الكتاب: النبي الإنسان
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1437 هـ
عدد الصفحات: 645
ISBN: 978-620-2-34479-1
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
تحاول هذه الرواية ـ بقدر الطاقة ـ أن تصور بعض نواحي الكمال التي أودعها الله في النموذج الأكمل للإنسان الذي أراده الله ورضيه، وجعله عينا من عيون رحمته، ومنبعا من منابع لطفه بعباده وعنايته بهم.. وجعله بعد ذلك مرآة لتجلي حقائق الوجود وكمالاته.. وجعله فوق ذلك كله صراطا مستقيما، من سار على هديه وصل، ومن سلك غير سبيله ضل.
هذا الكامل الذي شهد له كل شيء بالكمال، هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وبما أنه لا يمكن لبشر مهما كان أن يحيط بكمالاته صلى الله عليه وآله وسلم أو يصورها، فقد استعرنا في هذه الرواية بدله مجموعة من الورثة.. كل واحد منهم يحكي ناحية من النواحي.. فمن لا طاقة له بالنظر إلى الشمس يمكنه أن ينظر إليها من خلال صفحات الماء الصافية.
النبي الإنسان (9)
تحاول هذه الرواية ـ بقدر الطاقة ـ أن تصور بعض نواحي الكمال التي أودعها الله في النموذج الأكمل للإنسان الذي أراده الله ورضيه، وجعله عينا من عيون رحمته، ومنبعا من منابع لطفه بعباده وعنايته بهم.. وجعله بعد ذلك مرآة لتجلي حقائق الوجود وكمالاته.. وجعله فوق ذلك كله صراطا مستقيما، من سار على هديه وصل، ومن سلك غير سبيله ضل.
هذا الكامل الذي شهد له كل شيء بالكمال، هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وبما أنه لا يمكن لبشر مهما كان أن يحيط بكمالاته صلى الله عليه وآله وسلم أو يصورها، فقد استعرنا في هذه الرواية بدله مجموعة من الورثة.. كل واحد منهم يحكي ناحية من النواحي.. فمن لا طاقة له بالنظر إلى الشمس يمكنه أن ينظر إليها من خلال صفحات الماء الصافية.
وجعلنا بطل الرواية الأساسي الذي يحكي قصة رحلته إلى [النبي الإنسان] رجلا اهتم بالبحث عن الكمال الإنساني.. وقد جعله ذلك يرحل إلى مناطق كثيرة من العالم إلى أن ظفر ببغيته في عشرة من الناس، كل واحد منهم يحدثه عن ناحية من نواحي الكمال في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وهذه النواحي العشرة هي:
العارف: الذي اجتمعت في عقله وقلبه حقائق الوجود الكبرى، من مصادرها المعصومة المقدسة بعيدا عن الجدل والخرافة والأسطورة وغيرها.
العابد: الذي توجه إلى الله بكل لطائفه، وبكل ألوان العبودية، ولم يخل وقت من أوقاته من وظيفة من وظائف التوجه الصادق إلى الله.
الورع: الذي لم يقرب حراما ولا شبهة من أول حياته إلى آخرها.. بل نال فوق ذلك
النبي الإنسان (10)
أكمل مراتب الورع، حيث حصر همته في الله، فما زاغ بصره، وما طغى.
الزاهد: الذي تبرجت له الدنيا بكل محاسنها، فلم يلتفت لها، بل خير بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فاختار العبودية على الملك.
العالم: الذي اجتمع له من العلوم والمعارف في جميع ميادين الحياة وتخصصاتها ما لم يجتمع لأحد قبله ولا بعده، ولا زالت آثار علومه منبعا عذبا للحقيقة تستقي منه كل الأزمنة.
الإمام: الذي استطاع إخراج البشر من الجهالة إلى العلم، ومن الجور إلى العدل، ومن البهيمية إلى الإنسانية، ولا يزال المنهج الذي جاء به سليما غضا طريا يمكنه أن يؤدي هذه الوظيفة في أي وقت، ولمن شاء.
القائد: الذي وضع منظومة سياسية وإدارية وقضائية وأمنية شاملة لكل الحالات، ممتلئة بالعدالة والقيم الصالحة لكل زمان ومكان.
الطبيب: الذي علمنا كيف نحفظ صحتنا في جميع مناحيها.. وعلمنا كيف نعالج أنفسنا بعيدا عن الدجل والخرافة التي كانت منتشرة، ووصف لنا فوق ذلك وصفات صحية غاية في النفع.
البشر: الذي اكتملت فيه نواحي البشرية جمالا وكمالا.. وأعطى في سلوكاته البشرية أحسن الأمثلة عن الإنسان في قمة كماله وجماله وأدبه.
الرسول: الذي اختاره الله من بين خلقه جميعا، ليؤدي تلك الوظيفة العظيمة، وظيفة الوساطة بين الله وخلقه.. ولذلك هيأ له من الأجواء، ووفر له من البراهين ما لا يمكن لأحد أن يقف في وجهه.
هذه هي الفصول العشرة التي تحتوي عليها هذه الرواية.. والتي أدى دور البطولة فيها ورثة صادقون مخلصون لربهم ولنبيهم.. وممتلئون فوق ذلك عشقا ومحبة أورثتهم تلك الوراثة العظيمة.
النبي الإنسان (11)
وهدفنا من هذه الرواية ليس فقط الاستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وإن كان ذلك هدف لهذه السلسلة جميعا.. ولكن هدفنا الأكبر هو تبيان الوراثة الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والاستنان الحقيقي بسنته.. والذي ينطلق من الحب والمعرفة.. قبل أن ينطلق من الجفاء والأهواء.
ولهذا تحاول هذه الرواية أن توضح المفهوم الحقيقي للاستنان بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تشمل جميع نواحيه.. لا مجرد النواحي البشرية فيه.
وهي – كسائر السلسلة – تنتقد التشويه الخطير للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. والذي يقوم به الدجالون الذين ادعوا وراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحتكاره واحتكار سنته.
النبي الإنسان (12)
في ذلك الصباح المبارك الذي سمعت فيه الحكاية التي سأقصها عليكم، خطر لي خاطر ملأني نشوة وسعادة وسرورا..
لقد تذكرت أن هذه الأرض التي أسير عليها هي نفس الأرض التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأن هذه السماء التي أستظل بظلها، وألتحف غطاءها هي نفس السماء التي كانت تظلل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تغطيه بلحافها.. وأن هذه الشمس التي تغمرني أشعتها هي نفس الشمس التي غمرت بأشعتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقلت لنفسي: أبشري يا نفس، فلربما تنعمت رئتاك بنفس الهواء الذي استنشقه رسول الله.. وربما تنعم جوفك بنفس الماء الذي شربه.. ولربما ذقت نفس الطعام الذي ذاقه، أو وطئت قدماك نفس المواطئ التي وطئتها قدماه الشريفتان.
لكن نفسي عادت لتتألم من جديد، وتقول لي، وهي تعتتصر ألما: كف عن هذه الهمة الدنية.. فالمحب لا يرضيه من الحبيب إلا كل الحبيب.. والحبيب الذي رضي من الحبيب بما ترضى لا يستحق أن يكون حبيه رسول الله.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحبه إلا أصحاب الهمم العالية.
قلت لها: ومن أصحاب الهمم العالية؟
قالت: أولئك الذي لم يرتضوا لننفوسهم وأرواحهم وأسرارهم اسما إلا اسم محمد.
قلت لها: فالأمر هين إذن.. سأغير اسمي ليصير كاسم الحبيب.
قالت: ليس الشأن أن تغير اسمك، ولكن الشأن أن تغير مسماك.
قلت لها: مسماي يستحيل أن يصير محمدا.. فمحمد ليس إلا واحد في هذا الوجود.
قالت: ما دمت كذلك.. فهمتك الدنية أبعد من أن تجعلك أهلا لحب الحبيب..
تألمت لهذا الجواب القاسي الذي أجابتني به نفسي.. وأيقنت مدى الانحطاط الذي كنت
النبي الإنسان (13)
أعيشه حين كنت أرضى ما يرضى به كل أهل الأرض.. فكل أهل الأرض ضمتهم الأرض، وغطتهم السماء، ولفحتهم بأشعتها الشمس.
لكني رددت على نفسي.. وبقوة..: ومن له القدرة على أن يزاحم تلك الأنوار التي اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار شمسا لا تدانيها أي شمس.. إن من يفعل ذلك يوشك أن يحترق.
قالت لي نفسي، وبنفس القوة التي صرخت بها فيها: عالم الأنوار لا مزاحمة فيه.. ولا احتراق.. ومن ظن أن هناك مزاحمة أو أن هناك احتراقا، فهو لم يخرج من نفسه الأمارة بالسوء.
قلت: فكيف أخرج من نفسي الأمارة بالسوء لأصير محمدا؟
قالت: ذلك هو لباب العلوم وأصلها وسر أسرارها، ومن ظفر به ظفر بالإكسير الأحمر الذي ينفخ في طين الإنسان روح الإنسان.
قلت: في أي جامعة أتعلم هذه العلوم؟
قالت: هذه العلوم لا تعلم في الجامعات.. ولا في أي محل من محال الدنيا.
قلت: فكيف أصل إليها؟
قالت: بالبحث عن أهلها.
قلت: ومن أهلها؟
قالت: الورثة..
قلت: ومن الورثة؟
قالت: هم الذين لم يستظلوا في الدنيا بغير أشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. أولئك هم الذين نفخ فيهم روح الإنسان.. خليفة الله في أرضه.
قلت: وكيف أصل إليهم؟
قالت: عندما تمتلئ شوقا إليهم ستصل إليهم.. وربما تجدهم أقرب إليك من نفسك.
النبي الإنسان (14)
-\--\-
ما استتم هذا الخاطر على خاطري حتى سمعت صوت الغريب يناديني، فأسرعت أحث خطاي إليه، فقال: لقد كنت أحسبك مشتاقا للحديث عن (النبي الإنسان)، فكيف تأخرت علي؟
قلت: لقد حبستني نفسي.. وكدرت علي صفوا كنت أجده، ونغصت نعيما كنت أتنعم به.
قال: كل صفو حبسك، فالكدورة خير منه.. وكل نعيم قيدك، فالآلام خير منه.
قلت: لم أفهم ما الذي ترمز إليه..
قال: لقد قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذريات: 50)، والفرار يمتنع معه القرار.
قلت: إن نفسي تطالبني أن أصير محمدا.. لكأني بها لا تعلم من هو محمد.
قال: لا يمكن للمحب أن يكتمل حبه حتى يتحول إلى حبيبه الذي أحبه.
قلت: لكأني بك تردد قولها.
قال: لقد صدقتك نفسك.. وهي لم تقل إلا الحقيقة.
قلت: أهذا خاص بمحمد، أم عام لكل محبوب؟
قال: بل هو عام لكل محبوب.. فلا يمكن أن تبقى في المحب بقية لغير محبوبه (1).
قلت: فإن بقيت؟
قال: كان ذلك علامة عدم اكتمال الإخلاص في المحبة.. المحبة تقتضي الذوبان في المحبوب، والفناء عن الذات استغراقا في ذات المحبوب.. ألم تسمع حديث الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يارسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، والذي
__________
(1) تحدث علماء المسلمين على ما يسمى بتوحيد الحب، والمحبوب.. فذكروا أن من شروط صدق الحب أن يتوحد الحب والمحبوب، فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها لمحبوبه.
وقد استوحينا هذا المعنى في هذا الحوار الذي أردنا من خلاله تبيان الأصول التي يقوم عليها الاستنان بسنة رسول الله (.. فالسنة ليست مجرد حركات مقلدين، وإنما هي حركات محبين فانين في حبهم عن أنفسهم.
النبي الإنسان (15)
نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك) (1)
قلت: بلى.. ولكن لم كان الأمر كذلك؟
قال: لاشك أنك تعلم أن الإنسان عبارة عن مجموعة أركان.. هو مثل أي بنيان.. فهو مكون من جسد ونفس وعقل وروح وسر.. ولطائف كثيرة يكتشفها كلما ترقى في سلوكه وترفعه وسموه.. وقد لا يفطن لها، ولكنها مع ذلك موجودة فيه.
قلت: أعلم هذا.. وقد تحدث علماء النفس المسلمين عن البراهين الدالة على وجود هذه اللطائف والقوى واللبنات التي يتكون منها الإنسان.
قال: لقد جعل الله لهذه اللطائف مراتب مختلفة في التحقق والتخلق..
قلت: أعلم هذا.. وقد ذكر القرآن للنفس مراتب.. فمنها النفس الأمارة التي ذكرها الله في قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف:53).. ومنها النفس اللوامة التي ذكرها الله في قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة:2).. ومنها النفس المطمئنة التي ذكرها الله في قوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر:27)
قال: وكذلك هناك العقل الأمار المخادع.. وهناك العقل اللوام المجادل.. وهناك العقل المطمئن الموقن..
وهكذا الجسد.. وهكذا الروح.. وهكذا كل لطائف الإنسان.
قلت: وعيت هذا.. فما علاقته بما نحن فيه؟
قال: اصبر علي.. فليس من السهولة أن تفهم هذه الحقائق العالية.
سكت قليلا، ثم قال: ألا تعرف معنى قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (التكوير:7)؟
__________
(1) رواه أحمد والبخاري.
النبي الإنسان (16)
قلت: هذه الآية مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (الروم:14)، وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (الروم:43)
فهذه الآيات جميعا تشير إلى أنه في القيامة يحصل تصدع عظيم بحيث يتميز كل صنف في محال خاصة به لا ينازعه فيها سائر الأصناف.
ولهذا يقال في ذلك اليوم للمجرمين الذين يطمعون أن يجالسوا المؤمنين: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يّس:59)، ويقال لهم: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} (يونس: 28)
وعندما يطمع المنافقون أن يقتبسوا من أنوار المؤمنين يقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد:13)
وإلى هذا التميز الإشارة بقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: 22)، وبقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} (الفرقان:13)
فقد ورد في تفسير هذه الآيات أن المراد منه الجمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله) (1)
قال: بورك فيك.. فقد فهمت المراد من الآية إذن.
قلت: أجل.. ولكني أريد أن أطبقه على ما نحن فيه.
قال: أرأيت لو أن مادة من المواد تتركب من معادن مختلفة.. ففيها الذهب.. وفيها الفضة.. وفيها الحديد.. وفيها أنواع الشوائب المختلفة.. ثم قمنا بتحليل هذه المادة إلى عناصرها المختلفة.. وعرضناها على مغناطيس يجذب الحديد فقط.. فهل ستنجذب سائر العناصر؟
قلت: لا.. ستبقى في محالها.. فيستحيل أن ينجذب النظير لغير نظيره.
__________
(1) انظر هذه النصوص في: الدر المنثور:8/ 429.
النبي الإنسان (17)
قال: فهكذا عالم اللطائف التي يتكون منها الإنسان..
قلت: فهمت كل ما ذكرت.. ولكني لم أفهم سر علاقة ذلك بالحب.. ثم علاقة ذلك بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: الحب قد يكون من النفس.. وقد يكون من العقل.. وقد يكون من الروح.. وقد يكون حبا لا يتجاوز الجسد.. وقد يكون حبا طاغيا بحيث يشمل هذه اللطائف جميعا.
قلت: فالحب الحقيقي هو الحب الذي يشمل اللطائف جميعا!؟
قال: أجل.. وهو لا يمكن أن يكون إلا بعد حصول المزاوجة التامة التي ذكرها القرآن.
قلت: ولكن القرآن ذكر ذلك في الآخرة!؟
قال: عالم الآخرة هو باطن عالم الدنيا.. وعالم الآخرة هو نتيجة حتمية لعالم الدنيا.. فلا يحصل في الآخرة إلا ما حصل نظيره في الدنيا.. أليست الآخرة حصاد ما زرع في الدنيا!؟
قلت: تقصد أن الزوجية التي ذكر القرآن حصولها في الآخرة كانت قد حصلت قبل ذلك في الدنيا.
قال: أجل.. فمن اقترنت نفسه بأي نفس حشرت معها.. ومن اقترن عقله بأي عقل حشر معه.. ومن اقترنت روحه بأي روح حشرت معها.. وهكذا.
قلت: فالإنسان يتشتت بذلك إذن؟
قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} (الحجر:44)؟
قلت: بلى..
قال: فلذلك من أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أو تأسى به في جانب من الجوانب.. اقترن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الجانب.. وابتعد عنه في سائر الجوانب.. بل حجب عنه في سائر الجوانب..
بل قد يجتمع في الشخص الواحد عدوان لدودان.. فتكون بعض لطائفه لرسول الله،
النبي الإنسان (18)
وبعضها لأبي جهل.
صحت فرحا: وجدتها.. وجدتها..
قال: ما وجدت؟
قلت: أرى كثيرا من الناس يقتنعون ببعض مظاهر السنة.. ويزعمون أن ذلك هو السنة.. فيختلف الناس بسبب ذلك في شأنهم.. أما الورعون، فيتوقفون في أمرهم خشية أن يلوموهم في بعض ما ثبتت سنيته عن رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قال: ما قلته صحيح.. ولا ينبغي للورع البارد أن يدخل هذا الباب.. فسنة رسول الله أعظم من أن يمثلها أحد من الناس..
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ونبه عليه، بل حذر منه، فقال: (يأتي في آخر الزمان حدثاء الاسنان سفهاء الاحلام يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يقولون: من قول خير البرية لا يتجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا رأيتموهم، فاقتلوهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) (1)
التفت إلي، وقال: انظر.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هؤلاء يقولون من قول خير البرية.. وذكر أنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم.. ثم أمر بعد ذلك بما أمر به.
قلت: فسبب ذلك أنهم لم يتوحدوا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذن؟
قال: أجل.. لقد اكتفوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظاهره.. بلباسه، ولحيته، وقراءته.. فراحوا يعمرون بها أجسادهم.. أما قلوبهم وعقولهم وأرواحهم وأسرارهم، فقد أسلموها الأبي جهل وإخوان أبي جهل.
قلت: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الأمة إذن بأن تفنى في شخص رسولها، فلا يبقى في شخصها حظ من نفسها؟
__________
(1) واه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (19)
قال: أجل.. لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الأعلى للإنسان.. ولا يمكن لشخص أن يصل إلى الكمال في أي لطيفة من لطائفه إلا بعد أن يتحول قالبه إلى القالب الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: ألا ترى أن ما تقوله خطير أو مناف لعقيدتنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: لا.. هذا هو لب العقيدة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فالله تعالى جعل رسوله أسوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21).. ألا ترى أن الآية جاءت مطلقة.. فلم تحدد موضع الأسوة؟
قلت: أجل..
قال: ولذلك كان من حصر التأسي في حال من الأحوال أو عمل من الأعمال بعيدا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر حصره وبقدر بعده.. ألم تسمع الأصوليون، وهم يرددون كل حين (لا تخصيص بدون مخصص.. ولا تقييد بدون مقيد)
قلت: بلى..
قال: فمن حصر سنة رسول الله التي تمثل شخص رسول الله في بعض الظواهر المبتورة عن الحقائق التي تنطلق منها يكون قد شوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم تشويه.. بل هو كمن صبغ سما بصورة دواء.. فلا يزيد الناس إلا مرضا.
قلت: ولكن كيف يضع الإنسان نفسه في القالب الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أنت تعلم أنه ليس هناك إنسان في الدنيا حفظت كل تفاصيل حياته.. بل حفظت حياة كل تفاصيل لطائفه جميعا مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد حفظ الله في القرآن والسنة والسيرة كل ما يرتبط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: أجل.. أعلم ذلك.
قال: فقد أقام الله الحجة على عباده ووضع لهم الصورة المثالية للإنسان ليعيشوها ويتقولبوا
النبي الإنسان (20)
في قالبها.. ليتحقق فيهم مراد الله من خلق الإنسان.
شعرت بقناعة تغمرني لما قاله، لكني وجدتني أسأله من غير أن أشعر: لقد ذكرت لي نفسي الورثة.. فمن الورثة؟
قال: الوارث هو الذي اصطبغ بصبغة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار دليلا عليه..
قلت: هل يمكن أن يصل الشخص إلى هذه المرتبة؟
قال: أجل.. بل إن مثل هؤلاء لا يمكن أن تخلو منهم الأرض.. فالله تعالى قد جعل بحكمته ورحمته ولطفه بعباده من يمثل في كل زمن من الأزمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتحقق بذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (لأنفال:33)
فقد جعل الله وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمانا للأرض.. وهكذا وجود ورثته.. ولهذا لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض (الله الله) (1)
قلت: أراك تتحدث عن حقائق عالية.. فمن علمك علومها؟
قال: الوارث.
قلت: الوارث!؟.. هل ظفرت به؟
قال: لقد أظفرني الله به.. وهداني إليه.
قلت: فحدثني حديث ذلك..
ثم استدركت أقول: نسيت.. إن حديثنا اليوم عن (النبي الإنسان).. فلذلك دعنا نؤجل الحديث عن الوارث إلى ما بعد الانتهاء من رحلتك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: لقد كان الوارث هو دليلي إلى النبي الإنسان.. كما كان الحكيم دليلي إلى النبي المعصوم.. ولذلك فإن حديثي عن الوارث لا يخرج عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل إن الوارث هو أعرف الناس بكمالات رسول الله.. ولذلك لا يصح أن ننال معارفنا عن رسول الله
__________
(1) نص الحديث: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله) رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
النبي الإنسان (21)
من غيره.
قلت: فحدثني حديث ذلك..
-\--\-
اعتدل الغريب في جلسته، وحمد الله، وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: بعد أن امتلأت قناعة بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يستحيل أن يكون كاذبا أو مدعيا أو خادعا أو مستغلا أو ظالما أو مستكبرا.. أو كل تلك الشبهات التي كانت تملأ أرجاء عقلي وقلبي (1)..
وبعد أن أيقنت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الطهر والصفاء والسمو والرفعة رحت أبحث عنه، وقلت لنفسي: من الخطأ العظيم أن تنشغلي بكل شيء، ولا تنشغلي بالبحث عن الذي لم يتدنس بأي دنس، ولم يكدر بأي كدورة.
ولكني ـ بعد هذا اليقين ـ لم أجد السبيل التي أبحث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وزادني ألما ما عليه المسلمون من تشويه لشخص نبيهم..
وفي ظل تلك الآلام ذهبت إلى الغابة التي كنت أذهب إليها لأمسح من آلامي ما عساه يمكن أن يمسح.. وكنت أرجو أن أجد فيها ذلك الذي لا ينطق لسانه إلا بالحكمة..
على عشب مروجها استلقيت أنظر إلى الشمس.. وأقول لنفسي: لقد كانت كل رحلتي السابقة تطوف بحثا عن الشمس.. وها أنا قد وجدت من برد اليقين ما يدل عليها.. فأنى لي أن أصل إليها لأعرف حقيقتها ودونها كل هول..
بقيت كذلك مستغرقا، إلى أن شعرت بحركة قريبة مني، فوقفت لأنظر من هو، فوجدت صاحبك معلم السلام يقف أمام بركة ماء صافية كصفاء اللآلئ، وهو يتأمل فيها مستغرقا في تأملاته.
اقتربت منه لأنظر ما الذي شغله كل ذلك الشغل، فإذا بي أراه ينظر إلى الشمس على
__________
(1) انظر رسالة (النبي المعصوم)
النبي الإنسان (22)
صفحة الماء الصافية..
لم يرفع رأسه إلي، بل بقي مستغرقا في نظراته، وقال: ألا ترى كيف تحكي هذه المياه الصافية جمال الشمس؟
قلت: بلى.. بل هي تصورها تصويرا بديعا يعجز أي فنان في الدنيا على محاكاتها فيه.
أخذ حصاة صغيرة ورماها في البركة.. فأخذت الشمس التي كانت تزينها تتراقص مع الأمواج المتراقصة.
رفع رأسه إلي، وقال: ألا ترى أن الشمس التي في البركة الآن تختلف عن الشمس التي في السماء؟
قلت: بلى.. وأنت سبب ذلك.. فلو تركت للبركة صفاءها لحكت الشمس، وصح لها أن تعبر عنها، وتقرب حقيقتها.
قال: فإن أردت أن تعرف الشمس.. فابحث عن بركة صافية لم تتدنس.. فلا يمكن للمستنقعات أن ترتسم على صفحاتها الآسنة أشعة الشمس الجميلة.
قلت: أراك تنتقل من شمس السماء إلى شمس أخرى.. ما الذي تقصد؟
قال: لكل سماء شمسها.. ولكل حقيقة أشعتها.. ومن عبر الحس وصل إلى المعنى.
قلت: أنا كثيف.. ليس لي لطافة المعنى.. فحدثني بما أفهمه.
قال: كل شمس لا تطيق الوصول إليها يمكنك أن تعبر إليها من خلال من يدل عليها.
قلت: ولكني قد أقع على مستنقعات أسنة، أو بركة متراقصة، فأنى لي أن أصل إلى الشمس التي لا يمكنني الوصول إليها.
قال: إن ربك الذي خلق هذه البركة في عالم الحس لا يعجز أن يخلق مثلها في عالم المعنى.
قلت: أتقصد أن هناك من يمكن أن يمثل بصفائه وبهائه ونوره أشعة الشمس التي لا تغرب؟
النبي الإنسان (23)
قال: أجل.. فرحمة الرحيم لا تنطق إلا بذلك..
قلت: فكيف أصل إلى ذلك؟
قال: اصدق في بحثك.. فلم يصل إلا الصادقون.. ولن يصل إلا الصادقون.
قال ذلك، ثم راح يسير، كعهدي به.. ولكنه جعلني أفكر تفكيرا واقعيا في البحث عن ورثة رسول الله.. فلا يمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ورثته.
قلت: لقد دعاك ذلك إذن إلى البحث عن ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أجل.. لقد كنت أبحث عن الوارث الكامل الذي تجلت على مرآته شمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاملة لم يؤثر فيها كسوف، ولم يحجبها غمام.
قلت: فهل ظفرت بذلك الوارث؟
قال: قبل أن أظفر به سقطت على ورثة كثيرين.. ولكن شموس أكثرهم كانت محجوبة بغمام كثير جعل شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبدو في مرائيهم باهتة تكاد تحتضر.
قلت: فهل تحدثني عنهم؟
قال: هم كثيرون.. ولن تفيدك معرفتهم شيئا.. بل إنهم كانوا حجابا كثيفا وقف بيني وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم دهرا من الزمان..
قلت: فحدثني عنهم لأتقيهم، ولئلا يقفوا حجابا بيني وبين شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو حتى لا تتشوه شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما أنظر إليها من خلال مرائيهم.
ابتسم، وقال: لقد كان أولهم رجلا كان مشغوفا بمظهره.. آتاه الله بسطة في الجسم، ولكن المسكين لم يؤت مثلها في العقل.. لقد رأيته فهبته، وقلت لنفسي: لا شك أن هذا وارث لمحمد.. وسأعرف محمدا من خلاله.. وقد نشطني لصحبته أني سمعت أصحابه يذكرون أنه (السنة تمشي)..
قلت: فماذا وجدت؟
النبي الإنسان (24)
قال: وجدته لا يعرف رسول الله إلا لحية وقميصا وكحلا وخاتما.. وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء ليعلمنا كيف نلتحي، وماذا نلبس، وأين نضع الخواتم في أصابعنا.
قلت: وحقيقته التي تمثل سره.. كيف وجدتها؟
قال: لقد وجدتها مزبلة للأحقاد.. فهو حقود غليظ القلب، لا تكاد الابتسامة تخرج من فمه لأحد من الناس.
قلت: فما الذي حال بينه وبين الابتسامة، وقد كانت الابتسامة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: لقد كانت الابتسامة عنده محصورة فيمن كان له لحية كلحيته، وقميص كقميصه، وخاتم كخاتمه.. وقد رأيته مرة يهجر صاحبا له هجرا شديدا، بل يذمه ذما قبيحا، بل يحذر منه القاصي والداني، لأن صاحبه المسكين تجرأ، فقصر لحيته، وأطال قميصه.
قلت: هذا أولهم.. وأعرف أمثال هذا.. فهل هناك غيره؟
قال: كثيرون هم.. منهم رجل اتخذ سيفا.. وكان لا يحفظ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا غزواته.. ولا يحفظ من حديثه إلا أحاديث الجهاد.. ولا يتصور شيئا في الدنيا يمكن أن يتحقق من غير قعقعة السيوف..
قلت: فهو يحمل أحقادا مثل الذي سبقه.
قال: هو لا يسميها أحقادا.. هو يسميها (ولاء لله)، و(براءة من أعداء الله)
قلت: فكيف تعرفت على هذا؟
قال: كان لي صديق رسام من الدانمارك.. كان يعرفه.. وكان يتصور أنه النموذج الأكمل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد ذهبت معه إلى هذا الرجل لنبحث جميعا عن حقيقة محمد..
أما أنا، فقد كان لي من العقل ما جعلني أنفر منه، وأعلم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يختصر في جلبابه وسيفه.
وأما صاحبي الرسام الدانماركي، فلم يكن له من القدرة العقلية، ولا من طاقة البحث ما
النبي الإنسان (25)
يجعله يتأني، فراح يستوحي من أحاديثه ومن مغازيه ما يشوه به جمال شمس محمد.
صحت: عرفت القصة إذن.. فالرسام الدانمركي المسكين لم يكن منبع رسوماته حقدا يكنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنما منبعه تشويه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: نعم.. هو كذلك.. ولكني مع ذلك لمته كثيرا.. فالحقيقة لا يمكن أن نعرفها من خلال كوة واحدة.
قلت: فبم أجابك؟
قال: لم يكن للمسكين قدرة كبيرة على البحث في مثل هذا.. وقد زاد في حجابه سلوك المسلمين تجاهه وهدرهم لدمه.. فصار حقده مضاعفا.. بل صارت الهستريا تصيبه كلما سمع اسم محمد، أو سمع اسم الدين الذي جاء به محمد.
قلت: فهل رأيت غير هذا الوارث؟
قال: أجل.. رأيت رجلا هو نقيض الرجل الأول.. لم يكن ملتحيا، وكان يرتدي فوق ذلك بذلة عصرية.. ويمتطي سيارة فارهة.. وله مكتب مكيف.
قلت: فكيف عرفت أنه وارث.. وليس فيه من المظاهر ما يربطه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: لقد كان زعيما سياسيا، وكان يدعو إلى تأسيس الحكومة التي يقودها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقلت لنفسي: لن يدعو أحد إلى حكومة محمد إلا إذا كان محمديا.
قلت: فكيف وجدته؟
قال: لقد كان ركون المسكين للدنيا، واستغراقه فيها حجابا عظيما حال بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فراح يعمل عقله، وأهواءه، ويصور بها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ودين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فكيف انصرفت عنه؟
قال: لقد قدر له أن يفوز في بعض الانتخابات، ولم يكن للمسكين من الترفع ما يجعله يزهد في تلك المكاسب المغرية التي كانت تلوح له.. ولم يكن له من المعرفة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يجعله
النبي الإنسان (26)
يحتذي حذوه.. فلذلك راح بكل ما أوتي من نهم وجشع وحرص يملأ نفسه وأهواءه بجميع أنواع الملذات..
وقد نسي المسكين في غمرة تلك اللذات التي فتحت عليه القرآن الذي كان يحفظه، فلم يبق له منه غير قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77)، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (لأعراف: 32)
ولم يبق له من السنة التي كان يحفظ أحاديثها عن ظهر قلب إلا حديث واحد كان يردده في كل المجالس: (إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) (1)
قلت: فقد زهدت فيه إذن لأجل ذلك؟
قال: لم أزهد فيه أنا وحدي.. بل زهد فيه الكل.. وأول من زهد فيه المستضعفون الذين كانوا ينظرون إليه كما كان المستضعفون ينظرون إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لكن المسكين خيب آمالهم، فشغلته نفسه عن الكل.
قلت: فهل بحثت عن وارث آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أجل.. لقد رأيت رجلا سمعت أنه قطب الأقطاب، وغوث الأغواث، ووتد الأوتاد، فهرعت إليه، وقلت: لن يفهم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ولن يمثله إلا رجل كهذا.. فهو يتحدث في الأعماق، ولا يكتفي بالظواهر.
قلت: فكيف وجدته؟
قال: لقد كان حجابا عظيما حال بيني وبين شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: كيف ذلك.. وقد زعمت أنه قطب الأقطاب، ولن يصير المرء قطبا حتى يكون وارثا؟
قال: لقد ورث المسكين القطبية عن أبيه، وأبوه ورثها عن جده، وقد تركته يعلم ولده
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم.
النبي الإنسان (27)
أسرار القطبية.
قلت: وما أسرارها؟
قال: جاه عريض، وأموال يكسبها من حلها وحرامها.. وناس يتمسحون بقدمه وحذائه وفتات خبزه.
قلت: ذلك ما ناله، فما الذي أعطاه حتى يظفر بكل هذا؟
قال: لقد صحبته مدة أبحث عن صورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذهنه، فوجدتها صورة مشوهة قد خنقتها الأساطير والخرافات.. بل الكون كله مشوه في ذهنه.. ولا يمكن لمن تشوشت بركته هذا التشويش أن يمثل حقيقة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: لقد مررت بكل هؤلاء في طريقك للبحث عن الوارث؟
قال: أجل.. ومررت بكثير غيرهم.. وقد رأيت نفرا كثيرا من المسلمين ومن قومي توقفوا عند آحادهم، ولولا أن من الله علي لكنت الآن محجوبا بالحجب التي عرضت لهم.
قلت: فهل ظفرت بالوارث الكامل؟
قال: لقد من الله علي بذلك.. وقد صحبته دهرا من الزمن.. ولا أزال إلى الآن أتزود من ثمار صحبتي له.
قلت: فهل ستحكي لي قصتك معه؟
قال: من قصتي معه ما يمكن أن يحكى، وما يمكن للسان أن يعبر عنه.. ومنها ما لا تستطيع جميع وديان البلاغة أن تعبر عنه.
قلت: فحدثني بما أطقت أن تحدثني عنه، وقرب لي ما لم تستطع التعبير عنه.
قال: بعد أن امتلأت يأسا من أن أجد الوارث الذي تتجلى في مرآته شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاملة غير محجوبة بشيء.. جاءني خطاب من أخي ـ الذي لا زال تترقى به الدرجات في سلم الكنيسة ـ يأمرني فيه بأن أسير إلى أرض من بلاد الله هي أشبه بلاد الله بالبلاد التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
النبي الإنسان (28)
اختلطت فيها الأديان والمذاهب والفلسفات حتى صارت، وكأنها متحف لها.
قلت: فما الوظيفة التي ندبك إليها في هذه البلاد؟
قال: لقد ذكر لي في رسالته أن بتلك البلاد رجل من المسلمين هو أشبه الناس بالمغناطيس الذي تنجذب له القلوب والعقول والأرواح.. مع أنه لم يكن يتكلم كثيرا.
قلت: هل أرسلك إليه لتبشره بالمسيح؟
قال: كم ود أخي أن يحصل ذلك.. ولكنه كان يعلم استحالة ذلك.
قلت: فلماذا أرسلك إذن؟
قال: أرسلني إليه لأدرسه..
قلت: لتدرسه!؟
قال: أجل.. ليعرف مواطن الجذب والتأثير التي كان يملكها.
قلت: وما الذي يفيده معرفتها؟
قال: لقد نسيت أن أذكر لك بأن وظيفة أخي في الكنيسة تشبه وظيفة المستشارين الاستراتيجيين.. وقد كان يحمل مشروعا ضخما لنشر المسيحية في جميع أقطار العالم بأساليب تختلف عن أساليبها التقليدية.. ولذلك كان يرسل من يثق فيه ليدرسوا أسباب التأثير وأساليبه ووسائله ليستفيد من كل ذلك في المشروع الذي هو بصدده.
قلت: فهل أرسلك وحدك في هذا السبيل؟
قال: لا.. أخي لا يثق في الواحد.. ولا في الاثنين..
قلت: فقد أرسل عشرة إذن؟
قال: أجل.. لقد أرسل معي عشرة من رجال العلم والدين.. كل له تخصصه الذي يتقنه غاية الإتقان، ويفنى فيه غاية الفناء.
قلت: وذهبتم إلى هذه البلاد التي هي أشبه بلاد الله ببلاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
النبي الإنسان (29)
قال: أجل.. وقد ذهبنا متنكرين في زي المسلمين.. وقد حفظنا من أساليب حياتهم ما جعلنا لا نتميز عنهم بشيء.
قلت: فحدثني كيف التقيتم به.
سكت الغريب بعد أن طلبت منه هذا.. وقد غمره نور عظيم حتى صار وكأنه قطعة من الشمس، ثم قال، وكأنه يشاهد ما يقول: في الطريق إليه كنت أتصوره رجلا مثل من ذكرت لك.. ولكني عندما رأيته لم يخطر على بالي أحد في الدنيا غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد كان أشبه الناس بالحكيم الذي عرفت قصته في [النبي المعصوم]، ولذلك قلت له: ألست الحكيم الذي قامت الدنيا كلها تبحث عنه؟
قال: أنا محمد.. ولست أرى أحدا يبحث عني.
قلت: بل كلهم يبحث عن محمد.. ليصحب محمدا.. أو ليشوه محمدا؟
قال: ذاك محمد الذي يلقب برسول الله.. أما أنا، فمحمد الذي يلقب بالوارث.
قلت: الوارث!؟.. لقد ظللت زمنا طويلا أبحث عن الوارث.. لكني كنت كمن يبحث في محيط عن إبرة.
قال: ما أصعب أن يرث المرء إنسانا كاملا.. ولذلك لا تلمهم.. بل لا تلم أحدا من الناس.. فربك قسم بين خلقه مواريث أخلاقهم.. كما قسم بينهم مواريث أموالهم (1).
قلت: فأنت تقول بالجبر إذن؟
قال: الرحيم لا يجبر أحدا على أن يعصيه.. والحكيم لا يجبر أحدا، ثم يؤاخذه.
__________
(1) أشير بذلك إلى قوله (: (إن الله تعالى عزوجل قسم بينكم أخلاقكم كما قسم ينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين، إلا من أحب، ومن أعطاه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده! لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود.
النبي الإنسان (30)
قلت: فكيف اعتبرت الإرث قسمة كقسمة المال؟
قال: المال يقسم بأسبابه، والأخلاق تقسم بأسبابها.. وربك بكل شيء محيط، ولكل شيء مدبر..
قلت: أراك تتحدث بالحكمة.. فمن أين تراك اكتسبتها؟
قال: من لم يتعلم الحكمة من رسول الله لم تزده الأيام إلا جهلا..
قلت: فمعلمك هو محمد.
قال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو معلم الكل.. هو كالشمس التي تطل على الكل.. ولكن من الناس من يتعرض لها.. ومنهم من ينحجب عنها.. ومنهم من يتعرض لها، ولكنه يضع الحجب الكثيرة بينه وبينها، فلا تصله أشعتها إلا باهتة فانية ميتة.
قلت: فأنت تعرضت لها تعرضا كليا.. ولم تنحجب عنها بأي حجاب؟
قال: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم فإذا ترك التعلم، وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون (1).. فمن زعم أنه كما وصفت، فهو محجوب بقدر زعمه.. ألا تعلم أنه لا مستقر إلا عند ربك؟
قلت: بلى.. ولكن كيف كان هناك ورثة إذن؟
قال: الوارث لا يعني المورث.. الوارث سائر خلف المورث.. ومن سار خلف المورث، فلن يتخلف عن المورث.
قلت: أيمكن للشخص أن يتخلف عن مورثه؟
قال: أجل.. إن اختار أن يسير خلف غيره.. لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه عندما رآه يحمل الصحيفة أن يوحد وجهته.. وقد أخبر الذين تربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفرغهم، ثم يملؤهم.
__________
(1) روي هذا عن سعيد بن جبير وغيره.
النبي الإنسان (31)
قلت: لم؟
قال: لتصح نسبتهم إلى رسول الله.. فلا يمكن للوارث أن يرث من لم تصح نسبته إليه.
قلت: طوبى لك.. لقد ورثت الإسلام كابرا عن كابر، فلذلك أتيح لك ما لم يتح لغيرك.
قال: الإسلام لا يورث.. وإن شئت أن أحدثك عن نفسي.. فإني لم أسمع بأن أحد آبائي كان مسلما.
تعجبت كثيرا لما قال، وقلت: على أي دين كانوا؟
قال: لقد تقلبت بهم الأديان كما تقلبت بهم البلدان..
قلت: وأنت؟
قال: منذ ريعان شباني كنت أبحث عن الإنسان.. كان مطلبي الأعلى أن أتحقق بالإنسانية التي هي غاية وجودي..
قلت: على أي دين كنت؟
قال: في البدء لم أكن على أي دين من الأديان.. وقد بدأت بأقدم الأديان أبحث فيها عن الإنسان.. فمررت بها جميعا إلى أن ضمني دين الإسلام..
قلت: ألم يستطع بوذا أن يجعلك إنسانا؟
قال: لقد كان بوذا عظيما.. ولكن ما وصلنا عن بوذا لم يكف ليجعلني إنسانا.
قلت: وزرداشت؟
قال: مثله.. لقد كان عظيما.. ولكن ما وصلنا عنه لم يكف ليجعلني إنسانا.
قلت: وكونفوشيوس؟
قال: مثلهما.. لقد كان عظيما.. ولكن ما وصلنا عنه لم يكف ليجعلني إنسانا.
قلت: والمسيح.. ذلك الذي امتلأ بالطهر والكمال؟
قال: لقد كان عظيما.. ولكني لم أجد في الأناجيل ما أتمسك به لأصير إنسانا.
النبي الإنسان (32)
قلت: فلم تجد غايتك إلا عند محمد؟
قال: أجل.. لقد وجدت كل شيء عنده.. كل لطائفي غذيت بلطائفه.. وكل أسراري غذيت بأسراره..
لقد وجدت فيه العارف الذي انفتحت له مفاتيح أسرار الوجود، فهو ينهل منها، ويرتوي من عيونها.
ووجدت فيه العابد الذي ملأ كل أركانه عبادة وتسبيحا وذكرا..
ووجدت فيه الزاهد الذي راوده كل شيء عن نفسه، فلم تزع عينه ولم تطغ.
ووجدت فيه الورع الذي لم تنحرف به أهواؤه ليزاحم بها أوامر الله.
ووجدت فيه العالم الذي فقه أسرار الحياة.. كما فقه قبلها أسرار الوجود.
ووجدت فيه الإمام الذي استطاع أن يؤسس دولة الروح..
ووجدت فيه القائد الذي استطاع أن يؤسس دولة الأجساد..
ووجدت فيه الطبيب الذي يمسح عن نفوسنا آلام الكآبة، وكدورات الاضطراب.
ووجدته مع ذلك كله بشرا كالبشر يأكل ويشرب ويسير في الأسواق..
ووجدته فوق ذلك كله رسولا له من العلاقات مع السماء ما يفوق علاقاته مع الأرض.
قلت: لقد صحبت رجالا من ورثة محمد.. ولكني لم أسمعهم يذكرون ما ذكرت.
قال: الناس مختلفون في ميراثهم بقدر اختلافهم في أنسابهم.
قلت: رأيت بعضهم يركز على العرفان؟
قال: لأنهم لم يروا في رسول الله إلا العارف.. فحجبوا بالعارف عن العابد والزاهد والعالم.. والإمام والقائد.
قلت: ورأيت بعضهم يركزون على السياسة؟
قال: لقد حجب هؤلاء بالرسول القائد عن الرسول الإمام والرسول العارف.
النبي الإنسان (33)
قلت: ورأيت بعضهم يركز على مظاهر معينة يختصر فيها السنة؟
قال: فهؤلاء حجبوا بالرسول البشر عن الرسول الذي اجتمعت فيه كل خصائص الكمال الإنساني.
قلت: فهل تأذن لي في صحبتك لأتعلم منك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أنا أحقر من أن أمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ما أنا إلا بركة صغيرة تريد أن تضم الشمس على صفحتها.
قلت: فأذن لي أن أتفرج من خلال صفحتك على شمس رسول الله.
قال: سر معي كما تشاء.. فلن أمنع شخصا من السير معي.. ولكني لن أرضى منك أن تقلدني في شيء.. فلذلك سلني عن كل ما أفعله، فإن كان من شمس رسول الله فعليك به، وإن كان مني فلا أنصحك به.
لقد ذكر كل ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا..
فالعارفون رددوا جميعا ما قاله أبو سليمان الداراني، حين قال: ربما تقع في نفسي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة.
ورددوا ما قاله أبو يزيد البسطامي حين قال: (لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود)، وحين قال: (من ادعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط)
ورددوا ما ذكره الجنيد حين قال: (مذهبنا هذا مقيد بالأصول الكتاب والسنة)، وحين قال: (علمنا منوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به)
وورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفقهاء والعلماء والحكماء رددوا هذا.. فابن عباسٍ كان يقول: (ليس منا إلا ويؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وقال يعاتب أصحابه: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر)
النبي الإنسان (34)
وأبو حنيفة كان يقول: (إذا قلت قولاً كتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله)، فقيل له: (إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالفه)، قال: (اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال مالك: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)، وقال: (ما منا إلا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال الشافعي: (أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)، وقال: (إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط)
وقال أحمد: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال)، وقال: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا)
وغيرهم كثير.. كلهم ردد هذا وحث عليه (1).
-\--\-
قلت: فقد صحبت هذا الرجل الفاضل إذن مدة من الزمن.
قال: أجل.. لقد كان من أعظم منن الله علي أن أنالني صحبة هذا الوارث.. لقد رأيت فيه من سمات ورثة النبوة ما جعلني كلما أذكره أذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولو لم تقف جميع الشياطين لتحول بين هذا الرجل وأمثاله والوصول إلى الناس لما احتاج الناس من يعرفهم برسول الله.. فيكفيهم ما يرونه منهم ليستدلوا على عظمة النبوة.
قلت: فحدثني عن صحبتك له.
قال: لن أقص عليك من صحبتي له إلا اليوم الأخير الذي أردت أن أودعه فيه..
قلت: فقصه علي.
قال: في ذلك اليوم اجتمعت به ـ مع أصحابي العشرة، ونحن في زي المسلمين ـ وفي بيته،
__________
(1) انظر (جامع بيان العلم وفضله) 2/ 132، و(إعلام الموقعين) 2/ 171.
النبي الإنسان (35)
أقبل إلينا بوجه بشوش، وقال: لعلكم لم تنزعجوا من صحبتكم لي هذه المدة.
قال أحدنا: لا.. بل لم نر منك إلا الإحسان..
قال آخر: لم نكن نتصور أن هناك بشرا يحمل من الإنسانية ما تحمل.
كان أصحابي صادقين في هذه الكلمات، فلم يكن منبعها مجاملة كاذبة، بل كان منبعها حقائق عاشوها بكل كيانهم..
لكن أحد أصحابنا.. وكان مشهورا بالفضول قال: ألا تذكر لنا سرك؟.. نحن صحبناك طول هذه المدة.. ولكنا لم نعرف عنك قليلا ولا كثيرا.. أتخشى من بث سرك لنا؟
قال الوارث: وأي سر ترون أني أكتمه؟
قال الرجل: نراك كالمغناطيس الذي تنجذب له القلوب مع أنه لا مال لك.. ولا جاه.. ولا شهرة.. ولا شيء مما يطلبه الناس من دنياهم..
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إنا نرى المسيحي الممعن في مسيحيته يترك كنيسته ليصحبك.. ونرى اليهودي يترك بيعته.. ونرى أهل الدنيا يتركون جاههم..
وأنت تستقبل الكل.. وتحمل الكل.. ولا يضيق قلبك بأحد من الناس..
فمن أنت.. وما سرك؟
قاطعت صاحبي، وقلت: أصدقك القول، نحن لسنا من المسلمين.. بل نحن من رجال الدين المسيحيين.. وقد قدمنا إلى هنا لما سمعنا عنك.. وتنكرنا في زي المسلمين لنبصر بأعيننا سر جاذبيتك (1).
__________
(1) استوحينا هذا المعنى من الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن أنس قال: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله (فقال: (يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة)، قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال (مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي (تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال: (نعم)، فبات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم إلا لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله (يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملاً كثيراً، فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق.
النبي الإنسان (36)
دهش أصحابي لما قلت، لكن الوارث لم يندهش، بل نظر إلينا والابتسامة لا تزال تغمر وجهه، وقال: لقد كنت أعلم ذلك.. ولكني لم أشأ أن أحرجكم..
قال بعض أصحابي: ولكنك كنت تعاملنا بخلق رفيع وأدب جم لم نجده بين إخواننا.
قال الوارث: الخلق لا ينقسم.. وصاحب الخلق لا يكيل إلا بمكيال واحد لجميع الخلق..
سكت قليلا، ثم قال: أتدرون؟.. لقد مارست دهرا من عمري ما تمارسونه أنتم اليوم.
اندهشت الجماعة من قوله، فقال: أجل.. لقد كان آخر دين استقررت فيه المسيحية.. لكني لم أجد فيها الإنسان الكامل الذي أبحث عنه.. ولذلك سرت إلى بلاد المسلمين أبحث عن الإنسان..
وفي ذلك البحث التقيت عشرة من المسلمين من ورثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. كل واحد منهم أمكث في صحبته زمنا إلى أن يقضي الله في أمري وأمره ما يشاء (1).. إلى أن اكتمل لي صحبة عشرة من المسلمين من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وإن شئتم قصصت عليكم حديثي معهم.. ولعل في ثناياه السر الذي جئتم تطلبونه.
سررنا كثيرا لقوله هذا..
حمد الوارث الله، وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: بعد أن تاهت بي الملل والنحل بحثا عن الإنسان، سرت إلى بلاد المسلمين..
__________
(1) استوحينا هذا المعنى من قصة سلمان الفارسي وتردده بين جماعة من أحبار المسيحية.
النبي الإنسان (37)
كانت أول بلدة حدثتني نفسي بالنزول فيها هي (القدس).. وذلك قبل أن تتدنس بالصراع وبالمصارعين الذين قدموا لها من جميع أطراف العالم، ليقتلوا السلام الذي فاح عطره في جنباتها منذ امتلأت بأهل الله من ورثة الأنبياء.
في تلك البلدة الطيبة، وبجوار المسجد الأقصى، التقيت بأول الورثة.. وهو الوارث الذي تعلمت منه.. بل أيقنت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو أعظم العارفين (1)، وأكملهم.. وأنه اكتمل له من المعرفة ما لا يكتمل إلا للإنسان الكامل الذي أنيطت به أعظم وظيفة في الأرض..
كان اسمه جعفر، ولكن الناس لم يكونوا ينادونه إلا الصادق (2).. وقد كان له من السمت والوقار والهيبة ما امتلأت به جوانح نفسي وعقلي وقلبي.. فلذلك ما إن رأيته حتى قلت: إن لهذا الرجل لشأنا.. ولعل حاجتي عنده.
فاقتربت منه، وأصغيت إليه، وهو يحدث رجلا، يخاطبه كما يخاطب الشيخ مريده، أو كما يخاطب الأستاذ تلميذه، سمعته يقول له (3): (يا مريد.. إذا أنعم الله عليك بنعمة، فأحببت بقاءها ودوامها، فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن الله عز وجل قال في كتابه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (ابراهيم: 7)
وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
__________
(1) أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الناحية في شخصه الكريم، فقال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) رواه البخاري ومسلم.
(2) أشير به إلى الإمام العارف المحقق حفيد رسول الله ((جعفر الصادق)، وقد اخترناه في هذا المحل باعتباره مرجعا كبيرا من مراجع العرفان، وقد روي عنه قوله عن القرآن: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون)، وقال ـ وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه ـ فلما سري عنه قيل له في ذلك فقال: (مازلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته).. ومروياته في هذا الباب كثيرة.
(3) الخطاب في الرواية الأصلية من جعفر الصادق لسفيان الثوري.
النبي الإنسان (38)
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} (نوح)
وإذا حزبك أمر من سلطان أو غيره، فأكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله) فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة)
انصرف الرجل الذي كان يقف بجانبه كالمريد شاكرا..
فتبعته، فإذا برجل آخر يقدم عليه، ويقف بين يديه.. ومما حفظت من حديثهما أن صاحبي جعفرا سأل هذا الرجل (1) قائلا له: يا حاتم.. منذ كم صحبتني؟
قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة.
قال جعفر: فما تعلمت مني في هذه المدة؟
قال حاتم: ثمان مسائل.
تعجبت كثيرا من قوله هذا، وقلت في نفسي: ما أعظم بلادة هذا الرجل.. يمكث متعلما طول هذه المدة، ثم لا يتعلم إلا ثماني مسائل..
كدت أنصرف عنه زهدا فيه.. لكن فضولي دفعني لأن أسمع هذه المسائل الثمانية التي استغرق تعلمها طول هذه المدة (2).
قال جعفر: فما المسألة الأولى؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الثانية؟
__________
(1) الحديث في الأصل مروي عن شقيق البلخي وتلميذه حاتم الأصم وقد اخترنا هذا الحوار هنا لدلالته على المعنى المراد من (العارف)
(2) في الرواية الأصلية: قال شقيق: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟ فقال حاتم: يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا أحب أن أكذب، فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها.
النبي الإنسان (39)
قال حاتم: نظرت في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} (النازعات)، فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الثالثة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96)، فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الرابعة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الخامسة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: 32)، فتركت الحسد، وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما السادسة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر: 6)، فعاديته وحده، واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي، فتركت عداوة الخلق غيره.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما السابعة؟
النبي الإنسان (40)
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة، فيذل فيها نفسه، ويدخل فيما لا يحل له، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود: 6)، فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الثامنة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق.. هذا على ضيعته.. وهذا على صحة بدنه.. وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي.
قال جعفر: وفقك الله يا حاتم.. لقد عرفت فالزم..
أعجبتني أحاديث هذا الرجل.. فسرت خلفه، فرأيت رجلا شابا يقطع طريقه، كان يشبهني تماما.. وكأنه كان نسخة مني.. ومن العجب أنه كان يستعمل نفس أسلوب جدالي وحديثي.. بل كان فوق ذلك يورد ما في نفسي من الشبهات والجدل.. وكأنه أنا قد خرج من جلبابي ليمتطي جلبابه.
