<
×

الكتاب: السلفية.. والوثنية المقدسة

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1437 هـ

عدد الصفحات: 250

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-3-330-84426-1

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

 يتناول هذا الكتاب ـ عبر الوثائق والأدلة الكثيرة ـ الصورة التي ترسمها المدارس السلفية لله سبحانه وتعالى، وهي صورة موغلة في التجسيم والتشبيه، ومتناقضة تماما مع الرؤية التنزيهيه التي نزل بها القرآن الكريم، ودل عليها قبل ذلك العقل والفطرة السليمة.

 ولا يكتفي الكتاب بوصف تلك الصورة من خلال الروايات التي يعتمد عليها السلفية أو أهل الحديث في كتبهم، بل يضم إليها محاولة البحث عن العلل والدوافع ونحوها، والتي يتضح من خلالها منهج التفكير السلفي في التصورات العقدية، والرؤية الكونية، والذي سرى تأثيره بعد ذلك في التصورات والمواقف المختلفة.

 بالإضافة إلى ذلك كله يحاول الكتاب أن يعرض التأثيرات اليهودية على العقيدة السلفية، والتي نبه القرآن الكريم إلى خطورتها، وحذر الأمة من أن تقع فيما وقع فيه سلفها من بني إسرائيل وغيرهم من التجسيم والتشبيه.

السلفية.. والوثنية المقدسة (3)

إهداء

هذا الكتاب هدية إلى الذين لا يزالون يفكرون بعقولهم من أبناء المدرسة السلفية، بتوجهاتها المختلفة، وهو يدعوهم إلى إعمال عقولهم في هذه المسائل الخطيرة التي يرتبط بها مصيرهم الأبدي.

وأنا لا أقول لهم من خلاله: اتركوا عقائدكم المملوءة بالخرافة والتجسيم والتشبيه..

ولا أقول لهم: اتركوا كتبكم ومراجعكم التي تتلونها أكثر من تلاوتكم لكلام ربكم..

ولا أقول لهم: اتركوا أئمتكم الذين تقدسونهم أكثر مما تقدسون رسولكم صلى الله عليه وآله وسلم..

ولكني أقول لهم: راجعوا جيدا موقفكم من ربكم.. وتصوركم له.. وتعاملكم معه.. وانظروا إلى الحقائق العلمية التي تظهر كل يوم لتكشف زيف أئمتكم ودجلهم.

وهذا الكتاب لم يفعل سوى أن نقل لكم بضاعتكم كما هي في مصادركم التي تتعبدون بتلاوتها، والخضوع المطلق لها، ولم يفعل سوى أن وضع بجانبها ما يذكره القرآن الكريم، وما يقوله العقل السليم، وما تقوله الفطرة التي تعبد الله وحده، ولا تشرك معه سلفا ولا خلفا.. لتختاروا لأنفسكم أي المذهبين أقوم: مذهب التنزيه والتعظيم، أم مذهب التجسيم والوثنية؟

السلفية.. والوثنية المقدسة (6)

المقدمة

لا شك أن الاهتمام بالبحث عن معرفة الله، وبذل كل الوسائل والجهود لأجل تحصيلها وتصحيحها، بل إفناء العمر في ذلك قليل جدا أمام عظمتها وأهميتها.

ذلك أننا إذا اعتبرنا الجهد المبذول في ذلك بقدر قيمة المعرفة.. فليس هناك قيمة في الوجود أعظم أو أهم من الله.. فالله هو مصدر كل قيمة في الوجود.. بل هو مصدر كل حقيقة من حقائقه.. فالله هو مصدر الفيزياء والكيمياء والرياضيات.. وهو مصدر علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة.. وكل علم من علم من علوم الدنيا، وكل فن من فنونها.. ولذلك من الغريب أن نهتم بتلك العلوم والمعارف، ونعطيها كل جهودنا، ونستعمل كل الأدوات للتحقيق فيها، ثم لا نهتم بمعرفة مصدرها ومنبعها وبارئها.

وهكذا إذا اعتبرنا الجهد المبذول بقدر المصلحة.. فليس هناك مصلحة أعظم للإنسان من مصلحة تعرفه على ربه، وارتباطه به.. فمن عرف الله عرف مواضع رضاه.. ومن عرف مواضع رضاه نال مبتغاه.. بل إن معرفة الله نفسها إكسير أحمر يحول الإنسان إلى جوهر نفيس من جواهر الوجود.. وهو من دونها هباء وسراب لا قيمة له.

وقد أشار إلى هاتين الناحيتين في المعرفة الإلهية الإمام جعفر الصادق عندما رأى بعض الزهد في هذا النوع من المعرفة، فقال: (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلَّ عندهم مما يطوونه بأرجلهم، ولنَعِمُوا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله) (1)

ثم فصل بعض آثار ذلك بقوله: (إن معرفة الله عز وجل أنْسٌ من كل وحشة، وصاحبٌ

__________

(1) الكافي:8/ 247.

السلفية.. والوثنية المقدسة (7)

من كل وحدة، ونورٌ من كل ظلمة، وقوةُ من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم) (1)

وأشار إلى ذلك أيضا الإمام الحسين في بعض مواعظه، فقال: (أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه) (2)

وأشار إلى ذلك قبلهما الإمام علي، حين اعتبر أول الدين وأساسه معرفة الله، فقال: (أولُ الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به توحيدُه، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة) (3)

وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن أولياء هذه الأمة تدعو إلى الاهتمام بالبحث الجاد عن المعرفة الإلهية من سبلها الصحيحة المعصومة، حتى لا يحيق بهذه الأمة ما حاق بغيرها من الأمم.

ذلك أن من عادة الشيطان ـ كما يخبر القرآن الكريم ـ أن يبدأ بالسعي في تشويه هذه المعرفة، فإن تمكن من ذلك لا يبالي بعدها بشيء.

وقد أخبر القرآن الكريم عن نموذج من نماذج ذلك، وهو ما حصل لبني إسرائيل بمجرد خروجهم من مصر.. فقد كان أول ما طلبوه ـ بغواية من الشيطان ووسوته ـ أن يجعل لهم موسى عليه السلام إلها كالآلهة التي تعبدها الأمم من حولهم.. لأنه عز عليهم أن يعبدوا إلها لا يتمكنون من رؤيته.

قال تعالى مشيرا إلى ذلك: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]

__________

(1) الكافي:8/ 247.

(2) علل الشرائع:1/ 9.

(3) نهج البلاغة:1/ 14.

السلفية.. والوثنية المقدسة (8)

وهكذا ذكر القرآن الكريم حرصهم على الرؤية الجهرية الحسية لله، حتى عوقبوا على ذلك (1)، ومع ذلك لم تثنهم تلك العقوبة عن البحث عن إله حسي يمكنهم أن يروه ويلمسوه.

ولذلك بمجرد أن غاب موسى عليه السلام صنعوا إلها من ذهب.. وصاروا يعبدونه غير مراعين لتلك التوجيهات التي كان هارون عليه السلام يقوم بها مع الثلة القليلة الذين معه، قال تعالى يصور ذلك بدقة: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)} فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)} [طه: 85 - 91]

وما حصل في بني إسرائيل حصل مثله ـ للأسف ـ في هذه الأمة، حين ضيعت وصية نبيها في البعد عن كل ما يمكن أن يحرف هذا الدين، ويشوه جمال عقائده، وقد ورد في الحديث الصحيح ـ الذي يمثل وصية من أعظم وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: أن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب، وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟!

__________

(1) وقد ورد في الكتاب المقدس ما يشير إلى هذه النزعة التجسيمية، ففي سفر الخروج [الإصحاح 32، 1]: (ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا)، وفيه [13/ 20، 1.]: (وارتحلوا من سكوت ونزلوا في طرف البرية وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلاً في عمود نار ليضيء لهم..)، وفي [سفر الخروج 24/ 9 - 11]: (صعد موسى وهارون.. وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف.. لكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

السلفية.. والوثنية المقدسة (9)

والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني) (1)

لكن الأمة للأسف، وخصوصا السلفية منهم، عرفوا كيف يحتالون على هذا الحديث، ويضعوا بدله حديثا يقول: (لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) (2)

ومن العجائب في هذا الحديث أنه ينهى عن كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في نفس الوقت الذي يجيز الحديث عن بني إسرائيل..

وقد صار ـ للأسف ـ العمل بالحديث الأخير، بدل الحديث الأول على الرغم من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشديد من رؤية صحيفة التوراة بيد مسلم.

ولكن مع ذلك راحت الأمة تنهل عقائدها في الله تعالى وفي الرسل عليهم الصلاة والسلام وفي عوالم الغيب من أهل الكتاب بدل أن تأخذها من مصادرها المعصومة.. خاصة وأن أولئك اليهود الذين سلم لهم أمر الدين كانوا من أقرب المقربين للملوك والأمراء.. فكثر أتباعهم لذلك.. وكثرت طرق الأحاديث التي يروونها، واختلطت مع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأصبحت السنة هي الوعاء الذي يحمل أمثال تلك العقائد اليهودية التي تسربت للإسلام.

ومن هنا تسلل الشيطان لهذه الأمة ليصنع لها إلها يتوافق مع الرؤية المادية الحسية..

وقد تولى من يسمون أنفسهم [السلفيين]، و[أهل الحديث]، و[أهل السنة والجماعة] الدعوة إلى هذه المعرفة الحسية التجسيمية لله، فألفوا في ذلك الكتب ووضعوا الأحاديث وحرفوا معاني القرآن الكريم لتنسجم انسجاما تاما مع تلك الرؤية المادية الحسية.

__________

(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 3/ 387 ح (15195).

(2) البخاري (6/ 496 رقم 3461) والترمذي (7/ 431 - 432 رقم 2806)

السلفية.. والوثنية المقدسة (10)

وكان أول ما فعلوه هو رميهم بالبدعة والضلالة كل تلك الدعوات الصادقة التي كان ينادي بها أولياء الله من أهل بيت النبوة، محذرين من أن تقع هذه الأمة في التجسيم الذي وقع فيه بنو إسرائيل..

وقد روي أن الإمام جعفر الصادق ذكرت له بعض الروايات التجسيمية التي كانت تنتشر في عصره انتشار النار في الهشيم، وخاصة بين المحدثين، فقال: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]،لا يحد ولا يحس ولا يجس ولا تدركه الأبصار ولا الحواس ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد) (1)

وقال في محل آخر: (إن الله تعالى لا يشبهه شيء، أي فحشٍ أو خنى أعظمُ من قولٍ من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) (2)

وقال: (من زعم أن الله في شئ، أو من شئ، أو على شئ فقد أشرك. إذ لو كان على شئ لكان محمولا، ولو كان في شئ لكان محصورا، ولو كان من شئ لكان محدثا- أي مخلوقا) (3)

ومثله قال الإمام الكاظم لما ذكر له بعض المجسمة ممن يزعمون صحبته: (قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم، معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان) (4)

__________

(1) الكافي للكليني 1/ 104.

(2) الكافي 1/ 105.

(3) الرسالة القشيرية (ص/ 6).

(4) الكافي 1/ 106 وهو في التوحيد للشيخ الصدوق ص 99 والاحتجاج للشيخ الطبرسي 2/ 155

السلفية.. والوثنية المقدسة (11)

وهكذا قال الإمام الرضا: (إنه ليس منا من زعم أن الله عزوجل جسم، ونحن منه برآء في الدنيا والآخرة، يا ابن أبي دلف إن الجسم محدث، والله محدثه ومجسمه) (1)

وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن الإمام علي في المصادر السنية والشيعية تبين حقيقة المعرفة الإلهية، وأنها معرفة تنزيهية تعظيمية، لا حسية تجسيمية، ومنها قوله المشهور: (كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان) (2)

لكن الأمة للأسف، وأهل الحديث منهم خصوصا، ولأسباب كثيرة أعرضت عن هؤلاء، وعن تلك التحذيرات الخطيرة التي لم تكن تختلف عن تلك التحذيرات التي كان يصيح بها هارون عليه السلام في بني إسرائيل.

وكان أول الانحراف هو قبولها للتفسير اليهودي للقرآن الكريم..

وكان أول سامري تقربه الأمة، وتثق فيه، وتسلمه كتابها ليفسره لها ـ بعد إعراضها عن هارونها (3) ـ هو كعب الأحبار.. ومن هنا بدأت صناعة الوثن المقدس، والذي لا يختلف كثيرا عن الوثن الإسرائيلي.

فقد كان لكعب الأحبار.. ولتلاميذه البارزين من الصحابة والتابعين.. تأثيره العظيم في تأسيس صرح الوثنية في هذه الأمة.

ومن الأمثلة على ذلك هذه الرواية التي تطفح بالتجسيم، والتي يقول فيها كعب الأحبار ـ متحدثا عن الله بكل جرأة ـ: (قال الله عز وجل: أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على العرش أدبر أمر عبادي، لا يخفى علي شيء من أمر عبادي في سمائي وأرضي، وإن حُجبوا عني فلا يغيب عنهم علمي، وإلي مرجع كل خلقي فأنبئهم بما خفي عليهم من علمي،

__________

(1) التوحيد للصدوق 104 وانظر نور البراهين لنعمة الله الجزائري 265 وبحار الأنوار للمجلسي 84/ 197

(2) الفرق بين الفرق لأبي منصور البغدادي [ص / 333].

(3) أشير به إلى قوله (لعلي في الحديث الصحيح: (ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) [صحيح البخاري 5/ 24، صحيح مسلم 4/ 1870]

السلفية.. والوثنية المقدسة (12)

أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي، وأعذب من شئت منهم بعقابي) (1)

وللأسف فإن هذه الرواية، ومع كونها حديثا عن الله تعالى، أو ما يسمى حديثا قدسيا، والأصل فيه أن لا يؤخذ إلا عن معصوم، لكن أهل الحديث غضوا الطرف عن ذلك، بل تلقوها، وكأنها قرآن منزل (2)... لأن كعب الأحبار يهودي، وما دام كذلك، فكل ما يقوله إنما ينقله من الكتب السماوية التي أوحاها الله لأنبيائه.

ولهذا نرى محدثا كبيرا يعتبر من أئمة المدرسة السلفية يتلقى هذه الرواية باحترام عظيم، ويقول ـ بنبرة تجسيمية لا تختلف عن تجسيم اليهود ـ: (وإنما يعرف فضلُ الربوبية وعِظمُ القدرة بأن الله تعالى من فوق عرشه، وبعد مسافة السموات والأرض يعلم ما في الأرض وما تحت الثرى وهو مع كل ذي نجوى، ولذلك قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73]، ولو كان في الأرض كما ادعيتم بجنب كل ذي نجوى ما كان بعجبٍ أن ينبئهم بما عملوا يوم القيامة فلو كنا نحن بتلك المنزلة منهم لنبأنا كل عامل منهم بما عمل) (3)

بل إن كعب الأحبار ـ ونتيجة للاحترام الكبير الذي لقيه من التجسيميين في هذه الأمة، وبرعاية من السلطة السياسية ـ يقول ـ جوابا لمن سأله: أين ربنا؟ ـ: (سألت أين ربنا، وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، حتى تمّ سبع أرضين، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، والله على العرم متكئ، ثم تفطر السموات.. ثم قال: إقرؤوا إن شئتم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]) (4)

__________

(1) العظمة 2/ 626.

(2) العرش للذهبي 2/ 148.

(3) نقض عثمان بن سعيد 443.

(4) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (21/ 501).

السلفية.. والوثنية المقدسة (13)

والخطورة في هذه الرواية ـ والتي تلقاها التيار السلفي بالقبول والإذعان التام ـ هو تحريفها للمعاني القرآنية، وتغييرها عن سياقها ومدلولاتها المقدسة لتتحول إلى معان تجسيمية وثنية.

ومن الأمثلة على ذلك هذه الرواية التي رواها السيوطي في (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) عن كثير من المحدثين، ومما ورد فيها: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك: ألا تسمع يا كعب ما يحدثنا به ابن أم عبد عن أدنى أهل الجنة ما له فكيف بأعلاهم؟ قال: (يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن الله كان فوق العرش والماء، فخلق لنفسه دارا بيده، فزينها بما شاء وجعل فيها ما شاء من الثمرات والشراب، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] (1)

وهكذا نجد المدرسة السلفية تتلقى كل ما يذكره كعب الأحبار، وكأنه قرآن منزل، وقد دافع ابن تيمية كثيرا عن أمثال هذه الروايات، بل إنه ذكر ما يدل على أن مرجع كعب فيها فيما يذكره من إسرائيليات هي التوراة الصحيحة، فقد قال في دقائق التفسير: (وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها، فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به، ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها، والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل، والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر، ولا حاجة بنا إلى ذكره، ولا علم لنا بذلك، ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره) (2)

__________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور: (8/ 259).

(2) دقائق التفسير (2/ 58)

السلفية.. والوثنية المقدسة (14)

ولم تكتف المدرسة السلفية بإمامة كعب الأحبار، بل بحثت عن أي يهودي ليعرفها بربها، وكأن القرآن الكريم لم يف لهم بالغرض، فراحوا يبحثون في الأمم الأخرى من يفسره.

ومن هؤلاء الذين نجد رواياتهم الكثيرة في كتب عقائد السنة وهب بن منبه.. ومن رواياته قوله: (إن السموات السبع والبحار لفي الهيكل (1) وإن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه لعلى الكرسي وهو يحمل الكرسي وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه) (2)

وقد علقه عليه الذهبي بقوله: (كان وهب من أوعية العلوم، لكن جُلَّ علمه عن أخبار الأمم السالفة، كان عنده كتب كثيرة إسرائيليات، كان ينقل منها لعله أوسع دائرة من كعب الأخبار، وهذا الذي وصفه من الهيكل وأن الأرضين السبع يتخللها البحر وغير ذلك فيه نظر والله أعلم، فلا نرده ولا نتخذه دليلاً) (3)

والعجب من هذه المقولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. فهم يروون هذه الرواية وغيرها في كتب التفسير والحديث والعقيدة.. ويستخلصون ما فيها من فوائد عقدية.. ثم بعد ذلك ـ ومن باب التقية ـ يقولون: (لا نرده ولا نتخذه دليلاً)

وهكذا نجد إماما من أئمة اليهود مثل محمد بن كعب القرظي يعقد المجالس ليفسر القرآن على الطريقة اليهودية، كقوله: (كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك) (4).

ومثله عبد الله بن سلام الذي رووا عنه قوله: (والذي نفسي بيده إن أقرب الناس يوم القيامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جالس عن يمينه على كرسي) (5)

__________

(1) الهيكل البناء المشرف، مختار الصحاح، الرزاي 1/ 290.

(2) السنة 2/ 477.

(3) العلو 1/ 130.

(4) السنة 1/ 148.

(5) السنة 1/ 256. وأخرجه الآجري في الشريعة 4/ 1609 والذهبي في العلو 1/ 720.

السلفية.. والوثنية المقدسة (15)

وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على تفريط الأمة في تلك الوصايا الكثيرة التي حذر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن ترغب الأمة عن كتاب الله إلى غيره من الكتب.

ومن هذه البوابة دخلت المعرفة التجسيمية اليهودية كتب المسلمين.. بل ألفت فيها المؤلفات الكثيرة بأسماء خطيرة.. كعقيدة السلف، وعقيدة أهل الأثر، وعقيدة أهل السنة والجماعة، مثل: (عقيدة أهل السنة أصحاب الحديث) للإمام إسماعيل الصابوني، و(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي..

أو باسم التوحيد، مثل (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب) للإمام ابن خزيمة، و(اعتقاد التوحيد) لأبي عبد الله محمد بن خفيف، و(كتاب التوحيد) لابن منده.

أو باسم السنة، وهذه ظاهرة خطيرة شملت كثيرا من المؤلفات في القرون الأولى، ككتاب (السنة) للإمام أحمد بن حنبل، وكذلك السنة لابنه عبد الله، و(السنة) للخلال، و(السنة) للعسال، (السنة) للأثرم، و(السنة) لأبي داود.. وخطورة هذه التسمية هي ما توحيه بأن العقائد التجسيمية الواردة فيها عقائد سنية، أي ليست عقائد مبتدعة.. وهكذا تحول التنزيه بفعل تلك الكتب بدعة.. وتحول التجسيم سنة.

ولهذا نجد ابن تيمية - مع تحذيراته الكثيرة من كتب المنزهة في العقائد ككتب الأشاعرة والمعتزلة والإباضية والإمامية وتشنيعه عليها – يدعو إلى مطالعة الكتب المشحونة بالتجسيم والتشبيه، ويعتبرها وحدها كتب التوحيد والسنة.. وقد قال في (مجموع الفتاوى) عند حديثه عن مذهب السلف في الأسماء والصفات: (وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه مثل كتاب (السنن) للالكائي، و(الإبانة) لابن بطة، و(السنة) لأبي ذر الهروي، و(الأصول) لأبي عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبدالبر، و(الأسماء والصفات) للبيهقي، وقبل ذلك (السنة) للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبدالله بن منده ولأبي أحمد العسّال الأصبهانيين، وقبل ذلك (السنة) للخلاّل، و(التوحيد)

السلفية.. والوثنية المقدسة (16)

لابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، و(الرد على الجهمية) لجماعة مثل: البخاري، وشيخه عبدالله بن محمد بن عبدالله الجعفي، وقبل ذلك (السنة) لعبدالله بن أحمد، و(السنة) لأبي بكر بن الأثرم، و(السنة) لحنبل، وللمروزي ولأبي داود السجستاني، ولابن أبي شيبة، و(السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب (خلق أفعال العباد) للبخاري، وكتاب (الرد على الجهمية) لعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم) (1)

وما ذكرناه هنا عن التشابه بين العقائد السلفية والعقائد اليهودية ليس تهمة نتهمهم بها، بل هي الحقيقة التي تدل عليها المقارنات التي سنذكرها بتفصيل في هذا الكتاب.

بل تدل عليها تصريحات أئمتهم الذين لم يكتفوا بالنصيحة بالعودة إلى كتب السنة والسلف لينهل منها أتباعهم كل صنوف التجسيم والتشبيه، بل راحوا يرشدهم إلى كتب اليهود، ليتعرفوا أكثر على صورة إلههم، وأنواع تصرفاته.

وكمثال على ذلك ما ذكره ابن تيمية من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقر اليهود على ما وصفوا به ربهم في كتبهم، فقال: (ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما أظهر من عيوبهم وذنوبهم وتنزيهه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، فلو كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم - فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيهاً وتجسيماً بل فيها إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور- فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة، فإنك تجد عامة ما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقاً مطابقاً لما ذكر في التوراة.. والنصارى يشبهون المخلوق

__________

(1) (مجموع الفتاوى) (5/ 24).

السلفية.. والوثنية المقدسة (17)

بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك. فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك للهدى من أعظم الأسباب، وكان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابةِ والتابعين لذلك من أعظم الصواب، ولكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينكر ذلك من جنس إنكار النفاة، فيقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف والله منزه عن ذلك. فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم - ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد - فلو كان هذا تجسيماً وتجسيداً يجب إنكاره لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق. وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم كان إنكار ذلك بهذا الطريق المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم) (1)

ومن هنا نجد ذلك التشابه العجيب بين العقائد السلفية والعقائد اليهودية.. فكما أن اليهود يعتقدون أن لله صورة حسية جسمية، كما ورد في سفر التكوين (الاصحاح الأول: 26 - 28): (وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا على شبهنا... فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم)، وفي سفر (التثنية الاصحاح 4: 15 - 16): (فإنكم إن لم تروا صورة ما في يوم كلَّمكم الرب في حوريب من وسط النار لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالا منحوتاً صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى) نجد السلفية وأهل الحديث يذكرون ذلك، وبألفاظ قريبة من النص الموجود في التوراة.

ففي كتاب (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن) للتويجري، يقول: (قال ابن قتيبة: فرأيت في التوراة: إن الله لما خلق السماء والأرض قال: نخلق بشرًا بصورتنا.. وفي حديث ابن عباس: إن موسى لما ضرب الحجر لبني إسرائيل فتفجَّر وقال: اشربوا يا حمير

__________

(1) درء التعارض 7/ 86 - 90.

السلفية.. والوثنية المقدسة (18)

فأوحى الله إليه: عمدت إلى خلق ٍ من خلقي خلقتهم على صورتي فتشبههم بالحمير، فما برح حتى عوتب) (1)

بل إنهم لم يأخذوا الصورة بشكلها العام فقط، بل ربطوا معها كل التفاصيل كما هي موجودة في كتب اليهود.

فكما أن اليهود يعتبرون الوجه عضوا لله تعالى كما هو وجه ابن آدم، كما جاء في سفر التكوين (الإصحاح 32: 30): (فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلاً لأني نظرت الله وجهًا لوجه)، نجد السلفية يقولون ـ بلسان الدارمي ـ: (كل شئ هالك إلا وجه نفسه الذي هو أحسن الوجوه وأجمل وأنور الوجوه وإن الوجه منه غير اليدين، واليدين منه غير الوجه) (2)،ويقول: (فصعد - أي جبريل - بهن - أي بكلمات الذكر - حتى يُحَيِّ بهن وجه الرحمن) (3)، ويقول: (والنور لا يخلو من أن يكون له إضاءة واستناره ومنظر ورواء، وإنه يدرك يومئذ بحاسة النظر إذا كشف عنه الحجاب كما يدرك الشمس والقمر في الدنيا) (4)

ويقولون ـ بلسان عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب ـ: (روى ابن جرير عن وهب بن منبه: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ثم يقولون فأذن لنا بالسجود قدامك) (5)

وكما أن اليهود تنسب الفم واللسان الى الله، كما في سفر أيوب (37/ 2 - 6): (اسمعوا سماعًا رعد صوته والرمذمة الخارجة من فيه تحت كل السموات)، وهم يريدون ب (من فيه): (من فمه)،نجد السلفية يقولون ـ بلسان ابن تيمية في معرض الرد على الجهمية ـ: (وحديث

__________

(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، ص 16.

(2) رد الدارمي على بشر المريسي: ص 159.

(3) رد الدارمي على بشر المريسي: ص 151.

(4) رد الدارمي على بشر المريسي: ص 190.

(5) قرة عيون الموحدين) ص 187.

السلفية.. والوثنية المقدسة (19)

الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان) (1)

ويقولون ـ بلسان الدارمي ـ: (قال كعب الأحبار: لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه طفق موسى يقول: أي رب ما أفقه هذا حتى كلّمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته يعني بمثل لسان موسى وبمثل صوت موسى)، ثم علق على هذا بقوله: (فهذه الأحاديث قد رويت وأكثر منها ما يشبهها كلها موافقة لكتاب الله في الإيمان بكلام الله) (2)

وكما أن اليهود ينسبون التغير والحدوث والحركة والارتفاع والنزول الحسي الى الله تعالى، كما في سفر التكوين (11/ 5): (فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنوهما)، وفي نفس السفر (46/ 3 - 4): (فقال أنا الله إله أبيك... أنا أنزل معك إلى مصر)، وفي سفر الخروج (19/ 21): (لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء) نجد السلفية ـ بلسان ابن تيمية ـ يقولون: (فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت، لكن السكوت تارة يكون عن التكلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه) (3)

ويقولون ـ بلسان حافظ حكمي ـ: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا وله في كل سماء كرسي، فإذا نزل إلى السماء الدنيا جلس على كرسيه ثم مد ساعديه، فإذا كان عند الصبح ارتفع فجلس على كرسيه)، ثم يقول: (يعلو ربنا إلى السماء إلى كرسيه)، وفي الصفحة التالية يقول: (قال النبي: إن الله يفتح أبواب السماء ثم يهبط إلى السماء الدنيا ثم يبسط يده) (4)

وكما أن اليهود تنسب اليد والساعد والذراع والكف والاصابع جوارح حقيقية الى الله، كما في سفر الخروج (15/ 16): (بعظمة ذراعك يصمتون كالحجر)، وفي سفر المزامير

__________

(1) الأسماء والصفات) لابن تيمية (1/ 73).

(2) الرد على الجهمية) لأبي سعيد الدارمي (ص 81).

(3) الأسماء والصفات) لابن تيمية (ص 91).

(4) (معارج القبول) لحافظ حكمي (1/ 235).

السلفية.. والوثنية المقدسة (20)

(44/2 - 3):(أنت بيدك استأصلت الأمم وغرستهم لكن يمينك وذراعك)، نجد السلفية ـ بلسان الدارمي ـ يقولون: (فأكد الله لآدم الفضيلة التي كرّمه وشرّفه بها وآثره على جميع عباده إذ كل عباده خلقهم بغير مسيس بيد وخلق آدم بمسيس) (1)

وكما أن اليهود تنسب الرجل الجارحة والعين على معنى الجارحة الى الله تعالى، كما في سفر الخروج (13/ 20): (وكان الرب يسير أمامهم)، وفي سفر المزامير (53/ 2): (الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر)، وفي سفر التكوين (3/ 8 - 10): (وسمعا صوت الإله ماشيا في الجنة)، نجد السلفية ـ بلسان أبي يعلى ـ يقولون: (والسموات والأرض يوم القيامة في كفه ويضع قدمه في النار فتنزوي ويخرج قومًا من النار بيده) (2)،ويقول ابن عثيمين: (ونؤمن بأن لله عينين اثنتين حقيقيتين) (3)

وكما أن اليهود تنسب الجهة والحيز والمكان والحد الى الله، كما في سفر المزامير (2/ 4): (الساكن في السموات يضحك الرب)، وفي سفر التكوين (28/ 16): (حقّاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم)، وفي نفس السفر (18/ 1): (وظهر له الرب عند بلوطات)، وفي سفر زكريا (2/ 13): (اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه) نجد السلفية ـ بلسان الدارمي ـ يقولون: (بل هو على عرشه فوق جميع الخلائق في أعلى مكان وأطهر مكان) (4)

وهكذا لو تأملنا كل العقائد التي يسمونها عقائد السلف، أو عقائد أهل الحديث لوجدنا بسهولة مصدرها اليهودي.

وبما أن كتابنا هذا يحاول أن يرسم صورة للوثنية المقدسة كما يعتقدها [السلفيون وأهل

__________

(1) رد الدارمي على بشر المريسي) (ص 26).

(2) طبقات الحنابلة) (1/ 32).

(3) عقيدة أهل السنة والجماعة) (ص 14 - 15).

(4) رد الدارمي على بشر المريسي، ص 82.

السلفية.. والوثنية المقدسة (21)

الحديث]، وخوفا من اتهامنا بأننا نقولهم ما لم يقولوا، أو ندعي عليهم شيئا لا يعتقدونه، فإنا سنورد هنا مصادرنا الكبرى التي اعتمدنا عليها في فصول هذا الكتاب، وكلها مما أثنى عليه شيخهم الكبير، وعمدتهم العظيم، ومرجعهم المقدس (ابن تيمية)

ومن هذه الكتب كتابُ (السنة) المنسوب لعبد الله بن أحمد، والذي قال محققه مشيرا إلى مدى وثاقته عند المدرسة السلفية: (إن هذا الكتاب من أوائل المصادر التي كتبت في عقيدة السلف، فإخراجه للناس في هذا العصر من الأهمية بمكان) (1)

وقال: (هذا الكتاب من أمهات مصادر العقيدة في كتب السلف... لذا فهو من المصادر الأولى إذ لم يتقدمه إلا بعض الكتب الصغيرة.. فهو من هذا الجانب ذو مكانة كبيرة حيث اعتمدت عليه كثير من الكتب التي صنفت في عقيدة السلف... فهو بحق مصدر رائد برزت قيمته في من نقل عنه وعزا إليه... فهذا الكتاب صنو لهذه المصنفات التي هي اليوم تحتل مكان الصدارة بعد كتاب الله في المكتبة الإسلامية) (2)

ولهذا الكتاب أهمية كبرى عند ابن تيمية وتلاميذه حتى أنهم بذلوا كل جهودهم في نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وفي الرد على من ينزه الإمام أحمد وولده عن أن يخوض في مثل هذه المسائل.

ومنها (كتاب السنة) لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي الخلال، والذي قرر فيه قعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الباري سبحانه على الفضلة التي تفضل من العرش. وحشر مع ذلك نقولاً عن بعض المحدثين في تكفير منكره ورميه بالبدعة والتجهم وغير ذلك.. وفيه أن الله عز وجل ينادي: يا داود اُدن مني فلا يزال يدنيه حتى يمس بعضه ويقول: كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي، فيقول الله له كن خلفي خذ بقدمي.

ومنها (كتاب التوحيد) لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابورى.. والذي روى

__________

(1) مقدمة كتاب السنة 1/ 15

(2) المصدر السابق 1/ 65 - 66

السلفية.. والوثنية المقدسة (22)

فيه الروايات الكثيرة المثبتة بأن لله أصابع، وأن له قدما، وأن الكرسي موضع قدميه، وأن العرش يئط به، وأنه تجلى منه مثل طرف الخنصر، وأنه يهبط ثم يرتفع، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فينتفض تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأن جنة عدن مسكنه، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب يحمله أربعة من الملائكة، وغير ذلك.

ومنها (كتاب العرش وماروي فيه) لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة.. وقد ذكر في هذا الكتاب أن أقرب الخلق إلى الله جبريل وميكائيل وإسرافيل، بينهم وبين ربهم مسيرة خمسمائة عام، وأن السماء منفطرة من ثقل الله، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في روضة خضراء وغير ذلك.

وهو من الكتب التي حظيت بعناية كبيرة من المدرسة السلفية قديمها وحديثها، وقد قال محققه المعاصر في مقدمته تعظيما لشأنه: (ولقد صنف كثير من السلف وبخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين مؤلفات ورسائل كثيرة في مسائل أسماء الله وصفاته، فبينوا فيها ما يجب على المسلم تجاه هذا الأمر العظيم، وقد اعتمدوا في تصانيفهم تلك على نصوص القرآن والسنة، وقد كان من ضمن تلك المؤلفات كتاب (العرش) للحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وقد عالج المصنف- رحمه الله- في هذا الكتاب مسألة تعد من أهم مسائل الأسماء والصفات، بل ومن أهم مسائل العقيدة وأخطرها، ألا وهي: مسألة علو الله عز وجل على خلقه، واستوائه على عرشه) (1)

ومنها كتاب (الأربعين في دلائل التوحيد) لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.. وفيه من أمثلة التجسيم أن محمداًصلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد في قدميه خضرة.. وفيه باب ذكر فيه أن الله عز وجل وضع قدمه على الكرسي، وباب في إثبات الجهات لله عز وجل، وباب في إثبات الحد، وباب في إثبات الخط، وباب في إثبات الصورة، وباب في إثبات العينين، وباب في إثبات الهرولة..

__________

(1) العرش وما رُوِي فيه، أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي، (ص: 6).

السلفية.. والوثنية المقدسة (23)

ومنها كتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) لأبي عبد الله بن بطة العكبري، وهو من أهم مراجع التجسيم لدى المدرسة السلفية، وقد قال محققه عنه: (كتاب الإبانة لابن بطة يعد أكبر موسوعة في العقيدة السلفية.. هذا الكتاب يمثل مذهب الإمام أحمد بن حنبل..) (1)

ومنها كتابا (الرد على الجهمية) وكتاب (نقض عثمان بن سعيد على المريسي العنيد).. وقد قال ابن القيم يخبر عن اهتمام ابن تيمية بهما: (وكتاباه من أجل الكتب المصنفة في السنة وأنفعها، وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جداً. وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما) (2)

ويعتبر هذان الكتابان من أهم كتب التجسيم.. فقد أورد فيهما الكثير من الروايات التجسيمية التي سنتحدث عنها في فصول الكتاب مثل كون العرش يئط من ثقل الجبار فوقه، وأنه ينزل في الليل إلى جنة عدن، وأنها مسكنه الذي يسكن فيه مع النبيين والصديقين والشهداء، وأنه يهبط من عرشه إلى كرسيه، ثم يرتفع عن كرسيه إلى عرشه، وفيهما إثباتَ الحركة لله عز وجل، وإثباتُ الحد، وأنه مس آدم مسيساً بيده، وأنه يقعد على العرش فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع، وأنه قادر على الاستقرار على ظهر بعوضة، وأنه إذا غضب ثقل على حملة العرش، وأن رأس المنارة أقرب إليه من أسفلها..

ومنها كتاب (إبطال التأويلات) الذي ألفه أبو يعلى الفراء في أوائل القرن الخامس الهجري، لكن الكتاب بحكم ما فيه من تجسيمات وتشبيهات بقي مغمورا إلى أن ذاع خبره سنة (429 هـ) حينها ضج العلماء لظهور هذا الكتاب ولافتتان بعض العوام بما فيه.. وقد حصلت بسبب ذلك فتنة اقتضت تدخل الخليفة القائم بأمر الله العباسي لتسكينها بمساعدة أبي الحسن

__________

(1) انظر مقدمة الكتاب بتحقيقه 1/ 6 - 7.

(2) اجتماع الجيوش 143.

السلفية.. والوثنية المقدسة (24)

القزويني الزاهد الشافعي المقبول من جميع الطوائف، وقد أخرج القائم بأمر الله عقيدة والده الخليفة القادر بالله، ووَقَّعَ عليها العلماء وسكنت الفتنة (1).

لكن مع ذلك نجد ابن تيمية يرجع إليه، ويدافع عن صاحبه (2)، بل نجد اهتمام المدرسة السلفية المعاصرة بتحقيقة وإخراجه وطبعه في أحسن حلة ونشرة على النت للتحميل مجانا وبكل الصيغ.

وقد قال محقق الكتاب في خطبته مشيدا به: (وبعد، فإن كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) للقاضي أبي يعلى الفراء كان يعد إلى زمن قريب من الكتب المفقودة، وهو كتاب فريد في بابه، إذ تضمن الرد على تأويلات الأشاعرة والمعتزلة والجهمية لأخبار الصفات الإلهية، الواردة على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الخلق به، وبيان مذهب السلف فيها وهو إثباتها والإيمان بها، ونفي التكييف عنها والتمثيل لها، فهذا هو التوحيد الذي بينه الله تعالى..) (3)

__________

(1) انظر: طبقات الحنابلة: 2/ 197، وقد قال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) عنه: (وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي. ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة. وعنه انتشر مذهب أحمد رضي الله عنه. وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة. وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة. وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض. تعالى الله عن ذلك..) انظر: دفع شبه التشبيه، لابن الجوزي ص 10.

(2) ذكر ابن تيمية الفتنة التي حصلت بسبب الكتاب، فقال: (وصنف القاضي أبو يعلى كتابه في (إبطال التأويل) رد فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه؛ فلما صار للقشيرية دولة بسبب السلاجقة جرت تلك الفتنة وأكثر الحق فيها كان مع الفرائية مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل) (مجموع الفتاوى (6/ 54))

والباطل الذي يقصده ابن تيمية ليس التجسيم، وإنما اتهامه لأبي يعلى بالتفويض أي أنه لم يكن صريحا بالقدر الكافي في موقفه من التجسيم.. فهو – عنده - من الذين (سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض) (درء تعارض العقل والنقل 7/ 34)

(3) إبطال التأويلات، ص 4.

السلفية.. والوثنية المقدسة (25)

ومن أمثلة ما ورد فيه (1): (شاب، أمرد، أجعد، في حلة حمراء، عليه تاج، ونعلان من ذهب، وعلى وجهه فَرَاش من ذهب)

وقد شحنه بالروايات السلفية الكثيرة، وينص على أن من لم يؤمن بهذه الصفات العظيمة فهو (زنديق)، (معتزلي)، (جهمي)، (لا تقبل شهادته)، (لا يسلم عليه)، (لا يعاد)، ثم يقول: (وليس في قوله: شاب وأمرد وجعد وقطط وموفور إثبات تشبيه، لأننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها، كما أثبتنا ذاتا ونفسا، ولأنه ليس في إثبات الفَرَاش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم، وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش..) (2)

وهو ينطلق من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، يصف الله تعالى كما يصف أي بشر من البشر.

ويرجع إلى أهل الكتاب في ذلك، فينقل عن كعب الأحبار أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى الأرض فقال: إني واط على بعضك، فانتسفت إليه الجبال فتضعضعت الصخرة فشكر الله لها ذلك فوضع عليها قدمه) (3)، ثم يعتبر هذا لإفك حقيقة عقدية، يدلل لها بالرواية الواهية التالية: (آخر وطأة وطئها رب العالمين بوَجّ)، ثم يذكر قول كعب الأحبار: (وَجّ مقدس، منه عَرَجَ الرب إلى السماء يوم قضى خلق الأرض)

ويعلق على هذه الترهات بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن ذلك على معنى يليق بالذات دون الفعل)

وينقل عنه هذه أنه قال لمن سأله أين ربنا: (هو على العرش العظيم متكئ واضع إحدى

__________

(1) إبطال التأويلات: 1/ 133.

(2) إبطال التأويلات: 1/ 146.

(3) إبطال التأويلات: 1/ 202.

السلفية.. والوثنية المقدسة (26)

رجليه على الأخرى)، ثم يعلق عليها بقوله: (اعلم أن هذا الخبر يفيد أشياء: منها جواز إطلاق الاستلقاء عليه، لا على وجه الاستراحة بل على صفة لا نعقل معناها، وأن له رجلين كما له يدان، وأنه يضع إحداهما على الأخرى على صفة لا نعقلها)، ويدلل على هذا بهذه الرواية الموضوعة: (إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه واستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال: إنها لا تصلح لبشر)

بالإضافة إلى هذه المصادر الكبرى رجعنا لكتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء الذين يعتبرون من كبار المنظرين للمدرسة السلفية.

وبالإضافة إليهم رجعنا للمدرسة السلفية الحديثة والتي أحيت كل التراث السلفي القديم حتى ما كان مستهجنا منه مثل [إبطال التأويلات]

ونحب أن نبين هنا أننا لم نكتب هذا الكتاب لمجرد التحذير من أمثال هذه العقائد الخطيرة فقط، ولكن مرادنا أيضا هو التحذير من أصحابها الذين لم يكتفوا بان يحملوا في عقولهم تلك الصورة المشوهة عن الله، بل راحوا يزعمون أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة، وأن من عداهم مبتدعة وضالين وكفار.

ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يبيحون دماءهم، ويستحلون أعراضهم.. ولذلك كانت هذه المدرسة هي منبع كل إرهاب وعنف وتشويه للإسلام.

ولهذا نجد كتبهم العقدية مشحونة بالعنف والإرهاب..

ومن أمثلة ذلك ما فعله الدارمي حين عقد باباً في تكفير الجهمية، وباباً في قتلهم واستتابتهم من الكفر.. والجهمية مصطلح تشنيع لا يراد به الفرقة التي تنتسب إلى الجهم بن صفوان فقط لأن الجهم مات، وماتت معه أفكاره.. وإنا يقصد بها السلفيون من خالفهم في صفات الله عز وجل، فيدخل في هذا الوصف المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والإمامية والزيدية والإباضية وغيرهم من فرق المسلمين.

السلفية.. والوثنية المقدسة (27)

يقول الدارمي ـ يحرض على قت المنزهة بكل صنوف القتل ـ: (ولو لم يكن عندنا حجة في قتلهم وإكفارهم إلا قول حماد بن زيد، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وأبي توبة، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، ونظرائهم، رحمة الله عليهم أجمعين، لجبنا عن قتلهم وإكفارهم بقول هؤلاء، حتى نستبرئ ذلك عمن هو أعلم منه وأقدم، ولكنا نكفرهم بما تأولنا فيهم من كتاب الله عز وجل، وروينا فيهم من السنة، وبما حكينا عنهم من الكفر الواضح المشهور، الذي يعقله أكثر العوام، وبما ضاهوا مشركي الأمم قبلهم بقولهم في القرآن، فضلا على ما ردوا على الله ورسوله من تعطيل صفاته، وإنكار وحدانيته، ومعرفة مكانه، واستوائه على عرشه بتأويل ضلال، به هتك الله سترهم، وأبد سوءتهم، وعبر عن ضمائرهم، كلما أرادوا به احتجاجا ازدادت مذاهبهم اعوجاجا، وازداد أهل السنة بمخالفتهم ابتهاجا، ولما يخفون من خفايا زندقتهم استخراجا) (1)

ونفس الشيء نجده في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، ومن أمثلة ذلك أنه اشتمل على مجموعة كبيرة من الاتهامات والشتائم التي وجهها السلف لأبي حنيفة من أمثال: (كافر، زنديق، مات جهمياً، ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه، وأنه أبو الخطايا، وأنه يكيد الدين، وأن الخمارين خير من أتباع أبي حنيفة، وأن الحنفية أشد على المسلمين من اللصوص، وأن أصحاب أبي حنيفة مثل الذين يكشفون عوراتهم في المساجد، وأن أباحنيفة سيكبه الله في النار، وأنه أبو جيفة، وأن المسلم يؤجر على بغض أبي حنيفة وأصحابه، وأنه لا يسكن البلد الذي يذكر فيه أبو حنيفة، وأن استقضاء الحنفية على بلد أشد على الأمة من ظهور الدجال، وأنه من المرجئة) (2)

ومن أمثلة ذلك ما ورد في (كتاب السنة) لأبي بكر الخلال، الذي قال في آخر كتابه بعد

__________

(1) الرد على الجهمية للدارمي (ص: 213).

(2) السنة، أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد من ص 180 - ص 120.

السلفية.. والوثنية المقدسة (28)

إطنابه في التكفير والتبديع للمخالفين: (وبعد هذا أسعدكم الله فلو ذهبنا نكتب حكايات الشيوخ والأسانيد والروايات لطال الكتاب غير أنا نؤمل من الله عز وجل أن يكون في بعض ما كتبنا بلغةٌ لمن أراد الله به فثقوا بالله وبالنصر من عنده على مخالفيكم فإنكم بعين الله بقربه وتحت كنفه) (1)

أما المعاصرون.. فحدث عن تكفيرهم وتبديعهم وتضليلهم لمخالفيهم ولا حرج.

بناء على هذا كله فإننا في هذا الكتاب سنحاول أن نثبت ـ من خلال المصادر السلفية المعتمدة ـ مدى الوثنية التي تسربت لهذه العقائد، ونقارنها بما ورد في القرآن الكريم، وما دل عليه العقل من تنزيه الله تعالى.

والحمد لله فإن كل مذاهب الأمة وطوائفها ـ من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وإمامية وإباضية وزيدية وصوفية ـ على القول بتنزيه الله، والجهة الوحيدة التي رضيت لنفسها أن تنغمس في أوحال الوثنية هي السلفية.. فهي وحدها من يقول بالتجسيم والجهة والمكان والحدود والمقادير والأعضاء والصورة.. وكل ما سنراه في هذا الكتاب.. وهي وحدها كذلك التي تكفر الأمة جميعا بسبب ذلك..

وقد تمنيت لو أن العلماء الذين اهتموا بذكر طوائف الأمة وفرقها قسموا الأمة إلى هذين القسمين الكبيرين: المنزهة، والمجسمة.. لا التقسيم الذي اختاروه، والذي كانت له آثاره السلبية.

ذلك أن التقسيم عادة ينطلق من أهم القضايا، وهل هناك قضية أكبر من القضايا المرتبطة بمعرفة الله.. ولهذا نجد التقسيم في المسيحية مؤسسا على الموقف من طبيعة المسيح، لا الموقف من أصحاب المسيح.

__________

(1) السنة 1/ 265

السلفية.. والوثنية المقدسة (29)

التعقل.. والتصور

من أهم الإشكالات التي حالت بين العقل والتحقق بالمعرفة الإلهية ـ كما ينص القرآن الكريم، وكما يدل عليه الواقع ـ هو إدخال الخيال والوهم والتصور في هذا النوع من المعرفة المقدسة.

كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواضع كثيرة كذكره لمطالبة بني إسرائيل موسى عليه السلام بالرؤية الحسية لله حتى عوقبوا على ذلك، وكقول فرعون: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]، وغيرها من النصوص.

والواقع الإلحادي يدل على ذلك أيضا، فهو يريد أن يقيس الله بمثل المقاييس التي يستعملها في دراسة الظواهر الكونية المختلفة.. وعندما لا تخضع معرفة الله لمقاييسه يذهب للإلحاد.

ولهذا فإن القرآن الكريم ينطلق في التعريف بالله من وضع القواعد التي تؤسس العقيدة على الأسس الصحيحة المنبنية على المعرفة التنزيهية لله، كما قال تعالى - على لسان الملائكة عليهم السلام-: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]

وقد أشار الغزالي إلى ذلك عندما قال في جواهر القرآن عند بيانه لعزة ما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن الذات الإلهية في نفس الوقت الذي أفاض فيه في ذكر أسماء الله وآثارها في الوجود: (كما أن أنفس اليواقيت أجل وأعز وجودا، ولا تظفر منه الملوك لعزته إلا باليسير، وقد تظفر مما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر؛ ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات وإشارات، ويرجع ذكرها إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]

السلفية.. والوثنية المقدسة (30)

وسورة الإخلاص، وإلى التعظيم المطلق كقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 100] وأما الصفات: فالمجال فيها أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، ولذلك كثرت الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة، والكلام والحكمة، والسمع والبصر وغيرها.. وأما الأفعال: فبحر متسعة أكنافه، ولا تنال بالاستقصاء أطرافه، بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، وكل ما سواه فعله، لكن القرآن يشتمل على الجلي منها الواقع في عالم الشهادة، كذكر السماوات والكواكب، والأرض والجبال، والشجر والحيوان، والبحار والنبات، وإنزال الماء الفرات، وسائر أسباب النبات والحياة، وهي التي ظهرت للحس. وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها) (1)

هذه هي المعرفة القرآنية التي دلت عليها الآيات الكثيرة.. والتي لا يرى العقل فيها أي تناقض مع ما تقتضيه الفطرة السليمة..

لكن المعرفة السلفية لله تتناقض مع هذه المعرفة تماما، حيث أنها تستند في التعرف على الله على التصور بدل التعقل، ولذلك تتصور أن معرفة الله لا يمكن أن تتم بمعزل عن تجسيمه وتحديده وتقييده وتكييفه.. ولهذا فإن أكبر مجال عندها في المعرفة الإلهية ـ خلاف ما ورد في القرآن الكريم ـ مجال الذات.. فهي تقبل فيه كل شيء حتى الروايات الإسرائيلية.

وقد قال الشيخ ابن العثيمين، وهو من علمائهم المعاصرين الكبار - مبينا استحالة معرفة الله من دون كيفية -: (السلف لا ينفون الكيف مطلقاً، لأن نفي الكيف مطلقاً نفي للوجود، وما من موجود إلا وله كيفية لكنها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا.. وعلى هذا فنثبت له كيفية لا نعلمها.. ونفي الكيفية عن الاستواء مطلقاً هو تعطيل محض لهذه الصفة لأنا إذا أثبتنا الاستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية وهكذا في بقية

__________

(1) جواهر القرآن (ص: 26).

السلفية.. والوثنية المقدسة (31)

الصفات) (1)

وما ذكره الشيخ من أن الكيفية غير معلومة لنا نوع من الاحتيال لأن كتب السنة والعقائد الكثيرة صورت ذلك تصويرا لا يحتاج الخيال إلى غيره ليرسم صورة الاستواء أو غيره مما يعتبرونه من صفات الله تعالى.

ومثل الشيخ ابن عثيمين أبو عمر ابن عبدالبر الذي اعتبر الأمة كلها – ما عدا أهل الحديث – نافين للمعبود، فقال: (وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلُّهم يُنكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود) (2)

وقد علق عليه الذهبي بقوله: (صدق والله! فإنَّ من تأوَّل سائر الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدَّاه ذلك السَّلب إلى تعطيل الربِّ، وأن يشابه المعدوم، كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: مَثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سَعَف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كَرَب؟ قالوا: لا، قيل: لها رُطَب وقِنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة!) (3)

وهكذا أصبح الله ـ بعظمته وقدسيته وجلاله ـ عند السلفيين مثل النخلة لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة سعفها وكربها ورطبها.. ولهذا فإن أعرف العارفين عندهم من جمع أكبر قدر من روايات التجسيم والتشبيه ليرسم صورة أكثر دقة عن ربه سبحانه وتعالى.

ولهذا فإن ما ينتصر به المعاصرون منهم لأنفسهم من نفي تهمة التجسيم عنهم نوع من الاحتيال والمصادرة على المطلوب، ذلك أنهم – من خلال النصوص التي يوردونها عن سلفهم

__________

(1) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/ 194 وانظر المحاضرات السنية لابن عثيمين 1/ 232

(2) التمهيد (7/ 145).

