فالكشف يكون ثمرة من ثمار الكد والجهد أو أثرا من آثار الرياضة الروحية أو نتيجة للتفكير الطويل، فلا ينشئ في النفس يقينا كاملا ولا شبه كامل، بل يظل أمرا شخصيا ذاتيا لا يتلقى الحقيقة من مصدر أعلى وأسمى.

قال آخر: كشف العارفين كإلهام الواصلين وجدان تعرفه النفس معرفة دون اليقين، وتنساق إليه من غير شعور بمصدره الحقيقي، فيدخل فيه ذوق المتذوقين ووجد المتواجدين، بل تدخل فيه أيضا أسطورة آلهة الشعر عند اليونان، وأسطورة شياطين الشعر عند العرب الجاهليين!

قال آخر: الكشف كالإلهام كلاهما موغل في الإبهام، لاحتلالهما حاشية اللاشعور، وهي حاشية ـ كما يوحي اسمها ـ أبعد ما تكون عن حالات الحس والشعور.. فإذا قيل في إنسان: إنه من أولي الكشف والإلهام لم يسم به ذلك إلى درجة النبوة والوحي، لأن في كل

__________

(1) انظر: مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، ص 26.. وهو لذلك يخطئ محمد عبده حين جعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس [رسالة التوحيد، ص 108]

القرآن.. كلمة الله (192)

وحي وعيا، وفي كل نبوة شعورا بمعناها وإدراكا لمغزاها، وإنما يرمى باللاوعي من فقد الوعي، ويوصم باللاشعور من حرم الشعور!

قال آخر: طبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لهذه الأساليب اللاشعورية التي تستشف حجاب المجهول بالفراسة الذكية الخفية والحدس الباطني السريع، مثلما تأبى الخضوع لمقاييس الحس الظاهرة التي تخترق حرمات المجهول بالأدلة المنطقية والاستنباط المتروي البطيء، وإنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين: ذات متكلمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقية.

قال آخر: وعلى هذا النمط رسم النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه، فقال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول) (1)، فكشف النقاب صراحة عن صورتين من الوحي: إحداهما عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، ولديه يسمع صوتا متعاقبا متداركا كصوت الجرس المصلصل المجلجل؛ والثانية عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشاكله في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه بالقول ولا يرعبه، وما من شك في أن الصورة الأولى أشد وطأ وأثقل قولا، كما قال الله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5] حتى كان يصحب الوحي فيها رشح الجبين عرقا، كما قالت السيدة عائشة: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا) (2)، بل كان وطأة الوحي في هذ الصورة تبلغ أحيانا من الشدة والثقل حدا يجعل (راحلته تبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد

__________

(1) البخاري، 1/ 6.

(2) صحيح البخاري 1/ 71..

القرآن.. كلمة الله (193)

بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها)

أما الصورة الثانية فهي أخف وطأ وألطف وقعا، فلا أصوات تجلجل، ولا جبين يرشح، بل تشابه شكلي بين الملقي والمتلقي، ييسر الأمر في الوقت نفسه على ناقل الوحي الأميل وعلى النبي المصطفى الكريم.

قال آخر: في كلتا الصورتين يحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وعي ما أوحي إليه، إذ قال في الأولى: (فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وفي الثانية (فيكلمني فأعي ما يقول)، فأثبت لنفسه الوعي الكامل لحالته قبل الوحي، وحالته بعد الوحي، وحالته أثناء الوحي، سواء أخفت أم اشتدت وطأة النازل القرآني عليه.

قال آخر: وبهذا الوعي الكامل لم يخلط صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة ـ طلية العصر القرآني الذي يضم كل مراحل التنزيل ـ بين شخصيته الإنسانية المأمورة المتلقية وشخصية الوحي الآمرة المتعالية، فهو واع أنه إنسان ضعيف بين يدي الله، يخشى أن يحول الله بينه وبين قلبه، ويبتهل إلى ربه في دعائه المأثور: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)؛ بل كان أول عهده بنزول الوحي ـ مخافة ضياع بعض الآيات من صدره ـ يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، ويحرك به لسانه وشفتيه ليستذكره ولا ينساه، ويحرص على متابعة جبريل في كل حرف يدارسه إياه (1)، حتى يسر الله عليه حفظه بتفريقه وتنجيمه، وأمره بالاطمئنان إلى وعده فقال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 16 ـ 18]

4. اليقين الجازم

خرجت من تلك المقهى من غير أن أعرف مصير تلك الجلسة، ولا مصير ذلك

__________

(1) صحيح البخاري 6/ 163.

القرآن.. كلمة الله (194)

الحداثي، وهل استطاع أصحابه إقناعه بالعدول عن مواقفه، أو عجزوا عن ذلك.. ولو أني كنت ألاحظ من خلال ليونته وحسن استماعه لما يورده أصدقاؤه من أدلة وردود أنه يكاد يميل إليهم، وأنه ـ بطرحه لتلك الشبهات ـ لم يكن يقوم سوى بكسر ما بقي لديه منها ليتحول إلى ما تحولوا إليه.

وجدت نفسي بعدها أمام محكمة، وأمام شخصين يتحدثان، عرفت من خلال حديثهما أن أحدهما قاض، والآخر محام..

قال القاضي: صدقني.. إن ملامح وجهه ونبرة حديثه تدل على أنه صادق في دعواه.. بالإضافة إلى أنه تحمل كل أصناف العناء، وواجه كل ألوان الإغراء التي تحاول صرفه عن دعواه لكنه لم يتبرأ منها، أو يتغير عنها.. ولذلك حكمت له بناء على ما تبين لي.

قال المحامي: أنا معك في هذا، وقد أعجبني حكمك بشأنه.. لكني لا أريد أن أحدثك عنه.. بل أريد أن أحدثك فيما هو أعظم شأنا.

قال القاضي: لم أفهم.. هل هناك قضية أخرى غير تلك القضية تريد أن تطرحها علي في هذا المجلس الخاص.

قال المحامي: أجل.. وأريد طرحها كصديق وناصح.. لا كمحام وزميل.

قال القاضي: فهات ما عندك.. فأنا لا أستطيع أن أحرم نفسي من صداقتك وصحبتك.. لكن إياك أن تطلب مني أن أرحم مجرما، أو أعفو عن ظالم.. فالعدل عندي فوق الصداقة والزمالة.. بل فوق كل شيء.

قال المحامي: لا تخف.. فأنا لن أدعوك إلا إلى العدل الذي عرفتك به.. والذي لم تثنك عنه الهدايا والرشاوى وكل الإغراءات.

قال القاضي: فأخبرني من هو المتهم.. وما جريمته؟

القرآن.. كلمة الله (195)

قال المحامي: المتهم هو أنت سيدي وصديقي وزميلي القاضي.. وجريمتك أنك اتهمت أكرم البشر وأطهرهم وأقدسهم بالكذب والتزوير.

قال القاضي: معاذ الله أن أفعل ذلك.. من يكون هذا المقدس الطاهر الذي اتهمته؟

قال المحامي: محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذاك الذي اتهمته بادعاء النبوة، وكذبته في دعواه بتنزل الوحي الإلهي عليه.

قال القاضي: أنا لم أقل ذلك دعوى.. وإنما ببينات تبينت لي.. وقد حكمت بعدها كما أحكم على خصومي.

قال المحامي: لقد سمعت لكل بيناتك في جلساتنا الكثيرة.. وقد تبين لي فيها أنك لم تكن صادقا مع نفسك.. بل كنت تنتقي ما تشاء لتبرر حكمك.

قال القاضي: كيف ذلك؟

قال المحامي: ألم تكن تكرر علينا في جلساتك ما قال المبشرون والمستشرقون والحداثيون والملاحدة.. بل حتى قوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين والمنافقين واليهود؟

قال القاضي: بلى.. ولو أن هؤلاء وجدوا ما عند محمد من الحق لنطقوا به، وأقلعوا عن عدائهم له.

قال المحامي: وهذا هو الانتقاء بعينه.. وهذه هي المكاييل المزدوجة.. ذلك أنك استمعت إلى الأعداء، ولم تستمع للأصدقاء.. وكان الأصل أن تستمع للجميع.. ألست تفعل ذلك في جلسات المحاكمة حين تسمع للمدعي والمحامي كليهما؟

قال القاضي: لكني أعلم أن الأصدقاء قد تعميهم صداقتهم عن النطق بالحق.. ولذلك كانت شهادتهم لا تختلف عن شهادة الأب لابنه، والأخ لأخيه.

قال المحامي: وشهادة الأعداء لا تختلف عن شهادة العدو لعدوه.

القرآن.. كلمة الله (196)

ابتسم القاضي، وقال: لا بأس.. فلنطرحهما جميعا.. ولنرح أنفسنا عن عناء سماع الدعوى والحكم فيها.. هل هذا يرضيك؟

قال المحامي: لا.. لن يرضيني.. لأنك طففت في المكيال أيضا.

قال القاضي: كيف ذلك.. وأنا لم أستمع.. لا للمدعي.. ولا للمحامي؟

قال المحامي: ولم تسمع أيضا لصاحب الدعوى.. الذي هو أولى الناس بالتعريف بنفسه ودعواه.. ألم تكن تذكر لي الآن اعتراف المدعي، وأن ملامح وجهه ونبرات حديثه تدل على صدقه؟

قال القاضي: بلى.. وأنا أحكم في الكثير من القضايا بناء على هذا.. فالاعتراف سيد الأدلة.

قال المحامي: فهلا تأملت في اعترافات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته، وإصراره وثباته عليها.. وفي كل الظروف والأحوال.. حتى أنه تعرض في سبيلها لكل ألوان العناء والتعب.. ولم يثنه كل ذلك عنها.

سكت القاضي قليلا، ثم قال: لست أدري ما أقول لك.. فأنا كما تعرفني لا أحب الكذب ولا الخداع.. لكن ما ذكرته صحيح.. فأنا كنت أبحث في محمد من خلال ما قيل عنه وفيه.. لا من خلال دراستي لشخصه.

قال المحامي: فأنا أنصحك لذلك أن تدرس قضيته من جديد، ومن هذا الباب، بعيدا عن كل الإملاءات التي تُملى عليك، سواء من أصدقائه المقربين، أو أعدائه الأبعدين.

قال القاضي: لك ذلك.. ويشرفني أن تزورني هذا المساء في بيتي.. لا في مجلس القضاء.. لنتباحث في هذه الشؤون.

قالا ذلك.. ثم سارا إلى المحكمة، ولم أستطع اللحاق بهما.. لكني سمعت في طريقي

القرآن.. كلمة الله (197)

رجلا يقول لصاحبه وهو يحاوره: لقد كان من أكبر الأدلة التي اهتديت بها إلى نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدق ما جاء به هو ذلك اليقين الذي كان يعمر قلبه وعقله بكونه نبيا، وقد كان أول من دلني على ذلك مهندس عمر الله قلبه بالإيمان (1).. لقد قال لي، وهو يحاورني: يبدو أن الكتّاب المحدثين لم يأخذوا في اعتبارهم ـ أثناء تحليلهم للظاهرة القرآنية ـ حقيقة نفسية جوهرية هي: اقتناع النبي الشخصي.. فمن الواضح أن انفراد النبي بكونه الشاهد الوحيد المباشر على الظاهرة، يخلع على هذه الحقيقة قيمة استثنائية خاصة.

قلت له مستغربا: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟

قال: لقد رأيت أنه ـ مع كثرة الدراسات التي ألفها المستشرقون والمستغربون عن محمد والقرآن ـ إلا أنهم لم يعيروا اعترافاته وإقراراته أي اهتمام.. بل إننا نجد دراساتهم تعكس تناقضاً مزدوجاً؛ فهي من ناحية تعد الوحي ظاهرة ذاتية.. ومن ناحية أخرى لا تعتبر في دراستها لهذه الظاهرة شهادة الذات المقترنة بها اقتراناً تاماً.

قلت: هل تقصد البحث عن شخصية محمد والتعرف عليها من كل الزوايا للتحقق من مدى صدقه في دعواه؟

قال: ليس ذلك فقط.. بل أقصد أن ننظر في رأي هذه الذات الخاص في نفسها، وفي الظاهرة التي نبحثها، ذلك الرأي الذي ينعكس بكل وضوح في اقتناعها النهائي.. فالأمر على هذا يقتضي أن نتناول هذا الاقتناع ـ الذي ندرسه في نطاق قيمته العقلية ـ بوصفه برهاناً مباشراً على الظاهرة القرآنية، وعلى صفتها العلوية.. وهذه القيمة العقلية مرتبطة بالطريقة التي تنشئ الاقتناع في نفس النبي.

قلت: لم أفهم ما الذي تقصده بالضبط؟

__________

(1) أشير به إلى مالك بن نبي.. وقد ذكر هذا في كتابه الظاهرة القرآنية، ص 147، فما بعدها..

القرآن.. كلمة الله (198)

قال: لقد كان أول ما دلني على القرآن، وأقنعني به قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]

ومثلها الآيات التي تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكونه لم يكن يعلم بما يوحى إليه حتى يوحى إليه، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]

ومثلها الآيات التي تخبر عن كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يطمح أو يحلم بأن يصير نبيا.. وأن ذلك محض اصطفاء من الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ﴾ [القصص: 86]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخطط للنبوة.. وإنما طرأت عليه.. وأنه لا يعرف متى سيوحى إليه.. وبما سيوحى.

قلت: فما الذي فهمته من كل هذا؟

قال: لقد كنت أتوهم قبل اهتدائي إليه أنه في أحسن أحواله يكون قد تألم لما رأى في قومه من الجهالة؛ فراح يفكر ويقدر ويخطط إلى أن اهتدى إلى هذه الوسيلة لإصلاح حال قومه.. لكني اكتشفت من خلال القرآن الكريم أنه لم يكن كذلك.. وأن كل الذي حصل له طرأ عليه، وفي سن الأربعين وما بعدها.

وقد جعلني كل ذلك أراجع نفسي، وأبحث في أخلاقه وسلوكه وسيرته قبل بعثته.. والبيئة التي عاش فيها، والأدوار التي أداها.. وكل ذلك جعلني أقتنع اقتناعا تاما بنبوته، وكون الوحي الموحى به إليه وحي إلهي.. لا يجادل في ذلك إلا جاحد أو مكابر.

القرآن.. كلمة الله (199)

أ ـ التأكيدات الإلهية

ما انتهى حديثهما إلى ذلك الموضع، حتى انصرفا عني، ووجدت نفسي بعدهما في حلقة كبيرة في مسجد عتيق.. وقد التف الجميع حول شخص يحدثهم عن نفسه، ويقول: لقد كان أول ما دلني على نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدق الوحي الذي جاء به تلك الآيات التي تقرن اسمه الشريف الطاهر بالنبوة.

قال بعض الحضور: هل تقصد قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].. وقوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 40].. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 2].. وقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].. فهذه الآيات كانت كافية لي للإيمان.. ذلك أني عندما قرأت القرآن الكريم، وعشقت معانيه الجميلة، وبيانه البديع.. لم يكن لي أن آخذ كل ذلك، ثم أترك هذه المعاني النبيلة التي وردت بها هذه الآيات الكريمة.

قال آخر: لقد ذكرتني بنفسي.. فأنا أيضا التفت لما التفت إليه.. لكن كان الذي هز كل كياني تلك الآيات التي يصرح فيها الله تعالى بكونه أرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم..

أخرج ورقة من جيبه.. وقال: لقد سجلتها.. وأنا كل يوم أقرؤها وأتأملها وأعيش معانيها الجميلة.. وأولها ذلك الشعور الجميل الذي يربطني بالله، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد رأيت نفسي مثل ذلك الغريق الذي يطلب النجدة.. وأن الله قد أغاثه بما أرسل وأنزل.

قال ذلك.. ثم أخذ يرتل بصوت جميل قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

القرآن.. كلمة الله (200)

وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ [البقرة: 119].. وقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79].. وقوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].. وقوله: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الرعد: 30].. وقوله: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ [الإسراء: 54].. وقوله: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء: 105].. وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].. وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفرقان: 56].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45].. وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28].. وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24].. وقوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48].. وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفتح: 8]

بعد أن انتهى من تلاوة الآيات الكريمة قال آخر: ومثلكما أنا.. وقد شد انتباهي تلك الآيات التي يخاطب الله تعالى فيها نبيه بوصف النبوة.. والتي شملت المعاني والأحكام المختلفة.. لكني لم أكتبها كما كتبها صديقي.. وإنما حفظتها عن ظهر قلب.. وأنا أرددها كل يوم.. بل كل حين.. لأني علمت أني لن أتقرب من الله إلا بقدر تقربي من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

قال ذلك، ثم أخذ يرتل بصوت جميل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ

القرآن.. كلمة الله (201)

قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال: 70].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التوبة: 73].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الأحزاب: 1].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 28].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 12].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التحريم: 9]

بعد أن انتهى من تلاوة الآيات الكريمة قال آخر: ومثلكم أنا.. لكن الذي شدني الآيات التي يخاطب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بوصف الرسالة.. وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41].. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ

القرآن.. كلمة الله (202)

مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67]

بعد أن انتهى من تلاوة الآيات الكريمة قال آخر: ومثلكم أنا.. لكن الذي شدني الآيات التي يخبر الله تعالى فيه عن إنزاله القرآن على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: 2 ـ 3].. وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: 7].. وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ [البقرة: 99].. وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105].. وقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 48].. وقوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94].. وقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44].. وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ [العنكبوت: 47].. وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2].. وقوله: ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾ [طه: 1 ـ 4].. وقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ [الإنسان: 23]، وغيرها من الآيات الكريمة.

ب ـ اليقين النبوي

قال آخر: ومثلكم أنا.. لكن الذي جذبني تلك الآيات التي يدعو الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم

القرآن.. كلمة الله (203)

بتذكير قومه بنبوته ورسالته.. كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]

لقد وجدت من خلال قراءتي للقرآن الكريم أن كل الأنبياء ذكروا نفس ما دعي إلى ذكره.. فكلهم بدأ دعوته لقومه بتذكيرهم بكونه رسولا من عند الله.