قال الشاب: أراك تفرق بين المعرفة والعلم.. وتفرق بين العارف والعالم.. ولكني لا أرى الناس إلا يخلطون بين العارف والعالم، فلا يرون العالم إلا عارفا، ولا العارف إلا عالما.
فأجابه: العلم ما استعمل عقلك، والمعرفة ما استعمل كيانك.
قال الشاب: لم أفهم.
قال جعفر: لاشك أنك تعلم أن النار تحرق..
قال الشاب: لا أشك في ذلك.. ولا أظن أن أحدا من الناس يشك فيه.
قال جعفر: فذلك علم.. وهو مجموعة حقائق تستوطن عقلك بما فيه من أجهزة التذكر والتحليل والتركيب والعبور.
النبي الإنسان (41)
قال الشاب: والمعرفة؟
قال جعفر: عندما تضع يدك على النار، ويصيبك من لهيبها ما يصيبك.. حينها تصير عارفا بأن النار تحرق.
قال الشاب: تقصد أن المعرفة معايشة للمعلوم؟
قال جعفر: هي معايشة تنطلق من يقين..
قال الشاب: فلم كانت المعرفة أكمل من العلم؟
قال جعفر: لأن العلم قد لا يترك أي أثر فيك إلا الأثر الذي يتركه في ذلك الحيز الضيق من عقلك، بينما المعرفة تستعمرك استعمارا، وتحتل كل لطائفك، فلا تتصرف أي تصرف إلا تحت إشارتها.
ألا ترى أن السكير المدمن على سكره قد يكون في عقله من العلوم المرتبطة بمضار الخمر ما ليس عند من عوفي من السكر؟
قال الشاب: ذلك صحيح.. ولكن المسكين حبيس شهوته ونفسه الأمارة بالسوء، فلذلك لم تستطع معارفه المرتبطة بمضار السكر أن تحدث أثرها فيه.
قال جعفر: لأن معلوماته لم تصر معارف.. ولو صارت معارف لتحكمت في كل كيانه.
قال الشاب: فكيف تصير علومه معارف؟
قال جعفر: إذا اندمجت مع كيانه، أو صارت لها السلطة على كيانه.. فحينذاك تتوحد نفسه وعقله وقلبه وروحه وكل لطائفه على مقتضيات معرفته.
قال الشاب: لقد أشار القرآن إلى هذا، فذكر أن الكفار لم يقف بينهم وبين الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلمحجب من الشبهات، بل وقف بينهم وبينها حجب من الشهوات، فقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33)
قال جعفر: وهكذا الكثير ممن تراهم يشنون الغارات على النبوة وما جاءت به النبوة.. إن
النبي الإنسان (42)
أكثرهم لا يصدر في ذلك عن شبهة محترمة قد تناقش.. وإنما يصدرون عن شهوات جامحة لا يمكن السيطرة عليها.. لقد أتيح لي أن ألتقي الكثير من هؤلاء.. ورأيت منهم ما رأيت..
قال ذلك بألم يكاد يعتصره اعتصارا، فأرادت الشاب أن يغير مجرى الحديث، فقال: فالمعرفة إذن يقين، تنطلق منه معايشة!؟
قال جعفر: أجل.. فلا يمكن لليقين الذي ملأ كيانك إلا أن يملأ جوارحك، فلا تتحرك إلا بصحبته، ولا تسير إلا على هديه.
قال الشاب: فحدثني عن الركن الأول من أركان المعرفة.
قال جعفر: لقد قال الشاعر الصالح معبرا عنه:
قلوب العارفين لها عيون... ترى ما لا يرى للناظرين
قال الشاب: لا أرى الناس إلا يشتركون في أبصارهم، ولا أرى الأبصار إلا تشترك فيما تراه، بل إن من الجاحدين من اخترع من الأجهزة ما استطاع به أن يبصر ما لا يراه الموقنون.
قال جعفر: ليس الشأن في أن ترى ببصرك.. ولكن الشأن في أن ترى ببصيرتك {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)
قال الشاب: أيمكن أن تعمى البصيرة؟
قال جعفر: أجل.. حين تضع الحجب بينها وبين الحقائق الجلية، أو حين تصرف وجهها عنها.
قال الشاب: العامة من الناس يدركون ذلك.. ويوقنون به.
قال جعفر: عين البصيرة لها درجات ومراتب كدرجات البصر ومراتبه (1).. وليس
__________
(1) ذكر العلماء لليقين أربع مقامات:
الأول: الشك، وهو أن يعتدل التصديق والتكذيب، كما إذا سئلت عن شخص معين، أن الله تعالى يعاقبه أم لا؟ وهو مجهول الحال عندك، فإن نفسك لا تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفى، بل يستوي عندك إمكان الأمرين.
الثاني: الظن، وهو أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه، ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول، كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب؟ فإن نفسك تميل إلى أنه لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح. ومع هذا فأنت تجوز اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته فهذا التجويز مساو لذلك الميل ولكنه غير دافع رجحانه.
الثالث: أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله، ولكن ليس ذلك من معرفة محققة، إذ لو أحس صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز اتسعت نفسه للتجويز، وهذا يسمى اعتقاداً مقارباً لليقين.
الرابع. المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه.
ويشير إلى هذه المراتب قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} (التكاثر)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات 15)
النبي الإنسان (43)
للعارف منها إلا أكملها.
قال الشاب: فما أكملها؟
قال جعفر: أن ترى ما تعرفه..
قال الشاب: كيف ذلك.. وأكمل المعارف وغايتها معرفة الله.. وقد حيل بينها وبين تحولها إلى رؤية، كما قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)
قال جعفر: وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (1)، وقال: (اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية) (2)
قال الشاب: ألا ترى أن هناك تناقضا بين الآية، وهذين الحديثين؟
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الطبراني بإسناد جيد.
النبي الإنسان (44)
قال جعفر: يستحيل أن يحصل التناقض بين الوحيين.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم)
قال الشاب: فكيف تفسر إمكانية الرؤية التي نص عليها الحديث مع عدم إمكانيتها التي نصت عليها الآية؟
قال جعفر: الرؤية رؤيتان: رؤية مقيدة، تضع المرئي في حيز محدود تضيق عليه بها الخناق، وهي الرؤية التي طلبها بنو إسرائيل حين قالوا لموسى - عليه السلام -: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء: 153) (1).. وطالب هذه الرؤية لا يعرف الله.. لأن الله لا يعرفه إلا من ينزهه.. ولا ينزهه من يطلب مثل هذه الرؤية.. وإلى هذه الرؤية الإشارة بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)
ورؤية مطلقة.. لا محدودة.. وهي رؤية يصاحبها التنزيه والتعظيم.. ولكن الحقائق ـ مع ذلك ـ تنكشف عندها انكشافا أعظم من انكشاف البصر، وإلى هذه الرؤية الإشارة بالأحاديث التي نصت على ذلك.
قال الشاب: أهناك انكشاف أعظم من انكشاف البصر؟
قال جعفر: البصر قد يخطئ.. وقد يشوه المرئي.. وقد يتوهم الخيال حقيقة.. ولكن البصيرة لا يصيبها كل ذلك.. فأنوار الحقائق تحول بينها وبين ذلك.
قال الشاب: فالموقن لا يرى إلا الأنوار إذن؟
قال جعفر: أنوار الحقائق.. لا أنوار الخيال، فالخيال قد يصور لك من الأنوار ما يكون
__________
(1) نص الآية: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)
النبي الإنسان (45)
حجابا بينك وبين الحقائق.. فتنشغل بالحس عن المعنى (1).
قال الشاب: أهكذا كان يقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال جعفر: لا يمكن أن يعبر عن أحوال رسول الله إلا رسول الله.. فلا يعرف النبي إلا نبي (2).. وما نحن إلا ظلال باهتة تحاول أن تقتفي آثار رسول الله.
قال الشاب: فكيف عرفت أن لرسول الله من اليقين ما ذكرت؟
قال جعفر: لكل حقيقة أثرها.. والآثار كلها تدل على أن اليقين الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع لأحد كاجتماعه له.
قال الشاب: فحدثني عن الآثار لأعرف من خلالها الحقائق.
قال جعفر: سأذكر لك موطنين تتزلزل فيهما أقدام الرجال، لا يمكن أن يثبت فيهما إلا من أوتي من اليقين ما تندك له الجبال.
قال الشاب: فما أولهما؟
قال جعفر: الخوف.. فأول امتحان لليقين هو الخوف.. فالخائف الذي زلزل الخوف قلبه ينسى الحقائق التي لا تعمر إلا عقله.
__________
(1) ولذلك، فإن العارفين ينبهون المريدين إلى أن ما يلوح لهم من أنوار الحس لا عبرة به، قال السراج الطوسى (ت:387 هـ): (بلغنى عن جماعة من أهل الشام، أنهم يدعون الرؤية بالقلوب فى دار الدنيا، كالرؤية بالعيان فى دار الآخرة، ولم أر أحدا منهم، ولا بلغنى عن إنسان، أنه رأى منهم رجلا له محصول)، ثم يبين أن العارفين أشاروا برؤية القلوب، إلى التصديق والمشاهدة بالإيمان وحقيقة اليقين، وأنه ينبغى أن يعلم العبد أن كل شئ رأته العيون فى الدنيا من الأنوار، أن ذلك مخلوق، ليس بينه وبين الله تعالى شبه، وليس ذلك صفة من صفات الله، بل جميع ذلك مخلوق (اللمع 545)
(2) قال الغزالي: (يستحيل أن يعرف النبي غير النبي، وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه} (انظر: المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، للغزالي، ص 53)
النبي الإنسان (46)
قال الشاب: فاضرب لي مثالا على ذلك من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال جعفر: لاشك أنك تعلم أن من أخطر المواقف التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موقف هجرته من مكة إلى المدينة.. حيث تعقبه المشركون يريدون قتله، وأرصدوا لذلك الجوائز الجزيلة.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد لم يهتز له عرق، ولم تصبه أي مخافة.. لقد ذكر الله تعالى حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك، فقال: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)
إن هذا الموقف الشديد لا يمكن أن يقفه إلا إنسان عمر الشعور بحضور الله كيانه كله، فلذلك لم يعد في صدره أي خوف من أي شيء.
قال الشاب: صحيح هذا.. ففي المخاوف قد ينسى أحدنا ما تعلمه من علوم، وما عرفه من معارف.
قال جعفر: وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حياته.. ففي الطائف التي ذهب إليها رسول الله غريبا بين قوم قساة لا يعملون عقلا، ولا يعرفون رحمة.. ومكث معهم عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، حتى قالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء.
في ذلك الموقف الشديد لم يلتجئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا إلى الله.. وعند لجوئه إلى الله لم يتعوذ إلا من غضب الله عليه.. لقد راح يقول بخشوع لا يمكن تصوره: (اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهوإني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من
النبي الإنسان (47)
تَكِلُنى؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)
وهكذا حينما أراد بعضهم أن يغتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. في ذلك الموقف الشديد لم تصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي رعدة خوف.. بل أيقن بأن الله الذي وعده أن يعصمه سيعصمه لا محالة.
عن جابر أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، قال: إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله الله الله.. ولم يعاقبه وجلس (1).
وهكذا في غزوة الأحزاب.. تلك الغزوة التي أخبر الله تعالى عن شدتها على المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} (الأحزاب)
في ذلك الحين لم يزلزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل بقي في ثباته كالطود الأشم، بل في ذلك الموقف الشديد كان يبشر أمته بما يفتح الله عليها من فتوح..
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في صحيحه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله (السيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: (تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)، قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.. فخلى سبيله فأتى أصحابه فقال: (جئتكم من عند خير الناس)
النبي الإنسان (48)
وهذا موقفه صلى الله عليه وآله وسلم حين شكا إليه الصحابة ما أصابهم من اضطهاد في مكة المكرمة.. فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه)
ثم قال بعدها مطمئنا له: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) (1)
وهكذا في غزوة حنين حينما انهزم الناس.. في ذلك الحين ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ يصيح في الناس:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبدالمطلب
ثم أخذ يقول: (اللهم نزل نصرك)، قال البراء: ولقد كنا إذا حمى البأس نتقى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الشجاع الذى يحاذي به (2).
قال الشاب: فما الموطن الثاني الذي يتجلى فيه اليقين؟
قال جعفر: الفاقة والحاجة.. ألا ترى الذي أصابته الفاقة والحاجة كيف يحرص على أي شيء لديه ليدخره وقت حاجته؟
قال الشاب: ذلك صحيح..
قال جعفر: ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أصابته جميع أنواع الحاجات.. بل كانت تمر الأهلة
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
النبي الإنسان (49)
متواترة، ولا يوقد في بيته نار (1).. ومع ذلك كان كالريح المرسلة لا يمسك دينارا ولا درهما، ولا طعاما ولا ثوبا.. وكل ذلك يقينا منه بما عند الله.
وقد ورد في الحديث أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شئ أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال له رجل: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الرجل، حتى عرف في وجهه، فقال المستقرض: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بهذا أمرت) (2)
وفي حديث آخر: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (3)
فهذه النصوص تبين أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يلاحظ قلة الرزق التي في يده، أو في يد المؤمنين، ولكنه كان ينظر إلى أن صاحب العرش العظيم الذي لا تساوي كل أموال الدنيا أمامه شيئا لا يعجز أن يسد فاقته إن هو احتاج.
وهو في ذلك يشبه صاحب بنك ضخم ممتلئ بجميع أصناف الأموال، فهو لا يخشى على جيبه إن فرغ ما فيه من مال، لأنه يعلم أن لديه من العوض ما يملأ جيبه وجيوب غيره جميعا.
قال الشاب: وعيت هذا، ولا أحسبني أحتاج إلى أدلة عليه، فكل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشير إليه.
قال جعفر: فاعبر من ظاهر الأدلة إلى بواطنها، ومن صورها إلى خبرها.. فلا ينتفع بمعرفة
__________
(1) انظر: فصل (الزاهد) من هذه الرسالة.
(2) رواه الترمذي والخرائطي.
(3) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.
النبي الإنسان (50)
الحقائق إلا من عبر منها ولها، كما لا يدخل الجنة إلا من جاوز السراط.
سكت الشاب قليلا، ثم قال: أرى من الناس من لا يعتبرون العارف إلا من تحدث عن الفناء في الذات.. ويعتبرون كل ما ذكرته فناء في الأفعال أو فناء في الصفات.. وكل ذلك حظ السالكين، لا حظ العارفين.
ظهر الغضب على وجه جعفر، وقال بقوة: كذب من حدثك عن الذات.. كذب من حدثك عن الذات.. لا يعرف الله إلا الله.. لا يعرف الله إلا الله.. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الزمر: 67)
ليس حظنا من معرفة الله إلا معرفة الأسماء.. ألم يسمعوا الله وهو يقول: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى:1)، ألم يسمعوه، وهو يقول: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى:15)، ألم يسمعوه، وهو يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (لأعراف:180)، ألم يسمعوه، وهو يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طه:8)
قال الشاب: ولكنهم تحدثوا في ذلك.. وأشبعوا كتب المعارف حديثا.
قال جعفر: تلك شطحات الأحوال.. لا حقائق المعارف.. وأولئك سالكون وقف بهم سلوكهم في تلك الأحوال، فانحجبوا بها عن حقيقة الحال.
قال الشاب: إن القائلين بها عارفون لهم حظهم في المعرفة.
قال جعفر: لقد مررت بتلك الأحوال.. وعرفت مصادر ما قالوا.. إنهم خلطوا أحوالهم بمعارف اكتسبوها من أهواء الفلسفات، فلذلك حجبوا بها عن الحقائق الجليات.
قال الشاب: عرفت الركن الأول من أركان العرفان.. وهو تجلي الحقائق في البصائر،
النبي الإنسان (51)
كتجلي المبصرات للأبصار.. فما الصحبة؟
قال جعفر: لا يمكنك أن تصاحب من لا ترى.. ولا يمكنك أن تصاحب من لا تسمعه ولا يسمعك..
قال الشاب: تقصد أن ثمرة اليقين الصحبة؟
قال جعفر: أجل.. فمن عرف الله لم يحد إلا أن يصحبه ويلجأ إليه ويستعيذ به ويدعوه ويناجيه.. ويشعر أنه أقرب إليه من كل شيء.
لقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا.. إن الذى تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلته) (1)
قال الشاب: لقد رأيت بعض من هجم بهم اليقين على حقيقة العلم يصيحون ويزعقون.. بل إن بعضهم قد يتفوه بكلام يستعيذ منه إن هو عاد إلى حاله.. وبعضهم يزعم أن هذا من مظاهر العرفان.. ومن لم يحصل له هذا لا حظ له من اسم العارف.
قال جعفر: ذلك الشطح، وتلك الطامات.. وأحسن ما يقال فيها إن كان أصحابها من الصادقين أنها دليل على نقص حالهم، فهم كبدوي لم ير في حياته إلا الخيام دخل مدينة صغيرة.. فهاله ما فيها.. وصاح معبرا عن ذلك..
أما الكمل.. فهم أرفع من أن يصيحوا بمثل ذلك، وقد روي أن الجنيد قال لمن سأله عن سر سكونه وقلة اضطراب جوارحه عند السماع: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل:88)
وأما الكامل الأعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد ذكر الله حاله بعد أن عاين ما عاين في رحلة المعراج، فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (لنجم:17)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (52)
قال الشاب: إن من ذاق شيئا لابد أن يعبر عن تأثيره فيه.. ومن صاحب أحدا لابد أن يحفظ حديثه معه.. فحدثني عن صحبة رسول الله لله.
قال جعفر: لقد عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) (1)
قال الشاب: لقد خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصحبة السفر؟
قال جعفر: والدنيا كلها سفر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) (2)
قال الشاب: فحدثني عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله.
قال جعفر: إنك لن تطيق ذلك.. ولن يطيق أحد في الدنيا ذلك..
قال الشاب: فاختصر لي ما ييسر علي فهم ذلك.
قال جعفر: سأحدثك من ذلك ما يمكن أن ترثه، وينفعك الله به.. ولكنك لن ترثه حتى تندمج فيه بكل كيانك.. فقد ذم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.. فإياك أن يكون حظك من سنة نبيك لسانك.
قال الشاب: فستحدثني عن ذلك الآن؟
قال جعفر: إن مثل هذه الأحاديث لا يمكن أن تلقى في الأسواق.. ولذلك تعال معي إلى الزاوية.. وهناك سأعلمك علوم ما سألته.
خشيت أن يفلت مني، فأسرعت إليه، وقلت: أنا غريب بهذه الديار.. ولدي من الحرص على المعرفة ما لدى هذا الشاب.. ولدي من الأسئلة ما لديه.. لكأنه كان ينطق بلساني عما يكن ضميري.. فهل تأذن لي في صحبتك وصحبته إلى الزاوية؟
__________
(1) رواه الحاكم وابن جرير وغيرهما.
(2) رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن ماجة.
النبي الإنسان (53)
قال جعفر: أجل.. يسرني ذلك.. أنت وصاحبك تذكراني بشبابي حين كان البحث عن الإنسان الكامل هو غاية غاياتي، ومقصد مقاصدي.
قلت: عجبا ما تقول.. أأنت أيضا قد لاح لك ما لاح لي البحث عنه؟
قال جعفر: إن كل من عرف حقيقة هذا الوجود.. لابد أن يخطر على باله ما خطر على بالك.. إن الأرواح تتآلف على مثل هذا.. لأن الذي يهديها ليس إلا واحد.
قلت: فهل وجدته؟
قال جعفر: أجل.. إنه محمد.. الإنسان الذي اجتمعت فيه حقائق الإنسان التي أردها الله من الإنسان.
قلت: فستعرفني بمحمد إذن؟
قال: لا يعرف محمدا إلا محمد.. ولكني سأعلمك ـ مع صاحبك ـ بعض ما وصلت إليه عن محمد.. وهو صحبة محمد لله، تلك الصحبة المنطلقة من معرفة محمد بالله.
سرت مع جعفر والشاب إلى الزاوية.. لم أكن أتصور أنها بتلك البساطة.. لقد كانت بناء بسيطا، ليس فيه أي تكلف ولا زخرفة، ولا تطاول.. ولكن روائح الإيمان كانت ـ مع ذلك ـ تفوح من جنباتها، لتملأ ما حولها بأنوار دونها كل الأنوار.
دخلنا الزاوية، فرأينا قوما مجتمعين يرددون بصوت واحد.. وبقلب واحد.. وبهمة واحدة ما ورد عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم من أذكار.
سألت جعفرا، فقلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ورثة من ورثة رسول الله.. انشغلوا بالله عما سواه، فملأ قلوبهم بالأنس الذي لا يمكن أن تجده في أي سوق من أسواق الدنيا، ولا ناد من نواديها.
النبي الإنسان (54)
قلت: فمن الذي بعث فيهم هذه الهمة؟
قال: لقد قرأوا قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة:152)، فعلموا أن ذكر الله لهم معلق على ذكرهم له، فلا ينال ما عند الله إلا من وفر في نفسه الاستعداد لتنزله.. فراحوا يوفرون هذا الاستعداد.
وقرأوا قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت: 45)، فعلموا أن الله لا يريد من العبادات صورها ولا طقوسها وجسومها، وإنما يريد منها ما تحمله من نفحات ذكره، كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37)
وقرأوا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب:41)، ً وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (آل عمران: 41)، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} (البقرة: 200) فعلموا أن التنزلات المعلقة على ذكر الله لن تنال إلا من أدمن على الذكر وأكثر منه.
وقرأوا قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35)، فعلموا أن ذكر الله وامتلاء القلب به هو غاية غايات السالكين، فلهذا انتهت به الآية التي تصف مراتب المؤمنين.
وقرأوا قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (لأعراف:205)، فعلموا أن الذكر لن يؤتي ثماره حتى يصاحبه التضرع.. ولن يصاحبه التضرع حتى يمتلئ به القلب والكيان، فلذلك طولب المؤمنون برفع أصوات قلوبهم وخفض أصوات ألسنتهم، فليس الشأن فيما ينطق به لسان الجوارح، وإنما الشأن فيما ينطق به لسان القلب.
النبي الإنسان (55)
وقرأوا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191)، فعلموا أن أكمل الذكر ما صاحبه الفكر، وأن الذاكر الكامل من لا يحجبه حال من الأحوال عن ذكر الله.. فهو يذكر الله على كل حالاته.
وقرأوا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون:9)، فعلموا أن أعظم الغبن، وأفدح الخسارة أن ينشغل الإنسان عن ذكر الله بأي شاغل حتى لو كان ماله وولده.
قال ذلك، ثم اقترب بنا من حلقة من الحلقات، أشار إلينا أن نجلس فيها، وجلس معنا، وقد كان المجتمعون في غاية الخشوع والرقة، وكانت الأنوار تحيط بهم من كل جانب، وكانت روائح غريبة تملأ المكان، وكأنها روائح من السماء لا من الأرض.
قال رجل من الحلقة: لقد نصحنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غاية النصح حين اعتبر حياتنا متوقفة على ذكر الله.. لا على ما نتنفسه من هواء، أو نشربه من ماء.. فالماء والهواء يغذيان الطين، ويمدانها بالحياة، أما ذكر الله، فهو غذاء الروح ومددها، ولا حياة لمن لم تحيا روحه.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) (1)
قال آخر: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراغبين في جوائز الله عن جوائز الذاكرين، فقال: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) (2)
قال آخر: وأخبر المتنافسين على السبق أنه لا يسبق إلا الذاكرون.. كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، ولفظ مسلم: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)
(2) رواه مسلم.
النبي الإنسان (56)
في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون)، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) (1)
قال آخر: وأخبر الفقراء إلى الله من أصحاب الحوائج أنه لا تقضى حاجاتهم بشيء كما تقضى بذكر الله، فقال: (إن لله ملائكة، يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقول عز وجل: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا، قال: فيقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: فيقول الله تعالى: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم) (2)
قال آخر: وأخبر الفقراء إلى الله الذين لا يريدون من الله إلا الله أن الله يذكرهم حالما يذكرونه، وكيفما يذكرونه، فقال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) (3)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (57)
قال آخر: وأرشد من يريد من الأشياء عصارتها، ومن الطرق أخصرها إلى ذكر الله.. لقد جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله) (1)
قال آخر: وأرشد من يريد أن يظفر بالخير بجميع أصنافه، وبالصلاح بجميع أنواعه، وبالحسنات بجميع أشكالها إلى ذكر الله، فقال: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) (2)
قال آخر: وأرشد..
أشار إلينا جعفر أن نقوم، فقمنا، فسألته: من هؤلاء؟.. وما بالهم يجلسون هذه الجلسة، ويتحدثون هذه الأحاديث؟
قال: هؤلاء أحد اثنين: مريد سالك يخاطب نفسه ويرغبها في ذكر الله، ويعدها بما تطلبه النفوس من أغراض.. وواصل يردد كلام حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم ليشرب منه بحسب طاقته، ثم يروي المريدين.
قلت: لو أن هؤلاء انضم إليهم ثالث لحسن الحال؟
قال: ومن الثالث؟
قلت: العامة البسطاء الذين قست قلوبهم.. فلو أنهم سمعوا مثل هذه الأحاديث للان منهم ما كان قاسيا.
قال: كل من يجلس هذه الحلقة يسمى عندنا مريدا.. فلولا أن الله أراده ما جلس هذا المجلس، واختاره على ما سواه من المجالس.
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه..
(2) رواه الترمذي وابن ماجه.
النبي الإنسان (58)
سرنا في الزاوية إلى ركن من أركانها قد جلس فيه قوم كالأولين.. ولكنهم كانوا يقرأون أحاديث.. ثم يرددون بعدها أذكارا يستغرقون فيها.
أشار إلينا جعفر أن نجلس إليهم، فجلسنا، من غير أن يشعروا بنا.. كانوا يرددون بصوت روحاني عذب هذه العبارة (سبحان الله وبحمده)، ويمتزجون فيها ويطربون، ثم فجأة يتوقفون، ويتحدث أحدهم، ويقول: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه أبي ذر: (ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟)، ثم يقول له: (إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده) (1)
قال آخر: إن سبحان الله والحمد لله جمعتا كل ما يحتاجه العارف من معرفة الله.. وجمعتا كل ما يحتاجه السالك للتحقق بمعرفة الله..
فـ (سبحان الله) تنزيه لله عن كل ما لا يليق به.. والمريد السالك هو الذي يبدأ فينزه الله عن كل ما لا يليق به، فلا يمكن أن يتحقق بمعرفة الله من يحمل في وعيه بذور التشبيه والشرك التي تدنس محل الإيمان من قلبه.
و (الحمد لله) إثبات الكمالات لله بشمولها وتمامها.. فلا يمكن أن يعرف الله من لا يعرف كمال الله.
قال آخر: فيا نفوسنا المملوءة بالدنس تطهري بهذه الوصفة التي وصفها أعرف العارفين بالله لتقطعي من جذورك كل ما يحجبك عن الله من سوء المعرفة بالله.
ما إن قال ذلك حتى راحت الجماعة تعاود الكرة.. وتلهج بـ (سبحان الله وبحمده)، وتستغرق فيها.
تركناهم، وانتقلنا إلى جماعة أخرى كانت تردد بصوت روحاني عذب (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، ثم تتوقف هي الأخرى، ويتحدث أحد أفرادها، ويقول:
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (59)
لقد كان أعرف العارفين بالله يقول عن هذا الذكر: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) (1)
وكان يقول: (يصبح على كل سلامى (2) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة) (3)
وروي أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور (4) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) (5)
قال آخر: سبحان الله تنزيه لله.. ولا يعرف الله من لم ينزهه.
قال آخر: والحمد لله ثناء على الله.. ولا يعرف الله من لم يدرك أنه لا يستحق أحد ثناء إلا الله.. فكل خير من الله وبالله.
قال آخر: ولا إله إلا الله توحيد الله.. ولا يعرف الله من لا يعلم أنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا حاكم ولا معبود ولا من اكتمل له الوجود إلا الله.
قال آخر: والله أكبر.. ولا يعرف الله من لم يعتقد أن الله أكبر من أن يدرك، وأكبر من أن يعرف، وأكبر من أن يحاط به.. ولذلك لا تطلب همة العارف العالية إلا الله.. ومن ترك الأكبر ونزل إلى الأصغر انحدر إلى أسفل سافلين.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) السلامى، أي: المفاصل التي تكون بين العظام.
(3) رواه مسلم.
(4) الدثور: جمع دثر، وهو المال الكثير.
(5) رواه مسلم.
النبي الإنسان (60)
قالوا ذلك، ثم انصرفوا إلى ذكرهم يرددونه بروحانية وسمو دونها كل روحانية ودونها كل سمو.
تركناهم، وانصرفنا إلى حلقة أخرى سمعناهم يلهجون بهذا الذكر (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، ثم يتوقفون، ويقول أحدهم: لقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علمني كلاما أقوله؟ قال: قل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: قل: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني) (1)
قال آخر: لقد جمعت هذه الكلمات الطيبات كل المعارف.. فمن عرف وحدانية الله وعظمة الله.. فأثنى على الله ونزهه واستعاذ من حول نفسه وقوته ليعتمد على حول الله وقوته، فقد اكتملت معرفته.
قالوا ذلك، ثم انصرفوا إلى ذكرهم يغيبون فيه..
تركناهم، وانصرفنا إلى جمع آخر كان يردد بألحان عذبة: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر).. انتظرنا حتى توقفوا ليذكر أحدهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان (2)، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (3)
__________
(1) رواه مسلم، وفي حديث آخر قريب منه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، قال: يا رسول الله، هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني)، فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما هذا فقد ملأ يده من الخير) رواه أبو داود.
(2) قيعان: جمع قاع، وهو المكان الواسع.
(3) رواه الترمذي.
النبي الإنسان (61)
قال آخر: انظروا قيمة هذه الكلمات الطيبات اللاتي جمعن المعرفة الكاملة بالله.. إنها وصية أبينا إبراهيم، فاحرصوا عليها، فلم نر إبراهيم إلا ناصحا.
تركناهم وانصرفنا إلى حلقة أخرى كانوا يرددون (لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما على الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كفرت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر) (1)
قال آخر: إن هذه الوصفة المعرفية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصل بين التنزيه والتعظيم والتوكل.. فلا يتوكل على الله إلا من وثق في الله.. ولا يثق في الله إلا من عرف عظمة الله.. ولا يعرف عظمة الله إلا من جمع في معرفته بين التنزيه والتعظيم، ولم ينحجب بإحداهما عن الأخرى.
تركناهم، وانصرفنا إلى جمع آخر كان يردد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، ثم توقفوا ليقول أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك) (2)
قال آخر، وقد فتح كتابا ينظر إليه: لقد اعتبر العارفون هذا الذكر مفتاح التوكل على الله.. وقد عبر أبو حامد الغزالي عن سر ذلك، فقال: (اعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، وعمل هو الثمرة، وحال هو المراد باسم التوكل، فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيمانا في أصل اللسان، إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوى سمى يقينا، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبنى عليه التوكل، وهو التوحيد الذى
__________
(1) رواه أحمد والترمذي.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (62)
يترجمه قولك (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك (له الملك)، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك (وله الحمد)، فمن قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعنى أن يصير معنى هذا القول وصفا لازما لقلبه، غالبا عليه) (1)
تركناهم، وانصرفنا إلى فئة أخرى كانت تردد بصوت جميل عذب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، ثم يحدثهم أحدهم بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) (2)
ثم يحدثهم آخر عما فتح عليه من فهمها..
تركناهم، وانصرفنا إلى فئة أخرى كانت تردد (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يحدثهم أحدهم عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة) (3)، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة) (4)
وهكذا مررنا على الحلقات جميعا نسمع منها الذكر بألوانه وأصنافه.. ونسمع من الفهوم المستوحاة من الذكر ما يمتلئ به القلب والعقل وجميع الوجدان مما لم ألحظ مثله في أوراد أي دين من الأديان، ولا ملة من الملل.
لقد شعرت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم استطاع أن يعبر عن المعارف العظيمة التي تنقطع للوصول إليها أعناق الرجال، وتشح دون التعبير عنها أودية البلاغة في جمل قصيرة يسيرة لذيذة، تحمل من روعة البيان والموسيقى ما ينسجم مع معانيها الرفيعة.
وشعرت في نفس الوقت بالفرق العظيم بين تلك الألغاز والشطحات التي قد يتفوه بها
__________
(1) الإحياء.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه أحمد.
النبي الإنسان (63)
من يدرك معانيها ومن لا يدرك وبين التعابير النبوية الواضحة التي ينهل منها الخواص والعوام كل بحسب طاقته، وبحسب همته.. فالماء واحد.. والشارب متعدد.
ما انتهينا من الطواف على تلك المجالس حتى أذن المؤذن لصلاة العصر.. فلم أجد نفسي إلا واقفا مثل المسلمين أصلي كما يصلون، وأقرأ كما يقرأون.. ولم أدر حينها هل كنت مسلما كالمسلمين.. أم كنت مجرد ممثل يحاول أن يمارس كل طرق الاحتيال للوصول إلى غايته.. ولكن الذي أدريه أني بعد استماعي لكل تلك الأذكار صار لي من الشفافية الروحية ما أدرك به قيمة الصلاة.. وكأن تلك الأذكار الراقية ممهدات تعلمنا كيف نتصل بالله، وكيف نتأدب بين يديه.
بعد صلاة العصر.. رأيت القوم يجبتمعون في حلقة واحدة.. فسألت جعفرا: ما هذا.. كيف تجمعوا، وقد كانوا مفترقين؟
قال: لقد كانوا مفترقين بحسب الذكر العام.. فالذكر العام لا وقت محدد له، ولا صيغة تحكمه، فهو نوع من الدواء يتناسب مع حاجات القلوب المختلفة.. فمن غلب عليه التشبيه أكثر من التسبيح.. ومن غلب عليه الشرك أكثر من التهليل.. ومن أراد أن يملأ قلبه بعظمة الله أكثر من التكبير.. ومن أراد أن يملأه بفضل الله عليه وعلى كل شيء أكثر من الحمد.. ومن أراد أن يحصل كل ذلك جمع كل ذلك.. ومن أراد غير ذلك وجد في الأذكار النبوية ما يشفي غليله، ويسد حاجته.
قلت: لقد رأيت ذلك في تلك التعابير الجميلة التي كانوا ينطقونها..
قال: ويداوون قلوبهم بها.. فلا تداوى القلوب إلا بذكر الله.
قلت: حدثتني عن سر افتراقهم.. فما سر اجتماعهم؟
قال: هم إخوان في الله.. يجتمعون على ذكر الله.. ويفترقون على ذكر الله.. وهم الآن يجتمعون ليؤدوا ذكرا من الأذكار الخاصة التي سن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقاتا معينة، أو أحوالا معينة، لا
النبي الإنسان (64)
تتحقق السنة إلا بأدائها فيها.
قلت: فما الوقت والحال الذي اجتمعوا عليه؟
قال: هو أحد الوقتين اللذين أمر الله بمراعاتهما، فقال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:42)، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الانسان:25)، وقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (قّ:39)، وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم:17)
وهو أحد الوقتين اللذين أخبر الله عن مراعاة الصالحين لهما، فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52)، وقال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} (صّ:18)
قلت: أكل هذه النصوص تتحدث عن هذا الذكر الخاص.. لقد كنت أحسبه مجرد نافلة لم ترق لأن يذكرها القرآن، ويرفع شأنها؟
قال: الغفلة هي التي تفرق بين النوافل والفرائض.. أما العارفون فالفرائض والنوافل عندهم سواء.. فكل محبوب لله عندهم فرض لازم.
قلت: والمكروه والحرام؟
قال: من أحب لله أبغض لله.. ومن فعل لله ترك لله.. ولذلك فالمكروه والحرام عند أهل الله سواء ما دام كلاهما لا يرضيان الله.
بعد أن التف الجمع، واكتملت الحلقة، أخذ الجمع بصوت واحد يردد (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)
قال لي جعفر: إن هؤلاء يستنون في هذا بما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء
النبي الإنسان (65)
وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء) (1)
قلت: ولكن المرء قد يقولها، ومع ذلك يصيبه الضرر؟
قال: من قالها بيقين كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلن يصيبه أي ضرر.
قلت: فلنفرض أن إنسانا عجوزا يحتضر ظل يقولها بيقين أتراه يعمر عمر نوح؟
قال: ولم يعمر عمر نوح؟
قلت: ألم تذكر أنه لا يصيبه ضرر؟
قال: بلى.. لقد قلت ذلك..
قلت: وهل ينسجم الموت مع الضرر؟
قال: قد يكون الموت هو دواء الضرر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدعوا بالموت ولا تتمنوه، فمن كان داعيا لابد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لي) (2)
لقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الموت خيرا.. كما اعتبر الحياة خيرا.. وطلب أن ندعو الله بأن يحيينا في أحد الخيرين: خير الحياة، أو خير الموت.
قلت: سلمت لك بأن الموت قد يكون خيرا.. والدليل على ذلك أن من البشر من يلجأ إلى الانتحار ليهرب من آلام الحياة.. ولكن هناك أضرار أخرى غير هذا.. هناك المرض والفقر.. وأشياء كثيرة.. فهل ترى أن في ذلك الذكر ما يكفي لصد هذه الأضرار جميعا؟
قال: أجل.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: أنا أسألك عن سر ذلك.
قال: الضرر درجات.. والنفع درجات.. فقد يضرك ما تظن أنه ينفعك، وقد ينفعك ما
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه النسائي.
النبي الإنسان (66)
تظن أنه يضرك.. ألا ترى أنه لا نفع لمريض استبد به الداء مثل جراحة يقوم بها جراح ماهر من أجل استئصال جميع آثار الداء؟
قلت: بلى..
قال: فالله تعالى بحكمته ورحمته قد يجري على حياتنا بعض هذه العمليات البسيطة التي تترفع بها أرواحنا، وتتطهر بها قلوبنا، وتصفو بها نفوسنا.. ولا يمكن أن نعتبر هذه العمليات ضررا.. بل هي نفع محض.
بعد أن انتهى الجمع من ترديد تلك العبارة انتقلوا إلى عبارة أخرى يرددونها بصوت عذب جميل (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)
قال لي جعفر: إن هؤلاء يستنون في هذا بما ورد في الحديث من أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، قال: (أما لو قلت حين أمسيت (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) لم تضرك) (1)
قلت: أهذا كذاك؟
قال: هو مثله.. وهو لا يعني ـ عند السالكين ـ الذين لا يطلبون من الله إلا الله إلا تربية قلوبهم على اللجوء إلى الله، فالله الذي خلق الخلق هو الحصن الحصين الذي لا يجد المتحصنون حصنا أوثق منه.
قلت: ومعناه الآخر (2)؟
قال: هم يحترزون بما أمروا أن يحترزوا به.. وهم واثقون من أن أوثق حرز هو ما علمهم إياه أعرف العارفين بالله.
__________
(1) رواه مسلم، وفي رواية للترمذي: (من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعود بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره حمة تلك الليلة)، والحمة: لدغة كل ذي سم كالعقرب ونحوها.
(2) وهو عدم حصول الضرر لمن قالها.
النبي الإنسان (67)
قلت: ألا يمكن أن يؤدي هذا إلى التساهل في التحصن؟
قال: لا.. بل إن العارفين يفهمون من هذا إرشادا إلى التحصن.
قلت: كيف فهموا ذلك؟
قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث يخبرنا أن من خلق الله من يريد الشر بخلق الله.. وفي ذلك تمام التحذير.. لأن من يردد هذه الصيغة صباح مساء سيمتلئ بمعناها، وسيعيش به..
بعدها انتقل الجمع يقرأ يصوت عذب حنون سور الإخلاص والفلق والناس، فسألت جعفرا عن ذلك، فقال: إن هؤلاء يطبقون سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعن عبد الله بن خبيب قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة، نطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي لنا، فأدركته، فقال: قل.. فلم أقل شيئا، ثم قال: قل.. فلم أقل شيئا، ثم قال: قل.. قلت: يا رسول الله! ما أقول؟ قال: قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء) (1)
قلت: فما سر ذلك؟
قال: إن هذه السور الكريمة تحمل الحقائق العالية التي تربط المؤمن بالله، وتملؤه ثقة في حفظ الله.. ولذلك ناسب أن تذكر في المحال المختلفة ليتزود منها المسلم ما يصله بربه، ويتزود منها كذلك ما يقطعه عن كل ثغرة قد يتسرب الشيطان ومن معه من المشعوذين إليه من خلالها.
قلت: أرى أن كل هذه الأذكار تتفق حول درء المخاوف وأسبابها.
قال: أجل.. فلا يمكن للحياة أن تستقر لخائف.. ولا يمكن لخائف أن يستقر في نفسه معرفة.
بعدها انتقل الجمع يردد يصوت عذب حنون (سبحان الله وبحمده) وفي يد قائدهم سبحة من ذوات المائة يعد بها الذكر، فسألت جعفرا عن ذلك، فقال: إن هؤلاء يطبقون ما ورد الأمر به في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي (سبحان الله وبحمده) مائة مرة لم يأت
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي.
النبي الإنسان (68)
أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) (1)
قلت: لقد سمعت هذا الذكر في الأذكار العامة.
قال: لأن هذا الذكر جمع جميع المعارف الإلهية.. فلذلك تراه في كل محل، بل إن الله تعالى أخبرنا أن كل شيء في الكون يلهج به، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الاسراء:44)، وأخبر عن لهج الملائكة ـ عليهم السلام ـ بهذا النوع من الذكر، فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
بل إن القرآن يأمر بمراعاة هذا الذكر في كل المحال، وخاصة في الصباح والمساء، قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طه:130)، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55)، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (قّ:39)، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (الطور:48)، وقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (النصر:3)
قلت: وعيت هذا، فما سر المائة؟
قال: ألا ترى الطبيب يصف للدواء مواقيت ومقادير؟
قلت: بلى.. فما علاقته بهذا؟
قال: إن هذه الأذكار وصفات ربانية من أعرف العارفين بالله تعالج القلوب لتجعل محال صالحة لمحبة الله والأنس به والثقة فيه والتوكل عليه.. وهي لن تتحق بكل ذلك إلا إذا أدمنت
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (69)
على ذكر الله.. ألا ترى أن الله لم يأمر بالإكثار من شيء كما أمر بالإكثار من ذكر الله؟
قلت: ولماذا المائة بالضبط؟
قال: لقد اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المائة حدا أدنى.. فلذلك ذكر أنه (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)
قلت: فلم المائة؟
قال: العشرة تدل على الكمال، وعشر العشرة يدل على كمال الكمال.. وللأعداد عند ربك أسرار لا نطيق فهمها.. فلذلك نسلم لله.. ونسلم لأعرف العارفين بالله.
قلت: لقد كان محمد يعقد بأصابعه، وأرى هؤلاء يستعملون مسبحة.. أهم يخالفون سنة رسول الله؟
قال: سنة رسول الله هي ذكر الله.. والصلاة لله.. أما المسبحة فهي وسيلة تعين على ذكر الله.. وشريعة أعرف العارفين بالله أوسع من أن تضيق بمثل هذه الوسائل.
قلت: ولكن هناك..
قاطعني، وقال: دعنا من الجدل، ومن المجادلين.. فذكر الله أوسع من أن يضيقه أحد من الناس.. لقد قال الله تعالى في صفة الذاكرين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191).. وقد فهم العارفون من هذا أن ذكر الله مطلوب في كل الأوقات، وفي كل الحالات، وبكل الوسائل، وبجميع الصيغ.
انتقل الجمع يقول بصوت واحد ممتلئ بالرحمانية (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء (1) لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، فسألت جعفرا عنه، فقال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الذكر هو سيد الاستغفار، وقال في الجزاء الذي أناطه الله به: (من قالها
__________
(1) أبوء، أي: أقر وأعترف.
النبي الإنسان (70)
من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) (1)
قلت: لم كان هذا سيد الاستغفار، ولم خص بهذه الأوقات؟
قال: العارف يسير إلى الله بجناحين: مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس، وقد جمع هذا الذكر والدعاء بينهما جميعا (2).. ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي) مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
قلت: كيف كان هذان جناحان.. ومقامات السلوك كثيرة؟
قال: لأن مشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسا.. وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالا ولا مقاما، ولا سببا يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها.. بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والافلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه، فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
أخذ الجمع يردد بصوت واحد ممتلئ خشوعا: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك
__________
(1) رواه البخاري.
(2) انظر: الوابل الصيب:15.
النبي الإنسان (71)
من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر)
سألت جعفرا عن هذا، فقال: إن هؤلاء يطبقون سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أمسى هذا الدعاء، ويقوله كذلك إذا أصبح (1).
قلت: فما سره؟
قال: إن أعظم ما يملأ الإنسان طغيانا شعوره بأنه يملك ويحكم ويتصرف في ملك الله كما تملي عليه نفسه وأهواؤه.. وأعظم ما يملأ الإنسان عبودية لله وتواضعا بين يديه شعوره بأن الله هو الملك وهو المالك وهو الحاكم وهو المدبر لكل شيء..
إن هذه المشاعر الرقيقة هي التي تجعله مطمئنا متواضعا ممتلئا أدبا.. وهذا الذكر يذكر المؤمن صباح مساء بهذه المعارف الجليلة.. ليبني منها سلوكا صالحا، ويبني منها بعد ذلك اتصالا بالله مالك كل شيء والمتصرف في كل شيء، ليأخذ منه ما يريد من غير أن يتذلل لغيره، أو يسكن لغيره.
قلت: إن محمدا في هذا الذكر يستعيذ من الكسل.
قال: لأن الإرادة هي مفتاح السلوك إلى الله.. والإرادة مفتاحها المجاهدة.. وليس هناك شيء يقف بين العبد والسلوك إلى ربه كالكسل.. كما أنه ليس هناك من يقف بين الإنسان وجميع مصالحه مثل الكسل.
ولهذا وصف الله المنافقين به، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء:142)
أخذ الجمع يردد بصوت واحد (اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير)، فسألت جعفر عنه، فقال: هذا الذكر وما تضمنه من دعاء سنة من سنن
__________
(1) مع تبديل الصيغة بقوله: (: أصبحنا وأصبح الملك لله) رواه مسلم.
النبي الإنسان (72)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوله إذا أصبح، وإذا أمسى، ويعلمه لأصحابه (1).
قلت: فما سر هذا الذكر؟
قال: ألا ترى المعاني الجليلة التي يتضمنها هذا الذكر.. إنه يقول لذاكره: أنت لست أنت الذي يقوم وحده.. بل أنت عبد القيوم الذي قام كل شيء بقيوميته..
وهو بذلك يمللؤه سعادة وأمنا.. كما يملؤه تواضعا وأدبا.. بل إن كل خلال الخير تتضمنها هذه المشاعر الراقية..
ولو أردت تشبيها يقرب لك صورة هذا.. ولله المثل الأعلى.. فإن مثاله مثال ابن له أب غني قوي ملك، وهو مع ذلك في منتهى الحزم بحيث لا يسمح حتى لولده أن يتجاوز حدوده، فإن هذا الولد بتذكره والده وما عنده من القوة يمتلئ أمنا.. وبتذكره غناه يمتلئ غنى، ويمتلئ بعدها كرما.. وبتذكره حزمه يمتلئ أدبا.. وهكذا تتنزل عليه مواهب الصفات بقدر ما اكتسب من المعارف.
أخذ الجمع يردد بصوت واحد (اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم) (2)
فسألت جعفر عنه، فقال: إن هذا الذكر يرجع بالأمر إلى أصله.. فالكون ليس قائما بذاته.. ولم يولد من فراغ.. بل هو من إبداع خلق مبدع..
قلت: إن هذه حقيقة لا شك فيها.. فما الحاجة إلى ترديدها كل حين؟
قال: لأن الغفلة تحمل بسيفها على الحقائق فتذبحها أو تجعلها مشلولة لا حراك لها..
__________
(1) فعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه يقول: إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير) رواه أبو داود وابن ماجه.
(2) رواه الترمذي وأبو داود.
النبي الإنسان (73)
وبذلك تأتي هذه الأذكار لتعيد لها الحياة.. وتعيد للكون صورته الجميلة التي ولد بها وعاش بها.
قلت: إن هذا الذكر ضم إلى الاستعاذة من الشيطان الاستعاذة من شر النفس.
قال: لأنه لولا مراعي النفوس ما استطاع الشيطان أن يوسوس.. إن الشيطان لا يمكن أن يؤدي وظيفته إلا أذا وجد نفسا راغبة أو راهبة، ووجد معها شجرة كالشجرة التي نهي عنها آدم.
قلت: هل يمكن للنفس أن تجر السوء إلى نفسها؟
قال: لا يمكن لأحد أن يجر سوءا لأحد أعظم من السوء الذي تجره النفس على صاحبها.. لقد قال الله تعالى يذكر هذا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9)، وقال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57)، وقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (البقرة:90)، وقال: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران:69)، وقال: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء:107)، وقال: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:24)
أخذ الجمع يردد (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)
سألت جعفر عنه، فقال: هذا الدعاء سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على قوله صباح مساء (1).
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه.
النبي الإنسان (74)
قلت: فما سره؟
قال: من عرف أن بيد الله كل مقاليد الأشياء لجأ إليه، وطلب منه، ولم يفتقر لغيره.
قلت: أرى العفو والعافية يرددان في هذا الدعاء.
قال: لأنه لا حياة بلا عفو ولا عافية.. إن العفو يضمن لك الأمن من عذاب الله، والعافية تجعلك محفوظا في حفظ الله.
قلت: فهذا دعاء الحفظ إذن؟
قال: من لم يحفظه الحفيظ تربص به كل شيء، وقضى عليه.
أخذ الجمع يردد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)
قلت: لقد سمعت مثل هذا في الأذكار العامة.
قال: لأن هذا الذكر أصل أصول المعرفة.. فلذلك يحتاج المؤمن إلى ترديده كل حين ليقهر به جنود الغفلة.. ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يوصي به، فعنه قال: (من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح) (1)
قلت: أكل هذه الأجور معدة لذاكر هذا؟
قال: ألا تعلم أن الله شكور حليم يجازي بالحسنة الواحدة الحسنات الكثيرة.. لقد قال تعالى يذكر ذلك: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)، وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن:17)، وقال: {إِلَّا مَنْ
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه.
النبي الإنسان (75)
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان:70)، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت:7)، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الاحقاف:16)
أخذ الجمع يردد: (اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشر)، فسألت جعفر عنه، فقال: لقد حدث أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهذه الدعوات إذا أصبح، وإذا أمسى: (اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشر) (1)
قلت: فما سره؟.. وكيف يستعاذ من الخير؟
قال: من رحمة الله تعالى بنا أنه بنى الكون على مقادير متدرجة مترتبة في مراتب متناسقة يؤدي بعضها إلى بعض.. فالله مع قدرته العظيمة خلق السموات والأرض في ستة أيام، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (لأعراف: 54).. ولهذا فإن الكون بهذه المراحل الست حتى وصل إلى ما وصل إليه.. وهكذا في كل الأمور.
قلت: ولكن ما خطر المفاجأة؟
قال: الاندحار أو الانبهار..
قلت: لم أفهم.
قال: إذا ألمت بك المصائب دفعة واحدة من غير مقدمات اندحرت أمامها.. وقد لا تصبر عليها.. وإذا نزلت بك النعم دفعة واحدة انبهرت.. وقد يؤدي بك الانبهار إلى الطغيان.. ألا ترى كيف انبهرت حضارتهم في بدايتها بما فتح عليها من خزائن العلم.. فراحت تؤرخ العلم بدل الله؟
قلت: ذلك صحيح.. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا مبلغ الخطأ الذي وقعوا فيه.
قال: فما سره؟
__________
(1) رواه أبو يعلي.
النبي الإنسان (76)
قلت: تسارع الفتوح.
قال: وذلك عينه ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفجاءة.. فالخير الذي يأتيك فجأة قد يطغيك، كما أن الشر الذي يأتيك فجأة قد يدحرك، ويملأ قلبك بالوساوس.
أخذ الجمع يردد (اللهم إنك أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا يهلك، كل شئ هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون التصور، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما أحرمت، والدين ما أشرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله رؤوف رحيم، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت به السموات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك، أن تقبلني بهذه القراءة، أو في هذه العيشة، وأن تجيرني من النار بقدرتك)
سألت جعفر عنه، فقال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يردد هذا الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى (1).
قلت: أراه دعاء رقيقا يحوي معارف جليلة.
قال: أجل.. إن العارف يحلق عند ترديده لهذا الدعاء في سموات من المعرفة والمحبة لا يمكن التعبير عنها.. وإن المريد بترديده لهذا الدعاء يقطع كل العلائق والعوائق التي تريد أن تحول بينه وبين الاتصال بمولاه.
أخذ الجمع يردد (أمسينا وأمسى الملك لله الواحد القهار، الحمد لله الذي ذهب بالنهار، وجاء بالليل ونحن في عافية، اللهم هذا خلقك قد جاء، فما عملت فيه من سيئة فتجاوز عنها، وما عملت فيه من حسنة فتقبلها، وضعفها أضعافا مضاعفة، اللهم إنك بجميع حاجتي عالم، وإنك على نجحها قادر، اللهم أنجح الليلة كل حاجة لي، ولا تزدني في دنياي، ولا تنقصني في آخرتي)
__________
(1) رواه الطبراني.
النبي الإنسان (77)
سألت جعفر عنه، فقال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا الدعاء إذا أمسى، وإذا أصبح (1).
قلت: فما سره؟
قال: هو الرجوع إلى الله واللجوء إلى الله.. حتى لا ينحجب المؤمن بصباحه أو مسائه عن ربه.. وهو بذللك الدعاء الذي يستغرق الحاجات يملأ المؤمن بالطمأنينة والسكينة والأمل.. فيقبل على الحياة، وهو يعلم أنه في حمى إله رحيم يتكفل بحاجاته ومطالبه، فيحققها له أوفى ما يكون التحقيق.
بعد أن ردد ذلك الجمع الطيب تلك الأذكار الخاشعة، انصرف كل إلى سبيل من السبل.. وكان من بينهم جمع انصرفوا إلى شيخ جلس في ركن من أركان الزاوية، وقد كان ذلك الجمع يحمل حقائب تدل على كونهم على أهبة سفر.