(3) العلو (ص: 1326).

السلفية.. والوثنية المقدسة (32)

ـ لا ينفون حقيقة التجسيم ومعناه، وإنما ينفون فقط إطلاق اسم الجسم على الله، أو اعتبار الجسم صفة من صفات الله، لكون التسمية والوصف توقيفية.. أما حقيقة التجسيم التي تعني الحيز والحدود والمكان والجهة والتركيب والوزن والحجم وغير ذلك.. فهم لا ينكرون اتصاف الله بذلك.

وكمثال على ذلك ما أورد ابن تيمية في كتبه العقدية المختلفة من النصوص الدالة على عدم الحرج في وصف الله بكونه جسما من الأجسام، بناء على المعنى، لا على اللفظ..

فعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.. الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل) (1)

ومراد ابن تيمية من التعطيل والتحريف – في هذا النص – هو تنزيه الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها.. أو كما أشار إلى ذلك في قوله في كتابه (منهاج السنّة): (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم.. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه.. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في

__________

(1) منهاج السنة النبوية 2/ 225.

السلفية.. والوثنية المقدسة (33)

صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً) (1)

فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه.. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام.. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً.. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى.. فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول..

بل إن ابن تيمية يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا.. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، يقول في ذلك: (فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه. ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم.. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود) (2)

وهكذا يضعنا ابن تيمية وأصحابه من أعلام المدرسة السلفية بين أمرين: إما أن نجسم

__________

(1) منهاج السنّة: 1/ 180.

(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 364)

السلفية.. والوثنية المقدسة (34)

الله، أو نقول بعدمه.. فالوجود عندهم قاصر على الأجسام.. وهو نفس ما قاله فرعون والملاحدة واليهود.

بل إن ابن تيمية يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله سبحانه وتعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك.. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا) (1)

وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) يكاد يدافع عن لفظ (الجسم) بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً) (2)

بل إن ابن تيمية وأعلام المدرسة السلفية عند حديثهم عن كمال الله تعالى ينطلقون من النظرة التجسيمية الحسية المادية.. فهم يرون أن الله سبحانه وتعالى ما دام قد أعطى لعباده بعض الكمالات الحسية، فهو أولى أن يتصف بها، قال ابن تيمية يوضح ذلك: (كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 370)

(2) بيان تلبيس الجهمية:1/ 101.

السلفية.. والوثنية المقدسة (35)

الذي أعطاه ذلك الكمال، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه... وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها) (1)

وإلى هنا فإن المعنى مقبول عند جميع المسلمين، فالله سبحانه وتعالى أولى بصفات الكمال من عباده، ولكن ابن تيمية لا يقصد ذلك فقط، بل يقصد التجسيم وما يقتضيه التجسيم، فقد قال بعد ذلك الكلام المقبول بانيا عليه: (وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائماً بنفسه أو موصوفاً أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به إلا يكون بحيثِ غيره وأن لا يكون معدوماً بل ما أوجب أن يكون قائماً بنفسه مبايباً لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم، فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد) (2)

وبذلك فإن ابن تيمية يقع في التشبيه المحض، لأنه يتصور أن الكمال في احتياج الذات إلى حيز ومقدار وأعضاء وغير ذلك مع أن الكمال الحقيقي لا يقتضي ذلك..

وبناء على هذه النظرة السطحية المادية المحدودة لله، والتي تدل على عدم قدرة العقل على التجريد والتنزيه نرى تعظيم المدرسة السلفية للعوام، واعتبار وقوعهم في التجسيم والتشبيه كمالا، وهذا خلاف ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة للرجوع إلى الراسخين في العلم في التفريق بين المتشابه والمحكم إلا أن هؤلاء يرون العوام - أصحاب الفهوم السطحية والمحدودة - أقدر على فهم القرآن الكريم والعقيدة من غيرهم، وقد روى أبو داود عن يزيد بن هارون قوله: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 350)

(2) المصدر السابق 327 - 328

السلفية.. والوثنية المقدسة (36)

جهمي) (1)، وهو يقصد بذلك أن يفهم من الاستواء معنى القعود والجلوس.. فكمال المعرفة عندهم هو في هذا الاعتقاد.

وهكذا نجد تعظيمهم لمقولة فرعون التي سبق ذكرها، فقد قال أبو أحمد الكرجي: (قوله إخبارًا عن فرعون {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}، حجة على من يزعم أن الله بنفسه في الأرض؛ حال في كل مكان، وينكر كينونته بنفسه في السماء وعلمه في الأرض. إذ محال أن يقول فرعون هذا القول إلا وقد دلّه موسى -صلى الله عليه- أن إلهه في السماء دون الأرض. فإن كان فرعون أنكر كينونته في السماء وثبته في الأرض فقد وافق القوم فرعون في قوله. وإن كان أنكره في السماء والأرض معًا فقد خالفوا موسى -صلى الله عليه - مع خلافهم لجميع الأنبياء والناس، وأهل الملل كافة سواهم. ولا أعلم في الأرض باطلا إلا وهذا أوحش منه، نعوذ بالله من الضلالة) (2)

وقال سعد بن علي الزنجاني في شرح قصيدته في السنة: (وأخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} وكان فرعون قد فهِم عن موسى أنه يُثبت إلهًا فوق السماء حتى رام بصرحه أن يطلع إليه، واتهم موسى بالكذب في ذلك، ومُخالفنا ليس يعلم أن الله فوقه بوجود ذاته فهو أعجز فهمًا من فرعون) (3)

وهذا يوضح لنا منهج الاستنباط الذي تعتمده المدرسة السلفية في التعرف على الله، فهي تعرض عن الآيات الكثيرة التي ذكر فيها تعريف موسى عليه السلام لربه سبحانه وتعالى،

__________

(1) مسائل الإمام أحمد ص 15 ـ واحتج به البخاري في خلق أفعال العباد.

(2) نكت القرآن لأبي أحمد الكرجي القصاب (ج 3 ص 567 - 568).

(3) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم الجوزية (ص 197 - 198).

السلفية.. والوثنية المقدسة (37)

والممتلئة بالتنزيه، لتأخذ عقيدتها من مقولة فرعون التي حكاها الله عنه ليدل على سخافة عقله.

وهكذا نجد ابن القيم يذكر القصص والأساطير والخرافات التي تؤيد التجسيم ليرمى بها المنزهة، وقد سمى كتابه الذي شحن فيه كل ذلك [اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية]

ومن تلك الاستدلالات العجيبة قوله: (وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد، إنها انتهت إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد، فأرسل الله سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت) (1)

وهكذا نرى تعظيم أعلام المدرسة السلفية لعقيدة فرعون عندما طلب من هامان أن يبني له صرحا ليطلع إلى إله موسى، حيث نجد الاستدلال بها في أكثر كتبهم العقدية.

بل إننا نجد علما كبيرا كالشيخ حمود بن عبد الله التويجري يعتبر فرعون وغيره من الكفار الذي واجهوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل حالا من المؤمنين المنزهين لله، وقد قال في كتابه [الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة] في تفضيل فرعون وغيره على المؤمنين من الذين يؤمنون بما يقول به علم الفلك الحديث: (وقد اعترف فرعون بوجود السموات مع شدة كفره بالله، واعترف بذلك قوم شعيب ومشركو قريش فهم إذاً أخف كفراً من أهل الهيئة الجديدة) (2)

وبعد كل هذا التعظيم للعوام وغيرهم، نجد عداء السلفية للعلماء والفلاسفة والمتكلمين والصوفية ولكل طوائف المنزهة، في نفس الوقت الذي يقدسون فيه كل المشبهة والمجسمة.

وسنذكر هنا – باختصار – الشدة التي تعامل بها أعلام المدرسة السلفية مع المنزهة الذين

__________

(1) اجتماع الجيوش الإسلامية ص 296 - 297.

(2) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 143).

السلفية.. والوثنية المقدسة (38)

يعتقدون بأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يتصور، وذلك من خلال بيان مواقفهم من علماء الكلام والصوفية وعلماء الفلك:

علماء الكلام

يعتبر علم الكلام من العلوم التي حاولت أن تمزج بين العقل والنقل، أو حاولت أن تفهم النقل على ما تقتضيه العقول السليمة.. وهو وإن جرى بين أهله بعض الاختلاف في بعض المسائل الفرعية إلا أن أصحابه جميعا سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو معتزلة أو إمامية أو زيدية متفقون على تنزيه الله عن التصور، وعن مقتضياته من الحدود والجسمية ونحوها.

وقد بذلوا جهودا كبيرة في ذلك، وخاصة بعد انتشار مذاهب المجسمة والمشبهة، ومن تلك الجهود تصحيحهم للفهوم الواردة حول النصوص المقدسة، وتبيين المراد منها وفق أساليب اللغة العربية من المجاز والكناية وغيرها، أو ما أطلق عليه [التأويل]، استنادا إلى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

وكل ذلك حرصا على عقائد الأمة وتنزيهها لربها، وعدم غرقها في أوحال التشبيه والتجسيم التي وقعت فيها الأمم من قبلها.

لكن كل تلك الجهود جعلتهم في مرمى سهام المجسمة الذين استعملوا كل وسائلهم المعتادة من التكفير والتضليل لكل منزه، أو داعية للتنزيه، بل وصل بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى تحريض العوام على هؤلاء العلماء المتكلمين، وقد ثارت فتن كثيرة في التاريخ الإسلامي بسبب ذلك.

السلفية.. والوثنية المقدسة (39)

وقد ذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (395 هـ) المعاناة التي كانت تحصل للمنزهة من طرف المجسمة فقال: (ليتق الله امرؤ وليعتبر عن تقدم ممن كان القول باللفظ مذهبه ومقالته، كيف خرج من الدنيا مهجوراً مذموماً مطروداً من المجالس والبلدان لاعتقاده القبيح؟! وقوله الشنيع المخالف لدين الله مثل: الكرابيسي، والشواط، وابن كلاب، وابن الأشعري، وأمثالهم ممن كان الجدال والكلام طريقه في دين الله عز وجل) (1)

ومن تلك الحوادث ما حصل للمتكلم المعروف الفخر الرازي الذي كان له أثر كبير في مواجهة النزعة التجسيمية والانتصار للتنزيه.. وهذا ما جعل المجسمة يثورون عليه، ويحرضون عليه العوام..

ولا بأس أن نورد هنا باختصار بعض ما حدث، لنسقطه على واقع السلفية المعاصر، ولنعرف مدى الصلة بين المجسمة والعنف..

فقد ذكر المؤرخون أن الفخر الرازي دعي لمناظرة بعض الكرامية المجسمة الذين انتصر ابن تيمية لمقولاتهم التجسيمية، وبعد المناظرة، وفي اليوم التالي، قام أحدهم بالجامع، وصعد المنبر، وقال: (لا إله إلا الله، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس إنا لانقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما علم أرسطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلانعلمها، فلأي شيء يُشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وعن سنة رسول نبيه)، ثم بكى وضج الناس وبكى العوام واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، وكادوا يقتتلون ويجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك الحاكم، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكَّنهم ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم وتقدم إليه بالعودة إلى هراة فعاد إليها (2).

__________

(1) طبقات الحنابلة (4/ 424).

(2) الكامل 10/ 262 وانظر البداية والنهاية لابن الأثير 13/ 19.

السلفية.. والوثنية المقدسة (40)

وقد حصلت أحداث كثيرة في التاريخ الإسلامي لا تقل عن هذه الحادثة.. ومنها تلك الحادثة التي حصلت بين القشيري وأصحابه وبين المجسمة الذين كانوا يحرضون العوام، ويستعملونهم في مواجهة علماء الأمة.

ولا بأس أن نورد هنا وثيقة مهمة كتبها أبو نصر القشيري، ووقع عليه جماعة من علماء الأشاعرة، وهي تصور لنا بعض تلك المشاغبات التي كان يقوم بها المجسمة كل حين للتحريض على العلماء، وإثارة الفتن في الأمة، لأجل حملها على التجسيم.

فمما جاء فيها: (يشهد من ثبت اسمه ونسبه وصح نهجه ومذهبه واختبر دينه وأمانته من الفقهاء وأهل القرآن والمعدلين من الأعيان، وكتبوا خطوطهم المعروفة.. أنّ جماعة من الحشوية والأوباش المتوسمين بالحنبلية أظهروا ببغداد من البدع الفظيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضلاً عن موحد، ولا تجوز به، قادح في أصل الشريعة ولا معطل، ونسبوا كل ما ينزه الباري تعالى وجل عن النقائص والآفات، وينفي عنه الحدوث والتشبيهات، ويقدسه عن الحلول والزوال.. وتناهوا في قذف الأئمة الماضين، وثلب أهل الحق وعصابة الدين، ولعنهم في الجوامع والمشاهد والمحافل والمساجد والأسواق والطرقات والخلوة والجماعات، ثم غرهم الطمع والإهمال ومدهم في طغيانهم الغي والضلال إلى الطعن فيمن يعتضد به أئمة الهدى وهو للشريعة العروة الوثقى، وجعلوا أفعاله الدينية معاصي دنية.. وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها وأبوا إلا التصريح بأنّ المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل، وأنه ينزل بذاته، ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط، وعليه تاج يلمع، وفي رجليه نعلان من ذهب، وحفظ ذلك عنهم، وعللوه ودونوه في كتبهم، وإلى العوام ألقوه، وأنّ هذه الأخبار لا تأويل لها، وأنها تجري على ظواهرها وتعتقد كما ورد لفظها، وأنه تعالى يتكلم بصوت كالرعد، وكصهيل الخيل) (1)

__________

(1) تبيين كذب المفتري ص 311..

السلفية.. والوثنية المقدسة (41)

فهذه الوثيقة تدل على المنهج التحريضي الذي كان يستعمله المجسمة، ولا زالوا يستعملونه.

وقد جعلت تلك الفتن بعض العلماء يتخوفون من أن يحصل لهم ما حصل للمنزهة من القتل والنفي والأذى، فلذلك كانوا يحرصون على إظهار التجسيم والإعلان به أمام الناس مخافة على أنفسهم أو سمعتهم، يقول الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي: (ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤن مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة، منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحاباً إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر، ويقول: اشهدوا عليّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه جمعات. فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح، ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه -يعني الأشعرية-، وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم منى تعلموه قبله وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البلاقلاني وعقيدته) (1)

وكل تلك الفتن التي كانت تحصل بين الفينة والأخرى، والتي سجلتها كتب التاريخ، كان سببها تلك التحريضات المتشددة الذي يقوم بها أعلام المدرسة السلفية تجاه مخالفيهم.

ومن أمثلتها ما رواه ابن عبد البر عن ابن خواز منداد أنه قال في كتاب (الشهادات) في

__________

(1) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض (2/ 95 - 98).

السلفية.. والوثنية المقدسة (42)

تأويل قول مالك: (لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء): (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها) (1)

ومنها ما ذكره أبو إسماعيل الهروي الأنصاري، قال: (رأيت يحي بن عمار ما لا أحصي من مرة على منبره يكفرهم –أي الأشعرية- ويلعنهم، ويشهد على أبي الحسن الأشعري بالزندقة، وكذلك رأيت عمر بن إبراهيم ومشائخنا) (2)

وروى عن عمر بن إبراهيم قوله: (لا تحل ذبائح الأشعرية، لأنهم ليسوا بمسلمين، ولا بأهل كتاب، ولا يثبتون في الأرض كتاب الله) (3)

وقال: (وينبغي أن يتأمل قول الكلابية والأشعرية في الصفات، ليعلم أنهم غير مثبتين إلهاً في الحقيقة، وأنهم يتخيرون من النصوص ما أرادوه، ويتركون سائرها ويخالفونه) (4)

وقال ابن قدامة المقدسي في (لمعة الاعتقاد): (ومن السنة: هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع: كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية، ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها) (5)

ولم يكتف هؤلاء بالتشنيع على المتكلمين الذين راحوا يستعملوا كل الأدوات العقلية واللغوية لصيانة عقول المسلمين من أن يتسرب إليها وحل التجسيم والتشبيه، بل ذهبوا إلى

__________

(1) نقله عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 943).

(2) ذم الكلام وأهله (4/ 411).

(3) ذم الكلام وأهله (4/ 413).

(4) رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص 173).

(5) لمعة الاعتقاد (ص 200).

السلفية.. والوثنية المقدسة (43)

أولئك المفوضة الورعين الذين دعوا إلى الكف عن البحث في أمثال هذه المسائل.

فهذا ابن تيمية يقول عنهم: (.. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) (1)

بل إنه – كعادته في التنابز بالألقاب – يغير اسمهم من [أهل التفويض] إلى [أهل التجهيل]، فيقول: (.. أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول لم يعرف معانيَ ما أنزل الله إليه من آيات الصفات.. ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك...) (2)

وهذا قول عامة المدرسة السلفية من المعاصرين الذين نجدهم في كتبهم ومواقعهم يشنعون على المتوقفين في أمثال هذه المسائل، وقد قال ابن عثيمين عنهم: (التفويض من شر أقوال أهل البدع.. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول) (3)

الصوفية

يعتبر الصوفية من منزهة هذه الأمة الذين لم يتقبلوا تلك التشويهات التي تلقاها أهل الحديث من اليهود وغيرهم، وربما يعود ذلك لصلة مشايخهم الأوائل بالأئمة الكبار من أهل البيت عليهم السلام.. فقد كانوا تلاميذ نجباء لهم.. ولهذا نجد في التراث الصوفي الاستدلالات الكثيرة بكلمات الإمام علي أو غيره من الأئمة.. بالإضافة إلى ذلك فإنه لا تكاد تخلو سلسلة من سلاسل الصوفية من الرجوع في نهايتها للإمام علي.. بالإضافة إلى ذلك كله تلك المحبة العظيمة التي تمتلئ بها قلوب الصوفية نحو العترة الطاهرة.. ولعل ذلك ما حفظهم من الوقوع في براثن التشبيه التي وقع فيها الممتلئون بالنصب والعداوة لآل البيت الكرام،

__________

(1) درء التعارض 1/ 205

(2) مجموع الفتاوى 5/ 34

(3) المحاضرات السنية 1/ 67

السلفية.. والوثنية المقدسة (44)

والذين آثروا أن يتولوا كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من أئمة التجسيم.

وهذا لا يعني أن الصوفية معصومون من الخطأ، أو أنه لم يتسرب لهم بعض التحريفات والتشويهات.. ولكن ذلك كله لا يساوي شيئا أمام ما وقع فيه المجسمة والمشبهة.

والمنهج الذي اعتمده الصوفية هو نفس ما ذكره قبلهم أئمة أهل البيت عليهم السلام من تطهير القلب ليصبح محلا للمعرفة التنزيهية.. لأن سبب التجسيم والتشبيه تلك الكدورة التي تملأ القلب بالكثافة، وذلك الران الذي يحول بين القلب وبين تجلي الحق فيه.

وبناء على هذا لم يهتم الصوفية كثيرا بالجدل للوصول إلى الحقائق كما فعل المتكلمون، ولم يهتموا بجمع الأحاديث كما فعل أهل الحديث.. بل اهتموا بتنقية القلب ليصبح أهلا لمعرفة الرب، لاعتقادهم أن الحجاب الحائل بين الروح والمعرفة أمر وهميّ عدميّ لا حقيقة له، وهو مرض القلب بأوصاف البشرية، فلو صحت لعرفت، كما عبر عن ذلك ابن عطاء الله بقوله: (اخرج من أوصاف بشريّتك عن كلّ وصف مناقض لعبوديّتك، لتكون لنداء الحقّ مجيبا، ومن حضرته قريبا)

وقد علق على هذه الحكمة الجليلة ابن عجيبة بقوله: (أوصاف البشرية: هي الأخلاق التي تناقض خلوص العبودية، ومرجعها إلى أمرين: الأول: تعلق القلب بأخلاق البهائم وهي شهوة البطن والفرج وما يتبعهما من حب الدنيا وشهواتها الفانية.. الثاني: تخلّقه بأخلاق الشياطين كالكبر والحسد والحقد والغضب والحدة وهي القلق، والبطر وهو خفة العقل، والأشر وهو التكبر، وحب الجاه والرياسة والمدح والقسوة والعطاء والفظاظة والغلظة، وتعظيم الأغنياء، واحتقار الفقراء، وكخوف الفقر وهم الرزق والبخل والشح والرياء والعجب، وغير ذلك مما لا يحصى حتى قال بعضهم: للنفس من النقائص ما للّه من الكمالات.. فإذا تخلّق العبد بهذه الأخلاق وتحقق بها ذوقا بعد أن تخلص من أضدادها، كان عبدا خالصا لمولاه حرّا مما سواه، وكان لندائه مجيبا، ومن حضرته قريبا فإذا قال له ربه: يا عبدي قال له: يا

السلفية.. والوثنية المقدسة (45)

رب، فكان صادقا في إجابته لصدق عبوديته، بخلاف ما إذا كان منهمكا في شهواته الظاهرة والباطنة، كان عبدا لنفسه وشهواته، فإذا قال: يا رب كان كاذبا إذ من أحب شيئا، فهو عبد له وهو لا يحب أن تكون عبدا لغيره، وإذا تخلص من رق الشهوات والحظوظ، كان أيضا قريبا من حضرة الحق، بل عاكفا فيها، إذ ما أخرجنا عن الحضرة إلا حبّ هذه الخيالات الوهمية فإذا تحررنا منها وتحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة) (1)

وهذا الذي ذكره ابن عجيبة هو نفس ما يذكره القرآن الكريم عندما يربط الإيمان بالأخلاق والتقوى، كما يربط الجحود بمرض القلب وقساوته.

وبذلك فإن المنهج الصوفي من هذه الناحية منهج قرآني نبوي لا جدال فيه.. فبقدر صفاء القلب تزول أوهام الإلحاد والتشبيه والتجسيم..

وبناء على هذا كان الصوفية يحذرون الأمة من بضاعة المحدثين الممتلئة بالحشو والتجسيم، لأنه لا يمكن أن يعرف الله حشوي مجسم.. وقد قال جعفر الخلدي: (لو تركني الصوفية لجئتكم بأسارير الدنيا وطلبت الحديث، لقد مضيت إلى عباس الدوري من علماء الحديث فكتبت عنه مجلسًا واحدًا، ثم خرجت من عنده فلقيني بعض الصوفية، فقالوا لي: إيش هذا معك؟ فأعطيته إياه، فقال: ويحك! تدع علم الخِرَق وتأخذ علم الوَرَق؟! ثم خرَق الأوراق ومنعني أن أتابع)

وقال أبو سعيد الكندي: (كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية، وفي يوم سقطت مني محبرة من كمي، فرآها صوفي، فقال: ويحك! استر عورتك)

وكان أبو يزيد البسطامي يقولون للمحدثين الذين انشغلوا بالرواية: أنتم أين عِلمكم؟) فيقولون: مِن فلان عن فلان عن فلان عن النبي، فيقول: أين هم؟ ماتوا كلّهم، فيقول: ما هذا العلم الذي يؤخذ من أموات؟! نحن علمنا أخذناه من الحي الذي لا يموت.

__________

(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 114.

السلفية.. والوثنية المقدسة (46)

وطبعا فإن مراد الصوفية من كل هذا ليس النهي عن الحديث المجرد، فقد كانوا من أكثر الناس رواية للحديث النبوي.. وكتبهم مشحونة به.. ولكن تحذيرهم كان عن ذلك الحشو الذي مال إليه المحدثون، وملأوا به ما يسمونه كتب التوحيد والسنة وأصول الدين.

ومثلما حذر الصوفية من علم الحديث الذي امتلأ بالحشو، حذروا من علم الكلام الذي امتلأ بالجدل، وقد ذكر الشيخ محمود أبو دقيقة كلاما طيبا في الفرق بين المنهج الكلامي والمنهج الصوفي في المعرفة، فقال: (مقصود الصوفية بمعرفة الله تعالى غير مقصود المتكلمين بمعرفته، والصوفية لا ينكرون معرفة المتكلمين بل يزيدون عليها، ومعرفة الصوفية من مرتبة، ومعرفة المتكلمين من مرتبة أخرى، فمعرفة الصوفية إحسانية، ومعرفة المتكلمين إيمانية، فاخلتفا مرتبة.. ومعرفة الصوفية قلبية، ومعرفة المتكلمين عقلية فاختلفا وسيلة.. ومعرفة الصوفية عمل، ومعرفة المتكلمين علم.. ومعرفة الصوفية شهود، ومعرفة المتكلمين اعتقاد.. ومعرفة الصوفية تبدأ من القلب وتنتهى إلى الجوارح الظاهرة والباطنة فأثرها عملى، ومعرفة المتكلمين تبدأ من العقل وتنتهى إلى القلب فأثرها علمى.. ومعرفة الصوفية لله، غير معرفة المتكلمين بل وبعدها. فالصوفية بعد أن يقرون بمعرفة المتكلمين ليتحققوا بمرتبة الإيمان، يزيدون عليها بمعرفته من جهة الإحسان، فمعرفة الصوفية بعد معرفة المتكلمين، والمتكلمون يعرفونه واجب الوجود، خالقا،، صانعا، واحدا، حيا، سميعا، بصيرا، عليما، مريدا، قادرا، قديما، باقيا، مخالفا للحوادث.. والصوفية بعد أن يعرفونه كذلك يشهدون كذلك، فالفرق بينهما كالفرق بين معرفة الله بالنظر فى آثاره، ومعرفته (كأنك تراه)، وطريق معرفة الصوفية خاصة عند محققى أهل الحق) (1)

بناء على هذا، فإن المعرفة الصوفية معرفة تنزيهية متوافقة مع الرؤية الكونية القرآنية، وليس من فرق بينها وبين تنزيه المتكلمين إلا أن تنزيه المتكلمين تنزيه علمي معرفي، وتنزيه الصوفية

__________

(1) القول السديد فى علم التوحيد، الشيخ محمود أبو دقيقة: 1/ 60.

السلفية.. والوثنية المقدسة (47)

تنزيه ذوقي عرفاني.

وقد اتفق الصوفية على هذا التنزيه الذي أشار إليه الشيخ أبو الحسن الشاذلي في قوله: (إنا لننظر إلى اللّه ببصر الإيمان والإيقان فأغنانا عن الدليل والبرهان، وإنا لا نري أحدا من الخلق، فهل في الوجود أحد سوي الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء إن فتشتهم لم تجدهم شيئا)

وأشار إليه ابن عطاء الله في (لطائف المنن)، فقال: (و من أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إلى اللّه! فليت شعري، هل لها وجود معه حتى توصل إليه؟ أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له؟ وإن كانت الكائنات موصلة له فليس ذلك لها من حيث ذاتها، لكن هو الذي ولاها رتبة التوصيل، فوصلت، فما وصل إليه غير إلهيته، ولكن الحكيم هو واضع الأسباب، وهي لمن وقف معها ولا ينفذ إلى قدرته عين الحجاب فظهور الحق أجلى من كل ما ظهر، إذ هو السبب في ظهور كل ما ظهر وما اختفى إلا من شدة ما ظهر، ومن شدة الظهور الخفاء) (1)

وأشار إليه ابن عطاء الله، فقال: (كيف يتصوّر أن يحجبه شي ء وهو أقرب إليك من كلّ شي ء؟)

وهم يروون في هذا عن الإمام علي قوله: (الحق تعالى ليس من شي ء ولا في شي ء ولا فوق شي ء ولا تحت شي ء، إذ لو كان من شي ء لكان مخلوقا، ولو كان فوق شي ء لكان محمولا، ولو كان في شي ء لكان محصورا، ولو كان تحت شي ء لكان مقهورا) (2)

ويروون أنه قيل له: يا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أين كان ربنا أو هل له مكان؟ فتغير وجهه وسكت ساعة ثم قال: (قولكم أين اللّه سؤال عن مكان، وكان اللّه ولا مكان، ثم خلق الزمان

__________

(1) نقلا عن: إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 81.

(2) نقلا عن: إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 82.

السلفية.. والوثنية المقدسة (48)

و المكان، وهو الآن كما كان دون مكان ولا زمان)

وهكذا نجد كتب الصوفية مملوءة بتنزيه الله وتعظيمه إلى الدرجة التي يعتبرون فيها الشعور بمثلية وجودهم لوجود الله شركا، وقد قال في ذلك الشيخ أبو مدين:

الله قل وذر الوجود وما حوى... ان كنت مرتادا بلوغ كمال

فالكل دون الله ان حققته... عدم على التفصيل والاجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها... لولاه في محو وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته... فوجوده لولاه عين محال

فالعارفون فنوا بأن لم يشهدوا... شيئا سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكا... في الحال والماضي والاستقبال

فالمح بعقلك او بطرفك هل ترى... شيئا سوى فعل من الافعال

وانظر الى علو الوجود وسفله... نظرا تؤيده بالاستدلال

تجد الجميع يشير نحو جلاله... بلسان حال او لسان مقال

هو ممسك الاشياء من علو الى... سفل ومبدعها بغير مثال

 

وقال:

فإذا نظرت بعين عقلك لم تجد... شيئا سواه على الذوات مصورا

واذا طلبت حقيقة من غيره... فبذيل جهلك لاتزال معثرا

 

بعد هذا التوضيح الذي اضطررنا إليه لبيان الدور الذي قام به الصوفية في حفظ عقيدة التنزيه القرآنية يتبين لنا السر الذي ألب عليهم التيار التجسيمي الذي لم يترك سبيلا لتضليلهم وتبديعهم وتكفيرهم والتحريض عليهم إلا فعله.

ومع أن ذلك واضح من خلال الكتب الكثيرة المؤلفة في تكفير الصوفية والتحذير منهم، إلا أنني سأذكر هنا نماذج من أقوال المحدثين التي لا تتعلق فقط بالشخصيات المثيرة للجدل

السلفية.. والوثنية المقدسة (49)

كابن عربي والجيلي وغيرهما، بل تتعلق بشخصية معتدلة لا نجد في كتبها أي لون من ألوان الشطحات.

من تلك النصوص التي ينشرها التيار السلفي أثناء تحذيره من الصوفية قول الحافظ سعيد بن عمرو البردعى: (شهدت أبا زرعة - وقد سئل عن الحارث المحاسبى وكتبه - فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر (الحديث)، فإنك تجد فيه ما يغنيك، فقيل له: في هذه الكتب عبرة، فقال: (من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، ما أسرع الناس إلى البدع!)

وقد علق عليه الذهبي بقوله: (وأين مثل الحارث؟! فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟.. كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق التفسير للسلمى؟ لطار لبُّه.. كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسى في ذلك، على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر؟) (1)

علماء الفلك

وهم مع عدم كونهم من علماء التوحيد ولا العقيدة، ولا علاقة لهم بالجهمية ولا الأشاعرة ولا الصوفية.. بل لا علاقة لهم بالإسلام ولا بأي دين من الأديان.. ولكنهم مع ذلك لقوا حربا شعواء من المدرسة السلفية، لأن الصورة التي أعطاها هؤلاء ـ بحسب ما دلت عليها بحوثهم ـ تختلف تماما عن الصورة التي تقوم عليها المعرفة التجسيمية لله التي يعتقدها السلفية.

وكمثال على ذلك تلك الهجمة الشرسة التي ووجه بها من يقول بأن الأرض تدور حول الشمس، والذي وصل إلى حد التكفير، ذلك أن هذه المقولة ـ بالإضافة لمخالفتها لذلك

__________

(1) ميزان الاعتدال: 1/ 431..

السلفية.. والوثنية المقدسة (50)

الموروث الروائي الذي استلموه من المجسمة ومن أهل الكتاب ـ تخالف ما يسمونه بأهم مسألة عقدية في تصورهم، وهي [علو الله تعالى على خلقه]، والذي يقتضي أن تكون الأرض ثابتة، والسموات السبع فوقها كالقبة عليها، ثم يكون العرش، ثم يكون الله تعالى بحسب تصورهم.. ودروان الأرض يقضي على ذلك كله.

وللأسف فإن هذه الهجمة لم تكن من لدن أناس عاديين بسطاء، بل كانت من أعلى الهيئات الدينية، ففي الفتوى رقم (15255) الموجهة لهيئة العلماء برئاسة الشيخ ابن باز ورده هذا السؤال: (أنا مدرس لمادة الجغرافيا، وحيث إنه قد ورد إلي موضوع يتعلق بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وحيث إنه قد سبق وأن قرأت كتابًا لسماحتكم بعنوان: (الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب، وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض) حيث كان هنالك تعارض بين ما ذكرتموه سماحتكم وبين الكتاب المدرسي؛ لذا أرجو من سماحتكم إفادتي عن هذا الموضوع)

فأجابه بهذا الجواب الخطير: (يجب على مدرس الجغرافيا إذا عرض على الطلاب نظرية الجغرافيين حول ثبوت الشمس ودوران الأرض عليها - أن يبين أن هذه النظرية تتعارض مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأن الواجب الأخذ بما دل عليه القرآن والسنة، ورفض ما خالف ذلك، ولا بأس بعرض نظرية الجغرافيين من أجل معرفتها والرد عليها كسائر المذاهب المخالفة، لا من أجل تصديقها والأخذ بها) (1)

وهكذا نجد الكتب الكثيرة التي ألفت في هذا المجال، ومنها كتاب (دوران الأرض حقيقة أم خرافة) لعادل العشري، وكتاب (هداية الحيران في مسألة الدوران) لعبد الكريم بن صالح الحميد، وكتاب (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة) للشيخ التويجري، وغيرها من الكتب.

__________

(1) فتاوى اللجنة الدائمة، لجزء رقم: 26، الصفحة رقم: 415.

السلفية.. والوثنية المقدسة (51)

والإشكال الأكبر هو وقوع هؤلاء في نفس ما وقع فيه رجال الدين المسيحي حينما تبنوا بعض النظريات العلمية، وربطوها بالدين، ثم حاربوا كل من يقول بخلافها واعتبار القول به هرطقة.

ونفس الشيء وقع فيه هؤلاء حين أخضعوا الحقائق العلمية القطعية للموازين الروائية الممتلئة بالأساطير والخرافات..

وكمثال على ذلك ما قاله التويجري في كتابه (الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة) عند رده لما يقوله الفلكيون من أن (الأرض سابحة في الجو معلقة بسلاسل الجاذبية وقائمة بها)، فقد قال ردا عليهم: (ونقول أما قولهم إن الأرض سابحة في الجو فهذا باطل ترده الآيات والأحاديث الدالة على سكون الأرض وثباتها. ويرده أيضاً إجماع المسلمين على ثبات الأرض وسكونها. وقد تقدم كل ذلك فليراجع وأما قولهم إنها معلقة بسلاسل الجاذبية فهذا باطل يرده قول الله تعالى (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) وقوله تعالى (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) فالسماء قائمة بأمر الله تعالى وإمساكه لها من غير عمد والأرض قائمة بأمر الله تعالى وإمساكه لها من غير سلاسل) (1)

ليس هذا فقط، بل إنهم ينكرون كل الحقائق العلمية الفلكية، وسنذكر نموذجا هنا لعلم من أعلام المدرسة السلفية المعاصرة، وهو يناقش بعض الحقائق العلمية الفلكية وفق الرؤية السلفية..

وهو العالم الذي زكاه كل رجال المدرسة السلفية الكبار، وزكوا كتابته هو يحي الحجوري الذي ألف كتابا سماه [الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق]، وهو في الرد على كتاب في العقيدة الإسلامية يضم بعض الحقائق العلمية كأدلة على قدرة الله تعالى.

__________

(1) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 58).

السلفية.. والوثنية المقدسة (52)

ومن تلك الردود رده على ما ذكره صاحب الكتاب من صعود البشر إلى القمر، وقد قال في رده باللهجة السلفية القاسية: (هذه كذبة بلغت الآفاق يستحق صاحبها أن يشرشر شدقه على قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ولا يزال يفعل به ذلك كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عند البخاري رقم (7047،1386)، وهذه الكذبة صنعها أعداء الإسلام لاحتقار من سواهم من المسلمين حيث لم يستطيعوا صعود القمر ولغير ذلك من المقاصد الخبيثة، ونشرها الببغاوات كصاحبنا وأمثاله، وقد أنكرها ذلك السيف الصارم على البدع والمحدثات الشيخ حمود التويجري رحمه الله في كتابه [الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة] وعلامة اليمن شيخنا مقبل الوادعي حفظه الله برعايته، وجعله تحت بالغ لطفه وعنايته) (1)

وقال في الرد على تسمية الأرض كوكبا: (وقد رد هذا الإدعاء ودحض هذا الافتراء الشيخ محمد بن يوسف الكافي فقال رادًا على بعض أشياع محمد عبده المصري: قوله: (هي كوكب) كذب وافتراء على الله تعالى من سماها كوكبًا لأن الله تعالى الذي خلقها سماها أرضًا، والكوكب هو النجم ومحله العلو ومن صفاته الإضاءة والإشراق والأفول والطلوع والأرض بخلاف ذلك. ونقله عنه الشيخ حمود التويجري رحمه الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته في كتابه (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة)، وقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (ج 1 ص 69): عدم الخلاف أن الأرض خلقت قبل السماء بما في السماء من نجوم وغيرها) (2)

وقال في الرد على ما يذكره الفلكيون من المجرات وكثرتها: (هذا كله مبني على الهوس والوساوس الإبليسية والتقليد والثقة بأعداء رب البرية من ذوي الملل والنحل اليهودية والنصرانية ليزاحموا بِهذه التخرصات علوم الكتاب والسنة النبوية فشغلوا بذلك السذج من أبناء المسلمين والذين لا يهمهم أمر هذا الدين فيبقون على هذه التراهات عاكفين وبِها معجبين

__________

(1) الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق 97.

(2) الصبح الشارق: 192.

السلفية.. والوثنية المقدسة (53)

ومفتخرين، فيقتلون فيها الأوقات ويضلون بِها العامة وأشباههم من ذوي الجهالات فيغضبون بذلك رب الأرض والسموات) (1)

وقال في الرد على ما يذكره الفلكيون من دوران الأرض: (ومسائل السماء والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والميزان والصراط و... الكلام فيها يعتبر من باب الاعتقاد فالذي يعتقد أن الأرض تدور وتتحرك يجب عليه أن يلتمس لهذا القول دليلاً من القرآن والسنة وإلا كان صاحب معتقد فاسد لا يعتمد على دليل عن الله ورسوله وأنى لصاحب هذا القول الدليل فدون ذلك خرط القتاد وإنما هي الشُّبه) (2)

ولهذا فإن هذه المدرسة كانت من أكبر من وقف في وجه الحضارة الإسلامية، ووجه علمائها الكبار، حين حجروا العلم على ما كانوا يمارسونه مما يسمونه علما.

يقول ابن تيمية: (جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علما فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً وإن سمي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه) (3)

وقال ابن رجب: (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث.. في ذلك غاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع اشتغل) (4)

وقال ابن القيم: (كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام البشر، فالمغرب لما ظهرت فيهم الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها استولت النصارى

__________

(1) الصبح الشارق: 196.

(2) الصبح: 210.

(3) مجموع الفتاوى (10/ 664)

(4) بيان فضل علم السلف على الخلف) (6).

السلفية.. والوثنية المقدسة (54)

على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق، سلط الله عليهم التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها، وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلاً وأسراً) (1)

وهكذا نجد المعاصرين من هذه المدرسة يرددون نفس تلك الكلمات، ويتبرؤون من كل الأعلام الذين أنجبتهم الحضارة الإسلامية، بل يكفرونهم..

ومن الأمثلة على ذلك رسالة تنتشر بكثرة على مواقع النت كتبها الشيخ ناصر بن حمد الفهد، وسماها [حقيقة الحضارة الإسلامية]، وعرفها بقوله: (هذه المذكرة جواب عمَّن جعل حضارة الإسلام هي النبوغ في علوم الفلاسفة والملاحدة وجعلها هي تشييد المباني وزخرفة المساجد، وجعل علماء الإسلام هم الملاحدة كابن سينا والفارابي ونحوهم)

وقد جاء في مقدمتها قوله: (إن الحضارة الإٍسلامية الصحيحة هي التي وجدت في القرون المفضلة، في وقت الصحابة والتابعين، وأئمة الدين، فريق الهدى، وأشياع الحق، وكتائب الله في أرضه، الذين بلغوا من الدين والعلم والقوة غاية ليس وراءها مطلع لناظر، ولا زيادة لمستزيد، ففتحوا البلدان، وشيدوا الأركان، ودانت لهم الأمم، وتداعت لهم الشعوب.. فَمن كان مفاخراً فليفاخِرْ بهم، ومن كان مكاثراً فليكاثرْ بهم، فدينهم هو الدين، وعلمهم هو العلم. مكّن الله لهم في الأرض ففتحوا الدنيا وحكموا العالم في مدةٍ لا يبلغ فيها الرضيع أن يفطم، قال الذهبي رحمه الله تعالى: (واستولى المسلمون في ثلاثة أعوام على كرسي مملكة كسرى وعلى كرسي مملكة قيصر، وعلى أمَّي بلادهما، وغنم المسلمون غنائم لم يسمع بمثلها قط من الذهب والحرير والرقيق فسبحان الله العظيم الفتاح) (2).. لذلك فاعلم أن الدين ما انتهجه السلف، والعلم ما

__________

(1) إغاثة اللهفان: 2/ 602.

السلفية.. والوثنية المقدسة (55)

طلبوه، وما سوى ذلك فلا خير فيه) (1)

ثم راح بعدها يعد أسماء العلماء الكبار الذين أسسوا للحضارة الإسلامية، بل أمدوا البشرية بالمعارف الكثيرة التي ساهمت في الحضارة الحديثة، ويرميهم جميعا بالكفر والزندقة.

فينقل عن ابن تيمية عند ذكره لجابر بن حيان قوله: (وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يعرف وليس له ذكر بين أهل العلم والدين) (2)، ويعقب عليه بقوله: (ولو أثبتنا وجوده، فإنما نثبت ساحراً من كبار السحرة في هذه الملة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات، وهو أول من نقل كتب السحر والطلسمات) (3)

وينقل عن (محمد بن موسى الخوارزمي): (وهو المشهور باختراع (الجبر والمقابلة)، وكان سبب ذلك كما قاله هو المساعدة في حل مسائل الإرث، وقد ردّ عليه شيخ الإسلام ذلك العلم بأنه وإن كان صحيحاً إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره (4).. والمقصود هنا: إن الخوارزمي هذا كان من كبار المنجّمين في عصر المأمون والمعتصم الواثق، وكان بالإضافة إلى ذلك من كبار مَنْ ترجم كتب اليونان وغيرهم إلى العربية) (5)

وهكذا لا يترك عالما من العلماء إلا وكفره أو بدعه وفسقه..

وللأسف فإن هذه الرسالة تنتشر بقوة على النت، وبالصيغ المختلفة، ولعلها ترجمت للغات أجنبية لتمحو كل ما بقي لهذه الأمة من أمجاد تباهي بها سائر الأمم.

__________

(1) حقيقة الحضارة الإسلامية ص 3.

(2) مجموع الفتاوى 29/ 374.

(3) حقيقة الحضارة الإسلامية ص 11.

(4) انظر (مجموع الفتاوى) 9/ 214 – 215.

(5) حقيقة الحضارة الإسلامية ص 11.

السلفية.. والوثنية المقدسة (56)

الجهة.. والمكان

يرى أصحاب الرؤية التنزيهية لله ـ بتوجهاتهم المختلفة العقلية والذوقية ـ أن الله تعالى أعظم من أن يشار إليه، أو أن تكون له جهة تحصره، أو مكان يحده.. فالله أعظم وأجل وأقدس من ذلك كله.

ذلك أن مجرد اعتباره في جهة حد لعظمته، وتقييد لإطلاقه، وحبس له في عالم الحدود والقيود والجسمية.

ومجرد اعتباره في مكان حصر له، بل قول بإمكانية تعدده.. فمن حدد فقد عدد.

والعقل السليم يقول بهذا، كما تقول به النصوص المقدسة، وكما يقول به أرباب الأرواح الطاهرة الذين تجلت على صفحات قلوبهم الصافية حقائق العرفان في أبهى صورها.

وأولهم أهل بيت النبوة والطهارة الذين وردت عنهم النصوص الكثيرة في تنزيه الله عن الجهة والمكان، ومنها ما روي عن الإمام علي من قوله: (إنّ اللّه جلّ وعزّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ عن أن يحويه مكان...) (1)، وقال: (كان الله ولا مكان) (2)

وروي عن الإمام جعفر الصادق قوله: (ولا يوصف [عزّ وجلّ] بكيف ولا أين...، كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أيناً، فعرفت الأين بما أيّنه لنا من الأين) (3)

و سُئل: أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماءً أو أرضاً؟ فقال: (أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان) (4)

وسئل: فهو [عزّ وجلّ] في كلّ مكان؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟!

__________

(1) بحار الأنوار، ج 57، باب 1، ح 63، ص 83.

(2) الإرشاد، الشيخ المفيد: ج 1، ص 201.

(3) الكافي، ج 1،، ح 12، ص 103 ـ 104. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8، ح 14، ص 111 ـ 112.

(4) الكافي، ج 1، ح 5، ص 89 ـ 90. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح 4، ص 170.

السلفية.. والوثنية المقدسة (57)

وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟! فأجاب: (إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان، واشتغل به مكان، وخلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه. فأمّا الله العظيم الشأن المَلِك الديّان فلا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان) (1)

وسئل الإمام الكاظم: لأيّ علّة عرج الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، ومنها إلى سِدرَة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك، والله لا يوصف بمكان؟ فقال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقول المشبّهون، سبحان الله وتعالى عما يشركون) (2)

وهكذا قال كل منزهة الأمة.. وسنقتبس هنا للدلالة العقلية على هذا كلام رجل جمع بين علوم الحديث والكلام والتصوف، لنرى أن اعتقاد الجهة مطلب للخيال للعقل، وأن النصوص المقدسة تقدس الله من أن تحده الجهات، أو يحل في الأماكن.

وهذا العلم هو الشيخ يوسف النبهاني الذي كتب رسالة في الرد على المجسمة في هذا المجال سماها (رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله) يقول فيها: (فكما أنه تعالى ليس لذاته المقدسة جهات ليس هو في جهة أحد من المخلوقات، قد تنزه عن جميع السفليات والعلويات من الأمكنة والأزمنة والأرضين والسموات، كلها نسبتها إليه تعالى نسبة واحدة، وهي أنها مخلوقاته وهو خالقها أوجدها بعد أن لم تكن من العدم المحض، وهو تعالى كان موجوداً قديماً ولا سماء ولا أرض، وهو عز وجل قبل خلقها وبعد خلقها هو الله القديم العظيم المتصف بكل الكمالات المنزه عن جميع أوصاف الحادثات لم تتجدد له تعالى بعد خلقها أوصاف لم تكن له من

__________

(1) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ح 3، ص 248..

(2) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح 5، ص 170.

السلفية.. والوثنية المقدسة (58)

قبل خلقها.. وإذا كان الأمر كذلك فكيف تختص به تعالى جهة دون جهة؟ ويقال إنه في جهة العلو والفوق، وهذه الجهات إنما حدثت بعد خلق المخلوقات؟) (1)

ثم ذكر أن حصر الله في الجهات مقولة تجسيمية لم يقل بها أحد من المنزهة من هذه الأمة، قال: (إذا علمت ذلك فقد تبين وظهر ظهوراً جلياً أن هذه العقيدة، وهي تنزيه الله تعالى عن أن تحصره جهة من الجهات العلويات والسفليات هي العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تليق بكمال الله تعالى، وهي عقيدة معظم الأمة المحمدية من أهل المذاهب الثلاثة وبعض الحنابلة وسادتنا الصوفية وهي التي تقتضيها الكمالات الإلهية وتؤيدها الإدراكات العقلية والنقلية، ولمن خالفهم وإن قلوا مستند وهو تمسكهم بظواهر النصوص بدون تدقيق ولا تحقيق، ولا تفكر بما يليق بالكمالات الإلهية وما لا يليق، فحكموا عليه تعالى بأنه في جهة العلو وفي جهة الفوق، ولم يبالوا بأن الجهات إنما هي من أوصاف الحادثات وقبل أن يخلقها تعالى لم يكن هنالك جهات إذ لا علويات ولا سفليات ولا شيء وقتئذ من المخلوقات حتى تحيط به تعالى الجهات) (2)

ومن الأدلة العقلية المنطقية التي أوردها قوله: (وأيضاً الجهات هي أمور نسبيات، فقد تكون جهة العلو لمخلوق هي جهة السفل لمخلوق آخر، إذ من المعلوم أن الأرض كروية وفي سائر جهاتها يوجد مخلوقات، فجهة العلو لقوم منهم هي جهة السفل لقوم آخرين، وكذا أجرام السموات المحيطة بالأرض) (3)

هذا مثال عن الأدلة التي يعتمدها المنزهة في مواجهة المجسمة.. وإلا فإن القضية من البداهة بحيث لا تحتاج إلى دليل يدل عليها.

__________

(1) رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله.

(2) رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله.

(3) رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله.

السلفية.. والوثنية المقدسة (59)

وكيف تحتاج إلى الدليل والقرآن الكريم واضح في الدلالة عليها، فالله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]

فهذه الآية الكريمة كافية في الدلالة على استحالة الجهة على الله، وهي تحصن الأمة من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من التجسيم، وقد نقل الفخر الرازي عن بعضهم قوله في مناسبة نزولها لتغيير القبلة: (.. لأن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال: إن الجنة له لا لغيره، فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك.. فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق، فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق) (1)

والله تعالى يذكر في آيات كثيرة أن له معية وحضورا مع كل شيء، وهو ما يكفي لنفي الجهة عن الله، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُم} [النساء 108]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4]، وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة 40]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف 84]، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام 3].

__________

(1) مفاتيح الغيب (4/ 19)

السلفية.. والوثنية المقدسة (60)

وقد كانت هذه الآيات وأمثالها من الآيات التي يستعملها المتكلمون المنزهة لإيقاع المجسمة في الحرج، لأنهم إما أن يقولوا بمقتضياتها، فينفوا الجهة عن الله، وينفوا معها الجسمية ومقتضياتها، وإما أن يصرفوها عن ظاهرها، وحينها يتخلون عن اعتبارهم التأويل تعطيلا.

يقول إمام الحرمين الجويني: (ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية بآيات يوافقون على تأويلها حتى إذا سلكوا مسلك التأويل عورضوا بذلك السبيل فيما فيه التنازع. فمما يعارَضون به قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر حلوا عقدة إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل، وإن حملوا قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} على الإحاطة بالخفيات فقد تسوغوا التأويل) (1)

وهكذا نجد الأحاديث الصحيحة الموافقة للمعقول والمنقول، والتي لم تتلطخ بتشويهات المجسمة والمحرفة تنص على هذا، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للصحابة لما رأى رفعهم لأصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) (2)

لكن مع كل هذا، فإن لأصحاب الرؤية التجسيمية موقفا مختلفا تماما، وهو موقف ينطلق من تغليب التصور على التعقل أولا.. ثم من ضرب بعض النصوص ببعض.. بالإضافة إلى عدم استطاعتهم رمي كل الثروة الحديثية الكبرى التي جاءهم بها كعب الأحبار وأصحابه.. بالإضافة لأبعاد أخرى سبق ذكرها.

وسنحاول هنا، ومن خلال المصادر المعتمدة لدى هذا الفريق أن نبين التصورات العقدية لهذه المسألة الخطيرة، وعلاقتها بالمصادر المقدسة.. وعلاقتها بعد ذلك بالعقل، وبما يقوله

__________

(1) الإرشاد 161.

(2) البخاري 13/ 372 ح 7386.

السلفية.. والوثنية المقدسة (61)

العلم.

الجهة

يعتبر السلفية تحديد [جهة الله] من أعظم المسائل العقدية، ولهذا يقومون بامتحان الناس على أساسها، فمن أثبت الجهة اعتبروه مؤمنا وموحدا وسنيا، ومن خالفهم فيها اعتبروه جهميا ومعطلا وكافرا.

بل قد نقلوا إجماع الأمة على ذلك، وهو يدل على أنهم لا يعتبرون الأمة غيرهم.. فمن عداهم من الأمة من المتكلمين والصوفية وغيرهم من المنزهة لا يعتبرونهم ـ بسبب عدم قولهم بالجهة ـ من هذه الأمة، فضلا عن اعتبارهم من أهل السنة.