لقد ذكر الله تعالى ذلك عن نوح عليه السلام، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: 25].. وقال: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 59 ـ 62]

وذكره عن هود عليه السلام، فقال: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف: 65 ـ 68]

وذكره عن موسى عليه السلام، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: 5].. وقال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: 103 ـ 105]

القرآن.. كلمة الله (204)

وذكره عن عيسى عليه السلام، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6]

وهكذا وجدت كل الأنبياء عليهم السلام يذكرون ذلك.. ويجعلونه الأساس الأول لدعوتهم.

قال آخر: ذلك مثل الطبيب الذي يحل بين قوم لا يعرفونه.. فهو يحتاج إلى أن يعرفهم بنفسه ووظيفته، حتى يتمكن من تقديم خدماته لهم.

قال آخر: بمناسبة حديثكم هذا أريد أن أذكر لكم حديثا نفرت نفسي منه، لأني رأيته متعارضا مع التحضير الإلهي لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فهل تأذنون لي في طرحه، وطرح رأيي حوله؟

قالوا: أجل.. فنحن ما اجتمعنا إلا لذلك.

قال: لقد ورد في حديث مشهور في المصادر السنية عن عائشة أنها قالت:: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق ـ وفي رواية: حتى فجأه الحق ـ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ.. قال: ما أنا بقارئ.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني. فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ.. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ

القرآن.. كلمة الله (205)

بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 ـ 5] (1).. وهذا الجزء من الحديث لا إشكال فيه، وهو متوافق تماما مع القرآن الكريم، ومع الآيات التي كنا نقرؤها.

أما الجزء الثاني منه، والذي هو محل شك وتردد لكونه معارضا للكثير من الحقائق المرتبطة بالنبوة، هو ما روي عن عائشة أنها قالت: فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.. فقال لخديجة ـ وأخبرها الخبر ـ: لقد خشيت على نفسي.. فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم. وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.. فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ـ وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها ـ وكان امرؤا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر ما رأى؛ فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي) (2)

وهذا الجزء هو الذي أثار لدي الكثير من التساؤلات.. وقد رأيت معارضته لما ورد في القرآن الكريم من يقين الأنبياء بنبوتهم، وعدم حاجتهم لمصادر خارجية لتثبت لهم ذلك.

__________

(1) البخاري (1/ 3 و6/ 214 و215 و9/ 37) ومسلم (1/ 97 و98)

(2) البخاري (1/ 3 و6/ 214 و215 و9/ 37) ومسلم (1/ 97 و98)

القرآن.. كلمة الله (206)

لقد حكى الله تعالى ذلك عن موسى عليه السلام؛ فهو لما جاءه الوحي أيقن به مباشرة، بل سأل الله تعالى أن يعينه على أداء ما كلف به، كما قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه: 9 ـ 13]

ثم ذكر جواب موسى عليه السلام والذي لم يحتج ليتأكد من الوحي للرجوع لأي جهة، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ [طه: 25 ـ 35]

لقد قلت في نفسي: كيف يكون موسى عليه السلام والذي هو أقل مسؤليات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بالوحي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قال آخر: لقد ذكرني حديثك هذا بحديث آخر، أكثر منه غرابة ونكارة.. وهو ما روي عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تنزل الوحي عليه: أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به.. فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس على فخذي اليمنى، قالت: فتحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم.. قالت: فتحول فاجلس في حجري، قالت: فتحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قال: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في حجرها، ثم قالت

القرآن.. كلمة الله (207)

له: هل تراه؟ قال: لا، قالت: يا ابن عم، اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك وما هذا بشيطان (1).

قال آخر: ومثل ذلك ما روي أن خديجة أرسلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر إلى ورقة بن نوفل فأخبره صلى الله عليه وآله وسلم أنه يسمع نداءً خلفه: يا محمد، يا محمد، فينطلق هارباً في الأرض، فأمره ورقة أن يثبت؛ ليسمع ما يقول ثم يخبره، ففعل فناداه: يا محمد، قل: ﴿بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ حتى بلغ، ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ قل لا إله إلا الله، فأخبر ورقة؛ فبشره بأنه هو الذي بشر به ابن مريم؛ فلما توفي ورقة قال صلى الله عليه وآله وسلم: لقد رأيت القس في الجنة، عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني (2).

قال آخر: هذه الأحاديث وغيرها متعارضة مع كل الآيات الدالة على يقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته وجزمه بها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57].. وقوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].. فهل بصيرته صلى الله عليه وآله وسلم هي سكون نفسه إلى قول ورقة؟ وبصيرة من اتبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجة فيه قاطعة؟

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163].. فهل كان اعتمادهم في نبوتهم على مثل ما تقصه هذه القصص؟

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هذه الأحاديث تذكر خوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي، وهو يتعارض مع قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 10]، وقد روي في الحديث أن الإمام الصادق سئل: كيف لم يخف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما

__________

(1) سيرة ابن هشام ت السقا (1/ 239)

(2) البداية والنهاية ج 3 ص 9 ـ 10 والروض الأنف ج 1 ص 274 ـ 275.

القرآن.. كلمة الله (208)

يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان؟.. فقال: (إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه) (1)

قال آخر: بمناسبة ذكرك للإمام الصادق.. لقد بحثت عما ورد عن العترة الطاهرة مما يرتبط بهذا المعنى؛ فوجدت عكس ذلك تماما.. فهم يذكرون طمأنينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، وأنه رجع إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به، مطمئناً إلى المهمة التي أوكلت إليه.. وأن أهله صلى الله عليه وآله وسلم شاركوه في السرور، وأسلموا.

قال آخر: أجل.. فقد روي عن الإمام الصادق أنه سئل: كيف علمت الرسل أنها رسل؟.. فقال: كشف عنهم الغطاء (2).

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ورد في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يختره الله لنبوته، إلا بعد أن أكمل عقله وأدبه فأحسن تأديبه.. وعرفه من أسرار ملكوت السماوات والأرض ما يؤهله للقيام بمهمة السفارة وتبليغ رسالة الله الى العالمين، كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام (3).. وقد روي في الحديث عن الإمام علي أنه قال: (لقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره) (4)، وقال الإمام العسكري: (إن الله وجد قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل القلوب وأوعاها فاختاره لنبوته) (5)

قال آخر: وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما بعث الله نبيا ولا رسولا حتى

__________

(1) تفسير العياشي ج 2 ص 201 والبحار ج 18 ص 262..

(2) التمهيد ج 1 ص 50، والبحار ج 11 ص 56..

(3) التمهيد، ج 1، ص: 77.

(4) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة: 192 ص 300.

(5) بحار الأنوار: ج 18 ص 205، 206 ح 36.

القرآن.. كلمة الله (209)

يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته) (1)

قال آخر: وقد دلت على ذلك كل دلائل التاريخ؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم منذ صغره الباكر كان مورد لطفه تعالى وعنايته الخاصة، وقد عرف قومه فيه النبوغ، ولمسوا فيه الصدق والأمانة والذكاء والفطنة.. وكان قبيل بعثته تظهر له علائم النبوة، فقد ظهرت آياتها قبل ثلاث سنوات من بعثته وهو في سن السابع والثلاثين.. فكان يرى الرؤيا الصادقة، وكان يختلي بنفسه في غار حراء.. ومثل هذا لا يفزع ولا يفرق ولا يظن بنفسه الجِنة أو عارض السوء.

5. التأديب والعتاب

ما انتهى حديثهم إلى ذلك الموضع، حتى وجدت نفسي في حديقة كبيرة تشبه حديقة الحرية، تلك التي جرت فيها أحداث رواية [النبي المعصوم]، وقد رأيت فيها شخصا لا يختلف في غرابته عن أولئك الذين يثيرون الشبهات، وفيها نعمت برؤية الحكماء الذين يردون عليها.

وكان أول ما طرق سمعي آيات من القرآن الكريم تعودت سماعها من الذين يحاولون تشويه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإساءة له، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا

__________

(1) الكافي ج 1 ص 12، 13.

القرآن.. كلمة الله (210)

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب: 50 ـ 52]

وبعد أن انتهى القارئ من قراءة هذه الآيات الكريمة، قام مثير الشبهات، وقال: اسمعوني ـ أنا القبانجي (1) ـ أحدثكم.. لقد ولدت مسلما، وفي أسرة مسلمة.. وارتديت في يوم من الأيام.. بل في أيام كثيرة.. عمامة العلماء.. لكني بعد أن قرأت هذه الآيات طرحتها ورميتها.. فما معنى هذه الآيات؟.. وكيف تتنزل في قرآن يخاطب جميع البشر، وفي جميع الأزمنة؟

أ ـ أحكام شخصية

قام بعض الحاضرين، وقال: اسمح لي، وأنا الذي ولدت في بيئة غير مسلمة، وعشت ملحدا أكفر بكل الأديان.. أن أذكر لك رأيي فيما قرأت من القرآن.

قال القبانجي: تفضل.. ويسرني كثيرا أن يستمع لي عاقل مثلك.

قال الملحد: مع أني ملحد ـ كما ذكرت لك ـ إلا أني لا أرى فيما قرأت ما ترى أنت.. ذلك أنه كان في إمكان محمد ألا يضع هذه الآيات، ويكتفي بما كان يمليه عليهم من القرآن الذي كان يعجبهم ويؤثر فيهم.. وعدم فعله لذلك، وذكره لخصوصياته في القرآن دليل على أن الأمر خارج من يديه..

قال القبانجي: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟

قال الملحد: دعني أسألك.. أنت مثلي ومثل كل الناس.. لك خصوصيات لا تحب أن يقتحمها أحد من الناس.. لأنك تريد أن تظهر أمام الجميع دائما بالصورة التي تريد.. وأهم تلك الخصوصيات ما يتعلق بحياتك الشخصية والأسرية ونحوها.

__________

(1) أشير به هنا إلى أحمد القبانجي، وهو من الحداثيين المثيرين لهذه الشبهة.

القرآن.. كلمة الله (211)

سكت القبانجي، فقال الملحد: هذا بالنسبة لي ولك.. والأمر يصبح أكثر تعقيدا عندما يتعلق بمن ولي مسؤوليات كبرى؛ فهو ينفر من نشر كل ما يتعلق بحياته الشخصية، أليس كذلك؟

سكت القبانجي، فقال الملحد: هذا بالنسبة لمن ولي مسؤوليات سياسية؛ فكيف بمن ولي مسؤوليات دينية.. فرجال الدين عادة ينفرون من كل ما يتعلق بهذا.. ولهذا نجد تكتما كبيرا يرتبط بحياتهم في هذه الجوانب.. أليس كذلك؟

سكت القبانجي، فقال الملحد: لا بأس.. لك ألا تجيبني.. ولكني أسأل جميع الحضور، وخاصة المسلمين منهم: هل كان في إمكان محمد أن يطبق الأحكام الواردة في هذه الآيات من غير أن يزعم أنها تنزلت عليه.

قام بعض الحضور، وقال: هناك أحكام كثيرة ترتبط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد ذكرها في القرآن.. ومنها ما يرتبط بالعبادات، كإباحة الوصال في الصيام.. وهو أن يصل اليومين جميعا عند صومه؛ فهو مباح له صلى الله عليه وآله وسلم ومحرم على غيره.

قال الملحد مخاطبا القبانجي: ألا ترى أنه لو كان محمد مدعيا وكاذبا لاختار من الأحكام الخاصة به تلك العبادات والطاعات التي كان يبذل فيها جهده الأكبر.. لا تلك الشؤون المتعلقة بزواجه.

قال القبانجي: ولكن لم وردت هذه الآيات في قرآن يقرؤه كل البشر، وفي جميع الأجيال؟

قال الملحد: أنا ذكرت لك رأيي في المسألة.. وأنا لا أزال على إلحادي.. وفي إمكان المسلمين أن يجيبوك.. لكني أرى أن ما قرأته قد فتح لي نافذة جديدة تدعوني لقراءة جديدة للقرآن.. قد تجعلني أتراجع عن كل مواقفي.

القرآن.. كلمة الله (212)

قام بعض الحضور، وقال: أنا مثلكم كنت ملحدا.. لا أعترف بأي دين.. لكني وبعد تعرفي على القرآن وإعجابي به.. ثم حصول الفتور في ذلك الإعجاب عند قراءتي لأمثال تلك الآيات.. قرأت آية جعلتني أتراجع عن مواقفي، وأبحث بموضوعية أكبر.. لقد كانت تلك الآية هي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]

لقد كانت هذه الآية هي المنقذ الذي أنقذني من غفلتي وكبريائي.. ذلك أني كنت أريد من الله.. ومن رسوله.. ومن القرآن.. ومن الكون أن يكون كما أريد وأرغب.. فلذلك كنت أفرض كل قناعاتي على الجميع.. وإذا ما لم تلب تلك القناعات كنت أنفر وأفر.. وتلك هي العبودية على حرف.

وبعد أن علمت ذلك.. علمت أن الله يبتلي عباده بما يفتنهم ويمحصهم، حتى يتميز الذين يعبدونه حقيقة، وكما يريد، والذين يعبدونه على حرف، وكما يريدون.

ثم قرأت بعدها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 60]، فوجدت أن هذا الإخبار الذي لا يحوي أي غرابة بالنسبة للعقل الذي يعلم قدرة الله التي لا تحدها الحدود إلا أنه كان فتنة كبيرة للعقول البسيطة المحدودة.. وقد روي أنه لما لما نزلت الآيات التي ذكرت شجرة الزقوم (1) قال كفار قريش: (ما نعرف هذه

__________

(1) كقوله تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 62،68]

القرآن.. كلمة الله (213)

الشجرة، فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه)، فقال: (هو عندنا الزُبد والتمر)، فقال ابن الزبعري: (أكثر الله في بيوتنا الزقوم)، فقال أبو جهل لجاريته: (زقمينا)؛ فأتته بزبد وتمر، ثم قال لأصحابه: (تزقموا؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر) (1).. ومثل هذا الفتن الكثيرة التي تجعل من الحقائق شبهات عظيمة ينظر إليها الغافلون بأعينهم المحجوبة عن الحق، فلا يرون إلا الظلمات.

قام آخر، وقال: لقد كنت مثلكم غارقا في الشبهات من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي.. لكني بعد اللجوء إلى الله، زالت تلك الشبهات، بل تحولت إلى زاد جديد للإيمان.. وقد ازددت فيها محبة لربي ونبيي وقرآني.. وعرفت فيها من المعاني ما لا يمكنني أن أعرفه في غيرها.

وقد بدأ ذلك عندي عندما لجأت إلى الله، وبكيت بين يديه طالبا التخلص مما كدر علي صفو ديني.. وإذا بي أسمع قارئا يقرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 203]

ومثلها تلك الآيات التي يأمر الله تعالى فيها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب كل الذين يقترحون عليه ما يشتهون أنه مجرد تابع وعبد ينفذ بدقة كل ما يؤمر به، وأنه ليس له من الأمر شيء.. لقد سمعت حينها جيدا قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يونس: 109]، وقوله: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 2].. وقوله للذين يطلبون منه أن يغير بعض القرآن ليتناسب معهم: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ

__________

(1) الثعلبي 3/ 242، البغوي 4/ 29.

القرآن.. كلمة الله (214)

لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تتجلى فيها عبودية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأنه لا يفعل إلا ما يؤمر به.

وقد كان هذا الشعور هو الذي أزال عني ثقل كل تلك الشبهات.. لقد صرت أشعر أن المتكلم بالقرآن مختلف تماما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) ـ وفي كل القرآن ـ يبدو بصورة العبد المطيع، الذي يخاف عذاب ربه إن عصاه، فيلتزم حدوده، ويرجو رحمته، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15]

لقد صرت أرى في القرآن الكريم الفرق الكبير بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فكثيرا ما يتكرر في القرآن التصريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر مثل سائر البشر، ليس عليه إلا البلاغ، ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب، ولا يزعم لنفسه صفة ملكية تغاير صفة الإنسان وخلقه.

قال آخر: بورك فيك أخي الكريم.. لكأنك تصف بدقة ما حصل لي.. فأنا بعد لجوئي إلى الله، وتضرعي بين يديه.. سمعت قارئا يقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].. لقد أزالت هذه الآية الكريمة عني كل شبهة.. لقد قلت لنفسي:

__________

(1) انظر: مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، ص 29.

القرآن.. كلمة الله (215)

لو كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدعيا، لأعطى لنفسه من الكرامة ما هو فوق البشرية والعبودية.. وعدم قيامه بذلك دليل على صدقه وأنه إنما يتلقى الوحي من ربه.

قال آخر: بورك فيكم إخوتي الكرام، وأنا مثلكم عرض لي ما عرض لكم.. وقد سمعت حينها، وبوعي تام قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188].. ومثلها كل الآيات التي يؤمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبرأ من كل حول وقوة إلا حول الله وقوته.

قال آخر: بورك فيكم، وأنا مثلكم.. لكني سمعت حينها، وبوعي تام تلك الآيات الكريمة التي يؤمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبرأ من كل علم غير الذي علمه ربه، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187].. وقال تعالى ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: 63]

قال آخر: بورك فيكم، وأنا مثلكم.. لكني سمعت حينها، وبوعي تام تلك الآيات الكريمة التي يؤمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبرأ من أن يدعي لنفسه أي شيء لم يهبه الله له.. كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50]

قال آخر: بورك فيكم، وأنا مثلكم.. لكني سمعت حينها، وبوعي تام تلك الآيات الكريمة التي تصدّر بعبارة [قل].. لقد فهمت منها أنها توجه الخطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلمه ما ينبغي أن يقول، فهو لا ينطق عن هواه، بل يتبع ما يوحى إليه.. ولذلك تكررت هذه

القرآن.. كلمة الله (216)

العبارة [قل] أكثر من ثلاثمائة مرة في القرآن الكريم، ليكون القارئ على ذكر من أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، لا دخل له في الوحي، فلا يصوغه بلفظه، ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء، فهو مخاطب لا متكلم، حاك ما يسمعه، لا معبر عن شي يجول في نفسه.