سرت مع جعفر حيث ساروا، فرأيناهم يجتمعون إلى شيخ يعلمهم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في سفره..
قال الشيخ: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في كل أحواله.. وفي السفر الذي تتشعب فيه أودية الإنسان ولطائفه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتمع على ذكر الله ودعائه ومناجاته..
ومما حفظت لنا السنة في هذا المجال ما حدث به أمير المؤمنين وباب مدينة العلم علي عندما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا قال: (اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أسير) (2)
وحدث ابن عباس عن سنته صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فقال: كان إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج في السفر قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك الضبنة في
__________
(1) رواه الطبراني.
(2) رواه البزار، وأحمد - برجال ثقات.
النبي الإنسان (78)
السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعث السفر، كآبة المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض، وهون علينا السفر) (1)
وحدث آخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى سفر قال: (اللهم بلغ بلاغا يبلغ خيرا، ومغفرة منك ورضوانا، بيدك الخير، إنك على كل شئ قدير، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم هون علينا السفر، واطو لنا الأرض، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب) (2)
وحدث آخر قال: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرا قط إلا قال حين ينهض من جلوسه: (اللهم بك انتشرت، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما لا أهتم له، وما أنت أعلم به مني، وزودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيث ما توجهت) (3)
قال رجل من الجمع: فما سر هذه الأذكار؟
قال الشيخ: في هذه الأذكار لباب المعارف وثمراتها.. ولن أستطيع.. ولن يستطيع أحد من الناس أن يحصي ما في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحقائق والمعاني الجليلة.. ولذلك يشرب منها كل واحد ما أطاق، أو ما هو بحاجة إليه.
قال آخر: إني أشعر أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر) لذة عظيمة.. فما أجمل أن يصاحب المسافر ربه.
قال الشيخ: أجل.. ونعم ما قلت.. فإن أكثر ما يؤلم المسافر تغيبه عمن تعود صحبتهم.. فلذلك نصحنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقول هذا لنذهب بكل ألم.. فمن اكتفى بصحبة الله لم يحتج إلى غيره.
__________
(1) رواه مسدد وابن أبي شيبة وأحمد، والطبراني، والبزار.
(2) رواه أبو يعلى برجال ثقات.
(3) رواه أبو يعلى.
النبي الإنسان (79)
قال آخر: وأنا أشعر بالطمأنية التي يحملها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأدعية (والخليفة في الأهل)، فإن المسافر لا يؤلمه شيء كما يؤلمه خوفه على أهله من أن يصيبهم مكروه بعده.
قال آخر: وأنا أشعر بالقيمة التي يحملها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم هون علينا السفر، واطو لنا الأرض، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر)، فإن المسافر لا يؤلمه شيء كما تؤلمه مشقة السفر.. فلذلك لجأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله في تهوينها عليه.
قال آخر: وأنا أشعر أن في ذلك التوجه الرقيق من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه ما يملأ النفس طمأنينة وثقة، فتقدم على ما تقدم عليه في عزيمة كاملة وتوكل تام.
قال الشيخ: وقد حدث الرواة عن الصفة التي كان يركب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المراكب التي كتب له أن يركبها، والأذكار التي كان يقولها حينها.. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله عز وجل، وسبح، وكبر ثلاثا، ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال)، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: (آيبون عابدون، لربنا ساجدون) (1)
قال رجل من الجمع: فما سر ذلك؟
قال الشيخ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا إلى التأدب مع الله، ومع خلق الله.. فالمؤمن عندما يركب الدابة لا يركبها، وهو يتصور أن ركوبها وإذلالها بذلك حق له، وإنما يركبها باسم الله، وبتسخير الله.. وكأنه يقول لها بأدب وتواضع: اعذريني أيتها الدابة فأنا لا أركبك بنفسي.. ولكني أركبك لأن الله أذن لي أن أفعل ذلك.. والله شكور حليم، وسيجزيك عن توطئة ظهرك لي خير الجزاء.
__________
(1) رواه أحمد، والبخاري ومسلم.
النبي الإنسان (80)
قال رجل من الجمع: لقد ذكرت أن أول ما يفعله صلى الله عليه وآله وسلم عند ركوبه هو التسبيح والتكبير..
قال الشيخ: نعم.. فلا خير في عمل لا يصحبه التسبيح والتكبير.. ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بتلك التسبيحات والتكبيرات، بل كان يشغل لسانه في كل سفره بذلك.. وقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجيوشه كانوا (إذا علوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سجدوا فوضعت الصلاة على هذا) (1)
وحدث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا علا نشزا من الأرض يقول: (اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حال) (2)
قال رجل من الجمع: إن المسافر قد يتعرض للمخاوف في سفره.. فهل أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في درء تلك المخاوف، وملأ القلب بالأمن والطمأنينة؟
قال الشيخ: أجل.. وما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدع حاجة من الحاجات إلا وبلغها.. ألم تسمع الله، وهو يذكر حرصه على تعليم أمته كل ما ينفعها، لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)
وفي هذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول مخاطبا الأرض، وما قد تحمله من المخاوف: (يا أرض: ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما دب عليك، أعوذ بالله من شر كل أسد، وأسود، وحيه، وعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن والد وما ولد) (3)
قال رجل من الجمع: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقضي بهذا على خرافات كثيرة كانت تنتشر، ولا زالت.. وقد أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أبو يعلى برجال ثقات.
(3) رواه الخرائطي، ونص الحديث عن ابن عمر قال: كان رسول الله (إذا سافر، فأدركه الليل قال.. وذكره.
النبي الإنسان (81)
مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6) (1)
قال آخر: إن المسافر لا بد أن يحط عصا الترحال.. فهل أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذلك؟
قال: أجل.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الذاكرين.. وكما كان يبدأ سفره بذكر الله كان ينهيه بذكره..
ومما روي في ذلك ما ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى قرية يريد دخولها قال: (اللهم بارك لنا فيها ثلاث مرات، اللهم ارزقنا جناها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالح أهلها إلينا) (2)
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يدخل قرية لم يدخلها حتى يقول: (اللهم رب السموات السبع وما أظللت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت ورب الرياح وما ذرت إني أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها)، ثم يقول لأصحابه: (اقدموا باسم الله) (3)
ومنها: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تزل منزلا في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين (4).
ومنها: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل منزلا لم يرتحل منه حتى يودعه بركعتين (5).
قال رجل من الجمع: يا شيخنا.. نحن الآن نزمع على سفر.. فعلمنا ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم في وداع
__________
(1) وقد روي في تفسيرها عن السدي قوله: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال: فإذا عاذ بهم من دون الله، رَهقَتهم الجن الأذى عند ذلك.
(2) رواه أحمد، وأبو داود، والطبراني بسند جيد.
(3) رواه الطبراني بسند جيد وأبو يعلى والنسائي في الكبرى.
(4) رواه الطبراني.
(5) رواه ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والبيهقي في الكبرى، والحاكم من طريقين، والخرائطي.
النبي الإنسان (82)
المسافر.
قال الشيخ: لقد وردت أحاديث جليلة في ذلك.. وهي تبين تلك الروحانية العميقة التي كانت تحكم مجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو مجتمع يجتمع لله، ويفترق لله.. ولذلك لا يعرف من كلمات الوداع إلا الكلمات التي تصله بالله.
قال الرجل: فحدثنا عن بعض ما ورد من ذلك؟
قال الشيخ: لقد حدث رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودع رجلا، فقال: (زودك الله التقوى، وغفر لك، ويسر لك الخير حيث ما كنت) (1)
وحدث آخر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يودعنا ـ وفي رواية عنه ـ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة لي فأخذ بيدي، وقال: (أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك) (2)
وحدث آخر قال: لما عقد لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومي أخذت بيده فودعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جعل الله التقوى رداءك، وغفر ذنبك، ووجهك للخير حيث ما توجهت) (3)
وروي أن غلاما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أريد هذه الناحية للحج، قال: فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع رأسه إليه، فقال: (يا غلام زودك الله التقوى، ووجهك في الخير، وكفاك الهم) (4)
وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: (عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف)، فما ولى الرجل قال: (اللهم اطوله البعيد، وهون عليه السفر) (5)
وجاء آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد سفرا فزودني قال: (زودك الله
__________
(1) رواه مسدد.
(2) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي، والحاكم، والبيهقي.
(3) رواه الطبراني برجال ثقات.
(4) رواه الطبراني.
(5) رواه أحمد، والترمذي وحسنه والنسائي.
النبي الإنسان (83)
التقوى)، قال: زودني قال: (وغفر ذنبك)، قال: زودني، بأبي أنت وأمي، قال: (ويسر لك الخير حيث ما كنت) (1)
وكان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلم على من عاد من سفر.. ومما روي في ذلك ما ورد في الحديث أن غلاما حج، فلما قدم سلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع رأسه إليه، وقال: (يا غلام قبل الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك) (2)
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن أسرار ما ذكرته من سننه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب.
قال: إن هذه الآداب تبين بعض تطبيقات الروحانية الاجتماعية (3) التي جاء الإسلام لترسيخها.. فالعلاقات بين المسلمين علاقات في الله.. وقد ورد في الحديث عن أبى الدرداء قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال لى يا عويمر اجلس نتذاكر ساعة، فنجلس فنتذاكر، ثم يقول: (هذا مجلس الايمان.. مثل الإيمان مثل قميصك بينا إنك قد نزعته إذ لبسته وبينا إنك قد لبسته إذ نزعته والقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانها) (4)
ولهذا، فإن كل هذه الآثار تدور بين ثلاثة أمور: نصائح يزود بها المسافر، وهي نصائح تربطه بالله، وتدعوه إلى التمسك بحبله.. أو أدعية توجه إلى الله ليحقق لهذا المسافر حاجاته.. أو هي طلبات من المسافر أن يدعو الله للمقيم..
قال آخر: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأدعية..
أشار إلي جعفر أن نسير خارج الزاوية لحاجة له.. فسرت معه.. وتركنا الجمع مع الشيخ يسألونه ويجيبهم.
سألت جعفر عن هؤلاء.. وعن أهل هذه الزاوية، فقال: إن هذه الزاوية بيت من بيوت
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه.
(2) رواه الطبراني.
(3) تحدثنا عن هذا النوع من الروحانية في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
(4) رواه ابن عساكر.
النبي الإنسان (84)
الله، ليس لها من دور إلا تعليم الإيمان.. وتربية القلوب عليه.
قلت: لا أرى في هذه الزاوية محال لتعليم الفقه أو العقيدة أو غيرها من العلوم الإسلامية..
قال: لذلك محاله من المدارس والمعاهد والجامعات.. وهي محال قد يختلف الناس فيها.. ولكن هذا المحل خصوصا لا يختلف أي مؤمن فيه.. فهو محل لربط القلوب وجمعها على الله.. ولا أحد يخالف في ذلك.
إن هذه الزاوية تضم طوائف مختلفة وفرقا متباينة يغذي بعض المغرضين الصراع بينها، ولا محل يصلح لاجتماع قلوبها مثل هذه الزاوية..
إن هذه الزاوية تضم الجعفري والزيدي والإباضي والظاهري والمالكي والشافعي والحنفي والحنبلى والمعتزلي والأشعري والماتريدي.. وتضم إلى جنبهم الطرق الصوفية المختلفة.. والحركات بمختلف توجهاتها.. فالكل لا يجتمع في محل كما يجتمع في هذا المحل..
قلت: فكيف ظهر لكم أن تؤسسوها؟
قال: نحن لم نؤسسها.. نحن جددناها فقط.. أما مؤسسها، فهو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو الرسول الذي دعانا إلى التآخي في الله.. وكلمة التآخي في الله لا تتحقق إلا في ظلال ذكر الله.
أشار إلى ناحية في الزاوية كان يجتمع فيها قوم من الذاكرين غابوا في ذكرهم عن جميع ما حولهم، وقال: أتبصر هؤلاء؟
قلت: أجل.. أراهم قد غابوا في ذكرهم عن كل ما حولهم.
قال: إن هؤلاء الذي تراهم جمعوا جميع فرق الأمة وطوائفها، ومع ذلك لا ينكر بعضهم على بعض، ولا يؤذي بعضهم بعضا..
قلت: فما سر ذلك؟
قال: من عرف مولاه، فشغل لسانه بذكره، وقلبه بحبه، وعقله بالتعرف عليه، ونفسه بالتأدب بين يديه، لن يفكر فيما يفكر فيه البلهاء الغافلون..
النبي الإنسان (85)
قلت: فهل ابتدع هؤلاء هذه الجلسة، أم هم مقتدون فيها بسنة من سنن محمد؟
قال: ما كان لمثلهم أن يبتدع شيئا.. كل ما يفعله أهل هذه الزاوية وراثة ورثوها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم..؟
قلت: فما سندهم في هذا؟
قال: لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أجلس مع قوم يذكرون الله عز وجل من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل) (1)
خرجت مع جعفر من الزاوية.. ولم أشأ أن أسأله عن وجهتنا.. فسار بي حتى وصلنا إلى السوق.. فقال في مدخلها بروحانية عميقة: (باسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة أو صفقة خاسرة)، فسألته عن هذا الدعاء، فقال: لقد كان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا إذا دخل السوق (2).
قلت: فما سره؟
قال: العارف بالله هو الذي يرى أن الفاعل الوحيد في الكون هو الله (3).. فلذلك يسأله أن يفيض عليه من كل خير يحتاجه، ويقيه من كل شر يتربص به.
سرنا داخل السوق، فرأيته يسلم على كل من لقيه.. فسألته عن ذلك، فقال: السلام من أسماء الله.. والعارفون بالله ينشرون هذا الاسم في كل المحال، ويفشونه بين كل الناس، اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وائتمارا بأمره.. ففي الحديث: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع: بعيادة المريض
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن السني.
(2) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم.
(3) انظر أدلة هذا وأسراره، ومدى اتفاقه مع العدل والرحمة في رسالة (أسرار الأقدار)
النبي الإنسان (86)
واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار القسم)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) (2)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار) (3)
سكت قليلا، ثم قال: لقد جمع صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الكلمات جميع خيرات الآخرة والدنيا، فإن الإنصاف يقتضي أن يؤدي إلى الله تعالى جميع حقوقه وما أمره به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدي إلى الناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن ينصف أيضا نفسه، فلا يوقعها في قبيح أصلا.
وأما بذل السلام للعالم، فمعناه لجميع الناس فيتضمن أن لا يتكبر على أحد، وأن لا يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع من السلام عليه بسببه.
وأما الإنفاق من الإقتار فيقتضي كمال الوثوق بالله تعالى والتوكل عليه والشفقة على المسلمين (4).
سرنا في السوق، فكان يكثر من قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)، فقلت: أراك تردد هذا الذكر.. أباعتباره من الأذكار العامة التي تقرأ في كل المحال، أم باعتباره من الأذكار الخاصة التي
__________
(1) رواه مسلم....
(2) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بأسانيد جيدة، وقال الترمذي: حديث صحيح.
(3) رواه البخاري، وروي مرفوعا في غير البخاري.
(4) انظر: الأذكار للنووي.
النبي الإنسان (87)
تقال في هذا المحل خصوصا؟
قال: أقوله للاعتبارين.. أما الاعتبار الأول فقد علمته.. وأما الاعتبار الثاني، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير: كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة) (1)
قلت: لم اختلف أجرها العام عن أجرها الخاص؟
قال: إن السوق محل غفلة عن الله.. وقد يكون محلا لمعاصي كثيرة.. ولذلك كان ذكر الله فيه مذكرا بالله.. وفي التذكير بالله ما يرفع الغفلة، ويملأ النفس بالورع عن المعصية.
سار بي جعفر إلى بيته المتواضع الذي كان في ضاحية من ضواحي القدس، وقد كان بيتا متواضعا بسيطا، ولكن روائح الإيمان كانت تفوح من جنباته كما يفوح العطر من الحقول المزهرة.
فاستأذن على أهل بيته، فأذنوا له، فدخل برجله اليمنى، وقال: (اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا)، ثم قال: (الحمد لله الذي كفاني وآواني والحمد لله الذي أطعمني وسقاني والحمد لله الذي من علي أسألك أن تجيرني من النار) (2)، ثم سلم على من استقبلنا من أولاده.
ثم التفت إلي، وقال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ما رأيته مني.. فقد كان يبدأ بالاستئذان، ثم يدخل برجله اليمنى، ويقول ما سمعت من الدعاء، ثم يسلم على أهله (3)..
__________
(1) رواه الحاكم.
(2) ففي الحديث: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع من النهار إلى بيته يقول: (الحمد لله الذي كفاني وآواني والحمد لله الذي أطعمني وسقاني والحمد لله الذي من علي أسألك أن تجيرني من النار) ذكره النووي في الأذكار، وقال: إسناده ضعيف.
(3) ففي الحديث: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ثم ليسلم على أهله) رواه أبو داود.
النبي الإنسان (88)
وقد ورد في القرآن الكريم الأمر بالسلام على الأهل حال الدخول، قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (النور: 61)، وقد رود في الحديث في فضل السلام على الأهل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن (1) على الله عز وجل: رجل خرج غازيا في سبيل الله عز وجل فهو ضامن على الله عز وجل حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى) (2)
وورد في فضل ذكر الله عند دخول البيت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) (3)
قلت: عرفت هذا.. فما سره؟
قال: إن الذي يصحب الله، ويصحب ذكر الله في كل المحال لا ينبغي أن يحرم بيته من بركات ذكر الله.. فالبيت هو مستقر الإنسان ومحل راحته وسكينته.. ولا سكينة في غير ذكر الله.. ولا راحة في غير مناجاة الله.
عند دخولنا البيت استقبلنا ابن صغير (4) بأدب، ثم قال لجعفر: لقد أكملت اليوم ـ يا جدي
__________
(1) ضامن على الله تعالى: أي صاحب ضمان والضمان: الرعاية للشيء كما يقال: تامر ولابن: أي صاحب تمر ولبن، فمعناه أنه في رعاية الله تعالى.
(2) رواه أبو داود بإسناد حسن.
(3) رواه مسلم.
(4) يرى القارئ لهذه الرسالة أن من أبطال بعض فصول هذه الرحلة صبية صغارا ملمين بكثير من الحقائق.. ونحن نشير بهذا إلى أن هذا الدين دين الفطرة.. وأن الحقائق التي يتحدث عنها هؤلاء الصبية هي حقائق الفطرة.. فخير من مثل الفطرة براءة الطفولة، كما قال رسول الله (: (ما من مولود إلا ولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (89)
ـ حفظ كل ما طلبته مني من أذكار الصلاة، فإن شئت أن تمتحنني فيها كما امتحنتني في غيرها فعلت.
نظر إلي جعفر، وقال: إن أذن ضيفنا فعلت.. فلا ينبغي للمضيف أن يتفرغ لنفسه ولأهله، ويترك ضيفه.
قلت: بل يسرني ذلك.. فأنا ما صحبتك إلا لذلك.
قال جعفر: فقد أذن لنا ضيفنا، فهلم حدثنا عن أنواع أذكار الصلاة.
قال الصبي: للصلاة ثلاثة أنواع من الأذكار لا تكمل إلا بها.. منها ما نص العلماء على فرضيته، ومنها ما اكتفوا بالقول بسنيته.. لكن العارفين لا يفرقون بين الأمرين، فكل ما وصلهم عن نبيهم يعتقدونه فرضا لازما.
قال جعفر: فما هي؟
قال الصبي: أذكار تقال قبل الصلاة تمهد لها، وأذكار تقال أثناءها تتم بها، وأذكار تقال بعدها تكملها.
قال جعفر: فحدثنا عن التي تقال قبلها.
قال الصبي: لقد شرع الله لذلك ما يسمى بالإقامة..
قال جعفر: فما سرها؟
قال الصبي: ألا ترى الداخلين على الملوك كيف ينبهون إلى مراعاة الأدب قبل دخولهم.
قال جعفر: بلى..
قال الصبي: فهكذا الصلاة.. إن الإقامة، وقبلها الأذان تقول للمصلي: إياك أن تعتقد أن هناك من هو أكبر من مولاك الذي تناجيه.. ثم تقول له: إنه إله واحد.. وإن الذي علمك هذه
النبي الإنسان (90)
الصلاة هو نبيك ورسول ربك.. ثم تذكره بالإقبال على الصلاة بهمة وعزيمة وصدق.. باعتبارها مفتاح الفلاح.. ثم تعود لتذكره بعظمة الله ووحدانيته ليدخل الصلاة خالي البال من غير مولاه.
قال جعفر: فبم يدخل الصلاة؟
قال الصبي: لا يحل أن يدخلها بغير تكبير.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) (1)
قال جعفر: فما سر ذلك؟
قال الصبي: لا يحل لقلب يجلس بين يدي الله.. ولسان يناجي الله.. أن يكون في ذهنه غير الله.. فالله أكبر من أن يشرك معه غيره.
قال جعفر: فماذا يقول بعدها؟
قال الصبي: المستعجل أم غير المستعجل؟
قال جعفر: كلاهما..
قال الصبي: أما المستعجل.. فيبدأ مباشرة بكلام ربه.. فأعظم ما يناجى به الله كلامه.
وأما غير المستعجل.. فقد سن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلمات تملأ قلبه بمعاني التعظيم التي تهيئه للصلاة..
قال جعفر: تقصد ما يسمى بدعاء الاستفتاح؟
قال الصبي: أجل.. فقد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل عليه.
قال: جعفر: فما صيغته؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: من صيغه ما حدث به علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا قام
__________
(1) رواه أحمد.
النبي الإنسان (91)
إلى الصلاة قال: (وجَّهتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئَها لا يصرف عني سيئَها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشَّرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوبُ إليك) (1)
قال جعفر: فما سرها؟
قال الصبي: هذا دعاء التسليم المطلق لله.. ولن يكون المسلم مسلما حتى يوجه وجهه وصلاته ونسكه ومحياه ومماته لله.. فإن فعل ذلك وأدني من مولاه كان أول ما يخطر على باله ذنوبه.. فيسارع للاستغفار منها.. ثم يخطر على باله العصمة منها، فيسأل الله من الخلق ما يقيه سيئها، ويحققه بحسنها.
قال جعفر: أحسنت في هذا.. وأنا لا أرى إلا ما رأيت.. فحدثني عن الركوع.
قال الصبي: من امتلأ بمعاني القرآن التي قرأ في قيامه سينحني لا محالة تواضعا لربه.
قال جعفر: لقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم) (2).. فما سر النهي عن القراءة في الركوع والسجود؟
قال الصبي: كلام الله يعلو ولا يعلى عليه.. وكلام الله لا يقرأ إلا في أرفع الأماكن وأشرفها..
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم، ورواه ابن خُزَيمة وأبو داود وأحمد وابن حِبَّان قريباً منه، ومن النصوص الواردة في هذا المعنى أيضا ما روي عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس القَسِّيِّ، وعن تختُّمِ الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع (رواه مالك)، وعنه قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد (رواه مسلم)
النبي الإنسان (92)
قال جعفر: فما الأذكار التي سنها لنا أعرف الخلق بالله لنقولها في الركوع؟
قال الصبي: أشهرها (سبحان ربي العظيم)، وهي مقتبسة من القرآن الكريم، ففي الحديث: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة:74)، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى:1)، قال: (اجعلوها في سجودكم) (1)
وعن حُذيفة بن اليمان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا ركع: (سبحان ربي العظيم)، ثلاث مرات، وإذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى)، ثلاث مرات (2).
ومن الصيغ غير هذه الصيغة ما حدث به علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ركع قال: (اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقَلَّتْ به قدمي لله رب العالمين) (3)
قال جعفر: فما سرها؟.. ولم تنوعت؟
قال الصبي: الركوع محل تسليم وتعظيم لله.. فناسب أن يذكر في الركوع ما يتناسب مع ذلك.
قال جعفر: فما عدد التسبيحات؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: أما المستعجل فيكفيه ما ورد في النصوص من الأعداد المختلفة التي تتفاوت حسب حاجته.. وأما غير المستعجل، فله أن يسبح الله ما لان له لسانه.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجة وابن حِبَّان.
(2) رواه ابن ماجة وابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي والطيالسي.
(3) رواه أحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.
النبي الإنسان (93)
قال جعفر: فما عدد التسبيحات الواردة في النصوص؟
قال الصبي: عدد التسبيحات في الركوع الواحد لا ينبغي أن تقل عن ثلاث، فهذا هو أدنى التَّمام، إذ لم يُعرف أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قالها مرة أو مرتين (1).
قال جعفر: أحسنت في هذا.. فحدثني عن الرفع من الركوع (2).
قال الصبي: من تواضع لله رفعه.. ومن تذلل لله أعزه.. ومن أحنى رأسه لله أمره الله برفعه.. ومن حمد الله سمع الله حمده.
قال جعفر: فما الأذكار التي تقال في هذه الحال؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: أما المستعجل.. فقد سنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام وللمنفرد أن يقولا عند الرفع من الركوع (سمع الله لمن حمده)
وأما غير المستعجل، فيمكنه أن يضيف ما ورد في السنة إضافته، ومن ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال:.. وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ..) (3)
ومنها ما روي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ مِن شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك
__________
(1) رواه أحمد. ورواه أبو داود قريباً منه.
(2) الرفع من الركوع هو إقامة الظهر من الركوع، وهي تعني تمام انتصاب الظهر بعد الركوع، وهو ركن من أركان الصلاة، فعن أبي مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تُجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صُلْبَه في الركوع والسجود) رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان وابن خُزيمة.
(3) رواه مسلم.
النبي الإنسان (94)
الجَدُّ (1) (2)
قال جعفر: فما سر ذلك؟
قال الصبي: من شرفه الله بالوقوف بين يديه امتلأ بفضل الله، فراح يحمد الله على فضله، وهو يعلم أن الله يسمع لمن حمده، ويرضى عمن حمده.
قال جعفر: أحسنت في هذا.. وأصبت.. فحدثني عن السجود.
قال الصبي: في السجود يلتحم المؤمن مع الكون الساجد لله.. وتتحقق عبودية الله في أرفع درجاتها.
قال جعفر: لم؟
قال الصبي: أبى الله إلا أن يقرب من تواضع له.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء) (3)، وقال: (.. ألا وإني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمنٌ أن يُستجاب لكم) (4)
قال جعفر: فما سر قرب الساجد من الله؟
قال الصبي: لأن من راغم الشيطان، وراغم نفسه الأمارة بالسوء، ورفع كل الحجب التي تحول بينه وبين مولاه استحق أن يقربه الله.
قال جعفر: فلم سن فيه الدعاء؟
قال الصبي: الدعاء طلب.. والطلب لا يكون إلا من الفقراء والمساكين.. ولا يتحقق العبد بالمسكنة في موضع كما يتحقق به حال سجوده.
__________
(1) ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ: صاحب الحظ والغنى لا ينفعه حظه وغناه من أمرك وقضائك فيه.
(2) رواه الدارمي ومسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، باختلافات يسيرة في الألفاظ.
(3) رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود وابن حِبَّان.
(4) رواه مسلم، ورواه أحمد وابن خُزيمة وأبو داود وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ.
النبي الإنسان (95)
قال جعفر: فما تحفظ من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده؟
قال الصبي: لقد أمرنا أعرف العارفين بالله أن نقول حال سجودنا (سبحان ربي الأعلى)
قال جعفر: فما سر ذلك؟
قال الصبي: لا يعرف العبد كمال علو مولاه إلا عندما يكون في أوضع أحوال عبوديته.. وذلك لا يتحقق في محل كما يتحقق في السجود.
قال جعفر: فهل ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير هذه الصيغة؟
قال الصبي: أجل.. منها (سبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والروح)، ومنها (سبحان ذي الجَبَروتِ والمَلَكُوتِ والكِبرياءِ والعَظَمة)
ومنها (اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) (1)
ومنها (اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه دِقَّه وجِلَّه وأولَه وآخِرَه وعلانيته وسِرَّه) (2)
ومنها (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شِمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً، أو قال: واجعلني نوراً) (3)
ومنها (اللهم لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه فصوَّره فأحسن صُوَره، فشق سمعَه وبصرَه، فتبارك الله أحسنُ الخالقين) (4)
قال جعفر: فهل يراد من هذه الصيغ الحصر؟
قال الصبي: من الغبن أن ترغب عما ناجى به أعرف العارفين ربه..
__________
(1) رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والنَّسائي.
(2) رواه أبو داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه أحمد.
النبي الإنسان (96)
قال جعفر: فأنت تنكر على من يترك هذه الصيغ لغيرها؟
قال الصبي: كما أنكر على أصدقائي من التلاميذ الذين يرغبون عن مراجعة دروسهم من كتب أساتذتهم، ويكتفون بكراريس زملائهم.
قال جعفر: لم؟
قال الصبي: التلميذ مهما نجب، فلن يكون كأستاذه.. فكيف إذا ما كان أستاذه نبي الأنبياء، وسيد الأولياء، وأعرف العارفين!؟
قال جعفر: أحسنت في هذا، فأخبرني عن سنته صلى الله عليه وآله وسلم في الجلسة بين السجدتين.
قال الصبي: من تواضع لله رفعه.. ومن عبد الله بالسجود أكرمه الله بالجلوس.
قال جعفر: فما يقول في الجلوس؟
قال الصبي: ما كان يقوله أعرف العارفين بالله.. فقد كان يقول: (رب اغفر لي وارحمني واجْبُرني وارزقني وارفعني) (1)، وكان يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) (2)
قال جعفر: فما سره؟
قال الصبي: من أكرمه الله بالجلوس بين يديه أباح له أن يسأله.. وليس من أدب العبد أن يسأل مولاه غير رفع ما يحجبه عنه.. وليس يحجبه عن مولاه غير ذنوبه.
قال جعفر: وحاجاته؟
قال الصبي: من تاب لله بصدق أعطاه الله كل ما يتمنى، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة..
قال جعفر: فحدثني عن التشهُّد.
__________
(1) رواه ابن ماجة، ونص الحديث عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين في صلاة الليل.. وذكره، ورواه أحمد بلفظ (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني وارفعني وارزقني واهدني)، ورواه أبو داود بلفظ (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)
(2) رواه ابن ماجة والنَّسائي والحاكم وصححه.
النبي الإنسان (97)
قال الصبي: تلك جلسة الملوك التي تتاح للعبد بعد ما يتحقق بعبوديته.. فلذلك تختم بها عبوديته.. عن عبد الله قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: تعلَّموها، فإنه لا صلاة إلا بتشهد) (1)
قال جعفر: فما كان يقول فيها أعرف العارفين بالله؟
قال الصبي: أقل ما يجزي في التشهد الشهادتان والصلاة على النبي محمد وآله الطيبين.. فإن زاد على ذلك، كان أفضل.
قال جعفر: وما ذاك؟
قال الصبي: منها أن يقول: (بسم الله والاسماء الحسنى كلها لله.. أشهد أن لا إلله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. اللهم صل على محمد وآل محمد. وتقبل شفاعته في أمته وارفع درجته..
وإن قال هذا في التشهد الثاني وجميع الصلوات، لم يكن به بأس، غير أنه يستحب أن يقول في التشهد الأخير: (بسم الله وبالله والاسماء الحسنى كلها لله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. التحيات لله والصلوات الطيبات الطاهرات الزاكيات الرائحات الناعمات الغاديات المباركات لله ما طاب وطهر وزكا وخلص ونما. وما خبث فلغير الله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. أشهد أن الجنة حق، وأن النار حق. وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، اللهم صل على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كأفضل ما صليت وباركت ورحمت وترحمت وتحننت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام على جميع أنبياء الله وملائكته ورسله. السلام
__________
(1) رواه البزَّار. ووثَّق الهيثمي رجال سنده.
النبي الإنسان (98)
على الائمة الهادين المهديين. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)
ومن النصوص الواردة في ذلك ما حدث به عبد الله بن مسعود قال: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فلْيقل: (التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير بعدُ من الكلام ما شاء) (1)
ومنها ما حدث به ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التَّشهُّد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: (التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) (2)
وقد وردت صيغ أخرى للتَّشهُّد غير هذه الصيغ جميعا..
قال جعفر: فما سرها؟
قال الصبي: من أدمن طرق الباب فتح له.. ومن أدب من فتحت له الأبواب أن يحيي من يراه.. ومن فتحت له أبواب الله لم ير إلا أولياء الله.. فلذلك كان من الأدب السلام عليهم، وإرسال التحية الصادقة لهم.. وليس من الأدب أن يبدأ بهم قبل ربه.. فلذلك قدم أعرف العارفين ربه.
قال جعفر: لقد ذكرت في جميع الصيغ التي قرأتها السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الخطاب..
__________
(1) رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد والنَّسائي وأبو داود.
(2) رواه مسلم وأبو داود.
النبي الإنسان (99)
ألا يمكن أن يكون ذلك خاصا بحياته؟
قال الصبي: نعم.. الخطاب لا يكون إلا لحي حاضر.
قال جعفر: فهل ترى تبديلها الآن يصيغة الغياب بدل الخطاب؟
قال الصبي: من كان بعيدا عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم غائبا عنه معتقدا وفاته، فلا حرج عليه أن يخاطبه بصيغة الغياب.. أما من كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيا قريبا حاضرا في قلبه.. فإنه لا يملك إلا أن يخاطبه بما يخاطب به الحي الحاضر القريب (1).
قال جعفر: هذه التحية.. فهل هناك غيرها؟
قال الصبي: من أدب المؤمن، ومن شكر الله أن يصلي على رسول الله.. فهو واسطة الهداية، وسراج الدلالة..
قال جعفر: فما يقول؟
قال الصبي: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نقول.. فعن أبي مسعود عقبة بن عامر قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أمَّا السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلَّى الله عليك؟ قال: فصَمَتَ حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: (اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) (2)
__________
(1) من الأدلة التي استدل بها العلماء على ترجيح رواية الخطاب:
1 - أن جميع رواة الأحاديث عبر العصور قد استمروا في رواية صيغة الخطاب دون أن يقيدوها بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت حياته عليه الصلاة والسلام قيداًً لها لذكروه.
2 - لم يُرو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد علَّم المسلمين صيغتين: صيغةً يقولونها وهو حيٌّ، وصيغةً يقولونها بعد موته، وإنما علمهم صيغة واحدة هي صيغة الخطاب، ولم يأمرهم بتركها والأخذ بصيغة الغيبة إذا مات.
(2) رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد والحاكم قريباً منه.
النبي الإنسان (100)
قال جعفر: فما ترى من سر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله؟
قال الصبي: الصلاة الكاملة هي التي تربطك بالله، وبأهل الله.. وأعظم أهل الله وأقربهم إلى الله هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرون.. فلذلك ينضم المؤمن عند صلاته عليهم بالرفيق الأعلى.. فلا سعادة، ولا كمال إلا بالانضمام إليهم.
قال جعفر: فبم يختم التشهد؟
قال الصبي: من أتيح له مثل ذلك المجلس، فلا ينبغي أن يغفل عن الالتجاء إلى الله والتحصن بالله.
قال جعفر: ممن؟
قال الصبي: من كل من يقف بينه وبين الله، أو بينه وبين السلام الذي ملأ الله به وجوده.
قال جعفر: فما يقول؟
قال الصبي: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نقول:
ومن ذلك قوله: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ المسيح الدجال) (1)
ومنها (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) (2)
ومنها (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمَغْرم) (3)
قال جعفر: فهل يكتفي بهذا؟
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود.
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي بزيادة التعوذ من المأثم والمغرم، إلا أنه سقط التعوُّذ من عذاب النار.
النبي الإنسان (101)
قال الصبي: من كان له حاجة إلى الله دعا بها.. وخير ما دعا العبد ربه به ما علمه إياه أعرف العارفين بالله.. ففي كلماته الدنيا والآخرة.
قال جعفر: فاذكر لي بعض ما ورد في ذلك.
قال الصبي: منها (اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) (1)
ومنها (اللهم بعلمك الغيب وقدرتِك على الخَلْق أَحيني ما علمتَ الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قُرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان واجعلنا هُداةً مهديين) (2)
قال جعفر: فبم يختم المؤمن صلاته؟
قال الصبي: بالسلام.. فلا يمكن للعبد أن يقترب من الله شبرا، ونفسه مملوءة بالصراع..
قال جعفر: لم خص السلام بذلك الوقت؟
قال الصبي: لقد كان العبد عند صلاته في حضرة ربه.. فإذا ما خرج منها استقبله الخلق.. ومن الأدب أن يلقي عليهم التحية.. ولا تحية في الإسلام إلا السلام.
أو أن العبد في صلاته تطهر من الصراع الذي كان يضع الحجب بينه وبين خلق الله،
__________
(1) رواه البخاري والنَّسائي وأحمد والترمذي.
(2) عن السائب قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفَّفتَ أو أوجزتَ الصلاة، فقال: أمَّا على ذلك فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتهنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أُبيٌّ غير أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أَحْيِني.. واجعلنا هُداةً مهديين) رواه النَّسائي، ورواه أحمد ولكن سقطت منه عدة ألفاظ.
النبي الإنسان (102)
فلذلك يبادر فيلقي عليهم السلام مؤذنا بنهاية الصراع.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى ذلك: (مفتاحُ الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم) (1)
قال جعفر: عرفنا ما يقال أثناء الصلاة.. فما يقال بعدها؟
قال الصبي: من امتلأ بمعاني العبودية في الصلاة ظهر أثرها عليه بعدها.. ألا ترى المسافر الذي أقام مدة في بلدة كيف تؤثر عليه طباع أهلها ولهجتهم؟
قال جعفر: بلى.. فما الأثر الذي تتركه الصلاة بعدها.
قال الصبي: كل ما قيل في الصلاة من قراءة وذكر ودعاء والتجاء يكمل بعدها.. ليكمل من الصلاة ما كان ناقصا، ويطهر من القلب ما بقي مدنسا.
قال جعفر: فبم ترى يبدأ المصلي أذكار ما بعد صلاته؟
قال الصبي: بالاستغفار.. فحق الله أعظم من أن يؤدى.. فلذلك يبادر المصلي يستغفر ربه من تقصيره وتفريطه.. عن ثَوْبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام..) (2)
قال جعفر: فكيف يستغفر؟
قال الصبي: يصح الاستغفار بأية صيغة من الصِّيغ، كأن يقول (أستغفرُ الله) يكررها ثلاثاً، ففي الحديث عن ابن مسعود قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه أن يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثاً) (3)
أو يقول: (أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ وأتوبُ إليه) يكررها ثلاثاً.
أو يقول: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتَني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود.
(2) رواه مسلم. ورواه أحمد وابن خُزَيمة والنَّسائي بلفظ (يا ذا الجلال والإكرام)
(3) رواه أحمد وأبو داود.
النبي الإنسان (103)
استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفرْ لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يكررها ثلاثاً.
قال جعفر: فما يقول بعد الاستغفار؟
قال الصبي: لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتحميد والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله) (1)
فقد علمنا رسول الله أن نقول هذه الكلمات عقب الصلوات.. لنمتلئ بمعرفة الله.
قال جعفر: فما عددها؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: أما غير المستعجل.. فلا عليه أن يذكر الله ما لان به لسانه.. أما المستعجل.. فقد ورد في النصوص أعداد مختلفة يمكن أن يختار منها ما يتناسب مع حاله:
منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سبَّح الله في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مُعَقِّبات لا يخيب قائلُهن أو فاعلُهن دُبُر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) (3)
قال جعفر: فهل هناك غير هذا؟
قال الصبي: أجل.. أليس في الصلاة قراءة القرآن؟
__________
(1) رواه أحمد وأبو يعلى.
(2) رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان ومالك.
(3) رواه مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي.
النبي الإنسان (104)
قال جعفر: بلى..
قال الصبي: فلذلك من الآثار التي تتركها الصلاة في المصلي أن يقرأ بعض القرآن بعدها.
قال جعفر: فما يقرأ؟
قال الصبي: لقد سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك سننا:
فمن ذلك ما حدث به أبو أُمامة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) (1)
وعن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دُبُر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى) (2)
وعن عُقبة بن عامر قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ المعوِّذات دُبُر كل صلاة) (3)
قال جعفر: فهل هناك غير ما ذكرت؟
قال الصبي: أليس في الصلاة دعاء؟
قال جعفر: بلى.. ودعوات كثيرة.
قال الصبي: فلذلك للمصلي بعد أن ينتهي من صلاته وأذكاره أن يدعو بما شاء.
قال جعفر: فهل سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيئا؟
قال الصبي: أجل.. وهي كثيرة:
منها ما حدث به معاذ بن جبل من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده يوماً ثم قال: يا معاذ إني لأُحِبُّك، فقال له معاذ: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله وأنا أُحبك، قال: أُوصيك يا معاذ لا تدعَنَّ في دُبُر كل صلاة أن تقول: (اللهم أعنِّي على ذكرِك وشُكرِك وحُسْنِ عبادتِك) (4)
__________
(1) رواه الطبراني والنَّسائي وابن حِبَّان.
(2) رواه الطبراني.
(3) رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والطبراني وابن خُزَيمة.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان.
النبي الإنسان (105)
ومنها ما حدث به علي في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فإذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت) (1)
ومما يقال عقب صلاتي الصبح والمغرب خاصة ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا صليت الصبح فقل قبل أن تُكلِّمَ أحداً: اللهم أجِرْني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار، وإذا صليت المغرب فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار) (2)
ما استتم الصبي حديثه هذا حتى سمعنا صوتا لامرأة من داخل الدار تصيح: يا علي، تعال لتقدم الطعام لجدك ولضيفه، فقد أطلنا عليهم.
قال جعفر: انتظر يا علي.. دعنا نصلي المغرب أولا.. فقد آن أوانه.
صلينا المغرب في مسجد قريب، وصلى معنا الصبي، وكنت أرمقه بطرف بصري، وهو يصلي، فرأيت من الخشوع في صلاته ما لا يضاهيه فيه إلا جده.
اقتربت منه، وقلت: لقد من الله عليك بذاكرة.. فلو سخرتها في العلم.
قال: لا خير في عالم لا يبدأ بالتعرف على مولاه.
قلت: فأنت تريد أن تبدأ بالتعرف على مولاك؟
قال: من لم يتعرف على مولاه عاش في جهل، ولو حفظ جميع دواوين الدنيا.. ومن تعرف على مولاه علمه من العلوم ما لا تستطيع جميع دواوين الدنيا أن تستوعبه، أو تحيط به.
__________
(1) رواه أحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والترمذي، ورواه مسلم إلا أنه ذكر هذا الدعاء بين التَّشهُّد والتسليم وليس بعده.
(2) رواه الطبراني وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان.
النبي الإنسان (106)
قلت: العلوم كثيرة.. ونحن في عصر كثرت فيه العلوم وتفرعت.
قال: وأنا أتعلمها من مولاي، فأزداد معرفة به، وشوقا له.. فصنعة مولاي تدل عليه.
قلت: وهل هناك من يتعلمها من غيره؟.. الله هو معلم الكل.
قال: هناك الجاحدون الذين يتعلمون الصنعة، وينكرون الصانع، ويبصرون الجمال، وينكرون الجميل، ويتنعمون بالإبداع، ويسبون المبدع.
قال ذلك، ثم انصرف إلى تسبيحاته يقولها بخشوع وفناء.. بعدها رفع يديه إلى السماء يدعو الله.. ثم خرجنا جميعا إلى البيت، حيث نشرت السفرة، وقدم الطعام.
قال جعفر مخاطبا حفيده: حدثنا يا علي عن أذكار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كان يقولها عند الطعام.
قال الصبي: أذكار الطعام كلها نبع من فيض قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172)
قال جعفر: أذكار الطعام كثيرة.. وهي لا تقتصر على الحمد.. فكيف اجتمعت في هذه الآية؟
قال الصبي: كلها تؤول إلى الحمد.. فالحمد مبتدأها، والحمد منتهاها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها) (1)
قال جعفر: فما أولها؟
قال الصبي: ذكر القلب.. فالقلب الذي يرى النعمة، ويمتلئ بفضل الله عند نظره إليها، لابد أن ينطق لسانه بالشهادة لها بأنها من الله وبالله، وأنه لولا الله ما كانت، ولولا الله ما امتدت اليد إليها.
قال جعفر: تقصد التسمية؟
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (107)
قال الصبي: إذا امتلأ القلب بمعنى التسمية فاض اللسان بها.. فإذا فاض بها كان منفذا لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (المائدة: 4)، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} (الأنعام:118)
وكان منفذا بعد ذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره) (1)، قال عمر بن أبي سلمة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك) (2)
قال جعفر: فما سر التسمية، وما سر بركاتها؟
قال الصبي: المسمي يأكل من فضل الله، وبإذن الله.. فلذلك يعطى من بركات الله، ومن خزائن الغيب ما لا تراه الأبصار.
قال جعفر: وغيره؟
قال الصبي: يغير على فضل الله كما يغير اللصوص من غير استئذان، فلذلك، يأكل ولا يشبع، ويدخل في جوفه الطعام، ولا يدخل في جوفه بركته.
قال جعفر: ألك شاهد على ذلك؟
قال الصبي: لقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل الطعام في نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إنه لو سمى لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله فليقل: باسم الله أوله وآخره) (3)
وفي حديث آخر: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال: (لعلكم تتفرقون)، قالوا: نعم، قال: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله تبارك وتعالى يبارك
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد وابن ماجه.
النبي الإنسان (108)
لكم فيه) (1)
وحدث بعض الصحابة قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاما لم يضع أحد منا يده حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيضع يده، ولقد حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يستحل الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه يستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء هذا الأعرابي يستحل بفأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع أيديهما) (2)
وقال آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ورجل يأكل فلم يسم حتى لم يبق من طعامه إلا لقيمة، فلما رفعها إلى فيه قال: (بسم الله أوله وآخره)، فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: (ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله تعالى استقاء ما في بطنه) (3)
قال جعفر: فإذا ما انتهى من الطعام ماذا يقول؟
قال الصبي: ما يقوله من اكتملت له النعمة.
قال جعفر: من اكتملت له النعمة شكر صاحبها.
قال الصبي: ومن ارتوى من فضل الله حمد الله.. ومن حمد الله رضي عنه.. قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13)
قال جعفر: فما يقول؟
قال الصبي: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك سننا من سنن الهدى.. منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكل أو شرب فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
(3) رواه أبو داود.
النبي الإنسان (109)
له ما تقدم من ذنبه) (1)
ومنها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين) (2)
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرب إليه طعامه يقول (بسم الله)، وإذا فرغ من طعامه قال (اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت واجتبيت فلك الحمد على ما أعطيت) (3)
ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رفع مائدته قال: (الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا) (4)
قال جعفر: فما سر هذه الأذكار؟
قال الصبي: من حجبه عن الله طعامه لم يزده أكله إلا بعدا.. ومن لم ينس الله وهو يمارس ما تتطلبه حياته الطينية من مطالب لم يزدد من الله إلا قربا.
قال جعفر: ما سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ذكرته: (الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا؟
قال الصبي: إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول لربه ـ بعد أن أنهى أكله ـ: (يا رب.. أما الطعام، فقد انتهيت منه، واكتفيت، ولم أعد بحاجة إليه.. أما أنت يارب.. فإن حاجاتي إليك لا تنتهي)
قال جعفر: فما هي هذه الحاجات؟
قال الصبي: أهل الله لا يطلبون من الله إلا الله.. فالله هو غاية مطالبهم.. ومن كان الله غاية مطالبه أناله الله من الحظوظ ما لا يمكن لأحد أن يحلم به.
بعد أن انتهينا من الأكل، قال جعفر للصبي: إن هذا ضيف حل بنا.. وهو يريد منك أن
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(2) رواه أبو داود والترمذي.
(3) رواه النسائي.
(4) رواه البخاري.
النبي الإنسان (110)
تعلمه ما يقوله الضيف لمضيفه بعد أكله..
التفت الصبي إلي، وقال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض من استضافه: (اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم) (1)
قلت ما ذكره.. فقال: وورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة) (2)
قلت ما ذكره.. فقال: وورد في حديث آخر أن بعض الناس دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام، هو وبعض أصحابه، فلما فرغوا، قال: أثيبوا أخاكم قالوا: يا رسول الله، وما إثابته؟ قال: (إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرابه، فادعوا له فذلك إثابته) (3)
قلت: علمت ما أقول في الأوليين.. فما أقول في هذه؟
قال الصبي: قل ما تحب أن يقال لك، وادع لغيرك بما تحب أن يدعى لك.
بعد أن انتهينا من أكلنا ذهبنا إلى المسجد حيث صلينا العشاء.. ثم عدنا إلى البيت، فوجدنا الفراش قد هيئ لنا.. فأسرعت إلي فراشي ورميت نفسي بعد أن أخذ مني التعب كل مأخذ، فقال جعفر: رويدك.. فليس من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ننام على غفلة.
قلت: فما نقول؟
نادى جعفر على على، وقال: يا علي، أخبر عمك ما يقول إذا أوى إلى فراشه.
قال الصبي: إذا أوى إلى فراشه، فلير نعمة الله عليه به، وليذكر أن للنوم أخا لابد أن يأتي في يوم من الأيام.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه أبو داود.
النبي الإنسان (111)
قلت: أللنوم أخ!؟.. ما اسمه؟
قال: الموت.. الموت أخو النوم.. لقد قال الله تعالى يجمع بينهما: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر:42)
قلت: أتريد مني أن أنغص نومي بذكر الموت؟
قال: إنما ينغض نومه من كان موته قنطرة إلى جهنم، أما من كان موته قنطرة إلى الجنة، فإنه يتلذذ بذكره، ويتنعم به.
قلت: وما أدراني أين محلي.. ذلك غيب لا يمكن أن ندركه ما دمنا في هذه الدار؟
قال: ولكنا يمكن أن نمارس من الأسباب ما ندرك به مصيرنا..
قلت: لم أفهم.
قال: إن رب هذه الدار هو رب تلك الدار.. وقوانين هذه الدار هي قوانين تلك الدار.
قلت: وما في هذا؟
قال: أرأيت رجلا ليس له مأوى.. وكان له من الأسباب ما يبني به أحسن مأوى، ولكنه كان يرفض أن يفكر في ذلك.. أترى مصيره بيده، أم بيد غيره؟
قلت: بل هو بيده.. ولو كنت بدله لفكرت ليل نهار، واستعملت كل الأسباب للظفر بالمأوى الذي يأويني.
قال: فما عملته في هذا البيت الذي مصيره إلى الخراب اعمله للبيت الذي لا يصيبه الخراب.
قلت: وما علاقة ذلك بالنوم؟
قال: النائم إذا ذكر الموت.. وأنه قد لا يستيقط من نومه يحاسب نفسه، فيبذل الحقوق لأصحابها، فينام مرتاحا مطمئنا، ليس لغيره عليه خصومة قد يحتج بها عليه عند الله.
النبي الإنسان (112)
قلت: ألما ذكرته علاقة بالأذكار التي كان يقولها محمد عند نومه؟
قال: أجل.. فذكر الله بمثابة البذور.. والبذور لابد لها من تربة صالحة تستنبت فيها..
قلت: أهذه هي تربتها؟
قال: أجل.. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ: {الم تَنْزِيلُ} (السجدة)، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: 1) (1).. وهي سور تتحدث عن يوم القيامة وما ينتظر العباد فيها.
قلت: أهذا كل ما كان يقرؤه؟
قال: لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات (2) قبل أن يرقد، وقال: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية) (3)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر، وبني إسرائيل (4).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ: (قل هو الله أحد) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات (5).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت فراشه قط إلا قرأ: (قل يا أيها الكافرون) حتى يختمها (6).
قلت: أكان يكتفي بقراءة القرآن؟
قال: قراءة القرآن أعظم الأذكار.. فأعظم ما ناجى به العبد ربه كلامه.. إن جدي الذي
__________
(1) رواه أحمد والترمذي.
(2) روى النسائي.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي.
(4) رواه الترمذي وحسنه.
(5) رواه مالك، وأحمد، والبخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي.
(6) رواه الطبراني، ورواه أيضا عن عباد بن أخضر أو أحمر.
النبي الإنسان (113)
أمامك طالما كان يقول لي: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون) (1)
قلت: فهل هناك غير هذا من كلام محمد؟
قال: كلمات كثيرة.. أما المستعجل، فيقول أخصرها، وأما غيره، فيقول ما استطاع أن يحفظ منها.
قلت: فاذكر لي ما روي عنه من ذلك.
قال: من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اضطجع للنوم يقول: (باسمك ربي وضعت جنبي، فاغفر لي ذنبي) (2)
قلت: فما سره؟
قال: من ذكر ربه استغفر ذنبه.. فحق الله أعظم من أن يؤدى.
قلت: فما كان يقول غير هذا؟
قال: لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ مضطجعه يقول: (الحمد لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والحمد لله) (3)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول حين يريد أن ينام: (اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شئ، وإله كل شئ، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك، والملائكة يشهدون، اللهم أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي إثما أو أجره على مسلم) (4)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اضطجع للنوم يقول: (باسمك ربي فاغفر لي ذنبي) (5)
__________
(1) هذا الكلام مروي عن جعفر الصادق
(2) رواه أحمد.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه الطبراني.
(5) رواه أحمد بإسناد حسن.
النبي الإنسان (114)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: (الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وآوانا وكم ممن لا مكافئ له ولا مؤوي) (1)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن ينام قال: ((اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) (2)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: (باسمك اللهم أحيا وأموات) (3)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: (رب قني عذابك يوم تبعث)، أو قال: ((تجمع عبادك) (4)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا أخذ مضطجعه من الليل: (باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي وأخسئ شيطاني، وفك رهاني واجعلني في الندى الأعلى (5) (6)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده، ثم قال: (رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ثلاث مرات) (7)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند مضطجعه: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامات، من كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا ينهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك اللهم وبحمدك) (8)
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(2) رواه البزار بسند حسن.
(3) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي.