يقول أحد متقدميهم، وهو قتيبة بن سعيد (150 - 240 هـ): (هذا قول الائمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال جل جلاله: الرحمن على العرش استوى)، وقد علق عليه الذهبي بقوله: (فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة، وقد لقي مالكا والليث وحماد بن زيد، والكبار وعمر دهرا وازدحم الحفاظ على بابه) (1)

وقال ابن بطة العكبري (304 - 387 هـ) في كتابه المشهور [الإبانة عن شريعة الفرقة والناجية]: (باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه: أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه، ولا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان) (2)

__________

(1) مختصر العلو 187، درء تعارض العقل والنقل 6/ 260، بيان تلبيس الجهمية 2/ 37.

(2) الإبانة 3/ 136.

السلفية.. والوثنية المقدسة (62)

وقال أبو عمر الطلمنكي الأندلسي (339 - 429 هـ) في كتابه (الوصول إلى معرفة الأصول): (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: وهو معكم أينما كنتم. ونحو ذلك من القرآن: أنه علمه، وأن الله تعالى فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء) (1)

وقال أبو نصر السجزي (ت 444 هـ) في كتابه الإبانة: (فأئمتنا كسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض واحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء) (2)

وقال ابن عبد البر (ت 463 هـ) في التمهيد بعد ذكر حديث النزول: (وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على عرشه من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش) (3)

وقال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا انهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله) (4)

وغيرها من النصوص التي يواجهون بها المنزهة، بل يواجهون بها النصوص المقدسة التي تنزه الله عن الجهة وجميع مقتضياتها.

__________

(1) درء التعارض 6/ 250، الفتاوى 5/ 189، بيان تلبيس الجهمية 2/ 38، مختصر العلو 264.

(2) درء التعارض 6/ 250 ونقل الذهبي كلامه هذا في السير 17/ 656.

(3) فتح البر بترتيب التمهيد 2/ 7 –48.

(4) فتح البر بترتيب التمهيد 2/ 7 –48.

السلفية.. والوثنية المقدسة (63)

وهم لا يكتفون بنقل الإجماع على المسألة، وعدم اعتبار من ورد عنه خلافها، وهم أكثر الأمة، بل يضيفون إلى ذلك ما تعودوا عليه من تكفير المنكر لها، والتحريض عليه.

يقول ابن خزيمة (ت 311 هـ): (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا) (1)

وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين) (2)

وقال في (مجموع الفتاوى) كعادته في نقل إجماع أهل الملل والنحل: (وقد اجتمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله تعالى على العرش، وقالوا هم ليس على العرش شئ وقال محمد بن اسحاق بن خزيمة امام الأئمة من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه ثم ألقى على مزبلة لئلا يتأذى به اهل القبلة ولا أهل الذمة...) (3)

وقال الشيخ سليمان بن سحمان في (كشف الشبهتين): (وإذا كان أعداء الله الجهمية، وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، منذ أعصار متطاولة، لا ينكر هذا إلا مكابر، فكيف يزعم هؤلاء الجهلة أنه لا يقال لأحدهم: يا كافر، ويا مشرك، ويا فاسق، ويا متعور، ويا

__________

(1) انظر درء التعارض 6/ 264.

(2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 27)

(3) مجموع الفتاوى (5/ 138).

السلفية.. والوثنية المقدسة (64)

جهمي، ويا مبتدع وقد قام به الوصف الذي صار به كافراً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً وقد بلغته الحجة، وقامت عليه، مع أن الذي صدر من القبورية الجهمية هؤلاء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على الإنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم، لكن قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن من جحد علوا الله على خلقه، وأنكر صفاته ونعوت جلاله أنه كافر معطل لا يشك في ذلك مسلم، فكيف يظن بالإخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني: يا جهمي، وليس كذلك، أو يا كافر أو يا مبتدع) (1)

وقال: (وإذا أنكر هذا الصنف علو الله على خلقه فهم كفار لأن الله تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل ومن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو القدرة على الأشياء كما تقوله الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه لأن الله مستول على الأشياء كلها وقادر عليها فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستول عليه وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقولوا إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها وقد كان من المعلوم بالضرورة أن الاستواء هو العلو والارتفاع على العرش وعلى جميع المخلوقات فمن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو غير ذلك من تفاسير الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ولا ينفعه الإقرار بلفظ الاستواء على العرش مع جحود معناه وصرفه عن ظاهره وما يليق به إلى ما لا يليق به، فإذا تبين لك هذا علمت أن هذا الصنف هم جهال المقلدين للجهمية وأنه لا خلاف في تكفيرهم) (2)

__________

(1) كشف الشبهتين (ص: 31)

(2) تمييز الحق والمين ص 139 وما بعدها.

السلفية.. والوثنية المقدسة (65)

وقال: (إذا عرفت هذا فمسألة علو الله على خلقه من المسائل الجلية الظاهرة ومما علم بالضرورة فإن الله قد وضحها في كتابه وعلى لسان رسوله وهي مما فطر الله عليها جميع خلقه إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته واتبع هواه وأخلد إلى الأرض وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه وعرف أصوله فإنه قد صرح في غير موضع أن الخطأ والجهل قد يغفرا لمن لم يبلغه الشرع ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة إذ اتقى الله ما استطاع واجتهد بحسب طاقته وأين التقوى وأين الاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى والغائبين والمعطلون للصانع عن علوه على خلقه واستواءه على عرشه ونفى أسماءه وصفات كماله ونعوت جلاله والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت) (1)

وهذه النصوص وحدها كافية في الدلالة على تكفير السلفية لمخالفيهم من جميع الأمة الإسلامية من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة فضلا عن الشيعة والإباضية وغيرهم.. لأن هؤلاء جميعا يقولون بنفي الجهة عن الله تعالى.

والعجيب أننا لو طبقنا هذه الأحكام على المدرسة السلفية لوجدنا أنها تكفر نفسها بذلك، لأن الله بحسب الروايات التي يتبنونها ليس دائما في حال علو.. فهو ينزل إلى السماء الدنيا، بل ينزل إلى الأرض.. وبذلك تصير الشمس والقمر وغيرها من الكواكب فوقه كما سنرى في الفصل الخاص بالتنقل والحركة.

بل إنهم يروون حديثا ورد فيه: (والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله) (2)، وقد استعمل أعلام المدرسة السلفية كل ألوان التأويل والاحتيال لتوجيه هذا الحديث لينسجم مع العلو، ولعل آخرها ما ذكره الشيخ محمد بن صالح العثيمين

__________

(1) تمييز الحق والمين ص 144.

(2) رواه الترمذي في كتاب التفسير (3298).

السلفية.. والوثنية المقدسة (66)

عند ذكره للحديث، فقد قال: (هذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه، والذين قالوا: إنه صحيح يقولون: إن معنى الحديث لو أدليتم بحبل لوقع على الله عز وجل لأن الله تعالى محيط بكل شيء، فكل شيء هو في قبضة الله سبحانه وتعالى وكل شيء فإنه لا يغيب عن الله تعالى، حتى إن السماوات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن عز وجل كخردلة في يد أحدنا.. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون دالاً على أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، أو على أن الله تعالى في أسفل الأرض السابعة فإن هذا ممتنع شرعاً، وعقلاً، وفطرة، لأن علو الله سبحانه وتعالى قد دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والإجماع، والعقل، والفطرة) (1)

وقبله قال ابن تيمية: (حديث الإدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة وهو منقطع فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع؛ فإن كان ثابتا فمعناه موافق لهذا؛ فإن قوله: (لو أدلي أحدكم بحبل لهبط على الله) إنما هو تقدير مفروض؛ أي لو وقع الإدلاء لوقع عليه لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئا؛ لأنه عال بالذات وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى الجهة الأخرى لكن بتقدير فرض الإدلاء يكون ما ذكر من الجزاء. فهكذا ما ذكره السائل: إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة كان هو سبحانه يسمع كلامه وكان متوجها إليه بقلبه لكن هذا مما تمنع منه الفطرة؛ لأن قصد الشيء القصد التام ينافي قصد ضده؛ فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافي قصده من أسفل وكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية - لأنها عالية - فترد الهابط بعلوها كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها - وهو المركز - لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به

__________

(1) مجموع فتاوى ورسائل محمد بن صالح العثيمين (1/ 89).

السلفية.. والوثنية المقدسة (67)

ما في قوته من الهبوط إلى المركز) (1)

إلى آخر كلامه، وهو يدل على الصورة المشوهة التي يحملونها على الكون وعن موقع الأرض فيه، والتي عبر عنها ابن تيمية بقوله: (ومن علم أن الأفلاك مستديرة وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه ـ وهو قعر الأرض ـ هو سجين واسفل سافلين علم من مقابلة الله بين أعلى عليين وبين سجين) (2)

فالأرض وفق هذه الرؤية هي المركز.. وفوقها السموات السبع، وفوقها العرش، وفوقها الله سبحانه وتعالى..

يقول التويجري شارحا التصور الفلكي للكون وفق الرؤية السلفية: (وقد جعل الله تبارك وتعالى الأرض مركزاً ومستقراً للأثقال من جميع جهاتها. فلو سقط من السماء شيء ثقيل من أي جهة كانت لما استقر إلا في الأرض. وكذلك ما يسقط من الأثقال مما بين السماء والأرض فمقره الأرض. وقانون الجاذبية للأثقال ينتهي إلى المركز في جوف الأرض وهو وسط الأرض السابعة السفلى) (3)

ثم نقل عن ابن كثير قوله ـ بعد أن ساق عدة أحاديث في إثبات سبع أرضين ـ: (فهذه الأحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين والمراد بذلك أن كل واحدة فوق الأخرى والتي تحتها في وسطها عند أهل الهيئة حتى ينتهي الأمر إلى السابعة وهي صماء لا جوف لها وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدرة متوهمة وهو محط الأثقال إليه ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يعاوقه مانع) (4)

ونقل عن ابن تيمية قوله: (إذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى

__________

(1) الرسالة العرشية (ص: 27)

(2) مجموع الفتاوى [25/ 196 ـ 197].

(3) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 59).

(4) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 59).

السلفية.. والوثنية المقدسة (68)

الجهة الأخرى) (1)، وقوله: (ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز) (2)، وقوله: (أهل الهيئة يقولون لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعاً في المركز ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه بل كلاهما فوق المركز) (3)

ولهذا تجد المدرسة السلفية تشتد على من يخالف هذه الرؤية، بل تقول بتكفيره.

يقول التويجري بعد نقله النقول الكثيرة عن ابن تيمية وغيره: (ولما ظهر أهل الهيئة الجديدة في آخر القرن العاشر من الهجرة وما بعده وهم كوبرنيك البولوني وهرشل الإنكليزي وأتباعهما من فلاسفة الإفرنج أصحاب الرصد والزيج الجديد أظهروا خلاف ما كان عليه المسلمون فقالوا إن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وإنها مركز العالم وأن الأرض والنجوم تدور عليها وقد قلدهم في ذلك كثير من ضعفاء البصيرة من العصريين فخالفوا ما كان عليه جماعة المسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا، وهؤلاء ينبغي أن يوضح لهم الحق الذي جاء به القرآن والسنة فمن أصر منهم بعد ذلك على المخالفة فهو كافر حلال الدم والمال لأنه قد عاند الحق على بصيرة وأصر على تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم) (4)

بعد هذا الكم الكبير من التبديع والتكفير والتحريض على المخالفين للسلفية في هذه المسألة نبحث عن مصادرهم النقلية التي استدعت منهم كل هذا الكم من الشدة.

وعند البحث عنها نجدها لا تعدو نصوصا يمكنهم لو طبقوا عليها مقاييسهم لفهموها

__________

(1) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 59).

(2) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 59).

(3) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 59).

(4) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 98).

السلفية.. والوثنية المقدسة (69)

الفهم الصحيح..

فلو أنهم طبقوا مع الآيات الكريمة التي يستدلون بها كثيرا، وهي قوله تعالى عن الملائكة عليهم السلام: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ما طبقوه في قوله: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل 128] لانتفت المشكلة في أذهانهم، فقد فسروا المعية هنا بمعية النصر والتأييد (1).

وقال ابن تيمية في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]: (إن هذه الآية لا تخلو من أن يراد بها قربه سبحانه أو قرب ملائكته كما قد اختلف الناس في ذلك، فإن أريد بها قرب الملائكة: فدليل ذلك من الآية قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان، فيكون الله سبحانه قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف 80]، أما إذا كان المراد بالقرب في الآية قربه سبحانه، فإن ظاهر السياق في الآية دل على أن المراد بقربه هنا قربه بعلمه، وذلك لورود لفظ العلم في سياق الآية {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}) (2)

وهكذا يقال في الفوقية، فقد قال من هو أعلم منهم باللغة العلامة الكبير [الزمخشري) في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]: (إن علقته بيخافون، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عاليا لهم

__________

(1) مجموع الفتاوى (11/ 250)، و(5/ 104).

(2) الفتاوى (6/ 19 - 20).

السلفية.. والوثنية المقدسة (70)

قاهرا، كقوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (1)

بالإضافة إلى هذا فهم يؤولون الفوقية نفسها، وفيما يعتبرونه من صفات الله تعالى، وقد سئل الشيخ ابن العثيمين حول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، فأجاب بقوله: (ينبغي أن نعلم أن التأويل عند أهل السنة ليس مذموماً كله، بل المذموم منه ما لم يدل عليه دليل، وما دل عليه الدليل يسمي تفسيراً، سواء كان الدليل متصلاً بالنص، أو منفصلاً عنه، فصرف الدليل عن ظاهره ليس مذموماً على الإطلاق.. فإذا فهمنا هذا القاعدة وهي أن التأويل الذي قام الدليل عليه ليس مذموماً عرفنا الجواب عن الآية التي ساقها السائل.. فهل الصحابة في صلح الحديبية كانوا يبايعون الله؟ هم في الحقيقة كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، وذلك في قوله سبحانه: {يبايعونك}، لكن لما كان الرسول مبلغاً عن الله سبحانه صارت مبايعة الرسول كمبايعة الله، وصار الذي يبايعه كأنما يبايع الله، وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} المعلوم أن يد الله حقيقة ليست فوق أيديهم، وأن التي فوق أيديهم عند المبايعة هي يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكن الرسول كان مبلغاً عن الله) (2)

وهكذا يقال في جميع الآيات.. والتي ضرب السلفية بعضها ببعض.. فأولوا ما يشتهون، وأثبتوا ما يشتهون، والعجيب أنهم يحلون لأنفسم التأويل، ويسمونه - احتيالا - تفسيرا، أما غيرهم، فلا يحلون له ذلك، بل يكفرونه إن فعل ذلك، ولست أدري من الذي أعطاهم وحرم غيرهم، أو من الذي أحل لهم، وحرم على غيرهم.

هذا من القرآن الكريم.. أما من السنة المطهرة.. فبالإضافة لتلك الأحاديث الكثيرة التي تلقوها من كعب الأحبار ووهبه بن المنبه وغيرهم من مسلمة أهل الكتاب نراهم يستدلون بما يسمونه [حديث الجارية].. وهو الحديث الذي صار ـ بسبب كثرة ترديدهم له ـ وكأن رسول

__________

(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 610)

(2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الأول - باب الأسماء والصفات.

السلفية.. والوثنية المقدسة (71)

الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل غيره، أو كأنه آية من القرآن الكريم.

وقد جعل ذلك من فريق التنزيه في هذه الأمة يؤلف الكتب والرسائل في رد الشبه المرتبطة به، ومنها [رسالة تنقيح الفهوم العالية بما ثبت وما لم يثبت في حديث الجارية] للشيخ حسن بن على السقاف، ومنها [رسالة القوافل الجارية بشرح حديث الجارية] للشيخ محمود منصور الداني، ومنها [رسالة دراسة حديث الجارية سندا ومتنا] للدكتور صهيب السقار، وغيرها من الرسائل والكتب.

ونص الحديث ـ كما يستدلون به ـ هو ما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: (.. وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة) (1)

هذا هو نص الحديث كما يروونه، وهم يحرصون على ألا يرووا الحديث بغير هذه الرواية مع أنه قد ورد بروايات أخرى تتفق مع التنزيه ومع المنهج العام الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل به لتبليغ دين الله.

ولتوضيح ذلك سأسوق هنا روايتين أخريين للحديث، لنجعل ذلك نموذجا عن المنهج الانتقائي الذي يستعمله السلفية لنصرة آرائهم مهما شذت، فقد ورد الحديث بروايتين أخريين غير الرواية التي يهتم بها السلفية.

أما الرواية الأولى: فقد وردت بلفظ (أتشهدين ان لا إله إلا الله)، وقد رواها مالك وأحمد وغيرهما، ونصها: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجارية له سوداء فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشهدين أن لا

__________

(1) مسلم: 1/ 381 (537.

السلفية.. والوثنية المقدسة (72)

إله إلا الله؟ قالت نعم، قال أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت نعم، قال أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها) (1)

وهذا الحديث يتوافق تماما مع غيره من الأحاديث التي تبين أن الهدف الأكبر للأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو الدعوة للتوحيد، فلم يرد في أي من النصوص لا القرآن ولا الحديث أن من أهداف دعوة الأنبياء الدعوة إلى أن الله في السماء.

وأما الرواية الثانية، فقد وردت بلفظ (من ربك)، وقد رواها أبو داود والنسائي والدارمي والإمام أحمد وابن حبان، ونصها: قلت: (يا رسول الله إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال ادع بها فجاءت، فقال: (من ربك؟ قالت الله، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) (2)

وهذه الرواية كذلك تتفق مع غيرها من النصوص التي تبين أغراض الرسالة وهي التعريف بالله وبنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وليس فيها أبدا أن من أغراض الرسالة التعريف بجهة الله ولا مكانه.

ومن الأدلة على ذلك ما رواه البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) (3)

ومنها ما رواه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمسَ

__________

(1) الموطأ: [2/ 777] أحمد في مسنده [مسند أحمد 3/ 451] ومصنف عبد الرزاق [9/ 175] والمنتقى لابن الجارود [1/ 234 (931)].

(2) ابن حبان في صحيحه: 1/ 418 (189)، والإمام أحمد في مسنده: 4/ 222 و388 و389، وأبو داود في سننه: ص 477 (3283)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2\ 322 (3283)

(3) صحيح البخاري 1/ 17 (25)

السلفية.. والوثنية المقدسة (73)

صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) (1)

ومنها ما رواه في [باب كيف يعرض الإسلام على الصبي] من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن صياد: (أتشهد أني رسول الله؟) (2)

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن إثبات أن قول الجارية ـ كما في الرواية التي يعتمدها السلفية ـ (في السماء) لا يدل على الإيمان، ذلك لأن بعض المشركين يعترفون بوجود الله وكذا النصارى واليهود ومع ذلك يشركون معه في الألوهية غيره كما ورد في الحديث عن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي يا حصين: كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستةً في الأرض وواحداً في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء) (3)

هذا نموذج عن الانتقائية التي يمارسها السلفية في التعامل مع النصوص المقدسة، فهم يستعملون كل الوسائل والحيل لتطويع النصوص لتصير وفق مقتضيات أهوائهم.

والعجيب أنهم في مثل هذه الأحاديث، والتي ترد بها الروايات المختلفة يعتبرونها مضطربة (4)، واضطرابها يسبب ضعف الاستدلال بها في الفروع فضلاً عن أصول العقيدة.

يقول المحدث الكبير عبد الله بن الصديق: (وقد تصرف الرواة في ألفاظه، فروي بهذا اللفظ كما هنا وبلفظ (من ربك؟) قالت: الله ربي. وبلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا الله؟) قالت:

__________

(1) صحيح البخاري 2/ 505 (1331).

(2) صحيح البخاري (6/ 171).

(3) سنن الترمذي 5/ 519 (3483).

(4) قال الحافظ النووي في التقريب معرفا الحديث المضطرب: (المضطرب: هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة، فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه أو غير ذلك فالحكم للراجحة، ولا يكون مضطربا والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعدم الضبط ويقع في الاسناد تارة وفي المتن أخرى، وفيهما من راو أو جماعة)

وقال الحافظ ابن دقيق العيد في الاقتراح: (المضطرب: هو ما روي من وجوه مختلفة. وهو أحد أسباب التعليل عندهم، وموجبات الضعف للحديث)

السلفية.. والوثنية المقدسة (74)

نعم، وقد أستوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي في السنن الكبرى بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حسب فهم الراوي.. وبهذا ثبت ثبوتا لا شك فيه عندنا حسب قواعد المصطلح وتصريحات أهل الحديث في القديم والحديث اضطراب متن حديث الجارية بحيث لا يمكن التعويل على لفظ من ألفاظه، وأصح أسانيده كما رأيت بلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا الله)، فإن كان هناك مجال للترجيح بين هذه الروايات فالرواية الراجحة بلا شك ولا ريب هي رواية (أتشهدين) لأنها الأصح إسنادا، ولأن المعهود من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثابت عنه بالتواتر أنه كان يأمر الناس ويختبر إيمانهم بالشهادتين فتكون رواية (أين الله) شاذة) (1)

هذا هو أقوى دليل يستدل به السلفيون على هذه المسألة الخطيرة، وقد رأينا مدى ضعفه، ومخالفته للأصول والقواعد العامة.. ولكنهم كما ذكرنا لا يبالون بضعف الدليل أو قوته.. فالدليل عندهم هو ما ذكره سلفهم، لا ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ما ذكره القرآن الكريم.. ولا ما دل عليه قبل ذلك العقل والفطرة السليمة.

المكان

لم يكتف السلفيون بإثبات الجهة لله غير مراعين لما يؤديه ذلك من محالات عقلية ومخالفات نصية.. بل راحوا يثبتون لله تعالى المكان المحدد المضبوط.. ثم راحوا يعتبرون ذلك من أصول العقائد.. ثم راحوا يكفرون كل جاحد لذلك.

وقد ألفوا في مكان الله كما ألفوا في جهته الكثير من الكتب والرسائل، ومنها كتاب [العرش وما ورد فيه] لأبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة (ت 297 هـ)، ومنها ـ وهو أشهرها ـ[كتاب العرش] للذهبي (748 هـ)، بالإضافة للرسالة العرشية لابن تيمية.

__________

(1) التمهيد: (7/ 135).

السلفية.. والوثنية المقدسة (75)

والمستند الوحيد الذي يستندون إليه في ذلك ـ بالإضافة للأحاديث التي تلقوها من كعب الأحبار وغيره من المجسمة ـ قوله تعالى: {لرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وما هو نظير لها.

وهم لذلك يصرحون بأن العرش هو مكان الله، وأنه ما خلقه إلا ليجلس عليه، وقد رووا في ذلك عن أبي رزين العقيلي قوله: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه، قال: (كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء) (1)

ورووا عن سلفهم سليمان التيمي أنه قال: (لو سألت أين الله، لقلت: في السماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل السماء، لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل الماء، لقلت: لا أعلم، قال أبو عبد الله وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]) (2)

وهم يفسرون الاستواء بالقعود والجلوس والتمكن، كما ألف في ذلك أحد أعلامهم الكبار أبو محمد محمود بن أبي القاسم بن بدران الآنمي الدشتي كتابه المعنون بـ[إِثْبَاتِ الْحَدِّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِأَنَّهُ قَاعِدٌ وَجَالِسٌ عَلَى عَرْشِهِ]، وقد أورد ـ للبرهنة على ذلك ـ الروايات الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسلف، ومنها ما رواه عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أبالي) (3)

ومنها ما رواه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يأتوني حتى أمشي بين أيديهم، حتى نأتي باب الجنة،

__________

(1) رواه الترمذي في سننه، (5/ 288، حديث 3109)، وابن ماجه في سننه: (1/ 64)، والإمام أحمد في مسنده: (4/ 11، 12)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 271)، وابن جرير الطبري في تفسيره: (12/ 4)، قال الترمذي: حديث حسن، والحديث أورده الذهبي في العلو، وحسن إسناده..

(2) خلق أفعال العباد: ص 127.

(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 84).

السلفية.. والوثنية المقدسة (76)

فأستفتح، فيؤذن لي، فأدخل على ربي فأجده قاعداً على كرسي العزة، فأخر له ساجداً) (1)

وفي رواية: (إذا كان يوم القيامة حشر الناس عراة حفاة غرلا، ثم يجلس الله على كرسيه، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب..) (2)

وقد ورد من الروايات أن الله تعالى ـ بحسب معتقد السلف ـ لا يظل جالسا فقط على عرشه، بل يستلقي أحيانا.. وهذا ما يدل على خصائص للعرش الذي يؤمن به السلفية، وهو إمكانية تحوله إلى سرير، وليس مجرد كرسي، كما ورد في الروايات التي يحدثون بها تسميته سريرا.

والرواية هي ما حدثوا به عن عبدالله بن حُنَيْنٍ قال: بينا أنا جالس إذ جاءني قتادة بن النعمان، فقال لي: انطلق بنا يا ابن حنين إلى أبي سعيد الخدري، فإني قد أخبرت أنه قد اشتكى. فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد، فوجدناه مستلقياً رافعاً رجله اليمنى على اليسرى، فسلمنا، وجلسنا. فرفع قتادة بن النعمان يده إلى رِجْلِ أبي سعيد فَقَرَصَهَا قَرْصَةً شديدةً فقال أبو سعيد: سبحان الله يا بن آدم! لقد أوجعني! فقال له: ذلك أردت. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله عز وجل لما قضى خلقه استلقى فوضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا)، فقال أبو سعيد: لا جرم، والله لا أفعله أبداً (3).

وبناء على هذا، فقد عرفوا العرش بكونه سريرا، قال ابن كثير في تعريفه للعرش: (هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات) (4)

__________

(1) رواه الحافظ خشيش بن أصرم في كتاب الاستقامة والرد على أهل الأهواء، وعنه: الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص/104)، ورواه أحمد في المسند (3/ 116)، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (1/ 274)، وأبو أحمد العسال في كتاب المعرفة -كما في العلو للذهبي (ص/87 - 88) ـ قال الذهبي: إسناده قوي.

(2) الإمام أحمد في مسنده (3/ 495)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص/59)، وفي الأدب المفرد (970)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 79)، والروياني في مسنده (2/ 471)، والحاكم (4/ 574) وغيرهم، وفيه-واللفظ للروياني-

(3) التكملة من المعجم الكبير (19/ 13)، ورواه عنه أبو نعيم في معرفة الصحابة (رقم 5320)، وابن أبي عاصم في السنة (رقم 458)، والبيهقي في الأسماء والصفات (رقم 766)، وأبو نصر الغازي في جزء من الأمالي (77/ 1)

(4) البداية والنهاية: 1/ 12.

السلفية.. والوثنية المقدسة (77)

وقال الذهبي- بعد أن ذكر سرر أهل الجنة-: (فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته، والكروبيين الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته: فقد ورد أنه من ياقوته حمراء) (1)

وقال ابن قتيبة ـ عند انتقاده للمنزهة ـ: (وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء في اللغة لا يعرفون للعرش معنى إلا السرير، وما عرش من السقوف وأشباهها قال أمية بن أبي الصلت (2):

مجدوا الله وهو للمجد أهل... ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق الن... اس وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا لا يناله بصر العي... ن ترى دونه الملائك صورا

 

وهم لا يكتفون بأمثال تلك الروايات لتفسير الاستواء بالقعود والجلوس، بل يضيفون إليها أقوال المتأخرين من سلفهم الصالح، ومن ذلك ما رواه الخلال عن أبي بكر المروذي قال: سمعت عبدالوهاب يقول: {الرحمن على العرش استوى} قال: (قعد) (3)

ثم ساق النصوص التي تزكي عبد الوهاب، وتبين أهليته للكلام في العقائد الكبرى، فذكر أنه قيل للإمام أحمد بن حنبل: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبد الوهاب.. وذكر أن الإمام أحمد نفسه قال: عبدالوهاب أهل يُقْتَدَى به، عافا الله عبدَالوهاب، عبدُالوهابِ إمامٌ، وهو موضعٌ للفتيا.. وأنه قيل له: كلما أجاب عبدُالوهاب في شيء تقبله؟ قال: (سبحان الله! الناس يختلفون في الفقه، هو موضع).. وأنه قال: (عبدالوهاب إمام، وهو رجل صالح، مثلُهُ يُوَفَّقُ لإصابة الحق) (4)

__________

(1) العلو، ص 57.

(2) الاختلاف في اللفظ: ص. 24.

(3) انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/ 435).

(4) انظر: طبقات الحنابلة (1/ 211)

السلفية.. والوثنية المقدسة (78)

وهم يعتبرون كل تفسير للاستواء بغير هذا المعنى بدعة وتجهما وكفرا.. وقد رووا عن خارجة قوله: (الجهمية كفار، بلغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن، لا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وهل يكون الاستواء إلا بجلوسٍ) (1)

ومع أنه ورد من النصوص عن السلف ما ينفي ما رووه إلا أن السلفية لا يعتبرون السلف سلفا إلا أذا أذعنوا لما يقوله سلفهم الأول كعب الأحبار وإخوانه الذين هم أعلم الناس بالعقائد.. فهم لا يعرفون القرآن فقط، بل يضمون إليه معرفتهم بالكتب السابقة أيضا.

يقول ابن تيمية في رفض ما ورد عن السلف مما يخالف هذا المعتقد: (وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك) (2)

وقال في موضع آخر: (وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي نسميها متشابهات فبين معانيها آية آية، وحديثاً حديثاً ولم يتوقف فيها هو والأئمة قبله مما يدل على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهباً لأهل السنة وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها) (3)

__________

(1) رواه عبدالله بن الإمام أحمد في السنة (رقم 10)، ومن طريقه الخلال في السنة (رقم 1704)، وابن بطة في الإبانة (ص 1224)

(2) الفتوى الحموية (ص 64)

(3) مجموع الفتاوى (17/ 414)

السلفية.. والوثنية المقدسة (79)

وهكذا كان موقفهم من الذين حملوا لفظ الاستواء على معناه اللغوي المعروف، والذي يدل عليه السياق، كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق

وقال آخر:

هما استويا بفضلهما جميعاً... على عرش الملوك بغير زور

بل كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]

والاستواء هنا ـ كما يذكر الفخر الرازي ـ: (ثم استوى إلى السماء من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى: فاستقيموا إليه [فصلت: 6] والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها، من غير صرف يصرفه ذلك) (1)

لكن هذا التفسير لا يعجب السلفية، لأن اللغة عندهم هي اللغة الظاهرية فقط التي يفهمها العامي المشبه والمجسم.. لا اللغة التي يفهمها فصحاء العرب وبلغاؤها.

قال ابن عبد البر ـ دفاعا عن الرؤية التجسيمية السلفية ـ: (وأما ادعائهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه أحد ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب

__________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 546).

السلفية.. والوثنية المقدسة (80)

له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى {اسْتَوَى} قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد" (1).

بعد هذا، فقد اجتهد محققو السلفية في توضيح كل ما يرتبط بالمكان الذي يوجد فيه العرش، وبناء على ذلك وضعوا خارطة كونية عجيبة، يمكن إرسالها للوكالات الفضائية العالمية لتؤسس من خلالها لعلم فلك أكثر تطورا.

وسأسوق هنا كلام ابن تيمية في تفصيل هذه الخارطة، وذلك في رسالته التي خصصها لهذا الغرض، والتي أجاب فيها على هذه التساؤلات: (ما تقول في العرش هل هو كرى أم لا؟ وإذا كان كرياً والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته، فيقصد العلو دون غيره، ولا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو، وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، وقد فطرنا عليها) (2)

وقد أجاب ابن تيمية جوابا مفصلا طويلا نقتصر منه على هذا التحقيق البديع، قال: (لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك، ويكون محيطاً بها، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا، فإن كان الأول، فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب، وأن الجهة السفلى هو المركز، وليس للأفلاك إلاجهتان: العلو والسفل فقط، وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب.. لكن

__________

(1) التمهيد (7/ 131)

(2) الرسالة العرشية (ص: 3)

السلفية.. والوثنية المقدسة (81)

جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات، والجبال والأنهار الجارية، فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قدر أن هناك أحداً لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبى، ولا بالعكس. وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال: إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه، وكذلك من علق منكوسا فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض، أو الفلك أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان، ممن يقول: إن الأفلاك مستديرة.. وإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها، وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه، وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو، لا من جهاته الباقية أصلا، ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو، كان جاهلاً باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه وغاية ما يقدر أن يكون كرى الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا) (1)

__________

(1) الرسالة العرشية (ص: 21) بتصرف.

السلفية.. والوثنية المقدسة (82)

إلى آخر أمثال هذه التفاصيل التي يحاول فيها ابن تيمية أن يجمع بين جهة الله ومكانه، ولو على حساب كل ما توصلت إليه المعارف البشرية في كل العلوم.. لأن عقيدة الجهة والمكان هي الأصل الذي يضحى لأجله بكل شيء.

بالإضافة إلى ذلك يتفق السلفية على أن العرش ينتهي على شكل قبة، كما قال ابن تيمية: (وأما العرش فإنه مقبب، لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال،- وذكر الحديث- إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه، كهكذا)، وقال بأصابعه مثل القبة (1).. وفي علوه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة) (2).. فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب) (3)

هذا بالنسبة لوصفهم للعرش وسقفه أما أسفل العرش، فهم يتفقون على أنه موضوع فوق بحر من الماء، وأنه يحمله ملائكة على أشكال حيوانية عجيبة.

ومن تلك الأحاديث التي رووها في الدلالة على ذلك ما رووه عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت سحابة، فقال: تدرون ما هذه، قالوا: سحاب، قال: والمزن، قا لوا: والمزن، قال: والعنان، ثم قال: تدرون كم بعد ما بين السماء والأراضين، قالوا: لا، قال: إما واحدة أو اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوق ذلك، حتى عد سبع سموات، ثم فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال، ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء،، ثم

__________

(1) أبوداود (4726)

(2) البخاري (4/ 19)

(3) الفتاوى: (5/ 151)

السلفية.. والوثنية المقدسة (83)

فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك) (1)

وعلى الرغم من الغرابة الشديدة لهذا الحديث إلا أن ابن تيمية انتصر له انتصارا شديدا، ومما قاله في الانتصار له: (إن هذا الحديث قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف، ولم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد، كانت معرفته وإثباته مقدما على نفي غيره وعدم معرفته) (2)

بل انتصر له كل المعاصرين يقول ابن جبرين: (فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف على نفله وقبوله ولم يتعرضوا لرده ولا تأوله ولا تشبيهه ولا تمثيله) (3)

ومع هذا، فقد نقلوا في روايات أخرى أن حملة العرش كانو بصور أخرى.. وهي (ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة أسد، وملك في صورة نسر) (4)، ورووا عن ابن الكواء أنه قال لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين إن في كتاب الله لآية قد أفسدت علي قلبي، وشككتني في ديني، فقال له أمير المؤمنين: (ويحك يابن الكواء، وما هذه الآية التي أفسدت عليك قلبك وشككتك في دينك؟ فقال له ابن الكواء: قول الله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]، ما هذه الصلاة؟ وما هذا الصف؟ وما هذا التسبيح؟ فقال له أمير المؤمنين: يابن الكواء إن الله تعالى خلق الملائكة في صور شتى، وإن لله ملكا في صورة ديك أشهب، براثنه في الأرض السفلى السابعة، وعرفه مثنى تحت عرش الرحمن، له جناح بالمشرق من نار، وجناح بالمغرب من ثلج، فإذا حضر وقت

__________

(1) رواه وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية: (5/ 93)، والدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 448..

(2) الفتاوى (3/ 192)، ومثله مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه، انظر: تهذيب التهذيب: (7/ 92، 93).

(3) وهو عبد الله الجبرين في التعليقات على متن لمعة الاعتقاد 84

(4) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: ص 198، والآجري في الشريعة: ص 494..

السلفية.. والوثنية المقدسة (84)

كل صلاة قام على براثنه، وأقام عرفه تحت العرش، ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم، فلا الذي من النار يذيب الثلج، ولا الذي من الثلج يطفئ الذي من النار، ثم نادى بأعلى صوته: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وأشهد أن محمدا خير النبيين، فتسمعه الديكة في منازلكم فتصفق بأجنحتها فتقول كنحو من قوله، فهو قول الله عز وجل في كتابه: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]) (1)

ورووا عن رسول الله قوله: (العرش على ملك من لؤلؤة في صورة ديك رجلاه في التخوم السفلى وعنقه مثنية تحت العرش، وجناحاه في المشرق والمغرب فإذا سبح الله ذلك الملك لم يبق شيء إلا سبح) (2)

ولم تكتف المدرسة السلفية بتلك الجرأة على الحديث عن العوالم التي خلقها الله من خلال أمثال تلك الروايات الغريبة الممتلئة بالتجسيم والتشبيه والخرافة، بل راحت تضيف إلى العقائد الإسلامية عقيدة خطيرة، لا يوجد عليها دليل لا من كتاب ولا سنة ولا عقل.. وهي ما يسمونه [المكان العدمي]

وهو من الألفاظ العجيبة التي اخترعها ابن تيمية، وتبعه عليها أتباعه من غير وعي منهم للمحالات العقلية التي ترتبط بها.. فكيف يكون مكانا، ثم يكون معدوما.. أو كيف تكون جهة، ثم تكون معدومة؟

قال ابن تيمية: (وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان فلا ريب أن هذا عدم محض) (3)، وقال: (بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها

__________

(1) العرش وما روي فيه لابن أبي شبية (ص: 448)

(2) أورده السيوطي في الحبائك: ص 59، و68، وعزاه إلى ابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس.

(3) تلبس الجهمية: 2/ 119.

السلفية.. والوثنية المقدسة (85)

تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به، ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهو عدمي) (1)

وقد تبعه على هذا القول كل أتباعه من السلفية غير مدركين لمعنى المقولة، يقول العثيمين: (كذلك أيضا: الجهة: هل الله في جهة؟ نقول: أما اللفظ فإننا نتوقف فيه ومالنا وله، ولكن المعنى نستفصل: ماذا تريد في جهة؟ إن أردت الله تعالى في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا ممتنع وباطل، وإن أردت بذلك سفل ومخالطة للمخلوقات فهذا أيضا باطل ممتنع على الله، فليس الله تعالى في جهة السفل، وليس في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف، وإن أردت أنه في جهة عليا عدمية لا تحيط به، ما ثم إلا هو عزو وجل فهذا حق) (2)

ومثله قال محمد صديق خان القنوجي: (فإن قال القائل: إن الله في جهة قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به مثل أن يكون في جوف السموات، أم تريد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العلم فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات، فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله محصورا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت الجهة العدمية وأردت أن الله وحده فوق المخلوقات بائن عنها فهذا حق) (3)

ويقول ابن أبي العز: (وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح) (4)

هذه هي الرؤية العقدية للمدرسة السلفية المرتبطة بالجهة والمكان.. وقد سقنا أشهر أدلتهم عليها، وهي ـ كما رأينا ـ أيناأ لا تستحق منهم كل تلك الأحكام المتشددة حول المخالفين لهم فيها.

__________

(1) تلبس الجهمية: 2/ 203.

(2) شرح العقيدة السفارينية، ص 101.

(3) قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 52.

(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص 221.

السلفية.. والوثنية المقدسة (86)

الحدود.. والمقادير

يرى أصحاب الرؤية التنزيهية ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرفان ـ أن الله تعالى أعظم من أن تحد عظمته بأي لون من ألوان الحدود أو المقادير.. ولذلك لا يجد العقل أمام المعارف الإلهية سوى الانبهار والتحير والعجز.. فهو دائما يردد ـ وهو في تلك الحالة من الشده والانبهار ـ (الله أكبر)

فالله أكبر من تصوراتنا وتعقلاتنا وتوهماتنا وأفكارنا وتأملاتنا..

والله أكبر من أن ينحصر في حيز محدود، أو أمد معدود، أو مكان أو زمان.

والله أكبر من أن تجري عليه القوانين التي تجري علينا، أو تحكمه السنن التي تقيدنا.

والله أكبر في ذاته وصفاته وكل ما يرتبط به.

وليس لنا ـ نحن العبيد المشتاقين للتعرف على مولاهم ـ سوى أن نوسع قابلياتنا لتنهل من كمالات الله بقدر ما استطاعت.. وبما أن كمالات الله لا تنتهي.. فلذلك نظل في رحلة أبدية نتمتع فيها برؤية الجمال الذي يكشف لنا منه كل حين معنى جديدا.

وفي تلك الرحلة يظل المؤمن يصيح بما قال الشاعر العارف:

ومع تفنن واصفيه بحسنه... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

ولهذا كان سيد العارفين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي) (1)

فأسماء الله الحسنى فيض من فيوضات كمال الله.. وبما أن كمال الله لا حد له.. فأسماؤه لا نهاية لها.

__________

(1) رواه أحمد (1/ 391) (3712)، (1/ 452) (4318)

السلفية.. والوثنية المقدسة (87)

وفي دعاء آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم بشوق روحي عظيم: (اللهم اعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) (1)

وقد حكى الغزالي من باب الإشارة ما فهمه بعض العارفين من هذا الدعاء، فقال: (ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، أنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم اسجد واقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات، فقال أعوذ بك منك ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله لا أحصي ثناء عليك ثم علم أن ذلك قصور فقال أنت كما أثنيت على نفسك) (2)

وهذه الإشارة العرفانية تدل على الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم بصيغ مختلفة، ومنها قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]

فالغاية من الخلق هي الرحلة إلى الله.. وهي رحلة لا تنتهي.. والحادي لها أشواق لا تنتهي، وحيرة لا تنتهي، كما عبر عن ذلك الشاعر العاشق، فقال:

زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا... وارحم حشى بلظى هواك تسعَّرَا

وقد عبر العارفون على هذه الحقيقة الذوقية العظيمة، واعتبروها النهاية التي لا تنتهي، يقول أحدهم، وهو أبو نصر السراج الطوسي في كتابه (اللمع): (والحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم، وحضورهم، وتفكرهم، تحجبهم عن التأمل والفكرة) (3)

__________

(1) رواه أَحمد (1/ 96 و18 أو 150)، وأبو داود (1427)، والنسائي (3/ 248 - 249)، وابن ماجه (1179)

(2) إحياء علوم الدين (1/ 293)

(3) اللمع، ص 421.

السلفية.. والوثنية المقدسة (88)

وقد سئل بعضهم عن المعرفة: ما هي؟ فأجاب: (التَحَيَّر، ثم الاتصال، ثم الافتقار، ثم الحَيَرةُ)

وقال قائلهم:

قد تحيَّرتُ فيك خذ بيدي... يا دليلاً لِمَنْ تحيَّر فيك

وهذا ليس كلام العارفين فقط.. بل هو كلام العقلاء والفلاسفة والمتكلمين، والذي عبر الغزالي في (المقصد الأسنى) عن رؤيتهم وفلسفتهم في هذا، فقال جوابا على التساؤل حول منهج التعرف على الله: (لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان: أحدهما قاصر، والآخر مسدود، أما القاصر فهو ذكر الأسماء والصفات وطريقة التشبيه بما عرفناه من أنفسنا، فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا.. لأن حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه، بل لا مناسبة بين البعيدين، وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم لكن يقطع التشبيه بأن يقال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين.. وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} ولا الأكمه يفهم معنى قولنا إنه بصير، ولذلك إذا قال القائل كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء؟ فنقول: كما تعلم أنت الأشياء، فإذا قال: فكيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه، فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم لم يتصور فهمه البتة، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه، وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا، فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه،

السلفية.. والوثنية المقدسة (89)

فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم) (1)

هذا هو السبيل الأول، وهو السبيل الوحيد المتاح.. والذي يرتبط بمدى قابلية العبد لتلقي المعارف الإلهية.. وأما (السبيل الثاني المسدود)، فقد عبر عنه الغزالي بقوله: (هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا كما ينتظر الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة، وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى، وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى) (2)

وبناء على هذا الكلام المنطقي ذكر الغزالي استحالة الحد على الله، فقال: (فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله، بل أقول يستحيل أن يعرف النبي غير النبي، وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه.. بل أزيد وأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة أو النار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها، والنار عبارة عن أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار، وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات وهي المطعم والمنكح والمنظر فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات.. ولذات الجنة أبعد من كل لذة أدركناها في الدنيا.. بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. فكيف يتعجب المتعجبون من قولنا: لم يحصل أهل الأرض والسماء معرفة من الله تعالى إلا على الصفات والأسماء ونحن نقول لم يحصلوا من الجنة

__________

(1) المقصد الأسنى (ص: 53)

(2) المقصد الأسنى (ص: 53)

السلفية.. والوثنية المقدسة (90)

إلا على الصفات والأسماء وكذلك في كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته وما ذاقه وما أدركه ولا انتهى إليه ولا اتصف به) (1)

وبناء على هذا كانت نهاية المعرفة ـ كما يذكر أهل البرهان والعرفان ـ هو العجز عن المعرفة، كما قال أبو حامد ـ مستنتجا ذلك مما سبق ـ: (فإن قلت فماذا نهاية معرفة العارفين بالله تعالى؟ فنقول: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله عز وجل، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته) (2)

فهذه النهاية التي انتهى إليها العقلاء هي نفسها التي انتهى إليها العرفاء.. كما قال الشيخ عبد الكريم الجيلي ـ معبرا عنهم ـ: (العجز: هو نهاية أهل النهايات، وغاية الترقي إلى الغايات، ليس وراءه لكامل مرمى، ولا بعده لأكمل مرقى فيه، يقول سيد أهل هذا المقام: لا أحصي ثناء عليك... فإن الكامل إذا تحقق بالحقائق الإلهية، وترقى في مقام الاستقراء بالحضرة العلمية تتجلى له الذات الأقدسية بما هي عليه من الكمالات لا تتجلى إلا في تلك الحضرة الكنهية، ولا سبيل إلى بروزها من تلك الحضرة الغيبية إلى هذا العالم الوجودي العيني، لأن تلك الحضرة تسمى: بحضرة الحضرات وبمقام أو أدنى... فلا سبيل إلى درك هذا العجز عن هذا الإدراك إلا بهذا الإدراك الإلهي في حضرة الحضرات، فلأجل هذا كان إدراك العجز إدراكاً محققاً)

وقال ابن عربي: (ثم تتوالى عليه [على الفرد من طائفة أهل الله] التجليات باختلاف أحكامها فيه.. فيزيد حيرة لكن فيها لذة.. فكانت حيرتهم باختلاف التجليات أشد من حيرة النظار في معارضات الدلالات، فقوله: زدني فيك تحيراً طلب لتوالي التجليات عليه، فمن

__________

(1) المقصد الأسنى (ص: 54).

(2) المقصد الأسنى (ص: 54).

السلفية.. والوثنية المقدسة (91)

وصل إلى الحيرة... فقد وصل) (1)

ورد على من اعتبر الحيرة ضلالا، فقال: (الهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة، فيعلم أن الأمر حيرة، والحيرة قلق وحركة، والحركة حياة، فلا سكون، فلا موت، ووجود فلا عدم) (2)

هذه خلاصة النظرة العقلانية والعرفانية للمعرفة التنزيهية.. فلذلك تقوم على التعظيم والتنزيه.. أو على التسبيح والثناء.. فهي دائما في ارتقاء وسفر بهذين الجناحين في العوالم التي لا تنتهي..

وقد أشار الأئمة من أهل البيت إلى هذا المعنى في روايات كثيرة، ومنها ما روي عن الإمام علي من قوله: (ليس له [سبحانه وتعالى] حدّ ينتهي إلى حدّه) (3)، وقال: (من زعم أنّ إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود) (4)، وقال: (من حدّه [تعالى] فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله) (5)

وروي أن بعض الناس طلب من الإمام علي بن موسى الرضا أن يحدّ الله تعالى له، فقال له الإمام: لا حدّ له. قال الرجل: ولم؟ قال الإمام: لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ. وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة. وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّء) (6)

وهذه النظرة التي اتفق عليها جميع المنزهة بمختلف مناهجهم، هي النظرة التي يؤيدها العلم في كل أزمانه ومجالاته.. وخاصة العلم الحديث.. فهو يعيش في كل لحظة في حالة انبهار

__________

(1) الفتوحات المكية (1/ 305)

(2) الفتوحات المكية (1/ 305)

(3) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 1، ص 35.

(4) المصدر السابق، ح 34، ص 77.

(5) نهج البلاغة، الشريف الرضي: قسم الخطب، خطبة 152، ص 278 ـ 279

(6) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ح 3، ص 246

السلفية.. والوثنية المقدسة (92)

وحيرة من تلك العجائب التي يكتشفها كل حين.. والتي تبرهن له على أن صانع هذا العالم ومهندسه أكبر من أن يحد في حيز، أو يكون في مكان، أو يجري عليه زمان.. لأن من أمهات الحقائق في الفيزياء الحديثة أن المكان والزمان كلاهما مخلوقان.. ويستحيل على المخلوق أن يتحكم في الخالق.

أما النظرة التجسيمية التي تبنتها المدرسة السلفية ـ وحدها من دون الأمة جميعا ـ فتسير في اتجاه مختلف تماما.. ولذلك نظرت بعين الريبة لجميع العقلاء والعرفاء والعلماء.. واتهمت الكل بالجنون والكفر والهرطقة والزندقة.

وهذه النظرة التجسيمية تنطلق من تحديد الله، وتنتهي بوضع المقادير المرتبطة بطوله وحجمه وكتلته.. وكل ما يتعلق به.. ثم تضع له خارطة كونية تخالف كل خرائط الدنيا لتتناسب مع المقادير التي رواها لهم كعب الأحبار ووهب بن المنبه ومن تتلمذ عليهم.

وحتى لا نكون متجنين عليهم، فإننا سننقل كلماتهم، ومن خلال مصادرهم، بل من خلال مصادر من يعتبرونهم، ويثقون فيهم، وأولهم من يعتبرونه الشيخ الوحيد للإسلام: ابن تيمية.

فقد نقل ابن تيمية الكثير من النصوص في كتابه [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] التي تدل على أن إثباب الحد لله من العقائد الأساسية التي يقتضيها الإيمان، ومن تلك النقول ما نقله عن الدارمي ـ مقرا له ـ في كتابه (نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد) قال فيه: (باب الحد والعرش: وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله تعالى لاشيء، لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدًا موصوف لامحالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له

السلفية.. والوثنية المقدسة (93)

تعني أنه لا شيء) (1)

وهكذا نقل عن الخلال وعن أبي يعلى وغيرهم ممن يسميهم أهل السنة (2) النقول الكثيرة التي تنص على أن من ضروريات المعرفة الإلهية إثبات الحد لله، ومن تلك الروايات ما رواه الخلال عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك -وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ - قال: في السماء السابعة على عرشه بحد. فقال أحمد: هكذا هو عندنا (3).

ومنها ما رروه عن حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق بن راهويه: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد.

ومنها ما رووه عن ابن المبارك أنه قال: (هو على عرشه بائن من خلقه بحد) (4)

وقد علق ابن تيمية على هذه الروايات بقوله: (ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير: قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا. أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات، فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه، وذكر الحد. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد) (5)

وبناء على هذا الذي ذكره ابن تيمية وغيره من السلف، فإن البناء المعرفي عند السلفية في هذا الجانب ينطلق من اعتقاد تحديد الله.. ولهذا أولوا هذا الأمر أهمية كبرى، واعتبروه من

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 605)

(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 612).

(3) القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات (ق 151/ب)، وأورده ابن تيمية في نقض تأسيس الجهمية (1/ 428)

(4) نقض تأسيس الجهمية (2/ 34).

(5) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 - 443).

السلفية.. والوثنية المقدسة (94)

أصول العقائد التي تفرق بين السني والبدعي، بل بين المؤمن والكافر.. فالمؤمن عندهم والسني هو الذي يقول بمحدودية الله.. والكافر والبدعي هو من يقول بعدم محدوديته.

ومن الكتب المؤلفة في هذا ما كتبه الحافظ محمود الدشتي بعنوان [إثبات الحد لله عز وجل وبأنه قاعد وجالس على عرشه]، والذي لقي العناية الكبيرة من السلفية الحديثة تحقيقا وطبعا ونشرا.