ب ـ تأديبات ربانية

بعد أن تحدث هؤلاء بما ذكرته لكم، قام القبانجي، وقال: تعسا لكم أيها المغفلون المغيبة عقولهم.. أنتم ترون فقط من القرآن ما يتناسب مع أهوائكم وأمزجتكم.. ألم تسمعوا لتلك الآيات التي تذم محمدا، وتقرعه وتوبخه.. ألم تسمعوا لتلك الآية التي يُذم فيها محمد لكونه يسعى وراء مرضاة زوجاته.. إنها تلك الآية التي تفرون منها.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]

قام الملحد، وقال: أرى أنك ـ يا سيادة القبانجي ـ دائما تخطئ أهدافك.. إن كانت هذه الآية موجودة في القرآن؛ فهي من أعظم دلائل صدقه.. فالمدعي لا يعاتب نفسه، ولا يوبخها.. المدعي عادة يرفع نفسه ويكرمها ويلتمس لها أجمل الأوصاف.

بالإضافة إلى أن ما ذكرته ليس ذما ولا إهانة؛ فالذي يسعى لمرضاة زوجاته، وخاصة في تلك البيئة البدوية الجافية؛ لا يكون إلا إنسانا محترما صاحب نفس رحيمة لطيفة.

ثم نظر إليه، وقال: لست أدري كيف أشكرك ـ يا سيادة القبانجي ـ جعلتني أعيد النظر في كل أفكاري، لأبحث من جديد عن الحقائق التي ربما صرفني عنها غروري وكبريائي.

قام بعض الحضور، وقال: بورك فيك أخي الكريم.. لقد مررت بنفس تجربتك.. وكان الذي أخرجني منها، وألبسني لباس الإيمان تلك الآيات التي يعاتب فيها الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ويؤدبه فيها.

القرآن.. كلمة الله (217)

لقد قلت لنفسي حينها: هل يمكن لرجل أن يفتري على ربه كلاما يعاتب فيه نفسه بمثل هذا العتاب: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].. أو مثل هذا العتاب: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 161].. أو مثل هذا العتاب: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 67 ـ 68].. أو مثل هذا العتاب: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]

لقد قلت لنفسي بعد قراءتي لتلك الآيات وغيرها: أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه.. أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه (1)؟

قال آخر: لقد كان مما دعاني إلى مراجعة مواقفي من القرآن تأملي في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب: 37]

لقد رددت حينها قول السيدة عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله شيئًا لكتم ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ

__________

(1) النبأ العظيم (ص 55)

القرآن.. كلمة الله (218)

أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]) (1)

قال آخر: لقد تأملت في كل ذلك التقريع والعتاب (2)، فوجدته في قضايا هينة، وهي جميعا تنحصر في شيء واحد، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا وقع بين أمرين ولم يجد فيهما وحيا، اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله.. وهو في ذلك مثل كل مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير.. على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية..

قال آخر: بورك فيك.. لقد علمت من تلك الآيات الكريمة أن الله تعالى نبهه ليربيه ويرقيه في معارج التعليم والتأديب؟.. وليكون في ذلك كله تربية للأمة جميعا، حتى تتحقق لها التزكية التي هي الهدف الأكبر من أهداف تنزل الوحي الإلهي.

قال آخر: بورك فيكم.. لقد كان مما ألبسني لباس الإيمان بالقرآن تلك التهديدات الصريحة الشديدة المتوجهة للمفترين على الله مثل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [آل عمران: 94].. وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 21].. وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 37].. وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 17].. وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود:

__________

(1) أحمد (3/ 195)

(2) النبأ العظيم (ص 56)

القرآن.. كلمة الله (219)

18].. وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [العنكبوت: 68]

لقد قلت لنفسي حين قرأت هذه الآيات وغيرها: كيف يجسر محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتري على الله، وهو يذكر كل هذه العقوبات الشديدة على المفترين عليه؟

قال آخر: بل إن هناك تهديدات تتوجه بصراحة وشدة لكل من يدعي أنه أوحي إليه، ولم يوح إليه شيء.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: 93]

قال آخر: بل إن القرآن فوق ذلك كله لا يكتفي بالتحذيرات العامة من الافتراء.. بل هو يخص محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالتهديد والوعيد إذا ما افترى على الله.. اسمعوا إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 ـ 47]

واسمعوا لهذه الآية: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: 35]

واسمعوا لهذه الآية: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الأحقاف: 8]

واسمعوا لهذا التهديد الخطير: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 73 ـ 75]

القرآن.. كلمة الله (220)

فهل يُعقل أن يؤلف محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا الكتاب، ثم يوجه العتاب إلى نفسه بهذه الصورة الشديدة!؟

ج ـ تأجيلات تأديبية

بعد أن تحدث هؤلاء بما ذكرته لكم، قام القبانجي، وقال: تعسا لعقولكم القاصرة التي ترى الأشياء كما تحب أن تراها.. لا كما هي في الواقع.. ألم تقرؤوا ما أورده المفسرون والمؤرخون من عجز محمد عن الإتيان بالآيات القرآنية في أحوج الأوقات.. لقد كانت تمر به الأزمات والظروف الحالكة التي لا ينقذه منها إلا القرآن.. لكنه لا يجده.

لعلكم قرأتم ما ذكره المؤرخون من أنه سئل في أول الإسلام عن أهل الكهف، فأجاب بأنه سيرد عليهم غداً، لكن الغد وما بعده مضيا.. ومضت بعدهما أيام كثيرة، ولم يجد محمد ما يرد به عليهم.. وعندما خرج لهم بعد كل تلك المدة، وقرأ عليهم ما اخترعه من قصتهم، قرأ لهم بعدها ما يعتذر به عن تأخره.. وهو: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 23 ـ 24]

قام الملحد فرحا، وهو يقول: هل حقا حصل هذا؟.. إن كان قد حصل فعلا.. فأنا أشكرك كثيرا ـ سيادة القبانجي ـ على هذه المعلومة القيمة.. إنها تدل على صدق محمد.. إن هذا لا يمكن أن يقوله شخص لنفسه.. إن المفتري لا يحتاج أن يؤجلهم اليوم واليومين.. المفتري والمخادع يضع لهم ما يشاء، وفي الوقت الذي يشاءون.

قام بعض الحضور، وقال: بورك أخي الكريم في عقلك ووعيك.. فنحن قد مررنا بنفس تجربتك.. والحمد لله كان لأمثال القبانجي دور كبير في ذلك.. فشبهاتهم هي التي جعلتنا نبصر الحقيقة كما هي، لما كما ترغب نفوسنا الأمارة.

القرآن.. كلمة الله (221)

أتذكر جيدا حين قرأت سورة الكهف، وقرأت فيها تلك الآية الكريمة.. لقد قلت لنفسي حينها: لو أن القرآن كان كلاما لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. هل يا ترى سيبقى طول تلك المدة لا يفتري كذبا يستر به نفسه، ويرد به الأراجيف عنه؟

قال آخر: ومثلكما أنا.. لقد كان أول ما طرق سمعي من القرآن قوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 1 ـ 5]

ورحت أبحث عن سبب ذلك الوعد الإلهي بعدم ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقرأت فيما قرأت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى فلم يقم ليلة أو ليلتين لصلاة الليل، فأتاه بعض قومه فقال: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله عز وجل تلك الآيات الكريمة (1).

قال آخر: ومثلكم أنا.. لقد شد انتباهي من القرآن قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 144]

وقد قرأت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة قِبل البيت، ولكن ذلك لم يتم إلا بعد تلك المدة الطويلة (2).

لقد قلت لنفسي حينها: لو كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدعيا لما احتاج إلى قرابة عام ونصف ليجيب نفسه وتلهفه.. لقد كان يمكنه أن يسعفها بوحي عاجل يحقق ما يصبو إليه ويتمناه، وفي

__________

(1) البخاري برقم (1124، 1125، 4983، 4950،4951) ومسلم برقم (1797) الترمذي برقم (3345)

(2) البخاري 6/ 21.

القرآن.. كلمة الله (222)

أقرب الآجال؟.. وقد عرفت بعدها أن الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين يشاء ربه، ويفتر إذ شاء له ربه، فما تنفع التعاويذ والأسجاع، ولا تقدم عواطف محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تؤخر (1).

لم يجد القبانجي بعد كل تلك الأحاديث إلا أن يصيح فرحا: وجدتها.. وجدتها.. ألستم تذكرون أنكم تجدون فرقا واضحا بين شخصية النبي والوحي الذي يزعم أنه يتنزل عليه؟.. الحل سهل وواضح جدا.. وقد اكتشفه علماء النفس القدامى والمحدثين.. إن محمدا مزود بشخصيتين: إحداهما واعية شاعرة، والأخرى لا واعية ولا شاعرة.. أو بعبارة أخرى: يمكن أن يكون في نفس محمد ازداوج الشعور واللاشعور.

قام الملحد، وقال: أرى أنك ـ يا سيادة القبانجي ـ تفر من الحقائق بأي وسيلة.. أنا طبيب نفسي، وأعلم جيدا أصحاب هذه الحالات، وأنهم أضعف من أن يحققوا شيئا في حياتهم لحياتهم.. فكيف تصف شخصا لا يزال العالم يذكره.. بل هو أشهر شخصية في العالم أجمع.. ويتبعه مئات الملايين.. ولهم فيهم تأثير كبير.

قام بعض الحضور، وقال: لقد حصل لكم ـ حضرة القبانجي ـ ما حصل لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفسهم.. فقد احتاروا (2) ـ بسبب عنادهم ـ في الربط بين الذات الملقية والذات المتلقية، وتخبطوا تخبط شهود الزور، وتبلبلت أذهانهم، وتضاربت آراؤهم، ولم يطمئنوا إلى تفسير يرضي عقولهم السقيمة.. وقد صور الله حيرتهم بهذه الصورة المضحكة الساخرة: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: 5].. فردوا مصدر القرآن إلى رؤى النائم أو شطحات المجنون، وإلى افتراءات المختلق أو تخرصات الكذوب، وإلى أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب.. انظروا إلى توالي حرف

__________

(1) مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، ص 37.

(2) انظر: مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، ص 38.

القرآن.. كلمة الله (223)

الإضراب [بل] ثلاث مرات.. إن فيها تهكم لاذع باضطرابهم وتضاربهم.

6. التجرد والإخلاص

ما انتهى حديثهم إلى ذلك الموضع، حتى وجدت نفسي في شارع من الشوارع المكتظة بالمارة والسكان، وقد لفت نظري كثرة الصور المعلقة فيها، والتي تدل على أنها مرتبطة بانتخابات مقبلة..

وما أسرع ما صدق ظني، فقد رأيت أحدهم يجذبني، ويقول: تعال.. هناك كلمة سيلقيها مرشح العدالة الأكبر.. وسيوضح فيها مشروعه الذي يخدم الطبقات المستضعفة المظلومة.. وهناك إكراميات لكل من يحضر.

أردت أن أسير معه؛ فجذبني شخص آخر، وقال: تعال معي أنا، ودعك من هذا الأفاك؛ فمرشحهم الذي يزعمون أنه داعية العدالة الأكبر، ليس سوى لص مختلس نهب كل ما استطاع من أموال الشعب والدولة، وهو لا يزال يطمع في المزيد.

قال له صاحبه: وأنتم.. أليس مرشحكم ذلك العميل الخائن.. الذي أعطى لعدونا كل المعلومات المرتبطة بأمننا القومي.. فأيهما أكثر جرما، اختلاس الأموال، أم اختلاس الأمن؟

جذبني ثالث من بينهما بكل ليونة وطلف، وهو يقول: دعك من هذين يا تلميذ القرآن.. وتعال لأدلك على المرشح الذي اختاره الله لهداية عباده، لكن العباد أعرضوا عنه، وراحوا يسلمون أنفسهم للانتهازيين والظلمة من أصحاب الأهواء والملك العضوض.

حين جذبني الثالث من يدي، عرفت سر مجيئي لذلك المحل الذي انشغل فيه الجميع بالانتخابات والمرشحين لها.

قلت له: من أنت.. وأين تريد أن تسير بي؟

القرآن.. كلمة الله (224)

قال: أنا مثلك تلميذ للقرآن.. وقد كنت في يوم من الأيام مثل هؤلاء الذين تراهم جشِعا حريصا، أستخدم كل أساليب الخداع والغش والحيلة لأحقق ما أحلم به من ثروة أو مناصب.

وقد جعلني ذلك أتوهم أن كل العالم مثلي، من رأيت منهم، ومن لم أر، حتى أني كنت أتصور أن النبي العظيم الذي كنت أؤمن به ظاهريا كسائر قومي، مثلي، لم يقم إلا لتحقيق مصالحه الشخصية.

لكني.. وبسبب مرض شديد ألمّ بي، رحت أقرأ القرآن من باب الرقية والاستشفاء والتبرك، لا من باب التدبر والتأثر والانفعال.. وبقراءتي له تخلصت من كل أوهامي التي كادت ترديني.. وعند تخلصي منها تبت من كل ذنوبي، وسلمت كل مال كسبته من حرام إلى أصحابه.. واستقلت من كل منصب لم أكن أهلا له.

قال ذلك، وأنا أسير معه، دون أن أعلم لأي محل يريد أن يأخذني، وفجأة توقف عند باب كبير كتب عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]

سألته عن سر هذا الباب، وسر الآية التي كُتبت عليه؛ فقال: هذه الآية هي سر توبتي.. والباب هو مدخل المحل الذي صار فيه عملي لتصديق توبتي.

قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصده؟

قال: لم تفهم سر كتابة الآية.. أم سر الباب والمحل الذي يُدخل إليه منه.

قلت: كلاهما.. فهلا وضحت لي.

قال: علامة صدقك مع القرآن الكريم تأويلك العملي له.. فلا تكتف بقراءة تنزيله، ولا بتدبره، ولا بمعرفة معانيه.. وإنما سعيك لتحول من كل آية كريمة كيانا ناطقا، يعبر

القرآن.. كلمة الله (225)

عنها، ويسير بها.. وهذا المحل يحاول أن يطبق عمليا ما ورد في تلك الآية الكريمة من معان.

قلت: لقد ذكرتني ببعض من سئل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: خلقه القرآن (1).

أ ـ العفاف والزهد

قال: لقد كان أول ما أثر في من القرآن الكريم تلك الآيات التي تخبر عن عفاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزهده وعدم رغبته في أي أجر يناله، وكان أول تلك الآيات قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: 47 ـ 50]

قلت: فما الذي استوقفك عندها دون غيرها؟

قال: لقد رأيت أنها سُبقت بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46].. فتوقفت عند قراءتها، ورحت أتأمل معناها بكل صدق وإخلاص..

لقد وجدت أنها افتتحت بكلمة [قل]، وعرفت من خلالها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله، وأنه يؤدي كل ما أُمر به بدقة وإخلاص.. ولو كان الكلام كلامه لما احتاج لترديد هذه الكلمة كل حين.

ثم قرأت بعدها [أعظكم]، وقد رأيت أنها توضح هدف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من دعوته ومعاناته في سبيلها، وهو أنه لا يريد لهم إلا الخير والصلاح، وهو راجع لهم لا له.. وذلك علامة الزهد والعفاف الكامل.

__________

(1) النسائي في التفسير برقم: 370، والبخاري في الأدب المفرد برقم: 311، والحاكم في المستدرك (2/ 393) والبيهقي في الدلائل (1/ 309 ـ 310).

القرآن.. كلمة الله (226)

ثم رحت أتأمل في سر التعبير بـ[واحدة] مع تأكيده وحصره بـ[إنما].. وقد وجدت أن في ذلك إشارة معبرة إلى أن أصل جميع الإصلاحات الفردية والجماعية، إنما هي بإعمال الفكر والتأمل للوصول إلى الحقائق.

ثم رحت أتأمل في سر الدعوة للقيام، وقد وجدت أن ذلك لا يعني الوقوف على القدمين، بل يعني الاستعداد التام والجدي لإنجاز كل الأعمال.. ولذلك بدئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول دعوته بالأمر بالقيام كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1 ـ 2]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1 ـ 2]

ثم رحت أتأمل في سر تخصيص القيام [لله]، ففهمت منها أن القيام الحقيقي لا يؤدي ثماره حتى يكون باعثه إلهيا خالصا، لا أهواء النفوس.. فالإخلاص في العمل والتفكر هو أساس النجاة والسعادة والبركة.

ثم رحت أتأمل في سر التعبير بـ[مثنى وفرادى]؛ فعلمت أن في ذلك إشارة إلى أن التفكير يجب أن يكون بعيدا عن الغوغائية والفوضى، وأن يقوم الناس آحادا أو جماعات بذلك.. لأن التفكر وسط الضوضاء والغوغائية لا يمكنه أن يكون عميقا، خاصة إذا ما صحبه التعصب والأنانية والذاتية.

قلت: وبعد أن امتلأتَ بكل هذه المعاني رحتَ تقرأ تلك الآيات الكريمة التي تخبر عن عفاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزهده في كل أجر.

قال: أجل.. بعد أن مهدت تلك الآية الكريمة لنفسي سبل التدبر.. رحت أتأمل في تلك الآيات الكريمة كلمة كلمة وحرفا حرفا.. فوجدت أنها كافية لمن تأملها ليصل إلى الهداية من أقرب طرقها.

اسمح لي أن أكررها لك.. لتنعم بمعانيها العظيمة.. لقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا

القرآن.. كلمة الله (227)

سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: 47 ـ 50]

ففي مطلع هذه الآيات (1)، يدعو الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأن يخبر قومه عن زهده في كل ما يطلبه أصحاب الدعوات المختلفة، ذلك أن أجره الوحيد الذي يطلبه هو هدايتهم وفلاحهم.. وكأنه يقول لهم: أنا دعوتكم للتفكر، والآن تأملوا، واسألوا وجدانكم، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟.. وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل؟.. وأي فائدة مادية لي فيه؟.. إضافة إلى ذلك فإن كانت حجتكم في هذا الإعراض ومخالفة الحق، هو أنكم ستدفعون لي أجرا عليه، فسيضيع جزافا، لأني أساسا لم أطالبكم بأي أجر أو جزاء.

ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سبأ: 47]، وكأنها تقول لهم: إني إن كنت أريد أجري من الله وحده، فذلك لأنه وحده عالم بكل أعمالي ومطلع على نواياي.. علاوة على أنه هو سبحانه وتعالى شاهد صدقي وحقانية دعوتي، لأنه هو الذي سخر لي كل هذه المعجزات والآيات البينات.

قلت: فما أوحت لك الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [سبأ: 48]؟

قال: لقد علمت منها أن القرآن واقع حقيقي.. لا يمكن إنكاره.. لأنه ملقى من الله تعالى على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ويستحيل أن يصدر من الله الباطل.. وعلمت منها أن الله تعالى هو الذي يقذف بالحق ليواجه كل باطل الشياطين.. وفي كل العصور.. فهو الذي أنزل

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (13/ 486)

القرآن.. كلمة الله (228)

الكتب المقدسة على قلوب الأنبياء والمرسلين.. ولكونه علام الغيوب، علم القلوب المهيأة لها، فانتخبها، وقذف الوحي فيها حتى نفذ إلى أعماقها.. إن ذلك يشبه تماما ما عبر عنه بعض الصالحين بقوله: (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)

قلت: فما أوحت لك الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49]؟

قال: لقد علمت منها أنه ما دام الحق من الله.. والله هو القيم على كل شيء، والقادر على كل شيء؛ فإنه لا سلطان للباطل، ولا دوام له.. وأنه مثل الوهم والسراب، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39]

وقد جعلني تأملي لهذه الآية الكريمة أزهد في كل ما كنت أرغب فيه من متاع الدنيا وجاهها.. لأنه لم يكن سوى سراب لا قيمة له.. وقد أكد ذلك في نفسي تلك الآيات الكريمة الكثيرة التي يخبر الله تعالى فيها عن حقارة لذات الدنيا أمام لذات الآخرة.

بالإضافة إلى ذلك علمت أن مصير الباطل إلى الزهوق والزوال، كما قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].. ولذلك أنفت نفسي من كل ما مصيره الزوال والزهوق والاضمحلال.

قلت: فما أوحت لك الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: 50]؟

قال: لقد علمت منها أنه ـ مع تفكري وتدبري وبذلي لكل الأسباب ـ أحتاج إلى التواصل الدائم مع الله ووحيه المقدس.. ذلك أنه الوحيد الذي يحفظ لي تواجدي مع الحق وأهله..

القرآن.. كلمة الله (229)

وقد كانت هذه الآية الكريمة من الآيات التي تعمق فيها إيماني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد تعجبت من كل أولئك المنكرين للوحي الإلهي، وهم يرون براءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل علم أو حول أو قوة أو هداية.. بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر كل ذلك من الله وحده.. وهو غاية الزهد والعفاف.. فالزاهد والعفيف لا يكتفي بالزهد والعفاف عن أموال الناس.. وإنما يزهد في نسبة الفضائل إلى نفسه.. لأنه يعلم أنها جميعا من الله.

قلت: فما الذي فعلته بعد هذا؟

قال: لقد كانت تلك الآيات الكريمة هي الباب الذي فتحه الله لهدايتي إلى الحق، والزهد في الباطل.. والعفاف عن كل أموال الناس ومناصبهم.

وبعد أن صدقت مع ربي، رحت أبشر بتلك المعاني بين رفاقي من السياسيين.. والحمد لله استطعت أن أؤثر في الكثير منهم، وقد طرح علينا بعضهم أن نؤسس هذا المركز الذي أسميناه [مركز العفاف والزهد]، وجعلنا شعاره تلك الآية الكريمة.

قلت: أرى أنك لم تصدق في توبتك من السياسة.. فأنت قد عدت إليها بلباس آخر.

قال: لقد تأملت في القرآن الكريم، وقد رأيت أنه كتاب هداية شاملة.. وشمولها يستدعي ألا تتعلق بالحياة الشخصية فقط، وإنما بالحياة بجميع جوانبها، بما فيها الجانب السياسي.. ولذلك رأيت أن تمام توبتي وتوبة إخواني من السياسيين هو القيام بالإصلاح في هذه الجوانب التي لدينا الخبرة الكافية فيها.

قلت: هل تقصد أنكم أسستم حزبا سياسيا جديدا؟

قال: لا.. ومعاذ الله أن نفعل ذلك.. لأننا بذلك سنمارس نفس ما كنا نمارسه قبل توبتنا.. وسيقتحم أبوابنا الانتهازيون والمغرضون والمنافقون ليخلطوا ما نؤمن به من الحق بما يشتهون من الباطل.. ولذلك شرطنا على كل من يعمل في هذا المركز أن يكون زاهدا

القرآن.. كلمة الله (230)

عفيفا من كل مال أو جاه أو مناصب أو انتماءات.

قلت: فما الذي تفعلونه إذن؟

قال: لقد صار دورنا فيه توعية الجماهير والسياسيين بحقائق الدين وقيمه الرفيعة.. لأن ذلك وحده ما يكفل لهم تحقيق مطالبهم بكل يسر وسهولة.

قلت: فمن يموّن مركزكم؟

قال: الله.. الله هو الذي يموّن مركزنا.. فنحن لا نمارس فيه إلا دور الدعوة والهداية.. ولا نحتاج لذلك إلا توفيق الله لنا.

قلت: لكني أرى بناءه ضخما.

قال: هذا بيت تبرع به أحد أصدقائنا من السياسيين بعد توبته.. وقد اضطررنا إلى توسيعه لكثرة الوافدين إليه.. ومن كل الجهات بما فيهم السياسيون والإداريون وغيرهم.

بينما نحن كذلك إذ رأيت جمعا من الناس يدخلون المركز.. فطلب مني صاحبي أن أدخل معه.. وهناك رأيت شخصا يبدو من مظهره أنه لم يكن بعيدا عن عالم السياسة والإدارة، كان يقول ـ وبتأثر كبير ـ: لقد كان أول ما جعلني أتوب من كل تلك الذنوب التي حالت بيني وبين ربي، تلك الآيات الكريمة التي يدعو فيها الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزهد في الدنيا، وأنها لا تساوي شيئا أمام الآخرة..

لقد سمعت بكل ولهٍ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131]

لقد جعلتني هذه الكلمة ﴿زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ أشعر بحقارة الدنيا وهوانها.. فهي مع جمالها مثل الزهرة سريعة الذبول.. ثم علمت أن المقصد منها هو الابتلاء والفتنة والكشف عن الحقائق والمعادن.. وأنه لذلك ﴿رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى﴾، وهو رزق للنعمة

القرآن.. كلمة الله (231)

لا للفتنة.. ورزق طيب خير باق لا يذبل ولا يخدع ولا يفتن.

وقد علمت من خلال قراءتي للآية الكريمة أنها لا تدعو للزهد في طيبات الحياة المباحة، وإنما تدعو إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية، وبالصلة باللّه والرضى به، حتى لا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار (1).

قام آخر، وقال: بورك فيك.. لقد كنت قبل توبتي من أولئك الذين ملأ الجشع والحرص نفوسهم، لكني بعد أن قرأت قوله تعالى ـ مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: 88]، ثم قرأت ما ورد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تحققه بهذه المعاني استحييت من نفسي، ومن ادعائي بأني أنتمي لهذا الرسول الكريم، وأنا في غاية البعد عنه وعن هديه.

لقد كانت النصوص الواردة عن زهد وعفافه صلى الله عليه وآله وسلم من الكثرة بحيث يمكنها أن تكون رادعا لكل أولئك الذين استعملوا مصالح الناس مطايا لتحقيق أغراضهم الشخصية.

لقد كان مما قرأته ما حدثت به زوجته أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ساهم الوجه، فحسبت ذلك من وجع، فقلت يا رسول الله: ما لك ساهم الوجه؟ قال: (من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس أمسينا وهي في خصم الفراش، فأتتنا، ولم ننفقها) (2)

وعنها قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو

__________

(1) فى ظلال القرآن، (4/ 2357)

(2) رواه أحمد وأبو يعلى، سبل الهدى (7/ 67)

القرآن.. كلمة الله (232)

أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت) (1)

وعن ابن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: (ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها) (2)

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أوحى الله إلى أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97 ـ 99] (3).

وعن عمر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهب ثلاثة معلقة، وصبرة من شعير، فهملت عينا عمر، فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فجلس محمرا وجهه، فقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟) ثم قال: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟) (4)

وعن عائشة قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء

__________

(1) رواه أبو ذر الهروي، سبل الهدى (7/ 76)

(2) ابن المبارك ص 54 (195) وأحمد 1/ 391 والترمذي 45/ 588 (2377) وابن ماجه 2/ 1376 (4109) والحاكم 4/ 310.

(3) أحمد في الزهد (391) وأبو نعيم في الحلية 2/ 231 والبغوي في التفسير 4/ 78 وابن عدي 5/ 1897، 3/ 939.

(4) رواه البخاري ومسلم (34) وأحمد 1/ 34، سبل الهدى (7/ 77)

القرآن.. كلمة الله (233)

الفيء ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا) (1)

وعنها قالت: ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائما، ثم طوى، ثم ظل صائما، قال: (يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر على محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35] والله لأصبرن جهدي، ولا قوة إلا بالله) (2)

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب التّمرة فيقول: (لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها) (3)

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقالت بعض نسائه: يا رسول الله أرقت البارحة، قال: (إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه) (4)

وعن خيثمة قال: قيل يا رسول الله، إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: 10]) (5)

وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب،

__________

(1) رواه ابن حبان، سبل الهدى (7/ 80)

(2) رواه أحمد، والبيهقي في الشعب، وابن أبي حاتم والدّيلمي والبغوي في التفسير 6/ 171، سبل الهدى (7/ 81)

(3) رواه البخاري 4/ 293 (2055) ومسلم 2/ 752 (164/ 1071)

(4) احمد 2/ 183، 193 وابن سعد 1/ 2/ 107 والحاكم 2/ 14.

(5) رواه الحميدي، سبل الهدى (7/ 82)

القرآن.. كلمة الله (234)

وكان جائعا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل عندك طعام آكل) فقالت: إن عندي لكسرة يابسة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: (هلمّيها فكسرها في ماء)، فجاءته بملح، فقال: (ما من أدم؟) فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: (هلمّيه)، فلما جاءت صبّه على طعامه، وأكل، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: (نعم الأدم الخل يا أم هانئ، لا يفتقر بيت فيه خل) (1)

وعن السائب بن يزيد عن خالته قالت: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين يديه طبق خوص، فيه خبز وقديد، فلما فرغ انحرف إلى فخّارة فتوضأ منها، فابتدرنا وضوءه، فمنا من مضمض، ومنّا ما سكب على وجهه (2).

وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما لنا طعام إلا أوراق الشجر، حتى تقرّحت أشداقنا (3).

كان الجميع يبكون، وهم يسمعون هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزهد وعفافه عن متاع الحياة الدنيا.. وبعد أن انتهى الرجل من حديثه قام آخر، فقال: اسمحوا لي أن ألقي على مسامعكم رسالة لتلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكبر الإمام علي، ذلك الحكيم الذي آتاه الله الإيمان والبيان؛ فعبر عن الحقائق بأحسن تعبير وأجمله وأكمله..

لقد أرسل إلى بعض عماله يذكره بالعودة إلى هدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خاف عليه أن تسلبه زخارف المناصب وأهوائها، فقال: (لقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاف لك في الأسوة.. ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره

__________

(1) رواه ابن المبارك في الزهد، سبل الهدى (7/ 85)

(2) رواه أبو بكر بن أبي خيثمة، سبل الهدى (7/ 86)

(3) رواه أبو الحسن بن الضحاك، سبل الهدى (7/ 86)

القرآن.. كلمة الله (235)

أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها.. فتأس بنبيك الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى.. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره.. قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا وأخمصهم من الدنيا بطنا.. عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها.. وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره.. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله.. ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه.. ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر.. وكذا من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده..

ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها.. إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.. فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه؟ فإن قال أهانه فقد كذب والعظيم، وإن قال أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه.. فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة فإن الله جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة.. خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما.. لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه.. فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه، وقائدا نطأ عقبه.. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها.. ولقد قال لي قائل ألا

القرآن.. كلمة الله (236)

تنبذها؟ فقلت اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى) (1)

وقال في حديث آخر: مرت امرأة بدوية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأكل وهو جالس على الحضيض، فقالت: يا محمد والله إنك لتأكل أكل العبد، وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك أي عبد أعبد مني؟ قالت: فناولني لقمة من طعامك، فناولها، فقالت: لا والله إلا التي في فمك، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللقمة من فمه فناولها، فأكلتها، فما أصابها داء حتى فارقت الدنيا) (2)

قام آخر، وقال: لا تحسبوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدع من الرسل في ذلك.. فكلهم كانوا كذلك.. كلهم كانوا أصحاب عفاف وزهد.. لأنه لا تقام الحجة الكاملة إلا بذلك.. ألم تسمعوا قوله تعالى في محاجة المشركين: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [المؤمنون: 72]، وقوله: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ [الطور: 40]؟

ولهذا أخبر الله تعالى عن عفاف جميع الرسل عليهم السلام وزهدهم في الأجور، فقد قال عن نوح عليه السلام: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 105 ـ 109]

وقال عن هود عليه السلام: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [هود: 50 ـ 51]

وقال عن صالح عليه السلام: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا

__________

(1) نهج البلاغة 1: 311 ـ 315.

(2) المحاسن: 457.

القرآن.. كلمة الله (237)

تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 141 ـ 145]

وقال عن شعيب عليه السلام: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 176 ـ 180]

وهكذا كان جميع الرسل عليهم السلام زاهدين في أموال من يدعونهم، حتى لا يكون طلبهم للأجور قادحا في دعوتهم أو مؤثرا فيها..

ب ـ الروحانية السامية

بينما كنت مستغرقا في هذه الأحاديث إذا بصاحبي الذي جاء بي إلى المجلس يقول لي: هيا بنا.. سأريك محلا آخر.. نحن نبدأ به قبل هذا.

قلت: دعني هنا.. فقد أعجبني المجلس، وأعجبني خطباءه، وقد أنست إلى صدقهم وإخلاصهم أكثر من أنسي إلى فصاحتهم وبلاغتهم.

قال: إن هؤلاء الذين كنت تسمع لهم كانوا من الإداريين أو السياسيين التائبين.. والحمد لله.. لقد صدقت توبتهم؛ ولهذا لم يكتفوا بإصلاح أنفسهم، وإنما راحوا يصلحون الواقع، ولا تكمل التوبة الصادقة إلا بذلك.

قلت: فكيف استطاع مركزكم أن يحولهم إلى هذه الحالة الجديدة التي تتناقض تماما مع حالتهم السابقة؟

قال: الله هو الذي حولهم.. ونحن لم نفعل سوى أن راعينا ما أعطانا من وسائل لتحقيق ذلك.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 45 ـ 46]

القرآن.. كلمة الله (238)

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: إن هذه الآية الكريمة تدعونا إلى الاستعانة بأدوية الصبر والصلاة لإصلاح أنفسنا.. ولذلك بحثنا في كل الأدوية المتفرعة عن هذين الدواءين (1).

قلت: فهل أسستم مدرسة خاصة بذلك؟

قال: أجل.. وتعال معي إليها.. فليس الخبر كالعيان.

سرنا قليلا داخل ذلك المركز إلى أن رأينا قاعة كبيرة كتب على بابها قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132]

قلت: إن هذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131].. والتي كنا نستمع لمعانيها.

قال: أجل.. عندما قرأت هذه الآية الكريمة.. رحت أسأل ربي أن ييسر لي الطريق الذي يحقق لنفسي معاني الزهد والورع والعفاف، لأن الدنيا تمكنت مني ومن أهل بيتي تمكنا تاما.. وإذا بي ألتفت للمعاني المودعة في الآية التي بعدها.. تلك الآية التي جعلناها شعارا لهذا القسم.. لقد علمنا أنه لا يكمل الزهد والعفاف إلا بالتوجه التام لله تعالى، والرغبة فيه وفيما عنده، وعدم الاكتفاء بالنفس في ذلك، وإنما حض الأهل عليه حتى لا يتخذهم الشيطان وسيلة للدعوة إلى الرغبة في الحياة الدنيا.

قلت: صدقت.. لقد أخبرني بعض من ولوا المناصب أن المشكلة فيما حصل لهم من الغرق في مستنقعاتها لا يرتبط بهم، وإنما بأهليهم الذين زينوا لهم ذلك.

__________

(1) شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب: مدارس النفس اللوامة.

القرآن.. كلمة الله (239)

قال: ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 14 ـ 16]

قلت: فما تراكم تفعلون في هذه القاعة.. هل تعلمون من يأتي إليها الصلاة؟

قال: نعلمهم إقامة الصلاة.. فالله تعالى لم يأمرنا بأداء الصلاة وإنما أمرنا بإقامتها.. ولا يتم ذلك إلا بالخشوع والخضوع التام..

بينما نحن كذلك إذا بنا نسمع بعضهم يقول: إخواني.. لقد سبق أن سألتموني عن سر توبتي.. وأنا الآن أجيبكم، فقد حان الوقت المناسب لذلك.. وأرجو ممن أحضر قلمه ودواته وقراطيسه أن يكتب كل ما أذكره..

عرفت أنه يشير إلي، فرحت أكتب بسرعة كل ما يقوله..

قال الرجل: أنتم تعلمون أني مع كوني كنت مسلما، وولدت في أسرة مسلمة إلا أن إيماني كان مجرد قشرة ظاهرة لا علاقة لها بعقلي وقلبي، والدليل على ذلك أنه لم يكن يؤثر في حياتي أبدا، فقد كنت أمارس كل ما يمارسه السياسيون من انحرافات.. وذلك لأني كنت أرى الكذب والخداع في السياسة من الأمور الضرورية التي لا يمكن للسياسي أن ينجح من دونها.