(4) رواه أحمد والترمذي عن البراء بن عازب، وأحمد وابن ماجة عن ابن مسعود.
(5) الندي الأعلى: القوم المجتمعون في مجلس، فإن تفرقوا فليس بندي، والمراد به الملأ الأعلى كما في الروايات الأخرى.
(6) رواه أبو داود.
(7) رواه أحمد وأبو داود.
(8) رواه أبو داود.
النبي الإنسان (115)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، اللهم لا أستطيع ثناء عليك ولو حرصت، لكن أنت كما أثنيت على نفسك) (1)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، إله أو رب كل شئ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول، فليس قبلك شئ، وأنت الآخر، فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ، اقض عنا الدين واغننا من الفقر) (2)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشر وأعوذ بك من الجوع ضجيعا) (3)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو عند النوم: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شئ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شئ، أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شئ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر ليس فوقك شئ، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر) (4)
قلت: أكل هذا كان محمد يقوله إن أراد أن ينام؟
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا وغيره.. وللمؤمن الذي يريد أن يتعرف على ربه، ويتصل به أن يقول كل ذلك أو بعض ذلك.. أو يأخذ منها ما يراه مناسبا لحاله.
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله تعالى حتى يدركه النعاس لم ينقلب ساعة من الليل يسأل الله تعالى فيها خيرا إلا أعطاه إياه) (5)
__________
(1) رواه الطبراني برجال ثقات.
(2) رواه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي.
(3) رواه البزار.
(4) رواه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي.
(5) رواه الترمذي.
النبي الإنسان (116)
قلت: ولكن النوم محل راحة.. فكيف تكون فيه كل هذه الوظائف؟
قال: هذه وظائف الراحة.. فلا راحة إلا عند ربك.. ولا سكينة إلا عنده.
قلت: أنا أحيانا أنتبه من النوم.. ثم أعود.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. لقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته) (1)
وفي حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) (2)
قلت: فإني ـ أحيانا ـ يعتريني الأرق، ويحول بيني وبين النوم، فهل ورد في هذا شيء؟
قال الصبي: أجل.. لقد شكا بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شكوت، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علي أحد منهم أو أن يطغي علي عز وجل ثناؤك ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت) (3)
قلت: فإني ـ أحيانا ـ بعد أن أنام يصيبني من الفزع ما ينغص علي نومي، فهل ورد في علاج هذا شيء؟
قال: أجل.. لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نعالج ذلك بهذه الكلمات: (أعوذ بكلمات الله
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي، والحكم بن ظهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث، ويروى هذا الحديث، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، من غير هذا الوجه.
النبي الإنسان (117)
التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين أن يحضرون) (1)
قلت: فإني ـ أحيانا ـ أرى رؤى ممتلئة شؤما تملأ نفسي من شؤمها، فهل ورد في هذا شيء؟
قال: أجل.. لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سر ذلك، فقال: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره إن شاء الله).. وفي حديث آخر: (الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكرهه، فلا يحدث به، وليتفل عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شر ما رأى فإنها لا تضره) (2)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) (3)
قال جعفر: أخبرنا يا علي عن سر ما ورد من أوراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كان يقولها في هذه الأحوال.
قال الصبي: كل الأوراد التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وجهة واحدة، وهدف واحد.. إنها مدرسة متكاملة في العرفان، وفي التربية عليه.. والنوم محل صالح من تلك المحال، ولهذا كانت جميع أوراده تعبر عن لجوء المؤمن لربه وخضوعه المطلق له..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أمته هذا، ففي الحديث: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب بعض أصحابه: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
النبي الإنسان (118)
الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة، واجعلهن من آخر كلامك، قال: فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت. قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت) (1)
قلت: فقد علم محمد أصحابه ما يقولون أثناء النوم إذن؟
قال: أجل.. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم كل شيء.. وكانت حياته أمامهم نموذجا معبرا عن كل خير.. فلذلك كانوا يقتدون به في كل أفعاله إلا إذا نهاهم عن ذلك.
ومما ورد في ذلك ما حدث به علي: أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله خادما، فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه، تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين، فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين (2).
نمت تلك الليلة كما لم أنم في حياتي.. لقد شعرت بروحانية عميقة تمتد إلى نومي، فتحوله من ممارسة عادية لا تختلف عن أي ممارسة بهيمية له إلى نوم روحاني، تحولت كل رؤاي فيه إلى تلك العوالم الجميلة التي كنت أحلم بها ولا أجدها.
في جوف الليل.. أيقظتني حركات خفيفة.. انتبهت فرأيت جعفر يقوم، ثم يتوضأ، ثم يقف على سجادته، ويكبر، ثم يردد في خشوع: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) (3)
ثم يقول بعدها: (اللهم لك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) ففي الحديث: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح الصلاة:..) (رواه مسلم)
النبي الإنسان (119)
الحمد، أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) (1)
ثم يقول بعدها: (لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنوبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزع قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) (2)
ثم يقول: (الحمد لله رب العالمين، القوي)، ثم يقول: (سبحانك الله وبحمده القوي) (3)
وبعدها يستغرق في صلاة طويلة ممتلئة بالروحانية العميقة.. لست أدري كيف نمت بعدها، ولم أستيقظ إلا على أذان الفجر.. وعلى صوت على الصغير، وهو يقول لي: قم يا عم للصلاة.. فقد أذن المؤذن لصلاة الفجر.
مسحت النوم عن عيني، فرأيته بابتسامته البريئة يقول لي: لا تنس ـ يا عم ـ أن تردد ما كان يردده أعرف العارفين بالله إذا استيقظ.
قلت: وما كان يردد؟
قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور) (4)
ويقول: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي، وأذن لي بذكره) (5)
قلت: فما سره؟
__________
(1) ففي الحديث:: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال:.. رواه البخاري.
(2) ففي الحديث: إن رسول الله (إذا استيقظ من الليل قال: (..) وذكرته، رواه أبو داود.
(3) ففي الحديث: أن رسول الله (إذا قام من الليل يصلي يقول.. وذكره، رواه أحمد وابن ماجة.
(4) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي ومسلم.
(5) رواه الترمذي.
النبي الإنسان (120)
قال: النائم المشتاق لا يخطر على باله إن هو استيقظ إلا حبيبه الذي اشتاق إليه.. والنائم الكسلان لا ينهضه من كسله إلا تذكره لحبيبه الذي أذن له بالاتصال به.
لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى، فقال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) (1)
قمت، وتوضأت ثم سرنا جميعا إلى المسجد الذي لم يكن يبعد عن البيت إلا قليلا، بعد أن انتهينا من الصلاة ومن المعقبات التي تلت الصلاة أخذ أهل المسجد جميعا يرددون بصوت واحد أوراد الصباح.. وكان أكثرها مما ذكرته لكم من أوراد المساء..
ومن الأوراد الخاصة التي سمعتها في الصباح (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة القبر) (2)
وقد سألت جعفر عنه، فقال: إن هذا النوع من الاستعاذات يجعل المؤمن دائم التذكر للقبر، وللفتن التي تنتظره في قبره.
قلت: إن هذا سيملأ حياة المؤمن بالتشاؤم والكآبة والإحباط.
نظر إلي بابتسامة، وقال: القبر عندنا ليس كالقبر عندكم..
قلت: فما الفائدة من ترديد ذكره كل حين؟
قال: ليرتدع المتجبر عن تجبره، والمتكبر عن تكبره.. ويقبل الكل على تحويل قبورهم إلى روضة من رياض الجنة، وتجنيبها من أن تكون حفرا من حفر النار.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أحمد.
النبي الإنسان (121)
ومن الأوراد التي سمعتها في ذلك الصباح: (أصبحنا وأصبح الملك لله، الكبرياء والعظمة والخلق والليل والنهار، وما سكن فيها لله تعالى، وحده لا شريك له، اللهم اجعل هذا النهار أوله فلاحا، وأوسطه صلاحا، وآخره نجاحا، وأسألك خير الدنيا وخير الآخرة) (1)
ومنها (اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير) (2)
ومنها (أصبحنا والملك والحمد لله، لا شريك له، لا إله إلا هو، وإليه المصير) (3)
ومنها (سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) (4)، وقد سمعتهم يرددونها ثلاث مرات.
ومنها (اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا) (5)
ومنها (اللهم أصبحت وشهدت بما شهدت به على نفسك وأشهدت ملائكتك وأولي العلم، ومن لم يشهد بما شهدت فاكتب شهادتي مكان شهادته: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، يا ذا الجلال والإكرام نسألك أن تستجيب لنا دعوتنا، وأن تعطينا رغبتنا، وأن تغنينا عمن أغنيته عنا من خلقك، اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معيشتي، وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي) (6)
وبعد أن انتهوا من هذه الأذكار التي كانوا يرددونها بخشوع وروحانية عظيمة، جلس كل منهم في ناحية من نواحي المسجد.. وراحوا يستغرقون في وظائف مختلفة بعضهم يقرأ القرآن.. وآخرون يرفعون أيديهم إلى الله يلهجون بالدعاء.. وبعضهم اختار ذكرا من الأذكار تهليلا، أو
__________
(1) رواه عبد بن حميد.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه البزار.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه أحمد وابن ماجه.
(6) رواه البزار.
النبي الإنسان (122)
حمدا، أو تكبيرا، فهو يردده ويستغرق في ترديده..
وهكذا إلى أن طلعت الشمس.. حيث قام كل منهم يصلي ركعتين.. ثم انصرفنا من المسجد، فسألت جعفر عن هذا، فقال: إن هؤلاء يطبقون سنة من سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي ذكر الله من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.. وقد وردت أحاديث في فضل الذكر في هذا الوقت، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد صلى صلاة الصبح ثم جلس يذكر الله عز وجل حتى تطلع الشمس الا كان له حجابا من النار وسترا) (1)
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقعد أذكر الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أكبره وأحمده وأهلله وأسبحه، أحب لى من أن أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ولأن أذكر الله من بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب الي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل) (2)
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الصبح في مسجد جماعة، ثم مكث حتى يسبح سبحة الضحى، كان له كأجر حاج، ومعتمر تام له حجته وعمرته) (3)
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاة الغداة في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام يركع ركعتين، انقلب بأجر حجة وعمرة) (4)
قلت: فما سر كل هذا الفضل؟
قال: إن الذي يبدأ يومه بذكر الله سيمتلئ عليه يومه بالبركات..
قلت: ولكن ألا ترى أن وقتا كثيرا يهدر بسبب هذا كان يمكن أن يستفيد الناس منه في زيادة الإنتاج؟
قال: لقد انشغل الغافلون بزيادة الإنتاج عن زيادة الإيمان.. فلم يزدهم إنتاجهم إلا تخمة،
__________
(1) رواه ابن السنى.
(2) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
(3) رواه الطبراني في الكبير.
(4) رواه الطبراني في الكبير.
النبي الإنسان (123)
ولم تؤد بهم التخمة إلا إلى ضنك العيش وضيقه.
قلت: ولكن إشباع الجسد ضرورة؟
قال: لا ينبغي للعاقل أن يهتم بإطعام الفرس، وينسى الفارس.. للدابة طعامها، وللإنسان طعامه.
قلت: فما طعام الإنسان؟
قال: ذكر الله وعبادته والتعرف عليه.. لهذا خلق الإنسان.. أما الأكل والشرب، فليست إلا وظائف محدودة.. لكن الغافلين اعتبروها مقصودة لذاتها.. فراحوا يشبعون أجسادهم، ويجيعون أرواحهم.
-\--\-
ظللت أياما في صحبة جعفر.. كنت أردد خلالها ما يردده من أذكار.. وكنت كل حين أسأله عن أسرارها، وعن المعارف المرتبطة بها، وكان كل مرة يفيدني من معانيها ما لم أكن أنتبه إليه، أو أستطيع بمداركي المحدودة أن أدركه.
وقد عرفت خلالها الأعماق التي تحملها تلك الأذكار.. ومدى التأثير الذي تحدثه في كيان من أدمن عليها، وأداها بالصفة التي كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد قارنت تلك الأذكار المملوءة بالمعاني العميقة بما كنت تعلمته من سائر الملل والنحل، فوجدت البون بينها شاسعا.. فأذكار محمد صلى الله عليه وآله وسلم أذكار تعرف بالله، وبكمال الله، وتتعامل مع الله بأدب رفيع، وشفافية عالية..
في يوم من الأيام رأيت جعفر يعد زاده، ويضعه في مزود، ثم يهم بحمله، وكأنه على أهبة سفر، فسألته عن مسيره، فقال: لقد تعودت في مثل هذه الأيام من كل سنة أن أختلي في خلوة
النبي الإنسان (124)
يجتمع فيها بعض أهل الله لنتفرغ فيها لذكر الله.
قلت: خلوة!؟
قال: أجل.. ذلك المحل الذي تطهر فيه النفوس، وتعالج القلوب، وتترفع الأرواح.. ذلك المحل الذي لا يذكر فيه إلا الله.
قلت: ولكنك وارث.. والوارث لا يفعل إلا ما فعله مورثه.
قال: والخلوة مما فعلها مورثي.. فهي أحد الوجوه التي ينفذ بها قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8)، ففي الخلوة تنقطع القلوب إلى الله انقطاعا تاما بصحبة ذكر الله.
قلت: فكيف لم يفعلها محمد إذن؟
قال: ومن ذكر لك أنه لم يفعلها.. لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يخلو بغار حراء يتعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، ففي الحديث: (أولُ ما بُدِئَ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ؛ فيتَحَنَّثُ فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء) (1)
دخل علي علينا يحمل كتابا، وهو يقول ـ وكأنه كان يتنصت علينا ـ: لقد قال ابن أبي جمرة في شرحه لهذا الحديث: (في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم له من مقامات الولاية.
وفيه دليل على أن الأوْلى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في أول أمره
__________
(1) رواه البخاري.
النبي الإنسان (125)
يخلو بنفسه.
وفيه دليل على أن البداية ليست كالنهاية، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بُدِئَ في نبوته بالمرائي، فما زال صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي في الدرجات والفضل، حتى جاءه المَلكُ في اليقظة بالوحي، ثم ما زال يرتقي، حتى كان كقاب قوسين أو أدنى، وهي النهاية. فإذا كان هذا في الرسل فكيف به في الأتباع؟! لكن بين الرسل والأتباع فرق، وهو أن الأتباع يترقون في مقامات الولاية ـ ما عدا مقام النبوة، فإنه لا سبيل لهم إليها، لأن ذلك قد طُويَ بساطه ـ حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية.
ولأجل هذا تقول الصوفية: من نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ما هو أعلى منه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ أولاً في التحنث ودام عليه بأدبه، إلى أن ترقى من مقام إلى مقام، حتى وصل إلى مقام النبوة، ثم أخذ في الترقي في مقامات النبوة حتى وصل به المقام إلى قاب قوسين أو أدنى كما تقدم، فالوارثون له بتلك النسبة؛ من دام منهم على التأدب في المقام الذي أُقيم فيه ترقى في المقامات حيث شاء الله، عدا مقام النبوة التي لا مشاركة للغير فيها بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
التفت إلى جعفر، وقلت: إن ما ذكرته قد يعارض بأن ما فعله محمد كان قبل البعثة.. والتكاليف لم تكن إلا بعد النبوة.. فلا يصح الاستدلال بما قبل النبوة من تصرفات.
قال جعفر: أهل الله ينظرون إلى المسألة من زاوية أعمق من الزاوية التي أشرت إليها.. وهم لذلك يعتبرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في كل حياته.
قلت: وما الزاوية التي ينظر من خلالها أهل الله إلى محمد؟
قال: إن رسول الله هو الإنسان الكامل الذي اختاره الله لأعظم وظيفة، و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).. ولو لم يكن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكمال الإنساني قبل البعثة ما كان أهلا لهذه الوظيفة العالية.. وبما أن أهل الله هم طلاب الكمال والقرب، فلذلك أخذوا من
__________
(1) شرح مختصر البخاري للإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي ج 1/ص 10 - 11.
النبي الإنسان (126)
رسول الله كل شيء.. لا يسألون في ذلك هل كان قبل البعثة أو بعدها.
قلت: وعيت هذا.. ولكن ألا ترى في الاختلاء انقطاعا عن الحياة.. ومحمد لم يأت إلا ليعمر الحياة؟
قال: ما تقول في خلوة الطالب مع دروسه.. قصده من ذلك أن يصير طبيبا يداوي علل الناس.. ودروسه تقتضي ذلك التفرغ التام.. أهذا خير أم طالب لا يجالس دروسه إلا قليلا، وهو يتصور أن الحياة تحتاج إلى خروجه إلى الناس ومخالطته لهم؟
قلت: لاشك أن الأول أقوم رأيا.. فلا يمكن لطالب علم أن يحصل علومه، وهو منشغل عنها بأي شاغل.
قال: وهكذا السلوك إلى الله وقطع مفاوز النفوس.. إنه يحتاج في أحيان كثيرة إلى خلوة يراجع فيها الإنسان سلوكه، ويداوي قلبه، ويصلح ما بينه وبين ربه.. ولذلك..
قاطع جعفر ابنه، وقال: إن الوقت قد حان للرحيل.. فإن شئت أن تسير معي، فهيا.. فلا يمكن أن تعرف شيئا ما لم تجربه.
قلت: ولا يمكن أن أجرب شيئا دون أن أعلم فائدته، وماذا أعمل فيه.
قال جعفر: أما فائدته فقد علمتها نظريا.. ويمكنك أن تتعلمها عمليا.. وأما الكيفية..
قاطع علي أباه، وقال: فقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) (1).. فليس لمن دخل في الخلوة شغل غير ذكر الله..
سرت مع جعفر إلى ضاحية من ضواحي القدس.. وهناك دخلنا بيتا هو أشبه بالزاوية قد فرشت فيه بعض الفرش التي جلس عليها قوم من الناس كانوا مستغرقين تماما في ذكر الله..
جلسنا معهم نردد ما يرددون..
__________
(1) رواه البخاري.
النبي الإنسان (127)
وقد بقينا كذلك أسبوعا كاملا.. لم يكن لنا من شغل إلا ذكر الله.. ولم نكن في ذلك المحل نمارس من أسباب الحياة إلا ما نضطر إليه.. فلم نكن ننام أو نأكل إلا قليلا..
وقد ذقت في ذلك المحل ـ مع كوني لم أسلم بعد ـ من الأذواق ما لا يستطيع أحد في الدنيا التعبير عنه.
ذات يوم.. وبعد أن امتلأت بمعاني الأذكار، وأدركت سر كمالها وجمالها، سألته أن يعلمني كيف أتصل بالله لأعرض عليه من الحاجات ما لا يمكن أن يعرض على غيره، فقال: لقد ترك لنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ثروة عظيمة تغطي كل الحاجات، ما دق منها وما جل، وما لا يمكن أن يعرض إلا على الله، وما يمكن أن يعرض على غيره.
قلت: فحدثني عنها.
قال: يمكنك أن تصنفها إلى ثلاثة أصناف.
قلت: فما أولها؟
قال: الاستعاذة.. فبالاستعاذة تلتجئ إلى الله فارا من كل ما تخاف على نفسك منه.
قلت: فما أثر عن محمد في هذا الجانب؟
قال: لقد أثر عنه الكثير.. منه العام المطلق الذي يستغرق الحاجات الكثيرة.. ومنه الخاص المقيد بالحاجات المحدودة.
قلت: فعلمني من علوم ذلك ما أدرك به ما ذكرت.
قال: لقد استعاذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشياء كثيرة، فقد استعاذ من الكسل، وسوء القضاء ودَرْك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجَهْد البلاء، والعجز والهرم والمأثم والمغرم، وشر ما خلق الله، وضَلْع
النبي الإنسان (128)
الدَّين وغَلَبة الرجال، وشر الغنى والفقر والقلة والذِّلَّة، وزوال النعمة وتحويل العافية، وفُجاءة النِّقمة وجميع سخط الله، والشِّقاق والنفاق وسوء الأخلاق، والجوع والخيانة، وعلماً لا ينفع وقلباً لا يخشع ونفساً لا تشبع ودعاءً لا يُسمع، وشر السمع وشر البصر وشر اللسان وشر القلب وشر المنيِّ، والهدم والتردِّي والغرق والحرق، وتخبُّطَ الشيطان والموت في سبيل الله مدبراً، والموت لديغاً، والبرص والجنون والجُذام وسئ الأسقام، ومنكراتِ الأخلاق والأهواء والأعمال.
قلت: فاذكر لي من الألفاظ التي نطق بها محمد، فإني ـ كما عرفتها ـ ألفاظ جامعة مانعة.. فقد أوتي من القدرة التعبيرية ما لا يضاهيه فيه أحد.
قال: سأدعو لك عليا ليحدثك بنصوصها.. فقد أوتي ذاكرة مكنته من حفظ الكثير من الأحاديث في هذا وغيره.
نادى جعفر عليا، فجاء، وقال ـ وكأنه كان يتنصت لما نقول ـ: تريدون أحاديث أعرف العارفين بالله في الاستعاذة بالله.
قلت: أجل.. فتعبير محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعبير جامع مانع.. ولا أرى أن هناك من يستطيع التعبير عن الحقائق بمثل أسلوبه.
قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما آتاه الله من هذا، فقال: (إنما بعثت فاتحا وخاتما، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون (1) (2)
قلت: فحدثني بما ورد في هذا.
قال: من الاستعاذات التي وردت بها الأحاديث: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع) (3)، وفي رواية: (اللهم إني أعوذ بك من نفس
__________
(1) المتهوكون: التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الامر بغير روية.
(2) رواه البيهقي.
(3) رواه الطبراني، وابن أبي شيبة بسند صحيح.
النبي الإنسان (129)
لا تشبع، وأعوذ بك من صلاة لا تنفع، وأعوذ بك من دعاء لا يسمع، وأعوذ بك من قلب لا يخشع) (1)، وفي رواية: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع) (2)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الصمم والبكم، وأعوذ بك من المأثم والمغرم وأعوذ بك من الغم وأعوذ بك من الهم وأعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من موت الجوع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة) (3)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من ضلع الدين، وغلبة الرجال) (4)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون والجذام وسيئ الأسقام) (5)
وكان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر عباده، وهمزات الشياطين، وأن يحضرون) (6)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وكل أمر لا يطاق) (7)
__________
(1) رواه ابن حبان.
(2) رواه مسدد، وأبو يعلى، والنسائي، عن ابن عمرو، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود والطبراني عن ابن عباس، ورواه الطبراني.
(3) رواه الحارث، والبزار بسند حسن.
(4) رواه الطبراني، وأبو يعلى، وابن حبان.
(5) رواه الطبراني برجال الصحيح.
(6) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(7) رواه أبو داود، وأبو الحسن بن الضحاك.
النبي الإنسان (130)
وكان يقول: (اللهم أعوذ بك من الصم والبكم والمغارم والمآثم، وأعوذ بك من موت المعرة، ومن موت الهدمة، ومن موت الهدم، ومن شتات الأمر، اللهم لا تجعل الخيانة لي بطانة، ولا تجعل الجوع لي ضجيعا فبئس الضجيع) (1)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) (2)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أموت هما أو غما أو أموت غرقا وأن يتخبطني الشيطان) (3)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من موت الغم، ومن موت الهدم، ومن سوء الأمر، اللهم إني أعوذ بك من الخيانة، فبئست البطانة، وأعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع) (4)
وكان يقول دبر الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من الفتنة ظاهرا وباطنا، اللهم إني أعوذ بك من مال يطغيني وفقر ينسيني، وهوى يرديني، وبوار الأيم، وأعوذ بك من الرياء والشكوك والسمعة) (5)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، وفتنة الصدر وعذاب القبر) (6)
__________
(1) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(4) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(5) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(6) رواه الطبراني برجال الصحيح.
النبي الإنسان (131)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه ومن عذاب القبر) (1)
وكان يقول: (أعوذ بوجهك الكريم، وباسمك الكريم من الكفر والفقر) (2)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة) (3)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر الأعميين)، قيل يا رسول الله، وما الأعميان؟ قال (السيل والبعير الصؤول) (4)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الصمم والبكم، وأعوذ بك من المأثم والمغرم، وأعوذ بك من الغم يعني الغرق وأعوذ بك من الهم) (5)
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أموت هما أو غما، وأن أموت غرقا، وأن يتخبطني الشيطان عند الموت، أو أموت لديغا) (6)
قلت: عرفت هذا، وأدركت أهميته، فالإنسان في هذه الدنيا يحتاج إلى ملاجئ يلجأ إليها.. وليس هناك ما هو أحصن من ملاجئ الله.. فحدثني عن الثاني.
قال: دعوات عامة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بها كل حين، ويعلمها لأصحابه، وهي ليست مرتبطة بوقت دون وقت، ولا حالة دون حالة.
قلت: فحدثني عنها.
__________
(1) رواه البزار.
(2) رواه الطبراني.
(3) رواه الطبراني برجال ثقات.
(4) رواه الطبراني.
(5) رواه البزار بسند حسن.
(6) رواه أحمد.
النبي الإنسان (132)
قال: سيحدثك علي، فذاكرته أقوى من ذاكرتي..
قال علي: من ذلك ما ورد في الحديث أن أكثر دعائه صلى الله عليه وآله وسلم كان: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (1)
ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم أنت الأول فلا شئ قبلك، وأنت الآخر فلا شئ بعدك، اللهم إني أعوذ بك من كل دابة ناصيتها بيدك، وأعوذ بك من الإثم والكسل، ومن عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغنى ومن فتنة الفقر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم اللهم نق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس اللهم باعد بيني وبين خطيئتي كما باعدت بين المشرق والمغرب)
ومنها: (اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقل موازيني وأحق إيماني، وارفع درجتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلا من الجن.. اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وآخره، وظاهره، وباطنه والدرجات العلا من الجنة.. اللهم إني أسألك خلاصا من النار سالما، وأدخلني الجنة آمنا، اللهم إني أسألك أن تبارك لي في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خليقتي، وأهلي، ومحياي، وفي مماتي.. اللهم تقبل حسناتي، وأسألك الدرجات العلا من الجنة آمين) (2)
ومنها: (اللهم اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم) (3)
ومنها: (اللهم سلمني وسلم مني) (4)
ومنها: (اللهم متعني بسمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني، وعافني في ديني،
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة، ورواه عبد بن حميد بسند جيد.
(2) رواه الطبراني برجال ثقات.
(3) رواه أحمد، وأبو يعلى بسند حسن.
(4) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
النبي الإنسان (133)
واحشرني على ما أحييتني وانصرني على من ظلمني، حتى تريني منه ثأري، اللهم إني أسلمت ديني إليك، وخليت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت برسولك الذي أرسلت، وكتابك الذي أنزلت) (1)
ومنها: (اللهم اجعلني أخشاك حتى كأني أراك أبدا حتى ألقاك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، واجعل غنائي في نفسي، وامتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري، وأقر بذلك عيني) (2)
ومنها: (اللهم اغفر لي ما أخطأت وما تعمدت، وما أسررت، وما أعلنت، وما جهلت وما تعمدت) (3)
ومنها: (اللهم اغفر لنا ذنوبنا وظلمنا وهزلنا وجدنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا) (4) (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العيال، وشماتة الأعداء) (5)
ومنها: (اللهم إني أسألك عيشة تقية، وميتة سوية، ومردا غير مخزي ولا فاضح) (6)
ومنها: (اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الغر المحجلين الوفد المتقبلين)، فقالوا: يا رسول الله، ما عباده المخبتون؟ قال: (عباد الله الصالحون) قالوا: فما الغر المحجلون؟ قال: (الذين تبيض منهم مواضع الطهور)، قالوا: فما الوفد المتقبلون؟ قال: (وفد يفدون مع نبيهم إلى ربهم تبارك
__________
(1) رواه الطبراني.
(2) رواه الطبراني والبزار بعض آخره من قوله: (أمتعني بسمعي) بنحوه وسنده جيد.
(3) رواه أحمد، والبزار، والطبراني، برجال ثقات.
(4) رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى بسند حسن.
(5) هذه الزيادة لابن حبان.
(6) رواه البزار، والطبراني، وسنده جيد وأبو الحسن بن الضحاك.
النبي الإنسان (134)
وتعالى يوم القيامة) (1)
ومنها: (اللهم اغفر لي ذنبي، خطئي وجهلي) (2)
ومنها: (اللهم اغفر لي ذنبي خطئي وعمدي.. إني أستهديك لأرشد أمري، وأعوذ بك من شر نفسي) (3)
ومنها: (يا ولي الإسلام وأهله ثبتني به حتى ألقاك به) (4)
ومنها: (اللهم أقبل بقلبي إلى دينك، واحفظ من وراءنا برحمتك) (5)
ومنها ت: (اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتب لي، ورضا من المعيشة بما قسمت لي) (6)
ومنها: (اللهم بارك لي في ديني الذي هو عصمة أمري، وفي آخرتي التي إليها مصيري وفي دنياي التي فيها بلاغي، واجعل حياتي زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) (7)
ومنها: (اللهم اجعلني شكورا، واجعلني صبورا واجعلني في عيني صغيرا، وفي عين الناس كبيرا) (8)
ومنها: (اللهم أحيني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين) (9)
ومنها: (اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني) ثم يقول: (هؤلاء جمعن خير الدنيا
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه أحمد برجال الصحيح.
(3) رواه ابن أبي شيبة وأحمد، والطبراني برجال الصحيح.
(4) رواه أبو يعلى.
(5) رواه أبو يعلى بسند حسن.
(6) رواه الطبراني.
(7) رواه البزار برجال ثقات.
(8) رواه البزار برجال ثقات.
(9) رواه الطبراني.
النبي الإنسان (135)
والآخرة) (1)
ومنها: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شئ قدير) (2)
ومنها: (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) (3)
ومنها: (اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهر قلبي من الخطايا كما طهرت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين ذنوبي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع، وعلم لا ينفع، اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع اللهم إني أسألك عيشة نقية، وميتة سوية، ومردا غير مخز ولا فاضح) (4)
ومنها: (اللهم إني ضعيف فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضائي، اللهم إني ضعيف فقوني، وإني ذليل فأعزني، وإني فأغنني، اللهم بلغني من رحمتك ما أرجو من رحمتك، واجعل لي ودا عند الذين آمنوا وعهدا عندك) (5)
ومنها: (اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تتوب علي، وإن أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون) (6)
__________
(1) رواه أبو بكر بن خيثمة.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه أبو يعلى، ورواه مسلم والترمذي والنسائي مختصرا.
(5) رواه ابن الضحاك.
(6) رواه البزار بسند حسن.
النبي الإنسان (136)
ومنها: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، وفتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهديين) (1)
ومنها: (اللهم اغفر لنا وارحمنا، وارض عنا، وتقبل منا، وأدخلنا الجنة، ونجنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله) (2)
ومنها: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا) (3)
ومنها: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (4)
ومنها: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني وانصرني على من ظلمني، وخذ منه ثأري) (5)
ومنها: (اللهم أصلح لي في ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة لي زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) (6)
ومنها: (اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما
__________
(1) رواه النسائي وابن ماجه، والحاكم.
(2) رواه ابن ماجه وأبو داود.
(3) رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم.
(4) رواه الترمذي وقال: حسن عن أم سلمة وابن ماجه، عن أنس والحاكم عن جابر.
(5) رواه الترمذي وقال حسن غريب والحاكم.
(6) رواه مسلم.
النبي الإنسان (137)
رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب) (1)
ومنها: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علما تنفعني به) (2)
ومنها: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) (3)، (ومن كان ذلك دعاءه مات قبل أن يصيبه البلاء) (4)
ومنها: (اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك أنت آخذ بناصيته) (5)
ومنها: (اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار) (6)
ومنها: (اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك، وأنت أرحم الراحمين) (7)
ومنها: (اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائب لي بخير) (8)
ومنها: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا تنزع مني صالح ما أعطيتني) (9)
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
(2) رواه الحاكم، والنسائي.
(3) رواه ابن حبان، والحاكم.
(4) زيادة للطبراني.
(5) رواه الحاكم، عن ابن مسعود وابن حبان.
(6) رواه الحاكم.
(7) رواه الطبراني في (الدعاء) عن أنس.
(8) رواه الحاكم.
(9) رواه البزار وابن الضحاك.
النبي الإنسان (138)
ومنها: (اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأكثر ذكرك، وأتبع نصيحتك، وأحفظ وصيتك.. اللهم أقلني عثرتي، واستر عورتي، واكفني، وأعني على من ظلمني، وأرني ثأري.. للهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه ولا كان لنا قبلك إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد، فنشك فيك ـ أو نشركه فيك ـ تباركت وتعاليت إنك أنت التواب الرحيم) (1)
ومنها: (اللهم أنت فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، اقض عنا الدين، وأغنني من الفقر، ومتعني بسمعي وبصري، وقوتي في سبيلك) (2)
ومنها: (اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء، اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) (3)
ومنها: (اللهم إني أدعوك دعاء من تقطعت دنياه وأردفته آخرته) (4)
ومنها: (اللهم واقية كواقية الوليد) (5)
ومنها: (اللهم إني أدفع بك منا لا أطيق، وبك استعين على ما أريد، يا ذا الجلال والإكرام) (6)
ومنها: (اللهم حبب إلي لقاءك، كما حببت إلي عطاءك، وأعوذ بك من حب الرجعة إلي عند حضور الوفاة) (7)
ومنها: (اللهم إني أسألك العصمة والعفة والأمانة، وحسن الخلق والرضا بالقدر) (8)
__________
(1) رواه ابن الضحاك، وأحمد.
(2) رواه ابن الضحاك، وأحمد.
(3) رواه ابن الضحاك، وأحمد.
(4) رواه ابن عدي، وابن الضحاك.
(5) رواه ابن عدي، وابن الضحاك.
(6) رواه الخطيب.
(7) رواه ابن الضحاك.
(8) رواه البزار، والطبراني.
النبي الإنسان (139)
ومنها: (اللهم إني أسألك العافية لي، ولأهل بيتي) (1)
ومنها: (اللهم لا تخزني يوم القيامة، ولا تخزني يوم البأس) (2)
ومنها: (اللهم لا تسلط علي عدوا أبدا، ولا تشمت بي عدوا أبدا، ولا تنزع مني صالحا اكتسبته أبدا، وإذا أردت فتنة قوم، فتوفني إليك غير مفتون، وأرني الحق حقا أتبعه، وأرني المنكر منكرا أجتنبه، ولا تجعل شيئا من ذلك علي اشتباها فأتبع هواي بغير هدى منك، وأتبع هواي محبتك ورضا نفسك، واهدني لما اختلف فيه من الحب بإذنك) (3)
ومنها: (اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي) (4)
ومنها: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (5)
ومنها: (اللهم لا تمتني غما، ولا غرقا، ولا هدما، ولا حرقا، ولا يسقط علي شئ، ولا أسقط على شئ ولا موليا ولا يتخبطني الشيطان) (6)
ومنها: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، ولا شئ بعده) (7)
بعد أن أنهى علي تلاوة ما ذكرته لكم من أدعية سألته عن الثالث، فقال: أدعية خاصة وردت بها النصوص.. ولها حكم الأذكار الخاصة.. فهي مرتبطة بأوقات أو أحوال معينة.
__________
(1) رواه ابن الضحاك، عن أبي الحسن الشيباني منقطعا.
(2) رواه ابن الضحاك.
(3) رواه ابن الضحاك.
(4) رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجالهما ثقات.
(5) رواه أبو الحسن بن الضحاك، والبزار.
(6) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(7) رواه ابن أبي شيبة.
النبي الإنسان (140)
قلت: فشنف آذاني بسماعها، وأطرب روحي بذكرها.
قال: سلني ما بدا لك.. فلم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا حاجة إلا علمنا كيف ندعو الله عندها.
فكرت قليلا، ثم قلت: ما أكثر ما تعتري الإنسان الهموم والكروب والأحزان، فلا يجد ما يخففها عنه غير مناجاته لربه.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. وقد ورد من ذلك الكثير (1).. ومن ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) (2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) (3)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث الله، الله، الله، لا شريك لك شيئا يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف كرب المؤمنين، ويا أرحم الراحمين، اكشف كربي وغمي فإنه لا يكشفه إلا أنت تعلم حالي وحاجتي) (4)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله الله ربي، لا أشرك به شيئا) (5)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) (6)
__________
(1) جمعنا الكثير المرتبط بهذا مع حكمه في رسالة (ابتسامة الأنين)
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(5) رواه أبو داود وابن ماجه.
(6) رواه أبو داود.
النبي الإنسان (141)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) (1)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحا. قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات. قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن) (2)
قلت: هذا ما يقوله عند الكرب.. فما يقوله عند الفرح.. بل عند العيد.. ذلك اليوم الذي يجمع فيه الكل على الفرح والسرور؟
قال: من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول يوم الخروج إلى العيد: (اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فعافني اللهم بعافيتك من النار) (3)
ومنها ما رواه بعض الصحابة، قال: لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد فقلنا: (تقبل الله منا ومنك، قال: (نعم تقبل الله منا ومنك) (4)
قلت: فما يقول عندما يثقله الدين؟
قال: من ذلك ما حدث به علي: أن مكاتبا جاءه فقال: إني قد عجزت عن كتابتي، فأعني؟ قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عنك؟
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(4) رواه ابن عدي.
النبي الإنسان (142)
قال: قل (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك) (1)
قلت: فما يقول عند المرض؟
قال: من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها) (2)
ومنها ما روي أن بعض الناس شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: (أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) (3)
ومنها ما روي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك، باسم الله أرقيك) (4)
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال: لا بأس طهور إن شاء الله، قال: قلت: طهور! كلا، بل هي حمى تفور ـ أو تثور ـ على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فنعم إذا) (5)
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما) (6)
ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرار:
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري.
(6) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (143)
(أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض) (1)
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول للمريض: (بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا) (2)
قلت: فما يقول من احتار في أمره، فأراد أن يطلب الخيرة من ربه؟
قال: ذلك يسمى دعاء الاستخارة، وله صلاة خاصة به تسمى (صلاة الاستخارة) (3)، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على توريثه لورثته، فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به. قال: ويسمي حاجته) (4)
قلت: فما يقول من ارتفع الخيرة عنه، وأراد من الله أن ييسر له مقصوده؟
قال: ذلك يسمى دعاء الحاجة، وله صلاة خاصة به تسمى (صلاة الحاجة)، وقد وردت صيغتها في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضا وليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن على الله عز وجل، وليصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليقل: (لا إله إلا
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) وقد وردت بصيغ مختلفة منها هذه الصيغة، وهي محل اتفاق بين السنة والشيعة، وإن كان للشيعة صيغ أخرى كثيرة، وكلها صحيحة ومباركة، لكنا هنا نكتفي بالمتفق عليه.
(4) رواه البخاري.
النبي الإنسان (144)
الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين) (1)
ولها صيغة أخرى حدث بها عثمان بن حنيف فذكر أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في) (2)
قلت: فما يقول من افتقر إلى فضل الله بنزول المطر الذي به حياة الأرض؟
قال: لقد سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك صلاة هي صلاة الاستسقاء، ومما ورد في صفتها، وما يقال فيها ما روي: أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس سبتا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب (3)
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: في إسناده مقال.
(2) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) الظراب: الجبال الصغار.
النبي الإنسان (145)
والأودية ومنابت الشجر، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس (1).
وفي حديث آخر: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر، وحمد الله عز وجل، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة)، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين)، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن (2) ضحك صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله) (3)
وفي حديث آخر: أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواكي، فقال: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا، غير ضار، عاجلا غير آجل)، قال: فأطبقت عليهم السماء (4).
قلت: إن بعض ما يحصل في الطبيعة من أحداث قد يملأ القلب مخافة، أو قد يملأها هيبة.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا إذا هاجت الريح.. ففي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الكن: ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن.
(3) رواه أبو داود.
(4) رواه أبو داود.
النبي الإنسان (146)
بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) (1)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الريح من روح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها) (2)
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند سماع الرعد.. فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) (3)
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الغيث.. وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيبا نافعا) (4)
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند كسوف الشمس أو خسوف القمر.. واللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا) (5)
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند رؤية الهلال.. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله) (6)
قلت: إن الميت يحتاج إلى دعاء الحي.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. لقد شرع لذلك صلاة الجنازة.. وسن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها سننا من الدعاء.. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه مالك والبخاري في الأدب المفرد.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه الترمذي.
النبي الإنسان (147)
خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار) (1)
وكان يقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده) (2)
ومما سنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يقال بعد الدفن ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) (3)
ومما سنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يقال عند دخول المقابر ما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) (4)
وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) (5)
-\--\-
ظللت مع جعفر وعلي طيلة ذلك اليوم لا أسأله عن مسألة إلا أجابني عنها بما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد تعجبت كثيرا عندما رأيت ذلك الغنى الذي تحمله سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد والترمذي.
(3) رواه أبو داود.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.
النبي الإنسان (148)
ورد فيها من دعوات يلبي كل حاجة.. يلبيها في منتهى كمالها، وبمنتهى الأدب والرقة والذوق الرفيع مما لم أجد له نظيرا في جميع ما أثر عن أنبياء أو قديسين.
بعد أن لم أجد ما أسأله من مسائل قلت: أسلم لك بأن ما تركه محمد من ثروة في هذا المجال لا يعدله شيء.. ولكن ألا ترى في نفس التوجه بالدعاء قصورا؟
قال: وما القصور الذي فيه؟
قلت: أليس العبد هو الذي صار بين يدي مولاه كالميت بين يدي الغسال، فصار لا يطلب من مولاه إلا مولاه؟
قال: ما قتله صحيح.. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) (1).. ولهذا، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمواقف كثيرة كان يكتفي فيها بتصاريف الأقدار عن الإلحاح في الدعاء.
قلت: لقد سمعت أنه كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع.. ومع ذلك لم يسأل الله رغيفا واحدا.
قال: بل إن في القرآن الكريم ما قد يستدل به على هذا.. لقد ذكر الله تأخر طلب أيوب عليه السلام وصبره تلك الفترة الطويلة، كما قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الانبياء:83).. لقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كان يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم واللّه لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل، حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما تقول غير أن اللّه عزَّ وجلَّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه، فارجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا اللّه إلا في
__________
(1) البخاري في خلق أفعال العباد، وابن شالهين في الترغيب في الذكر، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي.
النبي الإنسان (149)
حق) (1)
وذكر تأخر دعاء نوح عليه السلام على قومه كل تلك السنين الطويلة، فقال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} (العنكبوت: 14)
وذكر تأخر دعاء إبراهيم وزكريا ـ عليهما السلام ـ في طلب الولد إلى أن بلغا من العمر عتيا، فقال تعالى عن زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} (مريم:4 ـ 5)، فزكريا عليه السلام مع علمه بأنه لم يكن بدعاء ربه شقيا، أي ولم يعهد من الله إلا الإجابة في الدعاء، إلا أنه لم يستعمل هذا السلاح إلا بعد أن اضطر إليه اضطرار.
قلت: فكيف نوفق بين هذا وذاك؟
قال: بأن يوضع كل شيء في محله.
قلت: كيف ذلك؟
قال: الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ دعوا الله في مواقف كثيرة، وتركوا الدعاء في مواضع أخرى اكتفاء بالله.. فالكمال في الجمع بين الأمرين.
قلت: ما ضوابط ذلك؟
قال: ليس لذلك ضوابط محددة، ولو كانت هناك ضوابط لما اختلف الناس في هذا الباب.
قلت: فالأمر يرجع إلام؟
قال: يرجع إلى الحالة الوجدانية.. أليس الدعاء علاقة وجدانية بين الله وعبده، فقد يدفع العبد أحيانا، وبدون شعور إلى أن يسأل الله أمرا معينا، فيسأل الله، وقد لا يشعر بذلك الدافع، فيكتفي بنظر الله..
قلت: فقد اختلف الناس كذلك.. فمنهم من اعتبر الدعاء سببا، ومنهم من اعتبره أمارة؟
__________
(1) ابن أبي حاتم.
النبي الإنسان (150)
قال: لكل حظه من ذلك.. أما العارفون المحققون، فلم يروا في الدعاء إلا أمارة على اقتراب فضل الله عليهم.. لأنه لولا ذلك ما وفقهم للدعاء.. وهم في ذلك كالتربة لا تفهم من نزول المطر إلا ما يريده الله لها من حياة..
-\--\-
بقيت مع جعفر سنة كاملة لم أعش في حياتي مثلها.. لقد شعرت بروحي تحلق في الملأ الأعلى.. وشعرت بالكون يرتدي حلة جميلة غير الحلة التي كنت أراه بها.. وشعرت فوق ذلك بأن الله أقرب إلي من حبل الوريد..
قلت: فلماذا فارقته إذن؟
اغرورقت عيناه بدموع حاول إمساكها بشدة، ثم قال: لقد فارقني قبل أن أفارقه.
قلت: هل مات؟
قال: بل قتل..
انتفضت الجماعة قائلة: قتل..!؟.. ما ذنب المسكين!؟
قال: لقد نصب بعض الحمقى له كمينا، فقتلوه مع ابنه علي..
قلت: حتى علي.. ما ذنب الصبي؟
قال: لقد كان أولئك الحمقى يحملون عقولا مشوشة، ونفوسا مملوءة بالأحقاد، وأرواحا مدنسة بالخطايا، فلذلك تصوروه مهرطقا أو مبتدعا، فراحوا يذبون عن سنة نبيهم بقلته.
قلت: فهم يتصورون أنفسهم مجاهدين إذن؟
قال: أجل.. لقد تصوروا أنهم تقربوا إلى الله بسفك دمه.
قلت: أهم مسلمون؟
قال: هم مسلمون.. ولكنهم تربوا في غير مدرسة الإسلام.. لقد حملوا أحقاد الشيوعيين والصليبيين والنازيين والفاشيين وكل العصابات الإجرامية ليصبوها على إخوانهم من المسلمين.
النبي الإنسان (151)
قلت: فكيف نجوت أنت.. وقد كنت صاحبه؟
قال: لقد أنجاني من سيوفهم كوني لم أسلم بعد.. بعد أن قبضوا علي ليطعنوني بسيوفهم صحت فيهم: أنا كافر ولست مسلما.
قلت: فكيف نجوت منهم، وقد قلت هذا؟
قال: عمدا فعلت..
قلت: فماذا فعلوا؟
قال: لقد قرأ لهم بعضهم قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)
فلما قرأها سقط السيف من يد الذي أراد أن يقتلني.. ثم أسمعوني بعض القرآن.. ثم أبلغوني مأمني.
قلت: لقد أشفقوا عليك، فكيف لم يشفقوا على جعفر؟
قال: لقد ذكرت لك أن لهم عقولا مشوشة.. ولا يمكن للعقول المشوشة أن يصدر منها إلا التشويش.
النبي الإنسان (152)
بعد أن خرجت من القدس قصدت بلدة بالعراق يقال لها (كربلاء).. وفيها التقيت الوارث الثاني الذي تعلمت منه حقيقة العبودية لله.. بل رأيتها تمشي أمامي وبين يدي.
ومعها علمت علما يقينيا لا يزاحمه الشك بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو أكمل خلق الله عبودية لله، وأنه لو اجتمعت جميع عبودية العابدين، ووزنت بعبودية محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله لوزنتها عبودية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذلك استحق أن ينادى في أشرف المواطن (عبد الله)
كان اسم الوارث الذي تشرفت بلقائه، والتعلم على يديه هذه العلوم الشريفة (زين العابدين) (1)
وكان أول موقف دلني عليه، وهداني إليه.. أني دخلت ميضأة في بعض المساجد للوضوء، فرأيت النور يشع منه كما يشع من الشمس ليس دونها حجاب.. وفجأة رأيت رعدة أصابته، فاقتربت منه، وقلت له: ما بالك.. يا أخي.. هل أنت مريض؟
نظر إلي، والرعدة لا تزال تملك جسده، وقال: لا.. ولكن أتدري بين يدي من أريد أن أقوم (2)؟
لقد كانت كلماته تبرز من بحر عميق حشي بأعظم لآلئ الإيمان..
حدثني نفسي أن أتبع هذا الرجل.. فلعله من الورثة الذين يمكنني أن أعرف من خلال مرائيهم محمدا..
__________
(1) أشير به إلى علي بن الحسين فقد كان كلقبه (زين العابدين)
(2) الحادثة كما رواها عبد الرحمن بن حفص القرشي قال: كان علي بن الحسين إذا توضأ يصفرّ فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟
وعن عبد الله بن أبي سليم قال: كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: ما تدرون بين يدي مَن أقوم ومن أناجي؟
النبي الإنسان (153)
وقفت خلفه في الصلاة.. فلم أر صلاة كصلاته.. ولا خشوعا كخشوعه.. ولا سمتا كسمته (1)..
كان يبدو بمجرد تكبيره تكبيرة الإحرام، وكأنه قد انتقل إلى عالم آخر لا علاقة له بهذا العالم..
خرج من المسجد بعد أن صلى وأطال في صلاته حتى لم يبق في المسجد غيره..
في الطريق لقيه بعض الناس، وقال: يا زين العابدين.. إن فلاناً قد آذاكَ ووقع فيك.
نظر إليه، والابتسامة تملأ وجهه، وقال: انطلق بنا إليه..
سرت خلفهما، لأنظر المعركة التي يريد أن يقيمها هذا الرجل مع عدوه..
ما إن وصل حتى أسرع إليه يصافحه، ويسلم عليه، فتعجبت عجبا عظيما من هذا الموقف، واقتربت لأسمع ما يقال، فسمعته يقول له: يا أخي، إن كان ما قلتَ في حقاً فغفر الله لي، وإن كان ما قلت في باطلاً، فغفر الله لك.
قال ذلك، ثم انصرف.. وكأنه يعد الكلام عدا..
لم يملك الرجل إلا أن يسرع إليه، ويلتزمه، وهو يبكي، ويقول: لا جرم، لا عدت في أمر تكرهه.
نظر إليه زين العابدين نظرة مملوءة بالرحمة، وقال: وأنت في حلٍ مما قلت لي (2).
بعد أن امتلأت من حب هذا الرجل.. سألت بعض المارة عنه، فأجابني، وعيناه تغرورقان
__________
(1) روي أنه وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يابن رسول الله النار، يا ابن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتى أُطفئت. فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني عنها النار الأخرى.
(2) وقد روي مثل هذا أحاديث كثيرة عن زين العابدين منها أن رجلا كلّمه افترى عليه، فقال: إن كنّا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك. فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: جعلت فداك، ليس كما قلت أنا فاغفر لي، قال: غفر الله لك. فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
النبي الإنسان (154)
بالدموع (1):
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته... والبيت يعرفه والحل والحرم... وطأته،
هذا ابن خير عباد الله كلهم،... هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة، إن كنت جاهله،... بجده أنبياء الله قد ختموا
كلتا يديه غياث عم نفعهما،... يستوكفان، ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة، لا تخشى بوادره،... يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام، إذا افتدحوا،... حلو الشمائل، تحلو عنده نعم
ما قال: لا قط، إلا في تشهده،... لولا التشهد كانت لاءه نعم
عم البرية بالإحسان، فانقشعت... عنها الغياهب والإملاق والعدم
يغضي حياء، ويغضى من مهابته،... فما يكلم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحه عبق،... من كف أروع، في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته،... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
الله شرفه قدما، وعظمه،... جرى بذاك له في لوحه القلم
أي الخلائق ليست في رقابهم،... لأولية هذا، أو له نعم
من يشكر الله يشكر أولية ذا؛... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
ينمى إلى ذروة الدين التي قصرت... عنها الأكف، وعن إدراكها القدم
من جده دان فضل الأنبياء له؛... وفضل أمته دانت له الأمم
مشتقة من رسول الله نبعته،... طابت مغارسه والخيم والشيم
ينشق ثوب الدجى عن نور غرته... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
من معشر حبهم دين، وبغضهم... كفر، وقربهم منجى ومعتصم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم،... في كل بدء، ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم،... أو قيل: من خير أهل الأرض؟ قيل: هم
لا يستطيع جواد بعد جودهم،... ولا يدانيهم قوم، وإن كرموا
هم الغيوث، إذا ما أزمة أزمت،... والأسد أسد الشرى، والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم؛... سيان ذلك: إن أثروا وإن عدموا
يستدفع الشر والبلوى بحبهم،... ويسترب به الإحسان والنعم
حركتني هذه الأبيات لطلب صحبته.. فقصدته، فوجدته يتحدث مع بعض القوم عن العبودية لله ومظاهرها.. فانتظرت حتى انتهى، وقلت: عهدي بالروحانيين من المسلمين وغيرهم يصنفون السالكين إلى الله أو الواصلين إلى الله أصنافا عديدة، فمنهم العارفون، ومنهم العباد، ومنهم الزهاد، ومنهم أهل الفتوة والمروءة..
وعهدي ـ كذلك ـ بهؤلاء يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا.. فللعارف حظه من عبودية السير الباطني، وللعابد حظه من عبودية السير الظاهري.. فمن أي هؤلاء أنت؟
قال: أنا أسعى لأن أكون من أهل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: 208)
قلت: ما علاقة الآية بهذا؟
قال: عندما سقط ورثة الأنبياء في هاوية الجزئية انفصلوا عن أنبيائهم.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا
__________
(1) هذه القصيدة في الأصل للفرزدق، وقد قالها في مدح زين العابدين وقصتها هي ما روي أن هشام بن عبد الملك حج قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه، فجاء علي بن الحسين فوقف له الناس وتنحوا حتى استلم، فقال الناس لهشام: من هذا؟ قال: لا أعرفه.
فقال الفرزدق: لكني أعرفه، هذا علي بن الحسين.. ثم قال القصيدة.. وننبه إلى أنا نقلناها هنا مع بعض التصرف.
والغرض من ذكرها هنا هو تبيان صفات العابد الوارث للنبي (.. وقد أحسن الفرزدق في جمعها أيما إحسان.