بعد هذا، فإن القول بالتحديد يقتضي البحث عن المقادير المرتبطة بالطول والحجم والكتلة ونحو ذلك.. ومع صعوبة هذا الأمر سنحاول هنا أن نذكر ما قالوه في أمثال هذه المسائل، وما رووه من روايات حولها.

وقد رأينا ـ من خلال استقراء ما ذكروه وما رووه ـ أن لجسم إلههم تقديرين مختلفين، بل متناقضين تماما: أحدهما كبير جدا.. والآخر صغير جدا.. وبينهما تقديرات أخرى..

وهذا مع غرابته إلا أنه الواقع.. فالتناقض الذي تعاملوا به مع النصوص المقدسة أو رثهم التناقض في كل المعارف التي اعتبروها حكرا لهم.

وسيرى القارئ الكريم ـ من خلال ما سنذكره من مقولاتهم ورواياتهم ـ أن كل الحسابات الرياضية والهندسية تتوقف، إلا إذا قال أصحاب هذه المدرسة بجواز التشكل على الله تعالى، وحينئذ سيلتزمون بالتزامات خطيرة تتناقض مع كل شيء، لأنهم حينها سيقولون بتعدد الآلهة، أو بتعدد الأقانيم.. أو بالأشكال المختلفة للإله.. وحينها ستسقط كل تلك الصيحات التي يصيحون بها في الحكم على الأمة بالشرك، لأنهم سيكتشفون أنهم لا يختلفون عن مشركي قريش وغيرهم إلا في شيء واحد، وهو أن آلهة قريش كانت في الأرض، وإلههم في السماء.

المقادير الكبرى

ومشكلة هذا النوع من المقادير أنه يلغي كل ما أورده أعلام المدرسة السلفية من معارف

السلفية.. والوثنية المقدسة (95)

تتعلق بالرؤية وبسكن الله مع المؤمنين في الجنة، وبالدنو والمماسة وغيرها، لأن الحسابات الرياضية تمنع كل ذلك.

وسنذكر هنا بعض مقولاتهم في هذا الجانب ونقارنها بما يقوله العلم الحديث لنرى حقيقة عظمة الله في تصوراتهم.. ونرى قبل ذلك وبعده سر نفورهم من العلم، وخاصة علم الفلك الذي فضح كل منظومتهم الفكرية والعقدية.

وقد رأينا من خلال استقراء ما ذكروه من مقادير في هذا الجانب أنها تشمل ناحيتين: الحجم، والكتلة.

الحجم

تجتهد المدرسة السلفية عند بيانها لعظمة الله تعالى في أن تصور عظمة الله تعالى الحسية، أو عظمة ذاته الجسمية من خلال تفسيرها الخاطئ لبعض النصوص المقدسة، وتورد لأجل ذلك معاني تتصورها عظيمة، بينما هي لا تساوي شيئا وفق ما دل عليه العلم الحديث.

لذلك فإن العظمة التي يطرحونها قد يصلح ذكرها لبدوي لم يعرف ما يقوله العلم، وليس له القدرة على التأمل العقلي.. أما أن يصلح مع أصحاب العقول السليمة، وخاصة من غذي منها بالمعارف والعلوم فإنه يستحيل عليه أن يقبل ذلك.. ولهذا نرى المدرسة السلفية تميل إلى العوام أكثر من ميلها للعلماء، وتميل إلى أصحاب العقول المنغلقة أكثر من ميلها لأصحاب العقول المنفتحة.

وكمثال على ذلك هذا الحديث الذي يوردونه في كل محل لبيان عظمة الله، وهو ما يروونه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]

فمع أن الآية واضحة في أن قدر الله لا يمكن أن يحاط بها.. ولذلك ضرب الله مثلا لذلك بأن كل شيء في قبضته، وأنه لا يعجزة شيء في الأرض ولا في السماء، وهو تعبير نستعمله في

السلفية.. والوثنية المقدسة (96)

حياتنا العادية عندما نقول: الأمور في قبضتنا، أو تحت سيطرتنا.. ونحو ذلك.

لكن المدرسة السلفية تفهم من النص غير ذلك تماما، فتورد لذلك حادثة قد تكون صحيحة ثابتة، ولكنها تسيء فهمها إساءة بليغة.. وسنورد الحادثة، ثم نبين كيف فهمتها المدرسة السلفية، وكيف فهمها المنزهة من المتكلمين وغيرهم.. ثم نعرضها بعد ذلك على العلم الحديث ليحكم بينهما.

والحادثة رواها عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع. فيقول: (أنا الملك)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] (1)

والحادثة لا حرج في قبولها، لأن الكلام الوارد فيها كلام يهودي، وهو ممتلئ ـ كعادة اليهود ـ بالتجسيم، لكن الخلاف بين المنزهة والمجسمة في تفسير ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفسير قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للآية.. فالمنزهة يرون أن ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لخفة عقول اليهود، ولعدم تقديرهم لله حق قدره.. ولذلك ورد في أول الآية قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}

يقول الفخر الرازي تعليقا على الرواية ـ نقلا عن الزمخشري صاحب (الكشاف) ـ: (وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة، التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها

__________

(1) صحيح البخاري برقم (7414، 7415، 7451) والمسند (1/ 429) و2 صحيح مسلم برقم (2786) وسنن الترمذي برقم (3238) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11451).

السلفية.. والوثنية المقدسة (97)

الأذهان هينة عليه) (1)

لكن المدرسة السلفية لم تفهم ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المعنى، بل فهمت منه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقر اليهودي، وأعجب بكلماته، وربما يصورون أنه صلى الله عليه وآله وسلم استفاد منها معرفة جديدة بالله.. ولذلك نراهم يرددون هذا الحديث في كل محل.

وعند عرض هذا الحديث على العلم الحديث يتبين لنا مدى ضحالة ما طرحه اليهودي من معان تجسيمية.. فقد ذكر أن الله تعالى (وضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع)، انطلاقا من أن السموات في حجمها ـ في تصوره ـ تساوي الأرض، ولذلك وضعت السموات جميعا بنجومها ومجراتها في أصبع، والأرض في أصبع أخرى.. وكأنها تساويها في الحجم أو الكتلة..

وهذا خلاف الحقائق العلمية التي تنص على أن الأرض لا تساوي شيئا أمام هذا الكون الواسع.. وسننقل هنا بعض ما ذكره العلم الحديث في هذا الجانب، لنرى سقم تلك التصورات التي تسربت إلى العقيدة الإسلامية..

فقد نص العلم الحديث في حقائقه القطعية (2) على أنه يدور حول الشمس ثمانية كواكب، بعضها ما هو أصغر من أرضنا وبعضه ما يفوق حجم أرضنا بأضعاف مضاعفة، فإذا علمنا أن قطر كوكب الأرض هو 12742 كم، فإن قطر كوكب المشتري أكبر كواكب المجموعة الشمسية هو 139822 كم.. أي أن كوكب المشتري يتسع إلى 1300 أرض مثل أرضنا. أما الشمس، فإن قطرها هو 1.39 مليون كم، وهي تتسع إلى مليون و300 ألف أرض من أرضنا.

أما شمسنا العملاقة هذه، فهي مقارنة بغيرها من النجوم فهي ليست عملاقة، بل هي قزم

__________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 473).

(2) الكون الواسع.. حقائق فلكية، المهندس محمد شوكت عوده، مجلة البلاغ، بتاريخ: 2012/ 01/13 على الرابط: [http://www.balagh.com/pages/tex.php?tid=274].

السلفية.. والوثنية المقدسة (98)

مقارنة بالعديد من النجوم الأخرى، فنجمة الشعرى اليمانية مثلاً، وهي ألمع نجوم السماء وقد عبدها البعض في الزمن الغابر بسبب شدة لمعانها وأقسم بها سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى عنها: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49]، فإن حجمها أكبر من شمسنا بخمس مرات. أما نجم قلب العقرب، وهو من ألمع نجوم السماء ويمكن رؤيته بالعين المجردة بسهولة فإن قطره يبلغ حوالي 1000 مليون كم، أمّا من حيث الحجم، فهو أكبر من الشمس بحوالي 512 مليون مرّة. ولو وضع نجم قلب العقرب مكان شمسنا لابتلع مدار عطارد والزهرة والأرض والمريخ ولوصل سطحه الخارجي إلى ما بين مدار المريخ والمشتري.

وانطلاقا مما سبق يتبين أن نجمنا الشمس عبارة عن نجم متواضع مقارنة بغيره من النجوم، وما سبب لمعانه الشديد هذا إلا لأنّه أقرب النجوم إلى الأرض. وجميع النجوم التي نراها في السماء ليلا تقع في مجرتنا درب التبانة، ويقدر العلماء أن مجرتنا تحتوي ما بين 200 و500 مليار نجم، أحدها هو الشمس. أي أن هناك عدداً هائلاً من الشموس في مجرتنا درب التبانة. ومجرتنا درب التبانة عبارة عن شيء عظيم وواسع. حيث يبلغ قطرها حوالي 100 ألف سنة ضوئية. أي أنّ الضوء بسرعته الهائلة التي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية يحتاج إلى 100 ألف سنة حتى يقطع مجرتنا من طرف إلى طرف مقابل. وبلغة الأرقام التي نعرفها فإنّ هذا يعني أن قطر مجرتنا يساوي حوالي 950 ألف مليوم مليون كم، أي قرابة مليوم مليون مليون كم.

لكن... مجرتنا ليست الوحيدة في هذا الكون. فيقدر العلماء وجود ما بين 100 و200 مليار مجرة أخرى في الكون. ومما يثير الدهشة أن عدد النجوم في مجرات أخرى أكبر من عدد النجوم في مجرتنا، فمجرة المرأة المسلسلة التي يمكن إعتبارها أقرب مجرة إلى مجرتنا تحتوي نحو مليون مليون نجم. أي خمسة أضعاف مجرتنا على أقل تقدير. أمّا أكبر مجرة مكتشفة حتى الآن فيقدر عدد نجومها بـ 100 مليون مليون نجم. ومعدل هذه الأرقام يعني أن عدد النجوم في كوننا المرئي يساوي واحداً بجانبه 24 صفراً. أي 1000000000000000000000000

السلفية.. والوثنية المقدسة (99)

نجم.

فأين هذه الأعداد جميعا أمام ذلك التصور الذي نطق به اليهودي، وضحك عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وبين القرآن الكريم أنه تصور تافه وحقير..

لكن السلفيين ـ ولغرامهم باليهود ـ آثروا ما ذكره اليهودي، واعتبروه عقيدة، وخالفوا بذلك العقل والنقل.. وكل حقائق الوجود.

بل أضافوا إلى تلك الرواية روايات أخرى رفعوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفسروا بها القرآن الكريم.. وراحوا من خلالها يتباهون على خصومهم من المنزهة، بأنهم أكثر تعظيما لله.

فمن الروايات التي أوردوها ما رواه أبو الشيخ في العظمة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق والأرضين بما فيهن من الخلائق يطوي كل ذلك بيمينه فلا ُيرى من عند الإبهام شيء ولا يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة) (1)

ومنها ما ذكره ابن تيمية في (الرسالة العرشية)، حيث قال: (والحديث مروي فى الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا وفى بعض ألفاظه قال: قرأ صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، ثم قال: (مطوية فى كفه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة).. وفى لفظ (يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها فى كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة: أنا الله الواحد)، وقال ابن عباس: يقبض الله عليهما، فما ترى طرفاهما بيده) (2)

وقال: (وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وهو يقول: (يأخذ الجبار سمواته وأرضه، وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا

__________

(1) العظمة 2/ 445 (136)

(2) الرسالة العرشية (ص: 18)

السلفية.. والوثنية المقدسة (100)

السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا، أنا الذي أعدتها، أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟) (1)

والعجب أنهم – بما يروونه من خرافات وأساطير – صاروا يعتقدون أن الأرض تساوي السماوات في ضخامتها، ولهذا تجدهم يصححون الروايات التي تصور أن الله يضع الأرض في يد والسموات بما فيها من نجوم وكواكب وغيرها في يد أخرى، لقد قال ابن القيم يشرح ذلك، أو يصوره: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلاً عن أن يقبض بهما شيئاً، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب) (2)

هذا مثال عن تصور السلفيين لعظمة الله.. والمثال الثاني، وهم أيضا يكثرون من ذكره عند حديثهم عن العظمة الحسية الجسمية لله، وهي حديثهم عن عظمة العرش.. وهو ـ وإن كان قد يكون صحيحا في بعض دلالاته ـ لكن مشكلتهم هو أنهم يربطونه بالله، لا من زاوية قدرته على الخلق والإبداع، وإنما من زاوية عظمة ذات الله، أو جسم الله تعالى الله عما يقولون علوا عظيما.

ذلك أنهم يتحدثون عن عظمة العرش، باعتباره محلا للجلوس، وبقدر الجالس يكون الكرسي، وبقدر الراكب يكون المركب.. ولها نراهم يبالغون في وصف عظمة العرش.. ليبينوا من خلاله عظمة حجم الذي يقعد عليه، ولكنهم لا يعلمون أن تلك الأرقام التي يوردونها لا تساوي شيئا أمام ما اكتشفه العلم الحديث من عظمة الكون.

وسنورد هنا رواياتهم في ذلك، والحسابات التي ذكروها، واعتمدوها، ثم نقارنها بما يقوله

__________

(1) الرسالة العرشية (ص: 17)

(2) الصواعق المرسلة 4/ 1364

السلفية.. والوثنية المقدسة (101)

العلم الذي يبغضونه بشدة [علم الفلك الحديث]

وأول رواية يرفعونها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هي ما رووه عن أبي ذر الغفاري قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده فجلست إليه، فقلت: يا رسول الله أيما آية أنزلت عليك أفضل؟ قال: (آية الكرسي، ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة) (1)

وهم يؤكدون ـ كعادتهم ـ ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يروونه عن سلفهم إما من باب التأكيد المجرد، أو لزياد الفائدة:

ومن باب التأكيد المجرد، ما رووه عن مجاهد من قوله: (ما السموات والأرض في العرش إلا مثل حلقة في أرض فلاة) (2).

ومن من باب زيادة الفائدة ما رووه عن وهب بن منبه من قوله: (العرش مسيرة خمسين ألف سنة) (3)

ورووا عن ابن مسعود تحديدا أكثر دقة للمسافة يمكن للفلكيين المعاصرين الاستفادة منه للوصول إلى محل العرش، فقد رووا عنه قوله: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) (4)

وقد فرحت المدرسة السلفية سلفها وخلفها بهذه الرواية، حيث صححها ابن القيم في

__________

(1) رواه نعيم في الحلية: (1/ 166)، والبيهقي في الأسماء والصفات: ص 511، قال الألباني في (الصحيحة): رقم 109: (وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح)

(2) عبد الله بن الإمام أحمد في السنة: ص 71، الدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 74.

(3) أورده الذهبي في العلو: ص 61، وأورده ابن كثير في البداية: (1/ 11)

(4) رواه ابن خزيمة في التوحيد (ص 105)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 401).

السلفية.. والوثنية المقدسة (102)

(اجتماع الجيوش الإسلامية) (1)، ومثله الذهبي ـ مع تشدده في التصحيح ـ في (العلو) (2)

أما موقف المعاصرين، فقد قال الشيخ ابن عثيمين: (هذا الحديث موقوف على ابن مسعود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها، فيكون لها حكم الرفع، لأن ابن مسعود لم يُعرف بالأخذ من الإسرائيليات) (3)

وقد اعتنى بها كذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي استنبط منها فوائد كثيرة منها (.. التاسعة: عِظَم الكرسي بالنسبة إلى السماء.. العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء) (4)

ولكن المشكلة هي أن هؤلاء الذين اعتنوا برواية مسعود في تحديد المسافات هم أنفسهم الذين صححوا حديثا مرفوعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي مسافات أخرى، فقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تدرون كم بعد ما بين السماء والأراضين، قالوا: لا، قال: إما واحدة أو اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوق ذلك، حتى عد سبع سموات، ثم فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال، ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء،، ثم فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك) (5)

وقد صحح ابن تيمية هذا الحديث، وقال: (إن هذا الحديث قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة

__________

(1) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 100).

(2) العلو (ص 64).

(3) القول المفيد شرح كتاب التوحيد (3/ 379).

(4) شرح كتاب التوحيد (ص 667، 668)..

(5) رواه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية: (1/ 69)، والإمام أحمد في مسنده: (1/ 257)، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية: (5/ 93)، والدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 448، والآجري في الشريعة: ص 292، واللالكائي في السنة: (3/ 390)

السلفية.. والوثنية المقدسة (103)

في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإثبات مقدم على النفي) (1)

ومثله ابن جبرين الذي قال: (فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف على نفله وقبوله ولم يتعرضوا لرده ولا تأوله ولا تشبيهه ولا تمثيله) (2)

ولكن الإشكال الذي يعرض لنا من ناحية الاختلاف في الحساب بين الروايتين، حله ابن القيم بطريقة مبسطة تنفي الإشكالات والتناقضات بين الروايات فقال: (.. فإن المسافة يختلف تقديرها بحسب اختلاف السير الواقع فيها، فسير البريد مثلاً يقطع بقدر سير ركاب الإبل سبع مرات، وهذا معلوم بالواقع فما تسيره الإبل سيراً قاصداً في عشرين يوماً يقطعه البريد في ثلاثة فحيث قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسبعين أراد به السير السريع سير البريد وحيث قدر بالخمسمائة أراد به السير الذي يعرفونه سير الإبل والركاب، فكل منهما يصدق الآخر ويشهد بصحته) (3)

وبناء على هذا يمكن للرياضيين أن يعتمدوا المسافة الأبعد، ليصلوا إلى التحديد الدقيق وفق الوحدات التي نستعملها في عصرنا الحاضر، وخاصة في علم الفلك الذي استغنى عن مسيرة الإنسان ومسيرة الراحلة بمسيرة الضوء..

والحسابات الفلكية الدقيقة تذكر أن المسافة بيننا وبين جارنا القريب القمر تبعد 384 ألف كم، ويحتاج الضوء إلى ثانية وثلث الثانية فقط ليقطع كل هذه المسافة من القمر إلى الأرض.

أمّا الشمس التي تبعد عنا حوالي 150 مليون كم تقريباً، فإنّ الضوء يحتاج إلى 8.3 دقيقة ليصل منها إلى الأرض.

أمّا أقرب النجوم إلينا بعد الشمس وهي نجمة ألفا قنطورس فإنّها تبعد عنا 4.22 سنة

__________

(1) الفتاوى (3/ 192)، ومثله مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه، انظر: تهذيب التهذيب: (7/ 92، 93).

(2) وهو عبد الله الجبرين في التعليقات على متن لمعة الاعتقاد 84

(3) حاشية ابن القيم 13/ 8.

السلفية.. والوثنية المقدسة (104)

ضوئية، وحيث إنّ السنة الضوئية (المسافة التي يقطعها الضوء في سنة) تساوي 9.46 مليوم مليون كم. فهذا يعني أن أقرب النجوم إلينا بعد الشمس تبعد عنا نحو 40 مليون مليون كم.

أمّا النجم القطبي الذي لطالما استخدمه الناس للإهتداء عن الجهات، فإنّه يبعد عنا 433 سنة ضوئية، أي أنّ الضوء يحتاج إلى 433 سنة حتى يصل إلينا منه، وهذا يساوي نحو 4 آلاف مليوم مليون كم.

أمّا أقرب مجرة إلينا وهي المرأة المسلسلة والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة من مكان مظلم كبقعة غبشاء بحجم أي نجمة أخرى تقريباً فإنّها تبعد عنا 2.5 مليون سنة ضوئية، أي نحو 24 مليون مليون مليون كم..

أما أبعد جرم سماوي يمكن رؤيته بالعين المجردة ـ في الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات ـ فهي مجرة المثلث فإنها تبعد عنا 3 ملايين سنة ضوئية، وما زال في كوننا ما هو أبعد من ذلك بكثير.

وحتى ندرك جيدا مدى ضحالة العقل السلفي وبدائيته نذكر نموذجا مصغرا ذكره الفلكيون لنظامنا الشمسي وجيرانه في حديقة ما، فإذا كان حجم الأرض بحجم كرة السلة، فإنّ القمر سيكون بحجم كرة التنس الأرضي تقريباً، وسنضع القمر (كرة التنس) على بعد 7.4 متر من الأرض (كرة السلة). أمّا الشمس فسيكون قطرها 26 متراً (حجم منزل) وستقع على بعد 2.8 كم من الأرض (كرة السلة). أمّا نجم ألفا قنطورس (أقرب النجوم إلينا) فإنّه سيقع على بعد 177 ألف كم من الأرض (كرة السلة). أما مجرتنا درب التبانة وهي الحديثة التي سنضع فيها نظامنا الشمسي فسيكون طولها 17.6 مليون مليون كم.

ولست أدري أين أضع الأرقام الهزيلة التي وضعوها.. والتي تجعل الكون جميعا بعرشه وبفرشه لا يتجاوز المجموعة الشمسية في أحسن الأحوال.

الكتلة

السلفية.. والوثنية المقدسة (105)

مثلما أعطى السلفيون الأهمية الكبرى لبيان عظم حجم إلههم، فقد أولوا أهمية كبرى لبيان ثقله العظيم.. وقد اعتمدوا في ذلك على مقدمتين صحيحتين من الناحية المنطقية:

الأولى: بيان عظمة حملة العرش وقدراتهم الهائلة.

الثانية: هي بيان عجز وضعف هؤلاء الحملة أمام العرش، وثقله عليهم.

والنتيجة الضرورية لهذا هي أن الله عظيم جدا..

ولكنا مع ذلك.. وبمعطيات العلم الحديث سنجد كل ما ذكروه من عرش وحملة عرش بل ما فوق ذلك كله لا يساوي جرما من الأجرام السماوية.. بل قد لا يساوي ثقبا من الثقوب السوداء التي تملأ السماء.

وسنورد هنا بعض رواياتهم في ذلك، ومن شاء أن ينظر ما يقوله العلم الحديث في ذلك، فإنه يمكنه أن يزور المواقع الفلكية ليتأكد بنفسه.. ويستحسن للمتردد أو المتذبذب بين التنزيه والتجسيم أن يزور المواقع الفلكية الإسلامية لأن المواقع الفلكية الكافرة لا ثقة فيها ـ كما يقول السلفيون ـ

ولو كان هذا المتردد يعرف القرآن الكريم، ويعظمه، ولم يتلطخ بتحريفات التفاسير له، فيمكنه فقط أن يجلس ويتأمل في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76] ليجد الحقيقة ناصعة واضحة لا تحتاج لا إلى ابن خزيمة ولا إلى ابن تيمية ولا إلى غيرهما.

وأول الروايات وأشهرها وأكثرها تداولا في المصادر السلفية هي ما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) (1)

__________

(1) رواه أبو داود في كتاب السنة باب في الجهمية رقم 3701 الحديث: سكت عنه المنذري وقال المناوي: إسناده صحيح كما رمز السيوطي لذلك. راجع عون المعبود 13/ 36 وفيض القدير 1/ 458)

السلفية.. والوثنية المقدسة (106)

ويروون عن ابن عباس قوله: (حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، وزعموا أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب) (1)

وقد سبق أن أشرنا إلى عظم خلق هؤلاء الملائكة، وإلى أنواعهم وأشكالهم أيضا ـ كما توردها المصادر السلفية ـ وغرضنا هنا هو أن نبين أن هؤلاء الملائكة مع قوتهم العظيمة لا يطيقون هذا الحمل العظيم الذي ذكره أحد أعلامهم المتقدمين، وهو خالد بن معدان بكل جرأة، فقال: (إنَّ الرحمن جل وعز سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون، حتى إذا قام المُسَبِّحُونَ خُفِّفَ عن حملة العرش) (2)

وهذه الرواية قد تفيد الباحثين في معرفة الخصائص العجيبة التي يتصف بها العرش الذي يؤمن به السلفية، وهو أنه يخف ويثقل بحسب التسبيح.. فيخف عند التسبيح، ويثقل عند عدمه.. ولعل هذا أيضا ما يجعل السلفي يمن على حملة العرش عند قيامه بالتسبيح لما يؤدي ذلك من تخفيف الحمل عليهم.

وقد رويت روايات كثيرة تذكر أطيط العرش (3)، وتربطه بثقل الله عليه.. ومنها ما رووه عن عمر أنه قال: (إذا جلس عز وجل على الكرسي سُمِعَ له أطيط كأطيط الرحل الجديد)، وقد ذكر في الرواية (فاقشعر رجل سَمَّاهُ أبي عند وكيعٍ فغضب وكيعٌ وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يُحَدِّثُونَ بهذه الأحاديث لاينكرونها) (4)

وقد علق البغوي على هذه الرواية بقوله: (هذا حديث أورده أبو داود سليمان بن الأشعث

__________

(1) البيهقي في الأسماء والصفادت: ص 505،

(2) رواه عبدالله بن الإمام أحمد في السنة (رقم 1026)، والدينوري في المجالسة (رقم 23، 2812) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص/252).

(3) الأطيط: نقيض صوت المحامل والرحال إذا ثقل عليها الركبان، وأط الرحل والنسع يئط أطا وأطيطا: صوت، وكذلك كل شيء أشبه صوت الرحل الجديد. لسان العرب: (1/ 92)

(4) رواه عبدالله في السنة (رقم 587)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 52)، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 67).

السلفية.. والوثنية المقدسة (107)

في الرد على الجهمية والمعتزلة. قال أبو سليمان الخطابي: وقوله: (إنه ليئط به) معناه: إنه ليعجز جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله) (1)

وقد رووا أنه لشدة قرب أهل الجنة من الله تعالى يسمعون صوت الأطيط، فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سلوا الله جنة الفردوس، فإنها صرة الجنة، وإن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش) (2)

وقد اعتبر ابن القيم الإيمان بالأطيط من العقائد الإسلامية الكبرى، فقال في نونيته (3):

واذكر حديثا لابن اسحاق الرضى... ذاك الصدوق الحافظ الرباني

في قصة استسقائهم يستشفعون... إلى الرسول بربه المنان

فاستعظم المختار ذاك وقال شأن... الله رب العرش أعظم شان

الله فوق العرش فوق سمائه... سبحان ذي الملكوت والسلطان

ولعرشه منه أطيط مثل ما... قد أط رحل الراكب العجلان

لله ما لقي ابن اسحاق من... الجهمي إذ يرميه بالعدوان

ويظل يمدحه إذا كان الذي... يروي يوافق مذهب الطعَّان

 

ويبدو من خلال الروايات التي يروونها وينتصرون لصحتها أن الملائكة حملة العرش يعانون كثيرا بسبب الثقل الكبير، وقد أوردوا من الروايات ما يوضح مواقيت ذلك بدقة، فقد رووا عن ابن مسعود أنه قال: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار. نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار، اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره، فيغيظه ذلك، فأول من يعلم

__________

(1) شَرْحُ السُّنَّةِ (1/ 175 - 176).

(2) ابن بطة في الإبانة: ق (195/ ب)، والحاكم في المستدرك: (2/ 371)، والطبراني في المعجم الكبير: ص 7966.

(3) شرح قصيدة ابن القيم 1/ 522 وانظر اجتماع الجيوش 50.

السلفية.. والوثنية المقدسة (108)

بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم، فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة) (1)

بالإضافة إلى ذلك، فهم لا يعانون فقط ـ بحسب رواياتهم ـ من غضب الله، بل يعانون أيضا من رضاه، لأن رضاه أيضا يحدث اهتزازا في العرش، فقد رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا) (2)

ورووا عن عن امرأة من الأنصار يقال لها أسماء بنت قيس بن السكن قالت: لما توفي سعد بن معاذ صاحت أمه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرقأ دمعك ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له عرش الرحمن) (3)

بالإضافة إلى ذلك، فهم يروون أن حملة العرش لا يستطيعون رفع أبصارهم من شدة النور، وقد قال بعض سلفهم في ذلك ـ: (أرجلهم في التخوم، لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور) (4)

ولا يكتفي السلفيون بأمثال هذه الروايات، بل إنهم يؤولون القرآن الكريم لينسجم مع هذه المعاني التجسيمية، فهم يروون عن ابن عباس قوله في تفسير قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ}: (ممن فوقهن من الثقل)، وفي رواية (يعني من ثقل الرحمن وعظمته- تبارك

__________

(1) الطبراني في الكبير، حديث 8886، 9/ 200، ونقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/ 476)

(2) ابن أبي شيبة في المصنف: (12366)، وابن سعد في الطبقات: (3/ 433)، والحاكم في المستدرك: (3/ 206)، وأورده الذهبي في العلو: ص 71.

(3) ابن خزيمة في التوحيد: ص 237، والإمام أحمد في المسند: (6/ 456)، وفي فضائل الصحابة: (1500)، وابن سعد: (3/ 434)، وابن أبي شيبة في المصنف: (12368)، والحاكم في المستدرك: (3/ 306)، والطبراني في الكبير: (6/ 14)، وابن أبي عاصم في السنة: (2/ 246)

(4) ابن جرير في تفسيره: (29/ 59)

السلفية.. والوثنية المقدسة (109)

وتعالى-) (1)

وهكذا صارت عظمة الله بالمفهوم السلفي تعني ثقله الشديد، وحجمه الكبير.

المقادير الصغرى

ومشكلة هذا النوع من المقادير أنه مع وفائه مع الروايات التي يحملها السلفيون على ظاهرها، والتي تتعلق بالرؤية وبسكن الله مع المؤمنين في الجنة، وبالدنو والمماسة وغيرها، كما سنراه في محله إلا أنها لا تتفق مع العظمة التي ذكروها في المقادير السابقة.

وهنا تحصل رجة كبيرة للعقل السلفي، فيقرر حينها الانتحار.. لأن الجمع بين الحجم الكبير جدا، والصغير جدا لا يمكن إلا في حالة واحدة هي الانكماش، أو التشكل.. وكلاهما يحملان من المستحيلات العقلية ما لا يمكن حصره.

ولهذا يفر العقلي السلفي إلى تحريم استعمال العقل.. والعجب في ذلك أنه يذكر ألفاظا ليس لها إلا دلالة واحدة، ثم يقول بعدها بلا كيف.

ومن أمثلة ذلك أنه يذكر الأعداد كما رأينا ذلك سابقا.. وهل يمكن للأعداد أن تكون لها كيفيات.. ومثل ذلك ـ كما سنرى ـ يذكر الألوان، واللون الأخضر خصوصا.. ثم يقول: بلا كيف.. وهل يمكن أن يكون الأخضر غير الأخضر؟

ومن أمثلة الحجم الصغير للجسم الذي يعتقدونه للإله ما رووه عن عن عبد الله بن سلمة أنه قال: أرسل ابن عمر إلى ابن عباس يسأله، هل رأى محمد ربه، فأرسل إليه ابن عباس: أن نعم، قال: فرد عليه ابن عمر رسوله: أن كيف رآه، قال: رآه في روضة خضراء روضة من الفردوس دونه فراش من ذهب، على سرير من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة

__________

(1) الحاكم في مستدركه: (2/ 442)، وابن جرير في تفسيره: (25/ 7)

السلفية.. والوثنية المقدسة (110)

رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة أسد، وملك في صورة نسر (1).

فهذا الحديث، وبهذه الصورة لا يمكن حمله إلا على جسم صغير، أو هو أقل بكثير من حجم الكواكب والنجوم والمجرات.. بل إن رؤيته في روضة خضراء يدل على أن الروضة أكبر منه.. والسرير الذي يحمله أكبر منه.

ومن الروايات القريبة من هذا ما رووه عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني جبريل فقال: إن الرب اتخذ في الجنة واديا من مسك أفيح، فإذا كان يوم الجمعة فينزل عن كرسيه من عليين، وحف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر، ويجيء النبيون فيجلسون على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف فيجلسون على ذلك الكثيب، ويتجلى لهم ربهم، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فاسألوني قال: فيسألونه الرضا، قال: فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا النظر إلى وجه ربهم - عز وجل-) (2)

فصورة هذا الحديث كذلك تدل على أن الحجم والمقادير محدودة جدا، بل كأن الله عز وجل في هذا الحديث لا يختلف عن أولئك الملوك الذين يجمعون حاشيتهم، ويصلونهم بأنواع الصلات.

ومن الروايات الواردة في هذا عن أبي النضرة قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة على هذا المنبر فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (آتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب، فيقال لي: من أنت؟ فأقول: أنا محمد؟ فيفتح لي، فيتجلى لي ربي عز وجل فأخر له ساجدا وهو على سريره أو

__________

(1) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: ص 198، والآجري في الشريعة: ص 494، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 35، والبيهقي في الأسماء والصفات: ص 557 - 558.

(2) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية: ص 45، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 48، 49، والذهبي في العلو: ص 28. قال الذهبي: هذا حديث مشهور وافر الطرق.

السلفية.. والوثنية المقدسة (111)

على كرسيه- شك حماد-) (1)

وفي رواية أخرى: (حتى آتي الجنة فأخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيفتح لي، وأحيا ويرحب بي؟ فإذا دخلت الجنة نظرت إلى ربي- عز وجل- على عرشه فخررت ساجدا)

وقد ورد في الرواية في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذن على الله في داره، فقد ورد فيها الحديث بهذه الصيغة، قال ابن القيم: (وفي بعض ألفاظ البخاري في صحيحه (فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه)، قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين هكذا قال في داره في المواضع الثلاث يريد مواضع الشفاعات التي يسجد فيها ثم يرفع رأسه) (2)

وقال الشيخ ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري على هذا الحديث: (هذا الحديث ليس فيه إشكال إلا قوله: (أستأذن على ربي في داره)، فيقال: إن دار الله عزوجل التي جاءت في هذا الحديث لا تشبه دور البشر، تكنه من الحر ومن البرد ومن المطر، ومن الرياح، لكن هي دار الله أعلم بها)

وهذا أيضا يدل على الحجم الصغير لإلههم مقارنة بحجم داره، لأن الدار في العادة أكبر من صاحبها.. وهذا الحديث ـ وهو في صحيح البخاري كما ذكرنا ـ يجعل السلفيين في حيرة من أمرهم: فهل إلههم فوق العرش؟ أم أنه في داره في الجنة؟.. أم أنه في السماء الدنيا..؟

بل ورد في بعض الأحاديث التي اهتم بها جميع السلفيين بمن فيهم ابن تيمية وابن القيم ما يدل على أن إلههم ينزل إلى الأرض.. وهو في هذه الحالة أصغر منها بكثير..

وقد ذكر ابن تيمية في غرائب حديث النزول هذه الرواية التي تطفح بالتجسيم والتشبيه: (ثم تبعث الصيحة فلَعَمْر إلهك ما تدعُ على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك عز وجل السماء..

__________

(1) الدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 347، أحمد في مسنده: (1/ 281 - 282، 295 - 296)

(2) اجتماع الجيوش الإسلامية (53).

السلفية.. والوثنية المقدسة (112)

قلت يا رسول الله فما يعمل بنا ربنا جل وعز إذا لقيناه؟ قال تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قِبَلكم بها فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة) (1)

فهذه الرواية تصور الله العلي العظيم وهو يطوف في الأرض، وتصوره وهو يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح بها.. وقد قال ابن القيم تلميذ ابن تيمية النجيب بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة.. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان،.. وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم) (2)

بل إنه يرتب على منكر هذا حكما خطيرا، فينقل عن سلفه أبي عبد الله بن مندة مقرا له: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة) (3)

ثم لا يكتفي بذلك.. بل يذهب يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه كل صنوف

__________

(1) مجموع الفتاوى (4/ 184)

(2) زاد المعاد 3/ 677 - 682.

(3) زاد المعاد 3/ 677 - 682.

السلفية.. والوثنية المقدسة (113)

التجسيم والتشبيه، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله.. والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل.. وقوله: فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح) (1)

وقد علم ابن تيمية الإشكالات التي قد تطرح من وراء هذه الرواية، وأنها تقضي على كل ما صوروه عند ذكر العرش من عظمة الله، فقال ـ ردا عليهم بغلظته المعهودة ـ: (يقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به) (2)

وهكذا تنتهي حدود عظمة الله عند السلفية إلى هذه الحكمة التيمية العظيمة: (ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به)

__________

(1) زاد المعاد 3/ 677 - 682.

(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 242)

السلفية.. والوثنية المقدسة (114)

أعضاء.. ووظائف

يرى أصحاب الرؤية التنزيهية ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرفان ـ أن من مقتضيات تقديس الله تعالى عن الحدود والمقادير وما يلزم عنهما، ويرتبط بهما، كونه تعالى مقدسا أيضا عن التركيب والأعضاء وما شاكلهما، لأن التركيب تعدد، والتعدد شرك.. والمركب فقير، والله غني..

فالجزء في التركيب مقدّم على الكل.. وكلّ جزء من المركّب مغاير لغيره.. وبذلك يكون المركّب مفتقراً إلى أجزائه.. وغنى الله تعالى المطلق يحيل عليه كل أنواع الافتقار.

ثم إنه لو افتقرت الذات الإلهية إلى التركيب، فإنّ الأجزاء التي ستركب منها لا تخلو من أن تكون أجزاء قديمة، فيلزم تعدّد القدماء، وهذا باطل.. أو أن تكون أجزاء حادثة، فيلزم تركيب الواجب من أجزاء غير واجبة، وهذا باطل.

وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن المركّب بحاجة إلى من يركّبه، وهو منفي عن الذات الإلهية، لأنها بذلك لن تبقى ذاتا إلهية..

ثم إن الكل المركب من أجزاء لابد أن يكون كل جزء من أجزائه عالما خاص، ويكون مختلفا عن سائر الأجزاء اختلافا كليا.. وهو بذلك يكون منعدما عن الأجزاء الأخرى، ويكون بجوانبه الأخرى منعدما عن هذا الجانب.. فيلزم هذا الأمر النقص في جميع الجوانب، وبالتالي يستوجب هذا الأمر النقص والقصور في الذات الإلهية، وهذا باطل.

ثم إنه لو كان الله تعالى مركّباً من الأجزاء لكان علمه وقدرته ثابتة لكلّ واحدة من أجزائه المتغايرة، فيكون كلّ جزء من الله عالماً قادراً، فتتعدّد الآلهة، وهذا باطل (1).

__________

(1) انظر في الردود على التركيب معظم كتب الكلام، ومنها: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: ص 405، قواعد العقائدص 68، وغيرها من كتب العقائد.

السلفية.. والوثنية المقدسة (115)

هذه بعض الوجوه العقلية البديهية التي يستند إليها أصحاب الرؤية التنزيهية في القول بالوحدة المطلقة لله: الوحدة المتصلة.. والوحدة المنفصلة.

ولهذا اعتبر جميع منزهة الأمة من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وإمامية وزيدية وإباضية وصوفية أن من مقتضيات التوحيد نفي التركيب عن الله تعالى، لأنه يدخل ضمن الأركان الكبرى للوحدة الإلهية، والتي تشمل نفي كل أنواع الكميات (الكم المتصل في الذات وهو تركبها من أجزاء.. والكم المنفصل فيها وهو تعددها بحيث يكون هناك إله ثان فأكثر) (1)

ويشير إلى هذا النوع من التوحيد كل النصوص التي تخبر عن تنزيه الله وغناه المطلق، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]

ويدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقد قال الفخر الرازي في وجه دلالتها على هذا النوع من التوحيد: (احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: ليس كمثله شيء ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد ليس كمثله شيء في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى

__________

(1) انظر تفاصيل ذلك في شرح الجوهرة 152،153،وحاشية ابن الأمير 140،والاعتقاد والهداية للبيهقي 52.

السلفية.. والوثنية المقدسة (116)

في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسما) (1)

ويدل عليه دلالة خاصة قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1، 2]، فاسم الله الأحد يشير إلى الوحدانية المطلقة لله في جميع جوانبها.

بالإضافة إلى هذا، فإن الرؤية التنزيهية لله تنزه الله تعالى عن الحاجة إلى الجارحة أو أي آلة، فهو يسمع من غير حاجة إلى أذن، ويبصر من غير حاجة إلى عين، وهكذا يفعل كل شيء من غير حاجة لأي شيء، لأنه الغني بذاته عن كل شيء، فلا يحتاج إلى شيء.

وهذا أيضا من المقتضيات العقلية التي تنزه الله عن الأعضاء.. فما حاجة الله العظيم لأعضاء لا يستعملها؟

هذه هي الرؤية التنزيهية لله تعالى.. وهي ـ كما رأينا ـ متوافقة مع القرآن والبرهان والعرفان.. ويشهد لها كل شيء.. وهي لبساطتها يسهل تقبلها والتسليم لها.. وهي لا تثير من الشبهات ما يثيره اعتقاد التركيب..

أما الرؤية السلفية لهذه المسألة العقدية الخطيرة، فهي مختلفة تماما.. ولذلك تعتبر ـ من وجهة نظر الرؤية التنزيهية ـ رؤية شركية، لأنها لا تنفي الكم المتصل.. وبذلك تقول بتعدد القدماء..

ولهذا أطلق الفخر الرازي على كتاب التوحيد لابن خزيمة وصف (كتاب الشرك)، لأنه اعتمد على ذكر ما يمكن اعتباره أبعاضا لله.. يقول في ذلك: (اعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه (بالتوحيد)، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: (نحن نثبت لله وجها ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره،

__________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 582)

السلفية.. والوثنية المقدسة (117)

ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء..) (1)

وبعد أن حكى كلامه، والذي سنذكر أمثاله في هذا الفصل، رد عليه بقوله: (وأقول: هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين، ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية [أي بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فنقول المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول: المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلاوة، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة، وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض، فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات. إذا عرفت هذا فنقول: اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثم يصير متحركا، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات، إذا عرفت هذا فنقول: الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها، فالاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض،

__________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 582)

السلفية.. والوثنية المقدسة (118)

فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها) (1)

إلى آخر رده المفصل، وهو يرينا مدى المعاناة التي يعانيها المنزهة في إثبات أغراضهم للمجسمة.. وخاصة مع بغضهم الشديد للتحليل العقلي.. فهم لا يريدون من محاورهم إلا أن يورد الآثار والحكايات التي يتيسر على عقولهم هضمها.

ولهذا نراهم يواجهون المتكلمين أمثال الفخر الرازي وغيره بما سمعوه من سلفهم من روايات تلقفوها كما يتلقفوا القرآن.. وألغوا بها عقولهم وفطرتهم وإنسانيتهم.

ومن تلك الروايات التي يكثرون من الاستدلال بها في هذا المقام خصوصا للدلالة على عدم انتفاء التركيب عن الله ما أوردوه في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]

فقد رووا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قال: هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر، قال أحمد أرانا معاذ قال: فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد، قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال من أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقول أنت ما تريد إليه) (2)

وفي رواية أخرى عن أنس: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}

__________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 583)

(2) أحمد في المسند: (3/ 125).

السلفية.. والوثنية المقدسة (119)

قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى، قال: فساخ الجبل وخَرَّ موسى صعقاً) (1)

ومن تلك الروايات ما يذكرونه عند وصف الله بما يطلقون عليهما صفتي [الْحُجْزَةُ وَالْحَقْوُ]، واللذان يعنيان في ظاهرهما [موضع عقد الإزار وشده]، ويذكرون أنهما (صفتان ذاتيان خبريَّتان ثابتتان بالسنة الصحيحة)، ويستدلون لهما بما رووه عن ابن عباس: (إنَّ الرحم شَجْنَةٌ آخذةٌ بحُجزة الرحمن؛ يصل من وصلها، ويقطع من قطعها) (2)

وبما رووه عن أبي هريرة قال: (خلق الله الخلق، فلما فرغ منه؛ قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه! قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة..) (3)

وهم يستدلون بهذا، ويأخذون بظاهره، معتبرين الحقو بعضا من الله، ولهذا تمسكت به الرحم، كما يتمسك أحدنا بآخر عند التوسل إليه، وقد قال الشيخ عبد الله الغنيمان في (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) ناقلاً من (نقض التأسيس) لشيخ الإسلام، ومن (إبطال التأويلات) لأبي يعلى الفراء، ومعلقاً: (قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده على الرازي في زعمه أنَّ هذا الحديث: (يعني: حديث أبي هريرة المتقدم) يجب تأويله: قال: فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنِّزاع فيه كالنِّزاع في نظيره؛ فدعواك أنه لا بدَّ فيه من التأويل بلا حجة تخصه؛ لا تصح. وقال: وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أنَّ هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق؛ فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت. قال ابن حامد: ومما يجب التصديق به: أنَّ لله حَقْواً.

__________

(1) سنن الترمذي: (5/ 115)

(2) رواه الإمام أحمد (2956 - شاكر). وابن أبي عاصم في السنة (538)؛ بإسناد حسن. وانظر: السلسلة الصحيحة (1602).

(3) رواه البخاري (4830) وغيره.

السلفية.. والوثنية المقدسة (120)

قال المروزي: قرأت على أبي عبد الله كتاباً، فَمَرَّ فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ منها؛ أخذت بحقو الرحمن)، فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أنَّ تكون كفرت. قال أبو عبد الله: هذا جهمي. وقال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث هشام بن عمار؛ أنه قريء عليه حديث الرحم: (تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن تعالى..)، فقال: أخاف أنَّ تكون قد كفرت. فقال: هذا شامي؛ ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول؟ قال: يمضي كل حديث على ماجاء. وقال القاضي أبو يعلى: اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأنَّ (الحقو) و(الحجزة) صفة ذات، لا على وجه الجارحة والبعض، وأنَّ الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع، وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله - رحمه الله - هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد. قلت: قوله: (لا على وجه الجارحة والبعض)، وقوله: (لا على وجه الاتصال والمماسة)؛ قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع التي أفسدت عقولَ كثير من الناس؛ فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقاً، ولا إثباته مطلقاً؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً، فلا بدَّ من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأنَّ كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خال منه، وليس هو بحاجة إليه؛ فهو واضح، وليس ظاهر هذا الحديث أنَّ لله إزاراً ورداءً من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد؛ فإنه لو قيل عن بعض العباد: إنَّ العظمة إزاره والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب. فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأنَّ تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد؛ فكيف يدعى أنَّ هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى، فإنَّ كل من يفهم الخطاب ويعرف اللغة؛ يعلم أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب) (1)

__________

(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383).

السلفية.. والوثنية المقدسة (121)

هذا نموذج من طروحاتهم المتعلقة بما يسمونه (صفات ذات)، وهي في الحقيقة ليست سوى أعضاء وتراكيب لله.. وإنما ذكرنا النص بطوله لنتبين المنطلقات الفكرية التي يصدرون منها في أمثال هذه العقائد الخطيرة.. فهم لا يصدرون من براهين عقلية ولا قرآنية.. وإنما من كلام أسلافهم الذين ملأوهم خوفا من التجهم.. فصاروا يفضلون التشبيه والتجسيم على أن يرموا بالتجهم والتعطيل.

ومن الروايات الصريحة التي يستندون إليها في القول بجواز التركيب على الله ما رووه عن عكرمة قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن تدمدم على قوم تجلى لها) (1)

وقد صرح ابن القيم بصحة هذه الرواية، بل اعتبر ما ورد فيها من العقائد التي أثبتها في نونيته المشهورة التي لا يزال السلفيون يحفظونها، ويحرصون عليها، فقد جاء فيها:

وزعمت أن الله أبدى بعضه... للطور حتى عاد كالكثبان

لما تجلى يوم تكليم الرضى... موسى الكليم مكلَّم الرحمن (2)

وقد استشهد ابن تيمية بهذه الرواية على صحة إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف ـ وهو يريد في الحقيقة بأن العضو بعض الجسم ـ فيقول: (وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره، فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانُهم. وإذا حُقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظياً أو اعتبارياً، فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظٍ واعتبار واختلافِ

__________

(1) السنة 2/ 470 (1069) الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 1/ 248 (961) وعزاه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 87 إلى الطبراني في كتاب السنة.

(2) انظر شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم 1/ 230

السلفية.. والوثنية المقدسة (122)

اصطلاحٍ في مسمى (بعض) و(غير) كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة.. فهذا إن كان أحد أطلق البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا. وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين) (1)

ثم نقل الرواية التي ذكرناها، ثم قال: (وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل والتي فيها أنه ما تجلى منه إلا مثل الخنصر، وفي قصة داود: قال: يدنيه حتى يمس بعضه. وهذا متواتر عن هؤلاء.. ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام. فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضاً وينفصل بعضه عن بعض، أو يمكنُ ذلك فيه كما يقال حدُّ الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها فإنه يجوز أن تتفرق وتنفصل والله سبحانه منزه عن ذلك كله مقدس عن النقائص والآفات. وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان لازما له لا يفارقه والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أنه قادر ثم أنه عالم.. فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيص بهذا المعنى فهو معطل جاحد للرب فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم.. فقول السلف والأئمة ما وصف به الله من الله وصفاته منه وعِلم الله من الله ونحو ذلك مما استعملوا فيه لفظ (من) وإن قال قائل معناها التبعيض فهو تبعيض بهذا الاعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا الاعتبار) (2)

__________

(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 - 92 وانظر كلام الفراء في إبطال التأويلات 2/ 340.

(2) الفتاوى الكبرى 5/ 85 - 92.

السلفية.. والوثنية المقدسة (123)

ومن الروايات التي استدلوها بها كذلك ما أوردوه عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، فقد رووا عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال: (حتى يضع بعضه عليه) (1)، وفي رواية: (ذكر الدنو منه حتى ذكر أنه يمس بعضه) (2)، وفي رواية: (ما يأمن داود عليه السلام يوم القيامة حتى يقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ فيقال اُدنه فيقول ذنبي ذنبي فيقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ مكاناً الله أعلم به قال سفيان كأنه يمسك شيئا) (3)، وفي رواية عن مجاهد: (حتى يأخذ بقدمه) (4)، وفي رواية عن مجاهد: (إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله عز وجل له كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله له كن خلفي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي) (5) وفي رواية: (حتى يضع يده في يده) (6)

وغيرها من الروايات، والتي لا يستفاد منها غير تركيب الله تعالى من أجزاء وأبعاض وأعضاء.. ولهذا قال القاضي أبو يعلى تعليقا عليها: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره إذ ليس فيه ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدماً وفخذاً وجارحة ولا أبعاضاً بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا الذات والوجه واليدي) (7)

وقال ابن القيم مشيرا إلى أمثال هذه الروايات معتبرا المنكر لها جهميا معطلا: (وقد قال غير واحد من السلف كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، فزاده على المغفرة أمرين

__________

(1) السنة 2/ 475 (1086) و2/ 507 (1180) الخلال في السنة 1/ 262 (319)

(2) السنة 2/ 503 (1165)

(3) السنة 2/ 502 (1161)

(4) السنة 2/ 507 (1182)

(5) السنة 1/ 262 (322) ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 342 (31888)

(6) السنة 2/ 502 (1163)

(7) انظر حاشية المرجع السابق 1/ 207 - 210

السلفية.. والوثنية المقدسة (124)

الزلفى وهي درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف) (1)

بعد بيان قول السلفية بجواز التركيب على الله تعالى، نحاول في هذا الفصل أن نذكر بعض الأعضاء التي يحرص السلفية على التعريف بالله من خلالها، مع ذكر وظائف كل عضو منها، وسنكتفي بذكر الروايات التي اعتمدوها، واستنباطاتهم منها، فخير ما يبرهن على فساد أقوالهم فيها هو حكايتها.. وسنبدأ بالطريقة التي يرتبون بها أمثال هذه الصفات من الأعلى إلى الأسفل.. أو من الوجه إلى القدم.

وكنا نود لو قسمنا هذه الأعضاء كما نقسم جسم الإنسان إلى رأس وجذع وأطراف، ولكن منعنا من ذلك أنهم لا يقولون بهذه التسميات، بل يحرمون أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه، مع أنهم في قرارة نفوسهم، بل في كتبهم يصرحون بمعاني هذه الأمور جميعا.

فهم يثبتون لله شعرا ووجها وفما وأضراسا وعينين.. وكل شيء يرتبط بالرأس.

وهم يثبتون الله صدرا وحقوا.. وهذا يرتبط بالجذع.

وهم يثبتون لله يدين وذراعين وأصابع وأنامل، ورجلين وقدمين.. وكل هذه ترتبط بالأطراف.