وفي يوم من الأيام مررت على قارئ، وهو يرتل بصوت جميل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 1 ـ 6]

وهناك رحت أتأمل معناها العميق.. وقد علمت من خلالها صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

القرآن.. كلمة الله (240)

وأنه يستحيل أن يكون الذي جاء به دعوى ادعاها.. ذلك أن المدعي يكلف غيره، ولا يكلف نفسه.. ويكلف غيره ما يرتبط به وبمصالحه، لا ما يرتبط بغيره.

وعند عودتي للقرآن الكريم، وقراءته بتدبر، رأيت أنه جميعا تعريف بالله وتحبيب فيه ودعوة للتمسك بحبله.. وأن المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يكون همه التواصل مع الله، وحسن التوجه إليه..

لقد رحت أتأمل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 1 ـ 3].. وهي من أوائل ما نزل في القرآن الكريم؛ فوجدت أنها دعوة لتكبير الله وتعظيمه.. وهو ما جاء به الرسل عليهم السلام جميعا.. وهو دليل صدقهم.. فالداعي لنفسه داع لتكبيرها، لا لتكبير ربه وتعظيمه.

قام آخر، وقال: لقد حصل لي نفس الشيء.. وقد دعتني تلك الآيات الكريمة للعودة للكتب التي أرخت لحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت أنها كلها اتفقت على كثرة عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه وتوجهه إليه بكل أصناف التوجه والإخلاص.. لقد وجدت أنها تعبر بصدق عن قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 ـ 163]

لقد وجدت أن كل قيم العبودية الصادقة تمثلت فيه، ولذلك تشرف بتسمية الله تعالى له عبدا، ولا ينال ذلك الشرف إلا من تخلص من كل الشوائب، وارتقى سلم كل المكارم.. لقد قال الله تعالى في حقه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، وقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: 19]

قام آخر، وقال: اسمحوا لي لأؤكد لكم بعض ما قال صديقي وأخي وزميلي السابق

القرآن.. كلمة الله (241)

في السياسة أن أشنف آذانكم ببعض ما ورد في الأحاديث من روحانية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السامية، والتي هي أكبر دليل على صدقه.. فيستحيل على من عرف الله تلك المعرفة، أو عبده تلك العبادة أن يفتري أو يكذب عليه.

لقد حدث عبد الله بن مسعود وغيره: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام وصلى حتى تورمت قدماه وساقاه، فقيل له: يا رسول الله ما هذا الاجتهاد؟ أتفعل هذا بنفسك، وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا) (1)

وعن أم سلمة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ثم ينام قدر ما صلّى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح) (2)

وسئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلاته فقالت: (ما لكم ولصلاته وقراءته، كان يصلي العتمة ثم يسبّح، ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم يرقد.. ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا) (3)

وعن جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتسوك من الليل مرتين، أو ثلاثا، كلما رقد فاستيقظ استاك وتوضأ، وصلى ركعتين أو ركعة (4).

وعن حذيفة، قال: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة وهو يصلي في المسجد، فقمت أصلي وراءه يخيل إلى أنه لا يعلم، فاستفتح بسورة البقرة، فقلت: إذا جاء مائة آية ركع فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا جاء مائتي آية ركع فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا ختمها ركع فختمها فلم يركع

__________

(1) رواه أحمد، والبخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، سبل الهدى (8/ 273)

(2) أبو داود 2/ 74 (1466) والترمذي 5/ 167 (2923) والنسائي 3/ 174.

(3) أحمد في المسند 6/ 294 وأبو داود 2/ 73، 74 (1466) والترمذي 5/ 167 (2923) والنسائي 2/ 141.

(4) البزار كما في الكشف 1/ 349 (728)

القرآن.. كلمة الله (242)

فلما ختم، قال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح آل عمران فقلت: إذا ختمها ركع فختمها ولم يركع وقال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح النساء، فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فلم يركع وقال: (اللهم لك الحمد) ثلاثا ثم استفتح بسورة المائدة) فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فركع فسمعته يقول: (سبحان ربي العظيم)، ويرجع شفتيه فأعلم أنه يقول: غير ذلك فلا أفهم غيره ثم استفتح بسورة الأنعام، فتركته وذهبت) (1)

وعنه، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة لأصلي بصلاته، فاستفتح الصلاة فقرأ قراءة ليست بالرفيعة ولا الخفيفة، قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا، ثم ركع نحوا من سورة قال ثم رفع رأسه فقال: (سمع الله لمن حمده ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم قام نحوا من سورة، وسجد نحوا من ذلك حتى فرغ من الطول وعليه سواد من الليل) (2)

وعنه قال: (لقد لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد العتمة، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أتعبد بعبادتك، فأتى المسجد فاستقبل القبلة، وأقامني عن يمينه، ثم قرأ الفاتحة، ثم استفتح سورة البقرة، ولا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا آية تخويف إلا استعاذ، ولا مثل إلا فكر حتى ختمها ثم كبر، فرفع، فسمعته يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ويرد فيه شفتيه حتى أظن أنه يقول: (وبحمده)، فمكث في ركوعه قريبا من قيامه، ثم رفع رأسه ثم كبر فسجد فسمعته يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى)، ويرد شفتيه، فأظن أنه يقول: (وبحمده)، فمكث في سجوده قريبا من قيامه، ثم نهض حين فرغ من سجدته فقرأ فاتحة الكتاب، ثم استفتح (آل عمران) لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا مثل إلا فكّر، حتى ختمها،

__________

(1) رواه عبد الرزاق، سبل الهدى (8/ 278)

(2) رواه ابن أبي شيبة، سبل الهدى (8/ 278)

القرآن.. كلمة الله (243)

ثم فعل في الركوع والسجود كفعل الأول، ثم سمعت النداء بالفجر، قال حذيفة فما تعبدت عبادة كانت عليّ أشد منها) (1)

قال آخر: شكرا جزيلا أخي الكريم على هذه الأحاديث العظيمة التي تدل على روحانية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السامية، وتوجهه التام لربه، واسمحوا لي ـ أصدقائي الأعزاء ـ أن أذكر لكم بعض ما كان له الأثر الكبير في نفسي قبل توبتي، وهو ما حملني عليها حملا..

لقد سمعت بعضهم يذكر أدعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل، وتأملتها فوجدتها مدرسة قائمة بذاتها في الروحانية السامية.. ووجدت أنه يستحيل أن يكون قائلها كاذبا أو مدعيا أو صاحب غرض من الأغراض الدنيوية الخسيسة.

ومن تلك الأدعية ما حدث به ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال: (اللهم لك الحمد أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، والساعة حق.. اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك ولا حول ولا قوة إلا بالله) (2)

وفي حديث آخر، هذا الدعاء الرقيق: (اللهم اغفرلي ماقدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، وإسرافي على نفسي، وما أنت أعلم به مني، اللهم أنت المقدم وأنت

__________

(1) رواه الحارث بن أسامة، سبل الهدى (8/ 279)

(2) أحمد 1/ 308 والبخاري 3/ 5 (1120) (6317، 7385، 7442، 7499) ومسلم 1/ 532 (199/ 769)

القرآن.. كلمة الله (244)

المؤخر، لا إله إلا أنت بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أجمعين، ما علمت الحياة خيرا لي فأحيني، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنا، وأسئلك نعيما لاينفد، وقرة عين لاتنقطع، والرضا بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقا للقائك، من غير ضراء مضرة ولافتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الايمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم اهدنا فيمن هديت اللهم إني أسئلك عظيمة الرشاد، والثبات في الأمر الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عافيتك، وأداء حقك، وأسألك يارب قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأستغفرك لما تعلم، وأسألك خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، فإنك تعلم ولا نعلم، وأنت علام الغيوب) (1)

قال آخر: لقد كان من أكبر ما أثر في، وجعلني أتوب إلى ربي ما رأيته من دعوة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم للاستغفار مع كونه كان أكمل الناس وأطهرهم.. وذلك ما دلني على صدقه؛ فالمدعي والكاذب لا يذكر عن نفسه ذلك أبدا.

لقد كان أول ما طرق سمعي من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 105 ـ 106]، وقوله: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [غافر: 55]

وقد تعجبت عجبا شديدا إذ رأيت الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار بعد تحقق النصر، كما قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 1 ـ 3].. وكل ذلك دليل الصدق

__________

(1) بحار الأنوار (86/ 2)، مكارم الاخلاق ص 327..

القرآن.. كلمة الله (245)

والعبودية.

قال آخر: ونفس الشيء حصل لي.. وقد رأيت كتب الحديث ممتلئة بذكر كثرة استغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوبته إلى ربه.. وذلك يدل على صدقه وإخلاصه، وإلا فالمدعي والكاذب يستحيل أن يفعل ذلك، ثم يظل مستمرا على كذبه وادعائه.

لقد كان مما قرأته ما حدث به بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما رأيت أحدا أكثر أن يقول: (أستغفر الله وأتوب إليه) من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).

وعن آخر قال: كان عامة دعاء نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اغفر لي ما أخطأت وما تعمدت، وما أسررت وما أعلنت، وما جهلت وما علمت (2).

وقال آخر: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم من مجلس إلاقال: (سبحانك اللهم ربي وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت؟ قال: (لا يقولهن من أحد حين يقوم من مجلسه، إلاغفر له ما كان منه في ذلك المجلس) (3)

وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عن نفسه، فقال: والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة (4).. وقال: إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة (5).

قال آخر: لقد تأملت كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرقيقة في الاستغفار والتوبة؛ فرأيت أنها

__________

(1) النسائي: 6/ 118 8، صحيح ابن حبان: 3/ 207.

(2) أحمد: 7/ 214 5، المعجم الكبير: 18/ 121.

(3) الحاكم: 1/ 674، النسائي: 6/ 106 1.

(4) البخاري: 5/ 2324.

(5) مسلم: 4/ 2075؛ المجازات النبوية: ص 390.

القرآن.. كلمة الله (246)

تدل على عبوديته المحضة لله، ويستحيل أن يفعل ذلك أي مدع أو كاذب..

لقد كان مما قرأته منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي، وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شي ء قديرٌ) (1)

ومنها قوله: (اللهم إني أستغفرك لما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنك أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شي ء قديرٌ) (2)

7. المواجهة القاسية

بعد أن استمعت لكل تلك الآيات الكريمة والأحاديث الرقيقة، وجدت نفسي خارج ذلك المركز الممتلئ بعبق الإيمان ونوره.. وبدله وجدتني في مغارة مظلمة، لا أكاد أبصر فيها شيئا.. إلا أني كنت أستمع بدقة لكل ما يجري فيها.. وقد ذكرني المتحدثون بأصحاب الكهف الذين فروا بدينهم من أعدائهم.. وهكذا كان هؤلاء الذين آواهم ذلك الغار؛ فقد حصلت لهم نفس الظروف، أو ما هو قريب منها.

قال أحدهم: ما دمنا قد شرفنا الله تعالى بأن نحيي سنة أهل الكهف في الإيواء إلى الغار.. فأرجو أن يحدثنا كل واحد منكم عن حاله، وكيف اهتدى للإيمان.. وكيف استطاع بعده أن يتخلص من كل العوائق؛ فيدعو للإيمان والتقوى في وسط يلج بالإلحاد والانحراف.. ويتحمل في سبيل ذلك كل ألوان الأذى والهوان.

قال آخر: لقد كان أول ما دعاني إلى الإيمان قراءتي لما ورد في القرآن الكريم عن

__________

(1) البخاري: 5/ 2350، مسلم: 4/ 2087، الأدب المفرد: ص 205.

(2) أحمد: 7/ 124 6، الحاكم: 1/ 692، الإقبال: 2/ 221.

القرآن.. كلمة الله (247)

مواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقومه، واستعمالهم كل الوسائل لحربه.. لقد قلت لنفسي: لو كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاذبا ومدعيا لما أطاق الصبر على تلك الحرب الطويلة التي أعلنت عليه.. والتي استمرت كل سنوات عمره المتبقية.. والذي لم يعرف فيه الراحة والهدوء.

قال آخر: بورك فيك أخي الكريم.. لقد حصل لي نفس ما حصل معك.. لقد قلت لنفسي: لو كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدعيا لما احتاج إلى أن يمضي أكثر من عشرين سنة، وهو في معاناة طويلة مع كل أصناف المحاربين في الوقت الذي عرض عليه قومه أن يعطوه مفاتيح الكعبة، ويملكوه عليهم، بشرط أن يترك دعوته.

لقد كان أول ما طرق سمعي من القرآن قوله تعالى ـ وهو يخبر عن الكيفية التي استقبل بها المشركون رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام: 4]

لقد توقفت عند استماعي للآية الكريمة، لأني شعرت أنها تخاطبني كما تخاطب أولئك المستكبرين العتاة الطغاة من أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد رأيت أنها توبخنا بعنف لافتقادنا لأبسط شروط الهداية، وهو الاهتمام والبحث والتقصي.. لا الغفلة والإعراض واللامبالاة.

قررت في تلك اللحظة أن أستمع لكل الآيات.. وبكل كياني.. وحينها سمعت القارئ يردد ما تلاها من الآيات، وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا

القرآن.. كلمة الله (248)

يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأنعام: 6 ـ 10]

لقد كانت هذه الآيات الكريمة وحدها كافية لتحققي بالهداية.. لقد رأيت فيها تصحيحا لكل المواقف التي كنت أقفها من الدين، والتي تعلمتها من قومي الذين كانوا يوهمونني أن كل الأديان أفيون للشعوب من دون استثناء.. لكن تلك الآيات كانت تكذبهم؛ فالذين قاموا بمواجهة المستبدين والمستكبرين والظلمة هم أنبياء الله.. والذين قاموا بالسخرية والاستهزاء وكل أساليب التعنت هم أولئك الذين لا يختلفون عن قومنا.

لقد رحت أسمع لتلك الاقتراحات التي كان يقترحها المستهزئون بوعي وبصيرة؛ فعلمت مدى المعاناة التي عانها الرسل عليهم السلام مع أقوامهم.. إنهم يشبهون الأستاذ العبقري الذي كُلف بتدريس صبية مشاغبين.

اسمعوا لهذه الآيات الكريمة التي تصور ذلك الواقع الذي كان يتعامل معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [هود: 12].. وقال: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: 7 ـ 8]

قال آخر: ولم يقتصر أمرهم على الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل راحوا يشملون بها كل من اقترب منه، أو صحبه، وخاصة أولئك المستضعفين المحتقرين الذين وصف الله تعالى تعامل المشركين المستبدين معهم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا

القرآن.. كلمة الله (249)

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين: 29 ـ 32]

لقد تأملت في هذه الآيات الكريمة؛ فزادتني يقينا بصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يستحيل لشخص أن يكون كاذبا ومدعيا، وفي نفس الوقت يرى ما يحصل لأتباعه من الأذى بسببه، ثم لا يكف عن دعواه.

قال آخر: وقد تأملت في العزاء الذي كان يعزي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يصحبه، حتى يتحملوا الآلام؛ فوجدت أنها جميعا ترتبط بالآخرة، ولا علاقة لها بأي مكاسب دنيوية..

اسمعوا لقوله تعالى، وهو يصف بعض مشاهد الآخرة، وحال العتاة والظلمة والمجرمين، مقارنة بحال المؤمنين المستضعفين: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [المؤمنون: 102 ـ 111]

قال آخر: ومثلك أنا.. لقد تأملت في العزاء الذي كان يُعزى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يواجه كل أولئك المحاربين الذين أجمعوا على حربه وإذيته.. فإذا به جميعا يرجع إلى تذكيره بما حصل للرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 31 ـ 32].. وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ

القرآن.. كلمة الله (250)

مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: 35].. وقال: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأنعام: 10].. وقال: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [الرعد: 32].. وقال: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأنبياء: 41]

قال آخر: بل وجدت أن القرآن الكريم لا يدعو إلى معاملة أولئك الظلمة المتكبرين بالمثل.. وإنما يدعو إلى الإحسان والصفح والصبر.. وكل ذلك من دلائل الصدق؛ فالمدعي لا طاقة له بالصبر.

اسمعوا إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97 ـ 99]

وقال قبلها: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85]

وهكذا كان الحال مع أهل الكتاب الذين لم تختلف مواقفهم عن مواقف المشركين، كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 109]

قال آخر: مما زاد في يقيني بصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل إعجابي به وتعظيمي له أنه مع كونه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو أهلها إلى التوحيد والعدل، وينهاهم عن الشرك والجور، وكان يستعمل كل أساليب الدعوة الحكمة والموعظة الحسنة، إلا أن أكثرهم امتنع

القرآن.. كلمة الله (251)

من إجابته، ولم يكتفوا بالامتناع، بل تألبوا عليه، وجعلوا يؤذونه بأيديهم تارة، وبألسنتهم أخرى.. ومع ذلك كله كان يصبر على أذاهم، ويحرص على إيمانهم.

بل إنه ـ مع إخبار الله تعالى أن أكثرهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103].. وقال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116].. وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: 111].. وقال: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: 36]

وغيرها من الآيات الكريمة.. إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم بما جبل عليه من رحمة كان متأثرا جدا لحالتهم، حتى أنه يكاد يقتل نفسه حزنا عليهم، كما قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6]، وقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]

قال آخر: لقد ذهبت إلى كتب التاريخ والحديث لأتعرف من خلالها على تلك الأجواء التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبشر فيها بدينه.. فوجدت كل ما فيها يدل على صدقه.. فالمدعون عادة يريدون استقطاب أصحاب الأموال والمناصب، لا المستضعفين والمنبوذين والمحتقرين.. والذي كان يرضيهم أن يهبهم بعض عطفه وحنانه دون الحاجة إلى أي دعوى أخرى.