النبي الإنسان (155)
الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169)
فهؤلاء الذين ورثوا الكتاب ـ ولكنهم لم يرثوه حقائق تنبني عليها حياتهم، وإنما ورثوه رسوما وطقوسا ـ صاروا يختارون من دينهم ما يتناسب مع أهوائهم، فيقبلون ما تشاء أهواؤهم، ويرفضون ما ترفضه.
ولذلك، فإن الوارث الحقيقي هو الذي يقف كالميت بين يدي الغسال في كل ما يأتيه عن نبيه، لا يجادل، ولا يقدم رأيه على رأيه، ولا سلوكه على سلوكه، ولا فهمه على فهمه.
قلت: فهل هذا هو معنى العبودية؟
قال: أجل.. العبودية هي الخضوع التام لله.. والخضوع التام لله لا يكون إلا عن معرفة بالله.. ومن عرف الله زهد في غيره.. ومن عرف الله كان له من المروءة ما ينتشر به خيره على غيره.
قلت: فالعابد إذن تجتمع له جميع خصال الروحانيين؟
قال: لن تكتمل عبوديته إلا بذلك.. كما لا يكتمل عرفان العارفين، ولا زهد الزاهدين، ولا ورع الورعين، ولا مروءة الفتيان إلا باجتماع كل ذلك.
قلت: لقد شرفني الله بصحبه رجل من أهل الله عرفت من خلاله من معرفة محمد بالله ما لا يمكن أن يحصيه الحاصي.
قال: ذلك شيخي وأستاذي وقدوتي.
قلت: من تقصد؟
قال: ألست تقصد جعفرا الذي يلقب بالصادق؟
قلت: أجل.. فكيف عرفت؟
قال: لقد صحبته زمنا.. وكل ما تعلمته وورثته نور من أنواره.. وقبسات من هديه.. وقد صار لي فراسة أعرف بها كل من صحبه أو لقيه.
قلت: فلن أستفيد ـ إذن ـ منك شيئا جديدا.
النبي الإنسان (156)
قال: لا.. ستستفيد أشياء جديدة تعرفك بالإنسان الكامل الذي تبحث عنه.
قلت: أرى لك فراسة عجيبة.
قال: دعنا منها.. وأجبني: هل يمكن لمن عرف الله، وتلذذ بمعرفته أن يرغب عنه؟
قلت: وكيف يرغب عنه؟
قال: بالالتفات إلى غيره، والخضوع لغيره، والتسليم لغيره.
قلت: من عرف الله كما عرفه الصادق، فلن يقع في مثل هذا.
قال: فالعبودية ثمرة المعرفة.. ومن عرف الله أقبل إليه بكل كيانه، وذلك الإقبال هو العبودية.. فالعبودية خضوع تام لله.. خضوع راغب مقبل محب متذلل.. لا خضوع كاره مبغض مكره.
قلت: فكيف تكون هذه العبودية؟
قال: لقد بحثت في دفاتر الوراقين عن رجل اكتملت له العبودية لله لأجعل منه النموذج الأكمل الذي أهتدي بهديه وأستنير بنوره.. فلم أجد فيها إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو الإنسان الوحيد الذي اكتملت له العبودية لله بكل تجليات جمالها.
قلت: فحدثني عن عبودية محمد لربه؟
قال: لقد اتصفت عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه بصفتين.. من اجتمعت فيه اكتملت له وراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الجانب، ومن كان له بعضها كان له من القصور بحسب تفريطه في سائر الجوانب.
قلت: فما هي؟
قال: ما كنت قرأته عليك.
قلت: تقصد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)
النبي الإنسان (157)
قال: أجل.. فقد جمعت هذه الآية الكريمة أركان العبودية لله، من الخضوع التام لله، والذي يجعل العبد خاليا من أي شائبة من شوائب الشرك، ومن شمول ذلك الخضوع، فلا يترك العابد طريقا من الطرق إلا سلكه.. ليس له قصد من سلوكه غير مرضاة الله.
قلت: فهل تحدثني عن تحقق محمد بهذين الجانبين.
قال: إن شئت ذلك.
قلت: وكيف لا أشاء.. وأنا ليس لي من هدف في الحياة إلا البحث عن الإنسان الكامل.
قال: فهلم معي إلى البيت، فإن لي شؤونا فيه مما تقتضيه العبودية، وسنتحدث في الطريق وفي البيت عما تشاء الحديث عنه.
سرت مع زين العابدين إلى بيته، وقد تعجبت عندما لاحظت بعده عن مركز المدينة.. لقد كان في ضاحية من ضواحي كربلاء، بل يكاد يكون في ريف من أريافها.
قلت له: إنك تبذل جهدا كبيرا للوصول إلى المدينة..
قال: أنا لي أسوة برجلين ذكرهما الله تعالى ليكونا عبرة لنا في الخضوع التام لله في جميع الظروف.
قلت: من هما؟
قال: أما أولهما، فهو الرجل الذي جاء يحذر موسى من الملأ الذين يأتمرون لقتله، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (القصص:20)
وأما الثاني، فهو الرجل الذي جاء ينتصر لرسل الله، ويحث قومه على اتباعهم، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (يّس:20)
النبي الإنسان (158)
قلت: لقد ظللت متعجبا من ذكر القرآن لجملة: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}، فقد كنت أرى أنها نوع من الحشو مع أن القرآن ـ حسب معرفتي به ـ لا يميل إلى الحشو ولا الإطناب، بل هو يختصر الكلام اختصارا.
قال: إن القرآن الكريم بذكره لهذا يدلنا على شرط من شروط العبادة، فالعابد رجل (1) اكتملت فيه الرجولة، فراح لا يبالي بشيء من أجل أن يمارس ما تتطلبه العبودية من حقوق.
قارن هذين الرجلين اللذين لم يقف في وجه ما أحسوا أنهم مطالبون به من عبودية لله بأولئك الذين راحوا يبحثون عن المبررات التي تقف بينهم وبين عبودية لله..
لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم نماذج من هؤلاء، فقال ـ عند ذكره لمواقف الناس في غزوة الأحزاب ـ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)} (الأحزاب)
وذكر إخوانا لهم قعد بهم الكسل وما أوحت إليهم نفوسهم به من التهاون في طاعة الله والكسل عنها، فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى
__________
(1) نريد بالرجولة هنا معناها الشرعي، والذي لا يختص بالذكور، فهي تدل على جملة من الخصال الكريمة كنا قد أشرنا إليها في كتاب (العشرة الزوجية) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) عند حديثنا عن معنى القوامة وشروطها، وفي اللغة ما يساعد على تعميمها على الرجال والنساء، كما قال الشاعر:
كلُّ جار ظَلَّ مُغْتَبِطاً غيرَ جيران بني جَبَله
خَرَقُوا جَيْبَ فَتاتِهم لم يُبالوا حُرْمَة الرَّجُله
وحكى ابن الأَعرابي أَن أَبا زياد الكلابي قال في حديث له مع امرأَته: (فَتَهايَجَ الرَّجُلانِ)، يعني نفسه وامرأَته كأَنه أَراد: (فَتَهايَجَ الرَّجُلُ والرَّجُلة)، فغَلَّب المذكر، وتَرَجَّلَتِ المرأَةُ صارت كالرَّجُل. انظر: (لسان العرب، مادة: رجل)
النبي الإنسان (159)
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} (الأحزاب)
وفي مقابل هؤلاء ذكر أصحاب الخضوع المطلق لله.. أولئك {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)
قلت: أليس هذا هو الركن الأول من أركان العبودية اللذين ذكرتهما لي؟
قال: أجل.. فلا يمكن للعبودية أن تتحقق لمن لم يستسلم استسلاما مطلقا لله، فراح لا يختار في عبودية ربه إلا ما اختار الله له.. لقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعزم على هذا، ويمارسه في حياته جميعا، فقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162)
وقد ضرب له المثل بإبراهيم عليه السلام الذي جعله خضوعه المطلق لله يقدم ولده قربانا لله لما تطلبت منه عبودية الله أن يفعل ذلك، لقد ذكر الله تعالى ذلك، وصوره في أحسن تعبير، فقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} (الصافات)
وهكذا جميع أهل الله من الملائكة والأنبياء والمقربين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فإنهم لم يمارسوا في حياتهم جميعا إلا ما يقتضيه الخضوع المطلق لله:
لقد قال الله تعلى يصفهم، ويصف خضوعهم المطلق لله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} (النساء:172)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (لأعراف:206)، وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
النبي الإنسان (160)
وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الانبياء:19)
انظر.. هؤلاء المقربون الموصوفون في هذه الآيات كلهم وصفوا بالعبودية المطلقة لله، فهم لا يستكبرون عنها ولا يأنفون ولا يتعاظمون ولا يستحسرون (1) فيعيون وينقطعون.
ولهذا، فإن أعظم شرف يناله المؤمن ويستحق به تقريب الله هو أن تصح نسبته إلى العبودية لله..
فالله تعالى يشرف عباده المقربين بنسبته إليه، فيقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)، ويقول: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الانسان:6)
وهو يجعل البشارة المطلقة لعباده، فيقول: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17)
وهو يجعل الأمن المطلق لهم فقال: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (الزخرف:68)
وهو يعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر:42)، وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الاسراء:65)
وهو يثني على أشرف خلقه وأكرمهم بهذا الوصف، فيقول عن إبراهيم وإسحق ويعقوب: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (صّ:45)
ويقول عن داود: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (صّ:17)
ويقول عن سليمان: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (صّ:30)
ويقول عن أيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ
__________
(1) يقال حسر واستحسر: إذا تعب وأعيا.
النبي الإنسان (161)
إِنَّهُ أَوَّابٌ} (صّ:44)
ويقول عن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} (الزخرف:59)
ويقول عن أكرم خلقه وأعلاهم منزلة، فيقول ذاكرا أشرف مقاماته مقام تنزل القرآن: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23)، ويقول: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1)، ويقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (الكهف:1)، ويقول: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحديد:9)
وفي مقام دعوته إلى الله، وخضوعه المطلق لله فيها يقول: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجن:19)
ويذكر تكريمه له برحلة الإسراء، فيقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الاسراء:1)
ولهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتقد أن أعظم مدح وإطراء يطرى به هو أن تذكر عبوديته لله.. فالعبودية أشرف وصف يناله العابد لله.
لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) (1)،
وفي حديث آخر: (لو شئت لسارت معي جبال الذهب، أتاني ملك إلى حجرة الكعبة، فقال: إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: إن شئت كنت نبيا، ملكا وإن شئت نبيا عبدا، فأشار
__________
(1) رواه البخاري.
النبي الإنسان (162)
إلى جبريل: أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا) (1)
قلت: ألا ترى أن ما ذكرته من وصف محمد بالعبودية وما تقتضيه من تكاليف يتنافى مع ما يذكره العارفون من أن العبد يصل في رحلته إلى الله إلى مقام تسقط عنه فيه التكاليف، وترتفع عنه بالتالي العبودية؟
احمر وجهه، وبدا عليه غضب، وقال: من قال من العارفين ذلك؟.. إن العارفين أعظم من أن يقعوا في مثل هذه الترهات.. لقد صحبت الكثير منهم، وعرفت في التاريخ سير أكثرهم، ولم أرهم يرددون إلا ما قاله أبو الحسين النوري عندما قال: (من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد علم شرعي، فلا تقربنه، ومن رأيته يدعي حالة باطنة لا يدل عليها ويشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه).. وهكذا كل العارفين والمقربين من أهل الله أهل الوارثة الكاملة.
قلت: ولكن ألا ترى في خضوع الرسوم والطقوس ما يشغل صاحبه عن خضوع القلب.. أليس المطلوب في العبادة قلب الإنسان؟
قال: المطلوب في العبادة الإنسان بكل لطائفه.. لا قلب الإنسان وحده.. فالخاضع هو الذي خضع كل كيانه لله، فصار يردد ما كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يقول وهو ساجد: (اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقَلَّتْ به قدمي لله رب العالمين) (2)
وحين كان يقول وهو مستلق على فراشه ليؤدي ما أمر به من النوم حفاظا على طاقات جسده: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة، واجعلهن من آخر كلامك،
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) رواه أحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.
النبي الإنسان (163)
قال: فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت. قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت) (1)
قلت: إن ما ذكرته من ارتباط الكمال الإنساني بالخضوع المطلق قد لا يسلم لك، فالكامل ـ في منطق البشر ـ هو من تحرر لا من خضع.
نظر إلى السماء بعين ممتلئة دموعا كان يحاول دفعها بكل جهده، ثم أنشد بلحن عذب:
شرف النفوس دخولها في رقهم.. والعبد يحوي الفخر بالتمليك
قلت: ما تقصد؟
قال: أرأيت لو أوقفك ملك الملوك ببابه، وأذن لك كل حين بزيارته، والحديث معه، وأنت مع كل ذلك تتمتع بفضله وبره وإحسانه ولطفه لا ينقصك شيء من كل ذلك.. ثم قال لك محذرا: إياك أن ترغب عني إلى غيري ممن لا يزيدك إلا ألما وشقاء وعناء.. أكان في قوله هذا ما يضر بحقيقتك وحريتك؟
قلت: ما دمت أجد كل حاجاتي عنده، وما دامت كل لطائفي تغذى ببره، فمن الغبن أن أنصرف عنه إلى سواه.
قال: فهذه هي العبودية، وهذا هو سر الخضوع.. فالخضوع لله تحرر ممن سواه من الشهوات والأهواء والشياطين التي تقيد الإنسان بأبشع أنواع القيود.
بينما نحن كذلك إذ قدم ابن له يحمل كتابا، وأخذ يقول، وكأنه يخاطبني: اسمع ما ورد في هذا الكتاب.
قال ذلك، ثم أخذ يقرأ بخشوع لا يقل عن خشوع أبيه: ولقد صدق بعض العارفين لما قال له بعض الأمراء: سلني حاجتك، فقال له العارف: كيف تقول لي هذا، ولي عبدان هما سيداك، فقال: ومن هما؟ قال: الحرص والهوى، فقد غلبتهما وغلباك، وملكتهما وملكاك.. وقال بعضهم
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (164)
لبعض الشيوخ: أوصني، فقال له: كن ملكا في الدنيا تكن ملكا في الآخرة، قال: وكيف أفعل ذلك؟ فقال: ازهد في الدنيا تكن ملكا في الآخرة.. معناه اقطع حاجتك وشهوتك عن الدنيا، فإن الملك في الحرية والاستغناء) (1)
أغلق الكتاب، وراح إلى سبيله، سألت زين العابدين عن ابنه هذا، فقال: هذا ابني الأصغر، وقد سميته على جد من أجدادي كان اسمه الباقر (2)، وهو رجل جمع الله له بين العلم والعبادة، وقد سألت الله أن يكون كجده عالما عابدا.. فلا خير في علم لا يصحبه عبادة، ولا في عبادة لا يصحبها علم.
قلت: لكنه لم يحينا.. أم أنك أهملت تأديبه في هذا؟
قال: لا.. أنا لم أهمل تأديبه.. ولا هو قصر في الأدب.. ولكنه ـ كما تراه ـ مشغول بالعوالم التي توحي له بها الكلمات.. فلذلك انشغل بها عن غيرها، أو غاب بها عن غيرها.. ولو رآك في غير هذه الحال لحياك وتعامل معك بما يقتضيه الأدب من المعاملات.
قلت: لا بأس.. فلنرجع إلى موضوعنا.. لقد عرفت أن الخضوع لا يعني إلا اكتمال الحرية.. وعرفت ـ بناء على ذلك ـ أن الإنسان الكامل هو الذي اكتملت له العبودية، لأنه لا تكتمل حريته إلا بذلك.. ولكني أرى القرآن يصف كل شيء بالعبودية لله.. ففي القرآن: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} (مريم)، وبذلك يدخل المؤمن والكافر في هذا الشرف..
ومثل ذلك: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (الفرقان:17)، فقد اعتبرهم عبيدا له مع كونهم من أهل الضلال.
ومثل ذلك: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
__________
(1) المقصد الأسنى:67.
(2) أشير به إلى الإمام الباقر أحد أئمة أهل البيت الكبار.
النبي الإنسان (165)
عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر:46)
ومثلها جميعا: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:108).. وغيرها من الآيات التي تنسب هذا الشرف لكل الكائنات.. والتي يدخل فيها صالحها ومنحرفها، وطيبها وخبيثها.. فأي امتياز بعد هذا لمحمد، ولمن ذكرت من الأنبياء والصالحين من وصف القرآن لهم بالعبودية؟
قال: العبودية ـ كما عرفت ـ تعني الخضوع المطلق.. فالطريق المعبد لا يكون معبدا إلا إذا كان مذللا بوطء الأقدام.. والعبودية بهذا تشمل كل شيء.. فكل ما خلق الله خاضع لله ابتداء وانتهاء.. وجودا واستمرار وجود.. فالله هو القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره.. ومن كان بهذه الصفة كان عبدا لا محالة رضي أم لم يرض.
قلت: فما الشرف الذي ناله من ذكرت من العباد؟
قال: شرف الرضى بالعبودية.. وشرف السير الاختياري حسب مقتضياتها.. ففرق بين عبد لا هم له إلا التفكير في الإباق من رق سيده، بل لا حلم له في حياته إلا هذا الإباق.. وبين عبد استسلم استسلاما كليا لمولاه، بل هو يعتبر وقوعه في عبودية مولاه هي الشرف الذي لا شرف فوقه، والعزة التي لا عزة فوقها.
قدم ابنه، وهو يحمل كتابا.. وراح يقرأ من غير أن يلتفت إلينا: (قال بعض العارفين: من ادعى العبودية، وله مراد باق فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد سيده، يكون اسمه ما يسمى به، ونعته ما حلي به، إذا دعي باسمه أجاب عن العبودية، فلا اسم له ولا رسم ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده) (1)
قال ذلك، ثم انصرف كما فعل في المرة الأولى، قلت: ما شأن الباقر.. ما باله يأتي، ثم سرعان ما يذهب..
__________
(1) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب.
النبي الإنسان (166)
ابتسم زين العابدين، وقال: لقد ذكرت لك أنه مشغول بعوالم الكلمات التي يسمعها أو يقرؤها.. إنه ـ أحيانا ـ يوقظني ليلا ليسمعني لطيفة من لطائف العلم، أو حقيقة من حقائق المعرفة.
قلت: بورك لك فيه.. ولا أرى إلا أن له شأنا..
لم يلتفت زين العابدين لما ذكرت.. بل راح يكمل حديثه، وكأنه لم يقاطع بشيء، قال: لقد فرق القرآن في أسلوبه بين العبودية المطلقة عن شرط الرضا، وبين العبودية المقيدة به.. ولذلك لن يصعب عليك أن تدرك الفرق بين العبوديتين.
قلت: فهل تحقق محمد بهذا الخضوع المطلق لله؟
قال: ليس هناك في الدنيا من تحقق به مثل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان يمثل الخضوع المطلق لله في أجلى تصوراته.. إنه لم يختر إلا ما اختار الله له، ولم يسلك في حياته إلا السبل التي أمره الله بسلوكها..
لقد قضى محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياته جنديا لله.. لا ينفذ إلا ما يأمره الله به.. وهو في كل ذلك ممتلئ شوقا وفرحا وسرورا.. لا يصيبه ما يصيب الناس من الكلل والملل، ولا يصيبه ما يصيبهم من الألفة والضجر.
قلت: عرفت الركن الأول من أركان العبادة.. فما الركن الثاني؟
قال: القنوت..
قلت: ما القنوت؟.. أتراه ذلك الذي يقال في الصلاة.
قال: القنوت هو أن تعطي لكل لطيفة من لطائفك حقها من العبودية، وأن تعمر كل وقت من أوقاتك بالعبودية المرتبطة به.
النبي الإنسان (167)
قلت: فما عبودية اللطائف؟
قال: لقد خلق الله الإنسان مركبا من لبنات كثيرة.. ولكل لبنة قبلتها الخاصة التي تتوجه من خلالها بالعبودية إلى الله.. فمن وجه لطائفه إلى القبلة التي أمره الله بالتوجه بها إليها، فقد حقق لها حقها من العبودية.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وحث عليه، ومارسه، ودعا الناس إلى ممارسته، لقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظما عن طريق الناس، وأمر بالمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين وثلاثمائة السلامى، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار) (1)
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة ويعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة) (2)
وذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى الطريق. والحياء شعبة من الإيمان)
ولذلك نرى في النصوص الدلالة على أفعال الخير الكثيرة، واعتبارها من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الجامع الدال على ذلك: (كل معروف صدقة) (3):
ومن ذلك ما أخبر به من قصة الرجل الذي سقى كلبا، فغفر له بسبب ذلك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري.
النبي الإنسان (168)
يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له) قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: (في كل كبد رطبة أجر) (1)
ومنه ما أخبر به في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين) (2)
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة) (3)
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة) (4)
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها) (5)
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) (6)
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز (7) ما من عامل يعمل بخصلة منها
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه مسلم.
(7) المنيحة: أن يعطيه إياها ليأكل لبنها ثم يردها إليه.
النبي الإنسان (169)
رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة) (1)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يوجه كل واحد من أصحابه إلى العبادة المتناسبة معه:
ومن ذلك ما روي عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله والجهاد في سبيله) قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: (أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تعين صانعا أو تصنع لأخرق) قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك) (2)
وعنه أن ناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) (3)
وعنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) (4)
وروي أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: (إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟) فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: (بني سلمة: دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم) (5)
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.
النبي الإنسان (170)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجه نساء المسلمات بأن يتصدقن بما أطقن، ويقول: (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن (1) شاة) (2)
ما استتم زين العابدين حديثه هذا حتى جاء (الباقر)، وفي يده كتبه، وراح يسأل أباه قائلا: لقد رأيت اختلاف العلماء في تفاضل بعض العبادات.. وقد توقفت في بعضها، فلم أدرك فضل بعضها على بعض.
قال زين العابدين: وما هي هذه العبادات التي توقف الباقر فيها؟
قال الباقر: الزراعة والصناعة والتجارة.. فإني بعد البحث المضني لم أعرف أي عبادة من هذه العبادات أفضل من غيرها.
ذلك أني وجدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الزراعة: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)
ووجدته يقول في الصناعة: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)
ووجدته يقول في التجارة: (التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء)
قال زين العابدين: أراك نسيت حديث النيات.. ألم تكن تحفظه وتبحث عن معانيه؟
قال الباقر: بلى.. وهل يدخل في هذا الباب؟
قال زين العابدين: أجل.. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو
__________
(1) الفرسن من البعير كالحافر من الدابة، وربما استعير في الشاة.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (171)
امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1)
قال الباقر: بلى.. والحديث متفق على تصحيحه.
قال زين العابدين: فالأعمال مطلقة.. يدخل فيها كل ما يمارسه الإنسان من تصرفات.
قال الباقر: أعرف ذلك.. ولكني أسأل عن أفضل الأعمال، لا عن النيات.
قال زين العابدين: الأعمال الفاضلة تحدد بشيئين: النيات، والأوقات.. فالأعمال الصالحة تربو درجاتها بالنيات الصالحة، وعندما تعمل في أوقاتها المحددة.
قال الباقر: أتدري يا أبت.. إن ما ذكرته من الأوقات ذكرني بنص كتبه بعض العلماء.. إن أذنت لي، وأذن لي ضيفك الكريم قرأته لكما.
قال زين العابدين: اقرأ يا ولدي.. فنحن لم نكن نتكلم إلا في هذا الباب.
فتح الباقر الكتاب، وراح يقرأ (2): (أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع. وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) ما نذكره هنا من كلام ابن القيم منقول بتصرف من (مدارج السالكين: 1/ 91 وما بعدها)
النبي الإنسان (172)
بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه)
بعد أن قرأ الباقر النص سألته: فهل تحقق محمد بكل هذا؟
النبي الإنسان (173)
رأيت وجهه قد تغير تغيرا شديدا، وقال: كيف تقول هذا.. إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو المعلم الأكبر لعبادة الله.. وهو أعرف العارفين بالله.. وهو أعبد العابدين لله.
قلت: إن العبادة كما اصطلحت عليه الأعراف هي الصلاة والذكر وقراءة القرآن والصيام.. فكيف تعمم العبادة بهذا الشكل؟
قال: أنا لم أعمم، بل القرآن الكريم مؤدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعلمه، ومؤدب الأمة ومعلمها، هو الذي علمنا علم ذلك.. فالله تعالى يقول في القرآن: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)
وهو يرد على الذين يغالون في الطقوس، وينسون الحقائق قائلا: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189)
وهو يرد على الذين يهتمون بالقرابين، ويغفلون عن التقوى التي هي الأصل في التقربات، فيقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37)
قلت: وعيت هذا.. ولكني أرى قوما من الناس يرددون ما تردد أنت وأبوك.. وهم لا يقصدون من ذلك إلا ما يقصده الكسالى من تهربهم من مشاق التكاليف، خاصة ما كان منها من قبيل النوافل، فهم لا يقومون ليلا، ولا يصومون نهارا، ولا يذكرون الله إلا قليلا.. فإذا ما عوتبوا في ذلك ذكروا عن العبادة ما ذكرت.
قال: كيف تقول هذا فيمن نزل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى
النبي الإنسان (174)
أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (الاسراء:79)، ونزل عليه قبلها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)} (المزمل)؟
قلت: هذه أوامر.. والأوامر قد تنفذ، وقد يفرط فيها.. ولم نر أحدا من الناس يستدل على فعل فعله بأنه أمر به.
قال: كلهم يصدق عليه ما ذكرت إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد تمثلت فيه جميع حروف القرآن ومعانيه حتى صار قرآنا يمشي على الأرض.
وإن شئت أن أدلك على شهادة شافية كافية، فاكتف بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (المزمل: 20)
وقد تظافرت الشهادات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة:
فعن حذيفة قال: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة وهو يصلي في المسجد، فقمت أصلي وراءه يخيل إلي أنه لا يعلم، فاستفتح بسورة البقرة، فقلت: إذا جاء مائة آية ركع، فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا جاء مائتي آية ركع فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا ختمها ركع فختمها فلم يركع فلما ختم، قال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح آل عمران فقلت: إذا ختمها ركع فختمها ولم يركع وقال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح النساء، فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فلم يركع وقال: (اللهم لك الحمد) ثلاثا ثم استفتح بسورة المائدة، فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فركع فسمعته يقول: (سبحان ربي العظيم)، ويرجع شفتيه فأعلم أنه يقول غير ذلك، فلا أفهم غيره، ثم استفتح بسورة الأنعام، فتركته وذهبت (1).
وعنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة لأصلي بصلاته، فاستفتح الصلاة فقرأ قراءة
__________
(1) رواه عبد الرزاق.
النبي الإنسان (175)
ليست بالرفيعة ولا الخفيفة، قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا، قال: ثم ركع نحوا من سورة قال ثم رفع رأسه فقال: (سمع الله لمن حمده ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم قام نحوا من سورة، وسجد نحوا من ذلك حتى فرغ من الطول وعليه سواد من الليل (1).
وعنه قال: لقد لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد العتمة، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أتعبد بعبادتك فذهب وذهبت معه إلى البئر، فأخذت ثوبه فسترت عليه، ووليته ظهري، ثم أخذ ثوبي فستر علي حتى اغتسلت، ثم أتى المسجد فاستقبل القبلة، وأقامني عن يمينه، ثم قرأ الفاتحة، ثم استفتح سورة البقرة، ولا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا آية تخويف إلا استعاذ، ولا مثل إلا فكر حتى ختمها ثم كبر، فرفع، فسمعته يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ويرد فيه شفتيه حتى أظن أنه يقول: (وبحمده)، فمكث في ركوعه قريبا من قيامه، ثم رفع رأسه ثم كبر فسجد فسمعته يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ويرد شفتيه، فأظن أنه يقول: (وبحمده)، فمكث في سجوده قريبا من قيامه، ثم نهض حين فرغ من سجدته فقرأ فاتحة الكتاب، ثم استفتح (آل عمران) لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا مثل إلا فكر، حتى ختمها، ثم فعل في الركوع والسجود كفعل الأول، ثم سمعت النداء بالفجر، قال حذيفة فما تعبدت عبادة كانت علي أشد منها (2).
وعنه، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل فلما دخل في الصلاة قال: (الله أكبر، سبحان ذي الملك والجبروت والكبرياء والعظمة)، ثم قرأ (البقرة) قراءة ليست بالخفيضة ولا بالرفيعة، حسنة يرتل فيها ليسمعنا، ثم يركع، فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: (سبحان ربي العظيم) ثم يرفع رأسه فكان قيامه نحوا من ركوعه وهو يقول: (سمع الله لمن حمده)، ثم قال: (الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة)، فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول (سبحان ربي الأعلى) ثم رفع رأسه، وكان بين السجدتين نحوا من السجود وكان يقول:
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة.
(2) رواه الحارث بن أسامة.
النبي الإنسان (176)
(رب اغفر لي، رب اغفر لي) حتى قرأ (البقرة) و(آل عمران) و(الأنعام)، و(النساء) و(المائدة) و(الأنعام) قال شعبة: لا أدري المائدة ذكر أو الأنعام (1).
وعن ابن مسعود قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة، فلم يزل قائما، وفي لفظ (فأطال حتى هممت بأمر سوء قلنا ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
وعنه، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان، فركع فقال في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول: (رب اغفر لي رب اغفر لي) مثل ما كان قائما ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلي) مثل ما كان قائما، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال إلى الغداة) (3)
وعن أم سلمة أنها قالت لمن سألها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلاته: (ما لكم ولصلاته وقراءته، كان يصلي العتمة ثم يسبح، ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم يرقد) وفي لفظ (كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصبح ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا) (4)
وعنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ثم ينام قد ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح) (5)
وعنها قالت: كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة التمام وكان يقرأ (بالبقرة) و(آل عمران) و(النساء) فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب إليه (6).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال لي جبريل: قد حبب إليك الصلاة فخذ منها
__________
(1) رواه ابن مالك، وأبو الحسن بن الضحاك، وأبو نعيم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه النسائي.
(4) رواه أحمد، والثلاثة، وأبو الحسن الضحاك.
(5) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
(6) رواه أحمد.
النبي الإنسان (177)
ما شئت) (1)
وعنه قال: بت عند خالتي ميمونة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام ثم قام فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه، ثم خرج إلى الصلاة (2).
وعن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتسوك من الليل مرتين، أو ثلاثا، كلما رقد فاستيقظ استاك وتوضأ، وصلى ركعتين أو ركعة (3).
-\--\-
بقيت في صحبة زين العابدين ثلاث سنوات.. وقد عرفت خلالها أن ألوان العبادة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بمثلها دين من الأديان، ولا فكر من الأفكار.
وعلمت ـ من خلال صحبته ـ علم اليقين أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد العباد.. وأنه لو جمعت عبودية جميع العابدين ووزنت بعبودية محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرجحت عبوديته.
قلت: فكيف ظهر لك أن تفارقه؟
قال: بل هو الذي ظهر له أن يفارقني؟
تعجبنا قائلين: كيف.. هل هجرك بعد إدناء.. وقلاك بعد محبة؟
قال: مثله لا يعرف الهجر.. ولا العداوة.. ولا البغضاء.
قلت: فكيف فارقك إذن؟
قال: لقد كان رجلا لا يتحرك حركة إلا بميزان دقيق.. إن قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (النساء: 103) لم تكن عنده محصورة في الصلاة التي يعرفها الناس..
__________
(1) رواه أحمد، والطبراني، برجال الصحيح.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه الطبراني.
النبي الإنسان (178)
بل كانت الصلاة عنده كل حياته.. فلذلك كانت حياته كلها موقوتة بمواقيتها المضبوطة.
قلت: فهل دق جرس فراقه لك، ففارقك؟
قال: بل جاءته رسالة من بعض البلاد النائية تطلب منه أن يأتي ليبلغ رسالة الله، فراح يسعى كما سعى ذلك الرجل من أقصى المدينة لينصر رسل الله.
النبي الإنسان (179)
خرجت من كربلاء، قاصدا عاصمة العراق (بغداد) قبل أن يزورها أولئك الظلمة الذين خربوا بنيانها، وقتلوا إنسانها، وأتوا بكل معاولهم ليحطموا حضارتها، غير مراعين في ذلك حرمة، ولا مستجيبين لنداء ضمير.
وفي حي من أحيائها العتيقة قصدت سوقا.. لعله أقدم الأسواق على الأرض، وأكثرها عراقة.. كان السلام يطل بأجنحته عليه كما لا يطل على أي سوق آخر، فلم يكن أهله يخشون متفجرات، ولا قنابل، ولا شرطة، ولا عسكرا.. بل ربما لم يكونوا يسمعون بكل ذلك.
شعرت براحة عظيمة لم أدر لها سببا، وأنا أسير في جنباته أتأمل دكاكينه، وما يعرض فيها من مختلف أنواع السلع قديمها وحديثها.
وقد شد انتباهي عدم ارتفاع الأصوات.. فقد كان الباعة كالمشترين سواء بسواء لا يعرفون صخبا ولا صياحا ولا شيئا مما عهدته الأسواق، فصار سنة لازمة فيها.
دخلت أحد الدكاكين، فرأيت البائع يعرض سلعة من السلع على زبون من زبائنه، وقد شد انتباهي أن البائع يبالغ في وصف عيوب السلعة التي يريد أن يبيعها أكثر من مبالغته في وصف محاسنها، وكأنه لا يهم ببيعها، أو كأنه لا يريد أن تخرج من دكانه.
لكن المشتري مع ذلك أصر على شرائها، فاشتراها، وخرج ليترك لي فرصة سؤال البائع عن سر إلحاحه في ذكر عيوب سلعته، فنظر إلي مبتسما، وقال: يظهر أنك غريب عن هذه البلدة، أو عن هذا الحي خصوصا.
قلت: أجل.. هذه أول مرة أدخل هذا الحي، وهذا السوق.
قال: لقد تعاهد أهل هذا السوق على ألا يقع في أسواقهم إلا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وألا ينتهوا إلا عما نهى عنه..
النبي الإنسان (180)
قلت: فما الذي دفعهم إلى ذلك؟
قال: لقد نزل ببلادنا رجل من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال له (بشر) (1).. وقد ملأ قلوبنا ـ بكلامه وسلوكه ـ مهابة من الوقوع في الحرام والشبهات..
لقد دخل علي مرة هذا الدكان، فرآني أعرض السلع الحسنة، وأخفي القبيحة، فذكرني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. جعلته شعاري وديدني في تجارتي.
لقد ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاماً فأعجبه، فأدخل يده فيه، فرأى بللاً، فقال: ما هذا؟ قال: أصابته السماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس).. ثم قال له هذه الكلمة التي هي شعاري، وشعار أهل هذا السوق جميعا: (من غشنا فليس منا) (2)
لقد كان قوله (ليس منا) بديلا عن كل رادع.. فكل مسلم يخاف أن يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة إذا تعلق به: (لست مني)
وقد حدثني بشر ـ ذلك الوارث الورع الفاضل ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بايع بعض الصحابة على الإسلام ذهب لينصرف، فجذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم.
وأخبرني عن تأثير هذه الوصية في ذلك الصحابي، فذكر أنه كان إذا قام إلى السلعة يبيعها بصر عيوبها للمشتتري، ثم خيره وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم) (3)
__________
(1) أشير به إلى بشر بن الحارث الحافي، وهو من أشهر أئمة الورع، ذكر صاحب المجالس أنه تاب على يد الإمام موسى الكاظم، ثم نقل قصة توبته من منهاج الكرامة، وهي أن الإمام الكاظم اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب: فقال لها: يا جارية! صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر فقال: صدقت، لو كان عبدا خاف من مولاه!. فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافيا حتى لقي مولانا الكاظم عليه السلام فتاب على يده.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (181)
وأخبرني أن واثلة بن الأسقع كان واقفاً فباع رجل ناقةً له بثلثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقباً قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقضها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يحل لأحد يبيع بيعاً إلا أن يبين آفته، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا تبيينه) (1)
وأخبرني عن بعض التابعين أنه قال: لو دخلت الجامع وهو غاص بأهله وقيل لي: من خير هؤلاء؟ لقلت: من أنصحهم لهم؟ فإذا قيل: هذا، قلت: هو خيرهم. ولو قيل لي: من شرهم؟ قلت: من أغشهم لهم؟ فإذا قيل: هذا، قلت: هو شرهم.
بينما نحن كذلك إذ سمعنا جلبة في السوق.. فسألت التاجر عنها، فقال: هذا موعد اللقاء الأسبوعي الذي تعود بشر أن يقيمه لأهل السوق ليعرضوا فيه مسائلهم عليه، وليملأ قلوبهم من المواعظ التي تجدد نشاطهم لعبودية أهل الأسواق.
ترك الرجل دكانه مفتوحا، وسار يحث خطاه إلى حيث تجمع الناس.. سرت خلفه.. وقد دهشت لترك أهل السوق محالهم وتجارتهم وزبائنهم وإسراعهم إلى هذا الرجل الذي يدعونه بشرا.. ويلقبونه بالوارث.
كانت سمات الصلاح والورع والوقار تظهر جلية على بشر.. وكأنه بشر الحافي قد عاد إلى الدنيا من جديد ليكون واعظ هذا السوق من أسواق بغداد.
كانت أول كلمة سمعتها منه هو ترديده لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كن ورعاً تكن أعبدَ الناس) (2)
__________
(1) رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد.
(2) رواه ابن ماجة بإسناد حسن.
النبي الإنسان (182)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس) (1)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) (2)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث مَنْ كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُقٌ يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحِلم يردُّ به جهل الجاهل) (3)
ثم راح يذكر النماذج من سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدال على ورعه الشديد الذي لا يضاهيه فيه أحد من الورعين، ومن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) (4)
ومنها ما روي أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كخْ كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة، أو أنَّا لا تحل لنا الصدقة) (5)
ومنها ما ما روي أن امرأة بعثت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فرد إليها الرسول: (أنى لك هذا اللبن؟) قالت: من شاة لي؛ فرد إليها رسولها: (أنى لك هذا الشاة؟) قالت: أشتريتها من مالي؛ فشرب، فلما كان من غد، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله: بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر، فرددت فيه إلي الرسول! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بذلك أمرت الرسل قبلي، أن لا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا) (6)
ومنها ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
(2) رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.
(3) رواه البزار.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه ابن أبي الدنيا في (الورع) والطبراني في الكبير والحاكم وأبو نعيم في الحلية.
النبي الإنسان (183)
فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) (1)
ومنها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة، فقال: (إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه) (2)
بعد أن قال هذا وغيره، نظر إلى المستمعين، وقال: إن أذن المستمعون أن نخص مجلسنا بالحديث عن هذا فعلنا..
قال رجل من الجمع: أجل، على أن تأذن لنا أن نسألك بعدها عن بعض المسائل الخاصة التي عرضت لنا في هذا الأسبوع.
قال بشر: لكم ذلك.. لقد ذكر العلماء أن للورع عن الحرام أربع درجات: درجة العوام، ودرجة الصالحين، ودرجة المتقين، ودرجة الصديقين (3).. ولن يكتمل للوارث التحقق بسنة الورع إلا باكتمال هذه المراتب جميعا.
قال رجل من الجمع: لقد حدثتنا في مجالس سابقة عن درجة العوام.. وذكرت أنها الدرجة التي توجب الفسق لمن اقتحمها، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إليها بقوله: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) (4)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أحمد وابن سعد.
(3) انظر: إحياء علوم الدين، والمحجة البيضاء للفيض الكاشاني.
(4) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (184)
ونحن نريد منك في هذا المجلس أن تبين لنا المقاصد الجليلة التي يحويها هذا الحديث (1)،
قال بشر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في هذا الحديث قاعدة من أهم قواعد الورع، بل هو يذكر الأصل الجامع له.. فهو يذكر أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه، ومثله الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟.. ومثل هذا النوع لا يعلمه إلا الراسخون في العلم.
قال الرجل: فاذكر لنا أمثلة عن هذه الأنواع الثلاثة.
قال: أما الحلال المحض: فمثل أكل الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان، أو الصوف أو الشعر، وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هبة.
والحرام المحض: مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة كالربا، والميسر، وثمن مالا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك.
أما المشتبه: فمثل أكل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه..
قال آخر: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن كلا من الحلال والحرام بين لا شك فيه..
قال بشر: أجل.. فقد أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب، وبين فيه كل ما تحتاجه الأمة من المعارف المرتبطة بأحكام الحلال والحرام، قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89)
قال آخر: ولكنا لا نجد في القرآن الكريم الكثير من الفروع المرتبطة بالحلال والحرام..
قال بشر: لقد حوى القرآن الكريم مجامع الحقائق والتشريعات.. أما التفاصيل فقد وكلت
__________
(1) استفدنا المادة العلمية المرتبطة بشرح الحديث من (جامع العلوم والحكم) لابن رجب بتصرف.
النبي الإنسان (185)
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الله يبين هذه الوظيفة الخطيرة التي وكلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يبين أداءه الكامل لكل ما أنيط به من التكاليف: (تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) (1)
وقد شهد له أصحابه بهذا.. فعن أبي ذر قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما.
ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وآله وسلم، قال عمه العباس: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا، وأحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان فيكم) (2)
قال رجل من الجمع: عرفنا الدرجة الأولى.. وقد سبق لك أن أجبت لنا عن الكثير من الأسئلة المرتبطة بها، فحدثنا عن الدرجة الثانية.
قال بشر: لقد عبر العلماء عن الدرجة الثانية بأنها ورع الصالحين، فهم يمتنعون عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولو رخص المفتي في التناول بناء على الظاهر..
وإلى هذه الدرجة الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (3)
وفي رواية للحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فقال الرجل: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: (إذا أردت أمرا، فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجة.
(2) رواه ابن سعد والدارمي.
(3) رواه أ حمد، والترمذي، والنسائي، وابنُ حبان والحاكم.
النبي الإنسان (186)
للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة) (1)
وفي رواية للحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: فمن الورع؟ قال: (الذي يقف عند الشبهة) (2)
قال رجل من الجمع: فما ضابط هذه الدرجة؟
قال بشر: ضابط هذه الدرجة هي أن تغلب الاحتياط، وأن تبتعد عن حمى الحرام قدر ما أطقت.. فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم: (وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) (3)
فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا لعدي بن حاتم على سبيل التنزيه لا على سبيل الإلزام، بدليل أنه قال لأبي ثعلبة الخشني: (كل منه)، فقال: وإن أكل منه؟ فقال: (وإن أكل)، وذلك لأن حالة أبي ثعلبة، وهو فقير مكتسب لا تحتمل هذا الورع، وحال عدي كان يحتمله.
قال رجل من الجمع: لقد ذكرت أن هذا هو ورع الصالحين.. فكيف نرى بعضهم، وقد سئل عن دم البعوض، فيقول: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (هما ريحانتاي من الدنيا) (4)؟
قال بشر: صدق.. فإن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه.
__________
(1) هذا الحديث ذكره ابن رجب في (جامع العلوم والحكم)
(2) رواه الطبراني بإسناد ضعيف.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري.
النبي الإنسان (187)
وقد سأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها (1)، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه، فيضربها، فلا يفعل.
قال رجل من الجمع: عرفنا الدرجة الثانية.. فحدثنا عن الدرجة الثالثة.
قال بشر: لقد عبر العلماء عن الدرجة الثالثة بأنها ورع المتقين، وهي الامتناع عما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس.
وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى ما لا بأس به مخافة ما به بأس) (2)
ومما يروى في هذا عن بعضهم أنه قال: كنت ساكناً في بيت بكراء، فكتبت كتاباً وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه، ثم قلت: الحائط ليس لي، فقالت لي نفسي: وما قدر تراب من الحائط؛ فأخذت من التراب حاجتي، فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول: يا فلان، سيعلم غداً الذي يقول: وما قدر تراب من حائط.
ومن ذلك ما روي عن آخر أنه كان عند محتضر، فمات ليلاً فقال: أطفئوا السراج فقد حدث للورثة حق في الدهن.
قال رجل من الجمع: عرفنا الدرجة الثالثة.. فحدثنا عن الدرجة الرابعة.
قال بشر: لقد عبر العلماء عن الدرجة الرابعة بأنها ورع الصديقين، فالحلال عندهم كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية، ولا يستعان به على معصية، ولا يقصد منه في الحال والمآل قضاء وطر،
__________
(1) لا نرى أن البر بالوالدين يدخل هذا الباب، لأن البر مصلحة والطلاق مفسدة، ولا يمكن تقديم جلب المصلحة على درء المفسدة إلا إذا كان في طلاقها مصلحة، فيطلقها لأجل ذلك، ومثله ما كان من إبراهيم - عليه السلام - من أمره ابنه إسماعيل - عليه السلام - بتطليق زوجته.. وقد ذكرنا المسألة بتفصيل في سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
(2) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه والحاكم.
النبي الإنسان (188)
بل يتناول لله تعالى فقط وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله، وهؤلاء هم الذين يرون كل ما ليس لله حراماً، امتثالاً لقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91)
وأهل الله من المقربين يقصدون بالورع شيئا آخر أعمق وأجل، وهو تورعهم من أن تمتلئ خواطرهم بغير ذكر الله.. أو تتوجه هممهم لغير قبلة الله..
وفي هذا قال بعضهم: (الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله)، وقال آخر: (ليس يدل على فهم العبد كثرةُ علمه، ولا مداومتُه على ورده، وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه، والتحرر من رق الطمع، والتحلي بحلية الورع)
-\--\-
بعد أن أنهى بشره حديثه مع أهل السوق، اقتربت منه، وعرفته بنفسي، وبمطلبي، فاستقبلني، وسر بي، بل طلب مني أن أصحبه لأتعلم منه علوم الورع التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي خلال صحبتي له علمت علم اليقين أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الورعين.. وأن ما جاء به في هذا الباب لا يلحقه فيه أحد من الناس.
وعلمت ـ من خلال صحبته ـ علم اليقين أن هذه البشرية التائهة لو تخلت عن كبريائها، وجلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلقنها أصول الورع وفروعه لاستغنت بها عن كل القوانين التي تفرضها، وعن كل تلك الجيوش التي تقوم بحمايتها.
قلت: فكيف ظهر لك أن تفارقه؟
قال: قومنا هم السبب.
قلت: كيف ذلك.. وما علاقة قومنا بهذا؟
قال: لقد أرسلوا بطائرتهم وقنابلهم، فأمطروا تلك المدينة الطاهرة، وأمطروا معها ذلك السوق.. وكان من ضحايا تلك الأمطار المجرمة وارث الورع النبوي (بشر الحافي)
النبي الإنسان (189)
خرجت من العراق قاصدا اليمن.. وبمدينة من مدنها تسمى (قرن) (1) نزلت.. لعلكم تعرفونها.. لقد كانت في ذلك الحين مضمخة بعطر الزهد والإيمان، وكأنها تصيح بملء فيها مصدقة بما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الايمان يمان، والحكمة يمانية) (2)
رأيتها، وهي تبادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأشواق حين قال: (أين أصحاب اليمن؟ هم مني وأنا منهم، وأدخل الجنة فيدخلونها معي، أهل اليمن المطروحون في أطراف الأرض، المدفوعون عن أبواب السلطان، يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يقضها) (3)
لست أدري كيف انتابني ذلك الشعور في مدخل تلك المدينة العريقة..
لقد استوى عندي التبر بالتراب.. والأكواخ بالقصور.. والمراكب الفخمة التي أتقن صنعها أهل عصرنا بتلك المراكب البسيطة التي كانت تزدان بها طرقات قرن.
لقد قلت لنفسي: ما فائدة اللهث وراء دنيا تختم بالموت.. وما جدوى الاحتراق بوهج الحرص، وما في القناعة يكفي لحياة مليئة بالسعادة غير مكدرة بأي منغص.
لقد كنت ألاحظ في شوارع تلك المدينة البسيطة المارة وهم ممتلئون بسعادة لم أر لها نظيرا في المدن العالمية الكبرى التي زرتها مع أن أولئك القرنيين لم يكونوا يملكون من الدنيا قليلا، ولا كثيرا.
اقترب مني بعض المارة حين رآني غريبا، وقال: أراك تبحث عن شيء.. فهلا ذكرته لي
__________
(1) (قَرْن) إحدى مدن اليمن، وإليها ينسب أويس القرنيّ..
(2) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى: (أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة، والفقه يمان والحكمة يمانية)
(3) رواه الطبراني في الكبير.
النبي الإنسان (190)
حتى أساعدك في البحث عنه؟
قلت: أنا أبحث عن الإنسان.
قال: كلهم يبحثون عن الإنسان.. وكلهم يتيه في بحثه.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: هم يتعلقون بطين الإنسان، لا بروح الإنسان.. وهم لذلك ينشغلون بما تطلبه طين الإنسان من كلأ وماء.. ويغفلون عما تطلبه روحه من علم وإيمان.. وهم يزنون الناس بما يملكون من أطنان التراب والماء، ولا يزنونهم بما يملكون من حقائق العلم والإيمان.
قلت: لم تزدني إلا يأسا.
قال: اليأس ينبت الشوق، والشوق ينبت الحرص.. ومن حرص على شيء وصل إليه.
قلت: أنا لست حريصا على أي طين ولا علي أي ماء.. أنا أبحث فقط عن الإنسان الذي نفخ فيه روح الإنسان.
قال: ما دمت قد ذكرت ذلك.. فسأدلك على رجل من أهل الله، ومن ورثة رسول الله.. هو بهذه البلاد.. وهو سر بركتها، وسر ما تراه فيها من أمن وسعادة.
قلت: من هو؟.. لم أسمع برجل له مثل هذه البركات.
قال: ولكن هذه البلدة سمعت به.. إنه (أويس القرني) (1).. هو رجل ملأ قلوب الناس قناعة ورضا.. فلم يحسد فقيرهم غنيهم، ولم يشح غنيهم على فقيرهم.. فلذلك لا ترى بينهم لصا ولا غاشا ولا مختلسا ولا محتكرا ولا قاتلا.. ولا شيئا مما تمتلئ به سجون العالم.
قلت: أسرع بي إليه.. فذلك الذي أبحث عنه.
-\--\-
__________
(1) أشير به إلى أويس القرني.. وهو أحد أئمة الزهد الكبار، وقد بشر به رسول الله (في قوله: إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لابره، وكان به بياض فبرئ.. رواه مسلم وغيره.
النبي الإنسان (191)
لقد كان أويس القرني هو الوارث الرابع الذي عرفت منه، بل علمت علما لا يزاحمه الشك بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الزهاد وأكملهم.. وأنه لو اجتمع زهد جميع الزهاد ووزن بزهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوزنه زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سار بي الرجل في شوارع كثيرة قبل أن أصل إلى بيت أويس.. كانت شوارع بسيطة، تخلو من كل مظاهر الترف.. ولكنها مع ذلك نظيفة تفوح من جنباتها الصحة والعافية والسلام.
عندما وصلنا إلى بيت أويس رأينا رجلا يخرج منه، فالتفت إلي صاحبي، وقال: أتعرف هذا؟
قلت: لا.. لقد ذكرت لك أني غريب بهذه الديار.
قال: هذا والي قرن.
قلت: والي المدينة نفسه يزور هذا الرجل!
قال: ويزوره الوزراء والأمراء والملوك.
قلت: لقد ذكرت لي أنه زاهد.. فكيف يزوره كل هؤلاء؟.. وهل ينسجم الزهد مع هذا؟
قال: ألا ترى بيته البسيط؟
قلت: أجل.. وهذا ما زادني عجبا.. فكيف يزور أحد في الدنيا من هذا بيته؟
قال: لا يزورونه إلا لأن هذا بيته..
قلت: فكيف لا يرحمونه بقصر من قصورهم؟
قال: لو طمع في قصورهم ما طمع في قبول زيارته لهم.. ولكنه لما زهد فيهم حرصوا عليه..
لقد عرضوا له من الدنيا ما شاءت لهم نفوسهم أن تعرض.. ولكنه أبى.
قلت: فلم يزورونه؟
قال: لأن كلام الزهاد ينطلق من الروح.. وفي كل إنسان شوق عظيم لأن يسمع كلام
النبي الإنسان (192)
الروح.
قلت: حتى المحاصرون في سجن الجسد؟
قال: أجل.. ألا ترى السجين كيف يشتاق إلى الحرية؟
قلت: بلى..
قال: فكذلك أرواح أولئك المكبلين في قضبان أجسادهم تشتاق لسماع نغمات الأرواح الطيبة التي تنطلق من أفواه الزهاد.
قلت: فهل ينتفعون بزيارته؟
قال: كما لا ينتفعون بزيارة بعضهم لبعض.. إن ما تراه من رشحات الرحمة والعدل التي يبدونها في بعض الأحيان لا تنطلق إلا من هذا البيت وأمثال هذا البيت.
قلت: فلم تتعب المعارضة نفسها في تحقيق مطالبها.. فلو أنها اتخذت بيتا مثل هذا البيت لنالت مطالبها من غير عناء؟
قال: وأين الحرص والطمع؟.. فهما الذئبان العاويان اللذان لا هم لهما إلا القضاء على حقيقة الإنسان.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) (1)
بينما نحن كذلك إذ خرج صبي صغير من البيت، ونادى فينا: من يريد السيد فليدخل.. فإن السيد في انتظاره.
قلت لصاحبي: أترى الصبي يقصدنا؟
قال: أجل.. ألا تراه يلتفت إلينا؟
قلت: فهل تدخل معي.. أم سأدخل وحدي؟
قال: بل ستدخل وحدك.. أما أنا فلن يشق علي أن أزوره في أي حين أردت.
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
النبي الإنسان (193)
دخلت بيتا بسيطا متواضعا، جلس على كرسي من كراسيه شيخ كبير قد عضته السنون بنابها، لكن ملامح الشباب والقوة لا تزال تعمر جوارحه، وكأنه شاب لبس لباس شيخ، أو كأنه شيخ احتفظ بإكسير الشباب ليضمخ به شيخوخته.
ووجدت بجانبه رجلا كهلا قد مد يده يصافحه، وكأنه يهم بالمغادرة، وهو يقول له: سيدي.. يا طبيب القلوب.. قد عرفت الرحم التي بيننا، فأوصني.