وبناء على هذا سنقتصر على الأعضاء الكبرى التي ذكروها، وندخل ضمنها التفاصيل المرتبطة بها، وهذه الأعضاء الكبرى هي: الوجه، والفم، والعين، واليد، والأصابع، والقدم والساق.. وضمنها سنذكر باقي الأعضاء كالفم والأضراس والذراع والأنامل وغيرها..

الوجه

وهو من الصفات التي أعطاها السلفية مساحة كبيرة من اهتمامهم، وسنرى كلامهم عليها

__________

(1) طريق الهجرتين 1/ 357

السلفية.. والوثنية المقدسة (125)

بتفصيل عند الحديث عن الصورة.. لأن كمال الوجه في صورته.. ولهذا يذكرون عند حديثهم عن جمال الله جمال وجهه، وأن المؤمنين في الجنة عند النظر إليه ينسون كل أنواع اللذات الأخرى.

وهم يعتبرون الوجه كغيره من الصفات الذاتية التي يجب الإيمان بها، ومن لم يؤمن بها على الهيئة التي يذكرونها يكون جهميا ومعطلا وكافرا.. بل أكفر من اليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى يثبتون الوجه لله، والمنزه ينفيه.

يقول ابن خزيمة بعد إيراده للنصوص التي يرى أنها تثبت صفة الوَجْه لله تعالى: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر؛ مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا؛ من غير أن نشبه وَجْه خالقنا بوَجْه أحد من المخلوقين، عز ربنا أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين) (1)

ومن الأدلة التي يستدلون بها على ذلك قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ} [البقرة: 272]، وقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، وهذا استدلال عجيب جدا.. فهل عمل المؤمن ابتغاء لله جميعا، أم ابتغاء لوجهه فقط؟

وهذا الإشكال يرد عليهم في خصوص قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]

والذي يدل دلالة واضحة على أن المراد بوجه الله ذاته، وليس عضوا منه، كما نص على ذلك المنزهة، قال الشريف الرضي: وقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وهذه استعارة، والوجه هنا عبارة عن ذات الشيء ونفسه، وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] أي: ويبقى ذات ربك، ومن الدليل على ذلك: الرفع في قوله: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، لأنه

__________

(1) كتاب التوحيد (1/ 25).

السلفية.. والوثنية المقدسة (126)

صفة للوجه الذي هو الذات، ولو كان الوجه هنا بمعنى العضو المخصوص على ما ظنه الجهال، لكان وجه الكلام أن يكون: ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، فيكون (ذي) صفة للجملة لا صفة للوجه الذي هو التخطيط المخصوص كما يقول القائل: رأيت وجه الأمير ذي الطول والإنعام، ولا يقول: ذا؛ لأن الطول والإنعام من صفات جملته لا من صفات وجهه، ويوضح ذلك قوله في هذه السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] لما كان الاسم غير المسمى وصف ـ سبحانه ـ المضاف إليه، ولما كان الوجه في الآية المتقدمة هو النفس والذات، قال تعالى: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ولم يقل: ذي الجلال والإكرام) (1)

ويقول: (ولو كان الكلام محمولا على ظاهره لكان فاسدا مستحيلا على قولنا وقول المخالفين؛ لأنه لا أحد يقول من المشبهة والمجسمة الذين يثبتون لله ـ سبحانه ـ أبعاضا مؤلفة وأعضاء مصرفة أن وجه الله ـ تعالى ـ يبقى وسائره يبطل ويفنى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (2)

ومثله قال الفخر الرازي: (لو كان الوجه هو العضو المخصوص، لزم أن يفنى جميع الجسد والبدن، وأن تفنى العين التي على الوجه، وأن لا يبقى إلا مجرد الوجه) (3)

لكن المجسمة يعتبرون القول بهذا، وخاصة من علم كبير من أعلام اللغة مثل الشريف الرضي تجهما وتعطيلا، ولهذا، فإن أول ما يبادرون به من يعرضه عليهم مثل هذا اتهامه بالتجهم والتعطيل، وقد حدث يحيى بن شبل قال: كنت جالسا مع مقاتل بن سليمان وعباد بن كثير، إذ جاء شاب فقال: ما تقول في قوله عز وجل: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ}، فقال مقاتل: هذا جهمي ثم قال: (ويحك إن جهما والله ما حج البيت ولا جالس العلماء، وإنما كان رجلا أعطي لسانا) (4)

__________

(1) تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي (ص 204).

(2) تلخيص البيان في مجازات القرآن (ص 275). وانظر: دفع شبه التشبيه (ص 113).

(3) أساس التقديس (ص 155).

(4) الإبانة (2/ 13/90 - 91/ 319) والسنة للخلال (5/ 84 - 85).

السلفية.. والوثنية المقدسة (127)

بالإضافة إلى ذلك، فقد حاولوا أن يتنصلوا منه بوجوه من الحيل تخلوا بها عن نفيهم المطلق للتأويل، ومن تلك الردود هذا الرد العجيب الذي ذكره ابن تيمية يحكي فيه مجلسا من مجالس المناظرة التي جمعته مع المنزهة، وفيها نرى ابن تيمية، وكيف يحتال على خصومه بأنواع الحيل، وبما أن النص طويل، فقد اقتصرت منه على القدر الذي نحتاج إليه، قال ابن تيمية: (لما كان إثبات هذه الصفة [صفة الوجه] مذهب أهل الحديث والمتكلمة الصفاتية.. وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم.. صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع، فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف، والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنها ليست صفة فكذلك غيرها.. ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115،] فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد قبلة الله فقال أحد كبرائهم - في المجلس الثاني - قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل فوقع في قلبي ما أعد فقلت: لعلك قد ذكرت ما روي في الآية.. قال: نعم. قلت: المراد بها قبلة الله فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف، ولم يكن هذا السؤال يرد علي؛ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة وكلامي كان مقيدا كما في الأجوبة فلم أر إحقاقهم في هذا المقام بل قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، ولا تندرج في عموم قول من يقول: (لا تؤول آيات الصفات)، قال: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله. قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا. ليست من موارد النزاع فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه - هنا - القبلة فإن (الوجه) هو الجهة في لغة العرب يقال: قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا (الوجه) أي: إلى هذه الجهة وهذا كثير مشهور فالوجه هو الجهة.. فالمعنى:

السلفية.. والوثنية المقدسة (128)

أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا.. فأخبر أن الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله) (1)

وهكذا يحتالون على النصوص بوجوه الحيل التي لا يمكن أن نسردها هنا..

ومثلما علقوا كل عضو من الأعضاء بأدوار يمارسها، فقد نصوا على بعض أدوار الوجه في الرواية التالية، والتي فهموها بمعناها الحرفي، وهي ما رووه عن ابن عمر قال: (إن الله عز وجل مقبل على عبده بوجهه ما أقبل إليه، فإذا التفت انصرف عنه) (2)

وفي رواية عن حذيفة: (لا تتفل بين يديك ولا عن يمينك، فإن عن يمينك كاتب الحسنات، فإن الرجل إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى، أقبل الله تعالى إليه بوجهه يناجيه، فلا يصرفه عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء) (3)

ومن أدوار الوجهة أو أوصافه ـ كما ذكروا ـ (الْبَشْبَشَةُ أو الْبَشَاشَةُ)، وقد استدلوا لها بالكثير من المرويات، منها ما رووه عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم) (4)

وقد علق أبو يعلى على هذا الحديث وأمثاله بقوله: (.. وكذلك القول في البشبشة؛ لأن معناه يقارب معنى الفرح، والعرب تقول: رأيت لفلان بشاشة وهشاشة وفرحاً، ويقولون: فلان هش بش فرح، إذا كان منطلقاً، فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح) (5)

وقال الدارمي: (وبلغنا أنَّ بعض أصحاب المريسي قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد

__________

(1) الفتاوى 6/ 14 - 17.

(2) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 89) رقم (656)

(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1/ 432 ـ 433). وابن خزيمة في التوحيد (1/ 35 ـ 36) رقم (9)

(4) رواه ابن ماجه واللفظ له (صحيح سنن ابن ماجه/652). وأحمد في المسند (8332). والطيالسي (2334). والحاكم (1/ 213)

(5) إبطال التأويلات (1/ 243).

السلفية.. والوثنية المقدسة (129)

الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؛ مثل: سفيان عن منصور عن الزهري، والزهري عن سالم، وأيوب بن عوف عن ابن سيرين، وعمرو بن دينار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وما أشبهها؟) قال: ((فقال المريسي: لا تردوه تفتضحوا، ولكن؛ غالطوهم بالتأويل؛ فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف؛ كما فعل هذا المعارض سواء.. وسننقل بعض ما روي في هذه الأبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه.. [ثم ذكر أحاديث في صفة الحب ثم البغض ثم السخط ثم الكره ثم العجب ثم الفرح، ثم حديث أبي هريرة السابق في البشاشة، ثم قال] وفي هذه الأبواب روايات كثيرة أكثر مما ذكر، لم نأت بها مخافة التطويل) (1)

الفم

وقد اعتبروه أيضا من صفات الله الذاتية، قال أبو يعلى: (اعلم أنه غير ممتنع إطلاق الفي عليه سبحانه، كما لم يمتنع إطلاق اليد والوجه والعين، وقد نص أحمد على ذلك في رسالة أبي العباس أحمد بن جعفر الفارسي: فقال: كلم الله موسى تكليما من فيه) (2)

ومن الوظائف المرتبطة به الكلام والضحك: أما الكلام، فسنتحدث عنه بتفصيل في الفصل الأخير من هذا الكتاب، لأنهم يعنون به الحديث بالشفتين.. وقد رووا عن بعض سلفهم في ذلك أنه سئل: (كيف كلم الله عز وجل موسى عليه السلام؟ قال: مشافهة) (3)، ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كأن الخلق لم يسمعوا القرآن حين سمعوه من فيه يوم القيامة) (4)

وأما الضحك، وهو عندهم من الصفات المرتبطة بالفم، فقد أوردوا فيه نصوصا كثيرة،

__________

(1) في رده على بشر المريسي (ص 200).

(2) إبطال التأويلات (ص: 387).

(3) 1/ 286 (547). وأخرجه الطبري في التفسير 6/ 29

(4) إبطال التأويلات (ص: 387).

السلفية.. والوثنية المقدسة (130)

منها ما رووه عن أبي رزين،، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده، وقرب غيره)، وقال: قلت: أو يضحك الرب عز وجل؟ قال: نعم، قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرًا (1).

ورووا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ضحك الله عز وجل من رجلين قتل أحدهما صاحبه ثم دخلا الجنة) (2)، ورووا عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (يتجلى لنا ربنا ضاحكًا) (3)

ورووا عن طلحة بن البراء، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر بموت طلحة رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: (اللهم القه وهو يضحك وأنت تضحك إليه) (4)

بل ذكروا ـ فوق ذلك ـ أن لله تعالى في فمه أضراسا، وقد رووا في ذلك عن جابر أنه سئل عن الورود، وذكر الحديث، وقال فيه: (فيقول الله، عز وجل: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (حتى تبدو لهاته وأضراسه) (5)

وقد علق أبو يعلى على هذه الأحاديث وغيرها بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذه الأحاديث على ظاهرها من غير تأويل، وقد نص أحمد على ذلك في رواية الجماعة، قال في رواية حنبل: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديقها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن عبد الله التيمي فقال: صدوق، وقد كتبت عنه من الرقايق، ولكن حكي عنه أنه ذكر حديث الضحك فقال: مثل الزرع الضحك، وهذا كلام الجهمية، قلت: ما تقول في حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر (فضحك حتى بدت)، قال: هذا يشنع به، قلت: فقد حدثت به، قال: ما أعلم أني حدثت به إلا محمد بن داود يعني المصيصي، وذلك أنه طلب

__________

(1) رواه الإمام أحمد في المسند 4/ 11 ورواه ابن ماجه في السنن 1/ 64 رقم (181)؛ ورواه ابن أبي عاصم في السنة 1/ 244.

(2) رواه مسلم في صحيحه 3/ 1504، 1505.

(3) رواه الدارمي في الرد على الجهمية ص 288.

(4) إبطال التأويلات (ص: 216)

(5) إبطال التأويلات (ص: 214)، وعزاه إلى الدارقطني في الصفات.

السلفية.. والوثنية المقدسة (131)

إلي فيه، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول؟ قال: بلى، قال أبو بكر الخلال: رأيت في كتاب لهرون المستملي أنه قال لأبي عبد الله: حديث جابر بن عبد الله (ضحك ربنا حتى بدت لهواته أو قال أضراسه) ممن سمعته؟ قال: حدثنا روح، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يضحك حتى بدت لهواته أو قال أضراسه)، فقد نص على صحة هذه الأحاديث والأخذ بظاهرها والإنكار على من فسرها، وذلك أنه ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما نستحقه) (1)

العين

وقد اعتبروها أيضا من صفات الله الذاتية، بل اعتبروها آلة الإبصار لله.. بل ـ وللمزيد من التجسيم ـ أثبتوا لله عينين، وأولوا ما ورد في القرآن الكريم مما يدل على أكثر من ذلك، قال ابن تيمية ردا على من أود عليه هذا الاعتراض: (دعواه أن ظاهر القرآن أن لله أعيناً كثيرة وأيدياً كثيرة باطلٌ وذلك أنه وإن كان قد قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر 14] وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود 37] وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور 48] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس 71] فقد قال في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه 39 - 40] فقد جاء هذا بلفظ المفرد في موضعين فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دعوى غيره الظهور في معنى الإفراد لكونه قد جاء بلفظ المفرد في موضعين) (2)

وقد عقد ابن خزيمة مقارنات عجيبة بين عين الله وعين البشر، وسنذكر النص مع طوله الشديد، لنبين من خلاله أن اعتبارهم للعين صفة دجل وخرافة، لأنهم في قرارة نفوسهم لا يريدون بها إلا العضو الذي لا يختلف عن عضو الإنسان إلا في كيفيته وشكله.

__________

(1) إبطال التأويلات (ص: 217)

(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (5/ 474).

السلفية.. والوثنية المقدسة (132)

يقول ابن خزيمة في معرض دفاعه عن تنزيه المجسمة: (نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا خافية في السماوات السبع والأرضين السبع، ولا مما بينهم ولا فوقهم، ولا أسفل منهن لا يغيب عن بصره من ذلك شيء، يرى ما في جوف البحار ولججها كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه) (1)

هذا بالنسبة لعين الله، وهو كما نرى يذكر وظائفها وقدراتها، ويبين أن الله يرى بها، أي أنه يفتقر إليها لتحصل له الرؤية..

ثم يذكر وجوه الفرق بين عين الله وعين البشر، فيقول: (وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم، مما لا حجاب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم، وما يبعد منهم، إن كان يقع اسم القرب عليه في بعض الأحوال، لأن العرب التي خوطبنا بلغتها قد تقول: قرية كذا منا قريبة، وبلدة كذا قريبة منا، ومن بلدنا، ومنزل فلان قريب منا، وإن كان بين البلدين وبين القريتين وبين المنزلين فراسخ، والبصير من بني آدم لا يدرك ببصره شخصا آخر، من بني آدم، وبينهما فرسخان فأكثر، وكذلك لا يرى أحد من الآدميين ما تحت الأرض إذا كان فوق المرئي من الأرض والتراب قدر أنملة، أو أقل منها بقدر ما يغطى ويوارى الشيء، وكذلك لا يدرك بصره إذا كان بينهما حجاب من حائط، أو ثوب صفيق، أو غيرهما مما يستر الشيء عن عين الناظر، فكيف يكون يا ذوي الحجا مشبها من يصف عين الله بما ذكرنا، وأعين بني آدم بما وصفنا) (2)

ثم يذكر فروقا أخرى، فيقول: (ونزيد شرحا وبيانا نقول: عين الله عز وجل قديمة، لم تزل باقية، ولا يزال محكوم لها بالبقاء، منفي عنها الهلاك، والفناء، وعيون بني آدم محدثة مخلوقة،

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 116)

(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 116)

السلفية.. والوثنية المقدسة (133)

كانت عدما غير مكونة، فكونها الله، وخلقها بكلامه الذي هو: صفة من صفات ذاته، وقد قضى الله وقدر أن عيون بنى آدم تصير إلى بلاء، عن قليل، والله نسأل خير ذلك المصير، وقد يعمي الله عيون كثير من الآدميين فيذهب بأبصارها قبل نزول المنايا بهم، ولعل كثيرا من أبصار الآدميين فيذهب بأبصارها قبل نزول المنايا بهم.. فما الذي يشبه - يا ذوي الحجا - عين الله التي هي موصوفة بما ذكرنا عيون بني آدم التي وصفناها بعد؟)

ثم ذكر أمرا خطيرا يدل على مبلغ التنزيه السلفي، فقال: (ولست أحسب: لو قيل لبصير لا آفة ببصره، ولا علة بعينه، ولا نقص، بل هو أعين، أكحل، أسود الحدق، شديد بياض العينين، أهدب الأشفار: عينك كعين فلان الذي هو صغير العين، أزرق، أحمر بياض العينين، قد تناثرت أشفاره، وسقطت، أو كان أخفش العين، أزرق، أحمر بياض العينين، قد تناثرت أشفاره، وسقطت، أو كان أخفش العين، أزرق، أحمر بياض شحمها، يرى الموصوف الأول: الشخص من بعيد، ولا يرى الثاني مثل ذلك الشخص من قدر عشر ما يرى الأول، لعلة في بصره، أو نقص في عينه، إلا غضب من هذا وأنف منه، فلعله يخرج إلى القائل له ذلك إلى المكروه من الشتم والأذى ولست أحسب عاقلا يسمع هذا المشبه عيني أحدهما بعيني الآخر، إلا هو يكذب هذا المشبه عين أحدهما بعين الآخر، ويرميه بالعته، والخبل والجنون، ويقول له: لو كنت عاقلا يجري عليك القلم: لم تشبه عيني أحدهما بعيني الآخر، وإن كانا جميعا يسميان بصيرين، إذ ليسا بأعميين، ويقال: لكل واحد منهما عينان يبصر بهما، فكيف لو قيل له: عينك كعين الخنزير، والقرد، والدب، والكلب، أو غيرها من السباع، أو هوام الأرض، والبهائم، فتدبروا يا ذوي الألباب أبين عيني خالقنا الأزلي الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال، وبين عيني الإنسان من الفرقان أكثر، أو مما بين أعين بني آدم وبين عيون ما ذكرنا؟) (1)

وانطلاقا من هذا يرد على من رماهم بالتشبيه بقوله: (تعلموا وتستيقنوا أن من سمى

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 117)

السلفية.. والوثنية المقدسة (134)

علماءنا مشبهة غير عالم بلغة العرب، ولا يفهم العلم، إذ لم يجز تشبيه أعين بني آدم بعيون المخلوقين، من السباع والبهائم، والهوام، وكلها لها عيون يبصرون بها، وعيون جميعهم محدثة مخلوقة، خلقها الله بعد أن كانت عدما، وكلها تصير إلى فناء وبلى، وغير جائز إسقاط اسم العيون والأبصار عن شيء منها، فكيف يحل لمسلم - لو كانت الجهمية من المسلمين - أن يرموا من يثبت لله عينا بالتشبيه، فلو كان كل ما وقع عليه الاسم كان مشبها لما يقع عليه ذلك الاسم، لم يجز قراءة كتاب الله، ووجب محو كل آية بين الدفتين فيها ذكر نفس الله، أو عينه، أو يده، ولوجب الكفر بكل ما في كتاب الله عز وجل من ذكر صفات الرب، كما يجب الكفر بتشبيه الخالق بالمخلوق، إلا أن القوم جهلة، لا يفهمون العلم، ولا يحسنون لغة العرب، فيضلون ويضلون) (1)

اليد

يركز السلفية كثيرا على وصف الله تعالى باليد، باعتبارها من الصفات الذاتية الكبرى لله تعالى، وهم يضعون لها الكثير من الصفات التابعة لها، وهي في الحقيقة عبارة عن وظائفها، ولكنهم يعبرون عن الجميع تعبيرا واحدا، وهو (الصفة)، لكن يفرقون بينهما في نوع الصفة، فاليد والأصابع التي ترتبط بها يسمونها (صفة ذات)، والوظائف التي تقوم بها اليد يسمونها (صفة فعل)، وقد يقع الخلاف الشديد بينهم في التمييز بين صفات الذات وصفات الفعل.

وهم ينطلقون في إثباتهم لهذه الصفة من النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية التي ذكرت اليد كما يذكر العرب اليد في كلامهم، وقد يريدون ظاهره، وقد لا يريدونه.. ولكن السلفية لا يفهمون من اليد إلا اليد حتى لو أولوا كل ما في النص، لكن اليد تبقى دائما عندهم صفة ذاتية لله، ويعتبر جهميا ومعطلا من لم يعتبرها كذلك.

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 117)

السلفية.. والوثنية المقدسة (135)

ومن النصوص التي يستدلون بها على ذلك قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] مع أن الآية واضحة في أن المراد منها هو نفي البخل عن الله لا إثبات اليد له، وهي مثل قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، فلا أحد من الفقهاء ـ حتى السلفية أنفسهم ـ يحرم قبض اليد أو بسطها.

ومثلها قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] مع أن الآية الكريمة واضحة كذلك في الدلالة عل القدرة والفعل الإلهي، وليس على قصد اليد، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، فالجرائم التي يعاقب عليها الكفار ليس ما يفعلونه بأيديهم فقط.

أما الأحاديث النبوية التي يستدلون بها فهي كثيرة جدا، ولا يمكن مناقشتها هنا، ولا حتى الاستدلال بها لأن الكثير منها روي بالمعنى، وقد يتصرف الراوي في ألفاظ الحديث، ومن الصعوبة حينذاك استنباط قضية عقدية خطيرة كهذه من أمثال تلك الروايات.

ولكن المنهج السلفي ـ كما ذكرنا ـ يقبل كل ما روي حتى لو كان من آحاد الناس ما دام موافقا لهم في التجسيم.. ولهذا كثرت عندهم الروايات والأخبار التي يستدلون بها على إثبات اليد لله.

يقول ابن القيم: (ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة من الإمساك والطي والقبض والبسط والمصافحة والحثيات..) (1)

وقال أبو بكر الإسماعيلي: (وخلق آدم عليه السلام بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف

__________

(1) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 171).

السلفية.. والوثنية المقدسة (136)

يشاء، بلا اعتقاد كيف يداه، إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف) (1)

وقال ابن تيمية: (إنَّ لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله) (2)

وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: (هذا؛ وقد تنوعت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات اليدين لله تعالى وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض وتثنيتهما، وأنَّ إحداهما يَمِين، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال؛ كما في (صحيح مسلم)، وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيَمِينه، فيربيها لصاحبها، وأنَّ المقسطين على منابر من نور عن يَمِين الرحمن، وكلتا يديه يَمِين، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله ورسوله.. وقد أتانا صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الأصابع، وبذكر الكف، وذكر اليَمِين، والشِّمال، واليدين مرة مثناة، ومرة منصوص على واحدة أنه يفعل بها كذا وكذا، وأنَّ الأخرى فيها كذا؛ كما تقدمت النصوص بذلك) (3)

ومما يدل على أن مرادهم من اليد هو الجارحة، وليس الصفة كما يزعمون هو تأويلهم لما ورد في القرآن من ذكر الأيدي بصيغة الجمع، لأنهم يذكرون أن لله يدين فقط، وليس أكثر من ذلك، لأن صورته ـ كما سنرى ـ مثل صورة الإنسان.

يقول ابن تيمية في تأويل ما ورد من الأيدي بصيغة الجمع: (فالله - سبحانه وتعالى - يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهرا أو مضمرا، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك، فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت يدي. كان كقوله: {مما عملت أيدينا}، وهو

__________

(1) في اعتقاد أئمة الحديث (ص 51):.

(2) مجموع الفتاوى (6/ 263).

(3) انظر: شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 311).

السلفية.. والوثنية المقدسة (137)

نظير قوله: {بيده الملك} و{بيدك الخير}، ولو قال: خلقت بيدي. بصيغة الإفراد، لكان مفارقا له، فكيف إذا قال: {خلقت بيدي} بصيغة التثنية) (1)

ويقول الدارمي في (النقض على المريسي): (وروى المعارض أيضا عن ابن عباس: (الركن يمين الله في الأرض، يصافح به خلقه) (2)، فروى عن هذا الثلجي من غير سماع منه أنه قال: يمين الله: نعمته وبركته وكرامته، لا يمين الأيدي. فيقال لهذا الثلجي -الذي يريد أن ينفي عن الله بهذه الضلالات يديه اللتين خلق بهما آدم ويلك أيها الثلجي! إن تفسيره على خلاف ما ذهبت إليه، وقد علمنا يقينا أن الحجر الأسود ليس بيد الله نفسه، وأن يمين الله معه على العرش غير بائن منه، ولكن تأويله عند أهل العلم: كأن الذي يصافح الحجر الأسود ويستلمه كأنما يصافح الله، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] فثبت له اليد التي هي اليد عند ذكر المبايعة، إذ سمى اليد مع اليد، واليد معه على العرش، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل يد السائل). فثبت بهذا اليد التي هي اليد، وإن لم يضعها المتصدق في نفس يد الله) (3)

ولم يكتف السلفية بهذا، بل راحوا يختلفون في جواز إطلاق لفظ الشمال على يد الله الثانية.. مع اتفاقهم على أن إحدى يديه شمال، والأخرى يمين..

وقد قال بإثبات الشمال من أئمتهم الكبار المعتمدين: عثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى الفراء، ومحمد بن عبد الوهاب، وصديق حسن خان، ومحمد خليل الهرَّاس، وعبدالله الغنيمان، وغيرهم مستدلين لذلك بأحاديث كثيرة منها ما رووه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يطوي الله عَزَّ وجَلَّ السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك!

__________

(1) التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 75).

(2) عبد الرزاق (8919)، والأزرقي في أخبار مكة (1/ 323، 324، 326)

(3) النقض على المريسي (ص: 266).

السلفية.. والوثنية المقدسة (138)

أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) (1)

ومنها ما رووه عن أبي الدرداء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليَمِين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحُمم، فقال للتي في يَمِينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للتي في يساره: إلى النار ولا أبالي) (2)

ومن أدلتهم العقلية على هذا أن وصف إحدى اليدين باليَمِين؛ كما في الأحاديث السابقة، يقتضي أنَّ الأخرى ليست يَمِيناً، فتكون شمالاً، وفي بعض الأحاديث تذكر اليَمِين، ويذكر مقابلها: (بيده الأخرى))، وهذا يعني أنَّ الأخرى ليست اليَمِين، فتكون الشِّمال.

يقول أبو سعيد الدارمي: (وأعجب من هذا قول الثلجي الجاهل فيما ادعى تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يَمِين الرحمن وكلتا يديه يَمِين))، فادعى الثلجي أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأول كلتا يديه يَمِين؛ أنه خرج من تأويل الغلوليين أنها يَمِين الأيدي، وخرج من معنى اليدين إلى النعم؛ يعني بالغلوليين: أهل السنة؛ يعني أنه لا يكون لأحد يَمِينان، فلا يوصف أحد بيَمِينين، ولكن يَمِين وشمال بزعمه.. ويلك أيها المعارض! إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد أطلق على التي في مقابلة اليَمِين الشِّمال، ولكن تأويله: (وكلتا يديه يَمِين)؛ أي: مُنَزَّه على النقص والضعف؛ كما في أيدينا الشِّمال من النقص وعدم البطش، فقال: (كِلتا يدي الرحمن يَمِين)؛ إجلالاً لله، وتعظيماً أن يوصف بالشِّمال، وقد وصفت يداه بالشِّمال واليسار، وكذلك لو لم يجز إطلاق الشِّمال واليسار؛ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو لم يجز أن يُقال: كلتا يدي الرحمن يَمِين؛ لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا قد جوزه الناس في الخلق؛ فكيف لا يجوز ابن الثلجي في يدي الله أنهما جميعاً يَمِينان، وقد سُمِّي من الناس ذا الشِّمالين، فجاز نفي دعوى

__________

(1) مسلم في صحيحه (2788).

(2) عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة (1059). والبزار في مسنده (2144 - كشف). وقال: إسناده حسن..

السلفية.. والوثنية المقدسة (139)

ابن الثلجي أيضاً، ويخرج ذو الشِّمالين من معنى أصحاب الأيدي) (1)

وقال صديق حسن خان: (ومن صفاته سبحانه: اليد، واليَمِين، والكف، والإصبع، والشِّمال..) (2)

وقد ذهب إلى خلاف هذا، وأنَّ كلتا يدي الله يَمِين لا شمال ولا يسار فيهما ابن خزيمة، والإمام أحمد، والبيهقي، والألباني، مستدلين على ذلك بما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يَمِين الرحمن عَزَّ وجَلَّ، وكلتا يديه يَمِين..) (3)

وبما رووه عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لما خلق الله آدم، ونفخ فيه من روحه؛ قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيها شئت يا آدم، فقال: اخترت يَمِين ربي، وكلتا يداه يَمِين مباركة، ثم بسطها..) (4)

وقد قال ابن خزيمة في هذا: (باب: ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أنَّ لخالقنا جلَّ وعلا يدين، كلتاهما يَمِينان، لا يسار لخالقنا عَزَّ وجَلَّ؛ إذ اليسار من صفة المخلوقين، فَجَلَّ ربنا عن أن يكون له يسار) (5)

وقال: (.. بل الأرض جميعاً قبضةُ ربنا جَلَّ وعلا، بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيَمِينه، وهي اليد الأخرى، وكلتا يدي ربنا يَمِين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار؛ إذ كون إحدى اليدين يساراً إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز

__________

(1) أبو سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي، ص 155.

(2) قطف الثمار (ص 66).

(3) مسلم في (صحيحه (1827).

(4) ابن أبي عاصم في السنة (206). وابن حبان (6167). والحاكم (1/ 64) وصحَّحَه. وعنه البيهقي في (الأسماء والصفات (2/ 56). والحديث حسَّنه الألباني في تخريجه لـ (السنة)

(5) كتاب التوحيد (1/ 159).

السلفية.. والوثنية المقدسة (140)

عن شبه خلقه) (1)

وقال الإمام أحمد: (وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: (وكلتا يديه يَمِين)، الإيمان بذلك، فمن لم يؤمن بذلك، ويعلم أنَّ ذلك حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو مُكَذِّبٌ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

ومن الوظائف التي ذكرها السلفية لليدين (البَسْطُ والقَبْضُ)، وهما مصطلحان قرآنيان، ورد بهما اسمي الباسط والقابض، كما قال تعالى: {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30]، ومع أن دلالتهما في القرآن الكريم عميقة جدا إلا أن السلفية يربطونهما باليد..

ومن الأحاديث التي رووها للدلالة على هذا ما رووه في بعض صيغ حديث النزول وهي صيغة خطيرة جدا، لأنها تصور الله تعالى بصورة الشحاذ المستجدي، فقد رووا عن أبي هريرة قوله: (.. ثم يبسط يديه تبارك وتعالى؛ يقول: من يقرض غير عَدُومٍ ولا ظَلُوم) (3)

قال ابن تيمية في تقرير هذه الوظيفة: (ووصف نفسه (يعني: الله) ببسط اليدين، فقال {.. بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله تعالى: {وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُل البَسْطِ}، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط..) (4)، أي أن كيفية بسط لله ليده تختلف عن الكيفية التي يبسط بها الخلق أيديهم.

ومن الوظائف التي ذكرها السلفية لليدين (الْحَثْوُ)، وقد رووا للدلالة على هذه الوظيفة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وعدني ربي أنَّ يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا

__________

(1) كتاب التوحيد (1/ 197).

(2) طبقات الحنابلة لأبي يعلى: (1/ 313).

(3) مسلم (758).

(4) التدمرية (ص 29).

السلفية.. والوثنية المقدسة (141)

عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي) (1)

وفي رواية: (إنَّ ربي وعدني أنَّ يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب، ثم يتبع كل ألف سبعين ألفاً، ثم يحثي بكفه ثلاث حثيات، فكبَّر عمر..) (2)

وخطورة هذا الحديث ـ بحسب الرؤية السلفية ـ هو أن القول به يعني إلغاء كل ما ورد في النصوص المقدسة من عقاب.. ذلك أن حثية (3) واحدة من حثيات الله بحسب الجرم الذي يصفونه لله كافية في شمولها الخلق جميعا.. فهم في هذا بين أمرين: بين أن يجعلوا يد الله صغيرة لا تطيق حمل خلقه.. وإما أن ينفوا العذاب نفيا نهائيا.

ومن الوظائف التي ذكرها السلفية لليدين (الأَخْذُ بِالْيَدِ)، وقد سبق ذكر بعض الأحاديث التي استدلوا بها عليها، ومنها ما رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (يأخذ الله عَزَّ وجَلَّ سماواته وأراضيه بيديه، فيقول: أنا الله (ويقبض أصابعه ويبسطها؛ أي: النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، أنا الملك) (4)

ومنها ما رووه عن أبي هريرة مرفوعاً: (وما تصدق أحد بصدقة من طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطَّيِّب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه) (5)

ومنها ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المعروف: (اللهم أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) (6)

__________

(1) رواه أحمد (5/ 268). وابن أبي عاصم في السنة (589). والترمذي (صحيح سنن الترمذي 1984). وابن ماجه (4286). وغيرهم.

(2) رواه عثمان بن سعيد الدارمي في (رده على بشر المريسي (ص 37). وابن حبان في (صحيحه (7247). والفسوي في (المعرفة والتاريخ (2/ 341). والطبراني في (الكبير (17/ 126). و(الأوسط (404).

(3) قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي (7/ 129): ((ثلاث حثيات)؛ بفتح الحاء والمثلثة. جمع حثية. والحثية والحثوة يستعمل فيما يعطيه الإنسان بكفيه دفعة واحدة من غير وزن وتقدير)

(4) رواه مسلم (2788 - 25 و26).

(5) رواه مسلم (1014).

(6) رواه مسلم رقم (2713) والترمذي رقم (3397) وأبو داود رقم (5051)

السلفية.. والوثنية المقدسة (142)

وقد علق عليه الشيخ عبد العزيز السلمان بقوله: (مما يستفاد من الحديث: (صفة الأخذ) (1)

وقال الشيخ ابن عثيمين: (من صفات الله تعالى المجيء والإتيان والأخذ والإمساك والبطش إلى غير ذلك من الصفات.. فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد) (2)

الأصابع

وهي من الأعضاء المرتبطة باليد، كما ينص السلفيون، ويستدلون لها بما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن) (3)

وبالحديث الذي رووه عن عبد الله بن مسعود؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب، فقال: (يا أبا القاسم! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع.. إلى أن قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}) (4)

وقد ذكر هذه الأحاديث وغيرها أبو بكر بن خزيمة في كتاب (التوحيد) تحت عنوان: (باب إثبات الأصابع لله عَزَّ وجَلَّ) (5)، وذكرها أبو بكر الآجري في (الشريعة) تحت عنوان: (باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من أصابع الرب عَزَّ وجَلَّ، بلا كيف)

وقال البغوي تعليقا على الحديث السابق: (والإصْبَع المذكورة في الحديث صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ، وكذلك كلُّ ما جاء به الكتاب أو السنَّة من هذا القبيل من صفات الله تعالى؛ كالنَّفس، والوجه، والعين، واليد، والرِّجل، والإتيان، والمجيء، والنُّزُول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح) (6)

__________

(1) الكواشف الجلية (ص 487).

(2) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص 30).

(3) رواه مسلم (2654).

(4) رواه: البخاري (7415) ومسلم (2786).

(5) التوحيد (1/ 187).

(6) شرح السنة (1/ 168).

السلفية.. والوثنية المقدسة (143)

ومن غرائب المجادلات مع المنزهة التي يوردها السلفية في هذا المجال ما ينقلونه عن ابن قتيبة في حل الإشكالات الكثيرة التي ينشئها الحديث السابق: (ونحن نقول: إنَّ هذا الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث؛ لأنه عليه السلام قال في دعائه: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، فقالت له إحدى أزواجه: أوَ تخاف يا رسول الله على نفسك؟ فقال: (إنَّ قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عَزَّ وجَلَّ)، فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى؛ فهو محفوظ بتينك النعمتين؛ فلأي شيء دعا بالتثبيت؟ ولِمَ احتج على المرأة التي قالت له: أتخاف على نفسك؟ بما يؤكد قولها؟ وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروساً بنعمتين. فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ها هنا؟ قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر: (يحمل الأرض على إصبع)، وكذا على إصبعين، ولا يجوز أن تكون الإصبع ها هنا نعمة، وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، ولم يجز ذلك. ولا نقول: إصبعٌ كأصابعنا، ولا يدٌ كأيدينا، ولا قبضةٌ كقبضاتنا؛ لأن كل شيء منه عَزَّ وجَلَّ لا يشبه شيئاً منا) (1)

ومن الصفات التي يربطونها بالأصابع [الأَنَامِلُ]، ويعتبرونها من الصفات الذاتية لله تعالى، ويستدلون لها بما رووه عن معاذ بن جبل قال: (.. فإذا أنا بربي عَزَّ وجَلَّ (يعني: في المنام، ورؤى الأنبياء حقٌ) في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب! قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب! قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب! فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري..) (2)

__________

(1) تأويل مختلف الحديث) (ص 245).

(2) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح؛ سألت محمد بن إسماعيل - البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح..

السلفية.. والوثنية المقدسة (144)

وقد رد ابن تيمية على تأويل الفخر الرازي لهذا الحديث، فقال: (فقوله (أي: الرازي): وجدت برد أنامله؛ أي: معناه وجدت أثر تلك العناية. يقال له: أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره وفي فؤاده وصدره؛ فتخصيص أثر العناية لا يجوز؛ إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أنَّ أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك؛ بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه؛ فإنه إذا وضعت الكف على ظهره؛ ثقل بردها إلى الناحية الأخرى، وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نصٌ لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء، [وهذا] أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية..) (1)

ثم بين الوجه الصحيح الذي يفهمه السلفية، فقال: (الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ثلاثة أشياء؛ حيث قال: (فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها)، وفي رواية: (برد أنامله على صدري، فعلمت ما بين المشرق والمغرب)، فذكر وضع يده بين كتفيه، وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه، وهذا معنى ثان، وهو وجود هذا البرد عن شيء مخصوص في محل مخصوص، وعقب ذلك بقوله: الوضع الموجود [كذا]، وكل هذا يبين أنَّ أحد هذه المعاني ليس هو الآخر) (2)

القدم

وهي من الصفات التي يفرق بها السلفية بين السني والبدعي، ويسمونها صفة [الرجل] أيضا، ويقصدون بها ما نعرفه من القدم.. لكن الفرق بين قدمنا وقدم الله لا يمكن تصوره، لأن

__________

(1) نقض أساس التقديس (ق 524 - 526).

(2) نقض أساس التقديس (ق 524 - 526).

السلفية.. والوثنية المقدسة (145)

أقدامنا تحترق بالنار، بينما قدم الله لا تؤثر فيها النار..

وقد أوردوا في ذلك حديثا، يحرصون على الفهم الظاهري الحرفي له، بل يبدعون المخالف لذلك الفهم، وهو ما رووه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رجله فيها، أو قدمه، فتقول: قط قط (1)) (2)

وقد أشار علم من أعلام السلفية المعاصرين، وهو الشيخ أبو أحمد محمد أمان جامي إلى الصراع الذي حصل بين التنزيهيين والمجسمة في تفسير الحديث، فقال: (هذه الصفة كالتي قبلها من الصفات الخبرية والفعلية محل صراع حادّ بين السلف والخلف، أما السلف - فهم كعادتهم- يرون أن المقام ليس مقام اجتهاد أو قياس أو استحسان، وإنما هو مقام تسليم لله ولرسولهصلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا قول لأحد مع قول الله وقول رسوله المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي أمره ربه أن يبلغ ما أنزل إليه. فمما بلغه الرسول عن الله لأمته بعضُ أوصاف الجنة والنار، وذلك من الأمور الغيبية التي أطلع الله عليها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سبيل للإنسان العادي أن يقول فيها قولاً اجتهاداً أو استحساناً.. ففي مثل هذا المقام التوقيفي لا ينبغي للمرء الناصح لنفسه أن يحاول استخدام قوة عقله أو سلطان فلسفته أو ما ورثه من مشايخه ليقول في هذا النص النبوي قولاً يخالف قول المعصوم، فيفسر الحديث كما يريد ويستحسن.. وفي هذه الصفة (القَدَم) قد صح عنه الحديث السابق آنفاً الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، فما علينا إلا التسليم لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم) (3)

ثم قال: (وموقف السلف من معنى الحديث هو أن الحديث من أحاديث الصفات، وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تمر كما جاءت دون تأويل أو تحريف في النص، ودون تشبيه أو تمثيل لصفات الله بصفات خلقه، فلا تقاس قدمه بأقدام خلقه، ولا رجله بأرجل

__________

(1) (قط) فيها ثلاث لغات: سكون الطاء، وكسر الطاء بتنوين، وكسرها بلا تنوين، وقد ترد (قد) بالدال بدل الطاء ومعناها: حسبي حسبي، وكفاني وامتلأت. شرح مسلم 17/ 162..

(2) أخرجه البخاري في التفسير رقم (4848) وفي التوحيد رقم (6661، 7384)؛ ومسلم في صفة الجنة والنار رقم (2848)

(3) الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه (ص: 320).

السلفية.. والوثنية المقدسة (146)

مخلوقاته، بل يكتفى بالمعنى الوضعي للكلمة دون محاولة لإدراك حقيقة قدمه، وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه فآمنا وسلمنا لله ولرسوله، هذا موقف لا يتغير ولا يتبدل بالنسبة لأتباع السلف، بل موقف ثابت وهو اتباع النصوص في جميع الصفات خبرية أو غيرها) (1)

ثم ذكر موقف المنزهة من الحديث منتقدا له، فقال: (وأما الخلف فقد تكلفوا في تأويل هذا الحديث أكثر من تكلفهم في تأويل أي نص آخر من نصوص الصفات، فتكلفهم هنا يشبه تكلف القرامطة في نصوص المعاد، بل لجميع نصوص الشريعة، فزعم المتكلمون الخلف هنا أن الحديث -كغيره من نصوص الصفات - يؤول بما يليق بالله - يا سبحان الله - فمتى دلت النصوص بظاهرها على ما لا يليق بالله لو فهمت.. فقال بعضهم: المراد بالقدم هنا المتقدم ومعناه حتى يضع الله تعالى فيها ما قدمه لها من أهل العذاب.. وأنت تلاحظ أن هذا التأويل التقليدي لم يمكنهم من الانتباه للضمير (قدمه) أو (رجله) وأن الذي لا يختلف فيه أهل العلم أن الإضافة تخصص الصفة للموصوف، بمعنى إذا قلنا: علم الله وقدرة الله مثلاً، فلا يشترك علم المخلوق أو قدرته في علم الله المختص بالإضافة بأي نوع من أنواع المشاركة وكذلك قدرته، لأن الاشتراك لا يقع إلا في المطلق الكلي غير المختص لا بالمخلوق ولا بالخالق. وكذلك يقال هنا لأن القدم لم ترد إلا مضافة مختصة ولا يشترك معها شيء من أقدام خلقه، ولا مشابهة بينهما - وهذا التأويل الذي تورط فيه أتباع الفلاسفة لم يفطن لهذا المعنى، وعدم التفطن لهذا المعنى هو سر تخبطهم في جميع الصفات الخبرية والفعلية.. وأما الرواية التي فيها (حتى يضع الله فيها رجله)، فقد حاولوا فيها أولاً تضعيف الحديث ليريحوا أنفسهم من ذلك التأويل المستكره والمستنكر ولكنهم لم يفلحوا، لأن الحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه، قال الإمام النووي: (فقد زعم ابن فورك أن هذه الرواية غير ثابتة عند أهل النقل، ولكن قد رواها مسلم وغيره في صحيحه، فلجأوا أخيراً إلى نوع غريب من التأويل حيث قالوا: يجوز أن يراد بالرّجل

__________

(1) الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه (ص: 320).

السلفية.. والوثنية المقدسة (147)

الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من (جراد) أي قطعة منه، وهو تكلف غني عن الإعلان عنه، بل هو يعلن عن نفسه، والاستشهاد برجْل الجراد أشد غرابة كما ترى، وهو استشهاد يضحك (الحزين).. وقال بعضهم: المراد بالقدم قوم استحقوها وخُلِقُوا لها، وقالوا: لا بد من صرف لفظة (القَدَمِ) عن ظاهرها لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى، فمن ذا الذي قال: إن قَدَمَ الله جارحة من الجوارح حتى تضطروا إلى مثل هذه المناقشة واستعمال هذا الأسلوب، بل الذي عليه سلف هذه الأمة - وهم أعلم وأدق وأقدم- أن قَدَمَ الله ووجه الله ويده وعينه وأصابعه، وما في معناها من هذه الصفات الخبرية صفات لله على ما يليق به سبحانه، وليست بجوارح له، ولا نعلم عن كُنهها شيئاً، بل آمنا بها على مراد الله ومراد رسوله من حيث الحقيقة والكُنه. ومعنى الكلمة معلوم من الوضع والكيف مجهول والبحث عن الكيفية بدعة، أحدثها علماء الكلام، والإيمان بها على أنها صفات ذاتية لله واجب من واجبات الدين الإسلامي، ولا ينقضي عجبي عندما أقرأ هذه العبارة التقليدية المتوارثة: (إن الدليل العقلي القطعي يقتضي استحالة قيام الجوارح بالله) أو عبارة قريبة من هذه، فكيف يعتقد مسلم أن الآيات القرآنية التي أنزلها الله العليم الحكيم، والأحاديث النبوية التي أوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تدل بظواهرها على ما لا يليق بالله أو على ما هو مستحيل على الله، ثم لا يبين الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ما يليق بالله وما لا يليق من كلامه وكلام ربه سبحانه) (1)

إلى آخر كلامه، وقد ذكرناه بطوله لنرى تلك الازدواجية في التعامل مع النصوص، حيث يتيحون لأنفسهم أن يؤولوا ما شاءوا، وأن يردوا من الحديث ما شاءوا، لكن إن انبرى علم من أعلام الإسلام لتنزيه الله تعالى عما لا يقبله العقل ولا يرتضيه النقل، تثور ثائرتهم.

والذي يدل على خلاف ما ذكره من أن المقصود بالقدم ليس الجارحة نسوق ما قاله من يطلقون عليه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتابه التوحيد، فقد وضع فصلا خاصا بالقدم، ملأه

__________

(1) الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه (ص: 320).

السلفية.. والوثنية المقدسة (148)

بالأحاديث الغريبة المجسمة، وقال في مقدمته: (باب ذكر إثبات الرجل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون الله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، فأعلمنا ربنا جل وعلا أن من لا رجل له، ولا يد، ولا عين، ولا سمع فهو كالأنعام بل هو أضل، فالمعطلة الجهمية: الذين هم شر من اليهود والنصارى والمجوس: كالأنعام بل أضل؛ فالمعطلة الجهمية عندهم كالأنعام بل هم أضل) (1)

ونحن ندعو كل عاقل ليعيد قراءة ما ذكره ابن خزيمة الذي يعتبره ابن تيمية وكل السلفية (إمام الأئمة)، وهل يفيد شيئا غير كون القدم والرجل هي نفسها الجارحة؟

الساق

وهي من الصفات أو الجوارح التي يحرص عليها السلفية من أولهم إلى آخرهم، بل يعتبرون إنكارها، أو تأويلها تجهما وتعطيلا.

وهم يستخدمون القرآن الكريم لتسويق هذه الجارحة، والآية التي يستخدمونها لذلك هي قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]

ومع كونها واضحة في الدلالة على شدة أهوال يوم القيامة.. كما قال الشاعر:

كَشَفَتْ لهمْ عن سَاقِها... وبَدَا من الشَّرِّ صُراحُ

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 202).

السلفية.. والوثنية المقدسة (149)

ومع أن ابن عباس فسرها بذلك، فقال: (هو يوم كربٍ وشدةٍ) (1)

ومع أن أعلام العربية قالوا بذلك، كما قال الزمخشريّ: (يوم يكشف عن ساق في معنى يوم يشتدُ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثَمَ ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ولا غل وإنما هو البخل، وأما من شّبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان) (2)

فمع هذا وغيره إلا أن السلفية أولهم وآخرهم يحرصون على أن يفسروا الساق في الآية بالجارحة، ويعتبرونها من الصفات أو الأعضاء التي يتركب منها الله تعالى.

وقد عبر عن هذا الفهم السلفي التجسيمي ابن القيم، فقال: (.. ومن حمل الآية على ذلك ـ أي أنها صفة الرحمن ـ قال: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] مطابق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن ساقه.. وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال: (يكشف عن ساق عظيمة)، قالوا وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم أن يقال كشفت الشدة عن القوم، لا كشفت عنها، كقوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [الزخرف: 50] العذاب هو المكشوف، لا المكشوف عنه، وأيضا فهناك تحدث شدة لا تزول إلا بدخول الجنة، وهنا لا يدعون لسجود وإنما يدعون الله أشد ما كانت الشدة) (3)

وهكذا نرى ابن القيم يعلم ابن عباس والزمخشري اللغة العربية.. وهكذا أيضا يتنازل السلفية عن كل مقولاتهم في تعظيم الصحابة.. لأن الصحابة في تصورهم هم المجسمة، لا المنزهة.. فكل من سار خلاف منهجهم رفضوه، ورفضوا قوله حتى لو كان ذلك الذي يعتبرونه ترجمان القرآن.

وعلى خطى ابن القيم وغيره من السلف سار السلفية المعاصرة، وقد سئل الشيخ

__________

(1) جامع البيان (29/ 38)

(2) الكشاف (4/ 147)..

(3) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 253)

السلفية.. والوثنية المقدسة (150)

عبدالعزيز بن باز عن معنى الآية، فقال: (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فسّرها بأن المراد يوم يجيء الرب يوم القيامة، ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه وهي العلامة التي بينه تعالى وبين عباده، فإذا كشف عن ساقه، عرفوه وتبعوه، وإن كانت الحرب يقال لها كشفت عن ساق إذا اشتدت وهذا معنى معروف لغوياً قاله أئمة اللغة، ولكن في الآية الكريمة يجب أن يفسر بما جاء في الحديث وهو كشف الرب عن ساقه سبحانه وتعالى) (1)

ولست أدري ما هي العلامة الموجودة على الساق.. وهل هناك من السلفية من يخبرنا عنها.. أم أنهم يريدون إبقاءها لأنفسهم حتى تكون لهم وحدهم القدرة على السجود يوم القيامة؟

ويقول محمد الجامي ـ بعد إيراده لحديث الساق الذي سنذكره مفصلا عند الحديث عن الصورة ـ: (.. فانطلاقاً من هذا الحديث الصحيح الذي يثبت لله ساقاً نرى أن الآية من آيات الصفات المفسرة بالسنة، لأن الآية جاءت محتملة المعنى حيث جاء الساق مجرداً عن الإضافة المخصصة، فجاءت السنة مبينة بأن المراد بالساق هو ساق الرحمن، فَسلُكْ في إثبات الساق مسلك السلف الصالح وهو إثبات بلا تمثيل ولا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل، فالكلام في صفة الساق كالكلام في صفة اليد والوجه، وأما الخلاف والنزاع الذي جرى بين الصحابة والتابعين فينبغي أن نعتبره منتهياً بعد ثبوت حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ الذي نعده تفسيراً للآية المجملة ثم نعده فيصلاً في هذه القضية) (2)

وقال الدكتور عبد الله الغنيمان: (الضمير في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] يعود إلى الله تعالى ففي ذلك إثبات صفة الساق لله تعالى، ويكون هذا الحديث ونحوه تفسير لقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] وهذا الحديث متفق على صحته وفيه

__________

(1) مجموع فتاوى وتنبيهات ـ ابن باز ـ مكتبة السنة ـ الأولى 1409 هـ.