لقد حدث عبد الله بن مسعود ـ وهو من المسلمين المستضعفين الأوائل ـ قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعنده خبابٌ، وصهيبٌ، وبلالٌ، وعمارٌ، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ

القرآن.. كلمة الله (252)

مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 51 ـ 52]) (1)

وحدث سعد بن أبي وقاص قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا.. وكنت أنا وابن مسعود، ورجلٌ من هذيل، وبلالٌ، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقع؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]) (2)

وقد بحثت في ذاك الذي وقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف؛ فوجدت أنه لا يعدو أن يرضي المتكبرين بمجلس خاص بهم يدعوهم فيه ويعظهم.. حرصا عليهم، وطمعا في إسلامهم.. لأن بإسلامهم تسلم مكة كلها.. لكن الوحي مع ذلك، ومع هذه الغاية النبيلة نهاه عن ذلك حتى يسلم الدين من كل ما يكدر صفوه.

قال آخر: ولم يكتف أعداؤه بذلك.. بل امتد أذاهم إليه وإلى كل أهله وأقاربه.. حتى أنهم كانوا يلقون سلا الجزور على ظهره وهو ساجد بين يدي الله تعالى في البيت الحرام.. وحُوصِر في شعب أبي طالب مع بني هاشم وبني المطلب حتى سُمع صوت صبيانهم ونسائهم يتضاغون جوعاً وطعامهم الأوراق والجلود.. فما صده ذلك عن دينه.

وعندما رأت قريش صلابته مع أنواع الأذى التي كانت تكيلها له جربت أساليب أخرى، فأرسلت عتبة بن ربيعة ـ وهو رجل رزين هادئ ـ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

__________

(1) أحمد (3985)

(2) مسلم (2413)، والنسائي (8237)، وابن ماجه (4128)

القرآن.. كلمة الله (253)

(يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ) (1)

فلما فرغ من قوله، اكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتلو عليه آيات من القرآن الكريم، من سورة فصِّلت، ابتداء من قوله تعالى: ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 1 ـ 7] إلى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13]

حينها لم يملك عتبة حتى وضع يده على جنبه، وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمداً وشأنه.

عندها أرسل الملأ من قريش وفدا إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقولون له: (يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه)

وأرسلوا له مرة أخرى يقولون: (يا أبا طالب إن لك فينا سِنّاً وشرفاً، وإنا قد استنهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا

__________

(1) أبو يعلى 3/ 349، 351 (1818)

القرآن.. كلمة الله (254)

وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك؛ إلى أن يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه)

لكن كل ذلك لم يثن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوته... بل كان يقول لعمه: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) (1)

قال آخر: وليت الأمر اقتصر على هذا.. فقد ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يواجه كل الشدائد إلى آخر يوم من حياته.. ففي المدينة اجتمع عليه اليهود والمنافقون مع المشركين وتحزبوا على حربه.. وقد وصف الله تعالى بعض تلك الظروف القاسية التي مر بها، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 9 ـ 16]

قال آخر: وفي المدينة بقيت السخرية والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبصورة لا تقل عما كان عليه الحال في مكة.. لقد وصف الله تعالى بعض ذلك، فقال: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا

__________

(1) انظر هذه الروايات وغيرها في الروض الأنف (3/ 45)

القرآن.. كلمة الله (255)

مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 61].. وقال: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: 64 ـ 66]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تصور أصناف الناس الذين كان يتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم، والذين لم يكن يصدر منهم إلا الأذى والسخرية والاستهزاء.

قال آخر: حتى بعض أصحابه لم يكونوا يعرفون قدره وعظمة ما جاء به، وقد قال الله تعالى ينبههم إلى ذلك: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]

وقال يصف بعض مواقفهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 1 ـ 5].. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا

القرآن.. كلمة الله (256)

إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 53].. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 9 ـ 11]

8. الشدة والثقل

بعد أن استمعت لكل تلك الأحاديث التي تذكر المواجهات العنيفة التي قوبل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجدتني خارج ذلك الكهف، وأمام جامعة كبيرة، قد اجتمع فيها الأساتذة، لا لتدريس الطلبة، وإنما في وقفة احتجاجية طلبا لتحسين أجورهم، وتقليل عدد ساعات عملهم.

وكانوا يرفعون لافتات كثيرة، وبعضهم يصيح كما يصيح الشباب والمراهقون، من غير مراعاة لسنهم، أو مناصبهم، أو حرمة المحل الذي يتواجدون فيه.

فجأة سمعت أحدهم يقول لأصحابه: أظن أن مدير الجامعة قد أرسل إلى بعضهم ليفاوضنا.. فإياكم أن ترضخوا له.. لا نريد أن تكون أجورنا أقل من أجور أساتذة الجامعات العالمية الكبرى.. لابد أن تكون لنا نفس الحقوق ما دامت لنا نفس الواجبات.

قال آخر: وإياكم أن تتنازلوا عن حقنا في الراحة والاستجمام.. لابد أن توفر لنا الدولة وفي كل سنة رحلة إلى دول العالم المختلفة لنستجم فيها، ونزيل عناء تعب سنة كاملة.

قال آخر: ولا تنسوا المحفزات.. نحن لا نستطيع أن نعمل من دونها.. أنتم تعلمون المحفزات المادية والمعنوية التي تعطى لأمثالنا في دول العالم المتقدمة.

بينما كانوا يرددون أمثال هذه الكلمات بكل قوة.. وبعضهم يستخدم ألفاظا لم يسمح

القرآن.. كلمة الله (257)

لي قلمي بكتابتها.. قدم رجل عليه هالة من نور.. لا يختلف كثيرا عن أولئك الحكماء الذين التقيت بهم في رحلاتي السابقة.. وقد كان فرحي برؤيته شديدا، حتى أن الدموع انحدرت من عيني وأنا أراه.

صعد إلى المنصة، وقال: مرحبا أيها الزملاء.. أنا أستاذ مثلكم.. نعم أعمل في جامعة أخرى.. لكني أمارس نفس وظيفتكم، وأنال نفس مرتباتكم، ولي من الحقوق ما لكم، وعلي من الواجبات ما عليكم.. لذلك لا تظنوا أني لا أعرف وضعكم، بل أنا أعيشه، كما تعيشونه.

نعم.. ظروفنا تقل كثيرا عن ظروف أمثالنا من أساتذة الجامعات التي تذكرونها.. ولكن هل وضع بلدنا هو نفس وضع تلك البلاد التي تتواجد فيها تلك الجامعات؟.. وهل عمالنا البسطاء يتقاضون نفس أجور عمال تلك البلاد؟

ألا ترون أننا نتقاضى أضعاف أجور عمال ببلدنا يبذلون من الجهد أضعاف ما نبذله.. ويعملون من الساعات أضعاف ما نعمله.. ومع ذلك يحمدون الله بكل كيانهم، لأنهم وجدوا عملا يقوّتون منه أنفسهم وأسرهم؟

سكت الجميع، فقال: أنا لا أريد أن أحدثكم عن هذا.. فأنتم أدرى به.. وأنا أدرى بالتهديدات التي تطلقونها كل حين.. وهي عزمكم على ترك جامعات بلدكم والذهاب إلى جامعات البلاد الأخرى.. لتتركوا بلدكم للتخلف، وتزيدوا البلاد الأخرى تقدما على تقدمها.

قام بعض الأساتذة، وقال: نحن جادون في طرحنا هذا.. وعشرات الجامعات العالمية مستعدة لاستقبالنا.

قال الحكيم، وهو يخاطب الأستاذ: وهل يرضى لك دينك ذلك؟.. نعم أنت

القرآن.. كلمة الله (258)

ستتحسن معيشتك الدنيوية هناك.. ولكن هل ستتحسن معيشتك الأخروية؟.. أليست هذه البلاد هي التي صرفت على تعليمك لتصلح من شأنها، أم أنها صرفت عليك، لتتركها، وتذهب إلى أعدائها؟

سكت الأستاذ، فقال الحكيم: ما جئت لأحدثكم عن هذا.. فقد كنت في يوم من الأيام مثلكم، وكانت لدي نفس مطالبكم، ووقفت مثل وقفاتكم.. لكني عندما عدت إلى عقلي وديني، وجدتني أشبه ذلك الذي وصفه الله تعالى، فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175 ـ 176]

لقد وجدت نفسي أشبه هذا الرجل تماما.. ذلك أني كنت مستعدا لبيع كل شيء من أجل تحصيل المزيد من الرفاه.. وكأنه الغاية التي جئت من أجلها إلى هذه الدنيا.

لقد وجدتني أشبه أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله ـ وهو يخاطب بني إسرائيل ومن في حكمهم ـ ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ [البقرة: 41]، وقوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 95]

سكت قليلا، ثم قال: أنا أعلم أنكم مؤمنون وصادقون في إيمانكم.. ولهذا اسمحوا لي أن أحدثكم بمنطق القرآن، لا بالمنطق الذي لقننا إياه أعداؤه.. منطق القرآن يدعونا إلى الترفع والتعالي والبذل والتضحية.. ومنطق أعدائه يدعونا الى التثاقل إلى الأرض والخلود إلى شهوات الدنيا وأهوائها.

ألم تسمعوا قوله تعالى وهو يذكر أولئك الذين خلفوا رسلهم شر خلافة، لقد قال

القرآن.. كلمة الله (259)

عنهم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأعراف: 169]

إن السبب في تلك الخلافة السيئة هو السكون إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة.. إنه طلب الأجور العاجلة، والغفلة عن الأجور الآجلة.. وهي الأجور الحقيقية.. لقد قارن الله تعالى بين كلا الأجرين، فقال: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى: 4].. وقال بعد ذكره لبعض نعيم الدنيا: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 15]

وذكر السحرة الذين تعرضوا لنفس موقفكم، فقال حاكيا على لسانهم في خطابهم لفرعون: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: 72 ـ 76]

تدبروا هذه الآيات الكريمة.. إنها تحكي نفس موقفكم.. لقد كان السحرة مخيرين بين الركون لمتاع الحياة الدنيا الذي وفره لهم فرعون، كما وفرته لكم الجامعات التي تريدون الذهاب إليها.. أو بين البقاء مع المستضعفين المؤمنين، والتعرض معهم لكل أنواع الحاجة والعذاب.. لكنهم اختاروا الله والدار الآخرة.

قام بعض الأساتذة، وقال: كيف تقارن بيننا وبين السحرة.. ألسنا مؤمنين؟

القرآن.. كلمة الله (260)

قال الحكيم: وقد كان السحرة أيضا مؤمنين.. بل من كبار المؤمنين.. وقد رزقهم الله تعالى الشهادة في سبيله، وأثنى عليهم في كتابه.. الفرق بينكم وبينهم أن الذي كان يريد أن يجذبهم إلى صفه فرعون الطاغية المستبد، ليستعمل علومهم في تسخير المستضعفين له.. وأنتم كذلك يريد فراعنة الدول العظمى استخدامكم لتظل بلادكم دائما ضعيفة فقيرة متخلفة.. وتظل تلك البلاد تتطور في كل المجالات لتنهب ثروات المستضعفين، وتستغل خيراتهم.

قام بعض الأساتذة، وقال متهكما: أرى أنك أيها الحكيم قد أخطأت طريقك.. فنحن في الجامعة.. ولسنا في الجامع.. وأنت جئت لتفاوضنا، لا لتعظنا.. فاذكر لنا ما عندك لأولانا، ودع عنك أخرانا.. فنحن أولى بها منك.

قال الحكيم: نعم أنا مرسل من مدير الجامعة لأفاوضكم.. بل لدي تفويض من الوزير نفسه.. وقد أعطوني كامل الحرية في أن أجيبكم إلى كل مطالبكم حرصا على بقائكم في هذا البلد.. لقد قال لي الوزير: أنا مستعد ـ لأجل عدم انهيار الجامعات، وبقاء الأساتذة فيها ـ أن أجوع، ويجوع معي الكثير.. وأن نتنازل عن مرتباتنا في سبيل أن نزيد في مرتباتهم.

قال الأستاذ: لقد حُلت المشكلة إذن.. فهلم اقبل كل ما نطرحه عليك.

قال الحكيم: لا.. لدي شرط لذلك..

قال الأستاذ: ما هو؟

قال: أن تسمعوا كل ما أحدثكم به.. وتفكروا فيه.. وبعدها سنمضي العقد الذي تشاءون.. والذي ستكتبونه أنتم بأنفسكم.

قال الأستاذ: تحدث كما يحلو لك.. نحن مستعدون لنستمع لك شهرا كاملا.. المهم أن نأخذ حقوقنا كاملة غير منقوصة.

القرآن.. كلمة الله (261)

أ ـ التكاليف الشديدة

قال الحكيم: أنتم قارنتم أنفسكم بأساتذة جامعات الدول الكبرى.. تلك التي تملك ثرواتها وثروات الشعوب المستضعفة.. ولم تقارنوا أنفسكم بمن هو أفضل منهم في العلم والعطاء.. وكان الأولى بكم أن تفعلوا ذلك، لترفعوا هممكم.. وتكون حاجاتكم متوافقة مع وظائفكم.

قال بعض الأساتذة: ما الذي تقصد؟

قال الحكيم: لاشك أنكم تعرفون أشرف معلم وأستاذ على هذه الأرض.. ذلك الذي قال عن نفسه: (إنما بعثت معلما) (1).. وقال: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً وميسراً) (2)

وقال عنه بعض أصحابه: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) (3).. وقال: (ما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (4)

وقبل ذلك كله قال عنه ربه: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 151].. وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]

سكت قليلا، ثم قال: أنتم مسلمون ومتدينون.. ولاشك أنكم تقرون معي بهذا.

__________

(1) ابن ماجة برقم 229.

(2) رواه مسلم برقم 1478.

(3) رواه مسلم برقم 537.

(4) أبو داود برقم 931.

القرآن.. كلمة الله (262)

قام بعض الأساتذة، وقال: طبعا نحن نقر بذلك.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أعظم معلم وأستاذ في العالم.. وكل من تتلمذ على يديه نجح في الدنيا والآخرة.. ولكن أين نحن وأين رسول الله؟

قال الحكيم: صدقت.. إن قولك (أين نحن وأين رسول الله؟)، لا يختلف كثيرا عن قولكم (أين نحن وأين أساتذة جامعات الدول المتقدمة؟).. ولذلك أول ما أرجوه منكم أن تستبدلوا مقارنة أنفسكم بأساتذة تلك الدول، بمقارنتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الأشرف والأكمل والأعظم؟

قال بعض الأساتذة: ولكنه رسول الله.. ومؤيد بالوحي؟

قال الحكيم: أنسيتم بأن الله أمرنا بالاقتداء به، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]

وعندما طلب المشركون أن يتنزل عليهم ملك بدل البشر، قال الله تعالى ردا عليهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 8 ـ 9].. وقال: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 95]

وكل ذلك يدل على أن الله تعالى ما اختار رسوله بشرا إلا ليتمكن البشر من الاقتداء به والاهتداء بهديه.. وإلا كيف يؤدي دوره في تربيتنا وتزكيتنا، ونحن نتعلل بتلك العلل التي هي في الظاهر تقديس له، وفي الباطن فرار عنه، وعن مستلزمات اتباعه.

قال بعض الأساتذة: لقد أقمت علينا الحجة.. فهلم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا بأس.. فلنعتبرها مجلس وعظ، ما دمت قد ضمنت لنا أنك ستوافق على كل مطالبنا بعد انتهاء حديثك.

القرآن.. كلمة الله (263)

ضحك الأساتذة، فقال الحكيم: وأنا عند وعدي؛ فاطمئنوا.. تعالوا لنبدأ البحث في سيرته وسنته عن عدد ساعات عمله.. فأنتم طالبتم بتقليص عدد ساعات عملكم..

سكت قليلا، ثم قال: أناشد بالله كل من لديه منكم معرفة بذلك أن يقوم ليخبرنا.

قام بعض الأساتذة، وقال: ما دمت قد ناشدتنا بالله.. فأنا قد قمت ببحث عن هذا، ونشرته في بعض المجلات المحكمة.. لقد وجدت أنه يشمل طول يومه إلا بعض الساعات القليلة المحدودة التي ينام فيها.

وقد رأيت أنه يمكن تقسيم تلك الجهود إلى قسمين: أولها تلك الساعات الكثيرة التي يخلو فيها مع ربه يعبده ويتهجد له.. وهي من أوائل ما أمر به، فقد كان أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 1 ـ 6]

وظل ذلك الأمر إلى آخر حياته، فقد قال الله تعالى له: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 78 ـ 79]

وقد أخبر الله تعالى عن تطبيق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأوامر، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: 20]

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد العناء الشديد طيلة يومه في دعوة الناس إلى الحق، لا ينام من الليل إلا قليلا، بل كان يقضي معظمه ساجدا وراكعا لربه، لأن ذلك هو التكليف الذي كُلف به.

وكان بالإضافة إلى ذلك يصوم ويعتكف ويلهج نفسه في كل لحظة بذكر الله.. طاعة

القرآن.. كلمة الله (264)

لأمر ربه، الذي كلفه بكل ذلك..

وكان يمارس كل هذه التكاليف بحب ورغبة، ويقول لبلال عند طلبه إقامة الصلاة: أرحنا بها يا بلال.. ويذكر أنها قرة عينه.

وأما الثاني؛ فتلك الجهود التي أمر بها لإنقاذ البشر وتخليصهم، وقد كان من أول ما نزل عليه في تلك الفترة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 1 ـ 7]، وقوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، وقوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل تحقيق هذا الغرض يسافر المسافات الطويلة، ويتحمل العناء الشديد، وكان يشمل هذا العمل طيلة يومه.. وأحيانا يشمل نهاره وليله.

قال الحكيم: بوركت أستاذنا الكريم.. والآن ننتقل إلى مسألة أخرى هي ضمن تبريرات مطالبكم.. لقد ذكرتم أنكم تعانون أحيانا من سلوكات بعض الطلبة وشغبهم.. واعتبرتم ذلك سببا لزيادة أجوركم.