فدمعت عينا أويس، ثم قال: (يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تضييعا مني لذلك) (1)
انصرف الرجل، وبقيت وحدي، فالتفت إلي، وقال، والابتسامة تشع من محياه: يزعم الناس أني زاهد، فلا تقل قولهم.. فإن الزاهد من زهد في الحقير، لا من زهد في العظيم.. الزاهد من باع سعادة الأبد بسعادة وهمية سرعان ما ينكشف له عوارها (2).
قلت: من تقصد؟
__________
(1) هذه الوصية مروية عن داود الطائي رواها محمد بن أشكاب قال: حدثني رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوما: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا فأوصني، قال:.. ثم ذكر الوصية. (صفة الصفوة)
(2) حدث أبو محمد العابد قال: دخل أبو يوسف على داود الطائي فقال له: ما رأيت أحدا رضي من الدنيا بمثل ما رضيت به فقال: يا يعقوب من رضي الدنيا كلها عوضا عن الآخرة فذاك الذي رضي بأقل مما رضيت.
وقال حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أفلا أدلك على من رضي بأقل من ذلك؟ من رضي بالدنيا كلها عوضا عن الآخرة.
النبي الإنسان (194)
قال: أقصد هؤلاء الخلق الذين انشغلوا بالأدنى عن الأعلى.. ورضوا بالقليل، وتركوا الكثير.. وباعوا الله وفضل الله ورضوان الله ليشتروا بدله السراب الذي لا يغنيهم من جوع، ولا يرويهم من ظمأ؟
قلت: ولكن الخلق تواطأوا على أن يسموا أولئك (حريصين)، وأن يسموك أنت ومن معك زهادا.
قال: ما أكثر ما يخطئ الخلق في تعابيرهم.. إنهم يسمون الأشياء بغير مسمياتها.
قلت: فممن نتعلم تسمية الأشياء بأسمائها؟
قال: من الله.. لقد علم الله {آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31).. ولكن بني آدم سرعان ما نسوا ما علمهم الله من أسماء، وراحوا يبتدعون ما شاءت لهم أهواؤهم منها.
قلت: فهل ذكر الله في كلماته المقدسة الحرص والزهد؟
قال: لا يمكن للكلمات أن تكون مقدسة ما لم تعلمك حقائق الوجود، وما تقتضيه حقائق الوجود.
قلت: فما قالت كلمات الله المقدسة في هذا؟
قال: لقد امتلأ القرآن الكريم بذكر الذين زهدوا في الآخرة، وباعوها بالدنيا، وامتلأ بذكر ما وقعوا فيه من غبن وخسارة:
فذكر أنهم بتصوراتهم المشوهة عن الدنيا والآخرة واقعون في ضلال بعيد، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (ابراهيم:3)
وذكر أنهم هم الخاسرون، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)
النبي الإنسان (195)
وقارن بين ما كسبوه في الدنيا من متاع قليل، وما ضاع منهم مقابل ذلك من متاع لا يمكن تصور حدوده، فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (القصص:60)، وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:46)
سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب القرآن الكريم للدنيا التي انشغل بها هؤلاء عن الله أمثلة، فإن شئت ذكرت لك منها ما يجلي لك حقيقتها، ويمسح عن عينيك الغشاوة التي تحجبك عن رؤيتها بصورة الحقيقية التي يحاول الدجالون بأنواع الطلاء سترها.
قلت: يسرني ذلك.. فأنت تعلم أني من قوم قد ملأ حب الدنيا قلوبهم، فصاروا يرمون بالجنون والدجل كل من يراها بغير الصورة التي يرونها بها.
قال: ليس عصرك وحيدا في ذلك.. إن إله (حب الدنيا) والشغف بها هو الحجاب الأكبر الذي حال بين الخلق واتباع الحقائق.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)} (النحل)، وقال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:74)، وقال: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70)، وقال: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51)
وذكر سخرية هؤلاء الذين استحبوا الحياة الدنيا بالمؤمنين، فقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة:212)
النبي الإنسان (196)
قلت: إن القرآن يتحدث عن الواقع بشفافية تامة.
قال: وهو يصف الحقائق، ويضرب لها الأمثال بنفس الشفافية..
لقد قَالَ تعالى يصف الحياة الدنيا، ويضرب لها الأمثال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24)، وقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف: 45 - 46)، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} (الحديد: 20)
قلت: أنا لم أجئ إليك لتعرفني بالدنيا وزهادتها، فقد كانت لدي ومعي، وقد رأيت منها ما ملأني زهدا فيها.. ولكني جئتك لأتعرف على الإنسان الكامل.. ذلك الذي نصبه الله علما لعباده يهتدون بهديه، ويسيرون سيرته.
قال: لن يكون الإنسان كاملا حتى يرى الوجود بصورته الحقيقية، فيسير فيه وفق ما تقتضيه الحقائق، لا وفق ما تقتضيه الأهواء.
قلت: فمن هو ذلك الذي لم ينحجب بالأهواء عن الحقائق؟
قال بسرعة، وبصوت عال: ذلك هو الكامل الأكبر.. ذلك هو محمد رسول الله.. هو الإنسان الوحيد الذي اكتملت له معرفة الحقائق، فصار مرآة لتجلياتها، وفهرسا لمفرداتها.. فإن شئت أن تبصر حقائق الأشياء، فأبصرها من خلال مرآته.
النبي الإنسان (197)
قلت: فما قال في الدنيا؟
قال: لقد استن محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسنة القرآن في ضرب الأمثال، فراح يعلم كل من يتعلم على يديه حقيقة الدنيا، وحقيقة المواقف حولها، ليسير تلاميذه فيها وفق ما تقتضيه الحقائق، لا وفق ما تقتضيه الأهواء.
لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر، فقال: (إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فقال رجل: أوَيأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضاءَ، وقال: أين هذا السائل؟ ـ وكأنه حمده ـ فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا (1) أو يُلم (2)، إلا آكلة الخْضِر (3)، فإنها أكلت، حتى إذا امتدت خاصِرتاها استقبلت عين الشمس، فثلَطَت (4) وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خَضِرٌ حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة) (5)
التفت إلي، فرأى وكأني لم أفهم المراد من المثل بدقة، فقال: في هذا الحديث مثلان:
أحدهما: للِمُفْرطِ في جمع الدنيا، والآخر: لِلْمُقْتَصد في أخذها والانتفاع بها.
فأمَّا قوله: (وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمَّ) فإنه مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها؛ وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ
__________
(1) الحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض؛ يقال: حبط الرجل والدابة تحبطًا وحبطًا إذا أصابه ذلك.
(2) أو يلم: ألمَّ به يلمُّ: إذا قاربه ودنا منه. يعني: أو يقرب من الهلاك.
(3) الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ. وليس من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه لعدم غيره.
(4) فثلطت: ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلاً رقيقًا.
(5) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (198)
بطونها عند مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقُّ أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تُقارب الهلاك؛ وكذلك الذي يجمعُ الدنيا من غير حقها ويمنعها من حقها: قد تعرض للهلاك في الآخرة، لا بل في الدنيا.
وأما مثل المقتصد، فقد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إلا آكلة الخضر)؛ وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول وجيِّدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبْسِها، حيث لا تجد سواها، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تَستَمْرِئُهَا، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصر في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضِر (1).
ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت).. إن في هذه الكلمات ثلاث فوائد:
أولها: أنها لمَّا أخذت حاجتها من المرعى، تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.
والثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما أكلته وإخراجه.
والثالثة: أنها استفرغت ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها.
وهكذا جامع المال.. فإن مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة.
سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثالا آخر للدنيا، ومقارنتها بالآخرة، فقال: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه ـ وأشار بالسبابة ـ في اليم، فلينظر بم ترجع؟) (2)
__________
(1) جامع الأصول: 4/ 502.
(2) رواه مسلم.
النبي الإنسان (199)
التفت إلي، وقال: إن هذا المثل من أحسن الأمثال؛ فإن الدنيا منقطعة فانية، ولو كانت مدتها أكثر مما هي، والآخرة أبدية لا انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور.. بل لو فرضنا أن السموات والأرض مملوءتان خردلاً، وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفني الخردل، والآخرة لا تفنى؛ فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل (1).
لقد ذكر القرآن هذا المعنى وكرره.. فالله تعالى يقول داعيا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرغبة في الله وفيما عند الله مقارنا لذات الدنيا بلذات الآخرة: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)، ويقول مخاطبا من حجبوا بمتاع الحياة الدنيا وزينتها: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (القصص:60)، ويقول: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى:36)
سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدنيا مثالا بالمسافر، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد نام على حَصِير، وقد أثَّرَ في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخَذنا لك وطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير، يقيك منه؟ فقال: (ما لي وللدنيا؛ ما أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلّ تحت شجرة ثم راح وتركها) (2)
نظر إلي، وقال: تأمل حسن هذا المثال، ومطابقته للواقع؛ فإن الدنيا في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا، ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى
__________
(1) عدة الصابرين: 279، 280.
(2) رواه الترمذي.
النبي الإنسان (200)
زاد على ذلك انقطع عن الرفاق (1).
لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا في حديث آخر، فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان واقفًا بعرفات، فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب، ثم قال: (أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه) (2)
إن هذا الحديث يشير إلى أن الدنيا كلها ليست سوى يوم واحد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخره قبل غروب الشمس بيسير.
سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيمة الدنيا مثالا آخر ينطبق عليها تماما، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بالسوق، داخلاً من بعض العَوَالي، والناس كنفتيه، فمر بجدي ميت أسك (3)، فتناوله وأخذ بأُذنه، ثم قال: أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنَّه لنا بشي، ما نصنع به؟ إنه لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنَّهُ أسكُّ. قال: (فوالله للدُّنيا أَهون على الله من هذا عليكم) (4)
قلت: وعيت هذه الأمثلة.. وهي تنطبق على الدنيا كما ذكرت.. ولكني أتساءل، ولست أدري هل يحق لي أن أتساءل أم لا..؟
قاطعني، وقال: لقد تساءلت مثلك كثيرا إلى أن وقعت في بحار التسليم التام.. فسل ما بدا لك.
قلت: أليس الإسلام دين حياة.. ودين جاء لإصلاح الدنيا.. ولا يمكن تطبيق تعاليمه إلا في الدنيا؟
قال: بلى.. ذلك صحيح.
__________
(1) عدة الصابرين:279.
(2) رواه أحمد.
(3) الأسك: مقطوع الأذن أو صغيرها.
(4) رواه مسلم.
النبي الإنسان (201)
قلت: فلماذا زهد محمد في الدنيا كل هذا التزهيد؟.. ولماذا احتقرها كل هذا الاحتقار؟
قال: أرأيت الصبي الذي تشغله لعبه عن دروسه.. فيظل متعلقا بها لا يريد أن ينشغل عنها بأي شاغل؟
قلت: ما به؟
قال: ما رأيك لو ترك لهذا الصبي الحرية المطلقة في التعلق بلعبه على حساب دراسته، فلم يؤدب، ولم يؤنب، ولم ينهر؟
قلت: لو ترك كذلك، فإن مصيره أن يعيش جاهلا، ويموت جاهلا.
قال: فهذا ما أرادت النصوص المقدسة أن تقرره.. فنبينا صلى الله عليه وآله وسلم حين ينهانا عن التعلق بالدنيا، والانشغال بها يتعامل معنا كما يتعامل ذلك المؤدب مع الصبي الذي انشغل بلعبه عن حياته وما تقتضيه حياته من معارف.
لقد ضرب القرآن مثلا يكاد يشبه هذا الصبي المنشغل بلعبه.. لعلك تعرفه.. إنه قارون.. فقد كان حاله في انشغاله بكنوزه وزينته لا يختلف كثيرا عن ذلك الصبي الذي حدثتك عنه..
لقد قال الله تعالى يذكر خبره: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
النبي الإنسان (202)
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} (القصص)
التفت إلي، وقال: هذا هو مشهد رجل من أهل الدنيا.. ربما يمثل ملايين البشر الذين مروا على هذه الأرض.. أو يمثل ملايين من الذين لا يزالون يعمرون هذه الأرض، ويملأونها بالخراب..
إن هذا الرجل لم يكن ينظر إلا إلى نفسه، وإلى تلك الحياة الدنيا التي يعيشها، فيتصور أن الوجود يتوقف عندها.
وقد كان هذا الرجل يتصور أن قيمته بقيمة تلك اللعب التي كان يملكها، فلذلك كان يمشي بين الخلق مزهوا مختالا لأن له من اللعب ما لم يكن لغيره.
قلت: كيف تسمي الكنوز لعبا؟
قال: لأنها مجرد ملهاة لا تختلف كثيرا عن أي لعبة من لعب الأطفال..
قلت: ولكن بتلك الكنوز نستطيع أن نعمر الدنيا التي أمرنا بعمارتها؟
قال: يستحيل أن نعمرها إذا كان في عقولنا التفكير القاروني.. فالتفكير القاروني المتعلق بالدنيا يحب الكنوز.. والكنوز تتنافى مع العمارة.. لأن الكنوز تهتم بالبنيان أكثر من اهتمامها بالإنسان.. ولا يمكن للحضارة أن تقوم على البنيان وحده.
قلت: فكيف نمحو التفكير القاروني من عقولنا؟
قال: عندما نعلم أن هذه الحياة التي نعيشها ونتفانى من أجلها حياة دنيا.. وأن هناك حياة أرفع منها.. وأنه لا يمكن أن نظفر بتلك الحياة إلا بعد أن نترفع على هذه الحياة.
هذا ما كان يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه.. وهذا ما كان يربيهم عليه.. فلذلك استطاعوا أن ينشئوا أعظم حضارة عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.
سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض النصوص التي تبين لك هذا.. لتكتشف من
النبي الإنسان (203)
خلالها مدى النصح العظيم الذي نصح به محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمته حتى لا تغرها الحياة الدنيا عن الحياة الحقيقية:
لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه حين رأى فرحهم بمال قدم عليهم: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) (1)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) (2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) (3)
التفت إلي، وقال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الوصايا يحذر من الاستغراق في الدنيا والانشغال بها.. وهو ما يؤدي إلى التنافس فيها.. وهو ما يؤدي إلى الصراع.. ولا يمكن للصراع أن يولد إلا الهلاك.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع البدائل عن الاستغراق في جمع كنوز الدنيا وملذاتها بالاستغراق في جمع الأعمال الصالحة.. فالأعمال الصالحة هي الباقية، أما ما عداها فـ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور: 39)
لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله: فيرجع اثنان، ويبقى واحد: يرجع أهله وماله ويبقى عمله) (4)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (204)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن جميع نعيم الدنيا لا يعدل لحظة عذاب يعذب فيها المتنعم بسبب ذنوبه، فقال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط) (1)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أكثر ما يملأ الدنيا مجرد لهو فارغ لا قيمة له في ميزان الحقيقة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى، وما والاه، وعالما ومتعلما) (2)
وقد أخبر بعضهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسمعه يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (التكاثر:1)، ثم قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!) (3)
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتبر المنشغل بأمثال تلك اللعب عبدا رقيقا لها، فقال: (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض) (4)
قلت: فهل أثرت هذه الوصايا في أمته؟
قال: أجل.. ولولاها ما ظهرت في المسلمين تلك القيم التي لم يظهر لها أي نظير في العالم.
قلت: مثل ماذا؟
قال: كل القيم النبيلة من التضحية والكرم والإيثار وعلو الهمة وغيرها.. كلها ثمار من نبات الزهد.. لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا في حديثين أساء البعض فهمهما:
أما الأول فهو ما روي أن رجلا جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، والله إني لأحبك،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسنٌ.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري.
النبي الإنسان (205)
فقال: (انظر ماذا تقول؟) قال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، فقال: (إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا (1)، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه) (2)
وأما الثاني، فهو ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) (3)
قلت: فما الخطأ الذي وقع في فهم الحديث الأول؟
قال: لقد تصور البعض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يفضل الفقر على الغنى.. فأخطأوا، فما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو العارف بربه ـ أن يفضل بلاء على بلاء، أو نعمة على نعمة.
قلت: فما الصواب الذي تفهمه أنت؟
قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الحديث يبين أن من آثار محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تملأ قلب المحب رفع قيود العبودية للدرهم والدينا.. وهو بذلك يصبح فقيرا لا يملك شيئا، لأنه يعتقد أن كل ما يملكه ملك لله، فهو يرسله ذات اليمين وذات الشمال كما كان يفعل محبوبه.
قلت: والثاني؟
قال: لقد تصور البعض أن الزهد يجلب محبة الناس، لأن الزاهد قد كف شره عن الناس، فهو لا ينافسهم فيما يتنافسون فيه.
قلت: وما تفهم أنت من الحديث؟
قال: الزاهد الكامل هو الذي لا يكف شره عن الناس فقط.. وإنما من ينالهم من خيره ما يملأ قلوبهم محبة له.
__________
(1) التجفافُ: َهُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُهُ الفَرَسُ، لِيُتَّقَى بِهِ الأَذَى، وَقَدْ يَلْبَسُهُ الإنْسَانُ.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(3) رواه ابن ماجه وغيره.
النبي الإنسان (206)
قلت: إن ذلك يستدعي أن يكون الزاهد مالكا، والزهد يتنافى مع الملك.
قال: بل الزهد لا يكمل إلا بالملك، فمن السهل أن يدعي المعدم الزهد، وما أصعب أن يدعيه المالك (1).. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين هذا: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك) (2)
قلت: أنت تكر على كل المعارف التي أقنعتني بها لتمحوها.. ألست ترى نفسك متناقضا؟
قال: لا.. يستحيل على من تعلم من محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقع في التناقض..
قلت: فقد كنت أسمعك تقرأ من كتابك، وتحدث عن نبيك أروع النصوص في ذم الدنيا..
قال: الدنيا المرادة من تلك النصوص ليست هذا الزمان الذي نعيشه.. ولا هذه الأرض التي نعيش فوقها.. والتي يمكن أن نجعل منها مسجدا كبيرا لطاعة الله وعبوديته.. ولكنها الدنيا التي ترتبط بالهمم.. الهمم التي تقصر نظرها على نصيبها المحدود غافلة عن نصيبها غير المحدود.
إنها دنيا الغافلين الذين اشتغلوا بما رأو من عاجل النعيم عن آجله، فانهمكوا ينتهزون فرصة العمر في استيعاب ما استطاعت لهم قواهم من أصناف اللذات.
ومع ذلك فإن النصوص المقدسة لا تعيب على هؤلاء ما انهمكوا فيه من أصناف النعيم، بل تعيب عليهم اشتغال أنفسهم وهممهم به عن التدبر فيما بعده:
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الأنعام:29)، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86)، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة:200)، وقال: {
__________
(1) والزهد يشملهما جميعا خلافا لمن زعم غير ذلك، انظر رسالة (كنوز الفقراء)
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، وراه ابن ماجة والطبراني.. وغيرهم.
النبي الإنسان (207)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51)، وقال حاكيا قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (المؤمنون:37)
ولهذا يجمع الله تعالى بين همتي المؤمنين الذين ترقت هممهم فلم تقف مع زينة الحياة الدنيا، ولم تحبس نفسها في قيودها مع همة الكافرين التي باعت نفسها لأول ما لاح لها من مظاهر الزينة، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة:212)
وفي هذه الآية تصوير بديع لسخرية الكافرين الذين استغرقوا في حب الدنيا، وعبادتها، بل فنوا فيها عما سواها من المؤمنين الذين تعاملوا مع الدنيا بعقولهم لا بشهواتهم، وبربهم لا بأنفسهم، وبدينهم لا بأهوائهم.
جاء ذلك الصبي الصغير الذي أدخلني إلى بيت أويس، وقال ـ وقد كان يتابع حديثنا على كثب باهتمام شديد ـ: لقد صنف أهل الله فرق هؤلاء وطوائفهم كما يصنف قومنا الأحزاب والمذاهب والأجناس.. ولكن الفرق بينها هو أن هذه الطوائف تنتشر في كل مكان، كانتشار النار في الهشيم.
ومن الطوائف ـ التي ذكرها العلماء (1) ـ طائفة غلبهم الجهل والغفلة فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمورهم، فتصوروا أن المقصود من الدنيا أن نعيش أياماً نجتهد نجتهد فيها على كسب القوت ثم (نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا)
وهذا دين أكثر الخلق ممن ابتلاهم الله بالحاجة للعمل، بل حتى ممن لم يبتلوا من الذي صار العمل عندهم هواية وشغلا للقلب والقالب.
__________
(1) إحياء علوم الدين: 3/ 228، فما بعدها.
النبي الإنسان (208)
وليس العمل هو المعيب في سلوك هؤلاء، وإنما المعيب هو انشغالهم بالعمل عن الغاية التي وجدوا من أجلها، قال الغزالي: (وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت)
ومن الطوائف طائفة ترقت عن هؤلاء، فزعمت أنها تفطنت لما لم يتفطن له من قبلها، فقالت: (ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا).. وهؤلاء هم الذين انصرفوا إلى الشهوات، فما جمعوه في النهار بالعناء والجهد يقضون عليه في الليل بالشهوات والملذات.
وهذا الفكر الدنيوي الذي تتبناه هذه الطائفة هو الفكر الذي تغرسه المدنية الغربية باعتباره بديهية البديهيات، فلذلك تستنكر من يذم الدنيا، وكأنها تعتبر نفسها المقصودة بكل ذلك الذم.
ومن الطوائف من (ظنوا أنّ السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون، ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم، وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات، فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته)
وهؤلاء الذين ورد ذمهم في القرآن الكريم باعتبارهم عبيدا للمال، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} (الهمزة)
ومن هذه الطوائف طائفة استعبدهم الجاه، وانشغلوا بالشهرة، فـ (ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة
النبي الإنسان (209)
ويظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس)
ومن هذه الطوائف طائفة (ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة بطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم)
ومن هذه الطوائف طائفة ظنوا أن إكسير الحياة منفوخ ضمن الهواء الذي يسكن جلد كرة القدم.. ومنهم من رآه في الموجات الصادرة من حنجرة أي ناعق أو مغن.. ومنهم من رآه في حركات ممثل.. ومنهم من رآه في تغنج غانية..
قاطع أويس الصبي، وقال: أما دنيا المؤمنين العارفين بربهم، والذين ترقت هممهم على أن يستعبدها غير مولاهم، فإنها كآخرتهم، لا فرق بينهما، بل إن العارفين بالله الذين رفعوا حجب الكثافة التي تحول بينهم وبين حقائق الأزل، وتخلصوا من كل همة دنية يعيشون الآخرة في الدنيا، وما الموت عندهم إلا مفارقة لتلك العلاقات البسيطة التي ارتبطوا بها كما يرتبط المسافر مع رفقة سفره.
ولهذا يمن الله على هؤلاء العارفين بأنه جمع لهم بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة، قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:148)، وقال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (النحل:30)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل:41)
ويذكر النماذج الرفيعة من أوليائه وأصفيائه الذين رزقوا من الحظوظ مالم يرزقه أهل الدنيا
النبي الإنسان (210)
أنفسهم، ومنها حظ الجاه الذي وهب للمسيح عليه السلام، قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45)
ومنها نموذج إبراهيم عليه السلام الذي جمع له بين الحسنتين حسنة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (النحل:122)
وهذه النعم والحظوظ التي من الله بها على اصفيائه ليت خاصة بهم، بل هي قانون من قوانين الله وسنة من سننه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:134)
وكأن هذه الآية تخاطب القاصرين الذين ينظرون بعين واحدة إلى الأشياء، فيتصورون أن إقبالهم على الدين يحول بينهم وبين الإقبال على الدنيا، أو أن رغبتهم في الآخرة تحول بينهم، وبين زينة الدنيا، ولهذا يستنكر الله تعالى أن تحرم الطيبات، ويعتبر أنها من منن الله على جميع البشر، وأنها خاصة بالمؤمنين خالصة لهم في الآخرة، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)
قال الصبي: بل إن الله تعالى ذكر أن هؤلاء العارفين يدعون الله لدنياهم كما يدعونه لأخراهم.. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة:201)، وقال ذاكرا دعاء من أدعيتهم: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:156)، وقال ذاكرا دعاء نبيه يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف:101)
النبي الإنسان (211)
لست أدري كيف قلت من غير أن أشعر: أرانا انشغلنا عن زهد محمد.
قال أويس: في بداية إرادتي.. عندما توجهت همتي للبحث عن الإنسان الكامل.. لقيت رجلا حكيما ممتلئا بالأنوار.. قال لي كلمة لا أزال أذكرها.. لعلها خير جواب عما ذكرت.
قلت: ما قال؟
قال أويس: لقد قال لي: (كل شمس لا تطيق الوصول إليها يمكنك أن تعبر إليها من خلال من يدل عليها) (1)
قلت: لقد سمعت مثل هذا كثيرا.. بل إنهم كلهم يقول هذا.
قال: من ذلك الوقت علمت أن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم القصيرة لا تستطيع أن تعبر عنه كل التعبير.. لذلك، فإن كل الورثة هم في الحقيقة امتداد لحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لأنهم لا يستلهمون سلوكهم إلا منه (2).
قلت: فهل كان في سلوك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما كان مدرسة تعلم منها الورثة ذلك الزهد؟
قال: لقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة تعلمت منها كل الأجيال.. وتلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو منهم زمان من الأزمان.
سأضرب لك مثالا على ذلك بتلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكبر علي بن أبي طالب الذي كان رمزا للعدالة والأمانة وكل القيم الإنسانية الرفيعة..
لقد روي أن معاوية سأل ضرار ضمرة: صف لي عليّاً. فقال: أو تعفني؟ قال: بل تصفه
__________
(1) ذكرنا هذه العبارة في مقدمة هذه الرسالة على لسان (معلم السلام)
(2) وفي هذا المعنى ما يذكره العلماء من أن كل كرامة لولي هي في الحقيقة امتداد لمعجزات الرسول (لأنه لولا المتابعة الصادقة لرسول الله (ما حصلت له تلك الكرامة، فلذلك نقول هنا: (لولا المتابعة التامة لرسول الله (ما حصل للورثة ذلك السلوك الرفيع الذي تميزوا به)
النبي الإنسان (212)
لي قال: أو تعفني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد، فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب (1).. كان والله كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرَّضْتِ، أم لي تشوَّقْتِ، هيهات هيات، غُرِّي غيري؛ قد بتتك ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
قال أويس ذلك بتأثر شديد، أجهش بعده بالبكاء..
بعد فترة من الصمت، قال الصبي: إن شئت حدثتك بما ذكر الرواة من زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يبين لك أن عليا وغير علي لم يسلكوا ذلك السلوك الرفيع لمجرد تعاليم تعلموها، أو دروس حضروها، وإنما لأنهم رأوا بعيونهم أنوار القيم تتجلى أمامهم في أرفع صورها.
قلت: يسرني ذلك.. فيعلم الله أنه لا هدف لي في الحياة إلا البحث عن الإنسان الكامل.
لقد حدث بعض الصحابة.. والذي صار بعد ذلك أميرا.. عن تلك التوجيهات العملية التي كانوا يتلقونها على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يخاطب رعيته بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أما
__________
(1) أي ما غلظ أو ما كان بلا أدم.
النبي الإنسان (213)
بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم (1)، وولت حذاء (2)، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها (3) صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما، لا يدرك لها قعرا، والله لتملأن أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت (4) أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا) (5)
قلت: سمعت بعضهم يتحدث عن الزهد الاضطراري.. أليس زهد محمد من هذا النوع؟
انتفض الصبي، وقال: كيف يقال هذا في رسول الله.. لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المكانة عند الله والمنزلة ما لا يدعه في ضرورة أبدا..
لقد حدث أبو ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرة بالمدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: (يا أبا ذر) قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار، فقال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال
__________
(1) بصرم: بانقطاعها وفنائها.
(2) وولت حذاء: سريعة.
(3) يتصابها: يجمعها.
(4) قرحت: أي صارت فيها قروح.
(5) رواه مسلم.
النبي الإنسان (214)
بالمال هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه (وقليل ماهم) (1)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) (2)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك) (3)
وفي حديث آخر: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (الفرقان:10)
وعن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت) (4)
وروي أن جبريل - عليه السلام - جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تواضع لربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أكون نبيا عبدا)، قال ابن
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه ابن سعد، والترمذي.
(4) رواه أبو ذر الهروي.
النبي الإنسان (215)
عباس: فما أكل بعد تلك طعاما متكئا حتى لقي ربه) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما ـ أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك، وشكرتك) (2)
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل الله أن يختار له هذا النوع من الحياة البسيطة التي تجعله أقرب الناس إلى الناس، فقد كان يدعو، ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) (3)
قلت: لقد سمعت بعض الخطباء يذكر أن محمدا كان يحب أصنافا من الطعام، وأصنافا من اللباس، وأنه لو كان في وقتنا لاتخذ سيارة فارهة، وسكن قصرا شامخا.
قال الصبي: دعهم يملوا على نبيهم ما شاءت لهم أهواؤهم أن تملي.. ولنذهب إلى الأسانيد الصحيحة التي أخبرت عن الحال التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخير من حكم على حياة الإنسان الأخبار التي تروى عنه.
قلت: فحدثنا عما ذكرته الأخبار من هذا.
قال: عن أي شيء تريد أن أخبرك؟
قلت: أخبرني عن فراشه، فعهدي بالمترفين يجلسون على الفرش الوثيرة.
قال: لقد حدثت عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك
__________
(1) رواه أحمد، وابن حبان.
(2) رواه ابن المبارك.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (216)
مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة) (1)
وعنها قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا) (2)
قلت: فحدثني عن طعامه، فعهدي بالمترفين يتفنون في أصناف المطاعم والمشارب.
قال: لقد ذكرت عائشة حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: (كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم) (3)
وقالت: (ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالت: (ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)
وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.
وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.
وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.
وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة (4).
وقالت: (والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف) (5)
__________
(1) رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.
(2) رواه ابن حبان.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه ابن عساكر.
(5) رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.
النبي الإنسان (217)
وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير (1).
وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط (2).
وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله (3).
وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ألبانها، فيسقيناه.
وكانت تقول له: (وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار - جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم - فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف)
وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت (4).
وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا (5).
وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.
(2) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.
(3) رواه البخاري ومسلم والبيهقي.
(4) رواه ابن عساكر.
(5) رواه ابن عساكر.
النبي الإنسان (218)
التمرتين) (1)
وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه (2).
وعلى ما شهدت به عائشة تواترت الشهادات الكثيرة من المقربين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذكر أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) (3)
وقال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) (4)
وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف (5).
وقال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيها خبز ولا لحم (6).
وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفه إلا بجرعة من ماء (7).
وقال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط (8).
__________
(1) رواه ابن عدي.
(2) رواه ابن سعد.
(3) رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه ابن أبي شيبة، أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل.
(6) رواه ابن سعد.
(7) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(8) رواه ابن سعد.
النبي الإنسان (219)
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير (1).
وعن سهل بن سعد قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا (2).
وعن أبي حازم قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) (3)
قلت: فحدثني لباسه.
قال: لقد حدث ابن عمر قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاء رجل من الأنصار، فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟) فقال: صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يعوده منكم؟) فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال، ولا خفاف، ولا قلانس، ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين معه (4).
-\--\-
بقيت مع أويس مدة أنهل من علمه وزهده.. وقد كان يأتيه الكبار والصغار والعامة والوجهاء.. فلا يختلف سلوكهم معهم جميعا.. وكأنهم بالنسبة إليه شخص واحد يتعامل معه باعتبار إنسانيته لا باعتبار رتبته وطبقته.
وكان الجميع ـ على حسب ما رأيت ـ لا يخرج من عنده إلا بعزيمة صادقة، وهمة عالية، وكأنه سقاهم الترياق الذي يسيرون به في حياتهم وفق ما تقتضيه الهمم العالية، لا وفق ما تتطلبه
__________
(1) رواه أحمد، وابن سعد والترمذي وصححه.
(2) رواه الطبراني.
(3) رواه ابن سعد والدارقطني في الافراد، وصححه.
(4) رواه مسلم.
النبي الإنسان (220)
الحظوظ الدنية.
لقد تعلمت من صحبته قيمة الزهد وأثره العظيم في الإصلاح بكل جوانبه.. الإصلاح النفسي.. والإصلاح الاجتماعي.. بل والإصلاح السياسي..
وعنده تعلمت أن الزهد ـ الذي كنت أحتقره ـ قيمة من القيم الرفيعة، وخلق من الأخلاق العالية.. وأن معانيه لو انتشرت بين العامة والخاصة لجردت الحياة من أشواك الصراع التي ينبتها الحرص والرغبة والطمع والتثاقل إلى الأرض.
بقيت مع أويس إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لقي فيه ربه.. وقد بكيت فيه كما لم أبك على أقرب أقاربي..
التفت الوارث إلينا، وقال: إن شئتم حدثتكم عن حفل التأبين الذي أقيم له.. والذي حضره كل من تتلمذوا على يديه من الكبار والصغار.. بل إني لم أر في حياتي ازدحاما على جنازة أحد كما رأيت الازدحام على جنازته.
أشرنا إليه بالإيجاب، فقال: في ذلك اليوم قام خطيب من الخطباء تخنقه دموعه، عرفت بعد ذلك أن اسمه (ابن السماك) (1)، وقال: يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن أويسا نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون، فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر، فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم وماتت من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان حيا وسط موتى)
قال ذلك، ثم توجه إلى نعش أويس مخاطبا له، وكأنه حي أمامه: يا أويس.. ما أعجب شأنك.. ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل، أهنتها وإنما تريد كرامتها، وأذللتها وإنما
__________
(1) نص هذه الخطبة (لابن السماك) قالها عند موت داود الطائي.
النبي الإنسان (221)
تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه، وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب، وغيبتها عن الناس كي لا تذكر، وغبت بنفسك عن الدنيا إلى الآخرة، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت.. كأن سيماك في عملك وسرك، ولم يكن سيماك في وجهك، فقهت في دينك ثم الناس يفتون، وسمعت الأحاديث ثم تركت الناس يحدثون ويروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الأخوان هدية، آنس ما تكون آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالسا، فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون من الطعام والحلاوة ما يأكلون، فأما أنت فإنما هي خبزتك أو خبزتان في شهرك، ترمي بها في دن عندك فإذا أفطرت أخذت منه حاجتك فجعلته في مطهرتك ثم صببت عليه من الماء ما يكفيك، ثم اصطنعت به ملحا فهذا إدامك وحلواك، فمن سمع بمثلك صبر صبرك أو عزم عزمك، وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين ولا أحسبك إلا قد أتعبت العابدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوسا فيأنس بهم وأما أنت فسجنت نفسك في بيتك وحدك فلا محدث وجليس معك، ولا أدري أي الأمور أشد عليك، الخلوة في بيتك تمر بك الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب، لا ستر على بابك، ولا فراش تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك? مطهرتك قلتك وقصعتك تورك وكل أمرك يا أويس عجب، أما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه? بلى، ولكنك زهدت فيه لما بين يديك فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت، وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت، أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل وسعدت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهرة عنك في حياتك لكي
النبي الإنسان (222)
لا يدخلك عجبها ولا يلحقك فتنتها فلما مت شهرك ربك بموتك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت اليوم كثرة تعبك عرفت أن ربك قد أكرمك)
فلما فرغ من خطبته قام آخر، عرفت فيما بعد أن اسمه (محمد بن الحسين) (1) فقال: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا، وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها، أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً، وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة، ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية؛ وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم، تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم)
ثم قام خطباء آخرون رددوا فضائل أويس.. ورددوا معها فضائل القيم التي كان يحملها ويدعو إليها.. وقد كان لتلك الخطب تأثير كبير في المستمعين..
لقد أحسست حينها أن موت أويس كحياته.. كلاهما كان بركة على من لقيه وتتلمذ على يديه أو على أخباره.
في ذلك اليوم.. وبعد انصراف الناس، رأيت قرن، وكأنها قد أظلمت علي، فلم أملك إلا أن أخرج منها، وقد تركت فيها قطعة من قلبي لا تزال عالقة في ثراها.
__________
(1) هذه الخطبة لم تقل في هذا الموضع، ولكني ذكرتها هنا لمناسبتها له.
النبي الإنسان (223)
النبي الإنسان (224)
سرت إلى القاهرة.. وبجوار الجامع الأزهر.. تلك القلعة التي لم تستطع السنون مع طولها أن تنال من شموخها.. رأيت الوارث الخامس الذي تعلمت على يده من علوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما جعلني أوقن يقينا تاما لا يزاحمه الشك بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد اكتمل له من العلوم ما لا يكتمل إلا للإنسان الكامل الذي أسندت له أخطر وظيفة في الأرض.
لقد كان اسمه (محمد).. وكانت الجماعة التي تحيط به، وتنهل من علمه تطلق عليه (الباقر) (1).. وكان أشبه الناس في غزارة علمه بالباقر.. حتى كأنه الباقر نفسه عاد للحياة من جديد ليقف في ذلك الموقف من شوارع القاهرة.
عندما رأيته كان واقفا، وأمامه جمع من الناس يسألونه:
قال أحدهم: يا محمد.. يا من هو من نسل محمد.. أخبرنا عن أفضل الصدقة.
قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأجاب: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى) (2)
قال آخر: إنا نرى القرآن يذكر المهاجرين بخير.. فهل انقطعت الهجرة؟
قال: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا حين سأله أعرابي، فقال: يا رسول الله، أخبرني عن الهجرة إليك، أينما كنت أم لقوم خاصة أم إلى أرض معلومة أم إذا مت انقطعت؟
وقد أجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت في الحضر) (3)
قال آخر: أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أتخلق خلقاً، أم تنسج نسجاً؟
__________
(1) أشير به إلى الإمام محمد الباقر، ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا المقام.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد.
النبي الإنسان (225)
ضحكت الجماعة، فالتفت إليهم، وقال: أتضحكون من جاهل يسأل عالماً؟
ثم سكت قليلا، وقال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فاستلبث ساعة، ثم قال: أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟ فقال: ها هو ذا يا رسول الله، قال: (لا، بل تنشق عنها ثمار الجنة) ثلاث مرات (1).
قال آخر: هل في الجنة خيل؟
قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فقال: (إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة له جناحان، فحملت عليه فطار بك في الجنة حيث شئت)، ثم سئل صلى الله عليه وآله وسلم هل في الجنة إبل؟ فلم يقل للسائل مثل ما قال للأول، بل قال: إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك وقرت عينك (2).
قامت امرأة، فقالت: إنا نسمع القرآن يثني ثناء حسنا على جمال الحور العين، فهل هن في الجنة أفضل منا ونحن فيها؟
ابتسم الباقر، وقال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فقال ـ لمن سأله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ ـ: (بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظهارة على البطانة) (3)
قالت المرأة: لم؟
قال: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله تعالى، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه الطبراني.
النبي الإنسان (226)
لنا) (1)
قالت المرأة: والمرأة التي تتزوج الرجلين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة، ويدخلون معها، من يكون زوجها؟
قال: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال لأم سلمة لما سألته عن هذا: (يا أم سلمة، إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول: (يا رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمه ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة) (2)
قام رجل مغضبا، وقال: دعونا من مثل هذا.. دعوا لنا الفرصة لنتحدث عن الكسب الذي يدخلنا الجنة.. أما ما في الجنة.. فإن من دخلها سيعاين ما فيها.
ابتسم الباقر، وقال: سل ما بدا لك.
قال الرجل: حدثنا عما يقربنا إلى الله.. هل من ساعة أقرب إلى الله من الأخرى؟
قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فقال: (نعم، أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)
قام آخر، وقال: أنا مؤرخ.. فحدثني عن أول عن أول مسجد وضع في الأرض؟
قال: لقد سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا، فقال: المسجد الحرام، فقال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، فقال: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، حيث أدركتك الصلاة فصل (3).
-\--\-
ظللنا هكذا من أول النهار إلى آخره، والباقر لا يسأل سؤالا إلا أجاب عنه بما أجاب النبي
__________
(1) رواه الطبراني، وهو جزء من الحديث السابق.
(2) رواه الطبراني، وهو جزء من الحديث السابق.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (227)
صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو المفتي في ذلك المجلس، وكأن الباقر لم يكن سوى وسيط يبلغ الناس ما يفتيهم به نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
في آخر النهار، وبعد أن انفض الجمع، انتهزت الفرصة، واقتربت منه، وكان أكبر أمل لي أن يجيبني عن سؤال أو سؤالين.. ما كنت أطمع منه بأكثر من ذلك، فقد رأيت حرص الناس على التلقي عنه.. ولا يمكنني أن أطمع فوق ما يطمع فيه غيري.
لكني فوجئت عندما رأيته يحدق في وكأنه يعرفني، ثم يسرع إلي، ويضمني، ويقول: مرحبا بك في القاهرة.. لقد شاء الله أخيرا أن نلتقي.
تعجبت من موقفه هذا، وتصورت أنه توهمني بعض معارفه لشبه بيننا.. فأسرعت أصحح له، وأقول: لي شرف عظيم أن أكون من ذكرت.. ولكني لست من ذكرت.
قال: بل أنت من ذكرت.
قلت: ولكني لم أتشرف بمعرفتك من قبل.
قال: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) (1)
قلت: لقد امتلأت بالغفلة.. فنسيت تلك العوالم.. فهلا ذكرتني بها؟
قال: ألست من يبحث عن الإنسان الكامل؟
قلت: بلى.. أنا ليس لي هم في الحياة إلا البحث عن هذا الإنسان.
قال: لقد كنت مثلك أبحث عنه.. وهذه نقطة التقاء كبيرة بيننا.
قلت: فهل ظفرت به؟
قال: أجل.. ما كان الله ليضيع جهد مجتهد، ولا همة عازم، ولا صدق صادق.
قلت: فدلني عليه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الإنسان (228)
قال: هو أبعد من أن أدلك عليه.. ولكني أدلك على شعاع من أشعته.. لا يمكن للإنسان أن يكمل من دونه.
قلت: وما هذا الشعاع؟
قال: العلم.. لا يمكن للكامل أن يكمل وهو جاهل.. ألم يبدأ الله بتعليم آدم؟
قلت: بلى.. ولم تعلم الملائكة شرفه إلا بذلك.
قال: فكذلك شرف الإنسان الكامل لا يكتمل إلا بعلمه.
قلت: عرفت الشعاع.. فما الشمس التي وصلت إليها.. وتريد أن تدلني على هذا الشعاع من أشعتها؟
قال: شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. إنه الإنسان الكامل الذي اكتمل له من العلوم ما لم يكتمل لغيره.
قلت: ولكنه أمي.. لقد نطق القرآن بذلك.. ففيه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:157)، وفيه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (لأعراف:158)
قال: وهذا أعظم في كمال علمه..
قلت: لم أفهم.
قال: لأن من تعلم من الأوراق كان تبعا لمن كتب الأوراق.. ولو تعلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأوراق لكان أحسن أحواله أن يحمل ثقافة الهند أو ثقافة الفرس أو ثقافة الإغريق.. ولوجد بعد ذلك من يقول بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلقى علومه عن هؤلاء.
النبي الإنسان (229)
قلت: فأي ثقافة حمل محمد ما دام لم يحمل ثقافة هؤلاء؟
قال: لقد حمل ثقافة أرقى وأعظم تطورا..
قلت: لم أعرف التطور في ذلك الحين إلا في تلك الشعوب..
قال: إن ثقافة تلك الشعوب ثقافة بدائية بالنسبة لعصرنا.. والمتمسك بها في عرفنا رجعي.. وما كان للإنسان الكامل أن تكون له ثقافة تمحوها الليالي، وتكر عليها الأيام.
قلت: فأي مصدر تعلم منه محمد إذن؟
قال: لقد تعلم من الله.. فالله هو مصدر المعرفة الأول.. ولذلك فإن علومه لا يمكن مقارنتها بأي علوم أخرى.
لقد كانت أول بشارة تلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي إخبار الله له بأنه سيتعلم من الله.. لعلك تعرف الحادثة.. هي أول حادثة عرف فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي ربه.
كان في الغار.. وجاءه الملاك.. وقال له: اقرأ.. ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرف القراءة، فأجاب الملك: ما أنا بقارئ، فغطه (1) الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بقارئ.. وهكذا حتى غطه الثالثة، ثم أرسله، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق) (2)
ثم ظل الوحي يتتابع..
في البداية خشي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسى ما يعلمه ربه، فكان يتعامل مع الوحي معاملة الطالب النجيب الذي يردد ما يتعلمه خشية أن ينساه، لكن الله طمأنه بأن الذي علمه وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب لن يعجزه أن يحفظ له ما تعلمه..
__________
(1) الغط: العصر الشديد، والكبس، ومنه الغط فى الماء، الغوص. النهاية: 3/ 335.
(2) الحديث.. رواه البخارى ومسلم.
النبي الإنسان (230)
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة)
وبمثل هذا وردت الأسانيد، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي جمعه في صدرك، ثم تقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه (1).
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
وقال في الآية واصفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله له: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا} أن نجمعه لك {وَقُرْآنَهُ} أن نقرئك فلا تنسى) (2)
لقد نص على هذا الوعد الجليل في آية أخرى.. فالله تعالى يقول مبشرا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} (الأعلى:6)
قلت: أقر لك بكل ذلك.. ولكن العلوم التي تلقاها محمد هي علوم الدين.. وهي علوم اختص بها رجال الدين.. ولا يمكن الحكم على مصداقيتها ما دمنا في هذا العالم.
قال: لا.. لقد تلقى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل ما يحتاج إليه الإنسان من علوم.. فلذلك يمكن أن تحكم على علومه ومدى صدقها من خلال هذا العالم.. بل يمكنك أن تقارن ما جاء به من علوم بمن شئت من العلماء.. ليتبين لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد كشف له الحجاب ليرى الأمور على ما هي عليه في
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه ابن جرير.
النبي الإنسان (231)
الوقت الذي يتيه فيه العلماء ويحتارون، وقد يصلون إلى بصيص من النور.. وقد يظلون في غياهب الجهل وظلماته.
قلت: إن ما تقوله عظيم.. ومن الصعب إثباته.
قال: لقد ذكرت لك بأني ظللت دهرا من عمري أبحث عن الإنسان الكامل.. وقد كان أول مقياس وضعته لهذا البحث هو حقائق العلوم.. وقد وضعت أربعة ضوابط لمن اكتملت له العلوم.. وقد وجدت أن هذه الضوابط الأربعة لم تكتمل لأحد كما اكتملت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فما هي؟
قال: الصدق، والثبات، والشمول، والنفع.
قلت: فهل ستختصر لي الطريق لتعلمني ما وصلت إليه في أبحاثك؟
قال: يشرفني ذلك.. لقد دلني الله في أثناء رحلتي على كثير من الربانيين اختصروا لي من الطرق ما لو ظللت طول عمري أسير ما قطعته.. ويشرفني أن أفعل معك ما فعلوا معي.
قلت: فهلم نبدأ بالضابط الأول.
قال: ليس هنا.. هلم بنا إلى البيت.. ومن الغد ـ إن شاء الله ـ نبدأ البحث عن تحقق هذه الضوابط في علوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولن نتلقى العلوم إلا من أهلها وفي محالها.
في اليوم الأول.. سرت مع الباقر إلى مكتبة عامرة بالمخطوطات القديمة.. وقد كانت مكتبة مختصة بما كتب من معارف بشرية قديمة ترتبط بعلم الفلك.
وقد شد انتباهي كثرة ما فيها من مؤلفات إلى درجة أن الانبهار أصابني، فصحت من غير أن أشعر: عالم هو من قرأ كل هذه الكتب..
التفت الباقر إلي، وقال: ماذا تقصد؟
النبي الإنسان (232)
قلت: من رزق أن يسجن في هذه المكتبة عشرة أعوام، فإنه لن يخرج منها إلا عالما جليلا، ينكب الناس على يديه بالتقبيل، وعلى كلماته بالتسجيل.
قال: بل قل: إن من تعلم من هذه الكتب لن يخرج إلا جاهلا.. وما أسهل على صبي في الابتدائية أن يصحح له ما يقع فيه من أخطاء.. بل ما أسهل على عامي بسيط شاهد شريطا من أشرطة علم الفلك على التلفاز أن يصحح له كل ما تعلمه من علوم.
قلت: كيف تقول هذا؟.. أليست هذه المخطوطات في علم الفلك.. وقد كتبها علماء كبار في علم الفلك؟
قال: ما تقوله صحيح.
قلت: فما الذي جعل من علمهم جهلا.. وما الذي حول كل هذه الخزائن مجرد لغو لا يسمن ولا يغني من جوع؟
قال: حولها إلى ذلك افتقارها إلى الشرط الأول من شروط العلوم، وهو الصدق.. ألم أذكر لك أنه أول ضابط تتحقق به من صدق المعارف، وصدق مصدرها؟
قلت: بلى.. لقد ذكرت لي هذا.
أشار إلى ركن من المكتبة، وقال: في هذا الركن ما كتبه الصينيون في علم الفلك..
أتدري.. لقد كان الصينيون يعتبرون الأرض عربة ضخمة في أركانها أعمدة ترفع مظلة (السماء)، ويعتقدون أن بلاد الصين تقع في وسط هذه العربة، ويجري النهر السماوي (النهر الأصفر) من خلال عجلات العربة، ويقوم السيد الأعلي المهيمن علي أقدار السماء والأرض بملازمة النجم القطبي بالشمال بينما التنينات تفترس الشمس والقمر.
وفي القرن الثاني ق. م. وضع الفلكي الصيني (هياهونج) نظرية السماء الكروية حيث قال أن الكون بيضة والأرض صفارها وقبة السماء الزرقاء بياضها.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما كتبه الروس في علم الفلك..
النبي الإنسان (233)
لقد كان الروس يعتقدون أن الأرض عبارة عن قرص يطفو على الماء تحمله ثلالث حيتان عظيمة.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن زنوج إفريقيا في علم الفلك.. لقد اعتقدت بعض المجتمعات في افريقيا أن الشمس تسقط كل ليلة عند الأفق الغربي إلى العالم الاسفل، فتدفعها الفيلة للأعلى ثانية لتضيء الارض من جديد، وتتابع هذه الحركة يوميا.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن الهنود الحمر في علم الفلك..
لقد كان الهنود الحمر يعتقدون أن أميراتهم الصغيرات يجب أن يسهرن على ضوء المشاعل، ليأتي طائر الكونكورد (رسول السماء) ليأخذ المشاعل ويضيء الشمس من جديد وهكذا..
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن السومريين في علم الفلك..
لقد اعتقد السومريون أن الأرض هضبة تعلوها القبة السماوية، وتقوم فوق جدار مرتفع على أطرافها البعيدة، واعتبروا الأرض بانثيون هائل تسكن فوق جبل شاهق.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن البابليبن في علم الفلك..
لقد رأى البابليون أن المحيطات تسند الأرض والسماء، وأن الأرض كتلة جوفاء تطفو فوق تلك المحيطات وفي مركزها تقع مملكة الأموات. لهذا أله البابليون الشمس والقمر. فغالبا ما تصورت الحضارات القديمة أنهما يعبران قبة السماء فوق عربات تدخل من بوابة مشرق الشمس وتخرج من بوابة مغرب الشمس. وهذه مفاهيم بنيت علي أساسها اتجهات المعابد الجنائزية.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن الكلدانيين في علم الفلك..
لقد استطاع الكلدانيون من خلال مراقبتهم لحركة الشمس ومواقع النجوم بالسماء وضع تقويمهم. واستطاعوا التنبؤ من خلال دورتي الشمس والقمر بحركتيهما ما مكنهم من وضع تقويم البروج، فربطوا من خلالها بين الإنسان وأقداره، واعتبروا أن حركات النجوم إنما هي خاضعة لمشيئة الآلهة، لهذا توأموا بين التنجيم والفلك، ومن خلال تقويم البروج تمكنوا من التنبؤ
النبي الإنسان (234)
بكسوف الشمس وخسوف القمر، لكنهم لم يجدوا لها تفسيرا.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن قدماء المصريين في علم الفلك..
لقد كان قدماء المصريين يعتقدون أن الأرض مستطيلة طويلة يتوسطها نهر النيل الذي ينبع من نهر أعظم يجري حولها تسبح فوقه النجوم الآلهة، والسماء ترتكز علي جبال بأركان الكون الأربعة وتتدلى منها هذه النجوم..
أشار الباقر إلى أركان أخرى، لا أذكرها الآن بالضبط، فيها من المعارف مثل الذي سبقها، مما جعلني أقتنع في الأخير بما ذكر لي من أن العلوم التي سجلت في تلك المخطوطات ممتلئة بدجل كبير، وأن الذي يقرؤها ويضيع وقته بقراءتها، ويضيع جهد عقله بفهمها لن يظفر في الأخير إلا بالسراب.. وسيضحك عليه أبسط الناس إن هو راح ينشر علومه بين الناس.
-\--\-
انتقلنا إلى مكتبة أخرى وضع فيها ما نقله التاريخ من معارف بشرية ترتبط بعلم الأجنة.. وقد رأيت فيها من أوهام البشرية المرتبطة بهذا العلم ما رأيت في سابقتها (1).
وقد ظللنا طيلة ذلك اليوم ـ أنا والباقر ـ نتجول على المكتبات القديمة لنرى ما سطر فيها من أنواع المعارف والعلوم.. وقد أذهلني ما رأيت فيها من أخطاء كثيرة، بل دجل كثير لا يصعب على تلاميذ المدارس الابتدائية أن يكتشفوه.
في ذلك المساء، وبعد أن عدنا إلى البيت قلت له: لقد كانت البشرية ترزح تحت أثقال ضخمة من الجهل.
قال: وأخطر ما فيه أنه جهل مركب.. لقد تبنت الكنيسة بعض تلك المعارف، وراحت تنسبها للدين، وتشنق وتحرق من يخالفها..
قلت: ألا ترى عذرا لمن نطق بتلك المعارف؟
__________
(1) أشرنا إلى هذه المسألة بتفصيل في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
النبي الإنسان (235)
قال: وما العذر الذي تراه أنت؟
قلت: العذر الذي أراه.. والذي قد يوافقني عليه الجميع.. هو أن تلك المعارف كانت تفتقر إلى الوسائل.. فلم يكن من السهولة التعرف على حقائق الفلك من دون التلسكوبات الضخمة.. ولم يكن من السهولة التعرف على الجنين من دون التطور في معرفة المجاهر وأجهزة التصوير المختلفة.. وهكذا..
قال: قد أعذرهم كما تعذرهم.. ولكن ألا ترى أن وقوعهم في الكذب يرفع الثقة في كثير من علومهم؟
قلت: بلى.. بل هو يرفع الثقة في كل علومهم.
قال: ولهذا كان الشرط الأول الذي وضعته لعلوم الإنسان الكامل أن تتحقق بالصدق المطلق الذي لا يخالطه شك ولا وهم ولا شبهة.
قلت: إن وجود مثل هذا مستحيل.
قال: لقد وجدته بحمد الله..
قلت: أين.. وعند من؟
قال: عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. إن كل ما نطق به من علم في أي موضوع من الموضوعات، وفي أي مجال من المجالات كان حديث صدق لا يزاحمه شك، ولا تقاربه شبهة.
قلت: كيف تقول هذا.. وما محمد إلا بشر ولد في بيئة لها علومها التي لا تزيد على ما رأيناه من علوم الشعوب المختلفة إن لم تكن تنقص عليها.
قال: أنسيت من علم محمد؟.. إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلقى علومه من الله.. وعند الله الحقيقة المطلقة التي لا تزاحمها الشبهات.
قلت: ولكنه كان يفتقر للوسائل.. فلم تكن له المجاهر، ولا المراقب، ولا المصورات، ولا الكواشف..
النبي الإنسان (236)
قال: وهل ترى من يسير في ضوء النهار محتاجا إلى سرج يستضيء بها؟
قلت: لا..
قال: فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محتاجا لأي واسطة في علومه ما دام يتلقاها من المصدر..
قلت: إن ما تذكره يصعب إثباته.
قال: بل ما أسهل إثباته.
قلت: كيف أستطيع التثبت منه؟
قال: دونك مصادر الإسلام المقدسة.. دونك القرآن الكريم.. ودونك دواوين السنة.. فهي دواوين تمتلئ بها رفوف المكتبات، وخزائنها بمخطوطاتها القديمة وبمطبوعاتها الحديثة.
قلت: ولكن السنة دخلها التحريف.
قال: ما أسهل تمييز الصحيح من المحرف.. إن معك القرآن.. وهو ما يساعدك على تمييز صحيح من السنة من ضعيفها.
قلت: فهلا ضربت لي مثالا يقرب لي تحقق علوم محمد بالصدق المطلق؟
قال: لقد عرفت الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها البشرية، ولفترة طويلة من تاريخها حول حقيقة الجنين، والمراحل التي يمر بها..
قلت: أجل.. ولولا أن من الله على البشرية بما اخترعت من وسائل لظلت في غياهب الجهل، أو لظلت متعلقة بما تكهن به الكهنة، وحدس به الحدسة.
قال: ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نطق بالحقيقة المطلقة من غير أي وسيلة (1)..
لقد ورد في الحديث تحديد للمواعيد التي تمر بها كل مرحلة من مراحل الجنين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها، وبصرها،
__________
(1) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
النبي الإنسان (237)
وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيفضي ربك ما شاء ويكتب الملك) (1)
إن هذا الحديث العجيب فيه حقائق كثيرة من حقائق علم الأجنة لم تصل إليها البشرية إلا بشدة، وبعد مرور زمن طويل.
أما الحقيقة الأولى، فهي تخلق الإنسان من النطفة المنوية المتكونة من ماء الرجل وبييضة المرأة، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (إذا مر بالنطفة) أي أن الإنسان يخلق من النطفة لا من دم الحيض، كما كان شائعاً بين الأطباء إلى القرن السابع عشر.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن الحديث حدد ليلة معينة من عمر الجنين يدخل بعدها الملك: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً)
أما الحقيقة الثالثة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فصورها) أي أن الصورة الآدمية للجنين تبدأ بالظهور بعد الليلة الثانية والأربعين.
أما الحقيقة الرابعة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وخلق سمعها)، وكذلك يبدأ ظهور الأذن وجهاز السمع.
أما الحقيقة الخامسة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وبصرها) أي وخلق بصرها؛ فيبدأ ظهور العين وجهاز البصر.
أما الحقيقة السادسة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وجلدها) أي أن الجلد يخلق بعد الليلة الثانية والأربعين.
أما الحقيقة السابعة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولحمها) أي أن اللحم (العضلات) يخلق بعد نفس الليلة.
أما الحقيقة الثامنة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وعظامها) حيث يخلق الملك العظام (الهيكل العظمي) بعد نفس الليلة.
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (238)
أما الحقيقة التاسعة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى)، أي أن الملك يبدأ بتشكيل الأعضاء التناسلية الخارجية (الفرج) في الذكر والأنثى، والتي بها يتم التمييز بين الذكر والأنثى وذلك بعد الليلة الثانية والأربعين أيضاً.
أما الحقيقة العاشرة، فهي أن الجنين يمر بأطوار قبل الليلة الثانية والأربعين؛ وهو ليس في صورة آدمية، ولا توجد فيه الأعضاء والأجهزة التي ذكر الحديث أنها لا تخلق إلا بعد الليلة الثانية والأربعين.
إن ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصدقه كل علماء الأجنة..
قلت: وعلم الفلك.. ذلك العلم الذي تاهت فيه شعوب الأرض؟
قال: في كل ذلك التيه الذي رأيته كان هناك إنسان واحد عرف من حقائق الكون ما لا يزال قومك يجهلونه، أو يكدون في البحث عنه.
قلت: هل استطاع محمد أن ينجو من كل ذلك التيه؟
قال: أجل (1).. في ذلك الوقت الذي كان الناس فيه يتعاملون مع الكون بحشد من المخاوف والأساطير، وكانوا يخشون أنهم لو فشلوا في ممارسة السحر والطقوس والترانيم الوثنية في اتصالهم بالكون سيباغتون بانقلاب في نظام الطبيعة كله.
وفي ذلك الوقت الذي كانوا يفسرون فيه الكون تفسيرًا خرافيًّا عجيبًا: فمنهم من يفسر حركة الكسوف والخسوف بأن وحشًا ضخمًا قد قضم الشمس أو القمر.. ومنهم من يقول بأن الأرض محمولة على قرن ثور، وأن حركة المد والجزر ليست سوى أثر من آثار شهيق الثور وزفيره.. ومنهم من جزم بأن السماء (قبة) من نحاس، وأن من يزعم غير ذلك فهو ملحد مهرطق يجب قتله، ولم يكن العرب استثناء من هذه الأساطير والأوهام فيما يتعلق بالكون. فقد كانوا
__________
(1) الكلام التالي مقتبس بتصرف من مقال بعنوان (التنوير بالكونيات وأثره في الحضارتين الإسلامية والأوروبية)، لزين العابدين الركابي.
النبي الإنسان (239)
ملفوفين في ظلمة التنجيم والتكهن والتطير، وخرافات الهامة، وصفر، والغراب الأسود، كما قال شاعرهم:
يا عبل كم يشجى فؤاد بالنوى ويروعني صوت الغراب الأسود
في ذلك الوقت كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ من آيات القرآن ما يوضح به الحقائق التي لم تصل إليها البشرية إلا بعد أن اخترعت من الأجهزة ما ظلت تلهث طوال عمرها في البحث عنه (1).
اسمع مثلا هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)
إن كل كلمة في هذه الآية تحمل من الحقائق ما بذلت البشرية من أجله سنون طوالا وأسفارا ضخمة لأجل الوصول إلى بعض الحقائق التي تنص عليها هذه الآية الكريمة.
من الحقائق التي تشير إليها هذه الآية مثلا حقيقة البداية الأولى للكون.. فقد كانت البشرية منذ أطوارها الأولى تتساءل عن بداية الكون، وعن كيفية حصول ذلك.. وكيف كان شكله حين بدأ؟ ومتى بدأ؟ وإلى أين يسير؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الإنسان منذ القديم، ولكنه أجاب عنها إجابات خاطئة كثيرة.. بل لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة، ما عدا الإجابة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي أيدها بعد ذلك العلم الحديث بأجهزته المتطورة.. وذلك منذ بداية القرن العشرين.
فمنذ نصف قرن تقريباً بدأ العلماء يرصدون الأمواج الكهرطيسية القادمة إلى الأرض، وقاموا بتحليل هذه الأمواج، وتبين أنها تعود لآلاف الملايين من السنين.
ومعظم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة أجمعوا على أن هذا النوع من الأشعة ناتج عن بقايا انفجار عظيم.. كان ذلك الانفجار هو بداية نشوء الكون وتوسُّعه.. لقد اكتشفوا أن الكون
__________
(1) انظر التفاصيل المثبتة لهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
النبي الإنسان (240)
كله قد بدأ من نقطة واحدة (1).
-\--\-
بقيت مع الباقر طيلة ذلك المساء أسأله عن تصحيح القرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لتلك الأخطاء الكثيرة التي وجدناها في المكتبات المختلفة.. وبعد أن نفذ ما عندي من أسئلة، قال لي: ألا أدلك على أعظم ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال؟
قلت: إن كل ما ذكرته عظيم.. فهل هناك ما هو أعظم منه؟
قال: أجل.. لقد علمنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أعظم من تلك المعارف جميعا.
قلت: ما هو؟.. شوقتني إليه.
قال: لقد علمنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنهج الصحيح الذي نبحث بواسطته عن المعارف، وأزاح عن عيوننا تلك الخرافات والأساطير التي تحجبنا عن الرؤية الصحيحة للحقائق.
قلت: فاشرح لي ذلك.
قال: إن شرح ذلك يطول.. ولكني سأحدثك عن أمرين كانا من أخطر العقبات في تاريخ العلوم.
قلت: ما هما؟
قال: أما أولهما: فالأسطورة.. وأما الثانية:.. فالدجل.. ولكليهما علاقة كبرى ببعضهما، فالدجل يولد الأسطورة، والأسطورة تولد الدجل.
قلت: كيف ذلك؟
قال: الدجال المحتال قد ينشر أسطورة ترتبط بظاهرة من الظواهر الكونية، ليجني من خلال الأسطورة ما شاء له هواه أن يجني.. والأساطير تنتج الدجالين الذين يرمون بالغيب من غير تحقيق.
__________
(1) انظر التفاصيل المرتبطة بهذه النظرية في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة..
النبي الإنسان (241)
قلت: فكيف تخلص محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذين النيرين؟
قال: لقد خلصه ربه.. أنسيت أن محمدا كان تلميذا في حضرة الله يتعلم من الله مباشرة من غير وسائل؟
قلت: فكيف خلصه ربه؟
قال: إن الوحدانية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي تعني أن رب الكون واحد، وأنه الوحيد المتصرف في الكون قضت على كل الأساطير التي أثقلت كاهل البشرية.
لقد ذكر الله تعالى كيف كان المشركون يتخوفون من عوالم الجن، فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6).. لقد كانت الأسطورة هي التي تملأ القلوب بالمخاوف.. فلما جاءت حقائق التوحيد رفعت كل تلك المخاوف.. وعاد الشيطان.. ذلك الغول الذي استغله الدجالون صغيرا حقيرا لا يستحق كل تلك الهالات من الأساطير التي حامت حوله.
لقد قال الله تعالى يطمئن عباده المؤمنين: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (لأعراف:201)، وقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة:10)، وقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: 76)، وقال: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (لأنفال:48)
ولهذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن ينسب ما يحصل من حوادث للشياطين، قال بعض الصحابة: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعثرت دابة فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول: بقوتي ولكن، قل: بسم الله، فإنك إذا قلت
النبي الإنسان (242)
ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب) (1)
ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفسر ما يحصل في الكون تفسيرا أسطوريا.. ففي الحديث أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)
إن هذا الحديث العظيم يرسم المنهج الصحيح للتعامل العلمي مع الكون، فكل ما في الكون آيات لله.. لا يؤثر فيها من الأسباب إلا ما أراد الله أن يؤثر..
إن هذا الحديث قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في واقع كان يموج بالأسطورة.. وفي واقع كان على أتم الاستعداد لتقبل أي تفسير أسطوري يستغله أي دجال أو خرافي..
لقد كان الكثير من الناس في ذلك الحين، وقبله يعتقدون أن الكسوف هو نتيجة لتصارع الآلهة، وكانت بعض الشعوب في الصين يرمزون للشمس بأنها طائر ذهبي، ويرمزون للقمر بضفدع وعند حدوث الكسوف فإن معركة ما تدور بين هذين الرمزين.
أما قبائل الأمازون فكانوا يعتقدون أن القمر أثناء الخسوف قد رماه أحد الأطفال بسهم في عينه مما أدى إلى نزيف في هذا القمر، ثم يُشفى القمر بعد ذلك ويعود لوضعه الطبيعي.
وكان الصينيون يفسرون ظاهرة كسوف الشمس على أن تنّيناً يحاول أن يبتلع قرص الشمس، لذلك كانوا يضربون بالطبول، ويقذفون بالسهام لأعلى محاولة منهم إخافة التنين وإعادة الشمس لهم من فمه.
وفي الهند كان الناس يغمرون أنفسهم بالماء عند رؤيتهم هذه الظاهرة لكي لا يسقط عليهم شيء منه..
وحتى يومنا هذا يعتقد الإسكيمو أن الشمس تختفي وتذهب بعيداً أثناء ظاهرة كسوف
__________
(1) رواه أبو داود وغيره.
النبي الإنسان (243)
الشمس ثم تعود من جديد.
وفي ظل هذه الأساطير كان العرب ينظرون إلى كسوف الشمس على أنه يمثل موت إنسان عظيم، أو خسارة معركة عظيمة.
ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى هذه الظاهرة نظرة علمية محضة، لقد أخبرهم أن الشمس والقمر مخلوقات وآيات مسخرة لله، ولا علاقة لهما بما يحدث على الأرض من ولادة أو موت أو غير ذلك.
وفي هذه العبارة وضع محمد صلى الله عليه وآله وسلم أساساً للبحث العلمي في الظواهر الكونية على اعتبار أنها آيات من عند الله ومخلوقات تخضع لإرادة خالقها.
زيادة على ذلك، فإن هنالك شيئا مهما يثبت أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من الصنف الذي يريد الشهرة أو المال.. فقد جاءه من يمدحه ويجعل من كسوف الشمس مناسبة لموت ابنه، وكان في إمكانه أن يسكت عن هذا الأمر، وأن يترك الناس يقدسونه ويرفعون من شأنه لكنه لم يفعل.
قلت: عرفت العقبة الأولى.. وعلمت أنه لا يوجد دين من الأديان قضى على الأسطورة كما قضى عليها الإسلام.. فكيف واجه محمد العقبة الثانية؟.. وهي عقبة لا تقل عن العقبة الأولى إن لم تكن تفوقها.
قال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم واجه العقبة الثانية بالتحذير من الدجل والكذب بكل أصنافه.. فالله تعالى يقول ـ راسما المنهج العلمي الصحيح ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36)، ويقول مطالبا بالبراهين في مواجهة الدجل: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)
فلذلك لم يعذر الإسلام من عذرتهم من الشعوب فيما وقعوا فيه من أخطاء.. ذلك لأن افتقارهم للوسائل لا يبيح لهم أن يتحدثوا فيما لا علم لهم به، قال تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ
النبي الإنسان (244)
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ:53)
وفوق ذلك، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالتعاليم التي توفر الاستعداد النفسي للتعامل العلمي مع حقائق الكون.. ولهذا، فإن عصر التنوير يبدأ في الحقيقة من الأيام التي تشرف فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجلوس بين يدي ربه للتعلم منه، ثم نشر ما تعلمه منه بين يدي عباده..
من ذلك الوقت بدأ التنوير..
لقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتعاليم التي جددت الإحساس بالكون وإزالة الغفلة المعطّلة لرؤية الأشياء بسبب الإلف الطويل.. فالله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (ابراهيم:19)، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الحج:63)
بل إنه يحرض على النظر العلمي إلى الكون، ومكوناته.. والنظر، واستعمال كل وسائل الإدراك هو الأساس الذي ينبع منه المنهج العلمي الصحيح، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام:11)
وبعد ذلك يحث القرآن على استعمال الفكر وتوظيفه التوظيف الصحيح للتعرف على الكون وحقائق الكون بعيدا عن كل المؤثرات، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد:3)
إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بهذه التعاليم التي جاء بها.. والتي توجهت حياته كلها لتنفيذها.. كان المقدمة الصحيحة لعصر التنوير..
ولذلك، فإن الورثة الذين تعلموا هذه المبادئ من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم قاموا بتشييد بنيان صحيح للعلم يعتمد الصدق والتحقيق العلمي، ويبعد كل أسطورة وخرافة ودجل..
النبي الإنسان (245)
في اليوم الثاني.. سرت مع الباقر إلى متحف مختص بتراجم العلماء والعباقرة على مدار التاريخ..
لقد كان هذا المتحف تحفة من تحف الفن.. والسائر فيه كالراكب في عربة الزمن، فهو يدخل ـ بدخوله أول باب ـ التاريخ.. وينتهي بانتهائه ما وصلنا إليه منه..
كانت كل مسافة من ذلك المتحف تشكل مرحلة زمنية.. وفي كل مرحلة كنا نسيرها نرى المعلقات، وبجانبها المجسمات الملخصة لحياة ذلك العالم أو العبقري الذي نال شرف الدخول إلى ذلك المتحف.. وبجانبها الدراسات الملخصة لفكره، وما أنتجه في حقول المعرفة.
بعد أن سرنا مسافة طويلة في ذلك المتحف.. وبعد أن اطلعنا على ما كتب في كثير من تلك المعلقات، سألني الباقر: ألا تلاحظ شيئا مشتركا بين هؤلاء الذين مررت عليهم جميعا؟
قلت: هناك أشياء كثيرة مشتركة.. فأيها تقصد؟
قال: التطور.. ألا ترى أن كل عبقري أو عالم يمر بمراحل في حياته.. فهو في البدء يكون مبتدئا، وتكون له حينها أفكار وعلوم قد تختلف اختلافا جذريا عن مراحل أخرى متقدمة في حياته..
وليس ذلك خاصا بأفراد العلماء فقط.. بل هو يشمل الجماعات الكثيرة منهم.. فكل جماعة منهم تنتمي إلى مرحلة من المراحل.. وتلك المرحل تعبر عن توجه معين، يعقبه توجه أكثر منه تطورا..
قلت: ذلك صحيح.. فالإنسان كالنبات يبدأ براعم صغيرة، فإذا ما تعهدها بالسقي نمت ونضجت..
قال: إلا من تعلم من الله.. فإنه لن يحتاج إلى الزمن حتى ينضج.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لأن السبب الذي جعل العالم لا يثبت على آرائه التي كان قد رآها هو ما فتح له من
النبي الإنسان (246)
العلوم التي كانت منغلقة عليه.. لكن العلوم إن انفتحت له انفتاحا نهائيا، فإنه لن يحتاج إلى مراجعة ما رآه من آراء.
قلت: ولكن المسلمين يخبرون بأن في النصوص ما نسخ.
قال: إن صح ما ذكروا.. فإن ذلك لا يتعلق بالأخبار.. وإنما يتعلق بالتشريعات، والتشريعات قد تختلف البيئات فيها، فيختلف الحكم بسبب ذلك.. ثم إن ما ذكر من التشريعات المخصوصة لا يعدو قضايا بسيطة هي في نفسها محل خلاف..
أما أنا.. فقد بحثت فيما ذكروا، فلم أجد أي شيء مما يذكرونه من النسخ.. فكل النصوص التي قالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو التي نقلها عن ربه.. كلها محكمة ثابتة لا تزيدها الأيام إلا رسوخا.
قلت: ولكني أرى البعض يتحدث في بعض القضايا التي عرضها محمد، ويذكر أنها وليدة البيئة، وهي بالتالي لا تستحق أن تكون من العلوم الثابتة التي يمكن أن يستفاد منها في كل ظرف، وفي كل حال.
قال: مثل ماذا؟
قلت: لقد ورد في بعض الأحاديث ما قد يتوجه له أهل العلم بالنقد.. ففي الحديث أن بعضهم سأل محمدا عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء) (1)
فإن هذا الحديث قد انتقد من طرف المختصين الذين يعتبرون الخمر علاجا لبعض الحالات المرضية.. وذلك مشتهر بين العامة.
قال: لقد ورد الحديث جازما بأن الخمر داء وليست دواءا.. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق من عنده، فكل ما ينطق به تعليم إلهي، لقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم).. فلذلك أنا أومن بما جاء في هذا الحديث، وأتيقن تماما أن حقيقته إن لم تدل عليها
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (247)
الأدلة اليوم، فستدل عليها الأدلة غدا.
قلت: أما إن قلت هذا.. فإني سأذكر لك علم كنت قد علمته يتعلق بهذا.. لقد سمعت مرة محاضرة لطبيب مشهور هو الدكتور (أوبري لويس) وهو رئيس قسم الأمراض النفسية في جامعة لندن قال فيها (1): (إن الكحول هو السم الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله.. ولهذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية، ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية ومرضها)
ثم يقول: (إن جرعة واحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود، وقد تؤدي إلى الغيبوبة.. أما شاربو الخمر المزمنون فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون)
قال: بورك فيك.. وأنا متيقن أن الأيام ستكتشف الكثير مما يقرر صدق ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الله تعالى يشير إلى ذلك: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)
قلت: لقد توجة البعض ناقدا لما ذكر محمد في شأن الكلاب، وتربية الكلاب.. فالرقي الحضاري لأهل عصرنا جعلهم يجعلون من هذه الأحاديث تحذيرات لا مبرر لها..
قال: لقد نشر الدكتور (جراد فنتسر) في مجلة كوسموس الألمانية مقالاً تحت عنوان (الأخطار التي تنشأ عن اقتناء الكلاب والاقتراب منها) جاء فيه: (إن ازدياد شغف الناس بالكلاب في هذا العهد الأخير، يضطرنا إلى لفت الأنظار للأخطار التي تنجم عن ذلك، وخاصة إذا دفع اقتناؤها إلى مداعبتها وتقبيلها، والسماح لها بلحس الأيدي وتركها تلعق فضلات الطعام من أوانيها، فكل ما ذكره مع نبوّه عن الذوق السليم، ومنافاته للآداب، لا يتفق وقوانين الصحة فإن الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب هذا التسامح لا يستهان بها، فإن الكلاب
__________
(1) مرجع برايس الطبي- الطبعة العاشرة.
النبي الإنسان (248)
تصاب بدودة شريطية تتعداها إلى الإنسان وتصيبه بأمراض عضالة قد تصل إلى حد العدوان على حياته.
وقد ثبت أن جميع أجناس الكلاب حتى أصغرها حجماً لا تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطية.
وقد رؤي في إقليم فريزلند بهولندة حيث تستخدم الكلاب في الجر أن في كل مائة منها 12 إصابة، ووجد في إيسلاندا شخص مصاب بهذه الآفة في كل 43 شخصاً من أهاليها، وشوهد أن هذه النسبة تزيد في استراليا إذ ثبت وجود شخص في كل 39 شخصاً من سكانها مصاباً بها، وثبت كذلك أنها كانت سبباً مباشر للكثير من الأمراض في الأقطار الأخرى.
ومما تجب على الناس مراعاته عدم مداعبة الكلاب، وتعويد الأطفال التوقّي منها، فلا تترك تلعق أيديهم ولا يجوز إبقاء الكلاب بمحال نزهة الأطفال، وميادين رياضتهم، ويجب أن لا تطعم الكلاب في الأواني المعدّة لأكل الناس، وأن لا يسمح لها بدخول متاجر المأكولات والأسواق العامة أو المطاعم على وجه عام يجب إبعادها عن كل ما له صلة بمأكل الإنسان ومشربه.
قلت: لقد اخترع أهل عصرنا الكثير من مواد التنظيف.. وهذا قد يغني عما ورد في الحديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه كلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) (1)
قال: ومع ذلك، فقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث إلى مطهر بسيط واقتصادي وموجود في كل مكان.. وهو التراب.. فقد اكتشف أهل عصرنا الكثير من مبيدات الجراثيم في التراب.. فالستربتومايسين والتتراسكلين والنيوماسين، كلها من مبيدات الجراثيم، استفيد من التراب في استخراجها لوجود ذيفان في جراثيمه يقضي على أنواع من الجراثيم الأخرى.
قلت: صحيح ما ذكرت.. ولا ينبغي لي أن أجادلك فيه.. ولكن هناك أمرا مثيرا يعتبره
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (249)
بعض أهل عصرنا نوعا من الدجل، وبعضهم يعتبره نوعا من الحيل.
قال: تقصد ما ورد في النصوص الكثيرة من كون البلاء والعقوبات مرتبطة بالذنوب..
قلت: أجل.. فقد اعتبره بعضهم دجلا متنافيا مع ما تنص عليه العلوم من اعتبار الذنوب لا علاقة لها بما يحصل في الكون من حوادث..
وبعضهم اعتبرها نوعا من الحيل التي قصد منها جر الناس إلى العمل الصالح، ولو بالكذب.
قال: كلهم قد يكذب، ويحتال ليكذب إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد تعلم من ربه.. ومن تعلم من ربه لن يحتاج إلى الكذب.
قلت: فكيف ترد على هذا الإشكال؟
قال: ألا يعرف هؤلاء الناقدون أن أكثر الأمور تكون نتيجة لعوامل كثيرة، كل عامل منها يكون سبباً من عدة أسباب مؤثرة فيه، وفي هذه الحال لو ذكر إنسان سبباً فقط، ولم يذكر الآخر لا يعني هذا أنه ينفي البقية؟
فقد يكون الكسل ـ مثلا ـ نتيجة لاجتماع الحر والتعب والضجر والعادة والملل، وقد تجتمع هذه الأسباب كلها عند إنسان، فلو قلت لهذا الإنسان: الحر جعلك تتكاسل لا يعني هذا أنك تنفي سائر الأسباب.
ولهذا، فإن هناك كثيرا من القضايا ربطها الله تعالى بأسباب حسية وأسباب غيبية، كالموت مثلاً، فإن له سبباً حسياً هو المرض، وآخر غيبياً هو قبض الروح من قِبَلَ الملك الموكل بذلك..
ولهذا فإن القرآن والحديث قد يتحدثان في موقف عن السبب الحسي لقضية، وقد يتحدثان في موقف آخر عن السبب الغيبي لها، ولا يعني أن ذكر أحدهما في موطن نفي للثاني (1).
قلت: هناك شيء آخر أعظم خطرا.. لقد ورد في الحديث أن الرعد هو في الحقيقة (ملك
__________
(1) انظر: الرسول، لسعيد حوى.
النبي الإنسان (250)
من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله)، وعندما سألت اليهود محمدا عن الرعد ما هو؟ قال: (ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله)، فقالوا: (فما هذا الصوت الذي نسمع؟)، قال: (زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله)، قالوا: (صدقت)
ألا ترى أن هذا يناقض التفسير العلمي للرعد (1)، والذي يختصره في كونه الصوت الناتج عن تصادم الكهربائية بين السحاب وبين بعضه، أو بين السحاب والأرض (2)؟
قال: إن هذا يصدق عليه ما ذكرته لك من قبل.. فالتفسير المادي الذي ذكرته لا ينافي التفسير الغيبي الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل هو يكمله، بل يعطيه بعدا آخر أكثر جمالا.. فالتفسير المادي الهزيل غير النهائي ـ والذي نوافقهم فيه ـ يجعل من الرعد مجرد صوت جامد لا جمال فيه ولا حقائق يحملها، بينما التفسير الكامل هو ذلك التفسير الذي لا يتناقض أولا مع التفسير العملي، فينفيه، وفي نفس الوقت يضيف تفسيرا آخر يبين حقيقة الحال.
وبذلك تنتفي الخرافية من التفسير الغيبي، بل تجعل من ذلك التفسير تفسيرا علميا، يقصر العقل عن إدراكه لما غاب عنه من وسائل ذلك الإدراك.
فالرعد في المفهوم المادي صوت حتمي ناتج عن حالة فيزيائية معينة، فلا يحمل أي رسالة، ولا يفهم منه إلا ما يفهم من سائر أصوات الأشياء في ارتطاماتها.
__________
(1) للأسف نرى هذا القول تمتلئ به كتب المبشرين، وفي موقع الكلمة وحده عشرات المواضع التي ليس من همها غير التشنيع باعتبار الرعد ملكا.
(2) والتفسير العلمي لذلك أن في السحب كهربائية موجبة وفي الأرض كهربائية سالبة، وقد تكتسب السحب المنخفضة من كهربائية الأرض فتصير كهربائيتها سالبة مثلها، فإن اتفق مرور سحابة من السحب العلوية الجوية فوق سحابة من هذا النوع حصل بينهما تجاذب لأن الجسمين المتكهربين بكهربائيتين مختلفتين يتجاذبان وتتحد بينهما الكهربائيتان.
فتتجاذب تانك السحابتان حتى تتحد كهربائيتاهما وعادة يحصل من هذا الاتحاد حرارة شديدة وتتولد بنيهما شرارة مناسبة لحجم السحابتين فتلك الشرارة هي الصاعقة وما يرى من نورها هو البرق وما يسمع من الرعد هو صوت سريانها في الهواء فيكون الرعد هو صوت الشرارة الكهربائية تخترق طبقات الهواء..
النبي الإنسان (251)
بينما هو في المفهوم الشرعي صوت له معناه وله دلالاته العظيمة، والتي يفقهها أهل الله وأولياؤه، ولذلك قال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (الرعد:13)
وأنا أعجب من العقل المادي في استنكاره للمعاني التي يحملها صوت الرعد، وهو لا يستنكر المعاني التي تحملها أصواته، وهي في حقيقتها المادية كذلك لا تعدوا أن تكون مجرد ارتطامات للهواء الخارج من الرئتين بالحبال الصوتية وبمخارج الصوت.
فكلا الأمرين له تفسيره المادي، والذي لا ينافي في الذهن العلمي تفسيره الغيبي، وإلا صرنا بلها لا نعتقد في الوجود إلا ما تمتد إليه حواسنا القاصرة.
ثم ما الغرابة في اعتبار الكهربائية التي أنتجت الرعد خلقا من خلق الله له روحه وإدراكه ووعيه؟.. فلا غرابة في ازدحام هذا الفضاء الواسع والسموات ذات البروج والأنجم والكواكب كلها بالأحياء وبذوي الادراك والشعور، ولا مانع بناء على هذا أن يخلق الله ذوي مشاعر من النور والنار ومن الضوء والظلام والهواء ومن الصوت والرائحة ومن الكلمات والأثير وحتى من الكهرباء وسائر السيالات اللطيفة الاخرى (1).
في اليوم الثالث طلب مني الباقر أن نسير إلى بعض الكليات الجامعية التي تمتلئ بها القاهرة.. فسرت معه.. وكانت أول كلية زرناها كلية طبية مختصة في أمراض العيون.. فطلب مني أن أسأل بعض أساتذتها عن مسألة هندسية، فقلت له: أتريد أن يسخر مني.. إن هذه كلية طب.. وليست كلية هندسة.. إن شئت الهندسة، فهلم نذهب إلى كليات الهندسة.
قال: ما دامت كلية طب.. فاسأله عن أمراض المعدة.
__________
(1) ذكرنا المسألة بتفصيل في رسالة (أهل الله) عند الحديث عن الملائكة ـ عليهم السلام ـ
النبي الإنسان (252)
قلت: أراك لا تزال تسخر مني.. هذه كلية مختصة بأمراض العيون، ولا علاقة لها بما تسأل عنه.. إن شئت أن تبحث عن هذا، فهلم بنا إلى الكلية المختصة بأمراض الجهاز الهضمي.
سرنا إلى كلية من كليات الحقوق، وطلب مني أن أسأل بعض أساتذتها عن أسئلة مرتبطة بعلم الفلك.. فلم أجبه بما أجبته به.. بل أردت أن أبين له خطأ الأسلوب الذي يتعامل به مع المختصين، فاقتربت من بعض الأساتذة، ورحت أسأله، فتجهم الأستاذ في وجهي، وقال: أراك أخطأت.. فأنت في كلية حقوق، لا في مرصد فلك.. حاول مرة أخرى أن تقرأ واجهة الباب قبل أن تدخل.
بعد أن عدنا أدراجنا إلى البيت في المساء، من غير أن نستفيد أي فائدة سوى ما عرفنا من الجهل المطبق لعلماء أعلام بكل ما هو بعيد عن اختصاصهم، قلت للباقر: أراك ترمي إلى شيء.. فما هو؟
قال: لقد ذكرت لك أن من الضوابط المهمة التي وضعتها لعلوم الإنسان الكامل الشمول.
قلت: أجل.. فما تقصد به؟
قال: إن الذي يتعلم من الله يستحيل أن يحبس في سجن التخصصات.. فالله هو الواسع الذي لا يحده شيء، ولا يضيق دونه شيء.
لذلك قلت لنفسي: إن علوم الإنسان الكامل علوم لا تحدها التخصصات، ولا تقيدها.. لأنها إن كانت كذلك كانت علامة جهل كبير..
قلت: ما الذي تقوله؟
قال: ألا ترى أن المتخصص مقيد في سجن اختصاصه، فهو لا يفسر الأشياء إلا على ضوئها؟
قلت: أجل.. فالمسجون في سجن علم الاجتماع أو في سجن مدرسة من مدارسها لا أراه
النبي الإنسان (253)
في مواقفه يتحدث إلا انطلاقا منها.. وهكذا المسجون في سجون علم النفس.. وهكذا المسجون في سجون التخصصات المختلفة.. حتى التخصصات الدقيقة منها.. ولكن ذلك ضروري، أو كالضروري، فلا يمكن لأحد أن يتقن فنا دون أن يتخصص فيه.. وأو يهب عمره جميعا له.
قال: لكني اكتشفت أن في علوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يختلف عن ذلك تماما.. فعلومه تستقي من محيط صبت فيه جميع بحار العلوم والمعارف، أو كانت هي مصدر جميع العلوم والمعارف.
لقد قال الله تعالى يذكر سعة علمه ـ على لسان إبراهيم عليه السلام ـ: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 80)
وقد أخبر تعالى أن القرآن الكريم نزل من مشكاة علم الله، قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء:166)
لهذا، فإنك تجد في القرآن الكريم، وفي تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم له كل حقائق العلوم ما تعلق منها بالوجود، أو بالحياة، أو بتنظيم الحياة.. كل ذلك تجده واضحا جليا في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة.
لقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89)
فكل الحاجات التي ترتبط بالإنسان توجد خلاصتها في هذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والذي قام محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته جميعا بتفسيره..
قلت: ولكن العلوم كثيرة.. وقد وضعت في آلاف.. بل عشرات الآلاف من المراجع الضخمة..
قال: إن عشرات الآلاف من الكتب قد يمكن تلخيص ما يفيد منها في كلمات معدودات.. بل قد يمكن تلخيص جهود بشرية طويلة في معادلة واحدة..
النبي الإنسان (254)
قلت: ألا يمكن أن توضح لي هذه النقطة بمثال تضربه؟
قال: سأذكر لك مثالا يرتبط بعلم من العلوم.. هو علم الوراثة..
لقد حظي هذا العلم باهتمام البشرية منذ القديم (1)..
في البدء اقترح الفيلسوف الإغريقي أرسطو، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، إحدى أقدم النظريات المعروفة في مجال الوراثة، حيث أشار إلى أن السمات تورث عبر الدم.. وقد كانت هذه النظرية خاطئة، ولكنها ظلت مقبولة لأكثر من ألف عام.
ولم يتمكن العلماء من التوصل إلى نظرية صحيحة عن الوراثة إلا بعد اكتشاف الخلايا الجنسية وتحديد وظائفها.
وخلال أوائل القرن التاسع عشر، اقترح عالم الأحياء الفرنسي شيفالييه دو لامارك أن السمات التي تكتسب أثناء حياة الكائن الحي يمكن أن تمرر إلى النسل، وأوضحت الاكتشافات الوراثية المتأخرة أن السمات المكتسبة لا تنتقل من جيل لآخر.
وكانت هذه النظرية، بالرغم من عدم صحتها، مقبولة لدى عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين، الذي اقترح نظرية الانتخاب الطبيعي في كتابه أصل الأنواع (1859 م)، فقد اعتقد داروين، أن كل جزء من أجزاء الجسم ينتج جسيمات دقيقة تتحرك عبر مجرى الدم إلى البيوض أو النطاف، وأن هذه الجسيمات هي التي تسيطر على السمات الوراثية.
ولم يقبل العالم البريطاني فرانسيس جالتون، وهو ابن أخ داروين، هذه الفكرة، حيث أجرى عملية نقل دم من أرانب سوداء إلى أرانب بيضاء، ليرى ما إذا كانت الأرانب البيضاء ستنجب أرانب سوداء، ولكن الأرانب البيضاء أنجبت صغارًا بيضاء أيضًا.
خلال أواسط القرن التاسع عشر أجرى الراهب النمساوي وعالم الأحياء جريجور مندل سلسلة من التجارب على الوراثة، حيث درس في حديقة ديره السمات الوراثية في نبات
__________
(1) انظر المادة العلمية المرتبطة بهذا في (الموسوعة العربية العالمية) مادة (الوراثة)
النبي الإنسان (255)
البطاطس. وقادت نتائج هذه التجارب مندل إلى صياغة أول نظرية صحيحة عن الوراثة.
بعدها نشر مندل تقريرًا عن عمله في عام 1866 م، وظل هذا التقرير مجهولاً حتى عام 1900 م عندما أعاد ثلاثة علماء نبات أوروبيين، كل على حدة، اكتشافه أثناء تجاربهم حول الوراثة، فقد أجرى هؤلاء العلماء ـ وهم الهولندي هوجو دو فريس، والألماني كارل كونز، والنمساوي إيريخ فون تشيرماك ـ تجارب على استيلاد النباتات، وتوصلوا، كل على حدة، إلى نفس ما توصل إليه مندل من نتائج.
وتلا ذلك عدد من الاكتشافات الوراثية الهامة: فخلال أوائل القرن العشرين، اكتشفت مجموعة من العلماء بجامعة كولومبيا في نيويورك سيتي، بقيادة توماس هنت مورجان، عددًا من المبادئ الوراثية المهمة.
وقد درس مورجان ومجموعته، التي تألفت من كالفن بريدجز وهيرمان مولر وألفرد ستيرتفانت، توارث سمات مثل لون العيون وشكل الأجنحة في ذبابة الفاكهة، وبينوا أن المورثات توجد في الصبغيات، وصمموا أول خريطة وراثية، وأوضحوا انتقال المورثات عبر الصبغيات الجنسية، واكتشفوا التعابر.
وفي عام 1931 م، أوضحت عالمة الأحياء الأمريكية باربارا ماكلنتوك أن التعابر ينطوي على تبادل عضوي لمادة الصبغيات.
بعدها أصبحت كيمياء المورثات محط اهتمام أبحاث كثيرة منذ عام 1940 م. وبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين كان العلماء قد أثبتوا أن المورثات تتحكم في التفاعلات الكيميائية في الخلية بتوجيه إنتاج الإنزيمات وغيرها من البروتينات، وحددوا أن د ن أ هو المادة الوراثية.
وفي عام 1953 م، اقترح عالمان، هما الأمريكي جيمس واطسون والبريطاني فرانسيس كريك، نموذجًا للتركيب الكيميائي السلّمي لـ د ن أ ـ أي الحلزون المزدوج، وكان نموذجهم نقطة تحول في مجال الوراثة، حيث أوضحوا لأول مرة كيفية تناسخ د ن أ. فقد بيّن العالمان أن د ن أ
النبي الإنسان (256)
يتناسخ بالانشطار طوليًا عند منتصفه، وبناء سلمين باستكمال بناء نصفي السلم المنشطر. واقترح العالمان أيضًا أن الطفرة تنتج عن تغيير في تسلسل القواعد على امتداد السلم.
وفي عام 1958 م، أوضح عالما الوراثة الأمريكيان ماثيو ميسلسون وفرانكلين ستال تجريبيًا أن د ن أ يتناسخ بنفس الطريقة التي أوضحها كل من واطسون وكريك.
وفي عام 1961 م، سجل علماء في معهد كاليفورنيا للتقنية اكتشافهم لـ ر ن أ الرسول. وفي نفس العام، تعرَّف عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي مارشال نيرنبرج وزملاؤه في المعهد الوطني للصحة على الكلمة الأولى للشفرة الوراثية ـ أي ي ي ي. وبحلول عام 1967 م كانت الشفرة بأكملها قد حلت.
بعدها بدأ عصر الهندسة الوراثية.. حيث استخدمت العديد من الدراسات التي أجريت في مجال الوراثة منذ سبعينيات القرن العشرين تقنية تسمى الهندسة الوراثية أو تقنية د ن أ المولف، وهي تقنية تغير مورثات الكائن الحي لإنتاج جزيئات تسمى د ن أ المولف..
قلت: أعرف ما حصل بعد ذلك.. وآخر ما توصلنا إليه هو ما حصل في مطلع عام 2000 م، حيث أعلن عن فك شفرة الخارطة الجينية، وهو إنجاز علمي جعله كثير من العلماء بنفس أهمية الإنجاز العلمي الذي حققه الإنسان عندما حط بقدمه على سطح القمر عام 1969 م.
قال: ألا ترى أن كل الجهود السابقة تلخصت في هذه الخارطة التي تتحدث عنها؟
قلت: بلى.. ذلك صحيح.. ولو أن هذه الخارطة نفسها مجرد مفردات، أو مجرد حروف، وهي تحتاج بعد ذلك لأن تقرأ.. ولسنا ندري ما هي الجمل التي ستقرؤها البشرية من خلالها.
قال: فقد أجبت نفسك إذن.. فالعبرة ليس بما كتب، ولا بكثرة ما كتب، وإنما بالنتيجة الأخيرة التي توصل الباحثون على امتداد التاريخ إليها.
إن المعادلة التي تنص على العلاقة بين كتلة جسيم وطاقته، والتي تقول (ط = ك ث²)..
النبي الإنسان (257)
أي: الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.. قد كتب من أجل الوصول إليها آلاف الأوراق، وبذل من الجهود ـ طيلة تاريخ البشرية ـ ما بذل من أجل التحقق منها.. ولم يكن ذلك في علم واحد.. بل في علوم كثيرة.
قلت: ولكني لا أرى مثل هذه المعادلة في العلوم التي جاء بها محمد.
قال: لقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآلاف المعادلات التي لا تقل عن هذه المعادلة..
إن اعتبار الصلوات خمسا، وفي أوقات محددة معادلة تحتاج البشرية إلى آلاف السنين للتحقق من صدقها..
وهكذا اعتباره البنت ترث عند انفرادها النصف، وعند التعدد الثلثين.. والأم السدس عند تعدد الفرع الوارث أو تعدد الإخوة، والثلث عدا ذلك.. وهكذا في كل المسائل التي وردت في علوم الفرائض.. بل هكذا في كل العلوم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
فالتناسق بينها جميعا في منتهى كماله.. مع أنه لتشريع قانون بسيط نحتاج إلى تخصصات كثيرة مختلفة.
فالتشريعات التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخدم الفرد والمجتمع.. وتخدم الجسد والنفس والعقل والقلب.. وتخدم الدنيا والآخرة.. ولا تضر فوق ذلك بشيء من الأشياء دق أو جل.
سكت قليلا، ثم قال: وفوق ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر أصحابه بكل شيء من التاريخ السابق أو اللاحق.. وكأنه يطلع عن كثب على كل ما حدث أو سيحدث (1).
قال أبو ذر: ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا (2).
وعن أبي زيد الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، ثم صعد المنبر،
__________
(1) انظر تفاصيل نبوءاته (المستقبلية في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسة.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/ 200) وتفسير الطبري (11/ 348)
النبي الإنسان (258)
فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا (1).
وعن حذيفة: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه (2).
وافق اليوم الرابع من الأيام الأربعة التي تشرفت فيها بصحبة الباقر يوم توزيع جائزة نوبل العالمية، وقد طلب مني الباقر أن نحضر يوما دراسيا أقيم بالمناسبة في بعض المراكز الثقافية بالقاهرة، وكان يبحث في سيرة نوبل (3)، وحول سبب وضعه لهذه الجائزة العالمية، وحول مسائل أخرى ترتبط بهذه المواضيع.
كانت أول محاضرة أقيمت في ذلك اليوم حول سيرة نوبل.. وقد كنت أعرف الكثير مما ورد فيها.. فسيرة نوبل ـ بتفاصيل أحداثها ـ يكاد يعرفها العام والخاص..
لكن محاضرة تلت تلك المحاضرة شدت انتباهي كما شدت انتباه المستمعين، كان عنوانها
__________
(1) رواه ابن سعد.
(2) رواه أبو داود.
(3) هو أَلفْرِد بيرنارْد نوبل (1833 م - 1896 م)، كيميائي سويدي اخترع الديناميت وأنشأ جوائز نوبل.. أجرى في شبابه تجارب على النتروجلسرين في مصنع والده. وكان يأمل في جعل هذه المادة الخطرة متفجرا آمنا وصالحًا للاستعمال، وأعد متفجرًا من النتروجلسرين، لكن وقعت العديد من الحوادث حينما عُرض للبيع، إلى درجة أن كثيرًا من الناس عدوه عدوا للشعب تقريبًا لبعض الوقت.
كان نوبل يعاني الإحساس بالذنب لصنعه مادة سببت الكثير من الموت والدمار، وكره فكرة إمكانية استخدام الديناميت في الحرب، بينما كان يعتقد أن اختراعه من أجل السلم، وأنشأ نوبل صندوقًا بمبلغ 9 ملايين دولار، يستخدم العائد منه لمنح جوائز سنوية، إحداها لأكثر الأعمال المؤثرة لتشجيع السلام العالمي (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
النبي الإنسان (259)
(سلطة العلم والسياسة والأخلاق) (1).. وقد بدأ المحاضر محاضرته بأن صاح في الحضور قائلا:
هل على العالم إذا خشي أن تفضي أبحاثه إلى اكتشافات قد يستغلها الإنسان لغاية غير أخلاقية أن يمسك عن مواصلة بحثه العلمي، فيكون بذلك ممتثلا لقاعدة اتقاء المحاذير، ومبدإ درء الشبهات، ولكنه ينخرط كليّا في مرجعية التعطيل؟
أم هل عليه ـ إذا تم له الاكتشاف ـ أن يتكتم عليه خانقا أنفاسه وهو في المهد؟
وما عسى أن يكون الأمر لو أن الاكتشاف كان قابلا لتقديم أعظم الخدمات للإنسانية إذا تم توجيهه وجهة الخير والمنافع، وكف الإنسان عن استغلاله تحت إغراء نوازع الشر؟
ثم أخذ يتحدث عن العباقرة الذين استغلت علومهم في تغذية قوى الشر، واقتصر منهم على شخصيتين كبيرتين:
أما أولهما، فهو ألفريد نوبل، ذاك الذي اخترع مادة النيتروغليسيرين، وهي الصيغة الأولى لكل التركيبات المتفرقعة، وهي كذلك نقطة الانطلاق لصناعة المتفجرات بأكملها.
لقد استفادت البشرية من هذا الاختراع خيرا كثيرا.. فلولاه ما حفرت قناة باناما، ولا نسفت صخور الهلغات في ممر نيويورك، ولا تمت السيطرة على نهر الدانوب عندما يسمى بأبواب الحديد.
لكن الأخلاق المنهارة سرعان ما راحت تستغله لتغذية الشر.. لقد أدخلت السياسة العفنة هذه المادة الجديدة إلى مصانع الأسلحة، فأصبحت آلة من آلات إنتاج الدمار، فقفزت أدوات الحرب من شكلها اليدوي البدائي إلى أشكال ميكانيكية رهيبة.
نتيجة لذلك أوصى نوبل بقسط وفير من ثروته الضخمة لإحداث جائزة تتوزع على مجالات الفيزياء والكيمياء والطب والآداب، وجائزة ترصد لقضية السلام في العالم.. لقد عرف
__________
(1) أشير بهذا إلى مقال بعنوان (سلطة العلم والسياسة والأخلاق)، د. عبد السلام المسدي، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية.. والذي ذكرت ملخصه هنا ببعض التصرف.
النبي الإنسان (260)
أن السياسة بدون أخلاق تفسد العلم، وتسخّر المال، فتنتج الحرب وتصنع الدمار، وبناء على ذلك نصت وصيته على أن جوائز البحث العلمي في الفيزياء والطب والكيمياء تمنح لمن يقدم (أفضل الحسنات للإنسانية)، وعلى أن جائزة الآداب تعطى لمن (أشاد بالمثل)، وتعطى جائزة مخصوصة لمن ساهم في (إخاء الشعوب وتقليص الجيوش وتنظيم مؤتمرات السلام)
أما الشخصية الثانية التي تحدث عنها المحاضر، والتي استغلت اكتشافاتها العلمية أبشع استغلال، فهو ألبيرت أنشتاين..
فنظرية أنشتاين ـ فيما يعرف علميّا بالنسبية ـ هي التي قادت الباحثين إلى التسليم بمبدإ تكسير الذرة، ومن أجل نظريته أحرز سنة 1921 على جائزة نوبل.
لقد كانت الأجواء حينها تنذر باندلاع الحرب الكونية، والعدد الهائل من علماء أوروبا ولا سيما الألمان كانوا يتدافعون نحو الولايات المتحدة هاربين بعلمهم أكثر مما كانوا هاربين بأجسادهم، فتلقفتهم الجامعات هناك، فنقلوا إليها الخبر المخيف بأن بعض العلماء في ألمانيا توصلوا الى تكسير ذرة اليورانيوم، وأن ألمانيا قد وضعت يدها على كل ما تنتجه تشيكوسلوفاكيا من تلك المادة.
وهنا بادر أنشتاين بالكتابة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت يستحثه أن يهتم بمشروع تفجير الذرة في إطار صنع القنبلة النووية قبل أن تمتلكها ألمانيا النازية تحت إمرة هتلر، وكان مسوّغه في ذلك هو اعتقاده أن سبق هتلر إلى القنبلة سيؤدي إلى كارثة إنسانية كبرى سواء أفجّرها أم اتخذها سيفا مسلولا على أعناق البشرية.
وهكذا دخل العلم في أحرج موقع عرفه في التاريخ، وهكذا انحشرت المعرفة في المضيق الخانق بين السياسة والأخلاق، فما فعله أنشتاين قد كان باسم فلسفة الردع، وكان ضربا من البحث عن التوازن الاستراتيجي، بل كان تشريعا لمبدإ التسلح الوقائي تماما كما سبق لنوبل أن أسّس وشرّع.
النبي الإنسان (261)
لقد هزم الحلفاء ألمانيا النازية، وخيل لأنشتاين أن زوال العلة يوجب زوال النتيجة طبقا لقوانين العقل الخالص، ولكن للسياسة منطقها الآخر، فاليابان كانت جاهزة للاستسلام، والاتحاد السوفياتي ـ حليف الولايات المتحدة ـ كان يتولى مفاوضة اليابانيين على حيثيات الاستسلام، ولكن ترومان أمر بإلقاء القنبلة، وإذا بالعلم يجد نفسه في قفص الاتهام الأخلاقي، وتحل بأنشتاين أزمة نفسية حادة من هول ما رأى ومن هول ما يستشرف به المآل.
وهذا صديقه (روبرت أوبنهيمر) الذي يتولى إدارة مشروع تفجير الذرة يصاب بالهلع، لأن السياسة قد قررت إخراج مجمع الأبحاث من يد السلطة الأكاديمية لجعله تحت إشراف المؤسسة العسكرية.
بعد هذا جرى بعض العلماء يَشون بأسرار القنبلة إلى الروس، لأن كواليس السياسة قد همست بأن قنبلة هيروشيما وناجازاكي قد كانتا لإرهاب الحليف السوفياتي وردعه أكثر مما كانتا لهزم اليابان.. وخاف هؤلاء أن يفقد الكون توازنه، وأن يختل قانون التعادل الاستراتيجي فسرّبوا الأسرار، وانتصبت محاكم التفتيش هنا وهناك، وكان من أشهر الذين حوكموا بتهمة التسريب وأقروا بها في شموخ فلسفي رهيب العالم (جوليوس روزنبرج) في أمريكا و(كلاوس فوخس) في بريطانيا.
لقد أدان أنشتاين نقل الأسرار إلى الروس، والحال أن الذين قدموها كانوا قد دافعوا عن أنفسهم بأنهم قدموها بدون مقايضة، وإنما كانوا في ذلك مستجيبين لنداء الضمير الإنساني النقي، وهم لم يفعلوا إلا ما سبق لأنشتاين أن فعله، فأما الرأي العام فقد انتفض بحملة شعواء على أنشتاين نفسه وعلى زميله أوبنهيمر، وأما الإدارة الأمريكية فقد حملت على أنشتاين لأنه لم ينخرط بحماس في هستيريا التمجيد للقوة الأمريكية، وطلبت منه الكف عن إثارة الشغب بين صفوف الرأي العام.
ندم أنشتاين على فتح طريق التصنيع النووي أمام الأمريكان، ولكنه لم يندم على اكتشافاته
النبي الإنسان (262)
البحثيّة، تماما كما أن نوبل ما كان بإمكانه أن يندم على اكتشاف النيتروغليسيرين وعلى اختراع الديناميت وإنما كان أسفه على أن غريزة التسلط تدفع بأصحاب القرار إلى تحويل وجهة العلم من فضيلة إسعاد الإنسان إلى آلة جهنمية تصنع بؤسه وشقاءه.
بعد أن انتهى المحاضر من محاضرته التفت الباقر إلي، وقال: لكأن هذا المحاضر يتحدث من مشكاة قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:102)
قلت: لم أفهم ما الذي تشير إليه هذه الآية حتى أرى وجه التطابق بينهما.
قال: إن هذه الآية تشير إلى أن العلوم التي كان يبثها ذانك الملكان (هاروت وماروت) من العلوم التي تصف حقائق كونية.. كتلك الحقائق التي توصل إليها نوبل وأينشتين.. وقد كانت تلك العلوم تحمل ثمارا طيبة خيرة يمكن أن تستفيد منها البشرية، وتحمل في نفس الوقت ثمارا خبيثة يمكن أن تتحول إلى شر محض.. ولهذا، فإن هذين الملكين كانا ينبهان كل من يدرس على يديهما تلك العلوم إلى المحاذير التي تنطوي عليها المعارف التي يدرسونها.
قلت: فالبشرية تحتاج إذن إلى هذا النوع من التوجيهات؟
قال: أجل.. فالعلم وحده إن لم يصحبه التوجيه الأخلاقي سيكون وبالا على أصحابه.. بل يصير الأمر كما قالت العرب: (يبحث عن حتفه بظلفه)..
-\--\-
في ذلك المساء.. وفي طريقنا إلى بيت الباقر شاهدنا مظاهرة من جماعة قليلة من الناس، يظهر عليهم من الوقار ما يدل على مكانتهم الاجتماعية الراقية.. وقد كان كل واحد منهم يحمل
النبي الإنسان (263)
لافتة تدعو إلى الحفاظ على الإنسان والحيوان والكون..
تعجبت من تلك اللافتات، فسألت الباقر عنها وعنهم، فقال: هؤلاء الذين تراهم خبراء علماء لا يقلون عمن كنت تسمع أحاديثهم في تلك المحاضرات.
قلت: فما بالهم؟
قال: سلهم.. فخير من عبر عن المرء لسانه.
اقتربت من أحدهم لأسأله.. فإذا به يبادر، فيسألني قبل أن أسأله، ويقول لي: أتعرف الهندسة الوراثية.
قلت: أجل.. فهل أنتم معارضون لها؟
قال: لا.. نحن لا نعارض الحقائق العلمية التي بنيت عليها الهندسة الوراثية.. ولكنا نعارض الاستغلال غير الأخلاقي لها..
إن العلماء الذين شرفهم الله بتلك المنزلة الرفيعة صاروا سدنة لهياكل الإجرام، وصارت أبحاثهم بيد إرهابيين ولصوص لا هم لهم إلا استغلالها في تحطيم الكون والحياة والإنسان.
قلت: ما علاقة هذا بالهندسة الوراثية؟
قال: لقد بدأ استخدام الهندسة الوراثية في الحقل الزراعي قبل استخدامها مع الحيوان (النعجة دولي) بسنوات عديدة، ولم يكن أحد يعارضها ما دامت في المختبرات.. ولكنها لم تبق في المختبرات.. ولا في يد من يريد الخير بالبشرية.
قلت: فهل سرقها بعض اللصوص؟
قال: بل سرقها الكثير منهم.
قلت: فماذا فعلوا فيها، وبها؟
قال: لقد نشروا بها أمراضا لم تكن في الحسبان.. وأصبح خطر الاحتكار وتحكم الشركات العملاقة ومعامل التجارب الجينية في غذاء الناس ماثلاً للعيان.. وصار كثير منا وهو يشتري
النبي الإنسان (264)
متطلباته من مراكز التسويق أو أسواق الخضار والحبوب يحس بشيء من الخوف، ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون مشترياً حتفه بنفسه، فهو لا يدري المعالجات الجينية التي أُخضع لها ذلك الطعام، ولا كمية المخصبات والمبيدات الحشرية التي استخدمت في إنتاجه.
قلت: ولكن ألا يمكن أن يكون هذا مجرد هاجس لا مبرر له.. فهذه الأساليب الحديثة ربما تنقذ البشرية من خطر نقص الغذاء؟
قال: عن أي غذاء تتحدث.. إن الذي خلق البشرية خلق لها من الرزق ما يكفيها.. ألم تقرأ قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57)؟
قلت: بلى قرأتها.. ولكن ما علاقتها بما نحن فيه.
قال: إن بني إسرائيل كانوا في ذلك الحين معاقبون من الله بسبب جرائمهم.. ولكن ذلك لم يحل بينهم وبين أن يتنزل عليهم رزق الله.. فالله أنزل عليهم من الرزق ما يتناسب مع حاجاتهم.
قلت: فهل تنتظر البشرية حال المجاعة المن والسلوى كما انتظر بنو إسرائيل.
قال: يحق لمن شاء أن لا يؤمن بتنزل المن والسلوى، ولكن لا يحق لمن شاء أن يضع للبشرية السموم ليطعمها بها بديلا عن المن والسلوى.
قلت: وهل هناك من فعل ذلك؟
قال: أجل.. أولئك الذين لم يرزقهم الله العلم النافع.. أو أولئك الذين لم يستنوا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علومه.. أو أولئك الذين ورثوا العلوم، ولم يرثوا معها الأخلاق.
قلت: فماذا فعل هؤلاء؟
بادر عالم كان قريبا منا، وقال: إن العلماء لا يمكنهم التنبؤ بالمخاطر الكامنة في الهندسة الجينية.. لقد ظهرت أنواع من الحساسية وحالات التسمم لم تكن معروفة من قبل، كما أن التحكم في الغذاء وإنتاجه سيصبح في أيدي شركات الزراعة الكيميائية، وسيؤدي ذلك إلى انقراض ـ إن
النبي الإنسان (265)
لم يكن إهمال ـ التنوع النباتي، وسيصبح المستهلك مسيراً ليس أمامه أي خيار آخر غير الذي تحدده تلك الشركات، وهم لا يعرفون ما تسوقهم إليه..
قال آخر: إضافة إلى أن هذه التقنية تطرح أسئلة أخلاقية كبيرة عن حق التدخل في تغيير تركيب وتكوين النباتات والمحاصيل بصفة خاصة والمخلوقات بصفة عامة.
قال آخر: إن المعارضين لتقنية الهندسة الجينية في حقل الغذاء يعلنون أنهم على استعداد للوقوف أمام المحاكم للدفاع عن مواقفهم.. في بريطانيا حالياً أكثر من 325 حقل تجارب للمحاصيل المنتجة جينياً تمتلك معظمها شركة مونسانتو الأمريكية الرائدة في هذا المجال، إلى جانب شركات ومختبرات بريطانية، وقد قامت مجموعات مناهضة تقنية الجينات في الحقول الزراعية بتدمير 25 منها، وبعض الشركات لا تكشف عن مهاجمة حقولها خوفاً من الكشف عن مواقعها أمام مزيد من المهاجمين.
ويقول المراقبون: إن التحالف الحالي بين منظمات حماية البيئة وحركات السلام والتنظيمات الناشئة للدفاع عن الغذاء ليس سوى قمة رأس جبل الجليد ضد الشركات التي تروج لتقنية أغذية الهندسة الوراثية.. فهناك أعداد متزايدة في بريطانيا تعبّر عن رفضها أو خوفها من المستقبل الغذائي ولم تقتنع بحجج الشركات القائلة: إن الأغذية المستولدة جينياً سليمة وصحية وستفيد الدول النامية.
قال آخر: إن منظمة السلام الأخضر وأصدقاء الأرض والحزب الأخضر واتحاد الأرض جميعها تريد حظر إدخال بذور المحاصيل المعالجة وراثياً إلى بريطانيا، بل إن المنظمات العاملة في المجالات الإنسانية مثل أوكسفام وكريستيان ايد تعبر عن تحفظات عميقة تجاه الادعاء القائل بأن التقنية الجديدة ستعالج مشكلة الجوع.
قال آخر: الحكومة البريطانية كوّنت لجنة من أربع وزارات لاستباق ما يمكن أن يتحول إلى أزمة داخلية بعد أن احتج البريطانيون بأن الرأي العام ومؤسساته لم يُستشر في إدخال هذه
النبي الإنسان (266)
التقنية إلى بريطانيا التي فرضتها اتفاقيات دولية وقوانين الاتحاد الأوروبي، وقد سببت عمليات الهجوم المنظمة على تلك الحقول خسائر للشركات المعنية بلغت ملايين الجنيهات ونجحت في تأجيل برنامج إنتاج تلك المحاصيل على مستوى تجاري.
قال آخر: دعونا.. نحن لا تهمنا المسائل الاقتصادية.. بل الذي يهمنا هو الإنسان..
قال آخر: كيف تقول هذا.. فلولا المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى ما ارتكبت هذه الجرائم الكبرى في حق الإنسان.. في العام الماضي، وفي أربع عشرة ولاية امريكية صدرت قوانين تمنع المواطنين من الاعتراض على تغذية الحيوانات بأحشاء وبقايا الأبقار.. ألا ترى أن هذا يدل على المدى الذي يمكن أن يصل إليه المشرع الأمريكي لحماية مصالح الشركات في مواجهة مصالح المواطن العادي.
قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل إن استغلال التقنية التطور العلمي في مجال هندسة الجينات النباتية (الثورة البايوتكنولوجية) يمكن أن يستخدم في إنتاج أسلحة بيوكيميائية، وبمثل ما فعلت الصناعات النووية من قبلها، فإن حمقى التقنيات البيولوجية يمكن أن يتجاهلوا خطورة ما يفعلونه فيرتكبون حماقة جديدة أسوأ من الحماقات النووية.
قال آخر: مثلما فعل مهندسو الطاقة النووية من قبل فإن علماء التكنولوجيا البايولوجية يقومون اليوم باللعبة نفسها، فيقللون من المخاطر التي يمكن أن يقود إليها عملهم.
-\--\-
بينما كان الجمع يتحدث بتلك الأحاديث إذا بأحدهم ينهار، ويسقط بجانبي، وإذا بالباقر يسرع إليه، ويحمله، ثم يسرع به إلى سيارة قريبة، فيمتطيها، وأمتطيها معه إلى مستشفى قريب..
في ذلك المستشفى وجدنا الرعاية التامة، ووجدنا الاحترام الكامل للمرضى..
لكني سمعت صوتا مرتفعا في قاعة من القاعات، فرحت أتصنت عليها.. لقد كانت القاعة مخبرا تجرى فيه التحاليل المختلفة للمرضى.. سأحكي لكم بعض ما وصل أذني من
النبي الإنسان (267)
أحاديثهم، فكلها كانت تصب فيما كنا فيه.
قال الأول: إن ما تقوله خطير.. إننا نتلاعب بذلك بهذه الأمانات التي بين أيدينا.. ألا ترى إلى المرضى الذين ينظرون إلينا، وكأننا المنقذ الذي أرسله الله ليخلصهم من العلل التي تنهشهم.
قال الثاني: ولكنهم صائرون إلى الموت لا محالة.. ثم مصيرهم بعد ذلك إلى الدود الذي يلتهم تلك الأعضاء الثمينة التي يملكونها.
قال الأول: فهل تريد أن تتغذى بهم قبل أن يتعشى بهم الدود.
قال الثاني: سيجد الدود أكله لا محالة.. وتلك الأعضاء لن يضر الدود فقدها.
قال الأول: إننا أمة تسعى إلى الحضارة.. والحضارة تستدعي احترام الإنسان.. فهل تريد بنا أن نتحول إلى بدائيين من أكلة لحوم البشر.
أرسل الثاني ضحكة عالية، وقال: أتدري من طلب هذه الأعضاء، ومن يبذل فيها الأموال الضخمة.. إنهم أرباب الحضارة أنفسهم.. إنهم سدنة هذه الحضارة العظيمة التي نعيش في ظلها.
أتدري كيف وصلنا إلى هذه التطورات الطبيقة العريقة؟
قال الأول: بالعلم، وباحترام الإنسان، والبحث عما يوفر له الراحة والسعادة.
قال الثاني: ليس ذلك فقط.. هناك شيء آخر اسمه التضحية.
قال الأول: التضحية بالجهد والوقت..
قال الثاني: بل بالإنسان..
قال الأول: أعلم ذلك.. الأطباء قد يضطرون أحيانا إلى ذلك.. لقد اضطر ادوارد جينر إلى إجراء تجاربه حول لقاحات الجدري على ابنه وأبناء منطقته.. واضطر يوهان يورج إلى تناول سبعة عشرة دواء بجرعات مختلفة، وذلك لاختبار مميزات كل دواء على المرضى.. لقد كان لويس
النبي الإنسان (268)
باستور يعارض إجراء التجارب على البشر، ولكنه في النهاية أذعن عندما أدرك أن موت أحد الأطفال الذين كان يعالجهم أصبح أمرا واقعا لا محالة.
قال الثاني: التضحية الاختيارية وحدها لا تكفي.. هناك تضحية أخرى قد تبرر ما نريد فعله.
قال الأول: التضحية الجبرية؟
قال الثاني: لقد لعب النازيون دورا بارزا في التجارب البشرية، وأسهبوا في استخدام أسرى الحرب، خلال الحرب العالمية الثانية، لإجراء تجارب علمية أو تجارب تعذيب بحق السجناء.
ويعتبر الطبيب الألماني النازي جوزف مينجيلي أشهرهم إذ أجرى العديد من العمليات والتجارب على الأحياء من السجناء في معسكرات الاعتقال والأسر، واشتملت التجارب على وضع الأشخاص في غرف لقياس الضغط وتجربة بعض الأدوية عليهم وتجميدهم في غرف مثلجة حتى الموت ووصل الأمر إلى تقطيع أجسادهم..
قاطعه الأول قائلا: لا تحدثني عن أولئك النازيين المتعطشين للدماء، فلا ينبغي أن نعتبرهم مقياسا للحضارة..
قاطعه الثاني، وقال: تريد أن أحدثك عن أمريكا إذن.. إن كنت تريد ذلك، فإن للولايات المتحدة الأمريكية تاريخ أسود في مجال التجارب البشرية يمتد لعقود طوال، وكان الشعب الأمريكي فأر التجارب الأول لحكومته.
ومن أشهر فضائح الحكومة الأمريكية تجربة توسكيجي لمرض الزهري عام 1932 عندما شخص 200 رجل أسود البشرة بمرض الزهري، ولم يذكر أي شيء لهم عن مرضهم ومنع عنهم العلاج أيضا، واستخدموا كفئران تجارب لمتابعة تطور المرض وعوارضه حتى توفوا جميعهم نتيجة المرض، ولم يتم إخبار عائلاتهم بأنه كان من الممكن إنقاذهم لو تم علاجهم، وفي عام
النبي الإنسان (269)
1965 وفي دراسة استمرت ثلاث سنوات، تطوع سبعون سجينا في سجن هولمزبيرج في فيلادلفيا للخضوع لتجارب على دايوكسن وهو أحد المواد الكيميائية الضارة، ولم تتم معالجة الجروح التي تعرضوا لها جراء التجربة لفترة استمرت سبعة أشهر، ولم يتم إخبار أي منهم بأنهم سيدرسون من ناحية تطور مرض السرطان.
أما في عام 1956 وفي سافانا بجورجيا وأفون بارك بفلوريدا، فقد أجري الجيش الأمريكي تجارب عملية خارج المختبرات التابعة له، فتم إطلاق العديد من البعوض في الضواحي السكنية من الأرض، ومن الجو حيث تعرض الكثيرون من السكان للدغات البعوض ومنهم من مرض ومنهم من مات أيضا، وبعد كل هذا يقوم عدد من رجال الجيش الأمريكي بالتنكر على هيئة مسئولي صحة عامة بتصوير وفحص المصابين، ويعتقد أن البعوض تم حقنه بالحمى الصفراء إلا أنه حتى الآن لم تكشف حقيقة ما حدث في تلك التجربة.
وفي عام 1955 اجتاحت منطقة تامبا باي في فلوريدا موجة حادة من حالات السعال مما أدى إلى مقتل 12 شخصا وذلك إثر قيام وكالة الاستخبارات المركزية بالتعاون مع مختبر الجيش للأسلحة الكيميائية والبيولوجية بنشر بكتيريا في البيئة ولم يعرف شيء عن فحوى أسرار هذه التجربة.
قال الأول: لا تحدثني عن أمريكا.. فهي لا تقل عن ألمانيا..
قاطعه الثاني، وقال: تريد أن أحدثك عن..
-\--\-
بينما أنا منهمك انهماكا كليا في سماع تلك الأحاديث، لم أدر إلا بيد الباقر تجذبني، وهو يقول لي: تعال.. كيف تركتني.. لقد تعبت في البحث عنك؟
قلت: اعذرني.. فقد شغلتني أحاديث ملأت قلبي احتقارا للعلم.
قال: لا تقل هذا.. العلم هو نعمة الله العظمى على عباده..
النبي الإنسان (270)
قلت: ولكن النعمة قد تحول نقمة؟
قال: أجل.. يمكن ذلك.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (ابراهيم:28)
صحت: أعد علي هذه الآية.. إنها تتحدث عن واقعنا تماما.
قال: إنها تتحدث عن واقع البشرية جميعا.. فكل من بدل نعمة الله، وتصرف فيها بهواه لا بد أن يحل به وبقومه الدمار.
إن الله تعالى برحمته خلق الخير المحض.. ولكن العابثين الكافرين بالنعمة راحوا يغذون ذلك الخير بما امتلأت به نفوسهم من الشر.. فصار الخير شرا، وصارت النعمة بلاء..
قلت: وصار العلم ـ الذي هو رسول السلام، وقنطرة الخير ـ رسولا للصراع، وقنطرة للمآرب الخسيسة.
قال: لقد ذكر الله تعالى ذلك، وضرب لذلك أمثلة:
قال في أولها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:175 ـ 176)، فهذا مثال من تبحر في علوم كثيرة، ربما نال منها ثمرات غيرت مسار حياته المادية، ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا إن تحمله يلهث أو تتركه يلهث، فانسلخ بذلك من إنسانيته لأنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه.
قلت: إن هذا الكلب يذكرني بالدكتور جوزف مينجيلي..
قال: لم يكن الدكتور جوزف مينجيلي واحدا، كما أن الشيطان لم يكن واحدا.. هناك الآلاف من الذين ساروا سيرته، أو من الذين لا يزالون يسيرون سيرته..
قلت: كلهم كلاب لا هم لها إلا عض الأجساد التي تأوي إليها.
النبي الإنسان (271)
قال: ذلك مثل..
قلت بغضب: وهو ينطبق عليهم تماما.. لقد عرف القرآن كيف يعبر عن القلوب السوداء التي تختزنها تلك الجثث.
قال: لقد ضرب القرآن مثالا آخر لهؤلاء، فقال ضاربا المثل ببني إسرائيل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ((الجمعة:5)، فبنو إسرائيل حملوا كتبهم وعرفوا ما فيها، ولكنهم نسوا ما فيها من الهدي، ولم يشتغلوا بما يخرج حقيقتهم عن البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم.
قلت: إن هذا المثل ينطبق تماما على هذه الحضارة.. إنها تدعي أنها تحمل القيم الرفيعة، بينما هي كالحمار، تحمل القيم كمصنفات تصيح بها، لا كحقائق تعيشها.
قال: وضرب القرآن لهؤلاء مثلا واقعيا آخر، فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ((القصص:38)، ففرعون يسعى ليرقى الفضاء لا ليتعرف على ملكوت الله ليجعله سبيله إلى الله، وإنما يسعى من رقيه إلى تحدي الله.
قلت: إن هذا المثل ينطبق تماما على هذه الحضارة الجاحدة التي جعلت العلم سلما للإلحاد، ولمنازعة الله.
قال: صدقت.. إن هذا المثل ينطبق على عصرنا، العصر الذي توهم فيه الإنسان أنه حقق حلم فرعون، فرقى إلى القمر، وقد يرقى إلى غيره من الكواكب، ولكنه لم يرقه إنسانا، وإنما رقاه بهيمة أو سبعا، رقاه لا ليقول: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} (آل عمران: 191)، وإنما رقاه لينصب علم بلده الذي يمثل حقيقة عنصريته وأنانيته وجبروته.
قلت: وهو لم يكتف بذلك، بل راح يطلق كل القيم من أجل الوصول إلى هذه
النبي الإنسان (272)
الأهداف (1)..
قال: لقد ضرب القرآن لهؤلاء مثلا آخر، وهو مثل قارون الذي اشتغل بالعلوم التي تنمي ثروته، سواء كانت علوما اقتصادية أو تقنية، ونسي أن يعرف حقيقته وحقيقة وجوده، فخسف به وبما يملكه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص: 78)
ومثل هؤلاء أقوام قال عنهم الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (غافر:83)
قلت: إن هذا المثل ينطبق تماما على هذه الحضارة.. إن هذه الحضارة انشغلت بالفرح بما عندها، أو بما عند غيرها من تطور، وغفلت عن علوم تخرجها عن بهيميتها أو سبعيتها إلى حقيقة الإنسان المكرم.
قال: لقد اعتبر الله تعالى علوم هؤلاء جهلا.. لقد نفى الله العلم عن قوم، أو رماهم بالجهل، ثم قال مستدركا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7)
قلت: أرى للقرآن سبقا عجيبا في الحديث عن هذه الظاهرة.
قال: ليس الحديث عنها فقط، وإنما وضع القرآن الكريم، والهدي النبوي منظومة كاملة لعلاجها، والوقاية منها.
قلت: فحدثني عنها.
قال: إن الآية الأخيرة التي قرأناها تشير إلى هذه المنظومة.. فالآية تقسم العلوم إلى قسمين: علوم تتعلق بظاهر الحياة الدنيا، وعلوم تتعلق بالآخرة:
أما العلوم المتعلقة بالدنيا، فهي العلوم المنظمة لحياة الإنسان في الدنيا، أو الميسرة للإنسان أسباب العيش فيها، وهي علوم مهمة، لأن وظائف الإنسان لا يمكن أداؤها إلا في جو صالح
__________
(1) أشير إلى الحرب الباردة، والتي كان التقدم في مجال الفضاء من ثمراتها.
النبي الإنسان (273)
لذلك الأداء، وغاية هذه العلوم إما سياسة الأفراد والمجتمعات، أو الحصول على تقنيات تيسر مرافق الحياة، فهي علوم سياسية صناعية، أوهي سياسات وصناعات، لها حظها من العلم بقدر نجاحها في تحصيل هاتين الغايتين.
أما العلوم الثانية، فهي العلوم الحقيقية، لأنها تعنى بالهدف الذي من أجله وجد الإنسان واستخلف، والغفلة عنها أو وضعها في مرتبة تلي مرتبة العلوم الأولى تحرف حقيقة وظيفة الإنسان على الأرض، لأنها تجعل وظيفيته قاصرة على أن يؤمن في وجوده على الأرض ما يتصوره من وسائل السعادة، من غير أن يتطلع إلى ما بعدها، وكأنه وجد ليأكل ويلبس ويركب ويسكن، ثم يموت من غير أن يحمل شيئا مما أفنى عمره من أجله.
قلت: كأني بك تريد أن تقول بأن العلوم الثانية هي التي تحمي من استغلال العلوم الأولى.
قال: أجل.. ولهذا، فإن النصوص تحث على البدء بالعلوم الأولى قبل البدء بالعلوم الثانية.
قلت: لم؟
قال: هل يمكن أن تسلم لصبي صغير ثروة ضخمة، وهو لا يزال متعلقا باللعب؟
قلت: لو سلمت له لاشتراها كلها لعبا ومفرقعات.
قال: هكذا فعلت حضارتنا عندما راحت تعلم الأغرار كيف يصنعون المفرقعات، فراحوا يتنافسون فيها، ويهلكون الأخضر واليابس بتنافسهم.
قلت: فما عساهم يفعلون ليجنبوهم اللعب بالمفرقعات؟
قال: لقد بحثت في كل ما وصلنا من تراث في الهدي الصالح الذي يمكن أن يجنب البشرية هذا النوع من المخاطر، ويمحض العلم للخير المحض، فلم أجد ذلك إلا عند رجل واحد.. هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لعلك تذكر بأن المقياس الرابع الذي وضعته لعلوم الإنسان الكامل هو النفع..
قلت: أجل.. وحق لك أن تضعه.. لقد كنت أتصور أن العلم مطلوب لذاته، وشريف
النبي الإنسان (274)
لذاته.. ولكني اليوم أدركت أنه آلة من الآلات.. وأنه أحيانا كثيرة قد يكون سما قاتلا، أو سيفا جارحا.
قال: ولهذا ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورثته على العلم النافع.. بل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع.. فقد كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) (1)
قلت: إن هذا النص الذي قرأته عجيب.. فقد قرن محمد بين العلم الذي لا ينفع بالقلب الذي لا يخشع، والنفس التي لا تشبع.. وكأنه يشير بذلك إلى الآفات التي تنجر عن العلم الذي لا ينفع.
قال: صدقت.. والنص واضح في الدلالة على ذلك.
قلت: حدثني عن المنظومة التي وضعها محمد لتجنيب المتعلمين مخاطر العلوم وأضرارها.
قال: الإسلام كله ـ بجميع تعاليمه ـ هو تلك المنظومة.. إن الإسلام يبدأ بالنفس، فيطهرها من نوازع الشر التي قد تتحكم فيها، فتحولها إلى ذلك الكلب الذي ضرب لنا القرآن الكريم مثله.
ولهذا، فإن أول ما يبدأ به المتعلم في الإسلام هو غرس الإيمان في قلبه، وغرس الأدب والطهارة في سلوكه.. حتى يصير سلوكه شجرة نافعة لا تنبت إلا الثمر الطيب.
وقد وصف بعض ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفات العالم المهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوارث له، فقال: (من صفته أن يكون لله شاكراً، وله ذاكراً، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئاً مذنباً، ومع الدؤوب على حسن العلم مقصراً، لجأ إلى الله فقوّى ظهره، ووثق بالله فلم يخف غيره، مستغن بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أنسه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علماً خاف توكيد الحجة، مشفقٌ على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه، همه في تلاوة كلام الله الفهم عن مولاه، وفي سنن الرسول الفقه لئلا يُضيّع
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الإنسان (275)
ما أمر به، متأدبٌ بالقرآن والسنّة، لا يُنافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلّها، يمشي على الأرض هوناً بالسكينة والوقار، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (الإسراء) (1)
وبما أن الدنيا بشهواتها هي الفخ الأكبر الذي يقع فيه الدجالون من العلماء، فإن منهج التعليم الذي استفاده الورثة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التزهيد في الدنيا، وفي متاعها الحقير، حتى لا ينشغل طالب العلم بشهواته عن الرسالة العظيمة التي يحملها.. يقول الغزالي: (إن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلئ يفرغ الآخر. فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟ ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟) (2)
وما ذكره الغزالي هو ما ورد التصريح به في الأحاديث الكثيرة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من تعلم
__________
(1) أخلاق العلماء:64 - 67.
(2) الإحياء: 1/ 60.
النبي الإنسان (276)
علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) (1)
ويقول: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) (2)
ويقول متحدثا عن أخبار الأنبياء قبله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزل الله في بعض كتابه وأوحى إلى بعض أنبيائه: قل للذين يتفقهون بغير الدين ويتعلمون لغير العلم ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ويلبسون لباس مسوك (3) الكباش وقلوبهم قلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخدعون أو بي يستهزؤون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران) (4)
انظر إلى هذه الوصية.. وانظر إلى عظمها.. ألم تر أن العلم لما نزل لخدمة المستبدين راح يخترع لهم من صنوف الدمار ما يتناسب مع نوازع الإجرام التي امتلأوا به، وصاروا لا يتصرفون إلا بمقتضاها؟
ولما نزل إلى خدمة التجار.. صار يخترع لهم السموم ليسقوها زبائنهم..
قلت: صدقت في كل ما ذكرت.. ولكني لم أفهم شيئا واحدا.
قال: فهمت ما توقفت فيه.. فقد توقفت فيه مثلك في يوم من الأيام.. إن الدنيا التي حذر منها أهل الله من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تعني ما تقصده.. فالله أمرنا بعمارة الأرض، وحثنا على استعمال الأسباب من أجل ذلك..
لقد قص علينا القرآن الكريم قصة ذي القرنين الذي مارس كل الأساليب ليحقق الرفاه
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وابن ماجة عن أبي هريرة.
(2) رواه الطبراني في الأوسط وابن أبي العاص، والدارقطني في الأفراد، وسعيد بن منصور.
(3) مسوك: المسك: الجلد، والجمع مسوك مثل فلس وفلوس.
(4) أبو سعيد النقاش في معجمه، وابن النجار - عن أبي الدرداء.
النبي الإنسان (277)
والأمن لمن ولي شأنهم.. لقد ذكر الله أنه اتبع الأسباب.. وما الأسباب إلا ما توفره العلوم من حقائق تستغل في التقنيات المختلفة..
بل إن الله تعالى ذكر بعض تلك التقنيات، فقال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)
ومثل ذلك ذكر تقنيات الزراعة الناجحة المرتبطة بالبيئات الجافة (1)، فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} (الكهف:32)
قلت: فما الدنيا التي حذروا منها؟
قال: هي الهمم الدنية.. هي همة ذلك المخترع الذي لا يبالي بمن يسقط من الضحايا في سبيل ما يكسبه من مال أو جاه أو مناصب..
هي همة ذلك الذي يسخر العلم من أجل الفتنة والفساد والانحراف..
هي تلك الهمم الكثيرة التي جعلت من العلم وسيلة من وسائل الرزق ـ أي رزق ـ لا تلك المعارف التي شرف بها الإنسان ليعرف بها حقائق الوجود، ويتعامل معها وفق ما تتطلبها.
-\--\-
بعد أن تفرغ الباقر لي في تلك الأيام الأربعة.. وبعد أن أحسست بتشوق عظيم للتعرف على العلوم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. طلبت من الباقر أن يدلني على مدرسة أتعلم فيها تلك العلوم.. فأرشدني إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة.. فبقيت في رحابهما أربع سنوات لا هم لي إلا تعلم العلوم التي ورثها الورثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
بعد تلك السنوات علمت علم اليقين أن الأمة الوحيدة التي استفادت كل علومها من نبيها هي أمة الإسلام..
__________
(1) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
النبي الإنسان (278)
حتى اللغة التي تكلم بها نبيها لا زالت هي اللغة التي تدرس.. بل إن نحوها وصرفها وبلاغتها لم تستفدها إلا من نبيها صلى الله عليه وآله وسلم..
فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أستاذ المفسرين والفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة والبلاغيين والأدباء والدعاة.. كلهم في مبدإ أمرهم ومنتهاه يعودون إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتتلمذوا على يديه.. ولولاه ما كان لعلومهم ذلك الرقي الذي وصلت إليه.
لقد قارنت هذا بسائر الأديان.. فوجدت العجب العجاب..
لقد وجدت أن كل الملل والنحل ـ عدا ملة الإسلام ـ لا تعرف حتى اللغة التي تكلم بها نبيها.. بل تقف في معاني ما جاء به.. وليس لها عنه أي إسناد يمكن أن تثق فيه لتبصر أحقية ما جاء به (1).
__________
(1) انظر لمزيد من التفاصيل المرتبطة بهذا رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة، وانظر ـ كذلك ـ الفصل الأخير من هذه الرسالة.
النبي الإنسان (279)
خرجت من القاهرة بعد أن فتح الله علي من علومها ما لا أزال أتزود به... لأسير منها إلى تركيا حيث تقيم جبال (بارلا) الشامخة... وكان فيها، في ذلك الوقت رجل لا يقل عنها شموخا.
لقد كان فيها بديع الزمان النورسي (1)... وكان هو الوارث السادس الذي تلقيت منه علوم الإمامة (2)... وعلمت عن طريق مرآته الصافية أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الأئمة.. وأن ما قام على يده
__________
(1) يعتبر بديع الزمان النورسي من الدعاة المخلصين الذين لم يخلطوا دعوتهم بأي غرض دنيوي، ولا تعصب جهوي.. فقد كان يختصر دوره في حفظ الإيمان، ومواجهة الإلحاد الذي بدأ ينتشر في المجتمعات الإسلامية نتيجة التأثر بالحضارة الغربية.
وقد عبر عن ذلك بقوله عند ذكره لوظائف الإمام المهدي، فمن أول وظائفه: (انقاذ الايمان، وذلك بالقيام بدحض الفلسفة والفكر المادي قبل كل شيء، لانتشار أفكار الماديين والطبيعيين انتشار الطاعون في البشرية واستيلاء العلوم والفلسفة المادية على الأذهان.. إن حفظ أهل الإيمان من شرور الضلالة، يقتضي إجراء تحقيقات علمية واسعة وأبحاث متواصلة دائبة، التي تتطلب التجرد من هموم الدنيا ومشاغلها تجرداً كاملا)
وهو محل اتفاق من جميع الطيبين من هذه الأمة، وخصوصا من أتباع أهل البيت، وقد قال في الإشادة بهم: (ليس في الدنيا قاطبة عصبة متساندة نبيلة شريفة ترقى إلى شرف آل البيت ومنزلتهم، وليس فيها قبيلة متوافقة ترقى إلى اتفاق قبيلة آل البيت، وليس فيها مجتمع أو جماعة منورة أنور من مجتمع آل البيت وجماعتهم.. نعم. إنَّ آل البيت الذين غُذّوا بروح الحقيقة القرآنية، وارتضعوا من منبعها، وتنوّروا بنور الايمان وشرف الاسلام، فعرجوا إلى الكمالات، وأنجبوا مئات الاَبطال الاَفذاذ، وقدّموا اُلوف القُوَّاد المعنويين لقيادة الاَُمّة؛ لابد أنهم يُظهِرون للدنيا العدالة التامة لقائدهم الاعظم المهدي الاكبر، وحقانيته بإحياء الشريعة المحمدية، والحقيقة الفرقانية، والسنّة الاَحمدية، وتطبيقها، وإجراءاتها.. وهذا الاَمر في غاية المعقولية فضلاً عن أنّه في غاية اللزوم والضرورة، بل هو مقتضى دساتير الحياة الاجتماعية) (أشراط الساعة (من كليات رسائل النور ـ الشعاع الخامس) بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة احسان قاسم الصالحي ط 1 مطبعة الحوادث ـ بغداد 1412 هـ، ص: 37 ـ 38.
ولهذا اخترنا الحديث عنه في هذا الفصل مع الملاحظة التي ذكرناها سابقا، وهي أننا نتصرف في كل ما يرتبط بالشخصية من أحداث، ما عدا التي نشير إليها في الهامش.
(2) فرقت في هذه الرسالة بين الإمامة والقيادة.. فاعتبرت الإمامة مرتبطة بالشؤون الدينية المحضة من الدعوة إلى الله والتربية عليها.. واعتبرت القيادة ما ارتبط من الإمامة بالدنيا كالسياسة والإدارة وغيرها.
والمصطلح الشرعي في هذا يعتبر كلا الناحيتين إمامة: فالإمام له كلتا الوظيفتين: حماية الدين ونصرته والدعوة له.. وفي نفس الوقت حفظ الدنيا، وتوفير ما تحتاجه الرعية منها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ارتباط الإمامة بالناحية التي اقتصرنا عليها هنا في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الانبياء:73)، وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5)
ونشير ـ هنا ـ إلى أن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذه الناحية المهمة خصصنا لها رسالة من هذه السلسلة هي رسالة (النبي الهادي)، وهي الرسالة التالية لهذه الرسالة.
النبي الإنسان (280)
من فتوح في عالم الإمامة لم يفتح لغيره.
في ذلك الوقت كان استبداد (أتاترك) (1) قد بلغ أشده، فصار يتدخل في الشؤون الخاصة لرعيته.. لا يهدف من ذلك إلا لهدف واحد هو محو الإسلام من تلك الأرض التي احتضته قرونا طويلة..
لقد منع تدريس الدين في المدارس كافة، وأمر بتبديل الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وأُعلنت علمانية الدولة، فمُنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، وحُظر طبع الكتب الإسلامية، وأُرغم الناس على تغيير زيهم إلى الزي الأوروبي، فالرجال أُرغموا على لبس القبعة، والنساء أرغمن على السفور والتكشف..
وشكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاّء، ولكل من تُحدثه نفسه بالإعتراض على السلطة الحاكمة.
فساد جو من الذعر والإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون القرآن الكريم عن أنظار موظفي الدولة، ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والاستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد، وحلت محل كلمات (الله، الرب، الخالق، الإسلام) كلمات (الطبيعة، التطور، القومية التركية)
في ذلك الجو الشديد القاسي كان بديع الزمان في قمة من قمم تلك الجبال التي تملأ الناظر
__________
(1) ذكرنا (أتاترك) ومنابع استبداده ومظاهرها في رسالة (أوتاد الاستبداد) من (رسائل السلام)
النبي الإنسان (281)
إليها رعبا.. ولم يكن وجوده هناك هروبا من واقع مر لم يستطع إصلاحه.. وإنما كان وجودا اضطراريا.. ولكنه مع ذلك لم يمنعه من أن يمارس وظيفة الإمامة التي ندب لها.. والتي ورثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وقد كانت قمم تلك الجبال هي الفوانيس التي قهرت ذلك الظلام الذي ملأ أرض تركيا وحشة.. ومثلها كثير من بلاد الإسلام.
في أول خطوة لي في (بارلا) لقيني رجل بهيئة وحش كاسر.. لم يكن يبدو منه سوى أسنانه الممتلئة بالقذارة..
نظر إلي نظرة ممتلئة بالقسوة، وكأنه يهم أن يفترسني، ثم قال: لا شك أنك لا تعرفني..
قلت ـ متعجبا من سؤاله ـ: نعم لا أعرفك.. ولا حاجة لي أن أعرفك.. فمثلك ممن يزهد الناس في التعرف عليهم.
أرسل ضحكة عالية، وقال: في كل الأوقات وفي كل البلدان يمكنك أن تقول ذلك إلا في هذا الوقت وفي هذه البلاد..
أشار إلى نفسه معتزا، وقال: في استطاعتي أن أفعل بك ما أشاء.. في استطاعتي أن أجعل من قمم هذه الجبال قبرا يضمك مدى الدهر.. وفي استطاعتي أن أعلق رقبتك على أي مشنقة أشاء.. وفي استطاعتي أن أحولك عبدا رقيقا لا هم له إلا تنظيف أسناني التي يستقذر الناس النظر إليها.
قلت: فأنت مجرم إذن.. يوشك أن تقبض عليك الشرطة لتملأ بك سجونها، أو لعلها تضع رقبتك في المشنقة التي تريد أن تضع رقبتي عليها.
أرسل ضحكة عالية، وقال: فأنت لا تعرفني.. ولا تعرف هذه البلاد.. أنا هو الشرطة التي تتحدث عنها.. لقد علقتُ بيدي على المشانق خمسة آلاف ومائتين وستة عشر شخصاً في اثني
النبي الإنسان (282)
عشرة سنة الماضية (1).
قلت ـ والدهشة تملؤني ـ: أهذا سلوكك وحدك.. أم سلوك جميع أصحابك؟
ضحك ضحكة عالية، وأشار إلى مغارة في تلك الجبال، وقال: أترى تلك المغارة؟
قلت: أجل.. ما بها؟
قال: لقد التجأ ما يقرب من ألف وخمسمائة شقي إلى هذه المغارة، وما بقربها من المغارات، فأتت طائراتنا الحديثة.. وألقت قنابل مكثفة عليهم، فكانت الانفلاقات مستمرة حتى طهرت تلك البقاع من العصاة، حيث أحرقت جميع القرى التي التجأ اليها الاشقياء، وامتلأ وادي زيلان بجثث الذين أبيدوا (2)..
امتلأت رعبا من حديثه هذا، فقلت: ما الذي تريد بكل ما ذكرته لي؟
أرسل ضحكة عالية، وقال: لا زلت لا تعرف هذه البلاد.
قلت: ما علاقة حديثك هذا بهذه البلاد؟
قال: أنت لا تعرف سياستها.. أنت تعرف فقط أرضها وجبالها وأشجارها.
قلت: فما سياستها؟
قال: ما كنت أذكره لك..
ثم غير لهجته ليبدو كوحش كاسر، وقال: إن سياستنا تعتمد التخويف.. وبث الرعب.. فإذا امتلأت النفوس رهبة سهل على ساستنا بعد ذلك أن يملوا على هؤلاء الحمير ما يشاؤون.
قلت: ولكني لست حمارا.
قال: لن تصير مواطنا صالحا حتى تصير حمارا.. فإن أبيت، فإن كل شرطي من أصحابي يحن إلى أن يرى دمك، وهو يسيل على الطرقات..
__________
(1) اقتبسنا هذا من تصريح الجلاد (قارا علي) الى صحيفة (صون بوسطة) في عددها الصادر في 3/ 3/ 1931.
(2) هذا ما وصفت به صحيفة (جمهوريت) في عددها الصادو يوم 16/ 7/ 1930 ما حصل في شرقي الاناضول.
النبي الإنسان (283)
قال ذلك، ثم نظر نظرة قاسية إلي، وقال: أظنك قد فهمت رسالتي..
قلت: فهمت خطرك.. ولكني لم أعرف رسالتك.
قال: بهذه الجبال رجل يسمى (بديع الزمان) لا نريد منك أن تراه.. ولا أن تسمع أي كلمة من كلماته..
ولهذا الرجل أتباع، هم يختفون كما تختفي الأشباح، فإياك أن تلتقي بهم أو تحدثهم.
ولهذا الرجل رسائل يسميها (رسائل النور) فإياك أن تقرأها.
ما قال ذلك حتى ناداه رجل آخر هو أعلى منه درجة ليصب فيه ما صب في من غضب.
نظر الوارث إلينا، وقال: لقد كانت كلمات هذا الشرطي الشديدة نعمة لا تدانيها أي نعمة، فبسببها تعرفت على تلاميذ بديع الزمان، وبسببها التقيت به، وبسببها قرأت رسائل النور.. مع أني لم أكن في الأصل إلا مارا بتلك البلاد، ولم يكن لي نية بالمقام فيها.
قالت الجماعة: حدثنا كيف التقيته؟
استغرق الوارث فترة، وكأنه يريد أن يصور لنا ما لا تستطيع العبارات أن تصوره، ثم قال: لن أحدثكم كما تعودت أن أحدثكم.. ولكني سأذكر لكم بدل ذلك ما يمكن أن تستفيدوا منه..
نعم هي استنتاجات مني.. ولكنها استنتاجات وجدت لها من البراهين التي يصدقها ما ملأ قلبي ببرد اليقين.
لقد رأيت في بديع الزمان وفي الثلة الذين كانوا معه، وتربوا على يديه، أربع صفات، لا يمكن اجتماعها إلا في الوارث الحقيقي الذي ورث النبوة في هذا الجانب..
ورأيت ـ بأسباب لا يمكن أن أذكرها لكم هنا ـ أن هذه الصفات الأربع هي الصفات اللازمة للإنسان الكامل في هذا الجانب الخطير من جوانب شخصيته.
قلنا: فما هذه الصفات الأربع؟
قال: التجرد.. والتميز.. والهمة.. والبصيرة.
النبي الإنسان (284)
قلت: فهل تراها منحصرة؟
قال: أجل.. فلا يمكن للإمام الذي ينهض للإصلاح أن يكون إماما من دونها.. فالإمام لابد أن يتجرد للحق، فلا يخلطه بأي غرض.. ولا بد أن يكون له من المزايا ما يجعله أهلا لأن يمارس هذه الوظيفة الخطيرة.. ولا بد أن يكون له من الهمة ما يطيق به تحمل المشاق التي تفرضها هذه الوظيفة.. ولا بد ـ في الأخير ـ أن يكون له من البصيرة ما يستطيع أن يمارس ما تتطلبه هذه الوظيفة من سلوك.
قلت: فحدثنا عن الأول.
قال: لقد كان أول ما لاحظته من سلوك بديع الزمان هو تلك الروحانية العجيبة التي جعلته متوجها لله وحده.. فلم يكن يشغله عن الله أي شاغل..
كان في صلاته عظيم الخشوع.. يقرأ القرآن آية بعد آية.. وبعدما يقف منتصباً للصلاة كان يكبر بصوت عال جداً يكاد دويه يهز البيت الخشبي الذي يسكنه، وكانت الرهبة تملؤنا ونحن خلفه مأمومون.
ولم يكن يبالي بالبرد القارس، ولا بالمطر إذا ما حان وقت الصلاة، بل كان يؤديها في أوقاتها في الحل والترحال، وكان يقول: (إن اكثر من مائة مليون شخص من كل أرجاء العالم الإسلامي يجتمعون في الجامع المعظم ويشكلون جماعة كبرى لأداء كل صلاة في وقتها، فكل فرد من هذه الجماعة يدعو للجماعة كلها بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6)، فهذه الآية الكريمة تصبح بمثابة دعاء وشفيع لكل فرد من أفراد الجماعة..) (1)
__________
(1) جمع الباحث الفاضل (نجم الدين شاهين أر) مشاهدات معظم الذين عاصروا الأستاذ النورسي وسجّل ذكرياتهم عنه في أربعة مجلدات موسومة بـ Son sahitler وترجمت مقتطفات منها، ونشرت باسم (ذكريات عن سعيد النورسي)، والمنقول هنا بعض الأحداث المرتبطة بتلك الذكريات.
النبي الإنسان (285)
أنا شخصيا كنت أنشرح كثيراً عندما أصلي مقتدياً به، مع أني لم أكن ذلك الحين إلا مجرد ممثل يريد أن يبحث عن الحقيقة، ويتيقن بها يقينا لا يزاحمه الشك.
لقد كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعاً، وكان يرشدنا إلى أن التسبيحات والأذكار عقب الصلاة إنما هي بحكم نوى للصلاة وبذورها، وكان يسبّح ويذكر الله بصوت رخيم حزين، فعندما يقول: سبحان الله.. سبحان الله كنا نسمعه يصدر على مهل من أعماق أعماق قلبه.
وعندما كان يقول: لا اله الاّ الله، ويبدأ بالتسبيحات ويستمر بها يصبح صوته كفرقعة المدافع في قوته وشدته، فلو كان عنده شخص من الصوفية لأخذته الجذبة والشوق.
وكان من عاداته أنه كان يقضي الليالي بالتسبيح والتهليل والدعاء والمناجاة والتهجد، وكان على وضوء دائم، وكان جيرانه في إسپارطة وبارلا واميرداغ يقولون لنا: (كلما نظرنا إلى بيت الأستاذ في الليل رأينا مصباحه الخافت مضاء ونسمع أنين أذكاره الحزين ودعاءه الرقيق)
-\--\-
بعد أن رأيت هذا وغيره منه ـ مما لا يمكن وصفه ـ سألته، ولم يكن معي حينها غيره: يا إمام.. أرى عليك سيما العباد والزهاد.. وأرى في عينيك أشواق الأولياء والعارفين.. فلم لا تتمحض لهذا، وتتفرغ للعبادة، وحينها لن يصيبك أي بأس.. لن تبحث عنك الشرطة، ولن تسجن في سجونها، ولن يحذر منك أي أحد؟
التفت إلي، وقال: هل أنا عبد سعيد (1)، أم أنا عبد الله؟
قلت: بل أنت.. ونحن جميعا.. وكل ما في الكون عباد لله.
قال: فهل عبد الله هو الذي يعبد الله كما أمر الله، أم يعبد الله كما أمر هواه؟
قلت: بل يعبده بما أمر بأن يعبد به.
__________
(1) أشير إلى اسمه (سعيد).
النبي الإنسان (286)
قال: فماذا أفعل في التعاليم المقدسة التي أمرني الله فيها بألا أترك الدعوة إليه.. ماذا أفعل في تلك النصوص المقدسة التي تأمرني أن أطرح جلابيب الكسل، وأتزر بإزار الجد والقيام..
ألم تسمع إلى الله وهو يخاطبنا بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (المدثر)؟
قلت: بلى.. سمعتها.. ولكن الخطاب موجه فيها لمحمد باعتباره رسولا لله.. وليس الخطاب فيها لسعيد، ولا لغير سعيد.
قال: الوارث الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ينصبغ بصبغته، فلا يتخذ غيره أسوة.. ولذلك تجده يشعر أن كل خطاب موجه لرسول الله موجه له، وأن كل دعوة لرسول الله هي دعوة له، وأن كل هم اهتم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو هم له.. لا يسعه أن يتركه أو يتكاسل عنه.
ألم تسمع إلى الله، وهو يبين ذلك التجرد الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدعوة إلى الله.. فلم تحل بينه وبينها الحوائل، ولم تبعده عنها المغريات.. لقد قال الله تعالى يخاطبه، ويخاطب ورثته: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} (القلم)
لقد كان جميع الذين اجتمعوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يهتمون بشيء كاهتمامهم بأن يترك صلى الله عليه وآله وسلم ذلك التجرد للحق، ثم يلين لما يطلبون، ويداهن كما يداهن المنافقون.. لكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان كالجبل الأشم لم يخضع ولم يساير ولم يصانع ولم يداهن:
لقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبى طالب: (يا عماه، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه)
لقد وردت الروايات الكثيرة تخبر عن الجهود الجبارة التي بذلها المشركون ليحولوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المسار الذي اختباره الله له، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يساوم في دينه، وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة.. أو هو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون.. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه المتجبرين تأليفاً لقلوبهم أو دفعاً لأذاهم.
النبي الإنسان (287)
من صور المساومة التي حاولت أن تثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك التجرد الذي تجرده للحق.. ما حدث به ابن اسحق قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطوف بالكعبة ـ فيما بلغني ـ الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي. وكانوا ذوي أسنان في قومهم. فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر. فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه! فأنزل الله تعالى فيهم (سورة الكافرون).
لقد كانت تلك السورة القصيرة بآياتها، العظيمة بمعانيها هي سورة البراءة والتجرد التام للحق من كل شائبة من شوائب الهوى والشرك والباطل..
-\--\-
في ذلك الحين.. دخل علينا رجل لم أكن أعرفه من قبل.. ما سمعنا نتحدث بتلك الأحاديث حتى راح يندمج معنا اندماجا كليا، وكأنه قد وجد ضالته لدينا.. ولذلك ما انتهى بديع الزمان من حديثه حتى راح يسأله قائلا: يا إمام.. أنا من غير هذه البلاد.. لقد لجأت إليك من بلاد بعيدة.. رأيت فيها من قومي من يمارس من الأساليب ما لم أرتضه.. بل ما رأيت أنه ينحرف تماما بالمنهج الذي جاء الإسلام به..
قال بديع الزمان: وما يفعل هؤلاء؟
قال الرجل: هم يؤسسون أحزابا، ويمارسون السياسة، ويتصارعون فيها مع خصومهم كما يتصارع الديكة..
قال بديع الزمان: ما أفلح من صارع.. ألم يعلموا أن الإسلام دين سلام؟
قال الرجل: هم يعلمون ذلك.. ولكنهم يقولون: الباطل في حرب مع الحق.. ولا يمكن للحق أن ينتصر ما لم يصارع الباطل.
قال بديع الزمان: يصارعه بسيوف الحق، لا بسيوف الباطل.. حدثني عن هؤلاء: إلام
النبي الإنسان (288)
يدعون؟
قال الرجل: إلى دولة الإسلام ونظام الإسلام.
قال بديع الزمان: فهل تمكن الإسلام من نفوسهم، بحيث اكتملت وراثتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال الرجل: لا.. بل الكثير منهم ـ كما ذكرت لك ـ لا يختلف في سلوكه عن خصومه.
قال بديع الزمان: فكيف يدعو مثل هذا إلى نظام الإسلام، وهو لو يقم نظام الإسلام في نفسه؟.. وكيف يدعو مثل هذا إلى دولة الإسلام، وهو لم يقم دولة الإسلام في قلبه؟
ثم سكت قليلا، وقال: ألم يدخل المغرضون والمنافقون والمصلحيون مع هؤلاء؟
قال الرجل: بل دخل الكثير منهم.. بل سيطر الكثير منهم على أجهزة تلك الأحزاب.
قال بديع الزمان: لم؟
قال الرجل: لقد لاحظوا أن العامة من الناس تبع لكل من يلهج باسم الإسلام، فلذلك صاروا لا يعطون أصواتهم إلا لهم.
قال بديع الزمان: فهل وفوا بما وعدوهم به؟
قال الرجل: كلا.. وهذا ما جئت أسألك عنه.. لقد شوهوا الإسلام أعظم تشوبه.. فهم لم يكسبوا من الإسلام الذي طالبوا بتحكيمه سوى بطون منتفخة، وسيارات فارهة، وقصور عامرة.
نظر بديع الزمان إلى الأفق البعيد، ثم قال: ألم يكن لهؤلاء أسوة بالإنسان الكامل الذي جعله الله شمسا تستنير بها الحقائق؟ أم أنهم يتوهمون أنفسهم أكثر فطنة منه؟
لقد حدث الرواة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم ـ يقال له بحيرة بن فراس ـ: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك
النبي الإنسان (289)
أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك.
ألم يقرأ هؤلاء سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
لقد عرضت عليه المناصب الرفيعة.. وكان يمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغلها ليبث من دعوته ما شاء أن يبث، لكنه لم يفعل لأن الدعوة إلى الله لا يمكن أن تؤدي ثمارها بهذه الأساليب العقيمة.
لا يمكن لأحد أن يقيم أمة على أعمدة حزب سياسي يمكن أن ينهار بأي فضيحة قد يتلبس بها أي مغرض دخل الحزب، أو أي مغرض يريد أن يحطمه.
إن المنهج الصحيح الذي دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى استعماله هو ذلك المنهج الذي مارسه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.. وهو منهج بعيد تماما عن تلك المناهج التي يمارسها الساسة، والتي يتصارعون من أجلها.
سكت قليلا، ثم قال: لقد ذكرني حديثك هذا بتهمة نسبت لي في يوم من الأيام، وكان يمكنني لو صدقتها بسلوكي، أو صدقها تلاميذي أن تجعل من كل تلك الثمرات العظيمة التي هيأها الله لنا سرابا لا يسمن ولا يغني من جوع..
أذكر أني وقفت في تلك المحكمة التي وجهت لي تلك التهم بقوة، وقلت (1): نحن طلاب النور من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آلينا على أنفسنا ألاّ نجعل من أنفسنا أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله، فضلاً عن أن القرآن الكريم قد منعنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.
نعم، إنا نشعر أن مهمتنا الأساسية هي: خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يودي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سماً زعافاً وجحيماً لا تطاق.
__________
(1) هذا بعض ما قاله بديع الزمان في (الدفاعات) انظر: الشعاع الرابع عشر، ص: 403.. وقد تصرفت في النص بما يستدعيه المحل.
النبي الإنسان (290)
ومنهجنا في ذلك: هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تلزم أشد الفلاسفة والمتزندفة تمرداً على التسليم بالإيمان.. لذا فليس من حقنا أن نجعل من أشخاصنا أداة لأي شئ كان، وذ