(2) الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه (ص: 316)

السلفية.. والوثنية المقدسة (151)

التصريح في أن الله تعالى يكشف عن ساقه وعند ذلك يسجد له المؤمنون ومن تأوله التأويلات المستكرهة فقد استدرك على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومعلوم أن قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] ليس نصاً في أن الساق صفة لله تعالى؛ لأنه جاء منكرا غير معرّف فيكون قابلاً كونه صفة وكونه غير صفة وتعيينه لواحد من ذلك يتوقف على الدليل وقد دل الدليل الصحيح على ذلك فلا يجوز تأوله بعد ذلك، أما ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن ذلك الشدة والكرب يوم القيامة فهذا بالنظر إلى لفظ الآية لأنها كما قلنا لم تدل على الصفة بلفظها وإنما الدليل هو الحديث المذكور) (1)

وعلى منهجهم في الانتقائية في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، فقد راحوا يجمعون الروايات الواردة عن ابن عباس، ويضعفونها.. وما أسهل أن تضعف الرواية وفق منهج المحدثين، لأنه لا يوجد راو في الدنيا إلا وهناك من جرحه..

وقد قام بهذا العمل الجليل الشيخ سليم الهلالي الذي استحيا أن يرد على ابن عباس، فاكتفى بتكذيب قوله، ليكون رده على الكذاب لا على ابن عباس، وقد وضع عمله هذا في رسالة سماها (المنهل الرقراق في تخريج ما روى عن الصحابة والتابعين في تفسير يوم يكشف عن ساق) (2)

هذه ـ باختصار ـ الرؤية السلفية لله تعالى من هذه الزاوية.. وهي ـ كما رأينا ـ رؤية مستغرقة في التجسيم والتشبيه والوثنية.. ولو أوردنا كل رواياتهم في تفاصيل هذه الأعضاء ووظائفها لرأينا من ذلك العجب العجاب..

__________

(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري ـ د. عبد الله الغنيمان ـ مكتبة لينةـ (2/ 121)..

(2) المنهل الرقراق في تخريج ما روى عن الصحابة والتابعين في تفسير يوم يكشف عن ساق. سليم بن عيد الهلالي، دار ابن الجوزي ـ الأولى 1412 هـ.

السلفية.. والوثنية المقدسة (152)

التنقل.. والحركة

يرى أصحاب الرؤية التنزيهية ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرفان ـ أن الله تعالى أعظم من أن يحتاج إلى التنقل أو الحركة.. لأنه لا يحتاجهما إلا القاصر الضعيف البعيد الذي لا تتحقق مطالبه إلا بالانتقال والحركة.. أما القوي القادر القريب، فإنه يحقق مطالبه من غير حركة ولا انتقال.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحركة تستدعي المحدودية والحيز.. والله أعظم من أن يحد أو يتحيز.

والحركة والانتقال تقتضيان أن يحيط به المكان والزمان.. والله أعظم من أن يحتاج للمكان، أو يجري عليه الزمان.

والعقل والقرآن كلاهما يدلان على هذه الحقيقة العظيمة التي من لم يعرفها لم يعرف الله، وإنما عرف وهما كبيرا سماه إلها.

أما دلالة العقل على ذلك، فقد أشار إليها الرازي في قوله: (اعلم أنه ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله تعالى محال، لأن كل ما كان كذلك كان جسما والجسم يستحيل أن يكون أزليا) (1)

وأما دلالة القرآن الكريم على ذلك، فأعظم من أن تحصر، لأن كل القرآن الكريم يدل عليها لمن تدبر ذلك..

فالله تعالى عندما يقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ

__________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (31/ 159)

السلفية.. والوثنية المقدسة (153)

أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة: 63 - 74] يخبر عن حضورة المطلق مع كل شيء، بل عن تصريفه لكل شيء.. بل عن كونه هو الفاعل الوحيد لكل حركة أو سكنة في الوجود.

وهكذا عندما يقول: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فالله هو الذي قتل من قتل من الكفار.. وهو الذي رماهم بما رماهم من سهام.

بل إن الله تعالى يشير عندما يحكي قصة سليمان عليه السلام مع أصحابه إلى بيان أن الحركة والانتقال شأن المستضعفين، أما القادر فهو الذي يقضي مصالحه في طرفة عين من غير معاناة حركة ولا حمل ولا أي شيء، قال تعالى: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 38 - 40]، فإذا كان هذا شأن العبد.. فكيف بشأن الرب سبحانه وتعالى؟

بالإضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم يقرر قربه المطلق من خلقه، والذي أشرنا إليه عند حديثنا عن الجهة والمكان.. فالله تعالى أقرب إلى خلقه من أنفسهم، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]

ولذلك فإن القرب في المصطلح القرآني لا يدل على قرب الحس أو المكان، بل هو يدل على قرب السلوك والعرفان.. كما قال تعالى في تصنيف عباده يوم القيامة: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)

السلفية.. والوثنية المقدسة (154)

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 7 - 11]

وذكر من نعيم الجنة نعيما خاصا بالمقربين، فقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28]

وقد أشار القرآن الكريم إلى منهج التحقيق بهذا القرب، فقال: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، فالسجود بكل الكيان لله هو أقرب طريق للقرب الإلهي، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده) (1)

ونفى القرآن الكريم ذلك القرب الوهمي الذي يخطر على المستغرقين في الدنيا، فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]

وهكذا نرى اتفاق الرؤية العقلية مع الرؤية القرآنية في إثبات غنى الله تعالى عن الحركة والانتقال لقدرته المطلقة أولا، ولقربه من كل شيء ثانيا قربا لا يمكن تصوره، ولا تخيله لأن الله أعظم من أن يحيط به الخيال أو الوهم أو التصور.

وبناء على هذه الرؤية القرآنية والعقلانية اهتم العارفون من هذه الأمة بالقرب الإلهي، وجعلوه غايتهم الكبرى.. متبنين في ذلك الرؤية القرآنية، لا الرؤية الحسية التجسيمية التي تبناها أهل الحديث والسلفية.. وبذلك يتفق على هذه العقيدة التنزهية كلا المدرستين الكبيرتين من مدارس الإسلام: مدرسة البرهان، ومدرسة العرفان.

ونحب هنا من باب التأكيد، وباب بيان أثر العقيدة التنزيهية في الترقي والتحقق العرفاني والأخلاقي أن نذكر مقولات العارفين الذين اختصوا بتحويل المعاني العقدية إلى معان ذوقية تتشربها الروح، وينفعل لها الجسد.

ونبدأ ذلك ببيان اتفاق العرفان مع البرهان على معنى القرب الإلهي.. وقد ذكر ذلك كل

__________

(1) رواه الترمذي رقم (3574) في الدعوات رقم (129)

السلفية.. والوثنية المقدسة (155)

العرفاء، ومنهم الشيخ عبد الغني النابلسي الذي وضح معنى القرب الإلهي، فقال: (إن قرب الكائنات منه تعالى قرب أثر من مؤثر، وقرب معلوم من عالم به لا يعزب عن علمه شيء، وبعد الكائنات منه تعالى عدم مناسبتها له وعدم مشابهتها له ولا بوجه من الوجوه) (1)

وقال الشيخ أحمد زروق: (قرب المسافات والنسب والمداناة: وهو قرب الأجسام، وسائر المحدثات، فلا يليق بالحق سبحانه، ولا يجوز عليه) (2)

وقال الغزالي: (القرب منه ليس بالمكان، وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان. وأن كمال النفس بالعلم والعمل، والاطلاع على حقائق الأمور، مع حسن الأخلاق) (3).

وقد ذكر الشيخ العارف أبو العباس التجاني ناحية مهمة لو تأملها السلفيون لانتفت عنهم كل الشبهات المرتبطة بالتجسيم وما يلزم منه، فقال: (معية الحق بذاته لكل ذرة من الموجودات وقربه لكل ذرة من الموجودات صفتان نفسيتان يتوقف تعلقهما على تعقل ماهية الذات، وحيث كان تعقل ماهية الذات ممنوعا لا سبيل إليه للعقل والفكر، كذلك تعقل هاتين الصفتين معية وقرباً لكل شيء من الموجودات تعقلهما من وراء طور العقل والحس، فلا اتصال ولا انفصال ولا مسافة للقرب والبعد ولا أينية ولا حلول ولا مكان ولا دخول ولا خروج ولا تتعدد الذات بتعددها بالمعية) (4)

وهكذا نرى العرفاء يخبرون عن شهودهم لقرب الله المطلق من كل ذرة من ذرات الوجود، تصديقا لما ورد في القرآن الكريم من ذلك.

يقول ابن عطاء الله: (ما احتجب الحق عن العباد إلا بعظيم ظهوره، ولا منع الأبصار أن

__________

(1) - الشيخان حسن البوريني والشيخ عبد الغني النابلسي – شرح ديوان ابن الفارض – ج 1 ص 228.

(2) - الشيخ أحمد زروق – شرح الحكم العطائية – ص 319 0

(3) - الإمام الغزالي – ميزان العمل – ص 293 0

(4) - الشيخ علي حرازم ابن العربي – جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني – ج 1 ص 235.

السلفية.. والوثنية المقدسة (156)

تشهده إلا قهارية نوره فعظيم القرب هو الذي غيب عنك شهود القرب) (1).

ويقول: (قربك منه أن تكون شاهداً لقربه، وإلا فمن أين أنت ووجود قربه؟) (2).

ويذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام كيفية قطع العقبات الحائلة بين القلب والقرب، فقال: (لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع عنك ست عقبات: العقبة الأولى: فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.. العقبة الثانية: فطم النفس عن المألوفات العادية.. العقبة الثالثة: فطم القلب عن المرغوبات البشرية.. العقبة الرابعة: فطم السر عن الكدورات الطبيعية.. العقبة الخامسة: فطم الروح عن البخارات الحسية.. العقبة السادسة: فطم العقل عن الخيالات الوهمية.. فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية.. وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية.. وتلوح لك في العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية.. وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار أعلام المنازل القريبة.. وتطلع لك في العقبة الخامسة أقمار المشاهدات الحبية.. وتهبط من العقبة السادسة إلى رياض الحضرة القدسية، فهناك تغيب من ما تشاهد من اللطائف الإنسية عن الكثائف الحسية) (3).

ويذكر الشيخ نجم الدين الكبرى عقبات أخرى تحول بين القلب والتحقق بالقرب، فيقول: (القلب إذا تجرد عن المعلومات، والسر تقدس عن المرقومات، والروح تنزه عن الموهومات: كانوا أقرب إلى الفطرة، ولم يشتغلوا بقبول النفوس السفلية من الحسيات والخيالات والوهميات) (4).

وكل هذه المعاني التي اتفق عليها أهل العرفان والبرهان نص عليهم قبلهم أئمة أهل البيت

__________

(1) الشيخ ابن عطاء الله السكندري – لطائف المنن في مناقب أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن (هامش كتاب لطائف المنن للشعراني) – ج 1 ص 44.

(2) بولس نويا – ابن عطاء الله ونشأة الطريقة الشاذلية – ص 169.

(3) الشيخ عز الدين بن عبد السلام المقدسي – مخطوطة حل الرموز ومفاتيح الكنوز – ص 32 – 34.

(4) الشيخ اسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج 6 ص 481.

السلفية.. والوثنية المقدسة (157)

الذين تركوا لنا ثورة ضخمة من الروايات الممتلئة بتنزيه الله وتعظيمه، ومن الروايات المرتبطة بهذا ما روي عن الإمام علي أنه قال: (لا تجري عليه [تعالى] الحركة والسكون، وكيف يجرى عليه ما هو أجراه، أو يعود إليه ما هو ابتدأه، إذاً لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه...) (1)

وسئل الإمام الصادق: لم يزل الله متحرّكاً؟ فقال: تعالى الله عن ذلك، إنّ الحركة صفة محدثة بالفعل) (2)

وقال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان، ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً) (3)

وقال الإمام الكاظم: (كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به، فمن ظنّ بالله الظنون هلك) (4)

هذا هو موقف المدرسة التنزيهية من هذه المسألة الخطيرة، وما يترتب عليها، لكن المدرسة التجسيمية التي يمثلها السلفية تخالف هذه الرؤية تماما، لأنها تنطلق في كل هذه المسائل من تغليب التصور على التعقل.. ولهذا تنطلق في هذه المسألة ـ كما تنطلق في غيرها ـ من إثبات الحدود والحيز والمكان.. وكل ذلك يقتضي بعدا حسيا، وحركة حسية.

بل هي تتصور أن نفي الحركة والانتقال عن الله حكم عليه بالإعدام، كما قال ابن القيم: (وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه

__________

(1) التوحيد، الصدوق: باب 2، ح 1، ص 41.

(2) الكافي، الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح 1، ص 107.

(3) بحار الأنوار، المجلسي: ج 3، كتاب التوحيد، باب 14، ح 33، ص 330.

(4) الكافي، الكليني: باب الحركة والانتقال، ح 1، ص 125.

السلفية.. والوثنية المقدسة (158)

الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له، وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة) (1)

أو هو على الأقل نفي للكمال عنه.. لأن الكمال في تصورهم هو القدرة على الحركة والتنقل، كما أشار ابن تيمية إلى ذلك في قوله: (وهكذا يقال لهم فى أنواع الفعل القائم به كالإتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة: إما أن يقبل ذلك وإما أن لايقبله: فإن لم يقبله كانت الأجسام التى تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه. وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل منه فإن الحركة كمال للمتحرك. ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك وما يقبل الحركة أكمل ممن لايقبلها) (2)

وقال في شرح حديث النُّزول: (لفظ (الحركة؛ هل يوصف الله بها أم يجب نفيه عنه؟ اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال، وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب الآئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم) (3)

ثم ذكر معنى الحركة عند المتكلمين والفلاسفة وأصحاب أرسطو وأنواع الحركة.. إلى أنْ قال: (والمقصود هنا أنَّ الناس متنازعون في جنس الحركة العامة التي تتناول ما يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية؛ كالغضب والرضى والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنُّزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قول

__________

(1) مختصر الصواعق (2/ 257 - 258).

(2) مجموع الفتاوى 8/ 23

(3) مجموع الفتاوى 5/ 565

السلفية.. والوثنية المقدسة (159)

من ينفي ذلك مطلقاً وبكل معنى.. وهذا أول من عرف به هم الجهمية والمعتزلة.. والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام الذين صرحوا بلفظ الحركة.. وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني - لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر - عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وغيره. وكثيرٌ من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن؛ لا يطلق هذا اللفظ؛ لعدم مجيء الأثر به؛ كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النُّزول. والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة؛ من أنه يأتي وينْزل وغير ذلك من الأفعال اللازمة. قال أبو عمرو الطَّلْمَنْكِيُّ: أجمعوا (يعني: أهل السنة والجماعة) على أنَّ الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفَّاً صفَّاً لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء؛ قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ}، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً}. قال: وأجمعوا على أنَّ الله يَنْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئا. ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح؛ قال: وسألت يحيى بن معين عن النُّزول؟ فقال: نعم؛ أقر به، ولا أحِدُّ فيه حَدَّاً.. والقول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثيرٌ من أهل الحديث والفقهاء والصوفية؛ كابن بطة وغيره، وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن؛ لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات.) (1)

وقال الشيخ ابن عثيمين: (.. النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنُّزول إلى

__________

(1) مجموع الفتاوى (5/ 577)، وانظر: الاستقامة (1/ 70 - 78)

السلفية.. والوثنية المقدسة (160)

السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة) (1)

والمشكلة الكبرى أن المدرسة السلفية تزعم استمدادها لهذه العقائد التجسيمية الخطيرة من الكتاب والسنة.. مع أنها تخالف القطعيات الصريحة من الكتاب والسنة وتقدم عليها النصوص المتشابهة.. فتحول المحكم متشابها والمتشابه محكما.

ولوصف عقائدهم في هذه الناحية، وأدلتهم عليها، سنتحدث عن مواقفهم التفصيلية من خلال العنصرين التاليين:

الدنو والمماسة

كما رأينا من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة، فإن القرب والبعد عن الله اعتباريان، وليس حقيقيان، فالله قريب من كل شيء قربا واحدا.. فليس هناك شيء أقرب إليه من شيء.. لأنه لا مسافة بين الله وعباده.. ولا حجاب بينه وبينهم، كما قال ابن عطاء الله في ذلك: (الحقّ ليس بمحجوب عنك إنما المحجوب أنت عن النظر إليه إذ لو حجبه شي ء لستره ما حجبه ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر وكل حاصر لشي ء فهو له قاهر {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18])

ولذلك فإن القرب والبعد ـ كما تدل على ذلك النصوص المقدسة ـ مرتبط بالتخلق.. فبقدر التخلق بالخلق الحسن يكون القرب، وبقدر التخلق بالخلق السيء يكون البعد، كما أشار ابن عطاء الله إلى ذلك في قوله: (اخرج من أوصاف بشريّتك عن كلّ وصف مناقض لعبوديّتك، لتكون لنداء الحقّ مجيبا، ومن حضرته قريبا)

وقال ابن عجيبة معلقا عليه: (إذا تخلص من رق الشهوات والحظوظ، كان قريبا من

__________

(1) إزالة الستار عن الجواب المختار (ص 32)

السلفية.. والوثنية المقدسة (161)

حضرة الحق، بل عاكفا فيها، إذ ما أخرجنا عن الحضرة إلا حبّ هذه الخيالات الوهمية فإذا تحررنا منها وتحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة) (1)

وهذا الذي ذكره العارفون إنما استمدوه من القرآن الكريم، ومما يقتضيه العقل السليم.. فالعقل يصنف الأشياء بحسب أنواعها لا بحسب قربها وبعدها عن بعضها.. فالذهب يبقى شقيقا للذهب حتى لو باعدت بينهما المسافة.. وهكذا ولله المثل الأعلى يكون القرب من الكمال بحسب الكمال المطاق.

وبناء على هذه النظرة التنزيهية فإن أقرب الخلق إلى الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه أكملهم، وأكثرهم معرفة به، وهو سيد المقربين من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة.

وهكذا، وبناء عليه يكون القرب من الله تعالى.. فأقرب الخلق إلى الله أقربهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن ميزان القرب منه هو الأخلاق، وليس الزمان ولا المكان، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون) (2)

فهذا الحديث يحدد حسن الخلق مقياسا لمكانة المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما لا علاقة له لا بالمكان، ولا بالزمان.

هذه هي النظرة التنزيهية للقرب والبعد في مجالاته المختلفة.. لكن النظرة التجسيمية تخالف ذلك تماما.. ولهذا يرى السلفية الذين تبنوا هذه النظرة أن القرب من الله قرب مكاني مخالفين بذلك كل ما ورد في النصوص من القرب الاعتباري.

قال الدارمي موضحا هذه الرؤية بأصرح عبارة: (.. فيقال لهذا المعارض المدعي ما لا

__________

(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 115.

(2) البيهقى فى شعب الإيمان (4/ 250، رقم 4969) أحمد (4/ 194، رقم 17778)

السلفية.. والوثنية المقدسة (162)

علم له من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سمواته علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة والسادسة أقرب إليه من الخامسة ثم كذلك إلى الأرض) (1)

وقد دعاهم إلى هذه الرؤية التجسيمية اعتبارهم للحيز والحدود والمكان وغير ذلك.. وهي جميعا تقتضي أن تكون الأشياء بالنسبة لله متفاوتة في قربها وبعدها بحسب موضعها.

بالإضافة إلى ما أوردوه من روايات تلقفوها من أهل الكتاب أو من تلاميذهم، ثم صاغوها أو صاغوا بعضها على شكل روايات مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحصنوا تجسيمهم وتشبيههم لله بحصن السنة المقدس.

وبناء على تلك الرؤية التجسيمية فإن أقرب الخلق إلى الله هو العرش، ثم الملائكة الحاملين للعرش.. وهكذا..

وقد رووا في ذلك الروايات الكثيرة التي تدل على أن أوامر الله تنزل بسلم تنازلي يبدأ من حملة العرش، ثم من بعدهم إلى أن يصل الأمر إلى محله الذي أراده الله.

ومن تلك الروايات التي استدلوا بها على هذا ما رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (ولكن ربنا- تبارك وتعالى اسمه- إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم، فيخبرونهم ماذا قال) (2)

وقد استدلوا بهذا الحديث على أن (حملة العرش هم أول من يتلقى أمر الله، ثم يبلغونه للذين يلونهم من أهل السموات، فكونهم أقرب الخلق إلى الله دليل على أن العرش أقرب منهم

__________

(1) نقض عثمان بن سعيد 1/ 504. وانظر الفواكه العذاب لحمد بن ناصر 157 وإثبات علوالله لحمود التويجري 84

(2) رواه مسلم رقم (2229).

السلفية.. والوثنية المقدسة (163)

إليه – سبحانه - لأنهم إنما يحملونه) (1)

وقد حددوا في بعض الروايات المسافة التي تفصل الله تعالى عن أقرب الخلق إليه، فرووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أقرب الخلق إلى الله تعالى جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وإنهم من الله تعالى بمسيرة خمسين ألف سنة) (2)

ورووا عن سلفهم الكثير من الروايات التي تصور ذلك تصويرا حسيا واضحا حتى لا يتعب عقل السلفي في وضع الاحتمالات المرتبطة بذلك، ومن تلك الروايات ما حدث به وهيب بن الورد قال: (بلغني أن أقرب الخلق من الله عز وجل إسرافيل العرش على كاهله.. فإذا نزل الوحي دلي لوح من تحت العرش، فيقرع جبهة إسرافيل، فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله، فإذا كان يوم القيامة أتى بإسرافيل ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل. فيدعى جبريل ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل. فيؤتى بالرسل ترعد فرائصهم فيقال: ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون: بلغنا الناس) (3)

وبناء على هذا الحديث التجسيمي فسروا قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7]، ورووا عن وهب بن منبه ما هو أكثر تفصيلا وتجسيما، حيث قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل: يا إسرافيل، هات ما وكلتك به فيقول: نعم يا رب في الصور كذا وكذا ثقبة، وكذا وكذا روحا، للإنس منها كذا وكذا، وللجن منها كذا وكذا، وللشياطين منها كذا وكذا، وللوحوش منها كذا وكذا، وللطير كذا، ومنها كذا وكذا للحيتان، وللبهائم منها كذا وكذا وللهوام منها

__________

(1) محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش 81

(2) العلو للعلي الغفار 1/ 90. أبو الشيخ في العظمة 2/ 684 (276)

(3) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 846).

السلفية.. والوثنية المقدسة (164)

كذا وكذا. فيقول الله عز وجل: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول الله عز وجل: هات ما وكلتك به يا ميكائيل فيقول: نعم يا رب أنزلت من السماء كذا وكذا كيلة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا قيراطا وزنة كذا وكذا خردلة وزنة كذا وكذا ذرة، أنزلت في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا كذا وكذا، وفي جمعة كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا للزرع كذا وكذا وأنزلت منه للشياطين كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت للإنس منه كذا وكذا في يوم كذا وكذا كذا وكذا، وأنزلت للبهائم كذا وكذا وزنة كذا وكذا، وأنزلت للوحوش كذا وكذا وزنة كذا، وكذا، وللطير منه كذا وكذا، وللباد منه كذا وكذا، وللحيتان منه كذا وكذا وللهوام منه كذا وكذا فذلك كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح، فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول: يا جبريل هات ما وكلتك به، فيقول: نعم يا رب أنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية في شهر كذا وكذا في جمعة كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية وعلى نبيك فلان كذا وكذا سورة فيها كذا وكذا آية، فذلك كذا وكذا أحرفا، وأهلكت كذا وكذا مدينة، وخسفت بكذا وكذا. فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول عز وجل: هات ما وكلتك به يا عزرائيل. فيقول: نعم يا رب قبضت روح كذا وكذا إنسي وكذا وكذا جني، وكذا وكذا شيطان وكذا وكذا غريق، وكذا وكذا حريق، وكذا وكذا كافر، وكذا وكذا شهيد وكذا وكذا هديم وكذا وكذا لديغ وكذا وكذا في سهل، وكذا وكذا في جبل، وكذا وكذا طير، وكذا وكذا هوام، وكذا وكذا وحش فذلك كذا، وكذا جملته كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص فالله تبارك وتعالى علم قبل أن يكتب وأحكم) (1)

وقد فسروا بهذا الحديث قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]

__________

(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 847).

السلفية.. والوثنية المقدسة (165)

بل ذكروا أن جبريل عليه السلام كان إذا احتاج إلى سؤال الله رحل إليه، ودنا منه، ليسأله، وكأنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]

ومن تلك الروايات التي أوردوها في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبريل عليه السلام: أي بقاع الأرض أشر؟، قال: الله أعلم، قال: ألا تسأل ربك عز وجل؟ قال: ما أجرأكم يا بني آدم إن الله لا يسئل عما يفعل، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إني دنوت من ربي حتى كنت منه بمكان لم أكن قط أقرب منه، كنت بمكان بيني وبينه سبعون حجابا من نور، فأوحى الله تبارك وتعالى إلي أن شر بقاع الأرض السوق) (1)

وفي رواية أخرى أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحلته الطويلة: (يا محمد، لقد وقفت اليوم موقفا لم يقفه ملك قبلي ولا يقفه ملك بعدي، كان بيني وبين الجبار تبارك وتعالى سبعون ألف حجاب من نور، الحجاب يعدل العرش والكرسي والسماوات والأرض بكذا وكذا ألف عام، فقال: أخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن خير البقاع المساجد، وخير أهلها أولهم دخولا، وآخرهم خروجا، وشر البقاع الأسواق، وشر أهلها أولهم دخولا، وآخرهم خروجا) (2)

بل إنهم يفسرون قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] تفسيرا حسيا موغلا في التجسيم، فيروون عن مجاهد قوله: (بين السماء السابعة، وبين العرش سبعون ألف حجاب: حجاب نور، وحجاب ظلمة، وحجاب نور، وحجاب ظلمة، فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]) (3)

__________

(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 672)

(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 675).

(3) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 690)، وأخرجه الطبري في تفسيره 16/ 95 والبيهقي في الأسماء والصفات 508.

السلفية.. والوثنية المقدسة (166)

وهكذا فسروا قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] فقد رووا عن مجاهد قوله: (إن داود عليه السلام يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة في كفه، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول له: كن بين يدي، فينظر إلى كفه فيراها، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول: خذ بحقوي، فذلك قوله، عز وجل: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]) (1)

وهكذا فسروا قوله تعالى عن المعراج: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 8 - 10]، فقد فسروها تفسيرا حسيا فقد رووا عن أنس بن مالك: (.. ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات...) (2)

وهكذا يفسرون الكثير من آيات القرآن الكريم تفسيرا حسيا لا يختلف عن هذا، بل إن ابن تيمية أقر قصة عجيبة ذكرها البغوي في تفسيره عن أيوب عليه السلام، رواها عن وهب بن منبه، كتفسير لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ

__________

(1) السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 503).

(2) صحيح البخاري 6/ 370 (7079)

السلفية.. والوثنية المقدسة (167)

وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فقد ذكر أن أيوب لم يقل تلك الكلمة التي ذكرها القرآن الكريم عنه، وإنما قال بدلها: (لو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلا نظر إلي فيرحمني، ولا دنا مني، ولا أدناني فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي، وأخاصم عن نفسي)

ويروي أن الله تعالى أجابه بخلاف ما ذكره القرآن الكريم: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، وإنما أجابه بنزوله على الغمام وخطابه له، قال وهبه بن منبه: (فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا ثم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك، وقم مقام جبار يخاصم جبار إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا شبه لي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ما تبلغه بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا محفوظافي الهواء..) (1) إلى آخر ما ذكره.

والعجيب أن ابن تيمية استدل بهذه القصة على دنو الله من خلقه، فقال: (.. وقد جاء أيضاً من حديث وهب بن منبه وغيره من الاسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام. ولفظه الذي ساقه البغوى أنه أظله غمام ثم نودى يا أيوب أنا الله، يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا، لكن الاسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة لا على وجه الاعتماد عليها وحدها) (2)

__________

(1) تفسير البغوي (3/ 303).

(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.

السلفية.. والوثنية المقدسة (168)

ثم يعطي ابن تيمية القاعدة التي بنى عليها السلف هذه المسألة، فقال: (.. والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة وهو قول الأشعرى وغيره من الكلابية فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته... وأما دنوه نفسُه وتقرُّبُه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستوائه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الاسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر) (1)

وبناء على هذا المفهوم للقرب ذكروا أن معنى قرب أهل الجنة من الله هو القرب الحسي.. ومما رووه في ذلك عن عبد الله بن مسعود قوله: (سارعوا إلى الجمع في الدنيا فإن الله تعالى ينزل لأهل الجنة كل جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمع في الدنيا) (2)

وبناء عليه أيضا فسروا المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا} [الإسراء:79]، تفسيرا حسيا، فذكروا أن معناه إقعاد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على العرش، وقد بالغوا في هذا المعنى كثيرا حتى اعتبروا مخالفته تعطيلا وتجهما وضلالة.

بل إن بعضهم لم يكتف بحديث مجاهد، بل أضاف إليه روايات رفعوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ما رواه أبو إسحاق الشيرجي الحنبلي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: (نعم، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حبيب الله؟ فأتخطى صفوف الملائكة حتى أصير إلى جانب العرش، ثم يمد يده فيأخذ بيدي فيقعدني على العرش) (3)

__________

(1) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 466

(2) العلو 1/ 60.

(3) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.

السلفية.. والوثنية المقدسة (169)

ومثله ما رواه أبو بكر النجاد عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية السابقة، قال: (يقعدني على العرش) (1)

ومثله ما رواه عمرو بن دينار: (أن الله عز وجل يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب مثله، فيقوم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيثني على الله بما هو أهله، فيقول الله عز وجل له: ادنه، ثم يغضب فيقوم نبينا، فيثني على الله بما هو له أهل، فيقول له: ادنه، فلا يزال يقول له: ادنه، حتى يقعده على العرش، وجبريل عليه السلام قائم، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا يعني جبريل جاءني برسالاتك، فيقول الله تبارك وتعالى: صدق) (2)

بل إنهم لم يكتفوا بهذه الأحاديث المرفوعة، بل راحوا يضيفون الاستدلال بالرؤى على صحة هذه الفضيلة، ومن تلك الرؤى ما حدث به محمد بن علي السراج، قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، رحمة الله عليهما ورضوانه، فتقدمت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقمت عن يسار عمر، فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أقول شيئا فأقبل علي، فقال: قل، فقلت: إن الترمذي يقول: إن الله عز وجل لا يقعدك معه على العرش، فكيف تقول يا رسول الله، فأقبل علي شبه المغضب وهو يشير بيده اليمنى عاقدا بها أربعين، وهو يقول: (بلى والله، بلى والله، بلى والله، يقعدني معه على العرش، بلى والله يقعدني معه على العرش، بلى والله يقعدني معه على العرش)، ثم انتبهت) (3)

ومما ذكره ابن القيم في نونيته عن هذا الأصل من أصول العقائد قوله:

واذكر كلام مجاهد في قوله... أقم الصلاة وتلك في سبحان

في ذكر تفسير المقام لأحمد... ما قيل ذا بالرأي والحسبان

 

إن كان تجسيمًا فإن مجاهدًا... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني

وقد أتى ذكر الجلوس به وفي... أثر رواه جعفر الرباني

أعني ابن عم نبينا وبغيره... أيضًا والحقُّ ذو التِّبيان

والدارقطني الإمام يثبت الآثار... في ذا الباب غير جبان

وله قصيد ضمنت هذا... وفيها لست للمروي ذا نكران

وجرت لذلك فتنة في وقته... من فرقة التعطيل والعدوان

والله ناصر دينه وكتابه... ورسوله في سائر الأزمان

لكن بمحنة حزبه من حربه... ذا حكمة مذ كانت الفئتان

 

وقبله قال أبو الحسن الدارقطني:

حديث الشفاعة عن أحمد... إلى أحمد المصطفى مسنده

وجاء حديث باقعاده... على العرش أيضًا فلا نجحده

أمرُّوا الحديث على وجهه... ولا تُدخلوا فيه ما يفسده

ولا تُنكروا أَنَّه قاعد... ولا تُنكروا أنه يقعده

 

وقد نص على ثبوت هذا النوع من القرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل متقدمي السلفية الذين يحتجون بهم في العادة على مخالفيهم (4) ومنهم أحمد بن حنبل، وهارون بن معروف، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام وعبد الوهاب الوراق، وأبو داود السجستاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر المروذي وأبو بكر الخلال،، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر الآجري، وأبو عبد الله ابن بطة، وغيرهم كثير.

بل قال إبراهيم الأصبهاني في الحديث: (هذا الحديث صحيح ثبت، حدث به العلماء منذ

__________

(1) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.

(2) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.

(3) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.

(4) انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 187)، فما بعدها، والرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 10، فما بعدها، فقد ذكر فيه الأقوال الكثيرة لأعلام السلف في هذا، ومنه أخذنا هذه الأقوال.

السلفية.. والوثنية المقدسة (170)

ستين ومائة سنة)

وقال أبو بكر المروذي: قال أبو بكر بن حماد المقرئ: (من ذكرت عنده هذه الأحاديث فسكت فهو متهم على الإسلام! فكيف من طعن فيها؟!)

و قال أبو بكر بن صدقة: (ما حكمه عندي إلا القتل)

وقال أبو بكر بن أبي طالب: (من رده فقد رد على الله عز وجل، ومن كذب بفضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر بالله العظيم).

وقال محمد بن إسماعيل السلمي: (من توهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل ما قال مجاهد فهو كافر بالله العظيم)

وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب: (لا علمت أحدا رد حديث مجاهد يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على العرش)

وقال أبو قلابة: (لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية)

وقال الحسن بن الفضل: (من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال ما أدركنا أحدا يرده إلا من في قلبه بلية، يهجر ولا يكلم)

وقال ابن بطة: سمعت أخي القاسم - نضر الله وجهه - يقول: (لم يكن البربهاري يجلس مجلسا إلا ويذكر فيه أن الله عز وجل يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش).

و قال محمد بن إسماعيل السلمي: (كل من ظن أو توهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل هذه المنزلة في حديث مجاهد فهو عندنا جهمي، وإن هذه المصيبة على أهل الإسلام أن يذكر أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقدموا عليه بأجمعهم!)

بل إن المتأخرين أيضا ممن لا يمارسون التقية قالوا بذلك، من أمثال الشيخ ابن فوزان فقد قال في شرحه على النونية عن أثر مجاهد: (هذا حديث صحيح وإن كان يشوش على ضعاف الإدراك فلا عبرة بهم لأنه لا يمكن أن يقال هذا الكلام من جهة الاجتهاد أو الرأي بل له حكم

السلفية.. والوثنية المقدسة (171)

الرفع) (1)

بل إن بعضهم ألف في ذلك رسالة سماها (الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد) (2)، وقد قدم لها بقول محمد بن إسماعيل السلمي: (لولا أن أبا بكر المروذي رحمه الله اجتهد في هذا –أي في الرد على من أنكر أثر مجاهد- لخفت أن ينزل بنا وبمن يقصر عن هذا الضال المضل عقوبة، فإنه من شر الجهمية ما يبالي ما تكلم به) (3)

ثم قال: (ومما أعطى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود يزيده بذلك شرفا وفضلا، جمع الله الكريم له فيه كل حظ جميل من الشفاعة للخلق والجلوس على العرش، خص الله الكريم به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأقر له به عينه يغبطه به الأولون والآخرون، سر الله الكريم به المؤمنين مما خص به نبيهم من الكرامة العظيمة والفضيلة الجميلة تلقاها العلماء بأحسن القبول، فالحمد لله على ذلك، وقد حدث المشايخ المشهورون والأولياء المقبولون بالآثار الواردة في هذا الباب منذ قرون، ورأوا أن الفضيلة المنقولة فيها أعظم فضائل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم) (4)

ثم نقل قول المروذي: سألت أبا عبد الله بن عبد النور عن فضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث مجاهد، فقال: (والله ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة مثلها، أدركت شيوخنا على ذلك يتلقونه بالقبول، ويسرون بها ولا يردها إلا رجل سوء جهمي) (5)

ثم ذكر التقية التي صار يمارسها المتأخرون من السلفية منتقدا لها، فقال: (ولم يزل الأمر كذلك عند أهل العلم والدين، في تلقى هذه الفضيلة بالقبول، وكلما نبغت نابغة فتنة ترد هذه الفضيلة وتنكرها قمعوها، وبينوا ضلال أصحابها، حتى اشتدت الغربة في هذا الزمان،

__________

(1) شرحه على النونية (2 - 453).

(2) ألفها إبراهيم بن رجا بن شقاحي الشمري، وهي في موقعه على النت.

(3) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 3.

(4) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 4.

(5) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 4.

السلفية.. والوثنية المقدسة (172)

وعظمت المحنة، فصار المثبتون لهذه الفضيلة، المتبعون للسلف الأكارم، يرمون بالشذوذ والسفه والابتداع، وذلك حين انتسب إلى السنة والسلف أقوام ليسوا منها بسبيل، فردوا الآثار المنقولة، وجحدوا الفضلية المذكورة، ونشروا الشبه المدحوضة، في دعم مقالتهم المخذولة، ولم يكتفوا بذلك حتى طعنوا في أهل الحديث النجباء، ولمزوا في السلف الكرماء) (1)

الإتيان والنزول

من المنطلقات المهمة التي ينطلق منها السلفية في إثبات التنقل والحركة لله اعتبارهم أن الفرق بين الحي والجماد هو الحركة.. وأن كل ساكن ميت أو معدوم.. ولذلك، فهم يستدلون استدلالا عقليا على وجوب الحركة لله من هذه الناحية.

وهذا يدل على الخلفية التشبيهية التي يمتلئ بها العقل السلفي، ذلك أن إجراء أحكام الخلق على الخالق، أو تطبيق قوانين الخلق على الخالق أكبر أنواع التشبيه، كما أنه أكبر أسبابه.

بالإضافة إلى ذلك، فقد غفل هؤلاء عما أشار إليه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، فمن بديهيات العلوم الحديثة أن الحركة الفلكية ثابتة لكل جسم حتى أنهم شبهوا حركة الالكترونات حول نفسها وحول النواة بحركة كل كوكب حول نفسه وحول الشمس، والشمس أيضاً تتحرك حول نفسها وتتحرك مع مجموعتها الشمسية من الكواكب حول مركز مجرة درب التبانة والمجرة في حركة مثلها أيضاً، وكل ذرة في الجسم ماهي إلا صورة مصغرة من هذا الكون (2).

بناء على هذا المعتقد، والذي ينطلقون منه ـ مثلما ذكرنا سابقا ـ من الفهم الحرفي لبعض ما ورد في القرآن الكريم أو السنة المطهرة من تعابير كالإتيان والمجيء ونحوها، فيفسرونها

__________

(1) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 4.

(2) شهادة الكون لعبد الودود رشيد محمد 31 و43

السلفية.. والوثنية المقدسة (173)

بمعناها الظاهري الذي يلزم منه تشبيه الخالق بالمخلوق.

ولو أنهم فعلوا هذا مع جميع النصوص المقدسة لكان في ذلك بعض العذر لهم.. ولكنهم ـ للأسف ـ ينتقون ما يشاءون تأويله، فيجيزون لأنفسهم ذلك.. وينتقون ما يشاءون حمله على ظاهره، فيعتبرون تأويلا تجهما وتعطيلا.

وكمثال على ذلك أنهم يؤلون قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، بينما يقولون بظاهر قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]، مع أن الآية الكريمة تحتمل من وجوه التأويل وفق كلام العرب ما تحتمله الآية التي أولها السلفية، وقد ذكر المنزهة الكثير من الوجوه التي تفسر بها الآية الكريمة (1):

ومنها: هل ينظرون إلا أن تأتيهم آياتُ الله، فجعل مجيء الآيات مجيئاً له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209]، فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] ومعلوم أنه على تقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزجر، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سبباً للتهديد والوعيد، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد، وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية.

ومنها: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلاً وأضافه إلى شيء، فإن كان ذلك محالاً فالواجب صرفه إلى التأويل، كما قال السلفية أنفسهم

__________

(1) انظر هذه الوجوه في: تفسير الرازي (5/ 358)

السلفية.. والوثنية المقدسة (174)

في قوله: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33]، فقد نصوا على أن المراد منها (يحاربون أولياءه)، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، فقد نصوا على أن المراد منها: (واسأل أهل القرية)، فكذا قوله: (يأتيهم الله) المراد به يأتيهم أمر الله، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، فالمراد منها: (جاء أمر ربك)، وليس فيه إلا حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجاز مشهور، يقال: ضرب الأمير فلاناً، وصلبه، وأعطاه، والمراد أنه أمر بذلك، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه.

والذي يؤكد هذا المعنى أن قوله تعالى ههنا: (يأتيهم الله) وقوله: (وجاء ربك) إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: ({هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33]، فصار هذا المحكم مفسراً لذلك المتشابه، لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض.

لكن المدرسة السلفية، ولحنينها للتجسيم والتشبيه، أو حنينها لإله جسماني متحرك اعتبروا تلك التأويلات تعطيلا، مع أنهم يتبنون أمثالها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ولهذا فقد فسروا تلك الآية الكريمة بهذا التفسير التشبيهي التجسيمي الخطير، فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينظرون إلى فصل القضاء، فينزل الله من العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام) (1)

ورووا عن أبي هريرة قوله: (يحشر الناس حفاة، عراة، مشاة، قياما، أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وقد ألجمهم العرق من شدة الكرب، وينزل الله في

__________

(1) العرش للذهبي (2/ 116).

السلفية.. والوثنية المقدسة (175)

ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي) (1)

ولم يكتفوا بذلك في تفسير الآية، بل جعلوا الغمام مركبا لله تعالى يأتي به كل حين، ومن ذلك ما رووه عن عمر بن عبد العزيز قال: (فإذا فرغ الله - عز وجل - من أهل الجنة والنار؛ أقبل الله - عز وجل - في ظلل من الغمام والملائكة، فسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام، قال القرظي: وهذا في القرآن {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، فيقول: سلوني، قال: ففعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه، ثم يأتيهم التحف من الله تحمله الملائكة إليهم) (2)

وهكذا لا يفوت السلفيون آية من آيات القرآن الكريم إلا ربطوها بمشهد تجسيمي أسطوري خرافي.

وقد ساق هذه النصوص وأمثالها الدارمي في كتابه [الرد على الجهمية]، ثم قال بنبرة غامضة مخاطبا المدرسة التنزيهية بالشدة السلفية المعهودة: (فهذا الناطق من قول الله - عز وجل -، وذاك المحفوظ من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار ليس عليها غبار، فإن كنتم من عباد الله المؤمنين؛ لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فصرحوا بما تضمرون، ودعوا هذه الأغلوطات التي تلوون بها ألسنتكم، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم، إن أهل العلم من أمركم لعلى يقين، فإن قال قائل منهم: معنى إتيانه في ظلل من الغمام، ومجيئه والملك صفا صفا، كمعنى كذا وكذا، قلت: هذا التكذيب بالآية صراحا، تلك معناها بين للأمة لا اختلاف بيننا وبينكم وبين المسلمين في معناها المفهوم المعقول عند جميع المسلمين، فأما مجيئه يوم القيامة وإتيانه في ظلل من الغمام والملائكة، فلا اختلاف بين الأمة أنه إنما يأتيهم يومئذ كذلك لمحاسبتهم، وليصدع بين خلقه، ويقررهم بأعمالهم، ويجزيهم بها، ولينصف المظلوم منهم من

__________

(1) أورده الذهبي في العلو (ص 65) وعزاه للعسال في كتاب المعرفة. وأورده ابن كثير في النهاية (2/ 205)

(2) الطبري في التفسير (20/ 540) الرد على الجهمية (ص: 89).

السلفية.. والوثنية المقدسة (176)

الظالم، لا يتولى ذلك أحد غيره، تبارك اسمه وتعالى جده، فمن لم يؤمن بذلك؛ لم يؤمن بيوم الحساب) (1)

وهكذا يعطي السلفية لهذا الموقف التجسيمي هذا الحكم الخطير، وهو أنه من لم يؤمن بنزول الله على الغمام، لا يؤمن أصلا بيوم الحساب..

ولم يكتف السلفية باستخدام القرآن الكريم وسيلة لبث الأفكار التجسيمية، بل عمدوا إلى رواية الأحاديث الكثيرة، وتحريف ألفاظها أو معانيها بحيث تتناسب مع رؤيتهم التجسيمية.

وكمثال على ذلك ما يسمونه حديث النزول، والذي ألف ابن تيمية رسالة في شرحه، بل جعلوه مع حديث الجارية، وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل غيرهما.

مع أن الحديث روي بروايات أخرى، قال الحافظ أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي في كتابه (مشكل الحديث وبيانه): (وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤيد هذا الباب وهو بضم الياء من ينزل وذكر أنه ضبطه عمن سمعه من الثقات الضابطين وإذا كان ذلك محفوظا مضبوطا كما قال فوجهه ظاهر) (2)

وفي رواية للنسائي: (إن لله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا ينادي يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى) (3)

ونظير هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإن معناه: (فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا) لأنه من المعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقرأ القرءان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقرأ المعلم على التلميذ.

__________

(1) الرد على الجهمية (ص: 91).

(2) مشكل الحديث وبيانه (ص: 205)

(3) النسائي في اليوم والليلة (رقم 482).

السلفية.. والوثنية المقدسة (177)

لكن السلفية ـ لحنينهم للتجسيم ـ يأبون هذا التفسير، ويعتبرونه تعطيلا، وإن كانوا يعملون أمثاله حين يرغبون في ذلك.

وبالرغم من أن ما فهموه من الحديث يقضي على كل ما بنوه من فهمهم لاستواء الله على عرشه إلا أنهم يصرون على الجمع بين المتناقضات، يقول ابن باز في شرحه للحديث: (قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإثبات النزول.. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة النزول على الوجه الذي يليق بالله سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته.. والنزول في كل بلاد بحسبها لأن نزول الله سبحانه لا يشبه نزول خلقه وهو سبحانه يوصف بالنزول في الثلث الأخير من الليل في جميع أنحاء العالم على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه.. وأول الثلث وآخره يعرف في كل زمان بحسبه فإذا كان الليل تسع ساعات كان أول وقت النزول أول الساعة السابعة إلى طلوع الفجر، وإذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة كان أول الثلث الأخير أول الساعة التاسعة إلى طلوع الفجر وهكذا بحسب طول الليل وقصره في كل مكان) (1)

وما ذكره ابن باز وغيره من السلفية في هذا الباب يتسلزم تناقضات كثيرة تقضي على كل مذهبهم التجسيمي، فمن تلك الاستلزامات التي تلزمهم (2):

أولا ـ أن الليل والنهار وأجزاءهما كالنصف والثلث يختلف باختلاف البلدان، فإن قالوا: إن الله ينزل بالنسبة لبلد واحدة كمكة فقط، فمن أين هذا التخصيص ليس عندهم دليل.. وإن قالوا: إنه بالنسبة لكل الدنيا فليل بلد نهار بلد آخر ونصف الليل في بلد يكون نصف النهار في بلد آخر، فيلزم على معتقدهم أن يكون الله نازلا وطالعا كل ساعة من ساعات الليل والنهار، وهذا ينافي قولهم إنه (مختص بالعرش)

__________

(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة عبد العزيز بن عبد الله بن باز. م/4. ص/420.

(2) انظر مقالا في هذا بعنوان: ابن باز ومعبوده المتحرك الذي يطلع وينزل، في موقع أهل السنة والجماعة، وانظر: ما ساقه ابن جماعة على هذا في كتابه (إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل)

السلفية.. والوثنية المقدسة (178)

ثانيا ـ أنه بناء على قولهم أن العرش أكبر العوالم بحيث أن الكرسي بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة، وأن السموات بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وعلى هذا تكون السماء الدنيا بالنسبة للعرش أقل من خردلة ملقاة في فلاة، فكيف تسع الله الذي هو في معتقدهم بقدر العرش أو أوسع من العرش، فإن قالوا هو ينزل إلى السماء الدنيا وهي على حالها وهو على حاله فهذا محال، وإن قالوا: إن الله يصير أقل من قدر خردلة حتى تسعه السماء الدنيا فهذا أيضا محال، وإن قالوا: إن الكرسي والسموات تكون بقدر العرش أو أوسع منه، فمن أين الدليل على ذلك من الكتاب والسنة؟

ثالثا ـ أنه بناء على الروايات الكثيرة التي يصححونها فإن السموات السبعة ممتلئة بالملائكة بحيث أنه لا يوجد فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا) (1) فمن أين يكون في السماء الدنيا متسع لذات الله الذي هو على زعمهم بقدر العرش أو أوسع منه، فعلى كل تقدير يلزمهم أن يجعلوا، الله متغيرا والتغير على الله محال.

ولم يكتف السلفية بإنزال الله في الثلث الأخير من الليل لإبلاغ عباده بتلك الرسالة، وإنما جعلوه ينزل في كل حين، فمن المواطن التي ينص فيها السلفية على نزول الله تعالى نزوله ليلة النصف من شعبان، فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (ينزل الله، عز وجل، ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنسان في قلبه شحناء أو مشرك بالله جل اسمه) (2)، وفي رواية: (إن الله جل اسمه يطلع ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) (3)

__________

(1) رواه الترمذي، رقم (2313) وابن ماجة رقم (4190) وأحمد في المسند 5/ 173، وإسناده حسن، وقد حسنه الترمذي.

(2) إبطال التأويلات (ص: 255).

(3) إبطال التأويلات (ص: 255).

السلفية.. والوثنية المقدسة (179)

ومن المواطن ما رووه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أيام أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض) (1)

ومن المواطن ما رووه عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25]، ثم قال: (ينزل أهل السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من الجن والإنس فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا - وذكر الحديث - ثم يأتي الرب في الكروبيين وهم أكثر أهل السموات السبع والأرضين) (2)

وقد علق عليه الشيخ أبو يعلى على هذه الرواية بقوله: (اعلم أن هذا حديث صحيح يجب الأخذ بظاهره من غير تأويل، ولا يجب أن يستوحش من إطلاق مثل ذلك، وقد نص أحمد عليه في رواية ابن منصور وقد سأله: (ينزل ربنا، تبارك وتعالى، كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا) أليس تقول بهذا الحديث؟ قال أحمد: صحيح، وقال أحمد بن الحسين بن حسان: قيل لأبي عبد الله: (إن الله، تبارك وتعالى، ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة)، قال: نعم، قيل له: وفي شعبان كما جاء الأثر؟ قال: نعم، وقال يوسف بن موسى: قيل لأبي عبد الله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء من غير وصف؟ قال: نعم) (3)

ومن مواطن النزول هذه الرواية الخطيرة المرفوعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي: (إن الله، عز وجل، ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى، الذي لم تره عين فيمحوا الله ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن، وهي داره وهي مسكنه التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر، وهي مسكنه لا يسكنها معه من بني آدم إلا ثلاث: النبيون والصديقون والشهداء، ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى السماء الدنيا وملائكته، فتنتفض فيقول:

__________

(1) إبطال التأويلات (ص: 258).

(2) إبطال التأويلات (ص: 259).

(3) إبطال التأويلات (ص: 259).

السلفية.. والوثنية المقدسة (180)

قومي بعزتي، ثم يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟ حتى تكون صلاة الفجر، ولذلك يقول الله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]) (1)

وقد علق عليها أبو يعلى بقوله: (وهذا يسقط التأويل، لأنه قال: (ينزل في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا وملائكته)، فأثبت نزول ذاته ونزول ملائكته فإن قيل: يحتمل قوله: (ينزل وملائكته) معناه ينزل بملائكته قيل: هذا غلط لأن حقيقة الواو للعطف والجمع، ولأنه قال في الخبر: (ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟) وهذا القول لا يكون لملك الثالث: أنه إن جاز تأويل هذا على نزول ملائكته، جاز تأويل قوله: (ترون ربكم على رؤية ملائكته) (2)

وذكر جوابا آخر لذلك، فقال: (وجواب آخر جيد وهو ما رواه إبراهيم بن الجنيد الختلي في كتاب العظمة بإسناده، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله جل اسمه إذا أراد أن ينزل نزل بذاته) فإن قيل: فقد روي بضم الياء (ينزل الله) وإذا كان كذلك، صح التأويل بأنه ينزل من أفعاله التي هي ترغيب لأهل الخير واستعطاف لأهل العطف قيل: هذا غلط لأنه لا يحفظ هذا عن أحد من أصحاب الحديث أنه روى ذلك بالضم فلا يجوز دعوى ذلك، والذي يبين بطلان ذلك قوله: (ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟) وهذه صفة تختص بها الذات دون الأفعال، وما هذه الزيادة ألا تحريف المبطلين لأخبار الصفات فإن قيل: يحمل قوله: (ثم يعلوا) المراد به ملائكته قيل: هذا غلط لأنه قال في الخبر: (ثم يعلوا على كرسيه) وليس هذه صفة للملائكة لأن الكرسي مضاف إليه، وكذلك قوله: (ثم يرتفع) لا يصح حمله على الملائكة لأن هاء الكناية ترجع إلى المذكور) (3)

__________

(1) إبطال التأويلات (ص: 264).

(2) إبطال التأويلات (ص: 264).

(3) إبطال التأويلات (ص: 265).

السلفية.. والوثنية المقدسة (181)

وبناء على كثرة المواطن التي ذكروا فيها نزول الله تعالى من على عرشه، فقد خشوا أن يخلو العرش منه خلوا مطلقا، ولهذا اختلفوا اختلافا شديدا في حل هذه المشكلة، وكلامهم فيها يدل على التناقضات الكبيرة التي يعيشها العقل السلفي.

والذي يعنينا منها أشهر الأقوال فيها، وهو ما تتبناه السلفية الحديثة وهو: أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، وقد انتصر لهذا القول ابن تيمية، وذكر أنه قول جمهور أهل الحديث (1)، قال: (ونقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد، وعن إسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم) (2).

وقال القاضي أبو يعلى: (وقد قال أحمد في رسالته إلى مسدد: إن الله عز وجل ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا ولا يخلو من العرش. فقد صرح أحمد بالقول إن العرش لا يخلو منه) (3).

وسأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: (يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء) ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء) (4).

وقال إسحاق بن راهويه: (دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا. قلت: نعم، رواه الثقات الذين يروون الأحكام. قال: أينزل ويدع عرشه؟ قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه؟ قال: نعم. قلت: ولم تتكلم في هذا؟) (5).

__________

(1) شرح حديث النزول (ص 201)، ومنهاج السنة (2/ 638).

(2) المصدر السابق (ص 149).

(3) إبطال التأويلات (1/ 261).

(4) ابن بطة في الإبانة، كما في المختار من الإبانة (ص 203 - 204، برقم 15)

(5) اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 452).وأورده ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص 152) وصحح إسناده.

السلفية.. والوثنية المقدسة (182)

وقد قال ابن تيمية تعليقا على هذا: (وهذه والتي قبلها حكايتان صحيحتان رواتهما ثقات، فحماد بن زيد يقول: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف يشاء، فأثبت قربه مع كونه فوق عرشه، وعبد الله بن طاهر وهو من خيار من ولي الأمر بخراسان كان يعرف أن الله فوق العرش، وأشكل عليه أنه ينزل، لتوهمه أن ذلك يقتضي أن يخلو منه العرش، فأقره الإمام إسحاق على أنه فوق العرش، وقال له: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ فقال له الأمير: نعم. فقال له إسحاق: لم تتكلم في هذا؟ يقول: فإذا كان قادراً على ذلك لم يلزم من نزوله خلو العرش منه، فلا يجوز أن يعترض على النزول بأنه يلزم منه خلو العرش، وكان هذا أهون من اعتراض من يقول: ليس فوق العرش شيء، فينكر هذا وهذا) (1)

والمشكلة التي تنجر عن هذا القول أخطر من المشكلة التي يريدون حلها.. ذلك أنه بناء على قولهم بالحيز والحدود والجسمية لله، فإن ذلك يقتضي أمرين: إما أن ينزل الله وهو على عرشه إلى السماء الدنيا أو غيرها من المحال، وذلك محال.. لأن العرش أكبر بكثير من السماء الدنيا.

وإما أن تصعد السماء الدنيا إليه، وذلك أيضا محال، ولا يتناسب مع الحديث الذي يخبر بأن الله ينزل بذاته..

وعلى العموم، فلو طبقنا أي قول من تلك الأقوال، فإنها ستنسف كل ما أوردوه في المسألة من تجسيم وتشبيه.. ولا يبقى لهم من حل إلا الخضوع للتنزيه الذي ذكره القرآن الكريم، والذي دل عليه البرهان والعرفان.

ولهذا نرى السلفية يخشون من طرح أمثال هذه الأسئلة، فقد سئل الشيخ محمد العثيمين هذا السؤال: (النزول عند أهل السنة معناه: أنه ينزل سبحانه بنفسه إلى السماء الدنيا نزولاً حقيقيا يليق بجلاله ولا يعلم كيفيته إلا هو، ولكن هل يستلزم نزول الله عز وجل خلو العرش

__________

(1) شرح حديث النزول (ص 153).

السلفية.. والوثنية المقدسة (183)

منه أو لا؟)

فأجاب الشيخ ابن عثيمن: (نقول أصل هذا السؤال تنطُّعٌ وإيراده غير مشكور عليه مورده، لأننا نسأل هل أنت أحرص من الصحابة على فهم صفات الله؟ إن قال: نعم. فقد كذب. وإن قال: لا. قلنا فلْيَسَعْكَ ما وسعهم، فهم ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: يارسول الله إذا نزل هل يخلو منه العرش؟ وما لك ولهذا السؤال، قل ينزل واسكت يخلو منه العرش أو ما يخلو، هذا ليس إليك، أنت مأمور بأن تصدِّق الخبر، لا سيما ما يتعلق بذات الله وصفاته لأنه أمر فوق العقول) (1)

ولو أن ابن عثيمين أجاب نفسه بهذا قبل أن يخوض هو وسلفه في أمثال هذه المسائل، لما أوقع نفسه وأوقع الأمة في أمثال هذه الحيرة التي لا مبرر لها.

__________

(1) مجموع فتاوى الشيخ محمد العثيمين 1/ 204 - 205.

السلفية.. والوثنية المقدسة (184)

الصورة.. والرؤية

يرى أصحاب الرؤية التنزيهية لله ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرفان ـ أن الله تعالى لعدم انحصاره في عوالم الحدود والقيود والألوان والأشكال والجواهر والأعراض لا يمكن أن تكون له صورة من الصور.. لأن الصورة سجن وقيد وحدود.. فهي تحصر المسجون فيها وتقيده بقيود الألوان والأشكال والأجرام.

ولهذا فإن الرؤية التي يتحدث عنها أهل الله وأولياؤه، والتي أشارت إليها بعض النصوص المقدسة رؤية متناسبة مع جلال الله وكماله وعدم انحصاره.. وهي لذلك يستحيل أن تكون رؤية حسية، لأن الحس لا يدرك إلا الحس، والعين لا ترى إلا ما يمكن أن تحتويه.. والله أعظم من أن تحتويه حدقة، أو يحيط بحدوده بصر، كما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، فهي آية تقرر الحقيقة العظيمة، وهي أن الله تعالى أعظم من أن يدرك بأي مدرك من المدارك الحسية والمعنوية، لأن الإدراك ـ كما قال علماء اللغة ـ (هو لحوق الشئ بالشئ ووصوله إليه) (1)،كما قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل: 66] أي أن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم.

ولهذا قال تعالى قبل الآية الكريمة التي قررت استحالة إدراك الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، فكما أنه لا يمكن إدراك كل شيء.. وهو مخلوق محصور محدود.. فكيف يمكن إدراك غير المحدود والمحصور.

ولهذا أخبر الله تعالى موسى عليه السلام أنه يستحيل أن يراه.. وقد ذكر ذلك بصيغة النفي المؤبد، وعلق إمكانية الرؤية على شيء مستحيل لم يتحقق، فدل على أن رؤية الله التي تحيط به

__________

(1) ابن فارس. مقاييس اللغة 2: 366.

السلفية.. والوثنية المقدسة (185)

مستحيلة استحالة مطلقة، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]

والإشارة القرآنية في مسارعة موسى عليه السلام إلى التسبيح والتنزيه بعد الإفاقة (1) هو علمه أن الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص، ولهذا نزه الله سبحانه وتعالى عنها.

بل إن الله تعالى يذكر في القرآن الكريم غضبه الشديد على من طلب الرؤية الحسية، فقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]

وهكذا نرى القرآن الكريم يعيب طلب الرؤية مطلقا، سواء كان ذلك من أنبيائه أو من أعدائه، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]

وبذلك تصبح هذه الآيات محكمة يرد إليه كل ما تشابه من النصوص، وخاصة ذلك النص القرآني الذي يستدل به السلفية، مع أنهم يقولون بتأويله، وهو قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

__________

(1) بناء على القول بتنزيه الأنبياء عليهم السلام وعصمتهم المطلقة، فإني أميل في هذه المسألة إلى ما ذكره الزمخشري في قوله عن موسى عليه السلام: (ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا. وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله (لَنْ تَرانِي) ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة)، تفسير الزمخشري (2/ 153)

السلفية.. والوثنية المقدسة (186)

نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، فالنظر هنا لا يعني الرؤية الحسية، بدليل أنه ذكر الوجوه، والإنسان يرى بعينه لا بوجهه.. وبدليل أن الآية تذكر موقف الانتظار في الآخرة قبل دخول الجنة.. وبأدلة أخرى كثيرة ذكرها أهل اللغة الذين هم أعرف الناس بألفاظ القرآن الكريم.

وقد ذكر الزمخشري الوجه الصحيح لذلك وهو أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، يريد معنى التوقع والرجاء. كا روي أن امرأة سمعت مستجدية بمكة تقول: (عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم)، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه (1).

زيادة على ما في الرؤية الحسية من مستلزمات كثيرة خطيرة ذكرها المنزهة منها (2) أن الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقق إلا إذا كان الشيء مقابلا أو حالا في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإن القدماء كانوا يفسرون الرؤية على اعتبار خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء، ثم انعكاسه عن الأشياء ورجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية.

لكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنها صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتحقق الرؤية.

وعلى كل تقدير فالضرورة قاضية على أن الإبصار بالعين متوقف على حصول المقابلة بين العين والمرئي أو حكم المقابلة، كما في رؤية الصور في المرآة، وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحققها فيما إذا تنزه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.

__________

(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 662)

(2) انظر: رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل - الشيخ جعفر السبحاني ص 34.

السلفية.. والوثنية المقدسة (187)

وبعبارة واضحة: أن العقل والنقل اتفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة، وما شأنه هذا لا يتعلق إلا بالمحسوس لا بالمجرد.

وهكذا نرى اتفاق العقل مع القرآن الكريم في تحقيق استحالة الرؤية الحسية، ولهذا يحمل كل نص ورد بالرؤية على الرؤية القلبية التي اتفق المنزهة من هذه الأمة بمذاهبهم المختلفة على أنها الرؤية الوحيدة الممكنة، لأنها رؤية تتوجه إلى المعاني لا إلى الحس، وإلى اللطائف لا إلى الكثافات.

ولهذا أجاب الإمام علي الحبر الذي سأله: هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره)، قال: وكيف رأيته؟ فقال: (ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (1)

وسئل الصادق: هل يرى الله في المعاد؟ فقال: (سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا ً كبيرا ًَ، إن الأبصار لا تدرك إلّا ما له لون وكيفيّة، والله خالق الألوان والكيفيّة) (2)

وسئل الإمام الرضا: جعلت فداك، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية، فقال (:من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على لله، قال الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] (3)

ونحب أن نبين هنا أن ما اشتهر في الواقع من أن نفي الرؤية الحسية مرتبط بالمعتزلة والإمامية والزيدية والإباضية فقط.. وأن الأشاعرة وغيرهم يثبتون هذا النوع من الرؤية كلام غير دقيق، ولا صحيح.

والصحيح في ذلك أن كل من يقول بتنزيه الله عن الحدود يقول بنفي الرؤية الحسية.. وبما

__________

(1) أصول الكافي، 1، 98.

(2) بحار الأنوار، 4، 31 ح 5..

(3) بحار الأنوار، 4، 53 ح 31.

السلفية.. والوثنية المقدسة (188)

أن القول بالحد لله خاص بالسلفية وحدهم دون سائر طوائف المسلمين، فإن الرؤية الحسية أيضا قولهم خاص بهم لم يشاركهم فيه أحد.

ولنؤكد هذا المعنى سنذكر كلاما مفصلا لرجل يعتبر من أعلام المتكلمين الأشاعرة بالإضافة لتصوفه وفلسفته حتى نؤكد هذه الحقيقة العقلانية القرآنية العرفانية.

والرجل الذي أشرنا إليه، والذي هو محل قبول من كثير من الناس هو الشيخ أبو حامد الغزالي، فقد عقد فصلا في الإحياء تحت عنوان [بيان السبب في زيادة النظر في لذة الآخرة على المعرفة في الدنيا]، قال فيه: (لأن فيه [أي يوم القيامة] يتجلى الحق سبحانه وتعالى فيتجلى له تجليا يكون انكشاف تجليه بالإضافة إلى ما علمه كانكشاف تجلى المرآة بالإضافة إلى ما تخيله، وهذه المشاهدة والتجلى هى التى تسمى رؤية، فإذن الرؤية حق بشرط أن لا يفهم من الرؤية استكمال الخيال في متخيل متصور مخصوص بجهة ومكان، فإن ذلك مما يتعالى عنه رب الأرباب علوا كبيرا، بل كما عرفته في الدنيا معرفة حقيقية تامة من غير تخيل وتصور وتقدير شكل وصورة، فتراه في الآخرة كذلك، بل أقول المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينها هى التى تستكمل، فتبلغ كمال الكشف والوضوح، وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح كما ضربناه من المثال في استكمال الخيال بالرؤية، فإذا لم يكن في معرفة الله تعالى إثبات صورة وجهة فلا يكون في استكمال تلك المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف أيضا جهة وصورة، لأنها هى بعينها لا تفترق منها إلا في زيادة الكشف كما أن الصورة المرئية هى المتخيلة بعينها إلا في زيادة الكشف، وإليه الإشارة بقوله تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12]، إذ تمام النور لا يؤثر إلا في زيادة الكشف، ولهذا لا يفوز بدرجة النطر والرؤية إلا العارفون في الدنيا، لأن المعرفة هى البذر الذى ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة شجرة والحب

السلفية.. والوثنية المقدسة (189)

زرعا، ومن لا نواة في أرضه كيف يحصل له نخل، ومن لم يزرع الحب فكيف يحصد الزرع؟ فكذلك من لم يعرف الله تعالى في الدنيا فكيف يراه في الآخرة) (1)

هذا هو قول الغزالي، وهو قول كل منزهة الأمة بمذاهبهم المختلفة، فلا أحد منهم إلا ويقول باستمرار رحلة الإنسان إلى الله في الآخرة، لأن الحياة جميعا دنياها وأخراها رحلة إلى الله.

وحتى يزيل الغزالي تلك الشبه التي يعرضها المجسمة، والذين يبحثون دائما عن المحسوس والملموس، فقد أشار إلى أن تلك الرؤية القلبية التي يتحقق المؤمنون بمباديها في الدنيا، ثم تزداد في الآخرة إلى ما لا نهاية هي اللذة الحقيقية التي لا تعدلها لذة، يقول مبرهنا على ذلك: (وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح، وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعا، فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح، وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والاطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب، وسائر الخلق مشغولون به ولذلك لما قيل لرابعة ما تقولين في الجنة فقال الجار ثم الدار فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة، بل إلى رب الجنة، وكل من لم يعرف الله في الدنيا فلا يراه في الآخرة، وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة، إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هو الذى يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 313)

السلفية.. والوثنية المقدسة (190)

وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهى، فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره بل ربما يتأذى به، فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى، وحب الله تعالى بقدر معرفته، فأصل السعادات هى المعرفة التى عبر الشرع عنها بالإيمان) (1)

هذه هي مواقف المنزهة من الصورة والرؤية، وهي مواقف ممتلئة بالشفافية والطهر والصفاء، لأن الذي يحبونه ويتعلقون به في غاية القداسة والكمال، ولهذا كانت مطالبهم مشابهة لحقيقة محبوبهم:

صفاءٌ، ولا ماءٌ، ولُطْفٌ، ولاهَواً، ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ

وقد تبنى هذا النوع من الرؤية كل المنزهين من هذه الأمة على اختلاف مذاهبهم من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وإمامية وزيدية وإباضية وصوفية.. وغيرهم، بل حتى الفلاسفة الإسلاميون كابن سينا وابن طفيل وغيرهما أشاروا إلى جمال هذه الرؤية القلبية.

ولهذا فإن أشواق العارفين للرؤية أشواق تنطلق من هذا المنبع المقدس، وهي تصيح كما صاح ذلك العاشق الولهان:

دني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً وارحمْ حشى ً بلظي هواكَ تسعَّراً

وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقة ً فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي: لن تَرَى

يا قلبُ! أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ صبراً فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا

إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة، فَمُتْ بِهِ صَبّاً... فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا

ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا... سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى

وأباحَ طرفي نظرة ً أمَّلتها... فغدوتُ معروفاً وكنتُ منكَّراً

فدهشتُ بينَ جمالهِ وجلالهِ... وغدا لسانُ الحالِ عني مخبراً

فأدِرْ لِحاظَكَ في مَحاسِن وَجْهِهِ، تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 314)

السلفية.. والوثنية المقدسة (191)

لوْ أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورَة ً، ورآهُ كانَ مهلَّلاً ومكبَّراً

وما قاله الشاعر هنا خير دليل على سمو المعرفة التنزيهية وآثارها العظيمة في شفافية صاحبها وطهره وسمو روحه.

أما ما يذكره بعض أدعياء التنزيه من أنه يمكن أن يخلق الله للإنسان في الآخرة بصرا يتيح له أن يراه به، فإن مثله كمثل من يذكر أنه يمكن أن يخترع أحد من الناس جهازا يستطيع التوصل من خلاله إلى العدد الذي ليس بعده عدد، أو أن يكون للسرمدية بداية ونهاية.. وكل ذلك مستحيل.. والإحاطة بالله التي تقتضيها رؤيته أولى أن تكون مستحيلة.

هذا هو تصور الرؤية التنزيهية للصورة والرؤية، وتنزيه الله عنهما جميعا.. أما الرؤية التجسيمية، والتي تمثلها المدرسة السلفية، فلها وجهة نظر مختلفة تماما عن هذه المعاني المقدسة.. فهي مستغرقة في الحس استغراقا كليا.. حتى رؤية لله عندهم ـ والتي يبالغون في شأنها ـ إنما هي رؤية لصورة وجهه الحسي الجميل الذي لا يختلف في شكله العام عن وجه الإنسان إلا في أن الله أجمل من الإنسان بكثير..

أما الحضور مع الله، والشوق إليه، فهو عندهم جلوس حسي معه في الجنة كما يجلسون في الدنيا مع الملوك والأمراء.. ولهذا فإنه عند جلوسه معهم ـ كما يصورون ـ يطلب منهم ما يحتاجون من الصلات، ويصلهم بما يشاء منها.

وعلى العموم فإن حديثهم عن الله ورؤيته وجماله لا يكاد يختلف عن حديثهم عن الحور العين أو الولدان المخلدين.. أو قصور الجنة وأنهارها.

وسنذكر الأدلة على هاتين الناحيتين من خلال الرؤية التجسيمية التي تبنتها المدرسة السلفية، ونبدأ ذلك بذكر تصورهم لصورة الله، وجماله، ثم نتحدث بعدها عن إمكانية رؤيته وكيفيتها، وما يرتبط بها، لنخلص في الأخير إلى النتيجة التي يرمي إليها كل التراث السلفي في العقيدة، وهي تحديد الصورة الدقيقة لله.

السلفية.. والوثنية المقدسة (192)

الصورة

يعتبر السلفية إثبات الصورة لله من العقائد الأساسية الكبرى التي لا يخالفها إلا جهمي معطل، أو كافر زنديق.

وقد انتصر ابن تيمية لهذا، وأورد الوجوه الكثيرة التي حاول من خلالها أن يثبت صحته، ومنها ما ذكره في هذا الوجه، قال: (والوجه الخامس: أن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة، لكن يقال لهم: لفظ (الصُّورة) في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك) (1)

وما ذكره ابن تيمية هو نفس ما ذكره من قبله من السلفية وأهل الحديث، يقول ابن قتيبة: (والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصُّورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدٍّ) (2)

وقد استندوا في هذا لحديث طويل، يوردونه عند ذكرهم لرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فمما ورد فيه: أنا ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 131)

(2) تأويل مختلف الحديث، ص 261.

السلفية.. والوثنية المقدسة (193)

(هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟) قالوا: لا يا رسول الله، قَالَ: فَكَذَلِكَ تَرَوْنَه، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه..) (1)

فهذا الحديث العجيب الذي يجعلونه أصلا في هذه المسألة يحوي الكثير من الغرائب التجسيمية الخطيرة.. فهم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبه رؤيتهم لله برؤيتهم القمر.. أي أنه كما أن القمر له حيز وحدود وجسم وهو مقابل لهم.. فرؤيتهم لله تكون مثل ذلك.

ومنها أن الله ـ تعالى الله عما رووا ـ له صورة.. بل له صور متعددة.. وأن له بذلك القدرة على التشكل، والعجيب أنهم أوردوا أن الله نزل عند رغبة عباده المؤمنين، فاختار لهم الصورة التي تتناسب مع مطالبهم.

بل فوق ذلك كله نرى المؤمنين في هذا الحديث ـ وهم الذين لم يعطوا هذا اللقب العظيم إلا بعد معرفتهم لله وتسليمهم له ـ لا يعرفون الله عندما يخاطبهم.. بل يظلون ينتظرون إلههم الحقيقي.

وغيرها من الغرائب الكثيرة التي لو أعمل السلفيون عقولهم لرموا الحديث عرض الجدار، لأنه يحطم كل الأسس العقدية التي يدل عليها القرآن والبرهان والعرفان.

لكنهم لا يفعلون ذلك.. فالحديث في البخاري ومسلم.. وفوق ذلك رواه أبو هريرة.. وهم مستعدون بأن يضحوا بالقرآن وبعقولهم وبكل شيء في سبيل البخاري ومسلم وأبي هريرة.

__________

(1) رواه: البخاري (7439). ومسلم (183)

السلفية.. والوثنية المقدسة (194)

والسلفيون بعد ذلك التجسيم وتلك الغرائب المرتبطة به، لا يكتفون بإثبات الصورة فقط، وإنما يضمون إليها تحديدها بدقة، حيث يرون أن الله خلق الإنسان على صورته، وبالضبط على صورة آدم.

ولايخلو كتاب من كتبهم العقدية من ذكر هذا، بل قد خصوا ذلك بالتأليف، فقد ألف الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري كتابا سماه [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، وهو منتشر كثيرا، واعتنى به السلفية المعاصرون، بل قدم له شيخهم الكبير عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وقال في تقديمه له: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن.. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وشيخ الإسلام ابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة رحمه الله في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى) (1)

وقد أوردت هذه الشهادة من ابن باز حتى يتبين لنا أن ما سنذكره من كلام السلفية والمنقول في كتبهم هو بإقرار مشايخهم الكبار المعتمدين.. لأننا ـ ومن خلال مناقشاتنا لهم ـ يتقنون فن الفرار، فكلما احتج عليهم بحجة ذكروا أنهم لم يقولوا هذا، أو أن هذا قول ضعيف،

__________

(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (مقدمة/ 7)

السلفية.. والوثنية المقدسة (195)

ونحو ذلك، ولهذا حاولنا في هذا الكتاب كما في غيره من الكتب أن نقتصر على الأقوال المعتمدة عليهم، وعلى الشخصيات التي يزكونها.

وقد ذكر التويجري الدوافع لتأليفه، وهي دوافع لا تختلف كثيرا عن تلك الدوافع التي كان ينطلق منها الدارمي وابن خزيمة وابن تيمية، فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به) (1)

وهو يقصد بالجهمة هنا كل منزهة الأمة، لأنهم جميعا، حتى مع تصحيح الحديث لا يقولون بمقتضاه الظاهر، بل يؤولونه بمختلف صنوف التأويلات.

وبذلك فإن منكر كون الله له صورة كصورة الإنسان ـ عند السلفية ـ جهمي.. والجهمي عندهم معطل وكافر.. ومن شاء أن يعرف حكم الجهمي عندهم، فليقرأ ما كتبه ابن تيمية وغيره عنه.

بعد هذا التقرير المثبت لموقفهم حول ما يسمونه [صورة الله تعالى] نحاول أن نذكر ـ باختصار ـ الأدلة التي يعتمدون عليها.

وهي ـ طبعا ـ ليست أدلة العقلية، فهم يكفرون بالعقل، ويعزلونه، ويعتبرون الرجوع إليه ضلالا وبدعة وكفرا.

وهي ـ كذلك ـ ليست من القرآن الكريم.. فالقرآن الكريم يخبر أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه لم يكن له كفوا أحد.. وأنه لا تدركه الأبصار.

وهي ـ كذلك ـ ليست من السنة النبوية المطهرة الصحيحة المتوافقة مع القرآن الكريم ـ فهي

__________

(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (1/ 6).

السلفية.. والوثنية المقدسة (196)

كلها تدل على الله الذي يدل عليه البرهان والقرآن والعرفان.

هي ليست من نوع تلك الأدلة، وإنما تعود جميعا إلى نص واحد من رواة متعددين أخذوه من أساتذتهم من أهل الكتاب، وراحوا ينسبونه زورا وبهتانا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم هي بعد ذلك تعود إلى عقل واحد ممتلئ بالغرور يتصور أن الله العظيم الذي خلق هذا الكون جميعا، والذي لا يشكل ما نراه منه شيئا أمام ما لا نراه، اختار صورته ليخلق عليها واحدا من خلقه.. ثم يدلله على حساب مخلوقاته جميعا، وهذا العقل هو العقل اليهودي.

ولذلك فسنرى كيف يقبل السلفية على النصوص اليهودية المتعلقة بهذا، ويحترمونها، ويستدلون بها.

وقبل أن نذكرها نذكر الحديث الذي اعتمدوا عليه، والذي لا يقل عندهم قيمة عن حديث الجارية وحديث الساق، وهو ما رووه عن همام بن منبه، عن أبي هريرة بلفظ (خلق الله عز وجل آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر – وهم نفر من الملائكة جلوس – فاستمع ما يحيُّونك، فإنها تحيتك وتحية من بعدك) (1)

ومن روايات الحديث ما رووه عن أبي هريرة (إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) (2)

ومن رواياته عن ابن عمر: (لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) (3)

__________

(1) البخاري (3326. 6227). ومسلم (2841). وابن خزيمة في التوحيد (1/ 93 – 94) وابن حبان (6162) وابن منده في الرد على الجهمية ص (41 – 42) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (711. 712) والبيهقي في الأسماء والصفات (635. 636) والبغوي في شرح السنة (3298).

(2) مسلم (2612). وأحمد (2/ 244). وابنه عبدالله في السنة (496) وابن حبان (5605). والآجري في الشريعة (721). والبيهقي في الأسماء والصفات (638). وفي السنن (8/ 327).

(3) عبدالله بن أحمد في السنة (498). وابن أبي عاصم في السنة (529). وابن خزيمة في التوحيد (1/ 85). والآجري في الشريعة (725) والدارقطني في الصفات (45. 48). والبيهقي في الأسماء والصفات (640).

السلفية.. والوثنية المقدسة (197)

وقد وقف المنزهة من هذا الحديث مواقف متعددة محاولين أن يردوه إلى معنى صحيح متناسب مع التنزيه.. ومن ذلك ما ذكره ابن حجر عند ما قال: (واختلف في الضمير على من يعود؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها) (1)

وقد رد السلفية على هذا التأويل بشدة على الرغم أن بعض متقدميهم ـ وهو ابن خزيمة ـ ذكره، ومن تلك الردود، ما قاله ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) – في سرد لأقوال الأئمة في تأويل هذا الحديث – ومنها (أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه، قال: وهذا لا فائدة فيه، والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده، وجهه على وجوههم، وزاد قوم في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مر برجل يضرب وجه رجل آخر، فقال (لا تضربه، فإن الله تعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته) (2) أي صورة المضروب، وفي هذا القول من الخلل ما في الأول) (3).

أما الطبراني فقد اعتبر هذا التأويل تجهما، فقال في كتاب السنة: (حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال (قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته، أي صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا) (4)

ولهذا، فقد أنكر السلفية على ابن خزيمة ـ على الرغم من موافقته لهم في كل شيء ـ إنكارا شديدا، قال الذهبي – معاتبا من يشتدون على ابن خزيمة بسبب ذلك – (وكتابه في التوحيد

__________

(1)) فتح الباري (5/ 183).

(2) وقد كذب ابن تيمية هذا المورد للحديث، فقال في [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 424)]: (وما ذكر بعضهم من أن النبي (رأى رجلاً يضرب رجلاً ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال خلق الله آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء لا أصل له ولا يعرف في شيء من كتب الحديث)

(3)) تأويل مختلف الحديث ص (319).

(4)) ميزان الاعتدال (1/ 603).

السلفية.. والوثنية المقدسة (198)

مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق – أهدرناه، وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه) (1)

أما ابن تيمية فكعادته في التنظر والإطناب فيه، فقد ذكر ثلاثة عشر وجهاً للرد على هذا التأويل، لأن المسألة عندهم مسألة كفر وإيمان، ولهذا تحتاج منهم كل هذه الجهود الفكرية المضنية.

ومن تلك الوجوه (2) ـ والتي يستخدم فيها ابن تيمية الحيل اللغوية، متناسيا أن أكثرالأحاديث في حال صحتها مروية بالمعنى ـ ما ذكره من أنه في مثل هذا (لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد، لا سيما وقوله (وإذا قاتل أحدكم.. وإذا ضرب أحدكم) عام في كل مضروب، والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير، وكذلك قوله (لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم)

ومنها: أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم، فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال أو نسيج هذا على منوال هذا.

ومنها: أنه إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا، فإذ هذه العبارة

__________

(1)) سير أعلام النبلاء (14/ 374).

(2) انظر هذه الوجوه في: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 426)

السلفية.. والوثنية المقدسة (199)

إنما تستعمل فيما فطر على مثال غيره، بل يقال إن وجهه يشبه وجه آدم، أو فإن صورته تشبه صورة آدم.

ومنها: أنه لو كانت علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهى أيضاً عن الشتم والتقبيح وسائر الأعضاء، لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك... إلخ ما ذكره (1).

ولم ييأس المنزهة من توجيه هذا الحديث بعد هذا الرفض الشديد الذي واجههم به المجسمة، فراحوا يقولون لهم: لا بأس.. فليكن الأمر كما تذكرون.. ولكن ألا يمكن أن يعود الضمير يعود إلى آدم، أي (أن الله خلق آدم على صورته) أي على صورة آدم) (2)

لكن السلفية رفضوا هذا أيضا رفضا شديدا، بل اتهموا القائل بذلك التجهم والتعطيل، وقد رووا عن الإمام أحمد أنه لما ذكر له قول أبي ثور في تأويل (أن الله خلق آدم على صورته) أي على صورة آدم، قال: (من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأيُّ صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟) (3).

وقال ابن قتيبة – بعد ذكره لهذا القول – (ولو كان المراد هذا، ما كان في الكلام فائدة، ومن يشك في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، والسباع على صورها، الأنعام على صورها) (4)

أما ابن تيمية ـ فعادته في الإطناب والتنظر ـ ولخطورة المسألة وأهميتها، ولحرصه الشديد على حفظ عقائد المؤمنين التي وكلت إليه ـ باعتباره شيخ الإسلام ـ من أن يصيبها فيروس

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 426)

(2) انظر من قال بذلك في: طبقات الحنابلة (1/ 309).

(3) طبقات الحنابلة (1/ 309).

(4) تأويل مختلف الحديث ص (318).

السلفية.. والوثنية المقدسة (200)

التجهم والتعطيل، فقد ساق لفساد هذا القول تسعة أوجه، منها (1): أنه إذا قيل: إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة آدم، أو لا تقبحوا الوجه، ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة آدم، كان هذا من أفسد الكلام، فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً، فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم، فأي تفسير فسر به فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنية، ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها.

ومنها: أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم، فلو كان مانعاً من ضرب الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الوجوه وتقبيح سائر الصور، وهذا معلوم الفساد في العقل والدين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام، وإضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصدر إلا عن جهل عظيم أو نفاق شديد، إذ لا خلاف في علمه وحكمته وحسن كلامه وبيانه.

وبناء على فساد التأويلين السابقين فقد ذهب السلفية أو أكثرهم إلى أن الضمير في الحديث يعود على الله عز وجل.. وبذلك يصبح معنى الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته هو) أي على صورة الله.. أي أن آدم يشبه الله.

والسلفية يجتهدون في أن ينسبوا القول بهذا لإمامهم الكبير الإمام أحمد، ويعتبرون تلك النسبة كافية في البرهنة على ما ذهبوا إليه، وقد نقلوا عن بعضهم أنه قال: (نقلت من خط أحمد الشنجي بإسناده قال: سمعت محمد بن عوف يقول: أملى عليَّ أحمد بن حنبل – فذكر جملة من المسائل التي أملاها عليه مما يعتقده أهل السنة والجماعة، ومنها – وأن آدم صلى الله عليه وسلم خلق على صورة الرحمن كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 428)

(2) طبقات الحنابلة (1/ 313).

السلفية.. والوثنية المقدسة (201)

وقال ابن قتيبة: (والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد) (1)

وقد انتصر التويجري في كتابه الذي خصصه لهذا الحديث، والذي أقره عليه ابن باز، بوجوه كثيرة نقتصر منها على هذا الوجه، حيث قال: (الوجه الثاني: أن يقال إن خلق آدم على صورة الرحمن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أربعة أحاديث.. أولها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته)، وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة والضمير في قوله (على صورته) عائد إلى الله تعالى كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة.. وثانيها: حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وهذا نص صريح في أن الله تعالى خلق آدم على صورته. وهذا النص لا يحتمل التأويل، ومن تأوله فقد أبعد النجعة وتكلف غاية التكلف.. وثالثها: حديث أبي يونس الدوسي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإنما صورة الإنسان على صورة وجه الرحمن) وهذا نص صريح في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورة وجهه الذي هو صفة من صفات ذاته. وهذا النص لا يحتمل التأويل، وفيه أبلغ رد على ابن خزيمة وعلى كل من تأول الحديث بتأويلات الجهمية المعطلة.. ورابعها: حديث أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة وجهه) وهذا نص صريح في خلق آدم على صورة وجه الله تعالى، وهذا النص لا يحتمل التأويل، وفي هذه الأحاديث الأربعة أبلغ رد على من تأول حديث ابن عمر على غير تأويله ونفى إضافة الصورة إلى الرحمن وزعم أنها من إضافة الخلق والتصوير إلى الله

__________

(1)) تأويل مخلف الحديث ص (318).

السلفية.. والوثنية المقدسة (202)

تعالى) (1)

هذا ما ذكره التويجري وهو تلخيص لما ذكره ابن تيمية وغيره من أعلام السلفية الذين أعطوا المسألة ما تستحقه من العناية، باعتبارها تبحث عن صورة الله، وهل هناك عاقل يرغب عن البحث عن هذه الصورة؟

ويتبين لنا من خلال ما ذكره من روايات الحديث المعتمدة كون أبي هريرة يشكل قطب رحاه، وهذا يكشف لنا عن مصدر الحديث، فمن المعلوم عند المحدثين أنفسهم، بل عند السلفية جميعهم أن أبا هريرة كان تلميذا نجيبا لكعب الأحبار وغيره من اليهود، وكانت تختلط رواياته عن كعب برواياته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولهذا كان من السهولة على المنزهة أن يرفضوا الحديث ويردوه بمجرد روايته عن أبي هريرة، خاصة وأنهم يعللون رواية ابن عمر بالعلل الكثيرة.. ولكن الخشية للأسف من اتهامهم بالطعن في الصحابة جعلهم يرضون بالطعن في تنزيه الله نفسه، بل جعلهم يتكلفون من التأويل ما غلبهم فيه المجسمة، لأن النص واضح في الدلالة على التشبيه، وكل تأويل له تكلف.

ولهذا كان يمكنهم التعامل مع حديث الصورة كما تعاملوا مع قوله في الحديث المشهور: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي، فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) (2)

فمع كون الحديث مرويا في صحيح مسلم إلا أن ابن كثير تجرأ فقال بكذبه، فقد قال في تفسيره تعليقا عليه: (فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه، والنسائي من غير وجه عن

__________

(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (1/ 40)

(2) صحيح مسلم (4/ 2149)

السلفية.. والوثنية المقدسة (203)

حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة والله تعالى قد قال في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا) (1)

بل إن ابن تيمية نفسه رد الحديث، فقال في (مجموع الفتاوى): (.. خلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخارى وغيرهما وذكر البخارى أن هذا من كلام كعب الأحبار) (2)

وليتهم أعرضوا عن حديث الصورة أيضا، لأن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، لكن العقل السلفي يتعامل بانتقائية فيرفض ما يشاء، ويقبل ما يشاء.

فمع اعترافهم بأن أحاديث أبي هريرة مختلطة مع أحاديث كعب الأحبار إلا أنهم لا يبالون في أخذ أكثر عقائد الدين منه، وقد روى ابن كثير عن عروة بن الزبير بن العوام، قال: قال لى أبي الزبير: أدننى من هذا اليمانى (يعني أبا هريرة) فانه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول صدق كذب صدق كذب، قال: قلت يا أبة ما قولك صدق كذب، قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا أشك، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه) (3)

وروى ابن كثير أيضا عن مسلم صاحب الصحيح بسنده عن بكير بن الأشج، قال: قال لنا بشر بن سعيد: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا تجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث

__________

(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 294.

(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 18 ص 18.

(3) البدابة والنهاية ج 8 ص 109.

السلفية.. والوثنية المقدسة (204)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كعب وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (1)

الرؤية

بناء على الرؤية التجسيمية لله، فإن المطلب الأكبر في المعرفة الكاملة لله هو البحث عن رؤيته رؤية حسية كما يرى القمر وكما ترى الشمس، وكما ترى الأجسام، لتتمتع العين برؤيته كما تتمتع برؤية الأزهار الجميلة والحدائق الغناء وغيرها.

ولهذا نرى السلفية يحشرون رؤية الله تعالى في الجنة في المواضع التي يتحدثون فيها عن جمال صور أهل الجنة، وجمال قصورهم، ونحو ذلك.

ومن أراد أن يرى تفاصيل ذلك يمكنه الرجوع إلى كتاب [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح] لابن القيم، فقد عقد فيه فصلا بعنوان [ذكر زيارة أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى] (2)، وذكر قبله بابا بعنوان: [في ذكر سوق الجنة وما أعد الله تعالى فيه لأهلها] (3) وفي كليهما ذكر مشاهد للقاء الحسي الذي يجري بين المؤمنين وربهم في الجنة، كما يجري بين أعلام السلفية والملوك والأمراء في الدنيا.

وسنسوق هنا بعض الروايات الواردة في ذلك لنرى مبلغ تعظيم السلفية لله تعالى، وتنزيه لهم، فمن تلك الروايات ما رواه عن سعيد بن المسيب، أنه لقي أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد: أو فيها سوق؟ قال: نعم. أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون الله في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس

__________

(1) البداية والنهاية ج 8 ص 109.

(2) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 267).

(3) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 264).

السلفية.. والوثنية المقدسة (205)

أدناهم، وما فيهم دني، على كثبان المسك والكافور، وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا)، قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: (نعم، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟) قلنا: لا. قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة، حتى يقول: يا فلان بن فلان بن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، فيذكره بعض غدراته في الدنيا، فيقول: بلى. فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه. قال: فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط، ثم يقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، فخذوا ما اشتهيتم، قال: فيأتون سوقا قد حفت بها الملائكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم تخطر على القلوب. قال: فيحمل لنا ما اشتهيناه، ليس يباع فيه شيء ولا يشترى، في ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال: فيقبل ذو البزة المرتفعة، فيلقى من هو دونه، وما فيهم دني، فيروعه ما يرى عليه من اللباس والهيئة، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. قال: ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا بحبنا، لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول: (إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا) (1)

ومن الروايات التي يوردونها في هذا ما يروونه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]،قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه

__________

(1) السنة لابن أبي عاصم (1/ 258).

السلفية.. والوثنية المقدسة (206)

حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم) (1)

هذه بعض المشاهد التي يحرص السلفية على ذكرها في كل محل، وهي لا تختلف كثيرا عن المشاهد التي نقرؤها في كتب التاريخ والأساطير عن مجالس الملوك والأمراء.. حيث يقربون ندمانهم، ثم يصلونهم بأنواع الصلات.. وهي علاقة مادية صرفة لا مجال فيها للمشاعر السامية، ولا للعواطف الجياشة التي رأيناها عند أهل العرفان.

ومن العجب الذي نراه في أمثال هذه الرويات هو إسكانهم لله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون جميعا في دار من دور الجنة ليجاورهم، ويصلهم، وتزداد صورهم حسنا بذلك، وكأن الله تعالى لم يخلق سواهم، ولا له تدبير لغيرهم.

ومن العجب الأكبر هو أحاديثهم عن جمال الله تعالى.. وهي أحاديث عن الجمال الحسي، لا عن الجمال العظيم الذي لا يمكن الإحاطة به، ومن أمثلة ذلك ما قاله الهرَّاس، فقد قال: (أما جمال الذات؛ فهو ما لا يمكن لمخلوق أنَّ يعبر عن شيء منه أو يبلغ بعض كنهه، وحسبك أنَّ أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات والسرور التي لا يقدر قدرها، إذا رأوا ربهم، وتمتعوا بجماله؛ نسوا كل ما هم فيه، واضمحل عندهم هذا النعيم، وودوا لو تدوم لهم هذه الحال، ولم يكن شيء أحب إليهم من الاستغراق في شهود هذا الجمال، واكتسبوا من جماله ونوره سبحانه جمالاً إلى جمالهم، وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته، حتى إنهم يفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب) (2)

وهو في هذا الكلام الذي يشبه كلام العارفين في ألفاظه، إلا أنه لا يرقى إلى مقاصدهم.. فالجمال عنده هو جمال صورة الله الحسية التي لم يتصوروا أن يعرف الله من دونها.

والعجيب أن السلفية في ذكرهم لهذا يتناقضون مع ما يوردونه من روايات حول ما

__________

(1) رواه ابن ماجه برقم (184)

(2) شرح النونية: 2/ 64.

السلفية.. والوثنية المقدسة (207)

يطلقون عليه صفة [السبحات]، والتي رووا في شأنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (1)

وقد رفضوا كل التأويلات التي أوردها المنزهة، مثلما فسرها الزمخشري بأنها (الأنوار التي إذا رآها الراءون من الملائكة سبحوا وهللوا لما يروعهم من جلال الله وعظمته) (2)

أو كما فسرها ابن فورك حين قال: (فقد تأول أهل العلم ذلك، منهم أبو عبيد، ذكر أن معنى لو كشفها، فقال: أي لو كشف رحمته عن النار لأحرقت سبحات وجهه، أي لأحرقت وجه المحجوب عنه بالنار، والهاء عائد في سبحات وجهه إلى المحجوب، لا إلى الله عز وجل) (3)

وقد رفض السلفية كل ذلك، وتمسكوا بالمعنى الحسي، وهو أن هذه السبحات نور وجهه جل جلاله، يقول ابن القيم: (فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله) (4)

ولم يكتف السلفية بكل ذلك التجسيم المستند لأمثال تلك الروايات والأساطير التي ينفسون بها عن نفوسهم الممتلئة بالضيق والكدر.. وإنما راحوا يضيفون إليها جرعة أكبر من الجرأة حين يضعون لله صورة تتناسب مع شذوذهم وفطرهم المدنسة بدنس الحس.

وقد قدموا لتلك الصورة ـ لصعوبة تقبلها ـ بمقدمات كثيرة حتى يسهل عليهم التملص والفرار إذا ما اتهموا بالتشبيه المطلق.

وقد انطلقوا في ذلك من ذكر ما يطلقون عليه [رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه]، وهي مسألة

__________

(1) رواه مسلم، وقد قدح بعض المتأخرين من المنزهة في سند هذا الحديث الذي رواه مسلم. وذكر أن هذا الحديث رواية شاذة انظر تعليق حسن السقاف على شبه التشبيه (ص 200 ـ 202).

(2) الفائق في غريب الحديث (2/ 148).

(3) مشكل الحديث وبيانه (ص 231).

(4) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. 1/ 234.

السلفية.. والوثنية المقدسة (208)

حظيت باهتمام كبير من السلفية.. وأكثرهم يميل إلى أنها وقعت.. وحتى الذي لا يميل إلى ذلك يذكر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في الرؤيا.. ثم يعقب على ذلك بأن رؤيا الأنبياء حق.. وبذلك فإن ما وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه من الصفات الحسية مقبول عندهم سواء قالوا برؤية اليقظة أم بالرؤيا المنامية.

ولأن النتيجة في كليهما واحدة، فقد تعامل السلفية بهدوء مع هذه المسألة على الرغم من وجود آثار كثيرة تثبت الرؤية، والمثبت عندهم مقدم على النافي، قال الذهبي: (ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة) (1)

أما الفريق الذي يرى أنها قد وقعت، ويصف بالضبط صورة الله بدقة، فهم أكثر السلفية، كما قال ابن تيمية: (وأكثر علماء أهل السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه ليلة المعراج) (2)

ويستند هذا الفريق إلى بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، والتي يجزمون فيها، ويحلفون برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه.

وأهم تلك الروايات ما رووه عن عكرمة عن ابن عباس قال: (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم) (3)

ومنها ما رووه عن قتادة أن أنسًا قال: (رأى محمدٌ ربَّه) (4)

__________

(1) سير أعلام النبلاء 10/ 114

(2) مجموع الفتاوى 3/ 386.

(3) ابن أبي عاصم في السنة (1/ 192)، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط البخاري، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1/ 299)، والنسائي في الكبرى (تحفة الأشراف 5/ 165)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 479، ح 272)، والآجري في الشريعة (3/ 1541، ح 1031)، (2/ 1048، ح 627)

(4) - أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/ 188 رقم 432. وابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 487، رقم 280.

السلفية.. والوثنية المقدسة (209)

ومنها ما رووه أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه عز وجل؟ فقال: (نعم، قد رآه) (1)

ورووا عن التابعين أن عكرمة سئل عن قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11]، قال: (أتريد أن أقول لك: قد رآه. نعم قد رآه، ثم قد رآه، ثم قد رآه، حتى ينقطع النفس) (2)

ورووا عن المبارك بن فضالة قال: (كان الحسن يحلف ثلاثة لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه) (3)

وقد يكون ما ذكره هؤلاء جميعا في هذا صحيحا، ويكون قصدهم كما ذكرنا سابقا (الرؤية القلبية)، لأن الله تعالى لم يكن يغيب أبدا عن قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كان يراه في كل أحواله.

ويؤيد هذا ما رووه عن عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] قال: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بقلبه) (4)، ومنها ما رووه عن أبي ذر أنه قال: (رأى رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم ربَّه بقلبه ولم يره ببصره) (5)

لكن مشكلة السلفية أنهم لا يكتفون بالروايات التي تحتمل التنزيه، بل يضيفون إليها الروايات التي لا يفهم منها إلا التجسيم.. ومن تلك الروايات ما رووه عن عبد الله بن عمر أنه بَعَثَ إلى عبد الله بن عباس يسأله: هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه؟ فبعث إليه: (أن نعم قد رآه)، فرد رسوله إليه وقال: كيف رآه؟ فقال: (رآه على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة،

__________

(1) - أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 1/ 176، رقم 218. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 571، رقم 908.

(2) - أخرجه ابن جرير في تفسيره 27/ 48. وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 178 رقم 221. واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/ 571 رقم 907

(3) - أخرجه ابن خزيمة في التوحيد 2/ 488 رقم 281. وانظر تفسير الحسن البصري 5/ 85 رقم 1572. وتفسير عبد الرزاق 2/ 204. والشفا للقاضي عياض 1/ 258.

(4) - أخرجه مسلم (3/ 8). وأحمد في المسند 1/ 223

(5) - أخرجه النسائي في تفسيره 2/ 345، رقم 556، قال المحقق: صحيح، تفرد به المصنف، وابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 516، رقم 310.

السلفية.. والوثنية المقدسة (210)

ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء، دونه فراش من ذهب) (1)

ومع أن السمة اليهودية واضحة على هذا الحديث الممتلئ بالذهب والجواهر الكريمة إلا أننا نجد السلفية تردده في مصادرها العقدية الكبرى التي تتيح قراءتها لعوام الناس، بل تحثهم عليها، لتمتلئ قلوبهم بدرن التجسيم المختلط بالذهب.

هذا هو الفريق الأول الذي مال إليه أكثر السلفية.. أما الفريق الثاني، فتمثله عائشة، فقد ردت ما روي عن ابن عباس ردا شديدا، واستدلت بالقرآن الكريم في ردها، مما أثار بعض السلفية المتقدمين عليها.

وسنذكر قول عائشة، ثم نذكر موقف علم من أعلام السلفية الكبار منها نتيجة لرفضها الرؤية، والرواية هي ما حدث به مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين: أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. فقالت: ألم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]. أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى 51]) (2)

__________

(1) - رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش ص 391 رقم 38، وابن خزيمة في التوحيد 2/ 483 برقم 275، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 175. والآجري في الشريعة 3/ 1543.

(2) - أخرجه مسلم 3/ 9 - 13، والبخاري 8/ 472.

السلفية.. والوثنية المقدسة (211)

ومع أن هذا الحديث يحمل الرؤية التنزيهية بأجمل صورها، ويستند إلى القرآن في ذلك إلا أننا نجد علما كبيرا من أعلام السلفية يلقبونه [إمام الأئمة] هو ابن خزيمة يقول ردا عليها: (هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب، ولو كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها كان أجمل بها، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائلة: قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم! ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها. أكثر ما في هذا أن عائشة وأبا ذر وابن عباس وأنس بن مالك، قد اختلفوا هل رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه فقالت عائشة: لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وقال أبو ذر وابن عباس صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علماً والإثبات هو الذي يوجب العلم، لم تحكِ عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل، وإنما تلت قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً.. } [الشورى 51])، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق الرمي بالفرية على الله، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله!) (1)

وبعد أن فند ـ حسب تصوره ـ ما استدلت به من الآيتين الكريمتين قال: (نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة وابن عباس في هذه المسألة: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس، نقول: عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة، كذلك ابن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء، وهو المسمى ترجمان القرآن، وقد كان الفاروق يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سناًّ منه وأقدم صحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله، لأنه قد أثبت شيئاً نفته عائشة، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة، وإن غلط بعض العلماء

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (2/ 556)

السلفية.. والوثنية المقدسة (212)

في معنى آية من كتاب الله أو خالف سنةً أو سنناً من سنن النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم تبلغ المرء تلك السنن، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئاً لم يبينه كتاب ولا سنة، فتفهموا هذا لا تغالطوا) (1)

بعد هذا الخلاف، والذي مال فيه أكثر السلفية إلى طرف التجسيم والتشبيه، اخترع الشيطان وأتباعه للطرف المنزه اختراعا ذكيا حولهم إلى صف إخوانهم بلباقة وذكاء وفطنة.

وهذا الاختراع هو تحويل الرؤية من الرؤية الحسية إلى الرؤيا المنامية، باعتبار أن رؤيا الأنبياء حق، كما ورد في النصوص المقدسة الكثيرة، وكما هو محل اتفاق من الأمة.

قال ابن القيم، نقلا عن شيخه ابن تيمية: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى)، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه -تبارك وتعالى- تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وقال: نعم رآه حقا فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد -رحمه الله تعالى- إنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك) (2)

بعد تثبيت السلفية هذه المقدمات بمختلف أنواعها، يذكرون أهم نتيجة تصل إليها عقائدهم التجسيمية، وهي تحديد صورة الله تعالى بدقة، حتى إذا ظهر لهم يوم القيامة لم يخطئوا فيه، كما يروون الروايات الدالة على ذلك.

والحديث الذي يسوقونه لهذا هو ما رووه عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت:

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (2/ 559)

(2) - زاد المعاد 3/ 37.

السلفية.. والوثنية المقدسة (213)

(سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أنه رأى ربه - عز وجل - في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب، في رجليه نعلان من ذهب)، وفي رواية (رَأَيْتُ رَبِّي فِي المنام في صورة شاب مُوَقَّرٍ فِي خَضِرٍ، عليه نَعْلانِ من ذهب، وَعَلَى وجهه فراش مِنْ ذهب)، وفي رواية: (أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب) (1)

وفي رواية عن ابن عباس يرفعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت ربي، عز وجل، في حلة خضراء في صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر)، وفي وراية: (أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة)، وفي رواية (رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء) (2)

وقد دافع ابن تيمية عن هذا الحديث والروايات الواردة فيه أيما دفاع، فقال: (قال الخلال أبوبكر المروذي قال قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه، فذكر الحديث، قلت إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان، قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ربي، وقال المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله: فشاذان كيف هو؟ قال: ثقة، وجعل يثبته، وقال: في هذا يشنع به علينا، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول،

__________

(1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/ 205 رقم 471. والطبراني في المعجم الكبير 25/ 143 رقم 346. والبيهقي في الأسماء والصفات 2/ 367 - 369 رقم 942. والدارقطني في الرؤية ص 190 رقم 316. والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات 1/ 141. والخطيب في تاريخ بغداد 13/ 311، وهذا الحديث صححه الحسن بن بشار وأبو يعلى كما في (طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 2/ 59)

(2) هذا الحديث من هذا الطريق صححه جمعٌ من أعلام السلفية الكبار منهم: الإمام أحمد (المنتخب من علل الخلال: ص 282، وإبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 139)، وأبو زرعة الرازي (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 144)، والطبراني (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 143)، وأبو الحسن بن بشار (إبطال التأويلات 1/ 142، 143، 222)، وأبو يعلى في (إبطال التأويلات 1/ 141، 142، 143)، وابن صدقة (إبطال التأويلات 1/ 144) (تلبيس الجهمية 7/ 225)، وابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية 7/ 290، 356)

السلفية.. والوثنية المقدسة (214)

قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله: قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق) (1)

وقال في موضع آخر: (شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت ربي، قال حدث به فقد حدث به العلماء، قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء) (2)

ثم يروي أحاديث الرؤية المنامية، ويبين انطباقها على الأحاديث الدالة على الرؤية في اليقظة، فقد روى عن امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب) (3)

ثم علق عليه بقوله: (وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام، وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس) (4)

بل إنه فوق ذلك، وحتى يبين إمكانية الاستدلال بحديث الرؤية المنامية على صفة الله، قال: (وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 194).

(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 196).

(3) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 194).

(4) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 194).

السلفية.. والوثنية المقدسة (215)

واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس.. وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه) (1)

وما يريده ابن تيمية من هذا الكلام واضح، ذلك أنه يعرف أن المسلمين جميعا يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الخلق بربه، ولذلك رؤيته مقاربة أو مطابقة لله نفسه.. خاصة إذا انضم إليها ما صححه من الأحاديث المتعلقة بالرؤية الحسية.

وبهذا يختم السلفية حديثهم عن الرؤية والصورة ليصلوا إلى النتيجة الكبرى، وهي أن الله عندهم في صورة بشر، بل في صورة شاب أمرد جميل.. وليس فيه من العيوب سوى أن شعره جعد قطط (2).

__________

(1) (بيان تلبيس الجهمية 1/ 73)

(2) معنى الجعد: ضد السبط، ومعنى القطط: الجعد القصير من الشعر، هكذا عرفه شعيب الارناوؤط في تحقيقه لمسند احمد 5/ 414.

السلفية.. والوثنية المقدسة (216)

أقوال.. وأفعال

يرى أصحاب الرؤية التنزيهية لله ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرفان ـ أن من مقتضيات تقديس الله تعالى تقديس كل ما يتصف به من صفات الكمال كالعلم والقدرة والإرادة والرحمة واللطف، وكل ما ورد في النصوص المقدسة الحديث عنه أو الإشارة إليه من صفات الكمال الإلهي الذي لا يحد ولا يعد.

وهذا ما يدل عليه الشق الثاني مما ورد في القرآن الكريم من المعرفة الإلهية، وهو شق التعظيم.. فالمعرفة الإلهية تنزيه وتعظيم.. فلا تنزيه من دون تعظيم، ولا تعظيم من دون تنزيه، ولهذا أمر الله تعالى بالجمع بينهما، فقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]

وأخبر أن الملائكة عليهم السلام المعصومين في سلوكهم ومعارفهم يعرفون الله بهاتين المعرفتين العظيمتين، فقال حاكيا عنهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]

بل أخبر أن كل شيء يعرف الله بهذا النوع من المعرفة، فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]

وهذا يعني أن التنزيه لله لا يشمل تنزيه ذاته فقط، بل يشمل أيضا تنزيه صفاته وأسمائه الحسنى من أن يتسرب إليها أي لون من ألوان التجسيم أو التشبيه أو القصور أو الضعف أو الافتقار.

ولهذا نجد التحذيرات الكثيرة من أولياء الله من أن نترك للشيطان فرصة ليخلط الكمال بالنقص، أو يمزج التنزيه بالتشبيه.

ومن أمثلة تلك التحذيرات التي تعتبر أصلا لغيرها ما قاله الإمام علي عند حديثه عن

السلفية.. والوثنية المقدسة (217)

الرحمة الإلهية، فقد عرف الله الرحيم بقوله: (رحيم لا يوصف بالرقة) (1)

ووضح ذلك الإمام الصادق بتفصيل أكثر، فقال: (إن الرحمة وما يحدث لنا منها شفقة ومنها جود، وإن رحمة الله ثوابه لخلقه، وللرحمة من العباد شيئان، أحدهما يحدث في القلب: الرأفة، والرقة لما يرى بالمرحوم من الضر والحاجة وضورب البلاء، والآخر ما يحدث منا بعد الرأفة واللطف على المرحوم والمعرفة منا بما نزل به، وقد يقول القائل: (انظر إلى رحمة فلان)، وإنما يريد الفعل الذي حدث عن الرقة التي في قلب فلان، وإنما يضاف إلى الله عز وجل من فعل ما حدث عنا من هذه الأشياء، وأما المعنى الذي في القلب فهو منفي عن الله كما وصف عن نفسه، فهو رحيم لا رحمة رقة) (2)

وهذه الكلمات العظيمة، والتي هي قاعدة هذا الباب، تدلنا على المنهج الذي نتعامل به مع أسماء الله الحسنى.. فهي حسنى بكل اعتبار، وكمال بكل المقاييس.

ولو أننا حللنا مفهوم الرحمة لوجدنا أن كمالها ليس في تلك الرقة التي تعترينا، وإنما في حصول العناية منا بمن نقوم برحمته.. ولذلك تتفق رحمته تعالى مع ما نفهمه من الرحمة في بعض الأمور، وتختلف في بعضها.

فالرحمة في منطقنا تستدعي مرحوما، وتشترط في المرحوم أن يكون محتاجا، وتشترط في الراحم أن يفيض عنايته على المرحوم بما يسد حاجاته، قاصدا بذلك العناية بالمرحوم، فإن قصر ـ مع القدرة ـ لم تعتبره رحيما، فإن عجز اكتفت منه بما يظهر عليه من أمارات الرقة وعلاماتها، فتكون رحمة قاصرة لا يصيب المرحوم منها إلا امتنانه لمن رحمه.

وتتفق الرحمة الإلهية مع هذه المعاني جميعا إلا في المعنى الأخير، والذي لا يعتبر شرطا في الرحمة، بل هو دليل العجز والنقص.

__________

(1) نور الثقلين: 1/ 13.

(2) نور الثقلين: 1/ 14.

السلفية.. والوثنية المقدسة (218)

وعدم احتواء الرحمة الإلهية على هذا المعنى مظهر من مظاهر كمالها، لأن الرحيم الذي يفيض عنايته بسبب ما اعتراه من الرقة، هو في حقيقته يعالج رقته، ويعتني بالضعف الذي أصابه، لا بالمرحوم، ولذلك تجده يضطر المرحوم للتوسل إليه بفاقته وعجزه ليرحمه.

وقد أشار الغزالي ـ المتكلم العارف ـ إلى هذا المعنى، فقال: (الرحمة لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم والرب سبحانه وتعالى منزة عنها، فلعلك تظن أن ذلك نقصان في معنى الرحمة، فاعلم أن ذلك كمال وليس بنقصان في معنى الرحمة، أما أنه ليس بنقصان فمن حيث أن كمال الرحمة بكمال ثمرتها ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظ في تألم الراحم وتفجعه، وإنما تألم الراحم لضعف نفسه ونقصانها ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجته، وأما أنه كمال في معنى الرحمة فهو أن الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرقة عن نفسه فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه، وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة بل كمال الرحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة) (1)

هذا مثال عن منهج تعامل المنزهة مع الكمالات الإلهية.. فهم ينزهونها من كل النقائص التي تعتريها، والتي تجعل منها نقصا لا كمالا، ومن هنا قال المتكلمون: (خذ الغايات، واترك المبادئ)، فالرحمة لها مبدأ، وهو الوصف الانفعالي الخاص الذي يعرض على القلب، ولها منتهى وهو العطاء والإفاضة، فإذا أطلق هذا الوصف على الله سبحانه أريد به غايته، لا مبدؤه.

ولهذا نبه الإمام الصادق إلى عدم صحة جريان الانفعالات على الله تعالى مطلقا، ضاربا المثل على ذلك بالغضب، فقال: (وأما الغضب فهو منا إذا غضبنا تغيرت طبايعنا، وترتعد مفاصلنا، وحالت ألواننا، ثم نجيء من بعد ذلك بالعقوبات، فسمي غضباً، فهذا كلام الناس المعروف، والغضب شيئان أحدهما في القلب، وأما المعنى الذي هو في القلب فهو منفي عن الله

__________

(1) المقصد الأسنى (ص: 63)

السلفية.. والوثنية المقدسة (219)

جل جلاله، وكذلك رضاه وسخطه ورحمته على هذه الصفة) (1)

انطلاقا من هذا فسر جميع المنزهة باختلاف مدارسهم أسماء الله الحسنى.. فهي كلها حسنى، وكلها في منتهى الكمال، وكلها في منتهى الجمال.

يقول الغزالي في بيان معنى اسم الله الودود: (الودود: هو الذي يحب الخير لجميع الخلق، فيحسن إليهم، ويثني عليهم، وهو قريب من معنى الرحيم، لكن الرحمة إضافة إلى مرحوم، والمرحوم هو المحتاج والمضطر، وأفعال الرحيم تستدعي مرحوما ضعيفا، وأفعال الودود لا تستدعي ذلك، بل الإنعام على سبيل الابتداء من نتائج الود، وكما أن معنى رحمته سبحانه وتعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له، وهو منزه عن رقة الرحمة، فكذلك وده إرادته الكرامة والنعمة وإحسانه وإنعامه، وهو منزه عن ميل المودة والرحمة، لكن المودة والرحمة لا تراد في حق المرحوم والمودود إلا لثمرتهما وفائدتهما، لا للرقة والميل، فالفائدة هي لباب الرحمة والمودة وروحهما، وذلك هو المتصور في حق الله سبحانه وتعالى دون ما هو مقارن لهما وغير مشروط في الإفادة) (2)

لكن المدرسة السلفية خالفت الأمة جميعا في ذلك، لأن التجسيم والتشبيه الذي صورت به الله كان له تأثيره الكبير في تجسيمهم وتشبيههم لأفعال الله.. وبذلك صار الله عندهم جسما بذاته وأفعاله.

ولهذا ملأوا كتبهم العقدية الخطيرة بإثبات الصفات الدالة على عجز الله وافتقاره وحاجته، فهم عند حديثهم عن كلام الله تعالى ـ مثلا ـ لا ينزهون الله عن الحاجة إلى الحرف والصوت.. لأن الحرف والصوت حادث، وهو ـ علميا ـ عبارة عن ذبذبات وموجات.. وهو فوق ذلك ضعف وقصور.. لأن من استطاع أن يوصل إليك ما يريده من غير حاجة إلى حرف وصوت

__________

(1) نور الثقلين: 1/ 13.

(2) المقصد الأسنى (ص: 122)

السلفية.. والوثنية المقدسة (220)

يكون أكمل من الذي يحتاج إليهما.

لكن السلفية شبهوا كلام الله بكلام خلقه، فذكروا من أركانه الحرف والصوت، بل والنطق والسكوت، بل ذكروا الفم، وكل ما يقتضيه الكلام من آلات.. وأضافوا إلى ذلك كله أن كفروا كل من ينكر ذلك، ورموه بالتجهم والتعطيل، وأنه أكفر من اليهود والنصارى.

وقد ألفوا في ذلك الكتب الكثيرة، بل جعلوا هذه القضية [قضية كلام الله] من أمهات القضايا العقدية التي يصنف المؤمنون على أساسها حتى أن المتوقف اعتبروه ضالا منحرفا.

ومن خلال البحث عن مصادرهم في ذلك نجد أنها كتب اليهود التي تتملذ سلفهم عليها، فكما أن اليهود تنسب الصوت إلى الله تعالى، وتشبهه في ذلك بخلقه، كما جاء في سفر التثنية (5/ 26): (من جميع البشر الذي سمع صوت الله)، نجد السلفية ـ بلسان ابن تيمية ـ يقولون: (وجمهور المسلمين يقولون إن القرآن العربي كلام الله، وقد تكلم به بحرف وصوت) (1)، ويقول ـ مفتريًا على موسى عليه السلام ـ: (إن موسى لما نودي من الشجرة: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (طه:12) أسرع الإجابة وتابع التلبية وما كان ذلك منه إلا استئناسًا منه بالصوت وسكوناً إليه وقال: إني أسمع صوتك وأحسّ حسّك) (2)

ويقول محمد خليل هراس المعلق على هذا الكتاب إن معنى: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (الشورى: 51) (يعني تكليما بلا واسطة لكن من وراء حجاب فيسمع كلامه ولا يرى شخصه) (3)

ويقول: (يسمعون صوته عز وجل بالوحي قويا له رنين وصلصلة ولكنهم لا يميزونه، فإذا سمعوه صعقوا من عظمة الصوت وشدته) (4)

__________

(1) مجموع الفتاوى: 5/ 556.

(2) شرح حديث النزول، ص 220.

(3) حاشية كتاب التوحيد، لابن خزيمة، ص 137.

(4) حاشية (كتاب التوحيد)، ص 137، ص 146.

السلفية.. والوثنية المقدسة (221)

وفي كتاب (الأسماء والصفات) يقول ابن تيمية ـ في معرض ردّه على الجهمية ـ: (وحديث الزهري قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك، قال: سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله) (1)

ويقول محمد بن صالح العثيمين: (في هذا إثبات القول لله وأنه بحرف وصوت، لأن أصل القول لا بد أن يكون بصوت فإذا أطلق القول فلا بد أن يكون بصوت) (2)

بل إنهم لا يكتفون بوصف الله بالحاجة والافتقار إلى الحرف والصوت عند الكلام، بل يذكرون أنه يحتاج كذلك إلى الفم واللسان، فقد قال ابن تيمية في معرض الرد على الجهمية: (وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان) (3)

ويقول الدارمي في رده على بشر المريسي عن الله تعالى: (إن الكلام لا يقوم بنفسه شيئا يرى ويحس إلا بلسان متكلم به) (4)

وقال في نفس الكتاب: (وهو يعلم الألسنة كلها، ويتكلم بما شاء منها، إن شاء تكلم بالعربية وإن شاء بالعبرية وإن شاء بالسريانية) (5)

وقال في كتابه في (الرد على الجهمية): (قال كعب الأحبار: لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه طفق موسى يقول: أي رب ما أفقه هذا حتى كلّمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته يعني بمثل لسان موسى وبمثل صوت موسى)، ثم يقول: (فهذه الأحاديث قد رويت وأكثر

__________

(1) الأسماء والصفات، ص 73.

(2) فتاوى العقيدة، ص 72.

(3) الأسماء والصفات، (1/ 73).

(4) رد الدارمي على بشر المريسي، (ص 112).

(5) رد الدارمي على المريسي، ص 123.

السلفية.. والوثنية المقدسة (222)

منها ما يشبهها كلها موافقة لكتاب الله في الإيمان بكلام الله) (1)

وقال أبو يعلى: (وكلَّمَ الله موسى تكليمًا من فيه – يعني من فمه – وناوله التوراة من يده إلى يده) (2)

وهكذا قال كل أئمتهم بهذا، وهو نفس ما نجده في كتب اليهود، فقد ورد في سفر أيوب (37/ 2 - 6): (اسمعوا سماعًا رعد صوته والرمذمة الخارجة من فيه تحت كل السموات)

وليت السلفية اكتفوا بهذا، بل راحوا يعتبرون كل منكر لهذا جهميا معطلا كافرا.. وهم يستدلون لذلك بما رواه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه حيث قال: سألت أبي رحمه الله قلت: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: (هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق، قالت عائشة: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، فالقرآن ليس بمخلوق) (3)

وقال: (حدثني ابن شبويه، سمعت أبي يقول: (من قال شيء من الله عز وجل مخلوق علمه أو كلامه فهو زنديق كافر لا يصلى عليه، ولا يصلى خلفه ويجعل ماله كمال المرتد ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت المال)، سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: (هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم) (4)

هذا نموذج عن موقفهم من المنزهة، والذين يعتبرونهم بهذا كفارا، وهم يطبقون هذا على كل الأمة بمذاهبها المختلفة.. وحتى أعلامها الكبار لم ينجوا منهم.. بل إنهم يعتبرون مجرد

__________

(1) الرد على الجهمية، (ص 81)

(2) طبقات الحنابلة) لأبي يعلى (1/ 32)

(3) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 164)

(4) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 164)

السلفية.. والوثنية المقدسة (223)

السكوت أو التوقف عن التكفير كفرا.

وقد ذكر ابن سحمان في كشف الأوهام مواقف أعلام السلفية من تكفير من لم يكفر الكافر، فقال ـ ذاكرا سؤالا طويلا وجه لبعض مشايخهم وجوابهم عليه ـ: (ما يقول الشيخ ابن الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن في أناس تنازعوا فقال بعضهم الجهمية كفار والذي ما يكفرهم كافر واستدلوا على ذلك بقول بعض العلماء من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم فهو كافر، وقال الآخرون أما قولكم الجهمية كفار فهذا حق إن شاء الله ونحن نقول بذلك وهو قول جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتابه فتح المجيد شرح كتاب التوحيد في الكلام على أول باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات وكما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضا في جوابه على شبهة الجهمي ابن كمال المذكور في مجموعة التوحيد وكما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه الكافية الشافية بقوله

(ولقد تقلد كفرهم خمسون في... عشر من العلماء في البلدان)

وأما قولكم: والذي ما يكفرهم كافر فهذا باطل مردود) (1)

وكان جوابه أن قال: (الجواب أن يقال: أولا هذه دعوى كاذبة خاطئة فإنه لم ينقل عن أحد من العلماء المذكورين أو غيرهم عدم تكفير الجهمية البتة، ولا أصل له في كلام أحد من العلماء إلا ما يحكى عن طائفة من أهل البدع أنهم لم يحكموا بكفر المقلدين من جهال الكفار الذين هم أتباعهم وحميرهم الذين معهم تبع ولم يحكموا لهم بالنار وجعلوهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، ويقال نعم قد قال الإمام أحمد في عقيدته لما ذكر أن من قال بخلق القرآن فهو جهمي كافر قال: ومن لم يكفر هؤلاء القوم فهو مثلهم، وقال أبو زرعة: من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم

__________

(1) كشف الأوهام والإلتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس (ص: 24)

السلفية.. والوثنية المقدسة (224)

كفرا ينقل عن الملة ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر.. ولم ينقل الخلاف إلا في نوع من الجهال المقلدين وهم الذين تمكنوا من الهدى والعلم بالأسباب التي يقدرون بها على طلبه ومعرفته لكن أعرضوا وأخلدوا إلى أرض الجهالة وأحسنوا الظن بمن قلدوه واستسهلوا التقليد وهؤلاء توقف ابن القيم عن وصفهم بالكفر وعن وصفهم بالإسلام في الكافية الشافية وجزم في الطبقات أنه لا عذر لهم عند الله ثم إن جميع من صنف في السنة من أهل السنة والجماعة يردون فيها على هؤلاء الملاحدة الزنادقة الضلال ويبينون ضلالهم وكفرهم وابتداعهم ولم نسمع أن أحدا منهم اعتذر عن هؤلاء الجهمية وقال إنهم مسلمون لان بعض أهل العلم لم يكفروهم ولا اعتذر عن أحد من أهل الأهواء والبدع) (1)

وهكذا لو طبقنا هذه الفتوى الوهابية السلفية لحكمنا على الأمة جميعا بالكفر، سواء كانوا منزهة أو متوقفة أو معتدلين أو متطرفين.. فيستحيل أن يوجد سلفي منزه، أو سلفي معتدل إلا إذا كان في منصب حساس يحتاج فيه إلى ممارسة التقية.

بناء على هذا، سنحاول هنا أن نذكر نماذج عن بعض صفات أفعال الله كما ينص عليها السلفية، أو كما يمكن قراءتها من كتبهم، مع ذكر مروياتهم، ومدى خطورتها على العقيدة التنزيهية.

الضحك والعجب

لا يعتبر السلفية الانفعالات من العجب والضحك ونحوها نقصا، بل يعتبرونها كمالا، ولذلك نراهم يتنافسون في إثبات مختلف أنواع الانفعالات لله، بل نراهم يصورونها تصويرا تشبيهيا تجسيميا محضا.

ومن ذلك ما ورد في (الرسالة الأكملية) لابن تيمية، حيث قال: (وقول القائل: إن

__________

(1) كشف الأوهام والإلتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس (ص: 66).

السلفية.. والوثنية المقدسة (225)

الضحك خفة روح، ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه.. ثم قول القائل: (خفة الروح) إن أراد به وصفًا مذمومًا فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان؛ أحدهما: يضْحَك مما يُضْحَك منه، والآخر: لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني) (1)

وبهذا المنطق حاول ابن تيمية أن يثبت ضحك الله، بل وجميع الانفعالات التي تجري على الإنسان.

ومن الروايات التي أوردها في ذلك: (ينظر إليكم الرب قَنِطِين، فيظل يضحك، يعلم أن فَرَجَكُم قريب)، فقال له أبو رَزِين العُقَيْلِي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟! قال: نعم، قال: (لن نعدم من رب يضحك خيرًا)

وقد علق ابن تيمية على الرواية بقوله: (فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العَبُوس الذي لا يضحك فط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10]) (2)

ولنتصور مبلغ ذلك التشويه لرحمة الله تعالى التي شملت كل شيء، وكيف حولها السلفية إلى نوع من السخرية، فالرواية التي أعجب بها ابن تيمية، تصور الله، وهو يضحك على معاناة خلقه واكتئابهم؟.. وهي صورة تدل على تأثر من صورها بصورة أولئك الملوك الجبارين الظلمة الذين ركن لهم السلفية وأحبوهم، وباعوا كل شيء من أجلهم.

ومما أورده ابن تيمية من الأدلة على ما يسميه صفة الضحك لله تعالى قوله: (والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال،

__________

(1) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 55)

(2) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 55)

السلفية.. والوثنية المقدسة (226)

فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزمًا لشئ من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام، فليس حقيقة الضحك مطلقًا مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجدًا وألا تكون له ذات) (1)

ولو طبقنا هذا المقياس الذي ذكره ابن تيمية على الله، لسوينا الله بعباده، ولجعلنا كمالاتنا الوهمية كمالات له.

وما ذكره ابن تيمية هو نفس ما ذكره المتقدمون والمتأخرون من السلفية الذين اعتبروا ضحك الله صفة من صفاته، يقول ابن خزيمة: (باب: ذكر إثبات ضحك ربنا عَزَّ وجلَّ: بلا صفةٍ تصفُ ضحكه جلَّ ثناؤه، لا ولا يشبَّه ضَحِكُه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك؛ كما أعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونسكت عن صفة ضحكه جلَّ وعلا، إذ الله عَزَّ وجلَّ استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك؛ فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مصَدِّقون بذلك، بقلوبنا منصتون عمَّا لم يبين لنا مما استأثر الله بعلمه) (2)).

وقال أبو بكر الآجري: (باب الإيمان بأن الله عَزَّ وجلَّ يضحك: اعلموا - وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل - أنَّ أهل الحق يصفون الله عَزَّ وجلَّ بما وصف به نفسه عَزَّ وجلَّ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم. وهذا مذهب العلماء مِمَّن اتّبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به؛ أنَّ الله عَزَّ وجلَّ يضحك، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن صحابته؛ فلا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق) (3)

وهكذا قالوا في الصفة التي نسبوها لله [صفة العجب]، فقد قال قوَّام السُّنَّة الأصبهاني:

__________

(1) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 56).

(2) التوحيد، (2/ 563).

(3) الشريعة، (ص 277)

السلفية.. والوثنية المقدسة (227)

(وقال قوم: لا يوصف الله بأنه يَعْجَبُ: (وقال قوم: لا يوصف الله بأنه يَعْجَبُ؛ لأن العَجَب ممَّن يعلم ما لم يكن يعلم، واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث، وبقراءة أهل الكوفة: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}؛ على أنه إخبار من الله عَزَّ وجلَّ عن نفسه) (1)

وقال ابن أبي عاصم: (باب: في تَعَجُّبِ ربنا من بعض ما يصنع عباده مما يتقرب به إليه.. لأن العَجَب ممَّن يعلم ما لم يكن يعلم، واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث، وبقراءة أهل الكوفة: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}؛ على أنه إخبار من الله عَزَّ وجلَّ عن نفسه) (2)

وهكذا قالوا في الصفة التي سموها صفة [البشبشة]، فقد رووا فيها حديثا عن أبي هريرة؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم) (3)

قال أبو يعلى الفراء عند ذكره لإثبات صفة الفرح لله تعالى: (وكذلك القول في البشبشة؛ لأن معناه يقارب معنى الفرح، والعرب تقول: رأيت لفلان بشاشة وهشاشة وفرحاً، ويقولون: فلان هش بش فرح، إذا كان منطلقاً، فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح) (4)

وقال الدارمي: (وبلغنا أنَّ بعض أصحاب المريسي قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؛ مثل: سفيان عن منصور عن الزهري، والزهري عن سالم، وأيوب بن عوف عن ابن سيرين، وعمرو بن دينار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وما أشبهها؟)). قال: ((فقال المريسي: لا تردوه تفتضحوا، ولكن؛ غالطوهم بالتأويل؛ فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف؛ كما فعل هذا المعارض

__________

(1) الحجة: 2/ 457.

(2) الحجة: 2/ 457.

(3) ابن ماجه (صحيح سنن ابن ماجه/652). وأحمد (8332). والطيالسي (2334). والحاكم (1/ 213). ابن خزيمة (1503). وابن قتيبة في (غريب الحديث) (1/ 160)

(4) إبطال التأويلات: 1/ 243.

السلفية.. والوثنية المقدسة (228)

سواء.. وسننقل بعض ما روي في هذه الأبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه.. (ثم ذكر أحاديث في صفة الحب ثم البغض ثم السخط ثم الكره ثم العجب ثم الفرح، ثم حديث أبي هريرة السابق في البشاشة، ثم قال) وفي هذه الأبواب روايات كثيرة أكثر مما ذكر، لم نأت بها مخافة التطويل) (1)

وهكذا قالوا فيما يسمونها صفة [الفرح]، والتي رووا فيها حديثا عن أبي هريرة وغيره يرفعه إلى رسول الله، جاء فيه: (لله أفرح بتوبة عبده)، وفي رواية: (أشد فرحاً) (2)

وقد قال ابن القيم ساخرا من الذي أولوا هذا الحديث من باب تنزيه الله تعالى عن الانفعالات الدالة على القصور والعجز: (وأيضاً فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (للهُ أَشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضل راحلته)، قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه لانقطع فى طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه.. فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان فى الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته، وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاءُ، فإِن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه، فعليك بوادى الخفا، وهو وادى المحرّفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو واد قد سلكه خلق وتفرقوا فى شعابه وطرقه ومتاهاته ولم تستقر لهم فيه قدم ولا لجؤوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل وحاطم السيل) (3)

وهكذا أصبح منزه الله ـ في معيار السلفيين ـ محرفا، وأصبح المجسم معظما ومنزها.

__________

(1) الرد على بشر المريسي، ص 200.

(2) البخاري (6308 و6309)، ومسلم (4927 - 4933).

(3) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 234).

السلفية.. والوثنية المقدسة (229)

ومثله قال الشيخ محمد خليل الهرَّاس عند شرحه للحديث السابق، فقد قال: (وفي هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله عَزَّ وجلَّ، والكلام فيه كالكلام في غيره من الصفات؛ أنه صفة حقيقية لله عَزَّ وجلَّ، على ما يليق به، وهو من صفات الفعل التابعة لمشيئته تعالى وقدرته، فيحْدُث له هذا المعنى المعبَّر عنه بالفرح عندما يُحدِثُ عبدُهُ التوبةَ والإنابَةَ إليه، وهو مستلزمٌ لرضاه عن عبده التائب، وقبوله توبته، وإذا كان الفرح في المخلوق على أنواع؛ فقد يكون فرح خفة وسرور وطرب وقد يكون فرح أشر وبطرٍ؛ فالله عَزَّ وجلَّ مُنَزَّه عن ذلك كله، ففرحهُ لا يشبه فرح أحد من خلقه؛ لا في ذاته، ولا في أسبابه، ولا في غاياته؛ فسببه كمال رحمته وإحسانه التي يحب من عباده أن يتعرَّضوا لها، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين، وأما تفسير الفرح بلازمه، وهو الرضى، وتفسير الرضى بإرادة الثواب؛ فكل ذلك نفيُ وتعطيلٌ لفرحه ورضاه سبحانه، أوجبه سوءُ ظنِّ هؤلاء المعطِّلة بربهم، حيث توهَّموا أن هذه المعاني تكون فيه كما هي في المخلوق، تعالى الله عن تشبيههم وتعطيلهم) (1)

اللهو واللعب

عندما مطالعة الكثير من الروايات التي يحكيها السلفية عن سلفهم، أو يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجد العبثية في أكمل صورها، فهم يصورون الله البديع الذي أتقن كل شيء خلقه، والحكيم الذي لا منتهى لحكمته، بصورة اللاهي اللاعب الذي يتصرف تصرفات لا دلالة لها، ولا حاجة إليها.

ومن الأمثلة على ذلك ما فسروا به قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، فقد أوردوا في تفسيرها من تصرفات الله - بحسبهم - ما يملأ بالعجب..

فقد تحولت الآية الكريمة ـ بسبب تحريفاتهم ـ من آية تبين عظمة الله وقدوسيته، إلى مشاهد

__________

(1) شرح العقيدة الواسطية (ص 166).

السلفية.. والوثنية المقدسة (230)

ساخرة عابثة لإله متجبر متسلط، وكأنهم لا يتحدثون عن إله، وإنما عن ملك من ملوك زمانهم.

فمن أقوال ابن تيمية في تفسير الآية الكريمة: (والحديث مروي فى الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا وفى بعض ألفاظه قال: قرأ صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، ثم قال: (مطوية فى كفه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة).. وفى لفظ (يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها فى كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة: أنا الله الواحد)، وقال ابن عباس: يقبض الله عليهما، فما ترى طرفاهما بيده) (1)

ومن الأمثلة الخطيرة التي ذكرها، وهو لا يقصد بها إلا التشبيه المحض، قوله: (وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وهو يقول: (يأخذ الجبار سمواته وأرضه، وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا، أنا الذي أعدتها، أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟) (2)

وروى أبو الشيخ في العظمة هذه الرواية: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق والأرضين بما فيهن من الخلائق يطوي كل ذلك بيمينه فلا ُيرى من عند الإبهام شيء ولا يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة) (3)

وقد علق ابن القيم على أمثال هذه الروايات بقوله: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلاً عن أن يقبض بهما شيئاً، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب) (4)

__________

(1) الرسالة العرشية (ص: 18)

(2) الرسالة العرشية (ص: 17)

(3) العظمة 2/ 445 (136)

(4) الصواعق المرسلة 4/ 1364

السلفية.. والوثنية المقدسة (231)

الحاجة والافتقار

وهي من الصفات التي يخرج بها من قرأ العقائد السلفية من مصادرها، فالله عندهم يفتقر إلى الوسائل والأدوات ليحقق حاجاته ومطالبه، بل يفتقر إلى الدار التي يسكن فيها، والعرش الذي يقعد عليه.. وقد رأينا في هذا الفصل ما ذكروه من احتياج الله إلى الفم واللسان ليتكلم.. وذكرنا في فصل سابق ما ذكروه من احتياج الله للعينين ليرى، والدار ليسكن، والعرش ليقعد.

وهكذا نرى ذكرهم لحاجته إلى الرجلين ليتنقل، فمن صفات الله عندهم صفة [المشي والهرولة]، وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول هذه الصفة، فأجابت: (نعم صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به قال تعالى: (إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتاني ماشياً أتيته هرولة) رواه: البخاري ومسلم) (1)

وقد أثبتها كل السلفية المعاصرين من أمثال عبدالرزاق عفيفي وابن عثيمين وابن غديان وابن قعود وغيره.

فقد سئل ابن عثيمين عن عن صفة الهرولة، فأجاب بقوله: (صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، فذكر الحديث وفيه: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل، لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه فوجب علينا قبولها بدون تكييف) (2)

وقال محمد ناصر الدين الألباني: (لكن الهرولة، الهرولة كالمجيء والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها إذا خصصناها بالله عز وجل؛ لأن هذه الصفات ليست صفة نقص حتى

__________

(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/ 142).

(2) فتاوى ابن عثيمين -العقيدة-1/ 380.

السلفية.. والوثنية المقدسة (232)

نبادر رأساً إلى نفيها....) (1)

وهكذا نرى حاجة الله في مثل هذه الرواية الغريبة التي يشحنون بها كتب عقائدهم، ويعتبرون المنكر أو المؤول لها جهميا معطلا، فقد رووا عن أبي هريرة قال: (لما أراد الله أن يخلق آدم، بعث ملكا من الملائكة من حملة العرش إلى الأرض، فلما أهوى ليأخذ منها، قالت له الأرض: أسألك بالذي أرسلك ألا تأخذ مني اليوم شيئا يكون للنار فيه نصيب غدا، قال: فتركها، فلما رجع إلى ربه قال: ما منعك أن تأتيني بما أمرتك به، فقال: يا رب سألتني بك ألا آخذ منها شيئا يكون للنار غدا منه نصيب، فأعظمت أن أرد شيئا سألني بك، قال: ثم أرسل آخر من حملة العرش، فلما أهوى ليأخذ منها قالت له الأرض: أسألت بالذي أرسلك ألا تأخذ مني اليوم شيئا يكون للنار فيه نصيب، قال: فتركها، فلما رجع إلى ربه قال: ما منعك أن تأتيني بما أمرتك به، قال: يا رب سألتني بك ألا آخذ منها شيئا يكون للنار فيه نصيب غدا، فأعظمت أن أرد شيئا سألني بك، قال: ثم أرسل آخر من حملة العرش فلما أهوى ليأخذ منها، قالت له مثل ما قالت للأول فتركها، ثم رجع إلى ربه، فقال مثل ما قال الأول، حتى أرسل حملة العرش كلهم، كل ذلك تقول لهم مثل ذلك، فيرجعون إلى ربهم فيقولون مثل ذلك، حتى أرسل ملك الموت، فلما أهوى ليأخذ منها قالت له الأرض أسألك بالذي أرسلك أن لا تأخذ مني اليوم شيئا يكون للنار فيه نصيب غدا، فقال ملك الموت: إن الذي أرسلني إليك أحق بالطاعة منك) (2)

وهذه الرواية لا تبين فقط افتقار الله وحاجته إلى أن يخبره الملاك بحقيقة ما حصل، وإنما تتناقض مع ما أخبر الله تعالى عنه من طاعة الملائكة المطلقة لله، كما قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]

__________

(1) سلسلة الهدى والنور شريط رقم (756/ 1).

(2) أورده الذهبي في العلو: ص 86.

السلفية.. والوثنية المقدسة (233)

وهي تذكرنا بتلك الرواية المشهورة التي أقام السلفية الدنيا لأجلها، ولم يقعدوها، وهي ما رووه عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي ربِّ ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر) (1)

ومن الروايات التي يروونها في كتبهم العقائدية، والتي يبينون من خلالها حاجة الله وافتقاره للملائكة ليخبروه بأخبار ما يحصل في كونه، ما رووه عن ابن مسعود أنه قال: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار. نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار، اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره، فيغيظه ذلك، فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم، فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة) (2)

فهذا الحديث يبين افتقار الله إلى ثلاث ساعات كاملة ليراجع فيها تصرفات عباده، وبعد أن يحصل له الغضب الشديد يفتقر إلى تسبيح الملائكة ليهدأ.

بربكم ـ أيها السلفيون ـ هل هذه صفات إله أم صفات ملك من ملوككم، أو أمير من أمرائكم الذين تسبحون بحمدهم؟

ومن الروايات القريبة من هذا ما رووه عن خيثمة، قال: (كان ملك الموت صديقا لسليمان

__________

(1) البخاري (1339)، ومسلم (2372) (157). وابن أبي عاصم في السنة (599) عن سلمة بن شبيب، والنسائي 4/ 118.

(2) الطبراني في الكبير، حديث 8886، 9/ 200، ونقض الإمام أبي سعيد على المريسي (1/ 476)

السلفية.. والوثنية المقدسة (234)

بن داود، قال: فأتاه ذات يوم، فقال: يا ملك الموت مالك، تأتي أهل الدار فتأخذ أهلها كلهم، وتدع الدار إلى جنبهم لا تأخذ منهم أحدا؟ قال: ما أنا بأعلم بذلك منك، إنما أكون تحت العرش فيلقى إلي صكاكا فيها أسماء) (1)

ومع أن الله تعالى يقول: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] إلا أن السلفية يذكرون خلاف ذلك، فقد رووا عن عبد الله بن عباس عن رجال من الأنصار أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية؟) قال: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم، أو مات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا- تبارك وتعالى- إذا قضى في السماء أمرا، سبحته حملة العرش، ثم سبحته ملائكة السماء الذين يلون حملة العرش، ثم سبحته أهل السماء الثانية، حتى ينتهي التسبيح إلى السماء الدنيا، ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم، فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل السماء أهل السموات بعضهم بعضا حتى ينتهي الخبر إلى السماء، وتخطف الجن السمع، فما جاؤا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون) (2).

ومن الروايات القريبة من هذا ما رووه عن ابن عباس قال: (لما أهبط الله آدم كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فوضع الله يده على رأسه فطأطأه سبعين باعا، قال: يا رب ما لي لا أسمع صوت ملائكتك ولا أوجسهم، فقال الله: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني حوله كما رأيت الملائكة يصنعون حول عرشي، قال ابن عباس فأقبل آدم يتخطى الأرض، فموضع كل قدم قرية وما بينهما مفازة، حتى وضع البيت) (3)

__________

(1) أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف: (13/ 205)، وأحمد في الزهد: ص 41. وأبو نعيم في الحلية: (4/ 119)

(2) مسلم (14/ 225)، والترمذي (5/ 362، حديث 2324)، والإمام أحمد (1/ 218)، والدارمي في الرد على الجهمية: ص 78.

(3) أورده الذهبي في العلو: ص 90. والطبري في تفسيره: (1/ 546)، ابن إسحاق في المغازي: ص 72.

السلفية.. والوثنية المقدسة (235)

ومن الروايات المرتبطة بهذا، ما رووه في تفسير آية الدين عن ابن عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول من جحد آدم، ان الله لما خلق آدم ومسح ظهره، فأخرج منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر، قال: أي رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب كم عمره؟ قال: ستون عاما، قال: أي رب زد في عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عامن فزاده أربعين عاما. فكتب الله عليه بذلك كتابا، وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم اتته الملائكة لقبضه قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما. فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود.

قال: ما فعلت، وأبرز الله عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة) (1)

وخطورة هذه القصة لا تقف عن هذا الشويه الخطير لآدم النبي الخليفة، والذي تصوره القصة، وكأن مدة ألف سنة كاملة صحبة الله ووحيه لم تكف لتربيته وتعليمه الوفاء.

وإنما خطورتها بعد ذلك في تلك المحاورات بين آدم عليه السلام والله تعالى، والتي يظهر فيها افتقار الله إلى الكتاب والإشهاد ليقيم الحجة على نبي من أنبيائه الكرام الذين أسجد لهم ملائكته.

الجور والظلم

مع ورود النصوص القطعية الكثيرة المخبرة عن عدل الله، ومثلها النصوص التي تنفي الظلم عن الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران:182)، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} (غافر: 31)، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ

__________

(1) الطيالسي (2692). وابن سعد 1/ 28 - 29، وابن أبي شيبة 13/ 60 و14/ 118، وابن أبي عاصم في "السنة" (204). وأبو يعلى (2710). والطبراني (12928)

السلفية.. والوثنية المقدسة (236)

النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس:44)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} (طه:112)، والهضم أن ينقص من جزاء حسناته، والظلم أن يعاقب بذنوب غيره، وكلاهما مما يتنافى مع العدل.

إلا أننا نجد كتب العقيدة السلفية تتناقض مع هذه العقائد تماما، فهم يحشون كتبهم بروايات كثيرة تصور الله بصور لا تليق بمن بنى هذا الكون العظيم بمنتهى الدقة والعدالة والتنظيم.

ولإثبات ذلك سنسوق بعض رواياتهم في هذا المجال، والتي نجدها عادة في كل الكتب التي يسمونها كتب سنة، ويعتبرون المعارض لها جهميا معطلا كافرا، وسنترك التعليق عليها لعقل القارئ، ليكتشف الحقيقة من دون تدخل من أي طرف خارجي.

ولتيسير الأمر على القارئ، فقد اخترنا كتابا مشهورا لديهم، يسمى [كتاب القدر]، لأبي بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المُسْتَفاض الفِرْيابِي (المتوفى: 301 هـ)، وهو من سلفهم المتقدمين الذين لا يزالون لهم كل الولاء والاحترام، وقد قال فيه بعضهم، وهو أبو الفضل الزهري: (لما سمعت من الفريابي كان في مجلسه من أصحاب المحابر، من يكتب حدود عشرة آلاف إنسان، ما بقي منهم غيري، هذا سوى من لا يكتب) (1)

وطبعا ما ذكر الزهري هو جزء بسيط ممن تتملذوا عليه بعد ذلك.. فكتاب الرجل محقق ومطبوع، ومنشور على النت، ويتتلمذ على يديه الآن مئات الآلاف من أصحاب الحواسيب والهواتف الذكية.. بالإضافة إلى الأجيال الورقية الكثيرة التي سبقت هذا الجيل الإلكتروني.

ومن تلك الأحاديث التي أوردها في الكتاب بطرق متعددة، ونجد أمثالها في كل كتب السلفية، ما رواه عن هشام بن حكيم، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أنبتدأ

__________

(1) القدر للفريابي (ص: 7).

السلفية.. والوثنية المقدسة (237)

الأعمال أم قضي القضاء؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار) (1)

ومن الروايات الواردة فيه أن أن عمر سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم، فمسح ظهره بيمينه، فاستخرج ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت، وهو على عمل أهل النار فيدخله في النار) (2)

وروى عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خلق الله تعالى آدم حين خلقه، فضرب كفه اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء، كأنهم الذر، وضرب كفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء، كأنهم الحمم، فقال للذين في يمينه: للجنة ولا أبالي، وقال للذين في يساره: إلى النار ولا أبالي) (3)

وروى عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي يده كتابان، فقال: (أتدرون ما هذان الكتابان؟)، فقالوا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: (هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أجمل على

__________

(1) تفسير الطبري: جـ 244/ 13. والقدر للفريابي (ص: 44)

(2) القدر للفريابي (ص: 47)

(3) القدر للفريابي (ص: 52)

السلفية.. والوثنية المقدسة (238)

آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم)، وقال للذي في شماله: (هذا كتاب من أهل النار بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدا)، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟، فقال: (سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل)، ثم قال بيديه فنبذهما، ثم قال: (فرغ ربكم من العباد)، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]) (1)

وروى عن عائشة أنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنازة صبي، يصلي عليه، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء، ولم يدر به، فقال: (أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله عز وجل خلق للجنة أهلا،، وخلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، وخلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم) (2)

ورووا عن عن عبد الله بن الحارث قال: خطبنا عمر بن الخطاب بالجابية، والجاثليق (3) ماثل بين يديه، والترجمان يترجم، فقال عمر: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله تعالى لا يضل أحدا، ومن يضلل فلا هادي له، فقال عمر: ما تقول؟ فقال الترجمان: لا شيء، ثم عاد في خطبته، فلما بلغ من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، قال الجاثليق: إن الله تعالى لا يضل أحدا، فقال عمر: ما تقول؟ فأخبره، فقال: كذبت يا عدو الله، ولولا ولت (4) عهد لك لضربت عنقك، بل الله خلقك، والله أضلك، ثم يميتك، ثم يدخلك النار إن شاء الله، ثم قال: إن الله عز وجل لما خلق آدم عليه الصلاة والسلام، نثر ذريته، فكتب أهل الجنة، وما هم عاملون، وأهل النار، وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء

__________

(1) القدر للفريابي (ص: 57)

(2) القدر للفريابي (ص: 58)

(3) لقب عظيم عظماء النصارى، كما عند ابن وهب في كتاب: القدر: 23.

(4) ولت معناها النقصان، فالمعنى لولا نقصان عهد لك، انظر: النهاية لابن الأثير: جـ 223/ 5.

السلفية.. والوثنية المقدسة (239)

لهذه. وقد كان الناس تذاكروا القدر، فافترق الناس، وما ينكره أحد) (1)

وروى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه اهتدى، ومن أخطأه ضل) (2)

وروى عن ابن عباس قال: (إن الله عز وجل ضرب منكبه الأيمن -أي آدم- فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهدهم على الإيمان به، والمعرفة له، ولأمره، والتصديق به، وبأمره، بني آدم كلهم، وأشهدهم على أنفسهم: آمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا) (3)

وقد أقر كل السلفية هذه الأحاديث ومن ذلك ما قاله ابن تيمية في حديث النور، فقد قال فيه: _النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض، وقد أخبر النص أنَّ الله نور، وأخبر أيضاً أنه يحتجب بالنور؛ فهذه ثلاثة أنوار في النص، وقد تقدم ذكر الأول، وأمَّا الثاني؛ فهو في قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وفي قوله: {مَثَلُ نُورِهِ}، وفيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ضلَّ) (4)

المكر والخداع

وهي من الصفات التي يعتبرها السلفية، ولا يكاد يخلو كتاب من كتبها من ذكرها، ويعتبرون المؤول لها جهميا معطلا.

__________

(1) القدر للفريابي (ص: 65)

(2) القدر للفريابي (ص: 68)

(3) القدر للفريابي (ص: 68)

(4) مجموع الفتاوى: (6/ 386)

السلفية.. والوثنية المقدسة (240)

قال ابن القيم بعد أنَّ ذكر آيات في صفة (الكيد) و(المكر): (قيل: إنَّ تسمية ذلك مكراً وكيداً واستهزاءً وخداعاً من باب الاستعارة ومجاز المقابلة؛ نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقيل -وهو أصوب-: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإنَّ المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة..) (1)

وقد علق بعضهم على قولهم (وهو أصوب)، فقال: (قد يوهم أنَّ الأول صواب، والحق أنَّ القول الأول باطل مخالف لطريقة السلف في الصفات، وانظر كلامه رحمه الله في (مختصر الصواعق المرسلة) (2)

وقال الشيخ عبد العزيز بن بار معقباً على الحافظ ابن حجر لَمَّا تأوَّل صفةً من صفات الله: (هذا خطأ لا يليق من الشارح، والصواب إثبات وصف الله بذلك حقيقة على الوجه اللائق به سبحانه كسائر الصفات، وهو سبحانه يجازي العامل بمثل عمله، فمن مكر؛ مكر الله به، ومن خادع؛ خادعه، وهكذا من أوعى؛ أوعى الله عليه، وهذا قول أهل السنة والجماعة؛ فالزمه؛ تفز بالنجاة والسلامة، والله الموفق) (3)

وسئل الشيخ العثيمين: هل يوصف الله بالخيانة والخداع كما قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فأجاب بقوله: (أما الخيانة؛ فلا يوصف الله بها أبداً؛ لأنها ذم بكل حال؛ إذ إنها مكر في موضع الإئتمان، وهو مذموم؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71]، ولم يقل: فخانهم. وأما الخداع؛ فهو كالمكر، يوصف الله تعالى به حين يكون مدحاً، ولا يوصف به على سبيل الإطلاق؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ

__________

(1) إعلام الموقعين: (3/ 229).

(2) مختصر الصواعق المرسلة: 2/ 33 - 34.

(3) الفتح: (3/ 300).

السلفية.. والوثنية المقدسة (241)

يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]) (1)

ومن الصفات المرتبطة بهذا ما يسمونها صفة [الْمُمَاحَلَةُ والْمِحَالُ]، ويستدلون لها بقوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13]، والتي تعني كما فسرها علماء اللغة: شديد الكيد والمَكْر (2).

قال الشيخ زيد بن فياض: (وفي هذه الآيات إثبات وصف الله بالمَكْر والكيد والمُمَاحلة، وهذه صفات فعلية تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته، قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}؛ أي: الأخذ بشدة وقوة، والمِحَال والمُمَاحلة المماكرة والمغالبة) (3)

السخرية والاستهزاء

وهي من الصفات التي يعتبرها السلفية، ولا يكاد يخلو كتاب من كتبها من ذكرها، ويعتبرون المؤول لها جهميا معطلا.

ومن أقوالهم في إثباتها ما ذكره ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14، 15] بعد أن ذكر الاختلاف في كونها صفة أم لا: (والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أنَّ معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزِيء للمستَهْزَأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً، وهو بذلك من قِيِله وفعلِه به مورثه مساءة باطناً، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.. وأما الذين زعموا أنَّ قول الله تعالى ذكره (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة؛ فنافون عن الله عَزَّ وجَلَّ ما قد أثبته الله عَزَّ وجَلَّ لنفسه وأوجبه لها، وسواءٌ

__________

(1) المجموع الثمين: 2/ 66.

(2) تهذيب اللغة: 5/ 95..

(3) الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، ص 114.

السلفية.. والوثنية المقدسة (242)

قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم، ويقال لقائل ذلك: إنَّ الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبرنا عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى فيما ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه؛ فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟!) (1)

وقال ابن تيمية: في رده على المنزهة الذين يؤولون هذه المعاني بحسب أساليب اللغة العربية من الكناية والمجاز ونحوهما: (وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ (المكر) و(الاستهزاء) و(السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً.. ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم؛ كما روى عن ابن عباس؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه، فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون إليه، فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون) (2)

الملل والسآمة

وهما صفتان يصرح أعلام السلفية بكونهما من صفات الله تعالى، فالله عندهم يمل، ويسأم، لورود النص بهما.

__________

(1) تفسير الطبري (1/ 304)

(2) الفتاوى (7/ 111).

السلفية.. والوثنية المقدسة (243)

وهم مع إقرارهم بكون الملل يعني الضجر إلا أنهم لا ينفونه عن الله، فقد قالوا في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بما تطيقون، فوالله؛ لا يمل الله حتى تملوا) (1)، وفي رواية لمسلم: (فوالله؛ لا يسأم الله حتى تسأموا) ـ بلسان الشيخ محمد بن إبراهيم ـ: (فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا): من نصوص الصفات، وهذا على وجه يليق بالباري، لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر) (2)

وسئل الشيخ ابن عثيمين: (هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى؟ فأجاب بقوله: (جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا)، فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن؛ ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً) (3)

ولست أدري كيف يكون الملل والسآمة والضجر كمالا؟

__________

(1) رواه البخاري (43). ومسلم (785).

(2) الفتاوى والرسائل (1/ 209).

(3) مجموعة دروس وفتاوى الحرم (1/ 152).