قال بعض الأساتذة: أجل.. وهل تحسب ذلك هينا؟

قال الحكيم: لقد ذكرت لكم أني أستاذ مثلكم، وأعاني ما تعانون.. لكني في نفس الوقت أعلم أنكم تستطيعون أن تتعاملوا معهم بكل حزم، وتعقدون لهم مجالس التأديب، وتعاقبوهم بالعلامات التي ترونها مناسبة لهم.. هل ذلك صحيح؟

قال الأستاذ: أجل.. نحن نفعل ذلك.. ولذلك نجبر طلبتنا على احترامنا.. ولولاه لما فعلوا ذلك.

قال الحكيم: أنا لا ألومكم على ذلك.. فقسوتكم عليهم قد تكون رحمة وإصلاحا لهم.. لكني أريد أن تقارنوا وضعكم بوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فأنتم كُلفتم بتدريس طلبة ذوي

القرآن.. كلمة الله (265)

مستويات معينة.. وهم مكلفون باحترامكم.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كُلف بتربية أمة بدوية ممتلئة بالمتعصبين.. وكُلف مع ذلك كله بالصبر عليهم، والصفح الجميل عنهم.

أنتم تتعاملون مع طلبة ذوي مستويات عقلية وعلمية واحدة أو متقاربة.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كُلف بتربية أناس مختلفين.. فيهم الأعرابي الجلف الغليظ.. وفيهم المنافق المخادع المراوغ.. وفيهم اليهودي الحاقد الحاسد.. وفيهم القرشي المتكبر المتغطرس.. وفيهم العوام البسطاء.. وفيهم العبيد والمستضعفون.. وفيهم مرضى القلوب.

وفوق ذلك لم يُكلف كما كلفتم بتلقينهم بعض المعلومات والمعارف.. وإنما كلف بتربيتهم وتزكيتهم وإصلاحهم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]

ولأجل ذلك كلف باستعمال كل الوسائل التي تحقق تلك الأغراض، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].. وقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]

سكت قليلا، ثم قال: أجيبوني.. ألستم عندما تذهبون إلى الأقسام والمدرجات، تجدون الطلبة في انتظاركم.. فإن لم تجدوهم انصرفتم إلى بيوتكم من غير أن ينقص من مرتبكم شيئا.

قام بعض الأساتذة، وقال: وهل تريدنا أن نبحث عن الطلبة لندرسهم؟

قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك.. لقد كان يسعى إلى الأسواق

القرآن.. كلمة الله (266)

والمنتديات، ويسير المسافات الطويلة ليؤدي وظيفته.. ثم بعد كل تلك الجهود لا يسمع من الذين يسعى إليهم إلا السباب والشتائم.

قام بعض الأساتذة، وقال: صدقت في هذا.. وقد قمت بنشر مقال في مجلة محكمة عنه.. فوجدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سار مئات، بل آلاف الأميال، ليبلغ دين الله.. وكثيرا ما كان يعود من دون أن يهتدي لدعوته شخص واحد.

اسمحوا لي أن نعطر مجلسنا ببعض ما روي في ذلك..

لقد حدث ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفا فصعد عليه، ثم نادى: (يا صباحاه)، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟) قالوا: نعم، قال: (فإني ﴿نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46]، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله عز وجل: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 1 ـ 5] (1)

التفت الأستاذ إلى زملائه، وقال ـ والدموع تنحدر من عينيه ـ: لقد كانت هذه هي الحصة الأولى التي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تلاميذه المشاغبين.. تصوروا زملائي الأساتذة لو أن هذا حصل لنا ماذا كنا سنفعل؟

لم يملك الأستاذ نفسه، فقام أستاذ آخر، وقال: اسمحوا لي أن أكمل ما ذكره زميلي.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحين كل الفرص لعرض دعوته على القبائل المختلفة، والتي لم تكن

__________

(1) أحمد: ج 1/ص 307 ح 2802.

القرآن.. كلمة الله (267)

تعامله إلا بما ألفته من جفاء وغلظة..

لقد حدث بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنين من نبوته مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين يوافي الموسم، يتبع الحاج في منازلهم: بعكاظ ومجنة، وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره، حتى إنه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة، حتى انتهى إلى بني عامر بن صعصعة فلم يلق من أحد من الأذى قط ما لقي منهم، حتى خرج من عنده وإنهم ليرمونه من ورائه، حتى انتهى إلى بني محارب بن خصفة، فوجد فيهم شيخا ابن مائة سنة وعشرين سنة، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه إلى الإسلام، وأن يمنعه حتى يبلغ رسالة ربه، فقال الشيخ: أيها الرجل، قومك أعلم بنبئك، والله لا يؤوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشر ما يؤوب به أهل الموسم، فأغن عنا نفسك، وإن أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي.. ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال: لو كان أهل الموسم كلهم مثلك لترك هذا الدين الذي هو عليه، إنه صابيء كذاب.. قال المحاربي: أنت والله أعرف به، هو ابن أخيك ولحمتك ثم قال المحاربي: لعل به يا أبا عتبة لمما؟ فإن معنا رجلا من الحي يهتدي لعلاجه.. فلم يرجع أبو لهب بشيء، غير أنه إذا رآه وقف على حي من أحياء العرب صاحبه أبو لهب إنه صابئ كذاب (1).

وحدث صحابي آخر، قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منازلنا بمنى ـ ونحن نازلون بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة ـ فدعانا، فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، وقد كنا سمعنا به وبدعائه في الموسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له.. وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي، فقال: أحلف بالله لو صدقنا هذا

__________

(1) أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 101)

القرآن.. كلمة الله (268)

الرجل وحلمناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأي، فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ، فقال له القوم: دعنا عنك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به، فطمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميسرة فكلمه؛ فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني، وإنما الرجل بقومه فإن لم يعضدوه فالعداء أبعد (1).

وحدث آخر، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كندة في منازلهم بعكاظ، فلم يأت حيا من العرب كان ألين منهم، فلما رأى لينهم وقوة جبههم له جعل يكلمهم ويقول: (أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، فإن أظهر فأنتم بالخيار)، فقال عامتهم: ما أحسن هذا القول، ولكنا نعبد ما كان يعبد آباؤنا.. فقال أصغر القوم: يا قوم، اسبقوا إلى هذا الرجل قبل أن تسبقوا إليه، فوالله إن أهل الكتاب ليحدثون أن نبيا يخرج من الحرم قد أظل زمانه، وكان في القوم إنسان أعور فقال: أمسكوا علي، أخرجته عشيرته وتؤونه؟.. أنتم تحملون حرب العرب قاطبة؟.. لا، ثم لا.. فانصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزينا (2).

وحدث آخر، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بسوق عكاظ، فقال: (ممن القوم؟) قلنا من بني عامر بن صعصعة. قال: (من أي بني عامر؟) قلنا: بنو كعب بن ربيعة. قال: (كيف المنعة فيكم؟) قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يصطلى بنارنا، فقال لهم: (إني رسول الله، فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي؟ ولم أكره أحدا منكم على شيء) قالوا: ومن أي قريش أنت؟ قال: (من بني عبد المطلب) قالوا: فأين أنت من بني عبد مناف؟ قال: (هم أول من كذبني وطردني)، قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك، فنزل

__________

(1) أبو نعيم (ص 102)

(2) أبو نعيم في الدلائل (ص 103)

القرآن.. كلمة الله (269)

إليهم والقوم يتسوقون إذ أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال: من هذا الذي أراه عندكم؟.. قالوا: محمد بن عبد الله القرشي، قال: مالكم وله؟ قالوا: زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه، قال: فماذا رددتم عليه؟ قالوا: قلنا في الرحب والسعة، نخرجكم إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع به أنفسنا، قال بجرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به، بدأتم لتنابذ الناس، وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، تعمدون إلى رهيق قوم قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه، فبئس الرأي رأيتم ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شكلتها، فقمصت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فألقته.. وعند بني عامر يومئذ ضباعة بنت عامر بن قرط ـ كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ـ جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت: يا آل عامر.. ولا عامر لي.. أيصنع هذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟ فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بجرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء)؛ فأسلم الثلاثة الذين نصروه فقتلوا شهداء؛ وهلك الآخرون لعنا (1).

وحدث العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس)، وكانت مجمع العرب، فقلت: هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك؟.. فبدأ بكندة فأتاهم فقال: (هل لكم إلى خير؟) قالوا: وما هو؟

__________

(1) أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 100)

القرآن.. كلمة الله (270)

قال: (تشهدون أن لا إله إلا الله، وتقيمون الصلاة، وتؤمنون بما جاء من عند الله).. فقالوا له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الملك لله يجعله حيث يشاء)، فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، إلحق بقومك فلا حاجة لنا بك.. وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم هذا في الذروة منا، فعن أي شأنه تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا: زعم أنه (رسول الله)، قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه (1).

وحدث آخر، قال: حججت مع أبي، فلما نزلنا منى إذا نحن بجماعة فقلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هذا الصابئ.. فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) (2)

وحدث آخر، قال: قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء اجتمعوا على صابئ لهم، فتشرفت، فإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله، وهم يردون عليه الحديث (3).

بعد أن انتهى الأستاذ من سرده لهذه الأحاديث قال الحكيم: بورك فيك أيها الأستاذ الفاضل.. والآن بعد أن سمعتم ما سمعتم أجيبوني.. هل تعرضتم لأي تهديد في حياتكم العملية.. أي تهديد يرتبط بحياتكم وأرزاقكم؟

قام أحد الأساتذة، وقال: لا.. وأنت ترى أننا قمنا بالإضراب بكل حرية.. ولنا فوق

__________

(1) أبو نعيم، حياة الصحابة (1/ 113)

(2) أبو نعيم، حياة الصحابة (1/ 113)

(3) الطبراني، حياة الصحابة (1/ 115)

القرآن.. كلمة الله (271)

ذلك كل أنواع التأمينات مثلما هو الحال في كل دول العالم.

قال الحكيم: لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مع كل تلك الجهود يعيش في ظل التهديد كل حين.. ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، وقال: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 76]، وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30]

قام بعض الأساتذة، وقال: اسمح لي أن أذكر لكم بعض ما ذكره المؤرخون في ذلك.. لقد حدث بعضهم، فقال: أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل عليه السلام، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 1 ـ 9] (1)

وحدث آخر، قال: دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي، فقال: (ما يبكيك يا بنية؟)، قالت: يا أبت، وما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا

__________

(1) دلائل النبوة للبيهقي (2/ 469، 470)

القرآن.. كلمة الله (272)

من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: (يا بنية، ائتني بوضوء)، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم؛ فتناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال: (شاهت الوجوه) فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا (1).

وحدث آخر، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ـ يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه؛ فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري؛ فاقتصا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال (2).

قال الحكيم: بورك فيك أستاذنا الكريم.. أخبروني.. ألستم تتقاضون أجورا على أعمالكم؟

قالوا جميعا: أجل.. ومن أين لنا أن نعيش من دونها؟

قال الحكيم: فهل تكفيكم لتحصيل قوتكم؟

قام بعض الأساتذة، وقال: إن شئت الصراحة، هي لا تكفينا لتحصيل قوتنا فقط، بل تكفينا لتحصيل الكثير من الإدام.. ولشراء كل ما نحتاجه من ضروريات وكماليات.

__________

(1) صحيح ابن حبان برقم (1691) والمستدرك (3/ 157)

(2) أحمد (1/ 348)

القرآن.. كلمة الله (273)

قال آخر: ولكنها أقل بكثير مما يتقاضاه غيرنا من أساتذة الجامعات العالمية.

قال الحكيم: هل تعرفون الأجر الذي كان يتقاضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جراء كل تلك الجهود؟.. لقد ذكره الله تعالى، فقال: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: 3].. أي أنه أجر غير مقطوع، لا يرتبط بالدنيا فقط، وإنما يرتبط بالآخرة.. وبالحياة الأبدية.. نعم أنتم أقل أجورا من أساتذة الدول التي تذكرونها، ولكنه في إمكانكم أن تصبحوا أكثر أجورا منهم في تلك الحياة الحقيقية التي تنتظرنا جميعا.. بل التي نقترب منها كل يوم.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: اعذروني.. لقد أخذت من وقتكم الكثير، والآن أرجو أن يقترب مني ممثلكم لنوقع على الاتفاق الذي اتفقنا عليه.

قام بعض الأساتذة، وقال: وما الاتفاق الذي اتفقنا عليه؟

قال الحكيم: ألم نتفق على أن تسمعوا لي، ثم بعدها أوقع لكم على تحقيق جميع مطالبكم.

قال الأستاذ: أما أنا.. فاعذرني.. لقد أثّر في ما ذكرته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أرغب في أن أنال ذلك الأجر الحقيقي.. وأن أخدم أهل بلدي الذين يحتاجون إلي.

ثم التفت إلى زملائه من الأساتذة، وقال: اعذروني.. سأعود إلى عملي.. ولا تحسبوني قد خربت ما قصدتم إليه.. ولكني لا أريد أن أكون أقل نبلا من أولئك السحرة الذين لم يستجيبوا لفرعون زمانهم.

قام آخر، وقال: اسمح لي أن انضم إليك أيضا.. لقد علمت من مصادر موثوقة أن الذين دعونا إلى الإضراب هم أولئك المستكبرون الذين احتلوا أرضنا، ونهبوا ثرواتنا، وهم اليوم يريدون أن ينهبوا عقولنا لنخدم تلك البلاد التي لم نر منها إلا الشر.

قام آخر، وقال: أما أنا.. فإني لن أكتفي بما اكتفى به زملائي.. بل إني أضع جزءا من

القرآن.. كلمة الله (274)

مرتبي في خدمة الطلبة.. لقد رأيت أكثرهم لا يملك الحواسيب التي تعينه على الدراسة، ولذلك سأشتري لهم بما زاد عن حاجتي من مرتبي ما يحتاجونه منها.

قام آخر، وقال: أنا معك في هذا..

قام آخر، وقال: وأنا سأجعل جزءا من مرتبي في خدمة حاجات الطلبة الفقراء..

قام آخر، وقال: وأنا مستعد لأن أعمل قدر ثلاثة أساتذة من الذين يريدون أن يتركوا بلادهم.. من دون أن أطلب أي أجر زائد.

وهكذا تحدث الكثير منهم، يعرض خدماته المختلفة للجامعة والطلبة..

ب ـ ثقل الوحي

في تلك الأجواء المفعمة بالإيمان والحماسة، أشار إلي الحكيم أن أقترب منه، وقال: هل سجلت كل ما دار هنا؟

قلت: أجل.. وما كان لي إلا ذاك.. فهذه وظيفتي التي كُلفت بها.. ولا تخف.. فأنا لا أحتاج أي أجر.. ولذلك لا أحتاج منك أي نصيحة.

قال: أعلم ذلك.. لكني أريد أن أذكر لك نوعا من أنواع الشدة والثقل، لم أذكره لزملائك.. فالمحل لا يسمح بذلك.

قلت: ما تقصد؟

قال: ذلك الجهد الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]

قلت: لقد تحدثتم عنه في المجلس.

قال: ذاك مظهر من مظاهره.. وهناك مظاهر أخرى كثيرة، منها ما يطيقه كل الناس، ومنها ما لا يطيقه إلا بعضهم.. وقد أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم.

القرآن.. كلمة الله (275)

قلت: لم أفهم.

قال: من مظاهر ذلك الثقل تلك الشدة التي يجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند تواصله مع الوحي الإلهي.

قلت: لكنه أعطي الطاقة على ذلك.

قال: أجل.. وبها تحققت نبوته.. فأول طاقة ينالها أنبياء الله، طاقة تلقي الوحي.. إن هذه الطاقة عظيمة لا يمكن تصورها.. إنها اتصال الإنسان الضعيف القاصر بالعالم الآخر.. ولذلك من الصعب جدا تصويرها لعامة الناس.

قلت: لقد وصف المعايشون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف كان يأيته الوحي.

قال: أجل.. وهو بحد ذاته دليل على أنه حقيقة ملموسة لا علاقة لها بأي مرض كما يشيع المرجفون.

اسمع ما ذكره المصاحبون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما رأوه بأعينهم.. لقد حدث بعضهم، قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفخذه على فخذي، فكادت فخذه ترض فخذي (1).

وقال آخر: رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه على راحلته، فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه عن ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان (2).

وقال آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل على الوحي تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم (3).

__________

(1) البخاري 1/ 166.

(2) رواه ابن سعد، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 257)

(3) رواه أبو داود الطيالسي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 259)

القرآن.. كلمة الله (276)

وقالت بعض النساء: كنت آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزلت عليه سورة المائدة فكاد ينكسر عضدها من ثقل السورة (1).

قلت: لقد سجلت كل ما ذكرته.. وأنا مقتنع به كل الاقتناع.. لكن معلم القرآن طلب مني أن أسجل بقلمي ما يقنع العالم، لا عقلي المسلم المطمئن.. وأنت تعلم أن هناك الكثير من العقول تجادل في هذا.

قال: من المؤمنين بالأديان أم من غيرهم؟

قلت: لقد التقيت في بعض رحلاتي مسيحيا، قال لي ـ عندما ذكرت له الوحي ـ ألا تكف عن هذه الخرافات.. كيف يمكن لعقل أن يقبل باتصال محمد ذلك البدوي الأمي بالسماء؟.. وكيف يمكن أن يحصل منه هذا الاتصال بالعالم الآخر؟

قال الحكيم: فأخبره عما ورد في الكتاب المقدس من اتصال الله بكثير من أنبيائه.. فليس هناك نبي إلا واتصل بالله، ونزل عليه وحي من الله.. بل لا يمكن أن يكون نبيا إلا بتوفر ذلك.. وفي الكتاب المقدس ما يدل على ذلك.

قلت: لقد ذكرت له ذلك.. فذكر لي أن ذلك خاص ببني إسرائيل.

قال: فاذكر له بأن اعتقاده هذا لا يختلف عن اعتقاد الشيطان، الذي قال لآدم عليه السلام: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12].. فالشيطان هو الذي أراد أن يحجر على الله فضله على عباده، وعلى دربه سار أولئك الذين جعلوا فضل الله محصورا في نسل معين من بني إسرائيل أو غيرهم.

واذكر له أننا نحن المسلمين، نعتقد أن هذا الفضل يمن الله به على من يشاء من عباده، ونعتقد فوق ذلك ما قاله القرآن الكريم من أنه لم تخل أمة من الأمم من وحي الله، كما قال

__________

(1) رواه أحمد والطبراني، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 257)

القرآن.. كلمة الله (277)

تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24]

قلت: لا بأس.. فلنفرض أن الذي التقيت به لا يؤمن بالأديان جميعا.. فما عساي أقول له؟

قال: يمكنك ـ لتقيم عليه الحجة ـ أن تقرب له المسألة بما يعرفه من علوم ومعارف.. ألم نؤمر بخطاب الناس على قدر عقولهم؟

قلت: فما أقول له؟

قال (1): اذكر له أن هناك وقائع كثيرة جدا تجري من حولنا في كل لحظة، ونحن نعجز عن إدراكها، أو سماعها، أو الإحساس بها بوساطة أجهزتنا العصبية، وقد استطاع العلم الحديث أن ييسر لنا إدراكها بفضل الأجهزة العلمية التي اخترعناها.. وهذه الأجهزة تستطيع أن تدل على صوت ذباب طائر على بعد بضعة أميال، وكأنه يطير عند أذنك.

قلت: صدقت.. وقد عرفت أن هناك من الأجهزة العلمية ما وصل التقدم فيه إلى حد أنها تسجل صدام الأشعة الكونية في الفضاء.. وقد اخترع العلماء آلات كثيرة أثبتت أنها تستطيع إدراك كثير من الأحداث التي لا يمكننا سماعها بالطرق السمعية التقليدية.

قال: هذه الطاقة غير العادية للسماع لا تخص الآلات العلمية الحديثة، وإنما وهبها الله لبعض الحيوانات أيضا.

قلت: أجل.. فمن الحقائق العلمية أن جهاز سماع الإنسان محدود جدا، ولكن أجهزة بعض الحيوانات تختلف كل الاختلاف؛ فالكلب، مثلا، يستطيع أن يشم ريح الحيوان الذي مر من الطريق، ومن ثم استغلت الكلاب في البحث عن الجرائم والمجرمين.

وهناك حيوانات كثيرة تسمع أصواتا تخرج عن نطاق أسماعنا، وقد أثبتت البحوث

__________

(1) انظر: الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان (ص 131)، وما بعدها.

القرآن.. كلمة الله (278)

في هذا الميدان أن بعض الحيوانات يتمتع بقوة (الإشراق) فلو أنك وضعت حشرة مما يطلق عليه (العثة) ـ وهي حشرة مجنحة ـ على نافذة مفتوحة، فستحدث صوتا يسمعه زوجها على مسافة بعيدة جدا، ولسوف يجيبها هذا الزوج أيضا بطريقته.

وهناك نوع خاص من هذه الحشرات يدعى (الجندب)، يحك رجليه وجناحيه ويصوت بطريق غير عادية، ويسمع على مبعدة نصف ميل وهو يحرك في هذه العملية ستمائة طن من الهواء، ليدعو زوجه وهذه الزوج ترسل أيضا وهي ساكنة بلا حراك جوابا لا نعرفه، إنما يعرفه الجندب الذكر ثم يلحق بها أينما كانت.

وهناك أمثلة أخرى كثيرة، تؤكد إمكان وجود وسائل غير مرئية لدى ذوي الحواس الخاصة.

قال: وقل لهم بعد هذا وغيره: إذا كان الأمر كذلك فما وجه الغرابة في ادعاء إنسان أنه يسمع صوتا من لدن ربه، لا يدركه عامة الناس ما دام من الممكن أن توجد في هذا العالم حركات وأصوات لا تسمعها آذان الإنسان، ولكن تسجلها الآلات؟ وما دامت هناك رسائل تدركها حيوانات دون أخرى؟

وقل لهم: إن الله تعالى ـ لحكمة يعلمها ـ يرسل رسائله بوسائل خافتة خفية إلى الإنسان المختار للرسالة بعد أن يودع فيه صلاحية التقاطها وفهمها، فليس هناك من تصادم في الحقيقة، بين مشاهداتنا وتجاربنا العلمية، فهو واقع من الوقائع الكثيرة التي نشاهدها ونجربها في أمكنة وطرق مختلفة، فالوحي إمكان وجدناه في شكل الواقع بعد التجربة.

قلت: صدقت.. وقد تبين لنا في العصر الحديث أن تجارب الإشراق أو الانكشاف ومعرفة الغيب لا تخص الحيوانات، وإنما توجد في الإنسان (بالقوة)، لقد قال الدكتور ألكسيس كريل يذكر ذلك: (إن حدود الفرد في إطار الزمان والمكان هي مجرد افتراض،

القرآن.. كلمة الله (279)

فيستطيع عامل الإشراق أن يجعلك تنام، وتضحك أو تبكي، كما يستطيع أن ينقل إليك كلمات أو خواطر، لست على علم بها.. إنها عملية لا تستعمل فيها أية وسائل ولا يشعر بها غير عامل الإشراق وصاحبه)

9. الحفظ التام

فجأة وجدت نفسي بعيدا عن تلك الجامعة والأساتذة المجتمعين فيها والحكيم الذي كان يحاورني ويحاورهم.. وقد وجدتني بدلها في غابة موحشة، لا أسمع فيها إلا الأصوات المرعبة.. وقد امتلأت خوفا لذلك، ولم أدر ما أفعل.

حينها خطر على بالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل تلك المحن التي مر بها، وكل أولئك الأعداء الذين تكالبوا عليه، والذين لا تساوي تلك الغابة والرعب المبثوث فيها شيئا أمامهم.

حينها اطمأننت واستقرت نفسي، وقلت: إن الحفيظ الذي حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل أولئك المتربصين، وحفظ القرآن من كل أولئك العابثين واللاغين.. سيحفظني ببركتهم وبركة ما كتبت عنهم في تلك الدفاتر التي كنت أحملها.

ما قلت هذا حتى سمعت صوتا يقترب مني، ثم يربت على كتفي، ويقول: الحمد لله أنك اكتشفت سر مجيئك لهذه الغابة، ولم تحتج لمن يشرح لك.

قلت: هل تقصد ما كان يدور بخاطري؟

قال: كل ما يدور بالخاطر يظهر على قسمات الوجوه.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].. وقال: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 30]؟

القرآن.. كلمة الله (280)

قلت: لاشك أنك من المتوسمين الذين تشرفت بلقائهم في رحلاتي السابقة.. أولئك الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله) (1)

قال: دعك مني.. فأنا أدنى من أن تضيع مداد قلمك من أجلي.. هلم بنا إلى بعض المستضعفين الذين أرهقهم الضعف.. لنزودهم بالقوة التي تخرجهم من ضعفهم.

قلت: ولكني لا أراك تحمل شيئا.. فأي قوة هذه التي تريد أن تزودهم بها؟

قال: قوة الإيمان والإرادة.. وهي لا تحتاج إلى عدد ولا عدة.. يكفي فيها الكلمات الصادقة التي تحيي العقول والقلوب.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24 - 25]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت بعدها قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26]

قال: واسمع معهما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24].. فكلمات الله المقدسة هي وحدها من يخلص البشر من كل ضعف وضعة، ويزودهم بكل قوة ومكرمة.. ولذلك تكفل الله بحفظها حتى لا يفتقد البشر ما يحفظ حياتهم الحقيقية من أن تصبح حياة وهمية لا معنى لها.

قلت: لا شك أنك تريد أن تحدثني عن حفظ الله تعالى للقرآن الكريم، والذي وعد به في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]

__________

(1) رواه الترمذي (3127)

القرآن.. كلمة الله (281)

قال: وقبلها حفظ الله تعالى رسوله الذي أوحى له به.. فلولا حفظ الرسول ما تم الوحي، ولا حفظ.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 94 - 96].. لكن لم خصصت أنت بالحديث معي في هذا الجانب؟

قال: لأنه كان سبب هدايتي.. لقد من الله علي بفتحه المبين من هذا الطريق.. في بداية حياتي كنت مهتما بالتاريخ.. وكنت أحمل مع ذلك الاهتمام رؤية كونية مادية لا علاقة لها بالغيب.. وكنت أتوهم أن الدولة القوية بأجهزتها الأمنية هي وحدها من يمكنها أن تقوم بحفظ من تشاء، أو إهماله وتركه عرضة لتسلط أعدائه.. لكني عندما بحثت في الحفظ الذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرة أعدائه.. ثم حفظ كل ما جاء به بعد ذلك.. جعلني أتخلى عن تلك الرؤية، وأعتقد أن هناك ما هو أرقى وأكمل وأعظم من كل تلك التصورات التي أحملها.. والحمد لله كان ذلك مقدمة للبحث في حقائق الإيمان والدين.

لقد قلت لنفسي حينها: كيف استطاع محمد في تلك البيئة الموبوءة بالعداء له أن يحمي نفسه، ويحمي رسالته؟

وقلت لها: إن نجاته من كل تلك الأهوال برسالته كنجاة رجل غرق في عرض المحيط، وغرقت معه كنوز كثيرة يحملها، لكنه فجأة قطع عشرات الآلاف من الأميال ليخرج منها، لا وحده فقط، بل تخرج معه كل كنوزه، لا يضيع منها كنز واحد.

وقد شاء الله بعدها أن يكون تنوري بنور الإيمان من خلال اسمه الحافظ.. ولذلك

القرآن.. كلمة الله (282)

اخترت بعد إيماني اسم [عبد الحفيظ].. فقد رأيت الحفظ الإلهي شاملا لكل الحاجات.. ابتداء من حفظ حياة البشر من أن تتسلط عليها المهلكات الكثيرة.

قلت: لا شك أنك تقصد قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 32].. وقد رأيت في بعض رحلاتي الكثير من الأسرار المرتبطة بهذه الآية الكريمة.

قال: أجل.. ذلك تجل من تجليات الحفظ الإلهي لحياة البشر.. وقد ذكر الله تعالى تجليات أخرى..

قاطعته، وقلت: أجل.. منها ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11]

قال: ومنها.. وهو أعظمها حفظ الهداية.. فالله تعالى برحمته ولطفه وعنايته بعباده يوفر لهم كل حين ما يضمن لهم استمرار الهداية صافية نقية.

قلت: لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال ـ عند ذكره لحفظ أنبيائه من أعدائهم ـ: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 103]، وقال ذاكرا نبيه يونس ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]

قال: بل إن من عناية الله تعالى بعباده حفظ أتباع أولئك الأنبياء الصادقين حتى لا ينقطع وجود الصالحين في الأرض.

قلت: لا شك أنك تقصد قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38]

القرآن.. كلمة الله (283)

قال: أجل.. وقد ذكر الله تعالى سببا من أسباب ذلك الحفظ، فقال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 39 - 40]

قلت: لكنك تعلم أن هناك من الأنبياء من حُرموا من إكمال ما كلفوا به لتسلط قومهم عليهم.. كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: 87]

قال: لا.. لم يحرموا.. لقد كان التكليف الإلهي المرتبط بهم مرتبط بشهادتهم.. ألم تعلم ما حصل للإمام الحسين، وكيف كان ذلك سببا في الحفاظ على الدين من التشويه؟

قلت: بلى.. فقد كان لاستشهاده واستشهاد أهل بيته وأصحابه الأثر الكبير في حفظ معاني الدين وقيمه.

قال: فكذلك كان لشهادة الأنبياء عليهم السلام تأثيرها في حفظ الهدي الإلهي بصورته الصحيحة الجميلة.

قلت: هل تقصد أن الله تعالى هو الذي سمح لأولئك المعتدين بقتل أنبيائهم؟

قال: سماح تكوين، لا سماح تشريع.. فالقتلة مؤاخذون مذنبون.. والأنبياء المقتولون شهداء مكرمون.. وقد كان في قدرة الله تعالى أن ينجيهم كما أنجى غيرهم، لكن حكمته كانت تقتضي ذلك.

قلت: وحكمته هي التي اقتضت حفظ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.. لأنه خاتم رسله.. ولو قتل لحرم

القرآن.. كلمة الله (284)

الخلق من الهداية.

قال: أجل.. ولهذا حُفظ القرآن الكريم حتى لا يفتقد البشر آخر منبع من منابع الهداية الصافية.

أ ـ حفظ رسول الله

قلت: لقد ذكرت أن سبب هدايتك هو ما رأيته من حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم..

قال: أجل.. لقد كنت أتوهم أن الجنود الذين يتولون الأمن هم وحدهم من يقومون بحفظ من شاءوا.. لكني علمت بعد ذلك أن الجند الحقيقيين هم جند الله، والذين لا نرى أكثرهم.

قلت: لعلك تقصد قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31].. وقوله: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 7]

قال: أجل.. لقد رأيت من خلال دراستي للسيرة المطهرة، من خلال القرآن الكريم، وكتب التاريخ أن الله تعالى حمى ببعض تلك الجنود الظاهرة والخفية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما حمى الفئة المؤمنة معه.

قلت: فهل ستحدثني عن ذلك؟

قال: لا.. لم أُكلف أنا بتحديثك بذلك.. بل سيتحدث به إليك وإلي وإلى أنفسهم أولئك المستضعفون الذين كُلفت بالسير إليهم.

قلت: لقد أخبرتني بأنك أنت الذي تريد أن تزودهم بما يخرجهم من ضعفهم.

قال: ولم أكذب في ذلك.

قلت: لكنك قلت الآن بأنهم هم الذين سيحدثونا، لا نحن الذين سنحدثهم.

قال: يمكنك بدل أن تقول الكلمة لغيرك، أن تجعله يقولها.. ليقتنع بنفسه بدل أن

القرآن.. كلمة الله (285)

تقنعه أنت.

قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟

قال: هلم معي.. وستفهم.

ما سرنا إلا قليلا حتى وجدنا نفرا كثيرا من الناس مجتمعين.. وكأنهم مع صاحبي الذي جئت معه على ميعاد..

بمجرد أن وصلنا، قام أحدهم، وقال: لقد فعلنا كل ما طلبته منا.. وقد تقدم بحمد الله للمسابقة التي أجريتها بيننا الكثير.. كلهم جاءوا بأحاديث ونصوص كثيرة، وهم يريدون الآن أن يسمعوك إياها.. لتحكم لها، وتحكم بعدها للفائز منهم.

قال عبد الحفيظ: أنا طوع أمركم، ويسرني كثيرا الاستماع لكم والاستفادة منكم.. فلتتقدموا واحدا واحدا..

قام الأول، وقال: لقد وجدت من أعظم مظاهر نصر الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه له ما حصل يوم الأحزاب.. ذلك اليوم الشديد الذي وصفه الله بقوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 10 - 11]

لقد كان ذلك اليوم كافيا لاستئصال المسلمين من جذورهم، واستئصال القرآن بعد ذلك ليصبح مجرد حدث تاريخي عابر لا قيمة له.. لكن الله شاء وببعض جنوده أن ينصر المؤمنين.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9]

وقد بدأت المؤامرة بخروج عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى

القرآن.. كلمة الله (286)

قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش.. ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.

وقد حدث أنه لما دعت اليهود قريشاً لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا لهم: سنكون معكم حتى نستأصله، ارتابوا في أمرهم، لأن دين اليهود قريب من الإسلام وبعيد عن عبادة الأصنام كل البعد وقريش عباد أصنام، ولذلك قالوا لهم: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟.. قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا واستعدوا للحرب.

وقد نزل في ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: 51]

قام آخر، وقال: بورك فيك أخي الكريم.. مع احترامي الشديد لما ذكرته إلا أني وجدت من أعظم مظاهر حفظ الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم عصمته الشاملة التي وعده بها، والتي تشمل كل المواقف، بما فيها ما حصل يوم الأحزاب.. لقد نص على ذلك الوعد الإلهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67]

أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم،

القرآن.. كلمة الله (287)

فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك (1).

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل نزول هذه الآية يُحرس، لكنها بعد نزولها أمرهم بعدم حراسته.. فعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه من القبة، وقال: (يا أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل) (2)

لقد تأملت في هذا الحديث؛ فعلمت أنه يستحيل على مدع أن يكذب الكذبة ثم يصدقها، ويستحيل عليه أن يدع نفسه عرضة للمتربصين الكثيرين به لوعد وعد به نفسه.

وقد قرأت الكثير من الروايات التاريخية الدالة على الحفظ الخاص لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنها ما حدث به جابر بن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان: لأقتلن لكم محمدا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت ظل شجرة، فعلق سيفه، فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله) (3)

وفي رواية: فسقط السيف من يده، وأخذه راجفا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السيف، وقال: (من يمنعك مني؟) قال: كن خيرا آخذ، فخلى سبيله فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس.

قام آخر، وقال: أما أنا، فقد وجدت من مظاهر حفظ الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم حفظه من

__________

(1) تفسير ابن كثير (3/ 151)

(2) سنن الترمذي برقم (5037) وتفسير الطبري (10/ 469) والمستدرك (2/ 313)

(3) رواه البخاري ومسلم وابن إسحاق وأبو نعيم والحاكم والبيهقي، سبل الهدى: 10/ 258.

القرآن.. كلمة الله (288)

الساخرين المستهزئين، بل كفايته شأنهم، وتنكيله بهم ليكونوا عبرة لغيرهم.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ﴾ [الحجر:95].. وقال: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة:137]

وقد روي في الحديث عن ابن عباس قال: المستهزؤون هم الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة السهمي، فلما أكثروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاستهزاء أتاه جبريل فشكا إليه فأراه الوليد، فأومأ جبريل إلى أكحله، قال: (ما صنعت؟) قال: كفيته ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عينيه، فقال: (ما صنعت؟) قال: كفيته، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، فقال: (ما صنعت؟) قال: كفيته، فأما الوليد فمر به رجل من خزاعة، وهو يريش نبلا له، فأصاب أكحله، فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت س